اهداء
الى حامل لواء الامامة الكبرى والخلافة العظمى
ولي العصر المهد ي المنتظر الحجّة ابن الحسن العسكري ارواحنا فداه
يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ
وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ
وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ
علي
حديث الغدير
ومن ألفاظه:
« ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: من كنت مولاه فعلي مولاه. أللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه ».
أخرجه احمد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد وآله المعصومين، لا سيما الإمام الثاني عشر الحجّة المهديّ المنتظر، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.
وبعد، فهذا هو الحديث الرابع من أحاديث كتابنا « نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار في إمامة الأئمة الأطهار » وهو ( حديث الغدير )، وقد أنجزنا قبله حديث الثقلين وحديث السفينة، وحديث النور.
بين حديث النور وحديث الغدير
وإنّ كلّ واحد من هذه الأحاديث وغيرها، من أحاديث مناقب أمير المؤمنين والأئمة من أهل البيتعليهمالسلام ، ليدل على خلافة أمير المؤمنين وإمامته بعد رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - بلا فصل، إلّا أنّ لكلّ واحد منها خصوصية ليست في الآخر.
وفي مجال البحث حول الأحاديث الواردة عن النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم في
شأن الإمامعليهالسلام وخلافته من بعده ( وإلّا فالادلة على ذلك من الكتاب والاجماع والعقل وغير ذلك كثيرة لا تحصى ) نرى أن النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم - لم يواجه فرصة أو مناسبة إلّا وقد انتهزها للتعبير عن تلك الحقيقة الراهنة بأحسن تعبير، فتارة يكنيّ، وأخرى يشبّه، وثالثة يصرّح وهكذا.
والسرّ في ذلك واضح، لأنّ نبيّناصلىاللهعليهوآلهوسلم « ما كان بدعاً من الرسل » الذين كانوا من قبله، فلقد كان لكل نبي من الأنبياء السابقين وصي أو أوصياء، يعرّفونهم لأممهم بأمر من الله ونصب من قبله، إقامة لدينه، وحجة على عباده، لئلّا يزول الحق عن مقرّه، ويغلب الباطل على أهله، ولئلّا يقول أحد لو لا أرسلت إلينا رسولاً منذراً، وأقمت لنا علماً هادياً، فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى.
فكيف لا يكون لهصلىاللهعليهوآلهوسلم - وصي وأوصياء كذلك وهو خاتم الأنبياء؟ وشريعته خاتمة الشرائع؟
نعم، قد اختار الله سبحانه علياً والأئمة من بعده عليهم الصلاة والسلام خلفاء بعد النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم - في أرضه، وحججاً على بريته، وحفظة لدينه، وأدلاء على صراطه
بل يدل « حديث النور » بألفاظه المختلفة - ومثله « حديث الشجرة » - على أن رسول الله وعليّاً صلّى الله عليهما وآلهما مخلوقان من أصل واحد، وأن الله تعالى قد اختار علياً للامامة منذ اختياره محمداً للنبوة ثم جاءت الأحاديث في حق علي على لسان النبي ليعلن إلى الناس عن ذلك الأمر الواقع الذي شاءه الله عز وجل ومن تلك الأحاديث « حديث الغدير » الذي دل بكل وضوح على ثبوت كل ما ثبت للنبيصلىاللهعليهوآلهوسلم - لسيدنا أمير المؤمنينعليهالسلام إلّا النبوة، لأنه خاتم النبيين.
بين يوم الدار ويوم الغدير
وإن لدينا من الأدلة والشواهد ما يؤكّد على أن النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم - كان قد أمر بطرح موضوع الخلافة، وتعريف من نصبه الله تعالى لها، جنباً إلى جنب دعوة الناس إلى الإيمان بوحدانية الله وبرسالته ومن ذلك حديث « يوم الدار »، حيث أمر بإنذار عشيرته في أوائل البعثة، بقوله عز وجل:( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) فقد أسفرت تلك الدعوة والإنذار والمحاورات عن ثلاثة أمور:
١ - توحيد الله.
٢ - نبوة محمد.
٣ - خلافة علي.
حتى كأن الغرض من ذلك هو الأمور الثلاثة معاً.
وهكذا الأحاديث والنصوص الأُخرى الصادرة منهصلىاللهعليهوآلهوسلم ، مع تقادم الأيام بالألفاظ المختلفة، بحسب مقتضيات الأحوال، حتى كان يوم « غدير خم ».
واقعة الغدير
وإن واقعة غدير خم من الحقائق التاريخية الثابتة التي لا تقبل المناقشة والجدل، بل إنها من أهم القضايا الواقعة في تاريخ الإسلام، قضية ذكرها المؤرخون والمحدثون والمفسرون والمتكلمون واللغويون.
... وصل النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم - بعد الفراغ من حجته - التي لم يحج بعدها - إلى موضعٍ بالجحفة بين مكة والمدينة عرف بغدير خم، في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة من السنة العاشرة من الهجرة، وكان معه جموع لا يعلمها إلّا الله عز وجل.
وكيف يفوت النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم - هذه الفرصة المتاحة فلا يبلّغ فيها الأمر، الذي طالما حرص على تبليغه وتأكيده منذ بعثته حتى اليوم، ولو بأدنى مناسبة كما أشرنا؟
لقد كان من الطبيعي أن ينتهز هذه الفرصة أيضاً، ليبلّغ للناس ويتم الحجة عليهم في أمر الخلافة، بل ويأخذ منهم البيعة لعليعليهالسلام ولا سيما:
١ - وأن النبي قد أوشك أن يدعى فيجيب.
٢ - وأنه يعلم أن هذه الجموع التي معه لن تجتمع عنده بعد اليوم.
٣ - وأن هذا الموضع تتشعب فيه طرق المدنيين والمصريين والعراقيين.
هنا وقف رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - حتى لحقه من بعده، وأمر بردّ من تقدّم من القوم إلى ذلك المكان، ونودي بالصلاة، فصلّى بالناس صلاة الظهر، ثم قام فيهم خطيباً يراه القوم كلهم ويسمعون صوته، فذكّرهم بما دعاهم إليه في اليوم الأول من بعثته: « ألستم تشهدون أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأن جنته حق وناره حق »
ثم سألهم: « من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم » ثم قال: « فمن كنت مولاه فعلي مولاه ».
ولقد نزلت في هذه الواقعة آيات من القرآن، فنزل قبل الخطبة قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) ونزل بعد فراغهصلىاللهعليهوآلهوسلم - منها قوله تعالى:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) .
وكذلك الأمر في كثير من الوقائع المتعلقة بمناقب علي وأهل البيتعليهمالسلام ، فالنبي يأمر علياً بالمبيت على فراشه ليلة الهجرة وينزل أمين وحي الله بقوله:( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ ) .
ويأمره تعالى بالمباهلة قائلاً:( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ
فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ ) فيدعو رسول الله علياً وفاطمة وحسناً وحسيناًفيقول: « اللهم هؤلاء أهلي » ويخرج بهم إلى المباهلة
وطفق القوم يهنّئون أمير المؤمنينعليهالسلام بعد خطبة النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم ، ويبايعونه بالإِمامة، وقد كان في مقدّمهم الشيخان أبو بكر وعمر، كل يقول: « بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة » وقال ابن عباس: « وجبت والله في أعناق القوم »، وقال حسان أبياته المشهورة بحضور النبي وبمشهد ومسمع من القوم، ثم كان ذلك اليوم عيداً، وموسماً لجميع المسلمين منذ ذلك العهد.
خطبة الغدير
إن القدر المسلّم به، والمتواتر بين عموم المسلمين، هو هذا القسم من كلامهصلىاللهعليهوآلهوسلم ، وفيه غنىَّ وكفاية في الدلالة على الامامة والخلافة.
ولكنّ المستفاد من تتبع ألفاظ حديث الغدير في كتب أهل السنة - ويساعده الاعتبار وشواهد الأحوال - هو أنهصلىاللهعليهوآلهوسلم - قد خطبهم، ففي مسند أحمد: « فخطبنا »(١) .
وفي المستدرك: « قام خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، وذكّر ووعظ، فقال ما شاء الله أن يقول»(٢) .
وفي مجمع الزوائد: « فو الله ما من شيء يكون إلى يوم الساعة إلّا قد أخبرنا به يومئذ، ثم قال: أيها الناس »(٣) .
___________________
(١). مسند أحمد بن حنبل ٤ / ٣٧٢.
(٢). المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٠٩.
(٣). مجمع الزوائد ٩ / ١٠٥ وقد وثق رجاله.
فأين النص الكامل لتلك الخطبة؟ ولما ذا لم يرووا مواعظ الرسول وإرشاداته؟ وإذا كان قد أخبر بكلّ شيء يكون إلى يوم الساعة، فما الذي حملهم على إخفائه عن الأمة؟
إن الذي منعهم من نقل خطبة النبي كاملةً هو نفس ما منعهم من أن يقرّبوا إليه دواة وقرطاساً، ليكتب للامة كتاباً لن يضلّوا بعده! وإن الذي حملهم على كتم خطبة النبي هذه هو ما حملهم على كتم كثير من الحقائق!! لقد كان غرض القوم أن يحرموا الأمة من هدي رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - وتعاليمه وإرشاداته، فضلاً عن أن يكونوا دعاة إليها وناشرين لها، ذلك لأنهم لم يكونوا معتقدين بها حقاً، إذ لم يدخل الإِيمان في قلوبهم، ولأنهم كانوا يعلمون بأنهم إذا بلّغوا تعاليم النبي إلى الأُمة كما هي، لجرت الأمور في مجاريها، وهذا يعني أن لا يكون لهم أي موقع في المجتمع الاسلامي فضلاً عن الرئاسة والحكم.
لكنّ الإِمام الباقر محمد بن علي بن الحسين بن أبي طالب عليهم الصلاة والسلام يحدثنا بواقعة غدير خم، وينقل إلينا ما قاله النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم - في ذلك اليوم، فيقول:
« حجّ رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - من المدينة، وقد بلغ جميع الشرائع قومه غير الحج والولاية، فأتاه جبرئيلعليهالسلام فقال له: يا محمد، إنّ الله جلّ اسمه يقرؤك السلام ويقول لك: إنّي لم أقبض نبيّاً من أنبيائي ولا رسولاً من رسلي إلّا بعد إكمال ديني وتأكيد حجتي، وقد بقي عليك من ذاك فريضتان مما تحتاج أن تبلّغهما قومك: فريضة الحج، وفريضة الولاية والخلافة من بعدك، فإني لم أخل أرضي من حجة ولن أخلّيها أبداً، فإن الله جل ثناؤه يأمرك أن تبلّغ قومك الحج وتحج، ويحج معك من استطاع إليه سبيلاً من أهل الحضر والأطراف والأعراب، وتعلّمهم من معالم حجّهم مثل ما علّمتهم من صلاتهم وزكاتهم وصيامهم، وتوقفهم من ذلك على مثال الذي أوقفتهم عليه من جميع ما بلغتهم
من الشرائع.
فنادى منادي رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - في الناس: ألا إنّ رسول الله يريد الحج، وأن يعلّمكم من ذلك مثل الذي علّمكم من شرائع دينكم، ويوقفكم من ذاك على ما أوقفكم عليه من غيره. فخرج رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - وخرج معه الناس، وأصغوا إليه لينظروا ما يصنع فيصنعوا مثله، فحج بهم، وبلغ من حج مع رسول الله من أهل المدينة وأهل الأطراف والأعراب سبعين ألف إنسان أو يزيدون، على نحو عدد أصحاب موسى السبعين ألف الذين أخذ عليهم بيعة هارون، فنكثوا واتبعوا العجل والسامري، وكذلك أخذ رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - البيعة لعلي بالخلافة على عدد أصحاب موسى، فنكثوا البيعة واتبعوا العجل والسامري سنّةً بسُنَّةٍ ومثلاً بمثل، واتصلت التلبية ما بين مكة والمدينة.
فلمّا وقف بالموقف أتاه جبرئيلعليهالسلام عن الله عز وجل فقال: يا محمد إن الله عز وجل يقرؤك السلام ويقول لك: إنه قد دنى أجلك ومدّتك، وأنا مستقدمك على ما لا بد منه ولا عنه محيص، فاعهد عهدك وقدّم وصيتك، واعمد إلى ما عندك من العلم وميراث علوم الأنبياء من قبلك والسلاح والتابوت وجميع ما عندك من آيات الأنبياء، فسلّمه إلى وصيك وخليفتك من بعدك، حجتي البالغة على خلقي علي بن أبي طالبعليهالسلام ، فأقمه للناس علماً وجدّد عهده وميثاقه وبيعته، وذكّرهم ما أخذت عليهم من بيعتي وميثاقي الذي واثقتهم وعهدي الذي عهدت إليهم، من ولاية وليي ومولاهم ومولى كل مؤمن ومؤمنة علي بن أبي طالبعليهالسلام ، فإني لم أقبض نبياً من الأنبياء إلّا من بعد إكمال ديني وحجتي، وإتمام نعمتي بولاية أوليائي ومعاداة أعدائي، وذلك كمال توحيدي وديني وإتمام نعمتي على خلقي باتباع وليي وطاعته، وذلك أني لا أترك أرضي بغير وليي ولا قيّم، ليكون حجة لي على خلقي.
فاليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام
دينا، بولاية وليي ومولى كل مؤمن ومؤمنة: علي عبدي ووصي نبيّي والخليفة من بعده وحجتي البالغة على خلقي، مقرون طاعته بطاعة محمد نبيي، ومقرون طاعته مع طاعة محمد بطاعتي، ومن أطاعه فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني، جعلته علماً بيني وبين خلقي، من عرفه كان مؤمناً ومن أنكره كان كافراً، ومن أشرك بيعته كان مشركاً، ومن لقيني بولايته دخل الجنة، ومن لقيني بعداوته دخل النار.
فأقم يا محمد علياً علماً وخذ عليهم البيعة، وجدد عهدي وميثاقي لهم الذي واثقتهم عليه، فإني قابضك إليّ ومستقدمك عليّ.
فخشي رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - من قومه وأهل النفاق والشقاق، أن يتفرقوا ويرجعوا إلى الجاهلية، لما عرف من عداوتهم، ولما ينطوي عليه أنفسهم لعلي من العداوة والبغضاء، وسأل جبرئيل أن يسأل ربه العصمة من الناس، وانتظر أن يأتيه جبرئيل بالعصمة، من الناس عن الله جل اسمه، فأخّر ذلك إلى أن بلغ مسجد الخيف، فأتاه جبرئيلعليهالسلام في مسجد الخيف، فأمره بأن يعهد عهده، ويقيم علياً علماً للناس يهتدون به، ولم يأته بالعصمة من الله جل جلاله بالذي أراد، حتى بلغ كراع الغميم بين مكة والمدينة.
فأتاه جبرئيل وأمره بالذي أتاه فيه من قبل الله، ولم يأته بالعصمة فقال: يا جبرئيل، إني أخشى قومي أن يكذّبوني ولا يقبلوا قولي في عليعليهالسلام [ فسأل جبرئيل كما سأل بنزول آية العصمة فأخّره ذلك ]، فرحل.
فلما بلغ غدير خم قبل الجحفة بثلاثة أميال أتاه جبرئيلعليهالسلام ، على خمس ساعات مضت من النهار، بالزجر والانتهار والعصمة من الناس فقال: يا محمد إن الله عز وجل يقرؤك السلام ويقول لك( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ - في علي -وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) .
وكان أوائلهم قريب من الجحفة، فأمر بأن يردّ من تقدّم منهم ويحبس من تأخر عنهم في ذلك المكان، ليقيم علياً علماً للناس، ويبلّغهم ما أنزل الله تعالى في
علي، وأخبره بأن الله عز وجل قد عصمه من الناس، فأمر رسول الله عند ما جاءته العصمة منادياً ينادي في الناس بالصلاة جامعة، وبردّ من تقدّم منهم وبحبس من تأخر، وتنحى عن يمين الطريق إلى جنب مسجد الغدير، أمره بذلك جبرئيل عن الله عز وجل، وكان في الموضع سلمات، فأمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يقمّ ما تحتهنّ، وينصب له حجارة كهيئة المنبر ليشرف على الناس، فتراجع الناس واحتبس أواخرهم في ذلك المكان لا يزالون، فقام رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم - فوق تلك الأحجار، ثمّ حمد الله تعالى وأثنى عليه فقال:
الحمد لله الذي علا في توحّده، ودنا في تفرده، وجلّ في سلطانه، وعظم في أركانه، وأحاط بكلّ شيءٍ علماً وهو في مكانه، وقهر جميع الخلق بقدرته وبرهانه، مجيداً لم يزل، محموداً لا يزال، بارئ المسموكات، وداحي المدحوات، وجبار الأرضين والسماوات، قدّوس سبّوح رب الملائكة والروح، متفضّل على جميع من برأه، متطول على جميع من أنشأه، يلحظ كلّ عين والعيون لا تراه، كريم حليم ذو أناة، قد وسع كلَّ شيءٍ رحمته ومنّ عليهم بنعمته، لا يعجّل بانتقامه ولا يبادر إليهم بما استحقوا من عذابه، قد فهم السرائر وعلم الضمائر، ولم تخف عليه المكنونات، ولا اشتبهت عليه الخفيات، له الاحاطة بكل شيء والغلبة على كلّ شيءٍ، والقوة في كلّ شيءٍ، والقدرة على كل شيءٍ، وليس مثله شيءٌ، وهو منشئٌ الشيء حين لا شيء، دائم قائم بالقسط لا إله إلّا هو العزيز الحكيم، جلّ عن أن تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، لا يلحق أحد وصفه من معاينة، ولا يجد أحد كيف هو من سرّ وعلانية إلاّ بما دل عز وجل على نفسه.
