كفاية الأصول

كفاية الأصول0%

كفاية الأصول مؤلف:
تصنيف: علم أصول الفقه
الصفحات: 521

كفاية الأصول

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد كاظم الخراسانى
تصنيف: الصفحات: 521
المشاهدات: 49547
تحميل: 16007

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 521 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 49547 / تحميل: 16007
الحجم الحجم الحجم
كفاية الأصول

كفاية الأصول

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فصل

لا شبهة في لزوم اتباع ظاهر كلام الشارع في تعيين مراده في الجملة؛ لاستقرار طريقة العقلاء على اتباع الظهورات في تعيين المرادات، مع القطع بعدم الردع عنها، لوضوح عدم اختراع طريقة أُخرى في مقام الإفادة لمرامه من كلامه، كما هو واضح.

والظاهر(١) أن سيرتهم على اتباعها، من غير تقييد بإفادتها للظن فعلاً، ولا بعدم الظن كذلك على خلافها قطعاً، ضرورة أنه لا مجال عندهم للاعتذار عن مخالفتها، بعدم إفادتها للظن بالوفاق، ولا بوجود الظن بالخلاف.

كما أن الظاهر عدم اختصاص ذلك بمن قصد إفهامه؛ ولذا لا يسمع اعتذار من لايقصد إفهامه إذا خالف ما تضمنه ظاهر كلام المولى، من تكليف يعمه أو يخصه، ويصح به الاحتجاج لدى المخاصمة واللجاج، كما تشهد به صحة الشهادة بالإقرار من كل من سمعه ولو قصد عدم إفهامه، فضلاً عما إذا لم يكن بصدد إفهامه؛ ولا فرق في ذلك بين الكتاب المبين وأحاديث سيد المرسلين والأئمة الطاهرين.

وإن ذهب بعض الأصحاب إلى عدم حجية ظاهر الكتاب، إما بدعوى

____________________

(١) إشارة إلى التفصيلين أشار إليهما الشيخ في رسائله. فرائد الأصول / ٤٤.

٢٨١

اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله ومن خوطب به، كما يشهد به ما(١) ورد في ردع أبي حنيفة وقتادة(٢) عن الفتوى به.

أو بدعوى(٣) أنه لأجل احتوائه على مضامين شامخة ومطالب غامضة عالية، لا يكاد تصل إليه أيدي أفكار أولي الأنظار الغير الراسخين العالمين بتأويله، كيف؟ ولا يكاد يصل إلى فهم كلمات الأوائل إلّا الأوحدي من الأفاضل، فما ظنك بكلامه تعالى مع اشتماله على علم ما كان وما يكون وحكم كل شيء.

أو بدعوى(٤) شمول المتشابه الممنوع عن اتباعه للظاهر، لا أقل من احتمال شموله لتشابه المتشابه وإجماله.

أو بدعوى أنه وإن لم يكن منه ذاتاً، إلا أنه صار منه عرضاً؛ للعلم الإجمالي بطروء التخصيص والتقييد والتجوز في غير واحد من ظواهره، كما هو الظاهر.

أو بدعوى شمول الأخبار الناهية(٥) عن تفسير القرآن بالرأي، لحمل الكلام الظاهر في معنى على إرادة هذا المعنى.

ولا يخفى أن النزاع يختلف صغروياً وكبروياً بحسب الوجوه، فبحسب غير الوجه الأخير والثالث يكون صغروياً، وأما بحسبهما فالظاهر أنه كبروي، ويكون

____________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: ٢٩، الباب ٦ من أبواب صفات القاضي، الحديث ٥٢٧، الكافي ٨: ٣١١، الحديث ٤٨٥.

(٢) هو قتادة بن دِعامة بن عزيز أبوالخطاب السدوسي البصري، مفسر حافط ضرير أكمه، قال أحمد بن حنبل: قتادة أحفظ أهل البصرة، كان مع علمه بالحديث رأساً في العربية ومفردات اللغة وأيام العرب والنسب، وكان يرى القدر وقد يدلّس في الحديث، مات بواسط في الطاعون سنة ١١٨ ه‍، وهو ابن ست وخمسين سنة. (تذكرة الحفاظ ١: ١٢٢ الرقم ١٠٧).

(٣) حكي عن الأخباريين، راجع فرائد الأصول / ٣٤.

(٤) حكاه الشيخقدس‌سره عن السيد الصدر، فرائد الأصول / ٣٨، شرح الوافية.

(٥) تفسير العيّاشي: ١ / ١٧ - ١٨، عيون أخبار الرضا: ١ / ٥٩، الباب ١١، الحديث ٤، أمالي الصدوق: ١٥٥ / الحديث ٣، التوحيد: ٩٠٥، الحديث ٥.

٢٨٢

المنع عن الظاهر، إما لأنه من المتشابه قطعاً أو احتمالاً، أو لكون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير بالرأي، وكل هذه الدعاوي فاسدة:

أما الأولى، فإنما المراد مما دل على اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله اختصاص فهمه بتمامه بمتشابهاته ومحكماته؛ بداهة أن فيه ما لا يختص به، كما لا يخفى.

وردع أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به إنما هو لأجل الاستقلال في الفتوى بالرجوع إليه من دون مراجعة أهله، لا عن الاستدلال بظاهره مطلقاً ولو مع الرجوع إلى رواياتهم والفحص عما ينافيه، والفتوى به مع اليأس عن الظفر به، كيف؟ وقد وقع في غير واحد من الروايات(١) الإرجاع إلى الكتاب والاستدلال بغير واحد من آياته(٢) .

وأما الثانية، فلأن احتواءه على المضامين العالية الغامضة لا يمنع عن فهم ظواهره المتضمنة للأحكام وحجيتها، كما هو محل الكلام.

