علم الكلام ضرورات النهضة ودواعي التجديد

علم الكلام ضرورات النهضة ودواعي التجديد0%

علم الكلام ضرورات النهضة ودواعي التجديد مؤلف:
تصنيف: كتب متنوعة
الصفحات: 240

علم الكلام ضرورات النهضة ودواعي التجديد

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: تصدر عن مجلة الحياة الطيبة
تصنيف: الصفحات: 240
المشاهدات: 30017
تحميل: 12283

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 240 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 30017 / تحميل: 12283
الحجم الحجم الحجم
علم الكلام ضرورات النهضة ودواعي التجديد

علم الكلام ضرورات النهضة ودواعي التجديد

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المسائل من اختصاص علم الكلام الجديد" (1) . ولذا أدرج النعماني في هذا الكتاب مسائل جديدة مثل: حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، والإرث، والحقوق العامة للشعب، بجوار مباحث وجود الباري، والنبوة، والمعاد، والتأويل، وغير المحسوسات، كالملائكة والوحي وغيرها، والعلاقة بين الدين والدنيا.

ثُمَّ صدر في طهران كتاب بعنوان: أربع مقالات: الفلسفة أو الكلام الجديد، تأليف جواد تارا، غير أنَّ مباحث هذا الكتاب لا علاقة لها بعلم الكلام الجديد، وإنَّما يحتوي الكتاب على أربع مقالات، بحث المؤلِّف في الأولى منها مفهوم الوجود، فيما تحدَّث في الثانية عن وحدة الوجود وعلاقة الوجود بالماهية، وفي الثالثة حول الحق والحكم، وفي الأخيرة استعرض الأدلة على عودة الأرواح.

وفي مقدِّمة كتابه "الإسلام يتحدى"، أوضح العالم الهندي المسلم وحيد الدين خان، عام 1946م المبرِّرات التي دعته لتأليف كتابه هذا، فشدَّد على ضرورة التحرُّر من منهج علم الكلام القديم؛ لأنَّ "طريقة الكلام وأسلوبه قد تغيَّرا بتغيُّر الزمن، ولذلك علينا أن نأتي بعلم كلام جديد لمواجهة تحدِّي

____________________

(1) شبلي النعماني، علم كلام جديد، ترجمه للفارسية: سيد محمد تقي فخر داعي كيلاني، طهران 1329ش، ص 42.

٤١

العصر الحديث" (1) . وقد استطاع وحيد الدين خان وصْل ما بدأه المفكِّر المسلم محمد إقبال من قبل في "تجديد التفكير الديني في الإسلام"، فكان كتابه "الإسلام يتحدَّى" إنجازاً رائداً في تشييد الكلام الجديد، إلاّ أنَّه ظلَّ مهملاً في المشرق الإسلامي، فلم يهتم به الباحثون، مع أنَّه تُرجم إلى العربية ونشر قبل ثلاثين عاماً.

وبعد ذلك بسبعة أعوام أصدر وحيد الدين خان كتابه الكلامي الثاني "الدين في مواجهة العلم" (2) ، وأردفه بعد فترة بدراسة أعدَّها بعنوان: "نحو علم كلام جديد"، ألقاها في ندوة "تجديد الفكر الإسلامي"، التي عقدتها الجامعة الملِّية الإسلامية بدلهي في 27 ديسمبر 1976م (3) .

أمَّا لدى الباحثين العرب، فقد ذكر مصطلح "الكلام الجديد" الدكتور فهمي جدعان سنة 1976م، في كتابه "أسس التقدُّم عند مفكِّري الإسلام في العالم العربي الحديث"، في الفصل الرابع الذي عقده للحديث عن "التوحيد المتحرِّر" ، وبواعث التفكير الكلامي الجديد لدى بعض المفكِّرين المسلمين المحدثين، الذين "راحوا يبحثون عن علم كلام جديد - إنْ أمكن القول - علم

____________________

(1) وحيد الدين خان، الإسلام يتحدّى: مدخل علمي للإيمان، تعريب: ظفر الإسلام خان، مراجعة وتحقيق: د. عبد الصبور شاهين، الكويت، دار البحوث العلمية، ط 6، 1981م، ص 42.

(2) نقل هذا الكتاب إلى العربية نجل المؤلِّف: ظفر الإسلام خان، ونشرته دار الاعتصام بالقاهرة سنة 1972م.

(3) نقل هذه الدراسة إلى العربية نجل المؤلِّف: ظفر الإسلام خان، ونشرتها دار النفائس في بيروت، في كتاب يضمُّ دراسات أخرى للمؤلِّف بعنوان "الإسلام والعصر الحديث" سنة 1983م.

٤٢

للكلام يكون للتوحيد فيه وظائف جديدة، ويكون علماً "محرِّراً" للإنسان، وعلماً صافياً من الشوائب والأكدار" (1) .

