كفاية الأصول

كفاية الأصول0%

كفاية الأصول مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 521

كفاية الأصول

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد كاظم الخراسانى
تصنيف: الصفحات: 521
المشاهدات: 49158
تحميل: 15908

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 521 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49158 / تحميل: 15908
الحجم الحجم الحجم
كفاية الأصول

كفاية الأصول

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

هي حاكيات كالعبارات، لا بما هي على حيالها واستقلالها.

كما ظهر مما حققناه: أنه لا يكاد يجدي أيضاً كون الفرد مقدمة لوجود الطبيعي المأمور به أو المنهي عنه، وأنه لا ضير في كون المقدمة محرمة في صورة عدم الانحصار بسوء الاختيار، وذلك - مضافاً إلى وضوح فساده، وأن الفرد هو عين الطبيعي في الخارج، كيف؟ والمقدمية تقتضي الاثنينية بحسب الوجود، ولا تعدد كما هو واضح - أنه إنما يجدي لو لم يكن المجمع واحداً ماهية، وقد عرفت بما لا مزيد عليه أنه بحسبها أيضاً واحد.

ثم إنه قد استدل(١) على الجواز بأمور:

منها (٢) : إنه لو لم يجز اجتماع الأمر والنهي، لما وقع نظيره وقد وقع، كما في العبادات المكروهة، كالصلاة في مواضع التهمة وفي الحمام والصيام في السفر وفي بعض الأيام.

بيان الملازمة: إنه لو لم يكن تعدد الجهة مجدياً في إمكان اجتماعهما لما جاز اجتماع حكمين آخرين في مورد مع تعددهما، لعدم اختصاصهما من بين الأحكام بما يوجب الامتناع من التضاد، بداهة تضادها بأسرها، والتالي باطل، لوقوع اجتماع الكراهة والإيجاب أو الاستحباب، في مثل الصلاة في الحمام، والصيام في السفر، وفي عاشوراء ولو في الحضر، واجتماع الوجوب أو الاستحباب مع الإباحة أو الاستحباب، في مثل الصلاة في المسجد أو الدار.

والجواب عنه أما إجمالاً: فبأنه لا بد من التصرف والتأويل فيما وقع في الشريعة مما ظاهره الاجتماع، بعد قيام الدليل على الامتناع، ضرورة أن

____________________

(١) انظر قوانين الأصول ١ / ١٤٠.

(٢) هذا هو الوجه الثاني الذي استدل له، قوانين الأصول ١ / ١٤٢.

١٦١

الظهور لا يصادم البرهان، مع أن قضية ظهور تلك الموارد، اجتماع الحكمين فيها بعنوان واحد، ولا يقول الخصم بجوازه كذلك، بل بالامتناع ما لم يكن بعنوانين وبوجهين، فهو أيضاً لابد [له] من التفصي عن إشكال الاجتماع فيها لا سيما إذا لم يكن هناك مندوحة، كما في العبادات المكروهة التي لا بدل لها، فلا يبقى له مجال للاستدلال بوقوع الاجتماع فيها على جوازه أصلاً، كما لا يخفى.

وأمّا تفصيلاً: فقد أُجيب عنه بوجوه(١) ، يوجب ذكرها بما فيها من النقض والإبرام طول الكلام بما لا يسعه المقام، فالأولى الاقتصار على ما هو التحقيق في حسم مادة الإشكال، فيقال وعلى الله الاتكال: إن العبادات المكروهة على ثلاثة أقسام:

أحدها : ما تعلق به النهي بعنوانه وذاته، ولا بدل له، كصوم يوم عاشوراء(٢) ، والنوافل المبتدئة في بعض الأوقات(٣) .

ثانيها : ما تعلق به النهي كذلك، ويكون له البدل، كالنهي عن الصلاة في الحمام(٤) .

ثالثها : ما تعلق النهي به لا بذاته، بل بما هو مجامع معه وجوداً،

____________________

(١) راجع مطارح الأنظار / ١٣٠ وما بعده.

(٢) الكافي ٤ / ١٤٦، باب صوم عرفة وعاشوراء، الأحاديث ٣ إلى ٧ - وللمزيد راجع وسائل الشيعة، ٧ / ٣٣٩ الباب ٢١ من أبواب الصوم المندوب.

(٣) الكافي ٣ / ٢٨٨ باب التطوع في وقت الفريضة والساعات التي لا يصلّى فيها - الاستبصار ١ / ٢٧٧ باب وقت نوافل النهار - وللمزيد راجع وسائل الشيعة ٣ / ١٧٠، الباب ٣٨ من أبواب المواقيت.

(٤) الكافي ٣ / ٣٩٠ الحديث ١٢ من باب الصلاة في الكعبة...الخ.

١٦٢

أو ملازم له خارجاً، كالصلاة في مواضع التهمة(١) ، بناءً على كون النهي عنها لأجل اتحادها مع الكون في مواضعها.

أما القسم الأول : فالنهي تنزيهاً عنه بعد الإجماع على أنه يقع صحيحاً، ومع ذلك يكون تركه أرجح، كما يظهر من مداومة الأئمة عليهم السلام على الترك، إمّا لاجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك، فيكون الترك كالفعل ذا مصلحة موافقة للغرض، وإن كان مصلحة الترك أكثر، فهما حينئذ يكونان من قبيل المستحبين المتزاحمين، فيحكم بالتخيير بينهما لو لم يكن أهم في البين، وإلا فيتعين الأهم وإن كان الآخر يقع صحيحاً، حيث أنه كان راجحاً وموافقاً للغرض، كما هو الحال في سائر المستحبات المتزاحمات بل الواجبات، وارجحية الترك من الفعل لا توجب(٢) حزازة ومنقصة فيه أصلاً، كما يوجبها ما إذا كان فيه مفسدة غالبة على مصلحته، ولذا لا يقع صحيحاً على الامتناع، فإن الحزازة والمنقصة فيه مانعة عن صلاحية التقرب به، بخلاف المقام، فإنه على ما هو عليه من الرجحان وموافقة الغرض،

____________________

(١) التهذيب ٢ / ٢١٩ الحديث ٧١ من باب ١١ ما يجوز الصلاة فيه من اللباس والمكان...الخ.