وأما الثالثة، فللمنع عن كون الظاهر من المتشابه، فإن الظاهر كون المتشابه هو خصوص المجمل، وليس بمتشابه ومجمل.

وأما الرابعة، فلأن العلم إجمالاً بطروء إرادة خلاف الظاهر، إنما يوجب الإجمال فيما إذا لم ينحل بالظفر في الروايات بموارد إرادة خلاف الظاهر بمقدار المعلوم بالإجمال.

مع أن دعوى اختصاص أطرافه بما إذا تفحص عما يخالفه لظفر به، غير بعيدة، فتأمل جيداً.

____________________

(١) مثل رواية الثقلين، راجع الخصال: ١ / ٦٥، الحديث ٩٨، معاني الأخبار / ٩٠، التهذيب: ١ / ٣٦٣، الحديث ٢٧ من باب صفة الوضوء، الوسائل: ١ / ٢٩٠ الباب ٢٣ من أبواب الوضوء، الحديث ١.

(٢) في «ب»: الآيات.

٢٨٣

وأما الخامسة، فيمنع كون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير، فإنه كشف القناع ولا قناع للظاهر، ولو سلم، فليس من التفسير بالرأي، إذ الظاهر أن المراد بالرأي هو الاعتبار الظني الذي لا اعتبار به، وإنما كان منه حمل اللفظ على خلاف ظاهره، لرجحانه بنظره، أو حمل المجمل على محتمله بمجرد مساعدته ذاك الاعتبار، من دون السؤال عن الأوصياء، وفي بعض الأخبار(١) (إنما هلك الناس في المتشابه، لأنهم لم يقفوا على معناه، ولم يعرفوا حقيقته، فوضعوا له تأويلاً من عند أنفسهم بآرائهم واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء فيعرفونهم).

هذا مع أنه لا محيص عن حمل هذه الروايات الناهية عن التفسير به على ذلك، ولو سلم شمولها لحمل اللفظ على ظاهره، ضرورة أنه قضية التوفيق بينها وبين مادل على جواز التمسك بالقرآن، مثل خبر الثقلين(٢) ، وما دل على التمسك به، والعمل بما فيه(٣) ، وعرض الأخبار المتعارضة عليه(٤) ، ورد الشروط المخالفة له(٥) ، وغير ذلك(٦) ، مما لا محيص عن إرادة الإرجاع إلى ظواهره لا خصوص نصوصه، ضرورة أن الآيات التي يمكن أن تكون مرجعاً في باب تعارض الروايات أو الشروط، أو يمكن أن يتمسك بها ويعمل بما فيها، ليست إلا ظاهرة في معانيها، ليس فيها ما كان نصاً، كما لا يخفى.

ودعوى العلم الإجمالي بوقوع التحريف فيه بنحوٍ: إمّا بإسقاط، أو

____________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ / ١٤٨، الباب ١٣ من أبواب صفات القاضي، الحديث ٦٢.

(٢) الخصال: ١ / ٦٥ الحديث ٩٨، ومعاني الأخبار / ٩٠، الحديث ١.

(٣) نهج البلاغة: باب الخطب، الخطبة ١٧٦.

(٤) الوسائل ١٨، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي، الحديث: ١٢، ١٥، ٢٩.

(٥) الوسائل ١٢، الباب ٦ من أبواب الخيار، الحديث: ١.

(٦) التهذيب: ١ / ٣٦٣، الحديث ٢٧ من باب صفة الوضوء. الوسائل: ١ / ٢٩٠ الباب ٢٣ من أبواب الوضوء، الحديث: ١. الوسائل: ١ / ٣٢٧ الباب ٣٩ من أبواب الوضوء، الحديث: ٥.

٢٨٤

تصحيف(١) ، وإن كانت غير بعيدة، كما يشهد به بعض الأخبار(٢) ويساعده الاعتبار، إلا أنه لا يمنع عن حجية ظواهره، لعدم العلم بوقوع خلل(٣) فيها بذلك أصلاً.

ولو سلّم، فلا علم بوقوعه في آيات الأحكام، والعلم بوقوعه فيها أو في غيرها من الآيات غير ضائر بحجية آياتها، لعدم حجية ظاهر سائر الآيات، والعلم الإجمالي بوقوع الخلل في الظواهر إنما يمنع عن حجيتها إذا كانت كلها حجة، وإلا لا يكاد ينفك ظاهر عن ذلك، كما لا يخفى، فافهم.

نعم لو كان الخلل المحتمل فيه أو في غيره بما اتصل به، لأخل بحجيته، لعدم انعقاد ظهور له حينئذ، وإن انعقد له الظهور لولا اتصاله.

ثم إن التحقيق أن الاختلاف في القراء‌ة بما يوجب الاختلاف في الظهور مثل (يطهرن) بالتشديد والتخفيف، يوجب الإخلال بجواز التمسك والاستدلال، لعدم إحراز ما هو القرآن، ولم يثبت تواتر القراء‌ات، ولا جواز الاستدلال بها، وإن نسب(٤) إلى المشهور تواترها، لكنه مما لا أصل له، وإنما الثابث جواز القراء‌ة بها، ولا ملازمة بينهما، كما لا يخفى.

ولو فرض جواز الاستدلال بها، فلا وجه لملاحظة الترجيح بينها بعد كون الأصل في تعارض الأمارات هو سقوطها عن الحجية في خصوص المؤدى، بناء على اعتبارها من باب الطريقية، والتخيير بينها بناء على السببية، مع عدم دليل على الترجيح في غير الروايات من سائر الأمارات، فلابد من الرجوع حينئذ إلى الأصل أو العموم، حسب اختلاف المقامات.