ويعود استخدام مصطلح "التوحيد المتحرر" إلى المستشرق البريطاني "جيب"، الذي أشار إلى "اللاَّهوت المتحرِّر" ونسبه إلى أحد اللاَّهوتيين الكبار، في سياق حديثه عن الاتجاهات الحديثة في الإسلام، في المحاضرات التي ألقاها في "مؤسَّسة هاسكل لدراسة الأديان المقارنة" في مطلع هذا القرن، ونشرها في ما بعد في كتاب "الاتجاهات الحديثة في الإسلام" (2) .

وفي إيران ظهر مصطلح "علم الكلام الجديد" مع ترجمة كتاب شبلي النعماني المذكور ونَشْرِه سنة 1950م، لكن تبلور اتجاه جديد في التفكير الكلامي تجلَّى بوضوح في آثار العلاَّمة محمد حسين الطباطبائي ، وتلميذه الشهيد الشيخ مرتضى المُطَهَّري . فقد سعى الأخير سعياً حثيثاً لإرساء أسس منهجية لتجديد علم الكلام، وكتب تصوُّرات أولية بشأن تلك الأسس، كما اهتم بترسيم مفهوم علم الكلام الجديد، وتعاطى مع المصطلح في آثاره؛ ففي سياق بحثه لوظيفة علم الكلام، يُحدِّد له المُطَهَّري وظيفتين، تتمثَّل ا لأولى في دحض الشبهات الواردة على أصول الدين وفروعه، والثانية في بيان الأدلة

____________________

(1) د. فهمي جدعان، أسس التقدُّم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، ط 3، عمَّان - الأردن، دار الشروق، 1988م، ص 195.

(2) هـ. أ. ر. جيب، الاتجاهات الحديثة في الإسلام، ترجمة: هاشم الحسيني، بيروت، دار مكتبة الحياة، ص 411، ولاحظ أيضاً حول ولادة المصطلح، الصفحات 89، 102، 110، 113.

٤٣

على الأصول. ثُمَّ يشير إلى أنَّ اقتصار الكلام القديم على هاتين الوظيفتين يعني غيابه عن الشبهات المستجدَّة في عصرنا، فضلاً عن أنَّ الشبهات الماضية أمست بلا موضوع في هذا العصر. كذلك وفَّر التقدُّم العلمي الكثير من الأدلَّة والبراهين الجديدة التي لم يعهدها العقل سابقاً. أضف إلى ذلك، أنَّ الكثير من الأدلة المتداولة بالأمس فقدت قيمتها، من هنا يشدَّد المُطَهَّري على لزوم (تأسيس كلام جديد) (1) .

وفي ضوء هذا لا ينبغي أن تُمنح "براءة" تحديث علم الكلام لرجلٍ واحد؛ لأنَّ روَّاد الإصلاح أسهموا جميعاً في إعادة بناء هذا العلم، فمنهم مَن عمل على تحديث المسائل، وآخر عمل على تحديث المباني، وثالث عمل على تحديث اللغة، ورابع أسهم في كل منها بنصيب.

أزمنة علم الكلام الجديد:

سنشير باختصار إلى الأزمنة التي تكشَّفت لنا بعد استقراء آثار الكلام الجديد. وأمَّا ما نعنيه بالزمن هنا، فهو تلك الفترة التي تتَّسم الآثار الكلامية فيها بسمات مشتركة، تتميَّز بها عن الأعمال السابقة واللاَّحقة. وفي ما يلي بيان هذه الأزمنة:

____________________

(1) مرتضى مطهري، وظايف اصلى ووظايف فعلى حوزه هاى علميه، (الوظائف الأساسية والوظائف الفعلية للحوزات العلمية)، ص 49.

٤٤

1ـ إحياء علم الكلام أو تأسيس المُعْتَقَد على العقل والعلم:

يمكن أن نُؤرِّخ لهذه الفترة بالنصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، حتى نهاية الربع الأول من القرن العشرين. وممَّا تميَّزت به هذه الفترة الدعوة لإحياء علم الكلام؛ ببعث شعاب الإيمان الساكنة في النفوس، عبر التذكير بأصول الدين، والموعظة بوازعه ودافعه، وإيقاظ الفكر من حالة السبات، وإثارة طاقات الحركة، والدعوة لإصلاح الأفكار الفاسدة (1) ، وتطهير وجدان الأمة من الخرافات، وتأكيد دور العقل والعلم بوصفهما رافدين رئيسيين لتغذية المُعْتَقَد.

أمَّا أبرز أعلام هذه الفترة، فهم: السيد جمال الدين الأفغاني ، وتلميذه محمد عبده، و عبد الرحمن الكواكبي ، و شبلي النعماني ، و محمد الطاهر بن عاشور ، و هبة الدين الشهرستاني ، و حسين الجسر ، و محمد جواد البلاغي ، و محمد حسين كاشف الغطاء ،... وغيرهم.