وللمزيد راجع وسائل الشيعة ٣ / ٤٦٦ الباب ٣٤ من أبواب مكان المصلي.

(٢) ربما يقال: إن أرجحية الترك، وإن لم توجب منقصة وحزازة في الفعل أصلاً، إلا أنه توجب المنع منه فعلاً، والبعث إلى الترك قطعاً، كما لا يخفى، ولذا كان ضد الواجب - بناءً على كونه مقدمة له - حراماً، ويفسد لو كان عبادة، مع أنه لا حزازة في فعله، وإنما كان النهي عنه وطلب تركه لما فيه من المقدمية له، وهو على ما هو عليه من المصلحة، فالمنع عنه لذلك كافٍ في فساده لو كان عبادة.

قلت: يمكن أن يقال: إن لنهي التحريمي لذلك وإن كان كافياً في ذلك بلا إشكال، إلا أن التنزيهي غير كاف، إلا إذا كان عن حزازة فيه، وذلك لبداهة عدم قابلية الفعل للتقرب به منه تعالى مع المنع عنه وعدم ترخيصه في ارتكابه، بخلاف التنزيهي عنه إذا كان لا لحزازة فيه، بل لما في الترك من المصلحة الراجحة، حيث أنه معه مرخوص فيه، وهو على ما هو عليه من الرجحان والمحبوبية له تعالى، ولذلك لم تفسد العبادة إذا كانت ضد المستحبة أهم اتفاقاً، فتأمل (منهقدس‌سره ).

١٦٣

كما إذا لم يكن تركه راجحاً بلا حدوث حزازة فيه أصلاً.

وإما لاجل ملازمة الترك لعنوان كذلك، من دون انطباقه عليه، فيكون كما إذا انطبق عليه من غير تفاوت، إلا في أن الطلب المتعلق به حينئذ ليس بحقيقي، بل بالعرض والمجاز، فإنما يكون في الحقيقة متعلقاً بما يلازمه من العنوان، بخلاف صورة الانطباق لتعلقه به حقيقة، كما في سائر المكروهات من غير فرق، إلا أن منشأه فيها حزازة ومنقصة في نفس الفعل، وفيه رجحان في الترك، من دون حزازة في الفعل أصلاً، غاية الأمر كون الترك أرجح.

نعم يمكن أن يحمل النهي - في كلا القسمين - على الإرشاد إلى الترك الذي هو أرجح من الفعل، أو ملازم لما هو الأرجح وأكثر ثواباً لذلك، وعليه يكون النهي على نحو الحقيقة، لا بالعرض والمجاز، فلا تغفل.

وأما القسم الثاني : فالنهي فيه يمكن أن يكون لأجل ما ذكر في القسم الأول، طابق النعل بالنعل، كما يمكن أن يكون بسبب حصول منقصة في الطبيعة المأمور بها، لأجل تشخصها في هذا القسم بمشخص غير ملائم لها، كما في الصلاة في الحمام، فإن تشخصها بتشخص وقوعها فيه، لا يناسب كونها معراجاً، وإن لم يكن نفس الكون في الحمام بمكروه ولا حزازة فيه أصلاً، بل كان راجحاً، كما لا يخفى.

وربما يحصل لها لأجل تخصصها بخصوصية شديدة الملاء‌مة معها مزية فيها كما في الصلاة في المسجد والأمكنة الشريفة، وذلك لأن الطبيعة المأمور بها في حد نفسها، إذا كانت مع تشخص لا يكون له شدة الملاء‌مة، ولا عدم الملاء‌مة لها مقدار من المصلحة والمزية، كالصلاة في الدار مثلاً، وتزداد تلك المزية فيما كان تشخصها بماله شدة الملاء‌مة، وتنقص فيما إذا لم تكن له ملاء‌مة، ولذلك ينقص ثوابها تارة ويزيد أخرى، ويكون النهي فيه لحدوث نقصان في مزيتها فيه إرشاداً إلى ما لا نقصان فيه من سائر الأفراد، ويكون أكثر ثواباً منه، وليكن

١٦٤

هذا مراد من قال: إن الكراهة في العبادة بمعنى أنها تكون أقل ثواباً، ولايرد عليه بلزوم اتصاف العبادة التي تكون أقل ثواباً من الأخرى بالكراهة، ولزوم اتصاف ما لا مزيد فيه ولا منقصة بالاستحباب، لأنه أكثر ثواباً مما فيه المنقصة، لما عرفت من أن المراد من كونه أقل ثواباً، إنما هو بقياسه إلى نفس الطبيعة المتشخصة بما لا يحدث معه مزية لها، ولا منقصة من المشخصات، وكذا كونه أكثر ثواباً، ولا يخفى أن النهي في هذا القسم لا يصح إلا للإرشاد، بخلاف القسم الأول، فإنه يكون فيه مولوياً، وإن كان حمله على الإرشاد بمكان من الإمكان.

وأما القسم الثالث : فيمكن أن يكون النهي فيه عن العبادة المتحدة مع ذاك العنوان أو الملازمة له بالعرض والمجاز، وكان المنهي عنه به حقيقة ذاك العنوان، ويمكن أن يكون على الحقيقة إرشاداً إلى غيرها من سائر الأفراد، مما لا يكون متحداً معه أو ملازماً له، إذ المفروض التمكن من استيفاء مزية العبادة، بلا ابتلاء بحزازة ذاك العنوان أصلاً، هذا على القول بجواز الاجتماع.

وأما على الامتناع، فكذلك في صورة الملازمة، وأما في صورة الاتحاد وترجيح جانب الأمر - كما هو المفروض، حيث أنه صحة العبادة - فيكون حال النهي فيه حاله في القسم الثاني، فيحمل على ما حمل عليه فيه، طابق النعل بالنعل، حيث أنه بالدقة يرجع إليه، إذا على الامتناع، ليس الاتحاد مع العنوان الآخر إلا من مخصصاته ومشخصاته التي تختلف الطبيعة المأمور بها في المزية زيادة ونقيصة بحسب اختلافها في الملاء‌مة كما عرفت.