وأشهد أنه الله الذي ملأ الدهر قدسه، والذي يغشى الأبد نوره، والذي ينفذ أمره، بلا مشاورة مشير، ولا معه شريك في تقدير، ولا تفاوت في تدبير، صوّر ما أبدع على غير مثال، وخلق ما خلق بلا معونة من أحد ولا تكلّف ولا احتيال، أنشأها فكانت، وبرأها فبانت، فهو الله الذي لا إله إلّا هو، المتقن الصنعة، الحسن الصنيعة، العدل الذي لا يجور، والأكرم الذي ترجع إليه الأمور.
وأشهد أنه الذي تواضع كل شيء لقدرته، وخضع كل شيء لهيبته، ملك الأملاك ومفلك الأفلاك، ومسخر الشمس والقمر، كل يجري لأجل مسمى، يكوّر الليل على النهار، ويكوّر النهار على الليل يطلبه حثيثاً، قاصم كل جبار عنيد ومهلك كلّ شيطان مريد، لم يكن معه ضد ولا ند، أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، إله واحد ورب ماجد، يشاء فيمضي ويريد فيقضي، ويعلم فيحصي ويميت ويحي، ويفقر ويغني، ويضحك ويبكي، ويمنع ويعطي، له الملك وله الحمد، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، لا إله إلّا هو العزيز الغفار، مجيب الدعاء ومجزل العطاء، محصي الأنفاس ورب الجنة والناس، لا يشكل عليه شيء، ولا يضجره صراخ المستصرخين، ولا يبرمه إلحاح الملحّين، العاصم للصالحين والموفق للمفلحين، ومولى العالمين، الذي استحق من كل من خلق أن يشكره ويحمده.
أحمده على السراء والضراء والشدة والرخاء، وأؤمن به وبملائكته وكتبه ورسله، أسمع أمره وأطيع وأبادر إلى كل ما يرضاه، وأستسلم لقضائه رغبة في طاعته وخوفاً من عقوبته، لأنّه الله الذي لا يؤمن مكره ولا يخاف جوره، وأقرّ له على نفسي بالعبودية، وأشهد له بالربوبية وأؤدي ما أوحى إليّ حذرا من أن لا أفعل فتحل بي منه قارعة لا يدفعها عني أحد وإن عظمت حيلته، لا إله إلّا هو، لأنّه قد أعلمني أني إنْ لم ابلّغ ما أنزل إليّ فما بلّغت رسالته، وقد ضمن لي تبارك وتعالى العصمة، وهو الله الكافي الكريم، فأوحى إليّ: بسم الله الرحمن الرحيم( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ - في علي [ يعني في الخلافة لعلي بن أبي طالبعليهالسلام ] -وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) .
( معاشر الناس ) ما قصّرت في تبليغ ما أنزل الله تعالى إليّ، وأنا مبيّن لكم سبب نزول هذه الآية: إن جبرئيلعليهالسلام هبط إليّ مراراً ثلاثاً، يأمرني عن السلام ربي وهو السلام: أن أقوم في هذا المشهد فأعلم كل أبيض وأسود أن علي ابن أبي طالب أخي ووصيي وخليفتي، والامام من بعدي، والذي محلّه مني محلّ
هارون من موسى إلّا أنه لا نبي بعدي، وهو وليّكم من بعد الله ورسوله، وقد أنزل الله تبارك وتعالى عليّ بذلك آية من كتابه: ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ ) وعلي بن أبي طالب أقام الصلاة وآتى الزكاة وهو راكع، يريد الله عز وجل في كل حال.
وسألت جبرئيل أن يستعفي لي عن تبليغ ذلك إليكم - أيها الناس - لعلمي بقلّة المتقين وكثرة المنافقين، وإدغال الآثمين، وختل المستهزئين بالإسلام، الذين وصفهم الله في كتابه بأنهم( يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) ويحسبونه هينا وهو عند الله عظيم، وكثرة أذاهم لي في غير مرة حتى سمّوني أذنا، وزعموا أني كذلك لكثرة ملازمته إياي وإقبالي عليه، حتى أنزل الله عز وجل في ذلك قرآنا:( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ ) - على الذين يزعمون أنه أذن -( خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) الآية.
ولو شئت أن أسمي بأسمائهم لسميّت، وأن أومي إليهم بأعيانهم لأومأت، وأن أدل عليهم لدللت، ولكني والله في أمورهم قد تكرّمت، وكل ذلك لا يرضي الله مني إلّا أن أبلغ ما أنزل إليّ، ثم تلىصلىاللهعليهوآلهوسلم :( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ - في علي -وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) .
فاعلموا يا معاشر الناس: إن الله قد نصبه لكم ولياً، وإماماً مفترضاً طاعته على المهاجرين والأنصار وعلى التابعين لهم باحسان، وعلى البادي والحاضر وعلى الأعجمي والعربي، والحر والمملوك، والصغير والكبير، وعلى الأبيض والأسود، وعلى كلّ موحّد، ماض حكمه، جائز قوله، نافذ أمره، ملعون من خالفه، مرحوم من تبعه، مؤمن من صدّقه، فقد غفر الله له ولمن سمع منه وأطاع له.
( معاشر الناس ) إنه آخر مقام أقومه في هذا المشهد، فاسمعوا وأطيعوا وانقادوا لأمر ربكم، فإن الله عز وجل هو مولاكم وإلهكم، ثم من دونه محمد وليكم القائم المخاطب لكم، ثم من بعدي علي وليكم وإمامكم بأمر ربكم، ثم
الإِمامة في ذريتي من ولده إلى يوم تلقون الله ورسوله، لا حلال إلّا ما أحلّه الله ولا حرام إلّا ما حرّمه الله، عرّفني الحلال والحرام، وأنا أفضيت بما علّمني ربي من كتابه وحلاله وحرامه إليه.
( معاشر الناس ) ما من علم إلّا وقد أحصاه الله فيّ، وكل علم علمت فقد أحصيته في إمام المتقين، وما من علم إلّا علّمته علياً، وهو الإمام المبين.
( معاشر الناس ) لا تضلّوا عنه، ولا تنفروا منه، ولا تستكبروا [ ولا تستنكفوا خ ل ] من ولايته، فهو الذي يهدي إلى الحق ويعمل به، ويزهق الباطل وينهى عنه، ولا تأخذه في الله لومة لائم، ثم إنه أول من آمن بالله ورسوله، وهو الذي فدى رسوله بنفسه، وهو الذي كان مع رسول الله ولا أحد يعبد الله مع رسوله من الرجال غيره.
( معاشر الناس ) فضّلوه فقد فضله الله، واقبلوه فقد نصبه الله.
( معاشر الناس ) إنه إمام من الله، ولن يتوب الله على أحد أنكر ولايته، ولن يغفر الله له، حتماً على الله أن يفعل ذلك بمن خالف أمره فيه، وأن يعذّبه عذاباً شديداً نكراً أبد الآباد ودهر الدهور، فاحذروا أن تخالفوه فتصلوا ناراً وقودها الناس والحجارة أعدّت للكافرين.
( أيها الناس ) بي والله بشّر الأولون من النبيين والمرسلين، وأنا خاتم الأنبياء والمرسلين، والحجة على جميع المخلوقين، من أهل السماوات والأرضين، فمن شك في ذلك فهو كافر كفر الجاهلية الأولى، ومن شك في شيءٍ من قولي هذا فقد شك في الكل منه، والشاك في ذلك فله النار.
( معاشر الناس ) حباني الله بهذه الفضيلة مناً منه عليَّ وإحساناً منه إليَّ، ولا إله إلّا هو، له الحمد مني أبد الآبدين ودهر الداهرين على كل حال.
( معاشر الناس ) فضلّوا علياً فإنه أفضل الناس بعدي من ذكر وأنثى، بنا أنزل الله الرزق وبقي الخلق، ملعون ملعون مغضوب مغضوب من ردّ عليّ قولي هذا ولم يوافقه، ألا إنّ جبرئيل خبّرني عن الله تعالى بذلك ويقول: « من عادى علياً
ولم يتوله فعليه لعنتي وغضبي » فلتنظر نفس ما قدّمت لغد، واتقوا الله أن تخالفوه، فتزل قدم بعد ثبوتها، إن الله خبير بما تعملون.
( معاشر الناس ) إنه جنب الله الذي ذكر في كتابه فقال تعالى:( أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ ) .
( معاشر الناس ) تدبروا القرآن وافهموا آياته، وانظروا إلى محكماته ولا تتبعوا متشابهه، فو الله لن يبين لكم زواجره ولا يوضح لكم تفسيره إلّا الذي أنا آخذ بيده، ومصعده إليَّ، وشائل بعضده، ومعلمكم أنّ من كنت مولاه فهذا علي مولاه، وهو علي بن أبي طالب أخي ووصيي، وموالاته من الله عز وجل أنزلها عليّ.
( معاشر الناس ) إن علياً والطيبين من ولدي هم الثقل الأصغر، والقرآن الثقل الأكبر، فكلّ واحد منبئ عن صاحبه وموافق له، لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض، هم أمناء الله في خلقه وحكماؤه في أرضه، ألا وقد أديت وقد بلغت، ألا وقد أسمعت، ألا وقد أوضحت، ألا وإن الله عز وجل قال وأنا قلت عن الله عز وجل، ألا إنه ليس أمير المؤمنين غير أخي هذا، ولا تحل امرة المؤمنين بعدي لأحدٍ غيره.
ثم ضرب بيده إلى عضده فرفعه، وكان منذ أول ما صعد رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - شال علياً، حتى صارت رجله مع ركبة رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - ثم قال:
( معاشر الناس ) هذا علي أخي ووصيي، وواعي علمي وخليفتي على أمتي وعلى تفسير كتاب الله عز وجل والداعي إليه والعامل بما يرضاه، والمحارب لأعدائه، والموالي على طاعته والناهي عن معصيته، خليفة رسول الله وأمير المؤمنين والامام الهادي، وقائل الناكثين والقاسطين والمارقين بأمر الله، أقول وما يبدل القول لدي بأمر ربي، أقول: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، والعن من أنكره وأغضب على من جحد حقه، اللهم انك أنزلت عليّ أن الامامة بعدي لعلي وليك عند تبياني ذلك ونصبي إياه، بما أكملت لعبادك من دينهم وأتممت عليهم
بنعمتك، ورضيت لهم الاسلام دينا، فقلت:( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ ) اللهم إني أشهدك وكفى بك شهيداً أني قد بلّغت.
( معاشر الناس ) إنما أكمل الله عز وجل دينكم بإمامته، فمن لم يأتم به وبمن يقوم مقامه من ولدي من صلبه إلى يوم القيامة، والعرض على الله عز وجل فأولئك الذين حبطت أعمالهم، وفي النار هم فيها خالدون، لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون.
( معاشر الناس ) هذا علي أنصركم لي، وأحقكم بي، وأقربكم اليّ، وأعزكم عليّ، والله عز وجل وأنا عنه راضيان، وما نزلت آية رضى إلاّ فيه، وما خاطب الله الذين آمنوا إلاّ بدأ به، ولا نزلت آية في القرآن إلاّ فيه، ولا شهد بالجنة في هل أتى على الإنسان إلاّ له، ولا أنزلها في سواه، ولا مدح بها غيره.
( معاشر الناس ) هو ناصر دين الله، والمجادل عن رسول الله، وهو النقي التقي الهادي المهدي، نبيكم خير نبي ووصيكم خير وصي وبنوه خير الأوصياء.
( معاشر الناس ) ذرية كلّ نبي من صلبه وذريتي من صلب علي.
( معاشر الناس ) إن إبليس أخرج آدم من الجنة بالحسد، فلا تحسدوه فتحبط أعمالكم وتزل أقدامكم، فإن آدم أهبط إلى الأرض لخطيئة واحدة، وهو صفوة الله عز وجل، وكيف بكم وأنتم أنتم ومنكم أعداء الله، إنه لا يبغض علياً إلّا شقي، ولا يتوالى علياً إلاّ تقي، ولا يؤمن به إلاّ مؤمن مخلص، وفي علي والله نزلت سورة والعصر:( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ) إلى آخرها.
( معاشر الناس ) قد استشهدت الله وبلّغتكم رسالتي، وما على الرسول إلا البلاغ المبين.
( معاشر الناس ) اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتنّ إلّا وأنتم مسلمون.
( معاشر الناس ) آمنوا بالله ورسوله، والنور الذي أنزل معه، من قبل أن
نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها.
( معاشر الناس ) النور من الله عز وجل فيّ مسلوك، ثم في علي ثم في النسل منه، إلى القائم المهدي الذي يأخذ بحق الله وبكل حق هو لنا، لأن الله عز وجل قد جعلنا حجة على المقصرين والمعاندين والمخالفين والخائفين والآثمين، والظالمين من جميع العالمين.
( معاشر الناس ) أنذركم أني رسول الله، قد خلت من قبلي الرسل، أفإن متّ أو قتلت انقلبتم على أعقابكم، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين، ألا وإن علياً هو الموصوف بالصبر والشكر، ثم من بعده ولدي من صلبه.
( معاشر الناس ) لا تمنوا على الله إسلامكم فيسخط عليكم ويصيبكم بعذاب من عنده، إنه لبالمرصاد.
( معاشر الناس ) إنه سيكون من بعدي أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون.
( معاشر الناس ) إن الله وأنا بريئان منهم.
( معاشر الناس ) إنهم وأنصارهم وأتباعهم في الدرك الأسفل من النار، ولبئس مثوي المتكبّرين، ألا إنهم أصحاب الصحيفة، فلينظر أحدكم في صحيفته قال: فذهب على الناس إلّا شرذمة منهم أمر الصحيفة.
( معاشر الناس ) إني أدعها إمامة ووراثة في عقبي إلى يوم القيامة، وقد بلغت ما أُمرت بتبليغه، حجة على كل حاضر وغائب، وعلى كل أحد ممن شهد أو لم يشهد، ولد أو لم يولد، فليبلّغ الحاضر الغائب والوالد الولد إلى يوم القيامة وسيجعلونها ملكاً واغتصابا، ألا لعن الله الغاصبين والمغتصبين، وعندها سنفرغ لكم أيها الثقلان، فيرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران.
( معاشر الناس ) إن الله عز وجل لم يكن يذركم على ما أنتم عليه، حتى يميز الخبيث من الطيب، وما كان الله ليطلعكم على الغيب.
( معاشر الناس ) إنه ما من قرية إلّا والله مهلكها بتكذيبها، وكذلك يهلك القرى وهي ظالمة كما ذكر الله تعالى، وهذا علي إمامكم ووليكم، وهو مواعيد الله والله يصدق ما وعده.
( معاشر الناس ) قد ضل قبلكم أكثر الأولين، والله لقد أهلك الأولين، وهو مهلك الآخرين، قال الله تعالى:( أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ) .
( معاشر الناس ) إن الله قد أمرني ونهاني، وقد أمرت علياً ونهيته، فعلم الأمر والنهي من ربه عز وجل، فاسمعوا لأمره تسلموا، وأطيعوه تهتدوا، وانتهوا لنهيه ترشدوا، وصيروا إلى مراده ولا تتفرق بكم السبيل عن سبيله.
( معاشر الناس ) أنا صراط الله المستقيم الذي أمركم باتباعه، ثم علي من بعدي ثم ولدي من صلبه، أئمة يهدون إلى الحق وبه يعدلون، ثم قرأ:( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) إلى آخرها وقال: في نزلت وفيهم نزلت، ولهم عمّت وإيّاهم خصّت، أولئك أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ألا إن حزب الله هم الغالبون، ألا إن أعداء علي هم أهل الشقاق والنفاق والحادون، وهم العادون وإخوان الشياطين، الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، ألا إن أولياءهم الذين ذكرهم الله في كتابه فقال عز وجل:( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ) إلى آخر الآية. ألا إن أولياءهم الذين وصفهم الله عز وجل فقال:( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) ، ألا إن أولياءهم الذين وصفهم الله عز وجل فقال:( الذين يدخلون الجنة آمنين تتلقاهم الملائكة بالتسليم ان طبتم فادخلوها خالدين ) ألا إن أولياءهم الذين قالوا لهم الله عز وجل: يدخلون الجنة بغير حساب ألا إن أعداءهم يصلون سعيرا، ألا إن أعداءهم الذين يسمعون لجهنم شهيقا وهي تفور ولها زفير، ألا إن أعداءهم الذين قال الله فيهم:( كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها ) الآية، ألا إن أعداءهم الذين قال الله عز وجل:( كُلَّما أُلْقِيَ
فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ ) ألا إن أولياءهم ( الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ) .
( معاشر الناس ) شتان ما بين السعير والجنة، عدونا من ذمة الله ولعنه، وولينا من مدحه الله وأحبه.
( معاشر الناس ) ألا واني منذر وعلي هاد.
( معاشر الناس ) إني نبي وعلي وصي، ألا إن خاتم الأئمة منا القائم المهدي، ألا إنه الظاهر على الدين، ألا إنه المنتقم من الظالمين، ألا إنه فاتح الحصون وهادمها، ألا إنه قاتل كلّ قبيلة من أهل الشرك، ألا إنه مدرك بكل ثار لأولياء الله، ألا إنه الناصر لدين الله، ألا إنه الغراف في بحر عميق، ألا إنه يسم كل ذي فضل بفضله وكل ذي جهل بجهله، ألا إنه خيرة الله ومختاره، ألا إنه وارث كل علم والمحيط به، ألا إنه المخبر عن ربه عز وجل، والمنبه بأمر ايمانه، ألا إنه الرشيد السديد، ألا إنه المفوض إليه، ألا إنه قد بشر من سلف بين يديه، ألا إنه الباقي حجة ولا حجة بعده، ولا حقّ إلّا معه ولا نور إلّا عنده، ألا إنه لا غالب له ولا منصور عليه، ألا وإنه ولي الله في أرضه وحكمه في خلقه وأمينه في سرّه وعلانيته.