2ـ تجديد علم الكلام أو التأسيس الفلسفي لعلم الكلام:

تبدأ هذه الفترة بجهود المفكِّر الهندي المسلم محمد إقبال، وخصوصاً محاضراته الست التي ألقاها في مدارس بالهند عام 1928م، ثُمَّ أتمَّها بعد ذلك في الله آباد في عليكره، وصدرت في ما بعد في كتابه الشهير "تجديد التفكير

____________________

(1) د. حسن عبد الله الترابي، قضايا التجديد... نحو منهج أصولي، الخرطوم، معهد البحوث والدراسات الاجتماعية، ط 2، 1995م، ص 19.

٤٥

ومع أنَّ المسلم أصرَّ على التمسُّك بالإيمان بالله وبوحدانيته، ولم يتخلَّ عن إيمانه، غير أنَّ هذا الإيمان فقد إشعاعه الاجتماعي، وتجرَّد من فاعليته؛ فلم يتجسَّد في نزوع للوحدة والمؤاخاة في حياة المجتمع المسلم، باعتبار أنَّ عقيدة التوحيد تُوحِّد المجتمع، في التصورات، والغايات، والشعور، وأنماط السلوك؛ وإنَّما تعرَّض المجتمع إلى انقسامات شتى، وأمسى جماعاتٍ وفِرقاً متعدِّدة، أهدرتْ الكثير من قدرات الأمة في سجالات أفضت إلى مواقف عدائية، وأقحمت الأمة في حروب أهلية في بعض الفترات. وهكذا يضمحل دور العقيدة حيث تُفرغ من محتواها الاجتماعي، فلا تحول دون اقتتال الأمة الواحدة، كما ولا تكون منبعاً للوحدة.

4ـ تراجع دور العقل وشيوع التقليد في علم الكلام:

مع أنَّ الكلام والفلسفة كليهما يُصنّف في خانة المعارف العقلية، إلاّ أنَّ هناك فَرقاً شاسعاً في نوع المنهج الذي يتعاطاه المتكلِّم والمنهج الذي يتعاطاه الفيلسوف، فالثاني ينتهج البرهان الذي يرتكز على مسائل مسلَّمة تستند إلى مقدِّمات يقينية، ويرى أنَّ الحقيقة هي ما ينتهي إليه البرهان؛ بمعنى أنَّه ليس هناك حقائق قبلية خارج إطار البحث والبرهان. بينما يتعاطى المتكلِّم منهجاً مختلفاً يبتني على الإيمان بمسلَّمات قبلية، ثُمَّ يستدل عليها بمقدِّمات، قد تكون يقينية وقد تكون غير ذلك؛ لذلك يكون القياس المستعمل في البحث الكلامي جدلياً، أي يعتمد على مقدِّمات تتألَّف من المشهورات والمسلَّمات، بغية

٤٦

إثبات ما هو مسلَّم الثبوت قبلاً. أمَّا القياس المستعمل في البحث الفلسفي، فيكون قياساً برهانياً يعتمد على مقدِّمات يقينية، بغية إثبات الحقيقة، والتي هي ما ينتهي إليه الدليل، لا ما هو مسلَّم قبل الدليل.

إنَّ انتهاج هذا المنهج في الأبحاث الكلامية أدَّى إلى تراجع دور العقل بالتدريج في علم الكلام، وترسُّخ نزعة تقليد أعلام المتكلِّمين في كل مذهب. ومع أنَّ المعروف هو عدم جواز التقليد في أصول الدين، غير أنَّ التمسُّك بآراء الأشعري في أصول الدين مثلاً، شاع بنحو أضحي الدفاع عنها دفاعاً عن الدين، والتفكير خارجها تفكيراً خارج الدين، فجنَّد طائفة واسعة من دارسي الكلام أنفسهم لمحاربة أيَّة محاولة للخروج على فكر الأشعري، ووصموا مثل هذه المحاولات بالابتداع والمروق من الدين.

وهكذا الحال مع غير الأشعري، مع أعلام المتكلِّمين الذين أضحى تقليدهم واقتفاء أثرهم أحد الأعراف المتوارثة في القرون المتأخرة، وأفضى ذلك إلى تعطيل العقل الكلامي، وتوقُّف الإبداع والاجتهاد في علم الكلام.

وهذه هي النتيجة الطبيعية للنهج الذي اختطَّه التفكير الكلامي والذي قاد إلى تقليد رجال المذهب. وحسب تعبير العلاَّمة الطباطبائي: "سيكون الاعتقاد بأصل المسألة متَّكئاً على تقليد رجال المذهب. أمَّا البحث والاستدلال الكلامي، فلا يعدو في نطاق هذا المنهج إلاّ أن يكون ضرباً من ضروب اللهو، أو الرياضة الفكرية، أو اللعب. وسرُّ ذلك أنَّ المنهج البحثي الذي يقوم على افتراض ثبات المدلول أولاً، ثُمَّ يبحث ثانياً عن الدليل الذي يدل على المدلول

٤٧

المفترض، لا يستحق أن يوصف بأكثر من كونه لهواً أو رياضة فكرية أو تلاعباً بالحقائق. إنَّ اعتماد هذا المنهج في البحوث العلمية يشبه من الزاوية العرفية، أن يتَّخذ المرء قراراً إزاء عمل معين، ثُمَّ يبادر بعد ذلك لطلب المشورة" (1) .