وقد انقدح بما ذكرناه، أنه لا مجال أصلاً لتفسير الكراهة في العبادة بأقلية الثواب في القسم الأول مطلقاً، وفي هذا القسم على القول بالجواز، كما انقدح حال اجتماع الوجوب والاستحباب فيها، وأن الأمر الاستحبابي يكون على نحو

١٦٥

الإرشاد إلى أفضل الأفراد مطلقاً على نحو الحقيقة، ومولوياً اقتضائياً كذلك، وفعلياً بالعرض والمجاز فيما كان ملاكه ملازمتها لما هو مستحب، أو متحداً(١) معه على القول بالجواز.

ولا يخفى أنه لا يكاد يأتي القسم الأول هاهنا، فإن انطباق عنوان راجح على الفعل الواجب الذي لا بدل له إنما يؤكد إيجابه، لا أنه يوجب استحبابه أصلاً، ولو بالعرض والمجاز، إلا على القول بالجواز، وكذا فيما إذا لازم مثل هذا العنوان، فإنه لو لم يؤكد الإيجاب لما يصحح الاستحباب إلا اقتضائياً بالعرض والمجاز، فتفطن.

ومنها : إن أهل العرف يعدون من اتى بالمأمور به في ضمن الفرد المحرم، مطيعاً وعاصياً من وجهين(٢) ، فإذا أمر المولى عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان خاص، كما مثّل به الحاجبي(٣) والعضدي(٤) ، فلو خاطه في ذاك المكان، عد مطيعاً لأمر الخياطة وعاصياً للنهي عن الكون في ذلك المكان.

وفيه - مضافاً إلى المناقشة في المثال، بأنه ليس من باب الاجتماع، ضرورة أن الكون المنهي عنه غير متحد مع الخياطة وجوداً أصلاً، كما لا يخفى -

____________________

(١) في «ب»: متحدة.

(٢) دليل آخر للمجوزين، قوانين الأصول ١ / ١٤٨.

(٣ و٤) انظر شرح العضدي على مختصر المنتهى لابن الحاجب / ٩٢، ٩٣. مسألة استحالة كون الشيء واجباً حراماً من جهة واحدة.

ابن الحاجب ابوعمرو عثمان بن عمر بن ابي بكر المالكي، تولد سنة ٥٧٠ ه‍ باسناد كان ابوه جندياً، اشتغل ابنه في صغره بالقاهرة، وحفظ القرآن المجيد، واخذ بعض القراء‌ات عن الشاطبي وسمع من البوصيري وجماعة، لزم الاشتغال حتى برع في الاصول والعربية، ثم قدم دمشق ودرس بجامعها، كان الاغلب عليه النحو، وصنف في عدة علوم، له كتاب «الكافية» في النحو و «الشافية» في الصرف و «مختصر الاصول» ثم انتقل إلى الاسكندرية، مات بها سنة ٦٤٦ ه‍.(الكنى والالقاب ١ / ٢٤٤).

١٦٦

المنع إلّا عن صدق أحدهما، إما الإطاعة بمعنى الامتثال فيما غلب جانب الأمر، أو العصيان فيما غلب جانب النهي، لما عرفت من البرهان على الامتناع.

نعم لا بأس بصدق الإطاعة بمعنى حصول الغرض والعصيان في التوصليات، وأما في العبادات فلا يكاد يحصل الغرض منها، إلا فيما صدر من المكلف فعلاً غير محرم وغير مبغوض عليه، كما تقدم(١) .

بقي الكلام في حال التفصيل من بعض الأعلام(٢) ، والقول بالجواز عقلاً والامتناع عرفاً.

وفيه: إنه لا سبيل للعرف في الحكم بالجواز أو الامتناع، إلا طريق العقل، فلا معنى لهذا التفصيل إلا ما أشرنا إليه من النظر المسامحي الغير المبتني على التدقيق والتحقيق، وأنت خبير بعدم العبرة به، بعد الاطلاع على خلافه بالنظر الدقيق، وقد عرفت فيما تقدم(٣) أن النزاع ليس في خصوص مدلول صيغة الأمر والنهي، بل في الأعم، فلا مجال لأن يتوهم أن العرف هو المحكم في تعيين المداليل، ولعله كان بين مدلوليهما حسب تعيينه(٤) تناف، لا يجتمعان في واحد ولو بعنوانين، وإن كان العقل يرى جواز اجتماع الوجوب والحرمة في واحد بوجهين، فتدبر.

وينبغي التنبيه على أمور:

الأول : إن الاضطرار إلى ارتكاب الحرام، وإن كان يوجب ارتفاع حرمته، والعقوبة عليه مع بقاء ملاك وجوبه - لو كان - مؤثراً له، كما إذا لم يكن

____________________

(١) في الأمر العاشر / ١٥٦.

(٢) المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ٢: ١١٠، وقد ينسب ذلك إلى صاحب الرياض (قده) أيضاً وكأنه مسموع منه شفاهاً، على حد تعبير صاحب مطارح الأنظار / ١٢٩.

(٣) في الأمر الرابع / ١٥٢.

(٤) في «ب» تعينه.

١٦٧

بحرام بلا كلام، إلا أنه إذا لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار، بأن يختار ما يؤدي إليه لا محالة، فإن الخطاب بالزجر عنه حينئذ، وإن كان ساقطاً، إلا أنه حيث يصدر عنه مبغوضاً عليه وعصياناً لذاك الخطاب ومستحقاً عليه العقاب، لا يصلح لأن يتعلق بها الإيجاب، وهذا في الجملة مما لا شبهة فيه ولا ارتياب.

وإنما الإشكال فيما إذا كان ما اضطر إليه بسوء اختياره، مما ينحصر به التخلص عن محذور الحرام، كالخروج عن الدار المغصوبة فيما إذا توسطها بالاختيار في كونه منهياً عنه، أو مأموراً به، مع جريان حكم المعصية عليه، أو بدونه، فيه أقوال، هذا على الامتناع.