____________________

(١) في «ب»: بتصحيف.

(٢) الإتقان: ١ / ١٠١، ١٢١. مسند أحمد: ١ / ٤٧. صحيح مسلم: ٤ / ١٦٧.

(٣) في «ب»: الخلل.

(٤) نسبة الشيخ (قده) راجع فرائد الأصول / ٤٠.

٢٨٥

فصل

قد عرفت حجية ظهور الكلام في تعيين المرام: فإن أحرز بالقطع وأن المفهوم منه جزماً - بحسب متفاهم أهل العرف - هو ذا فلا كلام، وإلا فإن كان لأجل احتمال وجود قرينة فلا خلاف في أن الأصل عدمها، لكن الظاهر أنه معه يبنى على المعنى الذي لولاها كان اللفظ ظاهراً فيه ابتداء، لا أنه يبنى عليه بعد البناء على عدمها، كما لا يخفى، فافهم.

وإن كان لاحتمال قرينية الموجود فهو، وإن لم يكن بخال عن الإشكال - بناء على حجية أصالة الحقيقة من باب التعبد - إلا أن الظاهر أن يعامل معه معاملة المجمل، وإن كان لأجل الشك فيما هو الموضوع له لغة أو المفهوم منه عرفاً، فالأصل يقتضي عدم حجية الظن فيه، فإنه ظن في أنه ظاهر، ولا دليل إلا على حجية الظواهر.

نعم نسب(١) إلى المشهور حجية قول اللغوي بالخصوص في تعيين الأوضاع، واستدل لهم باتفاق العلماء بل العقلاء على ذلك، حيث لا يزالون يستشهدون بقوله في مقام الاحتجاج بلا إنكار من أحد، ولو مع المخاصمة واللجاج، وعن بعض(٢) دعوى الإجماع على ذلك.

وفيه: أن الاتفاق - لو سلم اتفاقه - فغير مفيد، مع أن المتيقّن منه هو الرجوع إليه مع إجتماع شرائط الشهادة من العدد والعدالة.

والإجماع المحصل غير حاصل، والمنقول منه غير مقبول، خصوصاً في مثل

____________________

(١) نسبه الشيخ (قده) راجع فرائد الأصول / ٤٥، في القسم الثاني من الظنون المستعملة لتشخيص الأوضاع.

(٢) كالسيد المرتضى على ما نسب إليه، الذريعة ١ / ١٣.

٢٨٦

المسألة مما احتمل قريباً أن يكون وجه ذهاب الجل لو لا الكل، هو اعتقاد أنه مما اتفق عليه العقلاء من الرجوع إلى أهل الخبرة من كل صنعة فيما اختص بها.

والمتيقن من ذلك إنما هو فيما إذا كان الرجوع يوجب الوثوق(١) والاطمئنان، ولا يكاد يحصل من قول اللغوي وثوق بالأوضاع، بل لا يكون اللغوي من أهل خبرة ذلك، بل إنما هو من أهل خبرة موارد الاستعمال، بداهة أن همه ضبط موارده، لا تعيين أن أيّاً منها كان اللفظ فيه حقيقة أو مجازاً، وإلا لوضعوا لذلك علامة، وليس ذكره أوّلاً علامة كون اللفظ حقيقة فيه، للانتقاض بالمشترك.

وكون موارد الحاجة إلى قول اللغوي أكثر من أن يحصى، لانسداد باب العلم بتفاصيل المعاني غالباً، بحيث يعلم بدخول الفرد المشكوك أو خروجه، وإن كان المعنى معلوماً في الجملة لا يوجب اعتبار قوله، ما دام انفتاح باب العلم بالأحكام، كما لا يخفى، ومع الانسداد كان قوله معتبراً إذا أفاد الظن، من باب حجية مطلق الظن، وإن فرض انفتاح باب العلم باللغات بتفاصيلها فيما عدا المورد.

نعم لو كان هناك دليل على اعتباره، لا يبعد أن يكون انسداد باب العلم بتفاصيل اللغات موجباً له على نحو الحكمة لا العلة.

لا يقال: على هذا لا فائدة في الرجوع إلى اللغة.

فإنه يقال: مع هذا لا يكاد تخفى الفائدة في المراجعة إليها، فإنه ربما يوجب القطع بالمعنى، وربما يوجب القطع بأن اللفظ في المورد ظاهر في معنى - بعد الظفر به وبغيره في اللغة - وإن لم يقطع بأنه حقيقة فيه أو مجاز، كما اتفق كثيراً، وهو يكفي في الفتوى.

____________________

(١) في «ب»: موجباً للوثوق.

٢٨٧

فصل

الإجماع المنقول بخبر الواحد حجة عند كثير ممن قال باعتبار الخبر بالخصوص، من جهة أنه من أفراده، من دون أن يكون عليه دليل بالخصوص، فلا بد في اعتباره من شمول أدلة اعتباره له، بعمومها أو إطلاقها.

وتحقيق القول فيه يستدعي رسم أمور:

الأول : إن وجه اعتبار الإجماع، هو القطع برأي الإمامعليه‌السلام ، ومستند القطع به لحاكيه - على ما يظهر من كلماتهم - هو علمه بدخولهعليه‌السلام في المجمعين شخصاً، ولم يعرف عيناً، أو قطعه باستلزام ما يحكيه لرأيهعليه‌السلام عقلاً من باب اللطف، أو عادة أو اتفاقاً من جهة حدس رأيه، وإن لم تكن ملازمة بينهما عقلاً ولا عادة، كما هو طريقة المتأخرين في دعوى الإجماع، حيث إنهم مع عدم الاعتقاد بالملازمة العقلية ولا الملازمة العادية غالباً وعدم العلم بدخول جنابهعليه‌السلام في المجمعين عادة، يحكون الإجماع كثيراً، كما أنه يظهر ممن اعتذر عن وجود المخالف بأنه معلوم النسب، أنه استند في دعوى الإجماع إلى العلم بدخولهعليه‌السلام وممن اعتذر عنه بانقراض عصره، أنه استند إلى قاعدة اللطف.