ثُمَّ يمضي الطباطبائي في بيان أثر منهج المتكلِّمين في استبعاد العقل واستبداله بإجماع أتباع المذهب، فيقول: "كان فيما ترتَّب من آثار هذا المنهج، أن اتخذ أتباع كل مذهب من المذاهب الإسلامية، إجماع أهل ذلك المذهب على ما هو متداول بينهم من عقائد، حجَّة تكون رديفة للكتاب والسُّـنَّة. وبهذا الترتيب سقطت حُجِّـيَّة العقل - حتى لو كان بديهياً كلياً - عن الاستقلال، ولم تعد له قدرة على الفعل والحركة" (2) .

أمَّا النتائج السلبية التي خلَّفها منهج المتكلِّمين في الحياة الإسلامية، فتتلخَّص باشتمال المؤلَّفات الكلامية على "نظريات وأقوال يأسف العقل السليم لوجودها" (3) ، مضافاً إلى "افتراض أهل كل مذهب إجماعات ومسلَّمات مذهبهم من الضروريات، وعليه عدُّوا كل مَن لم يذعن من المسلمين لنظرياتهم ومسلَّماتهم منكراً للضروري ومن المبتدعين" (4) .

____________________

(1) محمد حسين الطباطبائي، الشيعة. نص الحوار مع المستشرق كوربان، قم، مؤسَّسة أم القرى للتحقيق والنشر، 1416هـ، ص 82 - 83.

(2) المصدر نفسه.

(3) المصدر نفسه.

(4) المصدر نفسه.

٤٨

وبذلك دخل علم الكلام مرحلة السُّبات، وحيل بين العقل المسلم وبين ممارسة النقد، وانطفأ النقاش الحرُّ الذي ساد الحياة العقلية عند المسلمين في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية. ولمَّا يزل الفكر الإسلامي ينوء بتركة تلك المرحلة، ولمَّا تزل سلطة السلف تقمع المبادرات الجادة في تقويم مسار التفكير الإسلامي، والتعرُّف على العناصر المعيقة للعقل المسلم.

وممَّا ينبغي التذكير به هنا، أنَّ قصور علم الكلام التقليدي، وعجزه عن الوفاء بالمقتضيات العقيدية للمسلم، لا يعود فقط إلى ما مرَّ من مشكلات، وإنَّما يُضاف إلى ذلك مشكلات أخرى، غير أنَّ جلَّ هذه المشكلات تتفرَّع من تلك، وإن كانت ربَّما تبدو للوهلة الأولى مستقلة عنها في أثرها.

ومن هذه المشكلات، اعتماد الكلام القديم على الطبيعيات الكلاسيكية، والاستناد إلى معطياتها بوصفها حقائق نهائية، بينما نسخت العلوم الطبيعية الحديثة معظم الأفكار والقوانين التي قامت عليها الطبيعيات بالأمس، وبرهنت الاكتشافات الحديثة لقوانين الطبيعة على أنَّ الكثير من قوانين تلك الطبيعيات وأفكارها أوهام محضة.

كما أنَّ الكلام التقليدي اقتصرت أبحاثه على مجموعة مسائل، ولبث الخَلَف يُكرِّر هذه المسائل ذاتها، ويُفكر في داخلها، حتى تكوَّنت لها حدود صارمة، لم يجرؤ أحد على تخطِّيها، وصار مدلول العقيدة هو تلك المسائل خاصة، واتخذ المتكلِّمون نسقاً محدَّداً في ترتيبها، وظلَّ هذا النسق هو هو في المدوَّنات الكلامية.

٤٩

وقد أدَّى ذلك إلى حجب مباحث هامة في علم الكلام، لعلَّ من أبرزها مبحث الإنسان؛ حيث لم يدرج في مؤلَّفات المتكلِّمين مبحث خاص بالإنسان، يتناول تأصيل موقف نظري يحدِّد موقع الإنسان في سُلَّم المخلوقات؛ أي منزلته وقيمته بالنسبة إلى غيره من المخلوقات، كالملائكة والجنّ وغير ذلك، والهدف من وجوده، وطبيعة وظيفته، وأنماط حياته، وثقافته، وعيشه، وعلاقتها بما يتشكَّل لديه من رؤية كونية، وما يرتبط بذلك من مسائل؛ بينما نجد أنَّ قضية الإنسان تتصدَّر القضايا التي يعالجها القرآن.