وأما على القول بالجواز، فعن أبي هاشم(١) أنه مأمور به ومنهيّ عنه، واختاره الفاضل القمي(٢) ، ناسباً له إلى أكثر المتأخرين وظاهر الفقهاء.

والحق أنه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار إليه، وعصيان له بسوء الاختيار، ولا يكاد يكون ماموراً به، كما إذا لم يكن هناك توقف(٣) عليه، أو بلا انحصار به، وذلك ضرورة أنه حيث كان قادراً على ترك

____________________

(١) راجع شرح مختصر الأصول / ٩٤.

هو أبوهاشم عبدالسلام بن محمد بن عبدالوهاب الجبّائي، ولد عام ٢٤٧ ه‍ من أبناء ابان مولى عثمان، عالم بالكلام، من كبار المعتزلة، له آراء انفرد بها وتبعته فرقة سمّيت «البهشمية» نسبة إلى كنيته أبي هاشم وله مصنفات منها: «الشامل» في الفقه و «تذكرة العالم» و «العدة» في الأصول مات سنة ٣٢١ ه‍. «الاعلام للزركلي ٤ / ٧».

(٢) قوانين الأصول ١ / ١٥٣، في التنبيه الثاني، من قانون دلالة النهي على الفساد.

(٣) لا يخفى إنه لا توقف ها هنا حقيقة، بداهة أن الخروج إنما هو مقدمة للكون في خارج الدار، لا مقدمة لترك الكون فيها الواجب، لكونه ترك الحرام، نعم بينهما ملازمة لأجل التضاد بين الكونين، ووضوح الملازمة بين وجود الشيء وعدم ضده، فيجب الكون في خارج الدار عرضاً، لوجوب ملازمه حقيقة، فيجب مقدمته كذلك، وهذا هو الوجه في المماشاة والجري على أن مثل الخروج يكون مقدمة لما هو الواجب من ترك الحرام، فافهم. (منهقدس‌سره ).

١٦٨

الحرام رأساً، لا يكون عقلاً معذوراً في مخالفته فيما اضطر إلى ارتكابه بسوء اختياره، ويكون معاقبا عليه، كما إذا كان ذلك بلا توقف عليه، أو مع عدم الانحصار به، ولا يكاد يجدي توقف انحصار التخلص عن الحرام به، لكونه بسوء الاختيار.

إن قلت: كيف لا يجديه، ومقدمة الواجب واجبة؟

قلت: إنما يجب المقدمة لو لم تكن محرمة، ولذا لا يترشح الوجوب من الواجب إلا على ما هو المباح من المقدمات دون المحرمة مع اشتراكهما في المقدمية.

وإطلاق الوجوب بحيث ربما يترشح منه الوجوب عليها مع انحصار المقدمة بها، إنما هو فيما إذا كان الواجب أهم من ترك المقدمة المحرمة، والمفروض هاهنا وإن كان ذلك إلا أنه كان بسوء الاختيار، ومعه لا يتغير عما هو عليه من الحرمة والمبغوضية، وإلّا لكانت الحرمة معلقة على إرادة المكلف واختياره لغيره، وعدم حرمته مع اختياره له، وهو كما ترى، مع أنه خلاف الفرض، وأن الاضطرار يكون بسوء الاختيار.

إن قلت(١) : إن التصرف في أرض الغير بدون إذنه بالدخول والبقاء حرام، بلا إشكال ولا كلام، وأما التصرف بالخروج الذي يترتب عليه رفع الظلم، ويتوقف عليه التخلص عن التصرف الحرام، فهو ليس بحرام في حال من الحالات، بل حاله حال مثل شرب الخمر، المتوقف عليه النجاة من الهلاك في الاتصاف بالوجوب في جميع الأوقات.

____________________

(١) إشارة إلى مختار الشيخ (قده) مطارح الأنظار / ١٥٥، الهداية ٦ من القول في جواز اجتماع الأمر والنهي.

١٦٩

ومنه ظهر المنع عن كون جميع انحاء التصرف في أرض الغير مثلاً حراماً قبل الدخول، وأنه يتمكن من ترك الجميع حتى الخروج، وذلك لأنه لو لم يدخل لما كان متمكنا من الخروج وتركه، وترك الخروج بترك الدخول رأساً ليس في الحقيقة إلا ترك الدخول، فمن لم يشرب الخمر، لعدم وقوعه في المهلكة التي يعالجها به مثلاً، لم يصدق عليه إلا أنه لم يقع في المهلكة، لا أنه ما شرب الخمر فيها، إلا على نحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع، كما لا يخفى.

وبالجملة لا يكون الخروج - بملاحظة كونه مصداقاً للتخلص عن الحرام أو سبباً له - إلا مطلوباً، ويستحيل أن يتصف بغير المحبوبية، ويحكم عليه بغير المطلوبية.

قلت: هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال على كون ما انحصر به التخلص مأموراً به، وهو موافق لما أفاده شيخنا العلامة أعلى الله مقامه، على ما في تقريرات بعض الأجلة(١) ، لكنه لا يخفى أن ما به التخلص عن فعل الحرام أو ترك الواجب، إنما يكون حسناً عقلاً ومطلوباً شرعاً بالفعل، وإن كان قبيحاً ذاتاً إذا لم يتمكن المكلف من التخلص بدونه، ولم يقع بسوء اختياره، إما في الاقتحام في ترك الواجب أو فعل الحرام، وإما في الإقدام على ما هو قبيح وحرام، لولا [أنّ](٢) به التخلص بلا كلام كما هو المفروض في المقام، ضرورة تمكنه منه قبل اقتحامه فيه بسوء اختياره.