( معاشر الناس ) قد بينت لكم وأفهمتكم، وهذا علي يفهمكم بعدي، ألا وإني عند انقضاء خطبتي أدعوكم إلى مصافقتي على بيعته، والإقرار به، ثم مصافقته بعدي، ألا وإني قد بايعت الله وعلي قد بايعني، وأنا آخذكم بالبيعة له عن الله عز وجل( فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ ) الآية.
( معاشر الناس ) إن الحج والصفا والمروة والعمرة( مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ) الآية.
( معاشر الناس ) حجوا البيت، فما ورده أهل بيت إلا استغنوا، ولا تخلفوا عنه إلا افتقروا.
( معاشر الناس ) ما وقف بالموقف مؤمن إلّا غفر الله له ما سلف من ذنبه الى وقته ذلك، فاذا انقضت حجته استأنف عمله.
( معاشر الناس ) الحجاج معاونون، ونفقاتهم مخلفة، والله لا يضيع أجر المحسنين.
( معاشر الناس ) حجوا البيت بكمال الدين والتفقه، ولا تنصرفوا عن المشاهد إلاّ بتوبة وإقلاع.
( معاشر الناس ) أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة كما أمركم الله عز وجل، لئن طال عليكم الأمد فقصرتم أو نسيتم، فعلي وليكم ومبين لكم الذي نصبه الله عز وجل بعدي، ومن خلفه الله مني ومنه يخبركم بما تسألون عنه ويبين لكم ما لا تعلمون، ألا إن الحلال والحرام أكثر من أن أحصيها وأعرفهما، فآمر بالحلال وأنهى عن الحرام في مقام واحد، فأمرت أن آخذ البيعة منكم والصفقة لكم بقبول ما جئت به عن الله عز وجل في علي أمير المؤمنين والأئمة من بعده، الذين هم مني ومنه، أئمة قائمة منهم المهدي إلى يوم القيامة الذي يقضي بالحق.
( معاشر الناس ) وكلّ حلال دللتكم عليه أو حرام نهيتكم عنه، فاني لم أرجع عن ذلك ولم أبدل، ألا فاذكروا ذلك واحفظوه وتواصوا به، ولا تبدلوه ولا تغيروه، ألا وإني أجدد القول: ألا فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر. ألا وإن رأس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تنتهوا إلى قولي، وتبلّغوه من لم يحضر وتأمروه بقبوله وتنهوه عن مخالفته، فإنه أمر من الله عز وجل ومني، ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر إلا مع إمام معصوم.
( معاشر الناس ) القرآن يعرفكم أن الأئمة من بعده ولده، وعرفتكم أنه مني وأنا منه، حيث يقول الله في كتابه:( وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ ) وقلت: « لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما».
( معاشر الناس ) التقوى التقوى! احذروا الساعة كما قال الله عز وجل:( إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ) ، أذكروا الممات والحساب، والموازين والمحاسبة
بين يدي رب العالمين، والثواب والعقاب، فمن جاء بالحسنة أثيب عليها، ومن جاء بالسيئة فليس له في الجنان نصيب.
( معاشر الناس ) إنكم أكثر من أن تصافقوني بكف واحدة، وقد أمرني الله عز وجل أن آخذ من ألسنتكم الاقرار بما عقدت لعلي من إمرة المؤمنين، ومن جاء بعده من الائمة مني ومنه على ما أعلمتكم أن ذريتي من صلبه، فقولوا بأجمعكم:
« انا سامعون مطيعون راضون منقادون لما بلّغت عن ربنا وربك، في أمر علي وأمر ولده من صلبه من الأئمة، نبايعك على ذلك بقلوبنا وأنفسنا وألسنتنا وأيدينا، على ذلك نحيى ونموت ونبعث، ولا نغيّر ولا نبدل، ولا نشك ولا نرتاب، ولا نرجع عن عهد ولا ننقض الميثاق، نطيع الله ونطيعك وعلياً أمير المؤمنين وولده الائمة الذين ذكرتهم من ذريتك من صلبه بعد الحسن والحسين، الذين قد عرّفتكم مكانهما مني، ومحلهما عندي، ومنزلتهما من ربي عز وجل » فقد أديت ذلك اليكم، وانهما سيّدا شباب أهل الجنة، وانهما الامامان بعد أبيهما علي، وأنا أبوهما قبله.
وقولوا: « أطعنا الله بذلك وإياك وعلياً والحسن والحسين والائمة الذين ذكرت، عهداً وميثاقاً مأخوذاً لأمير المؤمنين من قلوبنا وأنفسنا وألسنتنا ومصافقة أيدينا من أدركهما بيده وأقر بهما بلسانه، ولا نبغي بذلك بدلاً ولا نرى من أنفسنا عنه حولاً أبداً، أشهدنا الله وكفى بالله شهيداً، وأنت علينا به شهيد، وكل من أطاع ممن ظهر واستتر وملائكة الله وجنوده وعبيده، والله أكبر من كل شهيد ».
( معاشر الناس ) ما تقولون، فإن الله يعلم كل صوت وخافية كل نفس، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضلّ فانما يضلّ عليها، ومن بايع فإنما يبايع الله، يد الله فوق أيديهم.
( معاشر الناس ) فاتقوا الله وبايعوا علياً أمير المؤمنين والحسن والحسين والائمة، كلمة طيبة باقية، يهلك الله من غدر ويرحم الله من وفى،( وَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ ) الآية.
( معاشر الناس ) قولوا الذي قلت لكم، وسلّموا على علي بإمرة المؤمنين وقولوا:( سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) وقولوا:( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ ) الآية.
( معاشر الناس ) إن فضائل علي بن أبي طالب عند الله عز وجل، وقد أنزلها في القرآن، أكثر من أن أحصيها في مقام واحد، فمن أنبأكم بها وعرّفها فصدّقوه.
( معاشر الناس ) من يطع الله ورسوله وعليا والأئمة الذين ذكرتهم فقد فاز فوزا عظيما.
( معاشر الناس ) السابقون السابقون الى مبايعته وموالاته والتسليم عليه بامرة المؤمنين، أولئك هم الفائزون في جنات النعيم.
( معاشر الناس ) قولوا ما يرضى الله به عنكم من القول، فإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فلن يضر الله شيئا، اللهم اغفر للمؤمنين، واغضب على الكافرين، والحمد لله رب العالمين.
فناداه القوم: سمعنا وأطعنا على أمر الله وأمر رسوله، بقلوبنا وألسنتنا وأيدينا، وتداكوا على رسول الله وعلى عليعليهالسلام فصافقوا بأيديهم.
فكان أول من صافق رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - الاول والثاني والثالث والرابع والخامس، وباقي المهاجرين والأنصار، وباقي الناس على طبقاتهم وقدر منازلهم، إلى أن صليت المغرب والعتمة في وقت واحد، ووصلوا البيعة والمصافقة ثلاثاً ورسول الله يقول كلما بايع قوم: الحمد لله الذي فضّلنا على جميع العالمين. وصارت المصافقة سنّة ورسماً، وربما يستعملها من ليس له حق فيها »(١) .
___________________
(١). الاحتجاج ١ / ٦٨ - ٨٤.
نكت في حديث الغدير
ويفيد التتبع في ألفاظ حديث الغدير المروية في كتب أهل السنة، وجود الدواعي المختلفة عندهم على كتم حديث الغدير، أو ترك سماعه، أو تحريفه، أو نقله بصورة ناقصة، حتى بعد شهرته وذيوعه، فأنت ترى الراوي يقول: « فقلت للزهري: لا تحدّث بهذا بالشام وأنت ملء أذنيك سب علي، فقال: والله عندي من فضائل علي ما لو حدثت لقتلت »(١) .
ويقول آخر: « رأيت ابن أبي أوفى - وهو في دهليز له بعد ما ذهب بصره - فسألته عن حديث، فقال: إنكم يا أهل الكوفة فيكم ما فيكم. قال: قلت أصلحك الله إني لست منهم، ليس عليك منّي عار. قال: أي حديث؟ قال قلت: حديث علي يوم غدير خم »(٢) .
وثالث يقول: « أتيت زيد بن أرقم فقلت له: إنّ ختنا لي حدّثني عنك بحديث في شأن علي يوم غدير خم، فأنا أحب أن أسمعه منك. فقال: إنّكم معاشر أهل العراق فيكم ما فيكم. فقلت له: ليس عليك مني بأس، فقال: نعم كنا بالجحفة قال: فقلت له: هل قالصلىاللهعليهوآلهوسلم : أللهم وال من والاه وعاد من عاداه؟ قال: إنما أخبرك بما سمعت »(٣) .
ويقول رابع: « قلت لسعد بن أبي وقاص: إني أريد أن أسألك عن شيء وإني أتّقيك. قال: سل عمّا بدا لك فإنما أنا عمّك. قال: قلت: مقام رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم فيكم يوم غدير خم »(٤) .
___________________
(١). أسد الغابة ١ / ٨.
(٢). المناقب لابن المغازلي: ١٦.
(٣). مسند أحمد ٤ / ٣٦٨.
(٤). كفاية الطالب: ٦٢٠.
ويجيء خامس فيحلّف زيد بن أرقم قائلاً: « أفي القوم زيد؟ قالوا: نعم هذا زيد، فقال: أنشدك بالله الذي لا إله إلّا هو يا زيد، أسمعت رسول الله »(١) .
ومن هنا ترى ابن عبد البر يقول: « من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. وبعضهم لا يزيد عن: من كنت مولاه فعلي مولاه »(٢) . أي لا يروي ذيل الحديث.
وترى بعضهم لا يروي صدره: « ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ».
وطائفة منهم لم يرووا معه حديث الثقلين: « إني تارك فيكم » المقترن به.
إلى غير ذلك من تصرّفاتهم
ومن هنا يبدو لك طبيعياً روايتهم لقضية واحدة بأنحاءٍ مختلفةٍ، فجماعة يروون: « قدم معاوية في بعض حجّاته، فدخل على سعد، فذكروا علياً فنال منه، فغضب سعد » وذكّره بخصال لعلي منها حديث الغدير.
وابن كثير يرويه فيحذف منه « فنال منه فغضب سعد »(٣) .
ويأتي ثالث فيقول: « إنه ذكر علي عند رجل وعنده سعد بن أبي وقاص. فقال له سعد: أتذكر علياً؟! »(٤) .
ورابع يروي عن سعد نفسه: كنت جالساً فتنقصوا علي بن أبي طالب. فقلت: لقد سمعت ...»(٥) .
___________________
(١). المعجم الكبير ٥ / ٢١٩ - ٢٢٠.
(٢). الاستيعاب ٣ / ١٠٩٩.
(٣). تاريخ ابن كثير ٧ / ٣٤٠.
(٤). فضائل علي لاحمد بن حنبل - مخطوط.
(٥). خصائص علي للنسائي ٤٩ - ٥٠.
وخامس يحذف القصة من أصلها فيقول: « عن سعد بن أبي وقّاص، قال قال رسول الله: في علي ثلاث خلال »(١) .
فنقول: لما ذا هذا التحريف والتشويه لو لا دلالة حديث الغدير على الامامة والخلافة بعد رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم ؟ ولماذا هذا الكتمان سواء كان عن خوف أو عناد وحسد؟
ولك أن تنتقل من هؤلاء إلى الذين عاصروا القصة وحضروا الواقعة، لترى الرجل منهم يجيء إلى النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم - فيقول: « أمرتنا بالشهادتين عن الله فقبلنا منك، وأمرتنا بالصلاة والزكاة، ثم لم ترض حتى فضّلت علينا ابن عمك؟ أألله أمرك أم من عندك؟ »(٢) .
ولترى جماعة منهم ينكرون أو يكتمون ما شاهدوه وسمعوه ووعوه، فيدعو عليهم الامام عليه الصلاة والسلام.
ولترى أبا الطفيل يقول: « خرجت وكان في نفسي شيء، فلقيت زيد بن أرقم فقلت له: إني سمعت علياًرضياللهعنه يقول كذا وكذا. قال: فما تنكر قد سمعت رسول الله يقول ذلك له »(٣) .
إلى غير ذلك مما ستقف عليه في بحوث الكتاب إن شاء الله تعالى.
أهمية حديث الغدير والاهتمام به
وهذا الذي ذكرناه يدل على أهمية حديث الغدير، وأثره في الاسلام ومصير المسلمين، فإنه بدلالته علي امامة عليعليهالسلام بعد رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - بلا فصل يدل على بطلان خلافة من تقدم عليه.
___________________
(١). حلية الأولياء ٤ / ٣٥٦.
(٢). تفسير القرطبي ١٨ / ٢٧٨.
(٣). مسند أحمد ٤ / ٢٧٠.
ومن هنا يظهر لك السر في اهتمام الامامعليهالسلام بنفسه، وكذا سائر أئمة أهل البيت، وعلماء الامامية، بإثبات هذا الحديث الشريف سنداً ودلالة، ونشره بين الأمة بشتى الوسائل والطرق، وبقائه في الأذهان والأفكار على مدى الدهور والأعصار، فترى الامام يناشد الأصحاب بهذا الحديث في يوم الشورى، وفي يوم الرحبة، وفي يوم الجمل، والصدّيقة الزهراء تحتج به فيما رواه الحافظ ابن الجزري، وكذلك سائر أئمة أهل البيت.
بل احتج به بعض الاصحاب من خصماء عليعليهالسلام ، فقد احتج به سعد بن أبي وقاص عند ما غضب من نيل معاوية منهعليهالسلام ، واحتج به عمرو بن العاص في كتاب له إلى معاوية فيما رواه الخوارزمي.
ولهذا السبب أيضاً كثرت الكتب المؤلفة في هذا الحديث سلفاً وخلفاً من علماء الفريقين.
وعلى الجملة، فإنه حديث نزلت في مورده الآيات من القرآن الكريم، وحضر صدوره عشرات الالوف من المسلمين، واهتم به الأئمة المعصومون وكبار الأصحاب، ونص على تواتره كبار علماء المخالفين، وألف فيه المؤلفون من الفريقين.
وإنّ ما ذكرناه حول خطبة الغدير، والنكت الموجودة في بعض ألفاظ حديث الغدير وطرقه، وشدة الاهتمام به منذ صدر الإسلام إلى يومنا الحاضر كلّ ذلك يشكل جانبا من جوانب دلالة حديث الغدير على الامامة والخلافة.
تمحلات القوم في الجواب
ومن جانب آخر اضطراب علماء القوم أمام حديث الغدير، وتمحّلاتهم الغريبة في الجواب عنه، وسعيهم الحثيث في سبيل إسقاطه عن الاعتبار ومنع الاحتجاج به، فإن ذلك يكشف عن قوة هذا الاحتجاج، وتمامية دلالته على الخلافة والامامة.
فهم بعد ما رأوا أن لا جدوى في الكتمان والإنكار، ولا في التحريف والاسقاط لجأ بعضهم إلى القول بأن علياً لم يكن مع النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم - في حجة الوداع، فإنه كان باليمن، لكن ردّ عليه جماعة من أعلامهم - وفيهم بعض المتعصبين كابن حجر المكي - لمصادمته للواقع والحقيقة.
فقال بعضهم: هذا خبر واحد لا يفيد علماً.
وأجاب عنه جماعة، منهم الحافظ ابن الجزري، فقال: « صحّ عن جماعة ممن يحصل القطع بخبرهم ».
فقيل: إنه حديث لم يخرجه الشيخان وأبو داود.
وأجيب: لو سلّمنا بأنّ جميع ما في كتابيهما صحيح، فما الدليل على أن ما لم يخرجاه ليس بصحيح، وقد نصّ جماعة على أنّه كم من صحيح لم يخرجاه؟
على أنه مخرج في كتابي الترمذي وابن ماجة وهما من الصحاح، وفي مسند أحمد وغيره من المسانيد، وفي المستدرك على الصحيحين، وفي المختارة للضياء، وغيرها مما التزم فيه بالصحة.
ولما رأى بعضهم أن كل هذا لا يجدي، ولا رواج له في سوق الاعتبار، ولا يقع موقع القبول حتى عند أهل مذهبهم، قالوا:
إن ( مفعلاً ) لا يأتي بمعنى ( أفعل ) فليس « مولى » بمعنى « أولى ».
ولكن المرجع في أمثال هذا هو اللغة، وقد نصّ اللغويون على مجيء ( مولى ) بمعنى ( أولى )، وأنه قد ورد بهذا المعنى في الكتاب والسنة واستعمالات العرب، أضف إلى ذلك - في خصوص حديث الغدير - فهم الحاضرين في ذلك المشهد العظيم، فمنهم من اغتاض من هذا الكلام حتى سأل العذاب الواقع، ومنهم من سرّ به واقعاً٠ وظاهراً، وهم خواص الاصحاب الموالين لأمير المؤمنين، ومنهم من تظاهر بالسرور والفرح وهنأه، ولا تنس بعد ذلك شعر حسان بن ثابت وغير ذلك.
فعاد وقال: فأي دليل على أن يكون معنى الحديث: كون علي « الاولى
بالتصرف » فليكن « الأولى بالمحبة » مثلا.