على أنَّ أهمية هذه القضية تتنامى مع تطوُّر الحياة الاجتماعية، وشيوع ألوان القهر والاستبداد، وامتهان الإنسان، وإهدار كرامته، وتدجينه على المفاهيم والقيم الرديئة، فما لم نتوفَّر على صياغة رؤية كونية تفصح لنا عن مكانة الإنسان، وتحدِّد نوع علاقته بالدين، وتؤكِّد أنَّ الدين جاء لتكريم الإنسان وترشيده وخدمته، تغدو دعواتنا لتحريره مجرَّد شعارات لا مضمون لها (1) .

عصر إحياء علم الكلام

في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، حدث أوَّل لقاء مباشر بين المسلمين في الشرق والأوربيين، وذلك عندما غزا نابليون مصر سنة 1798م، وجلب معه المطبعة، وبعض مقتنيات الحضارة الأوربية الحديثة، فضلاً عن مجموعة من

____________________

(1) المصدر، موجز في أصول الدين، مصدر سابق، ص 21 - 25 (مقدِّمة المحقِّق).

٥٠

الخبراء والأكاديميين. ثُمَّ تلا ذلك بعثُ محمد علي باشا لجماعة من الطلاَّب المصريين إلى فرنسا في سنة 1826م، وكانت البعثة تضم في البداية اثنين وأربعين دارساً، ثُمَّ تكامل عددها فبلغ 114، بعد أن التحق بهم آخرون، فكانت أكبر بعثة دراسيَّة توفدها مصر إلى أوروبا حينذاك. وقد لعب أفراد هذه البعثة بعد تأهيلهم العلمي دوراً رائداً في بناء الدولة المصرية، غير أنَّ الدور الأهم هو الذي لعبه أحد الأفراد، والذي لم يكن أول الأمر طالباً في البعثة، وإنَّما كان مرشداً أو إماماً دينياً للبعثة، وهو الشيخ رفاعة الطهطاوي، لكنَّه شرع بالدراسة فور وصوله، وتعلَّم اللغة الفرنسية، وكان يهدف إلى ترجمة العلوم إلى العربية. وبعد عودته إلى مصر سنة 1831، بادر الطهطاوي إلى ترجمة الكثير من الكتب، وبموازاتها كتب رحلته وانطباعاته ووعيه للحضارة الغربية، في كتابه الذائع الصيت "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، ومؤلَّفات غيرها.

لقد كان لترجمات الطهطاوي ومؤلَّفاته، وجهود آخرين تالية لجهوده، أثر حاسم في تدشين عهد جديد للفكر في مصر وما يحيطها من البلاد العربية، وهو العهد الذي تعرَّف فيه المسلمون على شيء من معارف أوروبا وعلومها الجديدة.

وما حدث في مصر سبقه التقاء المسلمين الأتراك بالفكر الأوربي، وقارنه في النصف الأول من القرن التاسع عشر تعرُّف المسلمين في شبه القارة الهندية على أوربا وبعض معارفها، وتلاه اتصال الدولة القاجارية في إيران بها أيضاً.

٥١

ولقد اتسم تعرُّف النخبة في العالم الإسلامي على أوربا آنذاك بالانبهار والذهول، فمثلاً كان السير سيد أحمد خان يدعو المسلمين في الهند للانخراط في الحضارة الغربية، وبغية تحقيق ذلك أصدر مجلَّة "تهذيب الأخلاق"، وهي مجلَّة تهتم بالتبشير بدعوته، كما أنشأ مجمعاً علمياً للترجمة والتأليف والنشر، ومؤسَّسة تعليمية هامة سنة 1875م، هي "جامعة عليكره الإسلامية"، كذلك ألَّف عدَّة كتب، من أشهرها تفسيره للقرآن، الذي نحا فيه منحى تأويلياً، واهتم فيه بالتلفيق بين مداليل القرآن والعلوم الحديثة، فقدَّم في هدى هذا المنهج فهماً بديلاً لبعض العقائد، واقترح في كتابه "تبيان الكلام" نظرية جديدة اصطلح عليها بإنسانية الأديان (1) .

لقد أشاعت آراء أحمد خان، ونظراته التأويلية للمفاهيم العقائدية، ودعوته للمذهب الطبيعي، عاصفة من الجدل والمناظرات، أيقظت التفكير الكلامي الساكن، وأقحمت العقل الكلامي في فضاء قلق مضطرب يموج بإشكالات واستفهامات مختلفة، لم يألفها هذا العقل في متون الكلام الكلاسيكية، فانبرى للردِّ على آرائه السيد أكبر حسين الإله آبادي، والسيد جمال الدين الأفغاني، وغيرهم (2) .

____________________

(1) عبد الجبار، الرفاعي، المقدِّمات التأسيسية للتقريب في المجتمعات الإسلامية: مثال الهند، التوحيد، ع 60 (محرَّم 1413هـ - تموز 1992م)، ص 90 - 96.

(2) المصدر نفسه، ص 94 - 95.