وبالجملة كان قبل ذلك متمكناً من التصرف خروجاً، كما يتمكن منه دخولاً، غاية الأمر يتمكن منه بلا واسطة، ومنه بالواسطة، ومجرد عدم التمكن منه إلا بواسطة لا يخرجه عن كونه مقدوراً، كما هو الحال في البقاء، فكما يكون تركه مطلوباً في جميع الأوقات، فكذلك الخروج، مع أنه مثله في

____________________

(١) مطارح الأنظار ١٥٥. الهداية ٦، من القول في جواز اجتماع الأمر والنهي.

(٢) اثبتناها من بعض النسخ المطبوعة.

١٧٠

الفرعية على الدخول، فكما لا تكون الفرعية مانعة عن مطلوبيته قبله وبعده، كذلك لم تكن مانعة عن مطلوبيته، وإن كان العقل يحكم بلزومه إرشاداً إلى اختيار أقل المحذورين وأخف القبيحين.

ومن هنا ظهر حال شرب الخمر علاجاً وتخلصاً عن المهلكة، وأنه إنما يكون مطلوباً على كل حال لو لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار، وإلا فهو على ما هو عليه من الحرمة، وإن كان العقل يلزمه إرشاداً إلى ما هو أهم وأولى بالرعاية من تركه، لكون الغرض فيه أعظم، [فَـ](١) من ترك الاقتحام فيما يؤدي إلى هلاك النفس، أو شرب الخمر، لئلا يقع في أشد المحذورين منهما، فيصدق أنه تركهما، ولو بتركه ما لو فعله لأدّى لا محالة إلى أحدهما، كسائر الأفعال التوليدية، حيث يكون العمد إليها بالعمد إلى اسبابها، واختيار تركها بعدم العمد إلى الأسباب، وهذا يكفي في استحقاق العقاب على الشرب للعلاج، وإن كان لازماً عقلاً للفرار عما هو أكثر عقوبة.

ولو سلم عدم الصدق إلا بنحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع، فهو غير ضائر بعد تمكنه من الترك، ولو على نحو هذه السالبة، ومن الفعل بواسطة تمكنه مما هو من قبيل الموضوع في هذه السالبة، فيوقع نفسه بالاختيار في المهلكة، أو يدخل الدار فيعالج بشرب الخمر ويتخلص بالخروج، أو يختار ترك الدخول والوقوع فيهما(٢) ، لئلا يحتاج إلى التخلص والعلاج.

إن قلت: كيف يقع مثل الخروج والشرب ممنوعاً عنه شرعاً ومعاقباً عليه عقلاً؟ مع بقاء ما يتوقف عليه على وجوبه، و [وضوح](٣) سقوط الوجوب مع امتناع المقدمة المنحصرة، ولو كان بسوء الاختيار، والعقل قد استقل بان

____________________

(١) أثبتناه من بعض النسخ المطبوعة.

(٢) في «ب»: فيها.

(٣) أثبتناها من هامش «ب» المصححة.

١٧١

الممنوع شرعاً كالممتنع عادةً أو عقلاً.

قلت:أولاً : إنما كان الممنوع كالممتنع، إذا لم يحكم العقل بلزومه إرشاداً إلى ما هو أقل المحذورين، وقد عرفت لزومه بحكمه، فإنه مع لزوم الإتيان بالمقدمة عقلاً، لا بأس في بقاء ذي المقدمة على وجوبه، فإنه حينئذ ليس من التكليف بالممتنع، كماإذا كانت المقدمة ممتنعة.

وثانياً : لو سلم، فالساقط إنما هو الخطاب فعلاً بالبعث والإيجاب لا لزوم إتيانه عقلاً، خروجاً عن عهدة ما تنجز عليه سابقاً، ضرورة أنه لو لم يأت به لوقع في المحذور الأشد ونقض الغرض الأهم، حيث أنه الآن كما كان عليه من الملاك والمحبوبية، بلا حدوث قصور أو طروء فتور فيه أصلاً، وإنما كان سقوط الخطاب لأجل المانع، وإلزام العقل به لذلك إرشاداً كافٍ، لا حاجة معه إلى بقاء الخطاب بالبعث إليه والإيجاب له فعلاً، فتدبر جيداً.

وقد ظهر مما حققناه فساد القول بكونه مأموراً به، مع إجراء حكم المعصية عليه نظراً إلى النهي السابق، مع ما فيه من لزوم اتصاف فعل واحد بعنوان واحد بالوجوب والحرمة، ولا يرتفع غائلته باختلاف زمان التحريم والإيجاب، قبل الدخول وبعده، كما في الفصول(١) ، مع اتحاد زمان الفعل المتعلق لهما، وإنما المفيد اختلاف زمانه ولو مع اتحاد زمانهما، وهذا أوضح من أن يخفى، كيف؟ ولازمه وقوع الخروج بعد الدخول، عصياناً للنهي السابق، وإطاعة للأمر اللاحق فعلاً، ومبغوضاً ومحبوباً كذلك بعنوان واحد، وهذا مما لا يرضى به القائل بالجواز، فضلاً عن القائل بالامتناع.

كما لا يجدي في رفع هذه الغائلة، كون النهي مطلقاً وعلى كل حال، وكون الأمر مشروطاً بالدخول، ضرورة منافاة حرمة شيء كذلك، مع وجوبه

____________________

(١) الفصول / ١٣٨، الفصل الرابع من فصول النهي.

١٧٢

في بعض الأحوال.

وأما القول(١) بكونه مأموراً به ومنهياً عنه، ففيه - مضافاً إلى ما عرفت من امتناع الاجتماع فيما إذا كان بعنوانين، فضلاً عما إذا كان بعنوان واحد كما في المقام، حيث كان الخروج بعنوانه سبباً للتخلص، وكان بغير إذن المالك، وليس التخلص إلا منتزعاً عن ترك الحرام المسبب(٢) عن الخروج، لا عنواناً له - أن الاجتماع ها هنا لو سلم أنه لا يكون بمحال، لتعدد العنوان، وكونه مجدياً في رفع غائلة التضادّ، كان محالاً لأجل كونه طلب المحال، حيث لا مندوحة هنا، وذلك لضرورة عدم صحة تعلق الطلب والبعث حقيقة بما هو واجب أو ممتنع، ولو كان الوجوب أو الامتناع بسوء الاختيار، وما قيل أن الامتناع أو الإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار، إنما هو في قبال استدلال الأشاعرة للقول بأن الأفعال غير اختيارية، بقضية أن الشيء ما لم يجب لم يوجد.