هذا مضافاً إلى تصريحاتهم بذلك، على ما يشهد به مراجعة كلماتهم، وربما

٢٨٨

يتفق لبعض الأوحدي وجه آخر من تشرفه برؤيتهعليه‌السلام وأخذه الفتوى من جنابه، وإنما لم ينقل عنه، بل يحكي الإجماع لبعض دواعي الإخفاء.

الأمر الثاني : إنه لا يخفى اختلاف نقل الإجماع، فتارة ينقل رأيهعليه‌السلام في ضمن نقله حدساً كما هو الغالب، أو حساً وهو نادر جداً، وأخرى لا ينقل إلا ما هو السبب عند ناقله، عقلاً أو عادة أو اتفاقاً، واختلاف ألفاظ النقل أيضاً صراحةً وظهوراً وإجمالاً في ذلك، أي في أنه نقل السبب أو نقل السبب والمسبب.

الأمر الثالث : إنه لا إشكال في حجية الإجماع المنقول بأدلة حجية الخبر، إذا كان نقله متضمناً لنقل السبب والمسبب عن حس، لو لم نقل بأن نقله كذلك في زمان الغيبة موهون جدّاً، وكذا إذا لم يكن متضمناً له، بل كان ممحضاً لنقل السبب عن حس، إلا أنه كان سبباً بنظر المنقول إليه أيضاً عقلاً أو عادة أو اتفاقاً، فيعامل حينئذ مع المنقول معاملة المحصل في الالتزام بمسببه بأحكامه وآثاره.

وأما إذا كان نقله للمسبب لا عن حس، بل بملازمة ثابتة عند الناقل بوجه دون المنقول إليه ففيه إشكال، أظهره عدم نهوض تلك الأدلة على حجيته، إذ المتيقن من بناء العقلاء غير ذلك، كما أن المنصرف من الآيات والروايات ذلك(١) ، على تقدير دلالتهما، خصوصاً فيما إذا رأى المنقول إليه خطأ الناقل في اعتقاد الملازمة، هذا فيما انكشف الحال.

وأما فيما اشتبه، فلا يبعد أن يقال بالاعتبار، فإنّ عمدة أدلة حجية الأخبار هو بناء العقلاء، وهم كما يعملون بخبر الثقة إذا علم أنه عن حس، يعملون به فيما يحتمل كونه عن حدس، حيث إنه ليس بناؤهم إذا أخبروا بشيء على التوقف والتفتيش، عن أنه عن حدس أو حس، بل العمل على(٢) طبقه والجري على

____________________

(١) في «ب»: قدم «على تقدير دلالتهما» على «ذلك».

(٢) في «أ»: على العمل طبقه.

٢٨٩

وفقه بدون ذلك، نعم لا يبعد أن يكون بناؤهم على ذلك، فيما لا يكون هناك أمارة على الحدس، أو اعتقاد الملازمة فيما لا يرون هناك ملازمة.

هذا لكن الإجماعات المنقولة في ألسنة الأصحاب غالباً مبنية على حدس الناقل أو اعتقاد الملازمة عقلاً، فلا اعتبار لها ما لم ينكشف أن نقل السبب كان مستنداً إلى الحس، فلابد في الإجماعات المنقولة بألفاظها المختلفة من استظهار مقدار دلالة ألفاظها، ولو بملاحظة حال الناقل وخصوص موضع النقل، فيؤخذ بذاك المقدار ويعامل معه كأنه المحصل، فإن كان بمقدار تمام السبب، وإلا فلا يجدي ما لم يضم إليه مما حصله أو نقل له من سائر الأقوال أو سائر الأمارات ما به(١) تم، فافهم.

فتلخص بما ذكرنا: أن الإجماع المنقول بخبر الواحد، من جهة حكايته رأي الإمامعليه‌السلام بالتضمن أو الالتزام، كخبر الواحد في الاعتبار إذا كان من نقل إليه ممن يرى الملازمة بين رأيهعليه‌السلام وما نقله من الأقوال، بنحو الجملة والإجمال، وتعمّه أدلة اعتباره، وينقسم بأقسامه، ويشاركه في أحكامه، وإلا لم يكن مثله في الاعتبار من جهة الحكاية.

وأما من جهة نقل السبب، فهو في الاعتبار بالنسبة إلى مقدار من الأقوال التي نقلت إليه على الإجمال بألفاظ نقل الإجماع، مثل ما إذا نقلت على التفصيل، فلو ضم إليه مما حصّله أو نقل له(٢) - من أقوال السائرين أو سائر الأمارات - مقدار كان المجموع منه وما نقل بلفظ الإجماع بمقدار السبب التام، كان المجموع كالمحصل، ويكون حاله كما إذا كان كله منقولاً، ولا تفاوت في اعتبار الخبر بين ما إذا كان المخبر به تمامه، أو ما له دخل فيه وبه قوامه، كما يشهد به حجيته بلا ريب في تعيين حال السائل، وخصوصية القضية الواقعة المسؤول عنها، وغير ذلك مما له دخل في تعيين

____________________

(١) في «ب»: بانّه.

(٢) في «أ»: إليه، وصححه المصنف.

٢٩٠

مرامهعليه‌السلام من كلامه.