٥٢

إنَّ آراء أحمد خان وآراء مفكِّرين آخرين ظهروا في تركيا وإيران ومصر والمشرق العربي، عملت على تأجيج قلق عقائدي، مهَّد السبيل لبعث الروح في علم الكلام وإحيائه من جديد، فعادت الحياة لتدبَّ في التفكير الكلامي، وبدأ وعي المتكلِّم يتحرَّر من الحواشي والشروح، التي لبث محتجباً في مداراتها عن العالم مدَّة طويلة.

مفهوم تجديد علم الكلام:

ماذا يعني مصطلح علم الكلام الجديد؟ ومَن هو مجدِّد علم الكلام في هذا العصر؟

حتى هذه اللحظة ما زال هناك نقاش بين المهتمين حول هاتين المسألتين، فقد ذهب بعض إلى أن تجديد علم الكلام لا يعني سوى إلحاق المسائل الجديدة واستيعابها في إطار المنظومة الموروثة لعلم الكلام، فمتى ما انضمت مسائل أخرى لعلم الكلام تجدَّد هذا العلم. فيما ذهب آخرون إلى أنَّ مفهوم تجديد علم الكلام لا يقتصر على ضمِّ مسائل جديدة فحسب، وإنَّما يتَّسع ليشمل التجديد في: المسائل، والهدف، والمناهج، والموضوع، واللغة، والمباني، والهندسة المعرفية (2) .

____________________

(1) الشيخ جعفر السبحاني، مدخل مسائل جديد در علم كلام (مدخل إلى المسائل الجديدة في علم الكلام)، قم، مؤسَّسة الإمام الصادق، 1375ش، ص 6 - 8.

(2) د. أحد فرامرز قراملكي، تحليل مفهوم التجدد في الكلام الجديد، ترجمة: حبيب فيَّاض، مجلَّة المنطلق، ع 119 (خريف وشتاء 1997 - 1998)، ص 18 - 23.

٥٣

فالتحديد في المسائل يعني توالد مسائل جديدة، نتيجة للشبهات المستحدثة، ينجم عنها نمو وتطوُّر علم الكلام نفسه.

أمَّا التجديد في الهدف، فيعني تجاوز الغايات المعروفة لهذا العلم، التي تتلخَّص في الدفاع عن المعتقدات، إلى تحليل حقيقة الإيمان ومجمل التجربة الدينية.

كما أنَّ التجديد في المناهج يعني التحرُّر من المنهج الأحادي، والانفتاح على مناهج متعدِّدة في البحث الكلامي، تشمل المناهج الهرمنيوطيقية [علم تفسير النصوص]، والسيميائية [علم الدلالة]، والتجريبية، والبرهانية، مضافاً إلى ظواهر النصوص، والحقائق التاريخية (1) .

بينما يعني التحوُّل في الموضوع، الخروج من الاهتمام بقضايا وجود الباري وصفاته، والنبوة العامة والخاصة، والمعاد، إلى نطاقٍ واسعٍ يستوعب كافَّة القضايا الموجودة في النصوص المقدَّسة، سواء منها الناظرة إلى الواقع أم الناظرة إلى الأخلاق والقيم (2) .

أمَّا التجديد في اللغة، فيتحقَّق بالانتقال من لغة المتكلِّمين القديمة، ومعمياتها وألغازها، إلى لغة حديثة تُعبِّر بيسر وسهولة عن المداليل، ويفهمها المخاطب من دون عناء؛ لأنَّها لغة معاملاته وحياته اليومية.

____________________

(1) المصدر نفسه، ص 17 - 22.

(2) مصطفى ملكيان، دفاع عقلائى از دين (الدفاع العقلائي عن الدين)، مجلَّة نقد ونظر، ع 2 (ربيع 1374.ش)، ص 36.

٥٤

وبموازاة ذلك لابدّ من التجديد في المباني، فالمتكلِّم اهتمّ سابقاً بترسيم مبانٍ خاصة في المعرفة، تستند إلى المنطق الأرسطي، وشيء من ميراث الفلسفة اليونانية، وجعلها ممهِّدة للمباحث الكلامية، بينما انهارت بعض تلك المباني حين افتتحت الفلسفة الأوروبية الحديثة ثغرات اخترقت جدار الواقعية الأرسطية، وتزايد الحديث عن واقعيَّات معقَّدة، كالواقعية التخمينية، وتعرُّض المفهوم التقليدي للعقل إلى عاصفة نقدية، استهلَّها الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانط"، واكتست من بعده صياغات متنوِّعة، مستنِدة في ذلك إلى معطيات فلسفة العلم والفيزياء الجديدة. ذلك كله يدعو إلى استئناف النظر في المباني الماضية لعلم الكلام؛ لأنَّ التجديد في المسائل، والموضوع، والهدف، والمناهج، واللغة، يتطلّب تجديداً في المباني.