فانقدح بذلك فساد الاستدلال لهذا القول، بأن الأمر بالتخلص والنهي عن الغصب دليلان يجب إعمالهما، ولا موجب للتقييد عقلاً، لعدم استحالة كون الخروج واجباً وحراماً باعتبارين مختلفين، إذ منشأ الاستحالة: إمّا لزوم اجتماع الضدين وهو غير لازم، مع تعدد الجهة، وإمّا لزوم التكليف بما لا يطاق وهو ليس بمحال إذا كان مسبباً عن سوء الاختيار، وذلك لما عرفت من

____________________

(١) راجع قوانين الأصول ١ / ١٤٠، قانون اجتماع الأمر والنهي.

(٢) قد عرفت - مما علقت على الهامش - أن ترك الحرام غير مسبب عن الخروج حقيقة، وإنما المسبب عنه إنما هو الملازم له، وهو الكون في خارج الدار، نعم يكون مسبباً عنه مسامحةً وعرضاً، وقد انقدح بذلك أنه لا دليل في البين الّا على حرمة الغصب المقتضي لاستقلال العقل بلزوم الخروج، من باب أنه أقل المحذورين وأنه لا دليل على وجوبه بعنوان آخر، فحينئذٍ يجب إعماله أيضاً، بناء على القول بجواز الاجتماع كاحتمال [كإعمال] النهي عن الغصب، ليكون الخروج مأموراً به ومنهياً عنه، فافهم (منهقدس‌سره ).

١٧٣

ثبوت الموجب للتقييد عقلاً ولو كانا بعنوانين، وأن اجتماع الضدين لازم ولو مع تعدد الجهة، مع عدم تعددها هاهنا، والتكليف بما لا يطاق محال على كل حال، نعم لو كان بسوء الاختيار لا يسقط العقاب بسقوط التكليف بالتحريم أو الإيجاب.

ثم لا يخفى أنه لا إشكال في صحة الصلاة مطلقاً في الدار المغصوبة على القول بالاجتماع، وأما على القول بالامتناع، فكذلك، مع الاضطرار إلى الغصب، لا بسوء الاختيار أو معه ولكنها وقعت في حال الخروج، على القول بكونه مأموراً به بدون إجراء حكم المعصية(١) عليه، أو مع غلبة ملاك الأمر على النهي مع ضيق الوقت، أما مع السعة فالصحة وعدمها مبنيان على عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ واقتضائه، فإن الصلاة في الدار المغصوبة، وإن كانت مصلحتها غالبة على ما فيها من المفسدة، إلا أنه لا شبهة في أن الصلاة في غيرها تضادّها، بناءً على أنه لا يبقى مجال مع إحداهما للأخرى، مع كونها أهمّ منها، لخلوها من المنقصة الناشئة من قبل اتحادها مع الغصب، لكنه عرفت عدم الاقتضاء بما لا مزيد عليه، فالصلاة في الغصب اختياراً في سعة الوقت صحيحة، وإن لم تكن مأموراً بها.

الأمر الثاني : قد مرّ(٢) - في بعض المقدمات - أنه لا تعارض بين مثل خطاب (صلّ) وخطاب (لا تغصب) على الامتناع، تعارض الدليلين بما هما دليلان حاكيان، كي يقدم الأقوى منهما دلالة أو سنداً، بل إنما هو من باب

____________________

(١) اختاره الشيخ (قده)، مطارح الأنظار / ١٥٣، وابن الحاجب، راجع شرح مختصر الأصول ٩٤.

(٢) في الأمر التاسع من المقصد الثاني في النواهي / ١٥٥.

١٧٤

تزاحم المؤثرين والمقتضيين، فيقدم الغالب منهما، وإن كان الدليل على مقتضى الآخر أقوى من دليل مقتضاه، هذا فيما إذا أحرز الغالب منهما، وإلا كان بين الخطابين تعارض، فيقدم الأقوى منهما دلالة أو سنداً، وبطريق الإنّ يحرز به أن مدلوله أقوى مقتضياً، هذا لو كان كل من الخطابين متكفلاً لحكم فعلي، وإلا فلا بد من الأخذ بالمتكفل لذلك منهما لو كان، وإلا فلا محيص عن الانتهاء إلى ما تقتضيه الأصول العملية.

ثم لا يخفى(١) أن ترجيح أحد الدليلين وتخصيص الآخر به في المسألة لا يوجب خروج مورد الاجتماع عن تحت الآخر رأساً، كما هو قضية التقييد والتخصيص في غيرها مما لا يحرز فيه المقتضي لكلا الحكمين، بل قضيته ليس إلّا خروجه فيما كان الحكم الذي هو مفاد الآخر فعلياً، وذلك لثبوت المقتضي في كل واحد من الحكمين فيها، فإذا لم يكن المقتضي لحرمة الغصب مؤثراً لها، لاضطرار أو جهل أو نسيان، كان المقتضي لصحة الصلاة مؤثراً لها فعلاً، كما إذا لم يكن دليل الحرمة أقوى، أو لم يكن واحد من الدليلين دالّاً على الفعلية أصلاً.

فانقدح بذلك فساد الإشكال في صحة الصلاة في صورة الجهل أو النسيان ونحوهما، فيما إذا قدم خطاب (لا تغصب) كما هو الحال فيما إذا كان الخطابان من أول الأمر متعارضين، ولم يكونا من باب الاجتماع أصلاً، وذلك لثبوت المقتضي في هذا الباب كما إذا لم يقع بينهما تعارض، ولم يكونا متكلفين للحكم الفعلي، فيكون وزان التخصيص في مورد الاجتماع وزان التخصيص العقلي الناشئ من جهة تقديم أحد المقتضيين وتأثيره فعلاً المختص بما إذا لم يمنع عن

____________________

(١) هذا ردّ على الشيخقدس‌سره ، مطارح الأنظار / ١٥٢.