وينبغي التنبيه على أمور:

الأول : إنه قد مر أن مبنى دعوى الإجماع غالباً، هو اعتقاد الملازمة عقلاً، لقاعدة اللطف، وهي باطلة، أو اتفاقاً بحدس رأيهعليه‌السلام من فتوى جماعة، وهي غالباً غير مسلّمة، وأما كون المبنى العلم بدخول الإمام بشخصه في الجماعة، أو العلم برأيه للإطلاع بما يلازمه عادة من الفتاوى، فقليل جداً في الإجماعات المتداولة في ألسنة الأصحاب، كما لا يخفى، بل لا يكاد يتفق العلم بدخولهعليه‌السلام على نحو الإجمال في الجماعة في زمان الغيبة، وإن احتمل تشرف بعض الأوحدي بخدمته ومعرفته أحياناً، فلا يكاد يجدي نقل الإجماع إلا من باب نقل السبب بالمقدار الذي أحرز من لفظه، بما اكتنف به من حال أو مقال، ويعامل معه معاملة المحصل.

الثاني : إنه لا يخفى أن الإجماعات المنقولة، إذا تعرض إثنان منها أو أكثر، فلا يكون التعرض إلا بحسب المسبب، وأما بحسب السبب فلا تعارض في البين، لاحتمال صدق الكل، لكن نقل الفتاوى على الإجمال بلفظ الإجماع حينئذ، لا يصلح لأن يكون سبباً، ولا جزء سبب، لثبوت الخلاف فيها، إلا إذا كان في أحد المتعارضين خصوصية موجبة لقطع المنقول إليه برأيهعليه‌السلام لو اطّلع عليها، ولو مع اطّلاعه على الخلاف، وهو وإن لم يكن مع الاطلاع على الفتاوى على اختلافها مفصلاً ببعيد، إلا أنه مع عدم الاطلاع عليها كذلك إلا مجملاً بعيد، فافهم.

الثالث : إنه ينقدح مما ذكرنا في نقل الإجماع حال نقل التواتر، وأنه من حيث المسبب لا بد في اعبتاره من كون الأخبار به إخباراً على الإجمال بمقدار يوجب قطع المنقول إليه بما أخبر به لو علم به، ومن حيث السبب يثبت به كل مقدار كان اخباره بالتواتر دالّاً عليه، كما إذا أخبر به على التفصيل، فربما لا يكون إلا دون حد

٢٩١

التواتر، فلا بد في معاملته معه معاملته من لحوق مقدار آخر من الأخبار، يبلغ المجموع ذاك الحد.

نعم، لو كان هناك أثر للخبر المتواتر في الجملة - ولو عند المخبر - لوجب ترتيبه عليه، ولو لم يدل على ما بحد التواتر من المقدار.

فصل

مما قيل باعتباره بالخصوص الشهرة في الفتوى، ولا يساعده دليل، وتوهّم(١) دلالة أدلة حجية خبر الواحد عليه بالفحوى، لكون الظن الذي تفيده أقوى مما يفيده لخبر، فيه مالا يخفى، ضرورة عدم دلالتها على كون مناط اعتباره إفادته الظن، غايته تنقيح ذلك بالظن، وهو لا يوجب إلا الظن بأنها أولى بالاعتبار، ولا اعتبار به، مع أن دعوى القطع بأنه ليس بمناط غير مجازفة.

وأضعف منه، توهم دلالة المشهورة(٢) والمقبولة(٣) عليه، لوضوح أن المراد بالموصول في قوله في الاُولى: (خذ بما اشتهر بين أصحابك) وفي الثانية: (ينظر إلى ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به، المجمع عليه بين أصحابك، فيؤخذ به) هو الرواية، لا ما يعم الفتوى، كما هو أوضح من أن يخفى.

نعم بناء على حجية الخبر ببناء العقلاء، لا يبعد دعوى عدم اختصاص بنائهم على حجيته، بل على حجية(٤) كل أمارة مفيدة للظن أو الاطمئنان، لكن دون إثبات ذلك خرط القتاد.

____________________

(١) راجع تعليقة المصنف على كتاب فرائد الأصول / ٥٧.

(٢) عوالي اللآلي ٤ / ١٣٣، الحديث ٢٢٩.

(٣) التهذيب ٦ / ٣٠١، الحديث ٥٢، والفقيه ٣ / ٥، الحديث: ٢، باختلاف يسير في الرواية.

(٤) في «ب»: حجيته.

٢٩٢

فصل

المشهور بين الأصحاب حجية خبر الواحد في الجملة بالخصوص ، ولا يخفى أن هذه المسألة من أهم المسائل الأصولية، وقد عرفت في أول الكتاب(١) أن الملاك في الأصولية صحة وقوع نتيجة المسألة في طريق الاستنباط، ولو لم يكن البحث فيها عن الأدلة الأربعة، وإن اشتهر في ألسنة الفحول كون الموضوع في علم الأصول هي الأدلة، وعليه لا يكاد يفيد في ذلك - أي كون هذه المسألة أصولية - تجشم دعوى(٢) أن البحث عن دليلية الدليل بحث عن أحوال الدليل؛ ضرورة أن البحث في المسألة ليس عن دليلية الأدلة، بل عن حجية الخبر الحاكي عنها، كما لا يكاد يفيد عليه تجشم دعوى(٣) أن مرجع هذه المسألة إلى أن السنّة - وهي قول الحجة أو فعله أو تقريره - هل تثبت بخبر الواحد، أو لا تثبت إلا بما يفيد القطع من التواتر أو القرينة؟ فإن التعبد بثبوتها مع الشك فيها لدى الأخبار بها ليس من عوارضها، بل من عوارض مشكوكها، كما لا يخفى، مع أنه لازم لما يبحث عنه في المسألة من حجية الخبر، والمبحوث عنه في المسائل إنما هو الملاك في أنها من المباحث أو من غيره، لا ما هو لازمه، كما هو واضح.