لكن بعضهم الآخر تنبّه إلى برودة هذا الكلام، فاعترف بدلالة الحديث على الأولوية بالتصرف، وأن هذه « الاولوية » هي « الامامة »، ولكن ما الدليل على إمامة علي بمعنى الرئاسة والحكومة؟ فليكن إماماً في الباطن، ويكون أبو بكر ومن بعده الأئمة في الظاهر؟
قال هذا وكأنه قد فوّض إليه أمر تقسيم الامامة، فلهذا الامامة الباطنية، ولأولئك الامامة الظاهرية، وبذلك يقع التصالح ويحسم النزاع!! ولا يغيب عن المنصفين: إن هذه الكلمات - في الوقت الذي تكشف عن سوء سريرة قائليها وتعصبهم للهوى - تدل على قوة دلالة حديث الغدير، ورصانة الاحتجاج به على الامامة والخلافة.
هذا الكتاب
وقد وضعنا كتابنا هذا في ثلاثة أقسام:
الأول: المدخل، وهو في مجلد، خصصناه لمقدّمات البحث، من ذكر المؤلفات في حديث الغدير، وإثبات تواتره، ودحض بعض الشبهات حوله.
والثاني: السند وهو في مجلد واحد أيضاً.
والثالث: في دلالته وهو في مجلّدين.
فيكون المجموع أربعة أجزاء.
والله أسأل أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يتقبلها بقبول حسن، إنّه سميع مجيب، وهو الموفّق والمعين.
علي الحسيني الميلاني
كلمة السيد صاحب العبقات
أحمد الله حمد موقن بنعمه، مذعن بكرمه، مستعيذ من نقمه، مستجير بذممه متوقّ من عقابه، لائذٍ بجنابه، عائذٍ من عذابه، هاربٍ من نيرانه، راغبٍ إلى جنانِه، طالبٍ لأمانه، آئبٍ إلى رضوانه، متبتلّ خاشعٍ لجلاله، متوسّلٍ ضارعٍ إلى إفضاله، مبتغٍ مستزيد لنواله، سائلٍ مستكثرٍ لإِسباله، على ما أبان الحجّة وأوضح المحجّة، وأتمّ الدّين وأكمل النعمة، وأمر نبيّه بتبليغ ما أنزل إليه ووعده بالعصمة، فنصب وصيّه إماماً يوم غدير، وجعله أمير كلّ صغير وكبير.
وأشكره على ما أوزعنا من الثقة والإِيمان، والحق الحقيق الحريّ بالإِذعان، وأنار لنا منهاجاً سويّاً وطريقاً رضيّاً، ومذهباً صادعاً ومدرجاً لامعاً، وأزاح عنا العلّة وانقطع الظمأ والغلّة، وأضاء لنا البراهين والأدلّة، ونجّانا عن العوج والمضلّة.
والصلاة على رسوله المعتام من جرثومة السادة الأخيار، المختار على أرومة القادة الأطهار، إبتعثه بالعلم المأثور والكتاب المسطور، والنور المضي والمنهج السني، بعد احتدام من الفتن واعترام من المحن، والناس يومئذٍ في أهواء منتشرة وآراء متفرقة، وأديانٍ معلولة ومللٍ مدخولة، يقتدحون زناد الشر والأنصاب، ويعتبقون العلقم والصاب، يلحدون في اسم الله ويخترعون له الأنداد، يتيهون في
كلّ سبسب ويهيمون في كل واد، فلمّ شعثهم ورمَّ رثّهم، ورتق فتقهم ورقع خرقهم، وأقام أودهم وأماط عندهم، وألّف بينهم بعد تضاغن القلوب وتشاحن الصدور، وتدابر النفوس وتخاذل الأيدي وفشو الشرور.
فهداهم إلى دينٍ عزيز المثار، أبلج المنار، صريح النصاب منير الشهاب، رائق المنصب، باذح المرقب، وفرى من الكفر والإِلحاد أوداجاً، وأزرى بكل من أشرك في دين الله أوداجي، فكسر وأوهن متنهم وسامهم بالخسف وضرب عليهم بالنصف، وأتعب نفسه الكريمة في إحصاف الشريعة القويمة، وخاض إلى رضوان الله كلّ غمرة وتجرّع فيه كلّ غصّة.
والسّلام على آله أصول الكرم وقادة الأمم وأولياء النعم، وأنوار البهم وأضواء الظلم ومعادن الحكم، والهادين لأوليائهم إلى طريق الأمم، والكاشفين لهم مضائق الغمم، الحافظين لهم عن مزالق اللّمم، الذين جاهدوا في الله حقّ الجهاد، وبالغوا في الهداية والإِرشاد إلى لقم الصواب والسداد، وفصموا حبل الغواية واللّداد، ورضّوا أركان الضلالة والعناد، وأبادوا خضراء الكفر والنفاق، وشقّوا عصا البدع والشقاق، الذين أمر الله ورسوله بأن نطأ جادّتهم ونركب قدّتهم، ونقتصّ جميل آثارهم، ونستضيء بأنوارهم ونغترف من بحارهم.
وبعد، فيقول العبد القاصر العاثر « حامد حسين » ألبسه الله حلل كرامته ولا سلبه غضارة نعمته، وكان في الدنيا والآخرة له، وحقّق آماله ونوّر باله وجعل كلّ خير مآله: إن هذا هو المنهج الثاني من كتابي المسمى بـ:
« عبقات الأنوار في إثبات إمامة الأئمّة الأطهار ».
الذي نقضت فيه على « الباب السابع » من « التحفة العزيزية »، وبالغت في الذبّ عن ذمار الطريقة الحقّة العلويّة، واستفدت فيه كثيراً من إفادات الوالد الماجد العلامة « المولى السيد محمد قلي » قدّس الله نفسه الزكيّة، وأفاض شآبيب رحمته على تربته السنيّة.
والله الموفق للإِتمام والإِكمال، ومنه الاتّجاد في المبدء والمآل.
كلام الدهلوي حول حديث الغدير
قال المحدث المولوي عبد العزيز الدهلوي:
اما الأحاديث التي تمسكوا بها لإِثبات مدّعاهم فهي كلّها اثنا عشر حديثاً الأول: حديث غدير خم، الذي يذكرونه في كتبهم مع التبجح الكثير به، ويجعلونه نصّاً قطعيّاً على المدعى، وحاصله، أنه قد روى بريدة بن الحصيب الأسلمي أن النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم - لـمّا بلغ غدير خم - موضع بين مكة والمدينة - عند رجوعه من حجّة الوداع، جمع المسلمين الذي كانوا معه، وخطب فيهم قائلاً: يا معشر المسلمين ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى. قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، أللهمَّ وال من والاه وعاد من عاداه.
قالوا: إن ( المولى ) بمعنى ( الأولى بالتصرف )، والأولوية بالتصرف عين ( الامامة ).
إن أوّل ما في هذا الاستدلال هو: أن أهل العربية قاطبة ينكرون أن يكون ( المولى ) قد جاء بمعنى ( الأولى )، بل قالوا: إن ( مفعلا ) لم يجئ بمعنى ( أفعل ) في مادة من المواد، فضلاً عن هذه المادة بالخصوص، إلّا أبا زيد اللغوي فإنّه جوّز ذلك، ومستمسكه قول أبي عبيدة في تفسير ( هو مولاكم ): ( أي: أولى بكم )، لكنّ جمهور أهل العربية يخطّئون هذا القول وهذا التمسك، قائلين بأنه لو صحّ
هذا القول لزم جواز أن يقال ( فلان مولى منك ) في موضع ( أولى منك ) وهو باطل منكر بالإِجماع. وأيضاً: فإنّ تفسير أبي عبيدة بيان لحاصل معنى الآية: يعني: النار مقرّكم ومصيركم والموضع اللاّئق بكم، لا أن لفظة ( المولى ) فيها بمعنى ( الاولى ).
ثانياً: ولو سلّم - كون ( المولى ) بمعنى ( الأولى ) فما الدليل من اللغة على أن تكون الصلة ( بالتصرف )؟ إذ يحتمل أن يكون المراد: الأولى بالمحبة والأولى بالتعظيم، وأيّ ضرورة لأن يحمل لفظ ( الأولى ) على ( الأولوية بالتصرف ) في كل مورد؟ قال الله تعالى( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) ، وواضح أن أتباع ابراهيم لم يكونوا أولى بالتصرف منه.
ثالثاً: إن القرينة المتأخرة تدل بصراحة على أن المراد من الولاية المستفادة من لفظ ( المولى ) أو ( الأولى ) – أيّاً ما كان - هو المحبة، وتلك القرينة قوله: « اللهمَّ وال من والاه وعاد من عاداه ». ولو كان ( المولى ) بمعنى ( المتصرف في الأمر ) أو كان المراد بالأولى هو ( الأولى بالتصرف ) لكان المناسب أن يقول: اللهمَّ أحبَّ من كان تحت تصرّفه، وأبغض من لم يكن تحت تصرفه. فذكر محبته ومعاداته دليل صريح على أنّ المقصود إيجاب محبته، والتحذير من معاداته، لا التصرف وعدم التصرف.
ومن المعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام كان قد بلّغ أدنى الواجبات بل السنن بل آداب القيام والقعود والأكل والشرب، بوجه يفهم الكلّ - سواء الحاضر والغائب، ممّن عرف لغة العرب - المعاني المقصودة من ألفاظه بلا تكلّف، وفي ذلك - في الحقيقة - كمال البلاغة، وهو مقتضى منصب الإرشاد والهداية، فدعوى الاكتفاء حينئذ بمثل هذا الكلام الذي لا تساعده قواعد لغة العرب، يستلزم إثبات قصور البيان والبلاغة، بل المساهلة في أمر التبليغ والهداية في حق النبي، والعياذ بالله من ذلك.
فقد ظهر أن غرضهصلىاللهعليهوآلهوسلم - إفادة هذا المعنى،
الذي يفهم من هذا الكلام بلا تكلّف، أي أن محبة علي فرض كمحبّة النبي، ومعاداته محرمة كمعاداة النبي، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، وهو المطابق لفهم أهل البيت:
أخرج أبو نعيم عن الحسن المثنى ابن الحسن السبط رضي الله عنهما أنه سئل: هل حديث من كنت مولاه نصّ على خلافة عليرضياللهعنه ؟ فقال: لو كان رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - يعني بذلك الخلافة لأفصح لهم بذلك، فإن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - كان أفصح الناس، ولقال لهم: يا أيها الناس هذا والي أمركم والقائم عليكم بعدي فاسمعوا له وأطيعوا. ولو كان الأمر أن الله جلّ وعلا ورسولهصلىاللهعليهوآلهوسلم - اختار عليّا لهذا الأمر، وللقيام على الناس بعده فإنّ عليّا أعظم الناس خطيئة وجرما، لأنّه ترك أمر رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - أن يقوم فيه كما أمره ويعذر إلى الناس.
فقيل له: ألم يقل النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم - لعلي: من كنت مولاه فعلي مولاه؟
فقال: أما والله لو يعني رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - بذلك الأمر والسلطان، لأفصح به كما أفصح بالصّلاة والزكاة، ولقال: يا أيّها الناس إن علياً والي أمركم من بعدي والقائم في الناس.
وأيضاً: ففي الحديث دلالة صريحة على اجتماع الولايتين في زمانٍ واحد، إذ لم يقع فيه التقييد بلفظ ( بعدي )، بل سوق الكلام هو للتسوية بين الولايتين في جميع الأوقات ومن جميع الوجوه، لوضوح امتناع كون علي شريكاً للنبي في كل ما يستحق النبي التصرف فيه في حال حياته، فهذا أدلّ دليلٍ على أن المراد وجوب المحبة، إذ لا مانع من اجتماع المحبّتين، بل إنّ كلاً منهما مستلزم للآخر، أما في اجتماع التصرفين فالمحاذير كثيرة، فإن قيّدنا بما يدل على إمامته في المآل دون الحال فمرحباً بالوفاق، لأن أهل السنة قائلون بذلك في حين إمامته، ووجه تخصيص المرتضى بذلك علمهصلىاللهعليهوآلهوسلم - من طريق الوحي بوقوع البغي والفساد
في زمان المرتضى، وأن بعض الناس سينكرون إمامته.
ومن الطّريف أن بعض علمائهم تمسّك لإِثبات أن المراد من ( المولى ) هو ( الأولى بالتصرف )، باللفظ الواقع في صدر الحديث، وهو قوله: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم. فيعود الاشكال بأنّهم متى سمعوا لفظ ( الأولى ) حملوه على ( الأولى بالتصرف )، فما الدليل على هذا الحمل في هذا المورد؟ بل المراد هنا أيضاً هو: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم في المحبة، بل إنّ ( الأولى ) هاهنا مشتق من ( الولاية ) بمعنى ( المحبة )، يعني: ألست أحب إلى المؤمنين من أنفسهم، حتى يحصل التلائم بين أجزاء الكلام والتناسق بين جمله، ويكون حاصل معنى هذه الخطبة: يا أيّها المسلمون عليكم أن تجعلوني أحب إلى أنفسكم من أنفسكم، وأن من يحبّني يحب عليّاً، أللهمَّ أحب من أحبّه، وأبغض من أبغضه، وكل عاقل يصدّق بصحة هذا الكلام وحسن انتظامه.
وإن قول النبي: « ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم » مأخوذ من الآية القرآنية، ومن هنا جعل هذا المعنى من المسلّمات لدى أهل الإسلام، وفرّع عليه الحكم اللاحق له.
ولقد وقع هذا اللفظ في القرآن في موقع لا يصح أنْ يكون معناه ( الأولى بالتصرف ) أصلاً، وهو قوله تعالى:( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ) ، فإن سوق هذا الكلام هو لنفي نسبة المتبنى إلى المتبني، ولبيان النهي عن أن يقال لزيد بن حارثة: زيد بن محمد، لأنّ نسبة النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم - إلى جميع المسلمين نسبة الأب الشفيق إلى أبنائه، بل فوق ذلك، ونساء النبي أمهات أهل الإسلام، وأهل القرابة أحق وأولى في الانتساب من غيرهم، وإنْ كانت شفقتهم وتعظيمهم أكثر، فمدار الانتساب هي القرابة المفقودة بين المتبني والمتبنى، لا على الشفقة والتعظيم، وهذا هو كتاب الله أي حكمه، ولا دخل للأولى بالتصرف في المقصود في هذا المقام، فكذلك الأمر في الحديث، والمراد في الآية هو المراد فيه.
ولو سلّمنا كون المراد من صدر الحديث هو ( الأولى بالتصرف ) فإنّه لا وجه لحمل ( المولى ) على ( الأولى بالتصرف ) كذلك، لأنّه إنّما صدّر الحديث بتلك العبارة لينبّه السامعين، كي يتلقوا الكلام بكل توجّه وإصغاء، ويلتفتوا إلى وجوب إطاعة هذا الأمر الإِرشادي، كما يقول الأب لولده في مقام الوعظ والنصيحة: الست أنا أباك، فلمّا يقرّ الولد يأمره بما يريد، حتى يطيع أمره بمقتضى علاقة الأبوة والنبوة، فقوله في هذا المقام: « ألست أولى بالمؤمنين » نظير قوله: ألست رسول الله إليكم، أو ألست نبيّكم. وأما أخذ لفظة واحدة من الحديث وجعلها وحدها مورد العلاقة والربط بما في صدره فمن كمال السفاهة، بل يكفي الارتباط الموجود بين جميع الكلام مع هذه العبارة.
والأغرب من ذلك إستدلال بعض مدقّقيهم على عدم إرادة المحبّة، بأنّ إيجاب محبة الأمير دلت عليه الآية( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) فلو كان معنى حديث الغدير ذلك أيضاً كان لغواً، ولم يعلم بأنّ الدلالة على محبة شخص بدليل عامٍ أمر، وإيجاب محبّته بدليلٍ خاص أمر آخر، ومن هنا لو آمن إنسان بجميع أنبياء الله ورسله، ولم يجر على لسانه خصوص « محمد رسول الله » لم يعتبر مسلماً، فالمراد من الحديث إيجاب محبّة علي بشخصه، وإن تقدم ما يدل على وجوب محبته ضمن عموم المؤمنين.
وعلى تقدير وحدة المضمون في الآية والحديث فأيّ قبحٍ فيه؟ إنّ شأن النبي هو التأكيد على مضامين الآيات والتذكير بها، لا سيّما متى رأى تهاوناً من المكلّفين في العمل بموجب القرآن، قال تعالى:( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) ، وما من شيء دلّت عليه آية من القرآن إلّا وأكدت عليه الآيات الأخرى، ثمّ الأحاديث على لسان النبي، حتى تتم النعمة والحجّة، وإنّ من نظر في القرآن والحديث لا يتفوه بمثل هذا الكلام الفارغ، و إلّا لزم أن تكون تأكيدات النبي وتقريراته في أبواب الصوم والصلاة والزكاة وتلاوة القرآن كلّها لاغية، ويكون التنصيص على إمامة الأمير - كما يدعيه الشيعة - مرة بعد أخرى والتأكيد عليها
لغواً باطلاً، معاذ الله من ذلك.
وإنّ سبب هذه الخطبة - كما روى المؤرخون وأصحاب السير - يدل بصراحة على أن الغرض إفادة محبة الأمير، وذلك أن جماعة من الأصحاب الذين كانوا معه في اليمن مثل بريدة الاسلمي، وخالد بن الوليد وغيرهما من المشاهير، جعلوا يشكون لدى رجوعهم من الأمير عند النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم - شكايات لا مورد لها، فلمّا رأى رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - شيوع تلك الأقاويل بين الناس، وأنه إنْ منع بعضهم عن ذلك حمل على شدّة علاقته بالأمير، ولم يفد في ارتداعهم، لهذا خطب خطبة عامة، وافتتح كلامه بنصٍ من القرآن قائلاً: « ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم » يعني أن كلما أقوله لكم ناشئ من شفقتي عليكم ورأفتي بكم، وليس الغرض الحماية عن أحد، وليس ناشئاً من فرط المحبة له.