١٧٥

تأثيره مانع المقتضي، لصحة مورد الاجتماع مع الأمر، أو بدونه فيما كان هناك مانع عن تأثير المقتضي للنهي له، أو عن فعليته، كما مرّ تفصيله.

وكيف كان، فلا بد في ترجيح أحد الحكمين من مرجح، وقد ذكروا لترجيح النهي وجوهاً:

منها : إنه أقوى دلالة، لاستلزامه انتفاء جميع الأفراد، بخلاف الأمر.

وقد أُورد عليه بأن ذلك فيه من جهة إطلاق متعلقه بقرينة الحكمة، كدلالة الأمر على الاجتزاء بأي فرد كان.

وقد أُورد عليه بأنه لو كان العموم المستفاد من النهي بالإطلاق بمقدمات الحكمة، وغير مستند إلى دلالته عليه بالالتزام، لكان استعمال مثل (لا تغصب) في بعض أفراد الغصب حقيقة، وهذا واضح الفساد، فتكون دلالته على العموم من جهة أن وقوع الطبيعة في حيز النفي أو النهي، يقتضي عقلاً سريان الحكم إلى جميع الأفراد، ضرورة عدم الانتهاء عنها أو انتفائها، إلا بالانتهاء عن الجميع أو انتفائه.

قلت: دلالتها على العموم والاستيعاب ظاهراً مما لا ينكر، لكنه من الواضح أن العموم المستفاد منهما كذلك، إنما هو بحسب ما يراد من متعلقهما، فيختلف سعة وضيقاً، فلا يكاد يدلّ على استيعاب جميع الأفراد، إلا إذا أريد منه الطبيعة مطلقة وبلا قيد، ولا يكاد يستظهر ذلك مع عدم دلالته(١) عليه بالخصوص، إلا بالإطلاق وقرينة الحكمة، بحيث لو لم يكن هناك قرينتها بأن يكون الإطلاق في غير مقام البيان، لم يكد يستفاد استيعاب أفراد الطبيعة، وذلك لا ينافي دلالتهما على استيعاب أفراد ما يراد من المتعلق، إذ الفرض عدم الدلالة على أنه المقيد أو المطلق.

____________________

(١) الظاهر أن أصل العبارة: عدم دلالة، (حقائق الاصول ١ / ٤١٢).

١٧٦

اللهم إلّا أن يقال: إن في دلالتهما على الاستيعاب كفاية ودلالة على أن المراد من المتعلق هو المطلق، كما ربما يُدَّعى ذلك في مثل (كل رجل)، وإن مثل لفظة (كل) تدل على استيعاب جميع أفراد الرجل من غير حاجة إلى ملاحظة إطلاق مدخوله وقرينة الحكمة، بل يكفي إرادة ما هو معناه من الطبيعة المهملة ولا بشرط في دلالته على الاستيعاب وإن كان لا يلزم مجاز أصلاً، لو أُريد منه خاص بالقرينة، لا فيه لدلالته على استيعاب أفراد ما يراد من المدخول، ولا فيه إذا كان بنحو تعدد الدالّ والمدلول، لعدم استعماله إلا فيما وضع له، والخصوصية مستفادة من دالّ آخر، فتدبر.

ومنها : إنَّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

وقد أورد عليه في القوانين(١) ، بأنه مطلقاً ممنوع، لأن في ترك الواجب أيضاً مفسدة إذا تعين.

ولا يخفى ما فيه، فإن الواجب ولو كان معيناً، ليس إلّا لأجل أنَّ في فعله مصلحة يلزم استيفاؤها من دون أن يكون في تركه مفسدة، كما أنَّ الحرام ليس إلا لأجل المفسدة في فعله بلا مصلحة في تركه.

ولكن يرد عليه أنَّ الأولوية مطلقاً ممنوعة، بل ربما يكون العكس أولى، كما يشهد به مقايسة فعل بعض المحرمات مع ترك بعض الواجبات، خصوصاً مثل الصلاة وما يتلو تلوها.

ولو سلم فهو أجنبي عن المقام(٢) ، فإنه فيما إذا دار بين الواجب والحرام.

____________________

(١) قوانين الأصول ١ / ١٥٣، في قانون اجتماع الأمر والنهي.

(٢) فإن الترجيح به إنما يناسب ترجيح المكلف واختياره للفعل أو الترك، بما هو أوفق بغرضه، لا المقام وهو مقام جعل الأحكام، فإن المرجح هناك ليس إلا حسنها أو قبحها العقليان، لا موافقة الأغراض ومخالفتها، كما لا يخفى، تأمل تعرف (منهقدس‌سره ).

١٧٧

ولو سلم فإنما يجدي فيما لو حصل به القطع.

ولو سلم أنه يجدي ولو لم يحصل، فإنما يجري فيما لا يكون هناك مجال لأصالة البراء‌ة أو الاشتغال، كما في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة التعيينيين، لا فيما تجري، كما في محل الاجتماع، لأصالة البراء‌ة عن حرمته فيحكم بصحته، ولو قيل بقاعدة الاشتغال في الشك في الأجزاء والشرائط فإنه لا مانع عقلاً إلا فعلية الحرمة المرفوعة بأصالة البراء‌ة عنها عقلاً ونقلاً.

نعم لو قيل(١) بأن المفسدة الواقعية الغالبة مؤثرة في المبغوضية ولو لم يكن الغلبة بمحرزة، فأصالة البراء‌ة غير جارية، بل كانت أصالة الاشتغال بالواجب لو كان عبادة محكمة، ولو قيل بأصالة البراء‌ة في الأجزاء والشرائط، لعدم تأتّي قصد القربة مع الشك في المبغوضية، فتأمل.

ومنها : الاستقراء، فإنه يقتضي ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب، كحرمة الصلاة في أيام الاستظهار، وعدم جواز الوضوء من الإناء‌ين المشتبهين.