____________________

(١) راجع ص ٩.

(٢) انظر دعوى صاحب الفصول، الفصول / ١٢.

(٣) راجع فرائد الأصول / ٦٧، في الخبر الواحد.

٢٩٣

وكيف كان، فالمحكي عن السيد(١) والقاضي(٢) وابن زهرة(٣) والطبرسي(٤) وابن إدريس(٥) عدم حجية الخبر، واستدل(٦) لهم بالآيات الناهية(٧) عن اتباع غير العلم، والروايات(٨) الدالة على رد ما لم يعلم أنه قولهم (عليهم

____________________

(١) الذريعة ٢: ٥٢٨، في التعبد بخبر الواحد ورسالة للسيّد في إبطال العمل بالخبر الواحد، المطبوعة في رسائل السيد المرتضى ٣: ٣٠٩ وأجوبته عن مسائل التبانيات المطبوعة في ضمن رسائله ١: ٢١، الفصل الثاني. علم الهدى أبوالقاسم علي بن الحسين المشهور بالسيد المرتضى، تولد سنة ٣٥٥، حاز من الفضائل ما تفرد به، له تصانيف مشهورة منها «الشافي» في الامامة و «الذخيرة» و «الذريعة» وغيرها، خلف بعد وفاته ثمانين الف مجلد من مقرواته ومصنفاته، توفي لخمس بقين من شهر ربيع الاول سنة ٤٣٦ ه‍. (الكنى والالقاب٢/٤٨٣).

(٢) الشيخ عبدالعزيز بن نحرير بن عبدالعزيز بن البراج، وجه الأصحاب وفقيههم، لقب بالقاضي لكونه قاضياً في طرابلس، قرأ على السيد والشيخ فترة ويروي عنهما وعن الكراجكي وأبي الصلاح الحلبي. له «المهذب» و«الموجز» و«الكامل» و«الجواهر». توفي في ٩ شعبان سنة ٤٨١ (الكنى والألقاب ١ / ٢٢٤).

(٣) الغنية: ٤٧٥، (المطبوعة في الجوامع الفقهية).

أبوالمكارم حمزة بن علي بن زهرة الحسيني الحلبي العالم الفاضل الفقيه، يروي عن والده وغيره، له «غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع» و «قبس الأنوار في نصرة العترة الأطهار» توفي سنة ٥٨٥ في سن اربع وسبعين، قبره بحلب بسفح جبل جوشن عند مشهد السقط. (الكنى والألقاب ١ / ٢٩٩).

(٤) كذا يظهر من تفسيره آية النبأ، مجمع البيان ٥: ١٣٣.

أمين الاسلام أبوعلي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي المشهدي مفسر فقيه صاحب كتاب مجمع البيان وجوامع الجامع، كان معاصراً لصاحب الكشاف، يروي عنه جماعة من أفاضل العلماء، منهم ولده الحسن بن الفضل وابن شهر آشوب والقطب الراوندي، انتقل من المشهد الرضوي إلى سبزوار سنة ٥٢٣ وانتقل منها إلى دار الخلود سنة ٥٤٨ وحمل نعشه إلى المشهد المقدس وقبره معروف (رياض العلماء ٤ / ٣٤٠).

(٥) السرائر: ٥.

(٦) المعتمد ٢: ١٢٤.

(٧) الإسراء: ٣٦، النجم: ٢٨.

(٨) مستدرك الوسائل ٣: ١٨٦، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي، الحديث ١٠.

٢٩٤

السلام)، أو لم يكن عليه شاهد من كتاب الله أو شاهدان(١) ، أو لم يكن موافقاً للقرآن إليهم(٢) ، أو على بطلان ما لا يصدّقه كتاب الله(٣) ، أو على أن ما لا يوافق كتاب الله زخرف(٤) ، أو على النهي عن قبول حديث إلا ما وافق الكتاب أو السنة(٥) ، إلى غير ذلك(٦) .

والإجماع المحكي(٧) عن السيد في مواضع من كلامه، بل حكي(٨) عنه أنه جعله بمنزلة القياس، في كون تركه معروفاً من مذهب الشيعة.

والجواب: أما عن الآيات، فبأن الظاهر منها أو المتيقن من إطلاقاتها هو اتباع غير العلم في الأصول الاعتقادية، لا ما يعم الفروع الشرعية، ولو سلم عمومها لها، فهي مخصصة بالأدلة الآتية على اعتبار الأخبار.

وأما عن الروايات، فبأن الاستدلال بها خال عن السداد، فإنها أخبار آحاد.

لا يقال: إنها وإن لم تكن متواترة لفظاً ولا معنىً، إلا أنها متواترة إجمالاً، للعلم الإجمالي بصدور بعضها لا محالة.

فإنه يقال: إنها وإن كانت كذلك، إلا أنها لا تفيد إلا في ما توافقت عليه، وهو غير مفيد في إثبات السلب كليّاً، كما هو محل الكلام ومورد النقض والإبرام، وإنما تفيد عدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنة، والالتزام به ليس بضائر، بل

____________________

(١) وسائل الشيعة ١٨: ٨٠، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي، الحديث ١٨.

(٢) مستدرك الوسائل ٣: ١٨٦، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي، الحديث ٥.

(٣) المحاسن ١: ٢٢١.

(٤) وسائل الشيعة ١٨: ٧٨، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي، الحديث ١٢.

(٥) وسائل الشيعة ١٨: ٧٨، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي، الحديث ١١.

(٦) راجع وسائل الشيعة ١٨: ٧٥: أحاديث باب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٧) أجوبة المسائل التبانيات ١: ٢٤، الفصل الثاني.