وقد روى محمد بن اسحاق وغيره من أهل السير هذه القصة بالتفصيل »(١) .
___________________
(١). التحفة الاثنا عشرية: ٢٠٨.
أقول: إنّ أول ما في هذا الكلام هو: حصر ( الدهلوي ) الأحاديث النبوية الشريفة الدالّة على خلافة أمير المؤمنينعليهالسلام وولايته المطلقة في « اثني عشر حديثاً »، وهذا إنكار للحقيقة الراهنة ولسنا ندري أهو حصر عقلي أم استقرائي؟ أما العقل فلا سبيل له إلى الحكم في مثل هذه القضايا والبحوث، وإنْ كان حصراً استقرائياً فإن الواقع خلاف ما زعمه، فإنّ النصوص الواردة في هذا المضمار تبلغ في العدد الأضعاف المضاعفة لهذا العدد المزعوم كما لا يخفى على الخبير المنصف.
وأمّا الأحاديث الدالة على أفضلية سيدنا أمير المؤمنينعليهالسلام من غيره من الأصحاب، فهي تفوق حدّ الحصر والعدّ، ولم نجد أحداً من علماء الحق - ولا من المخالفين ممن يتجنّب الكذب والخيانة - تعرّض لهذا أو تصدّى لاستقصاء هذا النوع من الأحاديث، وهذه كتبهم موجودة ومنتشرة في البلاد، فلتراجع. نعم اكتفى علماؤنا - لدى البحث عن هذه الناحية وإثبات أفضلية الامامعليهالسلام - بذكر أحاديث في الباب، وهي نزر من كثير وفيض من غيض.
وبالنظر إلى هذه الحقيقة الراهنة التي أشرنا إليها، نجد نصر الله الكابلي - مع تعصّبه الشديد - لا يتطّرق بصراحة إلى دعوى حصر الأحاديث المستدل بها في
باب الإِمامة في عدد، وإنْ كان كلامه كالصّريح في ذلك، حيث قال في ( الصواعق ): « المطلب الرابع: في إبطال استدلال الرافضة على أن الامام بعد النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم - عليّ، بأحاديث أهل السنّة، وهي اثنا عشر، الأول: ما رواه بريدة بن حصيب وغيره ».
لكن ( الدهلوي ) لفرط أمانته!! حصر تلك الأحاديث في العدد الذي ذكره مصرحا بهذا المعنى، ولقد كان هذا ديدنه في سائر القضايا الواضحة والمسائل البيّنة
ثمّ إنّ هناك أحاديث أقوى سنداً وأبلغ وأوضح دلالة من هذه الأحاديث الاثني عشر التي ذكرها ( الدهلوي ) تبعاً للكابلي، يتمسك بها أهل الحق في إثبات مطلوبهم، فهو - بالإضافة إلى بطلان دعوى حصر الأحاديث في العدد المذكور - مآخذ على تركه الأحاديث الأقوى من هذه في السنة والدلالة، على الإِمامة الكبرى والخلافة العظمى.
وهذا أوان الشروع في الردّ على ما ذكره ( الدهلوي ) وغيره حول حديث الغدير، وبيان بطلان كلماتهم الواهية في هذا المجال.
المؤلّفون في حديث الغدير
و ( للدهلوي ) في هذا الكلام صنيع شنيع آخر، وذلك قوله: « إنّه قد روى بريدة بن الحصيب الأسلمي ».
فإنه يعني أنه من حديث « بريدة » فحسب، ولم تسمح له نفسه بالإِشارة إلى أنّ هذا الحديث قد ورد من رواية غيره من الصحابة، مع ان الكابلي قد نص على ذلك في عبارته السالفة، وكأنّ ( الدهلوي ) يسعى بذلك وراء إخفاء فضائل أمير المؤمنينعليهالسلام واسدال الستار على الحقائق جهد المستطاع، ولكنه غفل عن أن بعض التتبّع والنظر في كتب الفريقين يكشف عن سوء نيّته ويظهر خيانته، ويعلن للملأ العلمي كثرة طرق هذا الحديث الشريف وأسانيده المعتبرة، المعترف بصحتها من قبل جماعة كبيرة من الحفاظ عن طائفة كبيرة من مشاهير الأصحاب، حتى لقد جاوزت تلك الطرق والأسانيد حدّ التواتر بمراتب عديدة جداً.
ولأجل أن نبرهن على هذا الذي ذكرناه، نذكر بعض الأدلة والشواهد حسب تصريحات كبار أئمّة أهل السنّة:
(١ )
كلام ابن المغازلي
قال الفقيه المحدّث ابن المغازلي الشافعي ما لفظه: « حدثني أبو القاسم الفضل بن محمد بن عبد الله الاصفهاني - قدم علينا بواسط - إملاءً من كتابه لعشر بقين من شهر رمضان، سنة أربع وثلاثين وأربعمائة، قال: حدثني محمد بن علي ابن عمر بن مهدي، قال: حدثني سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني قال حدثني أحمد بن إبراهيم بن كيسان الثقفي الاصفهاني، قال: حدثني إسماعيل بن عمر البجلي، قال: حدثني مسعر بن كدام، عن طلحة ابن مصرف، عن عمر بن سعد، قال: شهدت علياً على المنبر ناشد أصحاب رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : من سمع رسول الله يوم غدير خم يقول ما قال فليشهد، فقام إثنا عشر رجلا منهم: أبو سعيد الخدري وأبو هريرة وأنس بن مالك، فشهدوا أنهم سمعوا رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - يقول: « من كنت مولاه فعلي مولاه، أللهمَّ وال من والاه، وعاد من عاداه ».
قال أبو القاسم الفضل بن محمد: هذا حديث صحيح عن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - وقد روى حديث غدير خم عن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم نحو مائة نفس منهم العشرة، وهو حديث ثابت لا أعرف له علّة، تفرّد علي رضي
الله عنه بهذه الفضيلة لم يشركه أحد. انتهى »(١) .
فحديث الغدير، حديث رواه - على ما ذكره ابن المغازلي - « نحو مائة نفس، منهم العشرة » المبشرة بالجنّة عندهم، وهو يدل على إمامة أمير المؤمنينعليهالسلام أو أفضليته المستلزمة لها لعدم مشاركة أحد له في هذه الفضيلة.
ابن المغازلي ثقة
ثم إنّ ابن المغازلي من كبار العلماء الثقات المعتمدين لدى أهل السنة، فقد ذكره السّمعاني(٢) والبدخشاني(٣) والكاتب الجلبي(٤) ، وأثنوا عليه.
كما نقل عن ابن المغازلي واعتمد على كتبه جماعة من أعلام علمائهم كابن حجر المكّي في ( الصواعق المحرقة ). وكمال الدين الجهرمي في ( البراهين القاطعة في ترجمة الصواعق المحرقة ) والملا مبارك في ( أحسن الأخبار في ترجمة الصواعق المحرقة ). والشريف السمهودي في ( جواهر العقدين ). والفضل ابن باكثير المكي في ( وسيلة المآل ) والبرزنجي في ( نواقص الروافض ). والشيخاني القادري في ( الصراط السوى ).
كما اعتمد جماعة منهم على كتابه ( المناقب ) بالذات، ومنهم تلميذ ( الدهلوي ) الفاضل رشيد الدين الدهلوي في كتاب ( إيضاح لطافة المقال )، وقد جعل تأليفه كتاب ( المناقب ) دليلاً على محبه أهل السنة وولائهم لأهل البيتعليهمالسلام كسائر الكتب التي ألّفها بعض علمائهم في مناقب الأئمّة الطاهرين.
بل لقد تمسك المولوي حيدر علي الفيض آبادي - مع ما هو عليه من
___________________
(١). مناقب أمير المؤمنين / ٢٦ - ٢٧.
(٢). الأنساب - الجلابي.
(٣). تراجم الحفاظ - مخطوط.
(٤). كشف الظنون ١ / ٣٠٩.
التعصب - برواية ابن المغازلي هذه في كتابه ( منتهى الكلام ) وستقف على ذلك إنْ شاء الله تعالى.
(٢ )
تصنيف ابن عقدة في طرق الحديث
ومن الشواهد على كثرة طرق حديث الغدير وتواتره: تصنيف الحافظ أبي العباس أحمد بن محمد المعروف بابن عقدة الكوفي كتاباً خاصاً بطرق حديث الغدير عن أكثر من مائة نفسٍ من كبار الصحابة بأسانيد متعددة قال السيد الجليل ابن طاوس الحلي رضي الله تعالى عنه في ذكر من صنف في طرق هذا الحديث الشريف:
« ومن ذلك: الذي لم يكن مثله في زمانه أبو العباس أحمد بن سعيد بن عقدة الحافظ، الذي زكّاه وشهد بعلمه الخطيب مصنّف تاريخ بغداد، [ فانه ] صنف كتاباً سماه: ( حديث الولاية )، وجدت هذا الكتاب بنسخة قد كتبت في زمان أبي العباس ابن عقدة مصنفه، تاريخها سنة ثلاثين وثلاثمائة، صحيح النقل، عليه خط الطوسي وجماعة من شيوخ الإسلام، لا يخفى صحة ما تضمّنه على أهل الافهام، وقد روى فيه نص النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم على مولانا عليعليهالسلام بالولاية من مائة وخمس طرق »(١) .
وقال السيد المذكور أيضاً: « وقد صنّف العلماء بالأخبار كتباً كثيرة في حديث
___________________
(١). الإقبال بصالح الأعمال / ٤٥٣.
الغدير وتصديق ما قلناه، وممن صنّف تفصيل ما حقّقناه أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني، الحافظ المعروف بابن عقدة، وهو ثقة عند أرباب المذاهب، وجعل كتاباً مجرّداً سمّاه ( حديث الولاية ) وذكر الأخبار عن النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - بذلك وأسماء الرواة من الصحابة، والكتاب عندي الآن.
وهذه أسماء من روي عنهم حديث الغدير ونص النبي على علي بالخلافة، وإظهار ذلك عند الكافة، ومنهم من هنأه بذلك:
[ ذكر من روى عنه ابن عقدة حديث الغدير من الصحابة ]
أبو بكر عبد الله بن عثمان
عمر بن الخطاب
عثمان بن عفان
علي بن أبي طالب
طلحة بن عبيد الله
الزبير بن العوام
عبد الرحمن بن عوف
سعد بن مالك ( وهو سعد بن أبي وقاص )
العباس بن عبد المطلب
الحسن بن علي بن أبي طالب
الحسين بن علي بن أبي طالب
عبد الله بن العباس
عبد الله بن جعفر بن أبي طالب
عبد الله بن مسعود
عمار بن ياسر
أبوذر جندب بن جنادة الغفاري
سلمان الفارسي
أسعد بن زرارة الأنصاري
خزيمة بن ثابت الأنصاري
أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري
سهل بن حنيف الأنصاري
عثمان بن حنيف الأنصاري
حذيفة بن اليمان
عبد الله بن عمر بن الخطاب
البراء بن عازب الأنصاري
رفاعة بن رافع الأنصاري
سمرة بن جندب
سلمة بن الأكوع الأسلمي
زيد بن ثابت الأنصاري
أبو ليلى الأنصاري
أبو قدامة الأنصاري
سهل بن سعد الأنصاري
عدي بن حاتم الطائي
ثابت بن يزيد بن وديعة
كعب بن عجرة الأنصاري
أبو الهيثم بن التيهان الأنصاري
هاشم بن عتبة بن أبي وقاص الزهري
المقداد بن عمرو الكندي
عمران بن حصين الخزاعي
عمر بن أبي سلمة
عبد الله بن أبي عبد الأسد المخزومي
بريد بن الحصيب الأسلمي
جبلة بن عمر الأنصاري
أبو هريرة الدوسي
أبو برزة فضلة بن عبيد الأسلمي
أبو سعيد الخدري
جابر بن عبد الله الأنصاري
جرير بن عبد الله
زيد بن أرقم الأنصاري
أبو رافع مولى رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم
أبو عمرة بن عمرو بن محصن الأنصاري
أنس بن مالك الأنصاري
ناجية بن عمر الخزاعي
أبو زينب بن عوف الأنصاري
يعلى بن مرة الثقفي
سعيد بن سعد بن عبادة الأنصاري
حذيفة بن أسيد أبو سريحة الغفاري
عمرو بن الحمق الخزاعي
زيد بن حارثة الأنصاري
مالك بن الحويرث
أبو سليمان جابر بن سمرة السوائي
عبد الله بن ثابت الأنصاري
حبشي بن جنادة السلولي
ضميرة الأسدي
عبيد بن عازب الأنصاري
عبد الله بن أبي أوفى الأسلمي
زيد بن شراحيل الأنصاري
عبد الله بن بسر المازني
النعمان بن العجلان الأنصاري
عبد الرحمن بن يعمر الديلي
أبو الحمراء خادم رسول الله،صلىاللهعليهوآلهوسلم
أبو فضالة الأنصاري
عطية بن بسر المازني
عامر بن ليلى الغفاري
أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني
عبد الرحمن بن عبد ربّه الأنصاري
حسان بن ثابت الأنصاري
سعد بن جنادة العوفي
عامر بن عمير النميري
عبد الله بن ياميل
حبة بن جوين العرني
عقبة بن عامر الجهني
أبو ذؤيب الشاعر
أبو شريح الخزاعي
أبو جحيفة وهب بن عبد الله السوائي
أبو أمامة الصدي عن عجلان الباهلي
عامر بن ليلى بن ضمرة
جندب بن سفيان البجلي
أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي
وحشي بن حرب
قيس بن ثابت بن شماص الأنصاري
عبد الرحمن بن مدلج
حبيب بن بديل بن ورقاء الخزاعي
فاطمة بنت رسول الله،صلىاللهعليهوآلهوسلم
عائشة بنت أبي بكر
أمّ سلمة أمّ المؤمنين
أمّ هاني بنت أبي طالب
فاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب
أسماء بنت عميس الخثعمية
ثمّ ذكر ابن عقدة ثمانية وعشرين رجلاً من الصحابة لم يذكرهم ولم يذكر أسمائهم أيضاً »(١) .
___________________
(١). الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف. ومن الذين رووا حديث الغدير:
(١) أبي بن كعب الأنصاري الخزرجي.
(٢) جبير بن مطعم بن عدي القرشي.
(٣) أبو جنيدة جندع بن عمرو بن مازن الأنصاري.
(٤) رفاعة بن عبد المنذر الأنصاري.
(٥) زيد بن عبيد الله الأنصاري.
(٦) سعد بن عبادة الأنصاري.
(٧) سعيد بن زيد القرشي العدوي.
(٨) عبد الله بن بديل بن ورقاء.
(٩) عبد الله بن حنطب القرشي المخزومي.
(١٠) عبد الله بن ربيعة.
(١١) عبد الله بن مسعود.
(١٢) عمارة الخزرجي الأنصاري.=
ذكر من صرح بتأليف ابن عقدة الكتاب المذكور
هذا، وقد نصّ على تصنيف أبي العباس ابن عقدة مصنّفاً في جمع طرق حديث الغدير عدّة من أكابر أهل السنة، نذكر بعضهم في ما يلي:
١ ) ابن تيمية
قال ابن تيمية الحرّاني * وهو تقيّ الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيميّة الحرّاني الحنبلي المتوفى سنة ٧٢٨، توجد ترجمته في: ( المعجم المختص للذهبي ) و ( فوات الوفيات ١ / ٦٢ ) و ( تتمة المختصر - حوادث ٧٢٨ ) و ( الدرر الكامنة ١ / ١٤٤ ) و ( طبقات الحفاظ / ٥١٦ ) و ( الوافي بالوفيات ٧ / ١٥ ) وغيرها *:
« وقد صنّف أبو العباس ابن عقدة مصنّفا في جمع طرقه »(١) .
٢ ) ابن حجر العسقلاني
وقال ابن حجر العسقلاني * وهو الحافظ شهاب الدين أبو الفضل أحمد ابن حجر العسقلاني المصري الشافعي، توجد ترجمته في: ( البدر الطالع ١ / ٨٧ ) و ( شذرات الذهب ٧ / ٢٧ ) و ( القلائد الجوهرية / ٣٣١ ) و ( نظم العقيان / ٤٥ )
___________________
= (١٣) عمرو بن شراحيل.
(١٤) عمرو بن العاص.
(١٥) عمرو بن مرة الجهني.
(١٦) قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري.
(١٧) أبو برزة فضلة بن عتبة الأسلمي.
(١٨) وهب بن حمزة.
(١). منهاج السنة ٤ / ٨٦.
و ( ذيل تذكرة الحفاظ / ٣٨٠ ) و ( الضوء اللامع ٢ / ٣٦ ) و ( طبقات الحفاظ / ٥٤٧ ) و ( حسن المحاضرة ١ / ٣٦٣ ) وغيرها ) *:
« وأمّا حديث « من كنت مولاه فعلي مولاه »، أخرجه الترمذي والنّسائي وهو كثير الطرق جدّا، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان »(١) .
ذكر من أورد كلام العسقلاني
ولقد أورد كلام ابن حجر هذا جماعة من أعيان أهل السنّة في كتبهم، ولنقتصر على ذكر اثنين منهم:
ألأول: الشّريف السّمهودي
قال السمهودي * وهو نور الدين أبو الحسن علي بن عبد الله الحسيني السّمهودي، المترجم له والمذكور اسمه بكلّ تعظيم وتكريم في: ( الضوّء اللامع ٥ / ٢٤٥ ) و ( النور السافر / ٥٨ ) و ( البدر الطالع ١ / ٤٧٠ ) و ( شذرات الذهب ٨ / ٥٠ ) وقد أورد كتبه في ( كشف الظنون ) وهي كتب معتمدة لديهم، كما صرّح رشيد الدين الدهلوي بأنه من أعاظم علماء أهل السنّة، واستند حيدر علي الفيض آبادي في كتبه - في الرد على الإماميّة - إلى كلماته وصرّح بأنه من جهابذة الثقات *:
« قال الحافظ ابن حجر: حديث « من كنت مولاه فعلي مولاه » أخرجه الترمذي والنّسائي وهو كثير الطرق جدّاً، واستوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان»(٢) .