فإذا طال التجديد جميع الأبعاد السابقة، فإنَّ الهندسة المعرفية لعلم الكلام ستشهد تحديثاً؛ لأنَّ أبعاد كل علم تشكَّل نسيجاً متكاملاً فيما بينها، ويُوحِّدها التأثير المتبادل؛ أي أنَّ أيَّ تحوُّل في أحدها يستتبعه تحوُّل في سائر الأبعاد، وهذا يعني تخلخل المنظومة السابقة للعلم، وحدوث منظومة بديلة، يأخذ فيها كلُّ بُعدٍ من أبعاد العلم موقعه الملائم، ويُعاد نظم المسائل في إطار يتَّسق مع التحوُّلات الجديدة في: المسائل، والغايات، والموضوع، والمناهج واللغة، والمباني، ومعنى ذلك تجديد الهندسة المعرفية لعلم الكلام (1) .

____________________

(1) د. أحد فرامرز قراملكي، تحليل مفهوم التجدُّد في الكلام الجديد، مصدر سابق، ص 22 - 23.

٥٥

الديني في الإسلام"، وتمتدُّ هذه الفترة التي اشتهر فيها كتاب "الظاهرة القرآنية" لمالك بن نبي ، الذي صدر للمرة الأولى باللغة الفرنسية في باريس سنة 1946م، ودرس مالك فيه التجربة الدينية، وظاهرة الوحي، والمعجزة، دراسة مبتكرة معمَّقة، وكتاب "الدين: بحوث ممهِّدة لدراسة تاريخ الأديان" لمحمد عبد الله درَّاز، الذي كتبه سنة 1952م، وعالج فيه معالجة تحليلية دقيقة الفكرة الدينية من الوجهتين الموضوعية والنفسية، والعلاقة بين الدين والأخلاق والفلسفة وسائر العلوم، ونزعة التديُّن وأصالتها في الفطرة، ونشأة العقيدة الدينية. وبعبارة أخرى، تناول الكثير من مباحث ما يُعرف بفلسفة الدين بأسلوب منهجي تحليلي.

ومن الكتب التي اشتهرت في هذه الفترة كتاب "أصول الفلسفة والمنهج الواقعي" للعلاَّمة محمد حسين الطباطبائي والتعليقات عليه لتلميذه الشيخ مرتضى المُطَهَّري، فقد صدر الجزء الأول سنة 1953م. وهذا الكتاب، وإن كان كتاباً فلسفياً، انصبَّ البحث فيه على بيان مسألة المعرفة والإدراك، وتفسير حقيقة المعرفة البشرية، ومصادرها، وحدودها. لكنَّه جاء ليقرِّر جملة من القواعد والمرتكزات الأساسية في الفلسفة الإسلامية، وينطلق منها لمحاكمة الاتجاه التجريبي في الفلسفة الأوربية، والفلسفة المادية، والمادية الديالكتيكية منها بالذات، التي وفدت إلى العالم الإسلامي ساعتئذٍ.

وفي سنة 1959م صدر كتاب "فلسفتنا" للمفكِّر الشهيد محمد باقر الصدر ، وهذا الكتاب كسابقه "أصول الفلسفة" يمثِّل محاولة جادة للتأسيس

٥٦

الفلسفي لعلم الكلام، فإنَّه يعالج قضية المعرفة أولاً، ثُمَّ ينطلق منها لتحديد الرؤية الكونية للإسلام.

وقد شهدت هذه الفترة انتقال علم الكلام من طور الإحياء إلى طور التجديد؛ فالإحياء كما مرَّ آنفاً يعني البعث والإيقاظ والإثارة، فيما يعني التجديد إعادة بناء علم الكلام وتطويره؛ أي تكييفه لطور جديد من أطوار التاريخ، يستجيب فيه لمتطلَّبات الحياة المتجدِّدة (1) .

3ـ التأسيس المنهجي لعلم الكلام:

تبدأ الفترة الثالثة من تطوُّر علم الكلام الجديد بصدور كتاب "الأسس المنطقية للاستقراء" سنة 1971م، وتستمر حتى اليوم. و السمة المميِّزة لهذه الفترة من عمر التفكير الكلامي، هي حدوث منعطف منهجي في مسار حركة علم الكلام .

فللمرَّة الأولى يتحرَّر التفكير الإسلامي من قوالب المنطق الأرسطي، ويستند إلى منهج الاستقراء القائم على حساب الاحتمالات، بعد أن اكتشف الشهيد الصدر مذهباً جديداً في تفسير نمو المعرفة وتوالدها، غير ما كان معروفاً في المذهبين التجريبي والعقلي، وأسماه "المذهب الذاتي للمعرفة"، وقد

____________________

(1) المصدر نفسه، ص 20.

٥٧

توكَّأ عليه في تدوين "موجز في أصول الدين" الذي جعله مدخلاً لرسالته العملية "الفتاوى الواضحة" (1) .