(٨) رسائل السيد المرتضى ٣: ٣٠٩، رسالة إبطال العمل بالخبر الواحد.

٢٩٥

لا محيص عنه في مقام المعارضة.

وأما عن الإجماع، فبأن المحصّل منه غير حاصل، والمنقول منه للاستدلال به غير قابل، خصوصاً في المسألة، كما يظهر وجهه للمتأمل، مع أنه معارض بمثله، وموهون بذهاب المشهور إلى خلافه.

وقد استدل للمشهور بالأدلة الأربعة:

فصل

في الآيات التي استدل بها:

فمنها: آية النبأ ، قال الله تبارك وتعالى:( إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) (١) . ويمكن تقريب الاستدلال بها من وجوه(٢) : أظهرها أنه من جهة مفهوم الشرط، وأن تعليق الحكم بإيجاب التبين عن النبأ الذي جيء به على كون الجائي به الفاسق(٣) ، يقتضي انتفاءه عند انتفائه.

ولا يخفى أنه على هذا التقرير لا يرد: أن الشرط في القضية لبيان تحقق الموضوع فلا مفهوم له، أو مفهومه السالبة بانتفاء الموضوع، فافهم.

نعم لو كان الشرط هو نفس تحقق النبأ ومجيء الفاسق به، كانت القضية الشرطية مسوقة لبيان تحقق الموضوع، مع أنه يمكن أن يقال: إن القفضية ولو كانت مسوقة لذلك، إلا أنها ظاهرة في انحصار موضوع وجوب التبين في النبأ الذي جاء به الفاسق، فيقتضي انتفاء وجوب التبين عند انتفائه ووجود موضوع آخر، فتدبر.

ولكنه يشكل(٤) بأنه ليس لها هاهنا ملهوم، ولو سلّم أن أمثالها ظاهرة في

____________________

(١) الحجرات: ٦.

(٢) ذكر الوجوه في حاشية الفرائد / ٦٠.

(٣) في منتهى الدراية ٤ / ٤٤١: فاسقاً.

(٤) وللمزيد راجع فرائد الأصول / ٧٢، وعدة الأصول / ١ / ٤٤، ومعارج الأصول / ١٤٥.

٢٩٦

المفهوم، لأن التعليل بإصابة القوم بالجهالة المشترك بين المفهوم والمنطوق، يكون قرينة على أنه ليس لها مفهوم.

ولا يخفى أن الإشكال إنما يبتني على كون الجهالة بمعنى عدم العلم، مع أن دعوى أنها بمعنى السفاهة وفعل مالا ينبغي صدوره من العاقل غير بعيدة.

ثم إنه لو سلم تمامية دلالة الآية على حجية خبر العدل، ربما أشكل شمول مثلها للروايات الحاكية لقول الإمامعليه‌السلام بواسطة أو وسائط، فإنّه كيف يمكن الحكم بوجوب التصديق الذي ليس إلا بمعنى وجوب ترتيب ما للمخبر به من الأثر الشرعي بلحاظ نفس هذا الوجوب، فيما كان المخبر به خبر العدل أو عدالة المخبر؛ لأنه وإن كان أثراً شرعياً لهما، إلا أنه بنفس الحكم في مثل الآية بوجوب تصديق خبر العدل حسب الفرض.

نعم لو أنشأ هذا الحكم ثانياً، فلا بأس في أن يكون بلحاظه أيضاً، حيث إنه صار أثراً بجعل آخر، فلا يلزم اتحاد الحكم والموضوع، بخلاف ما إذا لم يكن هناك إلا جعل واحد، فتدبّر.

ويمكن ذب الإشكال(١) ، بأنه إنما يلزم إذا لم يكن القضية طبيعية، والحكم فيها بلحاظ طبيعة الأثر، بل بلحاظ أفراده، وإلا فالحكم بوجوب التصديق يسري إليه سراية حكم الطبيعة إلى أفراده، بلا محذور لزوم اتحاد الحكم والموضوع.

هذا مضافاً إلى القطع بتحقق ما هو المناط في سائر الآثار في هذا الأثر - أي وجوب التصديق - بعد تحققه بهذا الخطاب، وإن كان لا يمكن أن يكون ملحوظاً(٢) لأجل المحذور، وإلى عدم القول بالفصل بينه وبين سائر الآثار، في وجوب الترتيب لدى الإخبار بموضوع، صار أثره الشرعي وجوب التصديق، وهو خبر العدل، ولو بنفس الحكم في الآية به، فافهم.

____________________

(١ و ٢) الصحيح ما أثبتناه وما في النسخ المطبوعة خطأ ظاهر.

٢٩٧

ولا يخفى أنه لا مجال بعد اندفاع الإشكال بذلك للإشكال في خصوص الوسائط من الأخبار، كخبر الصفار المحكي بخبر المفيد مثلاً، بأنه لا يكاد يكون خبراً تعبداً إلا بنفس الحكم بوجوب تصديق العادل الشامل للمفيد، فكيف يكون هذا الحكم المحقق لخبر الصفار تعبداً مثلاً حكماً له أيضاً، وذلك لأنه إذا كان خبر العدل ذا أثر شرعي حقيقة بحكم الآية وجب ترتيب أثره عليه عند إخبار العدل به، كسائر ذوات الآثار من الموضوعات، لما عرفت من شمول مثل الآية للخبر الحاكي للخبر بنحو القضية الطبيعية، أو لشمول الحكم فيها له مناطاً، وإن لم يشمله لفظاً، أو لعدم القول بالفصل، فتأمل جيداً.