الثاني: المناوي.
وقال المناوي * وهو عبد الرءوف بن تاج العارفين بن علي المنّاوي الفاسي الشّافعي، قال المحبي في ( خلاصة الأثر ٢ / ٤١٢ ): كان إماماً كبيراً وحجةً ثبتاً
___________________
(١). فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٧ / ٦١.
(٢). جواهر العقدين - مخطوط.
وقدوةً، صاحب تصانيف سائرة وأجلّ أهل عصرة بغير ارتياب وإماماً فاضلاً، وزاهداً عابداً قانتاً، وخاشعاً لله » *:
« قال ابن حجر: حديث كثير الطرق جداً، استوعبها ابن عقدة في كتابٍ مفرد، منها صحاح ومنها حسان »(١) .
٣ ) ابن حجر العسقلاني أيضا ً
وذكر ابن حجر العسقلاني كتاب ابن عقدة في مواضع من ( الإِصابة في معرفة الصحابة ) فأثبت صحبة عدد منهم، استناداً الى رواية ابن عقدة عنهم في كتاب الموالاة الذي جمع فيه طرق حديث الغدير.
فمن ذلك قوله: « عبد الله بن ياميل - آخره لام، رأيته مجوداً بخط الصريفيني، ذكره أبو العباس ابن عقدة في جمع طرق حديث « من كنت مولاه فعلي مولاه » أخرج بسند له الى إبراهيم بن محمد - أظنه ابن أبي يحيى - عن جعفر بن محمد، عن أبيه، وأيمن بن نابل - بنون وموحدة - عن عبد الله بن ياميل، قال: سمعت رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - يقول: من كنت مولاه، الحديث، واستدركه أبو موسى »(٢) .
ومن ذلك قوله: « عبد الرحمن بن مدلج، ذكره أبو العباس ابن عقدة في كتاب الموالاة، وأخرج من طريق موسى بن نصر بن الربيع الحمصي: حدثني سعد ابن طالب أبو غيلان، حدثني أبو إسحاق، حدثني من لا أحصي: أنّ عليّاً أنشد الناس في الرّحبة: من سمع قول رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : من كنت مولاه فعلي مولاه؟، فقام نفر - منهم عبد الرحمن بن مدلج - فشهدوا أنهم سمعوا إذ ذاك من رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم . وأخرجه ابن شاهين عن ابن عقدة،
___________________
(١). فيض القدير في شرح الجامع الصغير ٦ / ٢١٨.
(٢). الإصابة في أسماء الصحابة ٢ / ٣٧٤.
واستدركه أبو موسى » (١) .
ومن ذلك قوله: « أبو قدامة الأنصاري، ذكره أبو العباس ابن عقدة في كتاب الموالاة الذي جمع فيه طرق حديث « من كنت مولاه فعلي مولاه » فأخرج فيه من طريق محمد بن كثير، عن فطر، عن أبي الطفيل، قال: كنا عند علي، فقال: أنشد الله من شهد يوم غدير خم، فقام سبعة عشر رجلاً - منهم أبو قدامة الأنصاري - فشهدوا أن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - قال ذلك. واستدركه أبو موسى، وسيأتي في الذي بعده ما يؤخذ منه اسم أبيه وتمام نسبه »(٢) .
٤ ) الشّريف السمهودي
فقد ذكر كتاب ابن عقدة ونقل عنه في كتابه ( جواهر العقدين ) كما سيأتي إنْ شاء الله تعالى.
٥ ) الشيخاني القادري
وقال الشيخاني القادري * وهو محمود بن محمد بن علي الشيخاني القادري * المدني، ويظهر تعصّبه من مراجعة كتابه الذي ننقل عنه * بعد أن ذكر بعض طرق حديث الغدير: « وقد استوعب طرق الأحاديث المذكورة وغيرها ابن عقدة في كتاب مفرد، وذكر أيضاً بعضها الشيخ نور الدين السيد الجليل علي بن جمال الدين عبد الله بن أحمد الحسيني السمهودي الشافعي في كتابه المسمى: أنجح المساعي في ردّ شبهة الداعي »(٣) .
___________________
(١). الإِصابة ٢ / ٤١٣.
(٢). المصدر نفسه ٤ / ١٥٩.
(٣). الصراط السوي في مناقب آل النبي - مخطوط.
٦ ) البدخشاني
وقال البدخشاني * وهو المرزا محمد بن معتمد خان البدخشاني، وهو من كبار العلماء المشهورين في الديار الهندية، وقد أثنى عليه رشيد الدين الدهلوي وحيدر علي الفيض آبادي في كتابيهما واستندا إليه * بعد أن ذكر بعض طرق الحديث: « أقول: هذا حديث صحيح مشهور، نصّ الحافظ أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي التركماني الفارقي ثم الدمشقي على كثير من طرقه بالصحة، وهو كثير الطّرق جداً، وقد استوعبها الحافظ أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الكوفي المعروف بابن عقدة في كتاب مفرد »(١) .
وقال أيضاً: « فإنّ الحديث كثير الطّرق جداً، وقد استوعبها ابن عقدة في كتابٍ مفرد، وقد نصّ الذهبي على كثير من طرقه بالصحة »(٢) .
رواة كتاب الموالاة
لقد أثبت جماعة من الأعلام كتاب ( الموالاة ) لأبي العباس ابن عقدة، وهم ابن تيمية وابن حجر العسقلاني والسمهودي والمناوي والقادري والبدخشاني، وقد تقدّمت نصوص كلماتهم المفيدة لذلك.
وعلمنا من خلال التتبّع لكتب الأسانيد أن كتاب ( الموالاة ) من مرويّات جماعة من أعيان علماء أهل السنّة، فهم يروونه عن مؤلّفه الحافظ ابن عقدة، بسند متصل إليه فيه الحافظ ابن حجر العسقلاني، وهؤلاء هم:
___________________
(١). مفتاح النجا في مناقب آل العبا - مخطوط.
(٢). نزل الابرار بما صح من مناقب أهل البيت الأطهار: ٢١.
١ ) محمد بن عابد السندي
وهو محدّث المدينة المنورة في وقته، ومن مشاهير علماء أهل السنة في عصره قال عمر رضا كحالة: « حافظ فقيه عالم بالعربية رجع الى الحجاز وولّاه محمد علي رياسة العلماء بالمدينة، وتوفي بها في ١٨ ربيع الأول، ودفن بالبقيع، ثمّ ذكر تصانيفه، وقد أرخ وفاته بسنة ١٢٥٧(١) .
٢ ) محمد حسين الأيوبي
وهو شيخ السندي المذكور، فقد ذكره في ( حصر الشارد ) بقوله: « قد منّ الله تعالى عليّ - وله الحمد - بقراءة القرآن العظيم من فاتحته إلى خاتمته على قراءة الأئمّة السّبعة المشهورين، برواتهم الأربعة عشر المحصورة من طرقهم المشهورة، على شيخنا العلامة الفهّامة زينة دهره، وقدوة عصره، الحاوي لعلم الأديان والأبدان الجامع للفنون العقلية والنقلية، والموضّح لنا بأحسن بيان، عمّي وصنو أبي الشيخ محمد حسين بن محمد مراد الأنصاري الخزرجي الأيوبي نسباً، السندي بلدا، النقشبندي طريقة، والحنفيّ مذهباً ، رحمه الله تعالى وبوّأه دار كرامته »(٢) .
٣ ) محمد مراد الانصاري
وهو والد الأيوبي المذكور وشيخه، قال محمد عابد السندي بعد ما تقدم « قال شيخنا قرأت بها على والدنا وشيخنا الحافظ الامام المحقق ولي الله تعالى العارف الشيخ محمد مراد بن محمد يعقوب بن محمود الأنصاري السندي ».
___________________
(١). معجم المؤلفين ١٠ / ١١٣.
(٢). حصر الشارد من أسانيد محمد عابد: ٣.
٤ ) محمد هاشم السندي
وهو شيخ محمد مراد المذكور، قال السندي بعد العبارة المتقدمة: قال - يعني محمد مراد - قرأت بها جميع القرآن العظيم من فاتحته إلى خاتمته على شيخنا الامام الهمام مقتدى الأنام الشيخ محمد هاشم ».
٥ ) عبد القادر الصديقي
وهو مفتي الحنفية بمكة المكرمة في عصره وشيخ محمد هاشم السندي، قال السّندي: « قال - يعني محمد هاشم -: قرأت بها على جماعة أجلّهم علّامة دهره وحجة الله تعالى على عصره، الشيخ عبد القادر بن أبي بكر بن عبد القادر الصديقي نسباً، المكي بلداً، والحنفيّ مذهباً، مفتي الحنفيّة بمكّة المشرفة ».
وقال غلام علي آزاد بترجمة محمد طاهر الكجراتي: « ومن أحفاده الشيخ عبد القادر ابن الشيخ أبي بكر مفتي مكة المعظمة، كان عالماً جيّداً لا سيّما في الفقاهة، فصيحاً بليغاً، ومن تآليفه: الفتاوي، أربع مجلدات، ومجموعة المنشآت، توفي سنة ١١٣٨ »(١) .
وقال عبد الرحمن الكزبري الدمشقي، في ( أسانيده ) في ذكر شيوخه: « ومنهم العلامة المسند الشيخ عبد القادر الصديقي المكيّ المفتي »(٢) .
وترجم له أيضاً: المرادي في أعيان القرن الثاني عشر(٣) .
٦ ) حسن العجيمي
وهو من أعلام علمائهم، قال السندي بعد العبارة المذكورة عنه: « قال
___________________
(١). سبحة المرجان / ٤٤.
(٢). رسالة الأسانيد: ٥.
(٣). سلك الدرر ٣ / ٤٩.
عبد القادر: قرأت بها على ولي الله تعالى العارف، عمدة القرّاء قدوة الحفاظ، أبي البقاء الحسن بن علي العجيمي المكيّ ».
والعجيمي - هذا - من مشايخ إجازة شاه وليّ الله، فقد قال: « قد اتصل سندي - والحمد لله - بسبعة من المشايخ الأجلّة الكرام، الأئمّة القادة الأعلام من المشهورين بالحرمين المحترمين، المجمع على فضلهم بين الخافقين، الشيخ محمد ابن العلاء والشيخ حسن بن العجيمي المكي »(١) .
وترجم له عمر رضا كحالة وأرخّ وفاته بسنة ١١١٣(٢) .
٧ ) أحمد الشناوي
المتوفى سنة ١٠٢٨ ترجم له المحبّي ترجمةً ضافية(٣) .
وهو من أكابر مشايخ إجازة الشاه وليّ الله الدهلوي أيضاً، فقد قال الدهلوي: « وقد استفاد واستوعب الوالد الماجد أخيراً في المدينة المنورة ومكة المعظمة من أجلّاء مشايخ الحرمين بكلّ استيعاب واستقصاء، وقد كان أكثر ذلك عند جناب حضرة الشيخ أبي طاهر المدني - قدس الله سره - الذي كان وحيد عصره في هذا الباب - رحمة الله عليه وعلى أسلافه ومشايخه -. ومن حسن الاتفاق: أنّ للشيخ أبي طاهر -قدسسره - سنداً مسلسلاً إلى الصوفيّين والعرفاء حتى الشيخ زين الدين زكريا الأنصاري، وذلك أنه أخذ عن أبيه الشيخ إبراهيم الكردي، وهو عن الشيخ أحمد القشاشي، وهو عن الشيخ أحمد الشناوي، وهو عن والده الشيخ(٤) عبد القدوس الشناوي. وأيضاً عن الشيخ محمد بن أبي الحسن البكري. وأيضاً عن الشيخ محمد بن أحمد الرملي. وأيضاً عن الشيخ عبد الرحمن
___________________
(١). الإِرشاد إلى مهمات الأسناد، وقد أدرج هذه الرسالة ولده الدهلوي في رسالة أصول الحديث له.
(٢). معجم المؤلّفين ٣ / ٢٦٤.
(٣). خلاصة الأثر في اعيان القرن الحادي عشر ١ / ٢٤٣ - ٢٤٦.
(٤). كذا، والصحيح: علي بن عبد القدّوس الشناوي.
ابن عبد القادر بن فهد، وهؤلاء كلهم من أجلّة المشايخ العارفين بالله. »(١) .
٨ ) علي بن عبد القدوس الشناوي
وهو والد الشناوي المتّقدم ذكره، ومن شيوخ مشايخ الشاه ولي الله الدهلوي، والشيخ عبد الله بن سالم البصري(٢) ، وكان حيّاً سنة ١١٤٢.
٩ ) عبد الوهاب الشعراني
وهو من أكابر العلماء الثقات وجهابذة العرفاء المشهورين، وكثيراً ما تنتهي سلاسل إجازات الشاه وليّ الله الدهلوي إليه.
١٠ ) جلال الدين السيوطي
وهو أيضاً من شيوخ مشايخ والد الدهلوي، كما أثنى هو عليه في ( أصول الحديث ). وقد لقّبه المقري في ( فتح المتعال ) بمجدّد الدين النبوي في المائة التاسعة.
١١ ) ابن حجر العسقلاني
وهو الحافظ، صاحب التصانيف، شيخ الإِسلام.
١٢ ) أبو العباس المقدسي الحنبلي
وهو أحمد بن أبي بكر شيخ ابن حجر العسقلاني المذكور، ومن مشاهير الفقهاء والمحدثين، ترجم له ابن حجر بقوله: « أحمد بن أبي بكر بن أحمد أبو
___________________
(١). أصول الحديث لعبد العزيز الدهلوي: ٢٥.
(٢). الإِنتباه في سلاسل أولياء الله، الامداد بمعرفة علو الاسناد: ١٤.
العباس المقدسي، حدّث بالكثير وكان خاتمة المسندين بدمشق، مات في ربيع الآخر سنة ٧٩٨ وقد أجاز لي غير مرة. »(١) .
١٣ ) اسحاق بن يحيى الحنفي
ترجم له الذهبي في ( معجمه المختص ) بقوله: « إسحاق بن يحيى بن إسحاق المسند، عفيف الدين أبو محمد الآمدي الحنفي، ولد سنة ٧٤٢ بآمد وتفرّد بأشياء، مات في رمضان سنة ٧٢٥ ».
وأورد ابن حجر كلام الذهبي هذا ثم قال: « قلت: ثنا عنه بالسماع غير واحد، منهم أحمد بن أقبرص بن بلعاق، وحدّث بالكثير، وكان يشهد على القضاة، وكان لطيفاً بشوشاً، يتفرد بأشياء من العوالي، وعمل لنفسه معجماً، مات سنة ٧٢٥ »(٢) .
١٤ ) يوسف بن خليل الدمشقي
وهو من كبار الحفاظ، ترجم له الذهبي بقوله: « ويوسف بن خليل الحافظ الرحّال محدّث الشام »(٣) وقال السيوطي: « ابن خليل الحافظ المفيد الرحال الإِمام مسند الشام وكان حافظاً ثقة عالماً بما يقرأ عليه، لا يكاد يفوته اسم رجل، واسع الرواية متقناً »(٤) .
١٥) محمد بن حيدرة
وهو شيخ ابن خليل المتقدّم ذكره، وقد صرح العلماء بأنّ رواية العدل الثقة
___________________
(١). الدرر الكامنة ١ / ١١٧.
(٢). الدرر الكامنة ١ / ٣٨١.
(٣). العبر - حوادث سنة ٦٤٨.
(٤). طبقات الحفاظ / ٤٩٥.
عن رجل - هي وحدها - دليل عدالة المرويّ عنه وإنْ لم يصرّح الراوي باسمه، فكيف إذا كان من شيوخ الإِجازة؟
ومن ذلك: جعل ابن حجر المكيّ رواية الصحابة والتابعين عن معاوية بن أبي سفيان دليلاً على اجتهاد معاوية وإمامته!!. كما في كتاب ( تطهير الجنان ).
ومن ذلك: أخذ سيف الله بن أسد الله الملتاني رواية مالك وأبي حنيفة وجماعة دليلاً على وثاقة الإِمام جعفر بن محمد الصادق -عليهالسلام ! كما في ( تنبيه السفيه ).
ومن ذلك: استناد الذهبي في إثبات وثاقة أحمد بن عمر بن أنس بن دلهان الأندلسي إلى رواية ابن عبد البرّ وابن حزم عنه كما في ( العبر ).
ومن ذلك: اعتزاز المقري برواية ابن عبد البرّ والخطيب عن أبي الوليد الباجي كما في ( نفح الطيب ).
هذا ولقد نصّ ابن القيّم على ما ذكرنا في ( زاد المعاد ) بقوله: « وأحد القولين: إنّ مجرّد رواية عدل عن غيره هو تعديل لذلك الغير وإنْ لم يصرّح الراوي بتعديله، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل ».
ونستنتج من ذلك كله: أن رواية الحافظ ابن خليل عن ابن حيدرة تدلّ علىجلالة ابن حيدرة ووثاقته.
١٦ ) محمد بن علي بن ميمون الكوفي
وهو من الحفاظ المشهورين، قال الذهبي: « أبيّ النرسي أبو الغنائم محمد ابن علي بن ميمون الكوفي الحافظ، روى عن محمد بن عليّ بن عبد الرحمن العلوي وطبقته بالكوفة، وعن أبي إسحاق البرمكي وطبقته ببغداد، وناب في خطابة الكوفة، وكان يقول: ما بالكوفة من أهل السنة والحديث إلّا أنا. وقال ابن ناصر: كان حافظاً متقناً ما رأينا مثله، كان يتهجّد ويقوم الليل، وكان أبو عامر العبدري
يثني عليه ويقول: ختم به هذا الشأن »(١) .