كما حصل انفتاح في مرحلة لاحقة على مناهج متنوِّعة في البحث الكلامي، فاستعان بعض الباحثين بفلسفة العلم المعاصر في أوروبا، وعمل على توظيف معطياتها في تحليل المعرفة الدينية، وتأكيد تاريخية هذه المعرفة (2) ، فيما استعان آخرون بالهرمنيوطيقيا "تفسير النصوص"، والسيمياء "علم الدلالة" في تفسير النصوص وتأويل مدلولاتها (3) . واستعار فريق ثالث مناهج ومعطيات متنوِّعة من العلوم الإنسانية الغربية، والإلهيات المسيحية ودشَّنها بمجموعها في تفسير النصوص، وتحليل التجربة الإيمانية، والمعرفة الدينية، حتى قاد ذلك إلى ما يشبه الفوضى المنهجية التي أفضت إلى نتائج متناقضة في تقرير أيَّة قضية.

____________________

(1) الصدر، موجز في أصول الدين، مصدر سابق، 45 - 47.

(2) عبد الكريم سروش، قبض وبسط تئوريك شريعت، طهران، صراط، 1372ش.

(3) محمد مجتهد شبستري، هرمنوتيك كتاب وسنت (هرمنيوطيقا الكتاب والسنة)، طرح نو، 1375ش.

٥٨

علم الكلام الجديد

قراءة أوَّليَّة

حيدر حب الله *

لعب علم الكلام دوراً رئيساً في المنظومة المعرفيَّة لأيِّ دينٍ، كما أنَّه يحتل مركزاً حسَّاساً فيها، ومن الطبيعي - وفقاً لهذه الموقعيَّة التي يتميَّز بها - أن يمثِّل التنامي أو التغييرات، أو التعديلات الطارئة على هذا العلم، تغيُّراً بنيوياً بالنسبة لكافَّة خطوط الخارطة المعرفية الأخرى.

ومن هنا، قد يكون هناك مجال للتحفُّظ إزاء عمليَّات إعادة النظر أو البناء التي تمارس في نطاق المسائل الفقهية والقانونية، أو المسائل الأخلاقية والتربوية...؛ وذلك بمعزل عن ملاحظة التعديلات التي طرأت وتطرأ، أو التي لابد أن تطرأ على علم الكلام؛ لأنَّ هذا العلم يشتمل على جملة من المبادئ التصديقية للمعارف الأخرى، فلابد أن تكون الانطلاقة من القاعدة وصولاً حتى رأس الهرم، دون العكس؛ إذ هذا ما تقتضيه طبيعة العلاقة بين هذه العلوم والمعارف، وهذا ما يفرض وضع التنمية الشاملة لعلم الكلام في موقعها الصحيح في سلَّم

____________________

* رئيس تحرير مجلَّة المنهاج.

(1) راجع: د. حسن جار، مجلَّة "المنطلق"، ع 119، ص 5.

٥٩

الأولويات الفكرية والثقافية؛ لأنَّ قضية إعادة ترتيب الأولويات بما يناسب الظروف الثقافية الراهنة، وعدم التقيُّد بالترتيب السابق لهذه الأولويات الذي اقتضته ظروفٌ سابقةٌ مختلفةٌ، تُعدُّ واحدةً من أهمِّ ما ينبغي تحديده للتوصُّل إلى نموٍّ صحيحٍ بدلاً من التورُّط بحالات تورُّم.

ومن هنا نلاحظ أنَّ الظروف - كما تُؤكِّد ذلك أعداد المصنَّفات وأعداد المتكلِّمين والفقهاء - التي فرضت شيئاً من تهميش الكلام لصالح الفقه والأصول منذ القرن التاسع الهجري، والتي ربَّما فرضتها الأوضاع السياسية التي رافقت أو أعقبت ظهور الدولة الصفويّة، وفتحت ميدان السياسة والاجتماع أمام الفقهاء، ما اضطرهم لإثبات حضورٍ قانوني فاعلٍ ساهم - في ظلِّ تسارع وتائر الظروف السياسية وغيرها - في إعطاء أولويةٍ للعقل، شكَّل لدى البعض انحساراً لدور النص، دفعه لثورةٍ على هذا الواقع دفاعاً عن التراث من الضياع، فتعزَّزت بذلك صراعاتٌ واسعةٌ تمركزت في السياق الأصولي والفقهي الأخباري والاجتهادي على حساب المجال الكلامي ونحوه.

هذه الظروف قد تغيَّرت - كما سنلاحظ - وصارت تستدعي اهتماماً مناسباً أكثر - وليس من الضروري أن يكون أكبر نسبياً - بالمسائل الكلامية.

وفي هذا السياق، يأتي مشروع علم الكلام الجديد، والذي جرى ويجري التركيز عليه في المحافل الفكرية والدينية المعاصرة، ولا سيما في العقد الميلادي الأخير؛ إذ يحاول هذا المشروع أن يضع حدَّاً لحالات الركود التي سيطرت على الدراسات الكلامية في القرون الأخيرة، ويعيد بعث النتاج الكلامي من

٦٠