ومنها: آية النفر، قال الله تبارك وتعالى:( فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ ) (١) الآية، وربما يستدل بها من وجوه:

أحدها : إن كلمة (لعل) وإن كانت مستعملة على التحقيق في معناه الحقيقي، وهو الترجي الإيقاعي الإنشائي، إلا أن الداعي إليه حيث يستحيل في حقه تعالى أن يكون هو الترجي الحقيقي، كان هو محبوبية التحذر عند الإنذار، وإذا ثبت محبوبيته ثبت وجوبه شرعاً، لعدم الفصل، وعقلاً لوجوبه مع وجود ما يقتضيه، وعدم حسنه، بل عدم إمكانه بدونه.

ثانيها : إنه لما وجب الإنذار لكونه غاية للنفر الواجب، كما هو قضية كلمة (لولا) التحضيضية، وجب التحذر، وإلا لغى وجوبه.

ثالثها : إنه جعل غاية للإنذار الواجب، وغاية الواجب واجب.

ويشكل الوجه الأول، بأن التحذر لرجاء إدراك الواقع وعدم الوقوع في محذور مخالفته، من فوت المصلحة أو الوقوع في المفسدة، حسن، وليس بواجب فيما لم يكن هناك حجة على التكليف، ولم يثبت ها هنا عدم الفصل، غايته عدم

____________________

(١) التوبة: ١٢٢.

٢٩٨

القول بالفصل.

والوجه الثاني والثالث بعدم انحصار فائدة الإنذار ب‍ [إيجاب](١) التحذر تعبداً، لعدم إطلاق يقتضي وجوبه على الإطلاق، ضرورة أن الآية مسوقة لبيان وجوب النفر، لا لبيان غايتية التحذر، ولعل وجوبه كان مشروطاً بما إذا أفاد العلم لو لم نقل بكونه مشروطاً به، فإن النفر إنما يكون لأجل التفقه وتعلم معالم الدين، ومعرفة ما جاء به سيد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كي ينذروا بها المتخلفين أو النافرين، على الوجهين في تفسير الآية، لكي يحذروا إذا أنذروا بها، وقضيته إنما هو وجوب الحذر عند إحراز أن الإنذار بها، كما لا يخفى.

ثم إنه أشكل أيضاً، بأن الآية لو سلم دلالتها على وجوب الحذر مطلقاً فلا دلالة لها على حجية الخبر بما هو خبر، حيث إنه ليس شأن الراوي إلا الإخبار بما تحمّله، لا التخويف والإنذار، وإنما هو شأن المرشد أو المجتهد بالنسبة إلى المسترشد أو المقلد.

قلت: لا يذهب عليك أنه ليس حال الرواة في الصدر الأول في نقل ما تحملوا من النبي (صلى الله عليه وعلى أهل بيته الكرام) أو الإمامعليه‌السلام من الأحكام إلى الأنام، إلا كحال نقلة الفتاوى إلى العوام.

ولا شبهة في أنه يصح منهم التخويف في مقام الإبلاغ والإنذار والتحذير بالبلاغ، فكذا من الرواة، فالآية لو فرض دلالتها على حجية نقل الراوي إذا كان مع التخويف، كان نقله حجة بدونه أيضاً، لعدم الفصل بينهما جزماً، فافهم.

ومنها: آية الكتمان،( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا ) (٢) الآية.

وتقريب الاستدلال بها: إن حرمة الكتمان تستلزم وجوب(٣) القبول عقلاً،

____________________

(١) اثبتناها من «ب».

(٢) البقرة: ١٥٩.

(٣) أثبتناها من «أ».

٢٩٩

للزوم لغويته بدونه، ولا يخفى أنه لو سلمت هذه الملازمة لا مجال(١) للإيراد على هذه الآية بما أورد على آية النفر، من دعوى الإهمال أو استظهار الاختصاص بما إذا أفاد العلم، فإنها تنافيهما، كما لا يخفى، لكنها ممنوعة، فإن اللغوية غير لازمة، لعدم انحصار الفائدة بالقبول تعبداً، وإمكان أن تكون حرمة الكتمان لأجل وضوح الحق بسبب كثرة من أفشاه وبيّنه، لئلا يكون للناس على الله حجة، بل كان له علهيم الحجة البالغة.

ومنها: آية السؤال عن أهل الذكر( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) (٢) . وتقريب الاستدلال بها ما في آية الكتمان.

وفيه: إن الظاهر منها إيجاب السؤال لتحصيل العلم، لا للتعبد بالجواب.

وقد أورد(٣) عليها: بأنه لو سلم دلالتها على التعبد بما أجاب أهل الذكر، فلا دلالة لها على التعبد بما يروي الراوي، فإنه بما هو راوٍ لا يكون من أهل الذكر والعلم، فالمناسب إنما هو الاستدلال بها على حجية الفتوى لا الرواية.

وفيه: إن كثيراً من الرواة يصدق عليهم أنهم أهل الذكر والاطلاع على رأي الإمامعليه‌السلام كزرارة ومحمد بن مسلم ومثلهما، ويصدق على السؤال عنهم أنه السؤال عن [أهل](٤) الذكر والعلم، ولو كان السائل من أضرابهم، فإذا وجب قبول روايتهم في مقام الجواب بمقتضى هذه الآية، وجب قبول روايتهم ورواية غيرهم من العدول مطلقاً، لعدم الفصل جزماً في وجوب القبول بين المبتدئ والمسبوق بالسؤال، ولا بين أضراب زرارة وغيرهم ممن لا يكون من أهل

____________________

(١) دفع لما أورده الشيخ - من الإشكالين الأولين في آية النفر - على الاستدلال بهذه الآية، فرائد الأصول/٨١.

(٢) النحل: ٤٣، الأنبياء: ٧.

(٣) هذا هو الإيراد الثالث للشيخ على الاستدلال بالآية، فرائد الأصول / ٨٢.

(٤) أثبتناها من «ب».

٣٠٠