١٧ ) دارم بن محمد النهشلي
وهو شيخ أبي الغنائم المذكور.
١٨ ) محمّد بن ابراهيم السري
وهو شيخ دارم المذكور.
هؤلاء رواة كتاب ( الموالاة ) وفيما يلي النص الكامل للسند:
قال الشيخ محمد عابد السندي: « وأما كتاب الموالاة لأبي العباس ابن عقدة، فأرويه عن عمي الشيخ محمد حسين بن محمد مراد الأنصاري السندي عن أبيه، عن الشيخ محمد هاشم بن عبد الغفور السندي، عن مفتي مكة الشيخ عبد القادر الصدّيقي الحنفي، عن الشيخ حسن العجيمي، عن الشيخ أحمد الشناوي، عن أبيه الشيخ علي الشناوي، عن الشيخ عبد الوهاب الشعراني، عن الحافظ السيوطي، عن الحافظ ابن حجر، عن أحمد بن أبي بكر بن عبد الحميد المقدسي، أنا إسحاق بن يحيى بن إسحاق الآمدي، عن يوسف بن خليل الحافظ، أنا أبو المعمر محمد بن حيدرة بن عمر الحسيني، أنا أبو الغنائم محمد بن علي بن ميمون، أنا دارم بن محمد بن زيد النهشلي، أنا محمد بن إبراهيم بن السري التميمي، أنا أبو العباس أحمد بن محمد بن عقدة »(٢) .
___________________
(١). العبر حوادث سنة ٥١٠ - ٤ / ٢٢، وأنظر: تذكرة الحافظ ٤ / ١٢٦٠ والنجوم الزاهرة ٥ / ٢١٢، وشذرات الذهب ٤ / ٢٩، وطبقات الحفاظ / ٤٥٨، ومرآة الجنان، وحوادث سنة ٥١٠.
(٢). حصر الشارد -حرف الميم: ١٦٢ قلت: وفي كفاية الطالب للحافظ الكنجي / ٦٢، ما نصه: « أخبرنا الحافظ يوسف بن خليل الدمشقي بحلب، قال: أخبرنا الشريف أبو المعمر بن حيدرة الحسيني الكوفي ببغداد، أخبرنا أبو الغنائم محمد بن ميمون النرسي بالكوفة، أخبرنا أبو المثني دارم ابن محمد بن زيد النهشلي، حدثنا أبو حكيم محمد بن إبراهيم السري التميمي، حدثنا أبو العباس =
ويظهر من كلام السندي في خطبة كتابه أنّه لا يذكر فيه إلّا أسانيده في الكتب المعتبرة إذْ قال: « إنَّه طالما لاذ بي بعض طلبة علم الحديث، وسألوني أن ألخّص لهم شيئاً من أسانيدي في الكتب المعتبرة ».
ترجمة ابن عقدة ووثاقته
هذا، ولما رأى المعاندون كثرة طرق حديث الغدير، بحيث جمعها واستوعبها الحافظ ابن عقدة في كتابٍ مجرد، وأنه لا يمكن الطعن في شيء من تلك الطرق عمدوا إلى الطعن في ابن عقدة نفسه، حتى لا يتم للامامية مطلوبهم بالاستناد إلى كتابه.
فهذا أبو نصر الكابلي يذكر: أن ابن عقدة ليس من أهل السنة، وكان جارودياً رافضياً، وإليك نص كلامه في المطلب السادس من ( الصواقع الموبقة ) الذي خصه بذكر المكايد: « التاسع والتسعون: نقل ما يؤيد مذهبهم عن كتاب رجل يتخيّل أنّه من أهل السنة وليس منهم، كابن عقدة كان جارودياً رافضياً، فإنّه ربّما ينخدع منه كل ذي رأي غبين، ويميل إلى مذهبهم أو تلعب به الشكوك »(١) .
وهذا ( الدهلوي ) يقلّد الكابلي في هذا الحكم كغيره، ويضيف إلى ابن عقدة: ابن قتيبة وأخطب خوارزم(٢) .
___________________
= أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني ( ابن عقدة ) وحدثنا ابراهيم بن الوليد بن حماد، أخبرنا أبي، أخبرنا يحيى بن يعلى، عن حرب بن صبيح، عن ابن أخت حميد الطويل، عن ابن جدعان، عن سعيد ابن المسيب قال: قلت لسعد بن أبي وقاص: إني أريد أن أسألك عن شيء وإني أتقيك. قال: سل عما بدا لك فإنما أنا عمك. قال: قلت: مقام رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - فيكم يوم غدير؟
قال: نعم قام فينا بالظهيرة فأخذ بيد علي بن أبي طالب، فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره. قال: فقال أبو بكر وعمر: أمسيت يا ابن أبي طالب مولى كل مؤمن ومؤمنة ».
(١). الصواقع الموبقة. المطلب السادس في المكايد.
(٢). التحفة الاثنا عشرية، الباب الثاني، المكيدة الحادية والثمانون: ٦٨.
ومن قبلهما حثالة من الناس
ولكن يكفي دليلاً على جلالة ابن عقدة وكونه من أكابر حفاظ أهل السنة: إعتماد كبار أئمتهم عليه وأخذهم بآرائه وأقواله ألا ترى أن ابن حجر العسقلاني يعتبر الرّجل صحابيّاً إستناداً إلى ( كتاب الموالاة ) المذكور، وأنه يلقّبه بأمير المؤمنين في الحديث، وأنه يصحّح كثيراً من طرق حديث الغدير في كتاب الموالاة!؟
بل إنّ كتبهم في الرجال مشحونة بذكر آراء ابن عقدة من جرحٍ وتعديلٍ ومدحٍ وذمٍ ...، فقد ذكر المزي بترجمة أحمد بن محمد بن نيزك بن حبيب أبي جعفر البغدادي: « قال أبو العباس ابن عقدة: في أمره نظر »(١) .
وقد أورد رأي ابن عقدة في هذا الرجل هكذا كلّ من: الذهبي وابن حجر العسقلاني، فقال الذهبي: « قال ابن عقدة: في أمره نظر »(٢) وقال ابن حجر « قال ابن عقدة: في أمره نظر »(٣) .
وقال الذهبي في العبر: « أبو إسحاق بن حمزة الحافظ قال ابن عقدة: قلّ من رأيت مثله »(٤) وكذا نقل قول ابن عقدة جلال الدين السيوطي بترجمة الرجل من طبقاته(٥) .
بل لابن عقدة آراؤه في علم قواعد الحديث، قال السيوطي في بيان أقسام تحمل الحديث: « السابع: إجازة المجاز كأجزتك مجازاتي، [ أو جميع ما أجيز روايته ] فمنعه بعض من لا يعتدّ به والصحيح الذي عليه العمل: جوازه، وبه قطع الحفاظ: الدارقطني و [ أبو العباس ] ابن عقدة [ الكوفي ] وأبو نعيم وأبو
___________________
(١). تهذيب الكمال ١ / ٤٧٥.
(٢). تذهيب التهذيب - مخطوط.
(٣). تهذيب التهذيب ١ / ٧٨.
(٤). العبر - حوادث سنة ٣٣٢.
(٥). طبقات الحفاظ / ٣٧١.
الفتح نصر المقدسي »(١) .
أقول: وفي هذا القدر كفاية لثبوت جلالة ابن عقدة ووثاقته.
كلمات في توثيقه
أضف إلى ذلك: توثيق علماء الرجال وفطاحل أهل السنة أبا العباس ابن عقدة، وثنائهم الصريح عليه، وتنصيصهم على رواية الأكابر عنه، واعتمادهم عليه، ولنذكر نصوص عبارات بعضهم:
١ ) السمعاني
« كان حافظاً متقناً عالماً، جمع التراجم والأبواب والمشيخة، وأكثر الرواية وانتشر حديثه، سمع أحمد بن عبد الحميد الحارثي وعبد الله بن أبي سلمة
روى عنه الأكابر من الحفاظ مثل: أبي بكر محمد بن عمر [ ابن ] الجعابي وأبي القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الطبراني، وأبي نعيم، وعبد الله بن عدي الجرجاني، وأبي الحسين محمد بن المظفر البغدادي، وأبي الحسن علي بن عمر الدارقطني، وأبي حفص عمر بن أحمد بن شاهين وخلق يطول ذكرهم
وكان الدارقطني يقول: أجمع أهل الكوفة على أنه لم ير من زمن عبد الله بن مسعود إلى زمن أبي العباس ابن عقدة أحفظ منه، وقال أبو الطيب ابن هرثمة: كنا بحضرة ابن عقدة المحدث ونكتب عنه، وفي المجلس رجل هاشمي إلى جانبه، فجرى حديث حفاظ الحديث، فقال أبو العباس: أنا أجيب في ثلاثمائة ألف حديث من حديث أهل بيت هذا سوى غيرهم - وضرب بيده على الهاشمي -
ولد في سنة أربع [ تسع ] وأربعين ومائتين ليلة النصف من المحرم، ومات سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة »(٢) .
___________________
(١). تدريب الراوي ٢ / ٤٠.
(٢). الأنساب - العقدي.
٢ ) البدخشاني
فانّه أورد كلمات السمعاني هذه، ثم قال: « قلت: ذكره الذهبي وابن ناصر الدين في طبقات الحفاظ »(١) .
٣ ) السيوطي
في ذكر حديث ردّ الشمس ردّاً على قدح ابن الجوزي في ابن عقدة: « وابن عقدة من كبار الحفاظ، والناس مختلفون في مدحه وذمه، قال الدارقطني: كذب من اتّهمه بالوضع، وقال حمزة السهمي: ما يتّهمه بالوضع إلّا طمل، وقال أبو علي الحافظ: أبو العباس إمام حافظ، محله محل من يسأل عن التابعين وأتباعهم »(٢) .
تراجم الموثقين لابن عقدة
أقول: ولنعرف هؤلاء الموثقين لابي العباس ابن عقدة فنقول: أمّا الدارقطني، فقد أوردنا ترجمته بالتفصيل في ( مجلد حديث الطير ) وأمّا السيوطي فستأتي ترجمته في كتاب ان شاء الله تعالى، وأمّا حمزة السهمي:
ترجمة السهمي
فقد قال الذهبي: « وأبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي الجرجاني الحافظ من ذرية أو شام بن العاص، سمع سنة أربع وخمسين من محمد بن أحمد بن إسماعيل الصرّام صاحب محمّد بن الضريس، ورحل الى العراق سنة ثمان وستين فأدرك ابن ماشي، وهو مكثر عن ابن عدي والاسماعيلي وكان من أئمّة
___________________
(١). تراجم الحفاظ. وهو كتاب مستخرج من الأنساب للسمعاني، وهو مخطوط.
(٢). اللئالي المصنوعة ١ / ٣٣٧.
الحديث حفظاً ومعرفة وإتقافاً »(١) .
وبمثله قال السيوطي وأضاف: « صنّف وخرّج وعدّل وصحّح وعلّل، مات سنة ٤٢٧ »(٢) .
وقال السمعاني بترجمته: « أحد الحفاظ المكثرين »(٣) .
ترجمة أبي علي الحافظ
وأمّا أبو علي النيسابوري، فقد ترجم له الذهبي بقوله: « أبو علي الحافظ الحسين بن علي بن يزيد النيسابوري، أحد الأعلام قال الحاكم: هو واحد عصره في الحفظ والإِتقان والورع والمذاكرة والتصنيف، سمع ابراهيم ابن أبي طالب وطبقته، وفي الرحلة من النسائي وأبي خليفة وطبقتهما، وكان آية في الحفظ، كان ابن عقدة يخضع لحفظه »(٤) .
وبمثله قال اليافعي(٥) .
ونقل السيوطي عن تلميذه الحاكم قوله: « وأقام ببغداد وما بها أحفظ منه إلّا أن يكون أبو بكر الجعابي، فإنّي سمعت أبا علي يقول: ما رأيت ببغداد أحفظ منه قال ابن مندة: سمعت أبا علي يقول - وما رأيت أحفظ منه -: ما تحت أديم السماء كتاب أصح من كتاب مسلم، وقال ابن منده: ما رأيت في اختلاف الحديث والإتقان أحفظ من أبي علي.
وقال القاضي أبو بكر الأبهري: سمعت أبا بكر ابن أبي داود يقول لأبي علي: من إبراهيم عن إبراهيم عن إبراهيم؟ قال: إبراهيم بن طهمان، عن إبراهيم بن
___________________
(١). العبر - حوادث سنة ٤٢٧.
(٢). طبقات الحفاظ / ٤٢٢.
(٣). الأنساب - الحافظ.
(٤). العبر - حوادث سنة ٣٤٩.
(٥). مرآة الجنان، حوادث سنة ٣٤٩.
عامر البجلي، عن إبراهيم النخعي. فقال: أحسنت يا أبا علي.
قال الحاكم: كان أبو علي يقول: ما رأيت في أصحابي مثل الجعابي في حفظه، فحكيت هذا للجعابي، فقال: يقول أبو علي هذا وهو أستاذي في الحقيقة »(١) .
٤ ) محمد بن طاهر الفتنى
« حديث أسماء في رد الشمس، فيه فضيل بن مرزوق، ضعيف، وله طريق آخر فيه ابن عقدة: رافضي رمي بالكذب، ورافضي كاذب.
قلت: فضيل صدوق احتج به مسلم والأربعة، وابن عقدة من كبار الحفاظ وثّقه الناس، وما ضعّفه إلّا عصريّ متعصب، والحديث صرح جماعة بتصحيحه منهم القاضي عياض »(٢) .
٥ ) سبط ابن الجوزي
في الكلام على حديث ردّ الشمس: « وكذا قول جدي: « أنا لا أتهم به إلّا ابن عقدة » من باب الظن والشك لا من باب القطع واليقين، وابن عقدة مشهور بالعدالة، كان يروي فضائل أهل البيت ويقتصر عليها ولا يتعرض للصحابة - رضي الله تعالى عنهم - بمدحٍ ولا بذم، فنسبوه إلى الرفض »(٣) .
٦ ) الخوارزمي
« أحمد بن محمد بن سعيد بن عبد الرحمن بن زياد بن عبد الله بن العجلان
___________________
(١). طبقات الحفاظ: ٣٦٨.
(٢). تذكرة الموضوعات: ٩٦. وتوجد ترجمة محمد بن طاهر الفتني في أخبار الأخبار للشيخ عبد الحق الدهلوي، وسبحة المرجان في آثار هندوستان لغلام علي آزاد البلجرامي، وغيرهما، وستأتي خلاصتها عن « النور السافر في أخبار القرن العاشر ».
(٣). تذكرة خواص الأمة: ٥١.
أبو العباس الكوفي الهمداني المعروف بابن عقدة، كان ثقة فقيهاً عالماً بالنحو واللغة والقراءة متقناً في الحديث حافظاً لرواته، ومدار هذه المسانيد عليه »(١) .
٧ ) السبكي - في ذكر الطبقات -
« فأين أهل عصرنا من حفاظ هذه الشريعة أبي بكر الصديق
ومن طبقة أخرى من التابعين
طبقة أخرى
أخرى
أخرى
أخرى
أخرى: وأبي بكر بن زياد النيسابوري وأبي حامد أحمد بن محمد بن السرفي وأبي جعفر محمد بن عمرو العقيلي وأبي العباس الدغولي وعبد الرحمن ابن أبي حاتم
وأبي العباس ابن عقدة
فهؤلاء مهرة هذا الفن، وقد أغفلنا كثيراً من الأئمّة، وأهملنا عدداً صالحاً من المحدّثين، وإنّما ذكرنا من ذكرنا لننبّه بهم على من عداهم، ثمّ أفضى الأمر إلى طيّ بساط الأسانيد رأساً، وعدّ الإِكثار منها جهالة ووسواساً »(٢) .
أقول: ومن هذه العبارة التي اختصرناها نستفيد أموراً:
الأول: كون ابن عقدة أعظم من علماء عصر السبكي وما قبله، وبما أنّ مرتبة ( الدهلوي ) وغيره أدنى بكثير من مرتبة علماء عصر السبكي، فإنّ كلامهم غير مسموع في ابن عقدة.
الثاني: كون ابن عقدة من حفاظ الشريعة.
___________________
(١). جامع مسانيد أبي حنيفة، لأبي المؤيد الخوارزمي المتوفى سنة: ٦٥٥ توجد ترجمته في الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية ٢ / ١٣٢ وتاج التراجم: ٤٩.
(٢). طبقات الشافعية الكبرى ١ / ٣١٤ - ٣١٨.
الثالث: كون ابن عقدة في طبقة كبار أساطين الأئمّة من أهل السنّة، كالعقيلي وابن أبي حاتم و و و و
الرابع: كون ابن عقدة من مهرة فن الحديث وأئمة هذا العلم.
الخامس: كون ابن عقدة أعظم من الأئمّة الذين أغفل السبكي ذكرهم، وهم كثيرون
السادس: كون ابن عقدة كأبي بكر و و و من حفاظ الشريعة، وبعد هذا، فهل تبقى قيمة لطعن طاعنٍ أو قدح قادح؟
٨ ) السيوطي
« ابن عقدة - حافظ العصر والمحدث البحر أبو العباس كان إليه المنتهى في قوّة الحفظ وكثرة الحديث، ورحلته قليلة، ألّف وجمع، حدّث عنه الدارقطني وقال: أجمع أهل الكوفة على أنه لم يربها من زمن ابن مسعود إلى زمنه أحفظ منه.