____________________

(١) كما هو غير بعيد كله بتقريب أن إحراز المفسدة والعلم بالحرمة الذاتية كافٍ في تأثيرها بما لها من المرتبة، ولا يتوقف تأثيرها كذلك على إحرازها بمرتبتها، ولذا كان العلم بمجرد حرمة شيء موجباً لتنجز حرمته، على ماهي عليه من المرتبة ولو كانت في أقوى مراتبها، ولاستحقاق العقوبة الشديدة على مخالفتها حسب شدتها، كما لا يخفى. هذا، لكنه إنما يكون إذا لم يحرز أيضاً ما يحتمل أن يزاحمها ويمنع عن تأثيرها المبغوضية، وأما معه فيكون الفعل كما إذا لم يحرز أنه ذو مصلحة أو مفسدة مما لا يستقل العقل بحسنه أو قبحه، وحينئذٍ يمكن أن يقال بصحته عبادة لو أتى به بداعي الأمر المتعلق بما يصدق عليه من الطبيعة، بناءً على عدم اعتبار أزيد من إتيان العمل قربيّاً في العبادة، وامتثالاً للأمر بالطبيعة، وعدم اعتبار كونه ذاتاً راجحاً، كيف ويمكن أن لا يكون جلّ العبادات ذاتاً راجحاً، بل إنما يكون كذلك فيما إذا أتى بها على نحو قربي، نعم المعتبر في صحته عبادة، إنما هو أن لا يقع منه مبغوضاً عليه، كما لا يخفى، وقولنا: (فتأمل) إشارة إلى ذلك (منهقدس‌سره ).

١٧٨

وفيه: أنه لا دليل على اعتبار الاستقراء، ما لم يفد القطع.

ولو سلم فهو لا يكاد يثبت بهذا المقدار.

ولو سلم فليس حرمة الصلاة في تلك الأيام، ولا عدم جواز الوضوء منهما مربوطاً بالمقام، لأن حرمة الصلاة فيها إنما تكون لقاعدة الامكان والاستصحاب المثبتين لكون الدم حيضاً، فيحكم بجميع أحكامه، ومنها حرمة الصلاة عليها لا لأجل تغليب جانب الحرمة كما هو المدَّعى، هذا لو قيل بحرمتها الذاتية في أيام الحيض، وإلا فهو خارج عن محل الكلام.

ومن هنا انقدح أنه ليس منه ترك الوضوء من الإناء‌ين، فإن حرمة الوضوء من الماء النجس ليس إلا تشريعياً، ولا تشريع فيما لو توضّأ منهما احتياطاً، فلا حرمة في البين غلب جانبها، فعدم جواز الوضوء منهما ولو كذلك، بل إراقتهما كما في النص(١) ، ليس إلا من باب التعبد، أو من جهة الابتلاء بنجاسة البدن ظاهراً بحم الاستصحاب، للقطع بحصول النجاسة حال ملاقاة المتوضئ من الإناء الثانية، إما بملاقاتها، أو بملاقاة الأولى، وعدم استعمال مطهر بعده، ولو طهر بالثانية مواضع الملاقاة بالأولى.

نعم لو طهرت على تقدير نجاستها بمجرد ملاقاتها، بلا حاجة إلى التعدد وانفصال الغسالة لا يعلم تفصيلاً بنجاستها، وإن علم بنجاستها حين ملاقاة الأولى أو الثانية إجمالاً، فلا مجال لاستصحابها بل كانت قاعدة الطهارة محكمة.

الأمر الثالث : الظاهر لحوق تعدد الإضافات، بتعدد العنوانات والجهات، في أنه لو كان تعدد الجهة والعنوان كافياً مع وحدة المعنون وجوداً، في جواز الاجتماع، كان تعدد الإضافات مجدياً، ضرورة أنه يوجب أيضاً

____________________

(١) التهذيب ١ / الباب ١١، باب تطهير المياه من النجاسات، الحديث ٤٣ - ٤٤..

١٧٩

اختلاف المضاف بها بحسب المصلحة والمفسدة والحسن والقبح عقلاً، وبحسب الوجوب والحرمة شرعاً، فيكون مثل (اكرم العلماء ولا تكرم الفساق) من باب الاجتماع (كصلّ ولا تغصب) لا من باب التعارض، إلا إذا لم يكن للحكم في أحد الخطابين في مورد الاجتماع مقتضٍ، كما هو الحال أيضاً في تعدد العنوانين، فما يتراء‌ى منهم من المعاملة مع مثل (اكرم العلماء ولا تكرم الفساق) معاملة تعارض العموم من وجه، إنما يكون بناءً على الامتناع، أو عدم المقتضي لأحد الحكمين في مورد الاجتماع.

فصل

في أن النهي عن الشيء، هل يقتضي فساده أم لا؟

وليقدم أمور:

الأول : إنه قد عرفت في المسألة السابقة الفرق بينها وبين هذه المسألة، وإنه لا دخل للجهة المبحوث عنها في إحداهما، بما هو جهة البحث في الأخرى، وإن البحث في هذه المسألة في دلالة النهي بوجه يأتي تفصيله على الفساد بخلاف تلك المسألة، فإن البحث فيها في أن تعدد الجهة يجدي في رفع غائلة اجتماع الأمر والنهي في مورد الاجتماع أم لا؟

الثاني : إنه لا يخفى أن عد هذه المسألة من مباحث الألفاظ، إنما هو لأجل أنه في الأقوال قول بدلالته على الفاسد في المعاملات، مع إنكار الملازمة بينه وبين الحرمة التي هي مفاده فيها، ولا ينافي ذلك أن الملازمة على تقدير ثبوتها في العبادة إنما تكون بينه وبين الحرمة ولو لم تكن مدلولة بالصيغة، وعلى تقدير عدمها تكون منتفية بينهما، لإمكان أن يكون البحث معه في دلالة الصيغة، بما تعم دلالتها بالالتزام، فلا تقاس بتلك المسألة التي لا يكاد يكون لدلالة اللفظ بها مساس، فتأمل جيداً.

١٨٠