وعنه: أحفظ مائة ألف حديث بأسنادها، وأجيب عن ثلاثمائة ألف حديث من حديث أهل البيت وبني هاشم.
وقال أبو علي: ما رأيت أحفظ منه لحديث الكوفيين. وعنده تشيّع. ولد سنة ٢٤٩ ومات في ذي القعدة سنة ٣٣٢ »(١) .
أقول: قوله: « وعنده تشيّع » ليس بقادح عندهم ولا سيّما بعد تلك الفضائل وآيات الثناء عليه - وقد قال ابن حجر الحافظ:
« والتشيع محبّة علي وتقديمه على الصحابة، فمن قدّمه على أبي بكر وعمر فهو غال في التشيع ويطلق عليه رافضي وإلّا فشيعي، وإنْ انصاف الى ذلك السب والتصريح بالبغض فغال في الرفض، وإنْ اعتقد الرجعة الى الدنيا فأشدّ في
___________________
(١). طبقات الحفاظ / ٣٤٨.
الغلو »(١) .
فالحمد لله الذي حللنا بعونه عقدة كيد ( الدهلوي ) في جرح ابن عقدة، حيث أثبتنا أنه ثقة معتمد، بأقوال الاساطين الذين بيدهم عقدة الجرح والتعديل، وهم أهل الحل والعقد في هذا الفن الجميل.
___________________
(١). فتح الباري شرح صحيح البخاري - مقدمة الكتاب: ٤٦٠.
(٣ )
تصنيف الطبري كتاباً في طرق حديث الغدير
وصنّف أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري مصنّفاً بطرق حديث الغدير قال صاحب العمدة: « وقد ذكر محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ خبر يوم الغدير وطرقه في خمسة وسبعين طريقاً، وأفرد له كتاباً سمّاه كتاب الولاية »(١) .
وقال السيد ابن طاوس -رحمهالله -: « من ذلك: ما رواه محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ الكبير، صنّفه وسمّاه كتاب الردّ على الحرقوصية روى [ فيه ] حديث الغدير وما نصّ النبي -عليهالسلام - على عليّ بالولاية والمقام الكبير، وروى ذلك من خمس وسبعين طريقاً »(٢) .
وقال -رحمهالله - أيضاً: « وأما الذي ذكره محمد بن جرير صاحب التاريخ في ذلك فإنّه مجلّد»(٣) .
وقال السيدرحمهالله : « وقد روى حديث يوم الغدير محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ من خمس وسبعين طريقاً، وأفرد له كتاباً سمّاه كتاب
___________________
(١). العمدة: ٥٥.
(٢). الاقبال: ٤٥٣.
(٣). المصدر نفسه: ٤٥٧.
الولاية، ورأيت في بعض ما صنفه الطبري في صحة خبر يوم الغدير أنّ اسم الكتاب « الردّ على الحرقوصية » يعني: الحنبلية، لأن أحمد بن حنبل من ولد حرقوص بن زهير الخارجي، وقيل: إنّما سماه الطبري بهذا الاسم لأنّ البر بهاري الحنبلي تعرّض للطعن في شيء مما يتعلّق بخبر يوم غدير خم »(١) .
ذكر من قال ذلك
هذا، وقد أثبت كتاب الطبري هذا جماعة من كبار حفّاظ أهل السنّة وعلمائهم:
١ ) الذهبي
فقد قال محمد بن إسماعيل الأمير: « قال الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ في ترجمة من كنت مولاه: ألّف محمد بن جرير فيه كتاباً، - قال الذهبي - وقفت عليه فاندهشت لكثرة طرقه »(٢) .
٢ ) ابن كثير
وستأتي ترجمته في محلها، قال بترجمة الطبري: « وقد رأيت كتاباً جمع فيه أحاديث غدير خمّ في مجلدين ضخمين، وكتابا جمع فيه طرق حديث الطير »(٣) .
٣ ) ياقوت الحموي
ترجم له ابن حجر العسقلاني [ لسان الميزان ٦ / ٢٣٩ ] بقوله « ياقوت الرومي الكاتب الحموي، قال ابن النجار: كان ذكياً حسن الفهم، ورحل في
___________________
(١). الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف، للسيد ابن طاوس: ٣٨.
(٢). الروضة الندية: شرح التحفة العلوية: ٥٧.
(٣). التاريخ لابن كثير ١١ / ١٤٧.
طلب النسب إلى البلاد والشام ومصر والبحرين وخراسان، وسمع الحديث وصنّف معجم البلدان ومعجم الادباء مات بحلب سنة ٦٢٦ » *: « وكان قد قال بعض الشيوخ ببغداد بتكذيب غدير خم وقال: إنّ علي بن أبي طالب كان باليمن في الوقت الذي كان رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - بغدير خم، وقال هذا الإنسان في قصيدة مزدوجة يصف فيها بلداً منزلاً منزلاً أبياتاً يلوّح فيها الى معنى حديث غدير، قال:
ثمّ مررنا بغدير خمّ |
كم قائل فيه بزور جمّ |
على عليّ والنبيّ الاميّ
وبلغ أبا جعفر ذلك فابتدأ بالكلام في فضائل عليّ وذكر طريق حديث خمّ »(١) .
٤ ) ابن حجر العسقلاني
قال بترجمة مولانا أمير المؤمنين -عليهالسلام -: « قلت: ولم يجاوز المؤلّف ما ذكر ابن عبد البرّ وفيه مقنع، ولكنه ذكر حديث الموالاة عن نفر سمّاهم فقط، وقد جمعه ابن جرير الطبري في مؤلَّف فيه أضعاف من ذكر وصحّحه، واعتنى بجمع طرقه أبو العباس ابن عقدة، فأخرجه من حديث سبعين صحابياً أو أكثر »(٢) .
ترجمة الطبري
وإنْ شئت أن تعرف ما لابن جرير الطبري من مكانة مرموقة لدى القوم
___________________
(١). معجم الادباء ٦ / ٤٥٥.
(٢). تهذيب التهذيب ٧ / ٣٣٩.
فضع يدك على أيّ معجم من معاجم الرجال شئت، تجد هناك المدح البليغ والثناء العظيم، وغاية التجليل والتكريم لابن جرير الطبري، وهذا بعض مصادر ترجمته:
١ - معجم الأدباء ١٨ / ٤٠.
٢ - الأنساب - الطبري.
٣ - تهذيب الأسماء واللغات ١ / ٧٨.
٤ - وفيات الأعيان ٤ / ١٩١.
٥ - العبر - حوادث سنة ٣١٠.
٦ - مرآة الجنان - حوادث سنة ٣١٠.
٧ - طبقات السبكي ٢ / ١٣٥.
٨ - تتمة المختصر في أخبار البشر - حوادث سنة ٣١٠.
٩ - لسان الميزان ٥ / ١٠٠.
١٠ - طبقات الحفاظ / ٣٠٧.
١١ - تذكرة الحفاظ / ٧١٠.
١٢ - ميزان الاعتدال ٣ / ٤٩٨.
١٣ - تاريخ بغداد ٢ / ١٦٢.
١٤ - طبقات القراء ٢ / ١٠٦.
١٥ - شذرات الذهب ٢ / ٢٦٠.
وسنترجم له بالتفصيل في هذا الكتاب إنْ شاء الله، ونكتفي هنا بذكر عبارتين فقط:
قال ابن تيمية في كلام له في الردّ على الامامية: « ولا يشكّ أنّ رجوع مثل: مالك وابن أبي ذؤيب وابن الماجشون والليث بن سعد والأوزاعي والثوري وابن أبي ليلى وشريك وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وزفر والحسن بن زياد واللؤلؤي والشافعي والبويطي والمزني وأحمد بن حنبل وأبي داود السجستاني وابراهيم
الحربي والبخاري وعثمان بن سعيد الدارمي وأبي بكر ابن خزيمة ومحمد بن جرير الطبري ومحمد بن نصر المروزي وغير هؤلاء إلى اجتهادهم واعتبارهم، مثل أن يعلموا سنّة النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - الثابتة عنه، ويجتهدوا في تحقيق مناط الاحكام وتنقيحها وتخريجها، خير لهم من أن يتمسكوا بنقل الروافض عن العسكريّين وأمثالهما، فإنّ الواحد من هؤلاء أعلم بدين الله ورسوله من العسكريّين أنفسهما، فلو أفتاه أحدهما بفتيا كان رجوعه إلى اجتهاده أولى من رجوعه إلى فتيا أحدهما، بل هو الواجب عليه، فكيف إذا كان نقلا عنهما من مثل الرافضة، والواجب على مثل العسكريّين وأمثالهما أن يتعلّموا من الواحد من هؤلاء »(١) .
أقول: ونحن لا يسعنا إلّا أنْ نقول:( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً ) (٢) .
وقال السيوطي في ( التنبئة بمن يبعثه الله على رأس كل مائة ): « وممن يصلح أن يعدّ على رأس الثلاثمائة: الإِمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، وعجبت كيف لم يعدّوه، وهو أجلّ من ابن شريحٍ وأوسع علوماً، وبلغ مرتبة الاجتهاد المطلق المستقل، ودوّن لنفسه مذهباً مستقلاً، وله أتباع قلّدوه وأفتوا وقضوا بمذهبه ويسمّون الجريرية.
وكان إماماً في كل علم من القراءة والتفسير والحديث والفقه والأصول وأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم والعربية والتاريخ، قال النّوويّ: أجمعت الأمّة على أنه لم يصنّف مثل تفسيره. قال الخطيب: كان أئمة العلماء تحكم بقوله وترجع اليه، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، قال ابن خزيمة: ما أعلم على الأرض أعلم من ابن جرير، وقد أراد الخليفة المقتدر بالله مرّة أن يكتب كتاب وقف تكون شروطه متفقاً عليها بين العلماء، فقيل له:
___________________
(١). منهاج السنة ٢ / ١٢٧.
(٢). سورة الكهف: ٥.
لا يقدر على استحضار هذا إلّا محمد بن جرير، فطلبه عند ذلك فكتبها. مات في شوال سنة عشر وثلاثمائة ».
هذا شأن الطبري صاحب التفسير والتاريخ، وراوي حديث الغدير بطرقه في كتاب ( الموالاة ).
(٤ )
تصنيف الحسكاني في طرق حديث الغدير
وصنّف أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله الحسكاني كتاباً، أثبت فيه حديث الغدير وجمع طرقه، فقد قال السيد ابن طاوس -رحمهالله -:
« ومن ذلك: ما رواه أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله الحسكاني في كتاب سماه: كتاب دعاء الهداة إلى أداء حق الموالاة »(١) .
وقال: « وصنف في حديث الغدير الحاكم عبيد الله بن عبد الله الحسكاني كتاب سمّاه: كتاب دعاء الهداة إلى أداء حقّ الموالاة، اثنا عشر كرّاساً مجلداً »(٢) .
ترجمة الحسكاني
وقد ترجم الحافظ السيوطي للقاضي الحسكاني بقوله: « الحسكاني القاضي المحدّث أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن حسكان القرشي العامري النيسابوري، ويعرف بابن الحذّاء، شيخ متقن ذو عناية تامة بعلم الحديث، عمّر وعلا أسناده وصنف في الأبواب، وجمع، وحدث عن جدّه والحاكم
___________________
(١). الإقبال: ٤٥٣.
(٢). الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف.
وأبي طاهر بن محمش، وتفقه بالقاضي أبي العلاء صاعد. أملى مجلساً صحح فيه رد الشمس لعلي، وهو يدل على خبرته بالحديث، وتشيع، مات بعد الأربعمائة وسبعين »(١) .
أقول: ليس التشيع بقادح في وثاقة الرجل، إذ قد عرفت من كلام ابن حجر الحافظ أن التشيع ليس إلّا محبّة علي -عليهالسلام -.
على أن محمد بن يوسف الشامي، صاحب السيرة الشامية - وهو تلميذ السيوطي * وقد ترجم له مع الاطراء والثناء عليه في ( لواقح الأنوار للشعراني ) و ( الرسالة المستطرفة / ١١٣ ) و ( كفاية المتطلع للدهان ) و ( شذرات الذهب ٨ / ٢٥٠ ) و ( أصول الحديث للدهلوي ) وغيرها * قد نفى عن الحسكاني التشيع فقد قال محمد أمين بن محمد معين السندي بعد كلام له في إثبات عصمة أئمّة أهل البيتعليهمالسلام :
« وممّا يجب أن أنبه عليه: إنّ هذا الكلام في عصمة الأئمّة إنّما جرينا فيها على جري الشيخ الأكبرقدسسره فيها في المهدي - رضي الله تعالى عنه - من حيث أن مقصودنا منه أن قوله صلّى الله تعالى عليه وسلم فيه: « يقفو أثري لا يخطأ » لما دل عند الشيخ على عصمته، فحديث الثقلين يدل على عصمة الأئمّة الطاهرين - رضي الله تعالى عنهم - بما مر تبيانه، وليست عقدة الأنامل على أن العصمة الثابتة في الأنبياء -عليهمالسلام - توجد في غيرهم، وإنّما اعتقد في أهل الولاية قاطبة العصمة بمعنى الحفظ وعدم صدور الذنب لا استحالة صدوره، والأئمّة الطاهرون أقدم من الكلّ في ذلك، وبذلك يطلق عليهم الأئمّة المعصومين.
فمن رماني من هذا المبحث باتّباع مذهب غير السنيّة مما يعلم الله سبحانه براءتي منه، فعليه إثم فريته والله خصمه، وكيف لا أخاف الاتّهام من هذا
___________________
(١). طبقات الحفاظ ٤٤٣ وفيه: عبيد الله بن أحمد بن محمد بن
الكلام، وقد خاف شيخ أرباب السير في ( السيرة الشامية ) من الكلام على طرق حديث الشمس بدعائه صلّى الله تعالى عليه وسلّم - لصلاة علي - رضي الله تعالى عنه - وتوثيق رجالها أن يرمى بالتشيع، حيث رأى الحافظ الحسكاني في ذلك سلفاً له، ولننقل ذلك بعين كلامه، قال – رحمه الله تعالى – لـمّا فرغ من توثيق رجال سنده:
« ليحذر من يقف على كلامي هذا هنا أن يظنّ بي أني أميل الى التشيع، الله تعالى يعلم أن الأمر ليس كذلك ». ( قال ): والحامل على هذا الكلام ( يعني قوله:
ليحذر الى آخره ): أن الذهبي ذكر في ترجمة الحسكاني أنه كان يميل الى التشيع، لأنه أملى جزءاً في طرق حديث ردّ الشمس ( قال ): وهذا الرجل ( يعني الحسكاني ) ترجمه تلميذه الحافظ عبد الغافر في ذيله تاريخ نيسابور، فلم يصفه بذلك، بل أثنى عليه ثناءاً حسناً، وكذلك غيره من المؤرخين، فنسأل الله تعالى السلامة بن الخوض في أعراض الناس بما لا نعلم وبما نعلم، والله تعالى أعلم. انتهى.
أقول: وهذا الجرح في الحافظ الحسكاني، إنما نشأ من كمال عصبيّة الجارح وانحرافه من مناهج العدل والإِنصاف، وإلّا فالحافظ في خدمة الحديث بذل جهده في تصحيح الحديث وجمع طرقه وأسناده، وأثبت بذلك معجزة من أعظم علامات النبوة وأكملها، بما يقر بصحته عين كل من يؤمن بالله تعالى ورسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم . وكيف يتّهم وينسب إلى التشيع بملابسة القضية لعلي -رضياللهعنه -؟ ولو صحّح حافظ حديثاً متمحضاً في فضله لا يتّهم بذلك، ولو كان كذلك لترك أحاديث فضائل أهل البيت رأساً. ومن مثل هذه المؤاخذة الباطلة طعن كثير من المشايخ العظام، ومولع هذا الفن الشريف إذا صح عنده حديث في أدنى شيء من العادات كاد أن يتّخذ لذلك طعاماً فرحاً بصحة قول الرسولصلىاللهعليهوآلهوسلم - عنده، وأين هذا من ذاك؟ ولما اطّلع هذا الفقير على صحته كأنّه ازداد سمناً من سرور ذلك ولذته، أقر الله سبحانه وتعالى عيوننا بأمثاله،
والحمد لله رب العالمين »(١) .
ترجمة عبد الغافر
ولنترجم للحافظ عبد الغافر تلميذ الحافظ الحسكاني ومادحه فقد ذكره ابن خلّكان بقوله: « أبو الحسن عبد الغافر إسماعيل الحافظ، كان إماما في الحديث والعربية، وقرأ القرآن الكريم، ولقّن الاعتقاد بالفارسية وهو ابن خمس سنين، وتفقّه على إمام الحرمين أبي المعالي الجويني صاحب نهاية المطلب في المذهب، والخلاف، ولازمه مدة أربع سنين وهو سبط الامام أبي القاسم عبد الكريم القشيري المقدّم ذكره، وسمع عليه الحديث كانت ولادته في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وخمسين وأربعمائة، وتوفّي في سنة تسع وعشرين وخمسمائة بنيسابور،رحمهالله تعالى »(٢) .
وبمثل هذا ترجم له كل من الذهبي واليافعي والأسنوي(٣) .
وذكره ابن قاضي شهبة الأسدي بقوله: « الحافظ العالم الفقيه البارع أبو الحسن الفارسي النيسابوري، ذو الفنون والمصنفات ». وقال في آخر كلامه: « قال الذهبي: كان إماماً، حافظاً، محدثاً، لغوياً، أديباً، كاملاً، فصيحاً، مفوهّاً »(٤) .
هذا وكأن ( الدهلوي ) لم يقف على ما تقدم، ولا سيّما ما ذكره صاحب دراسات اللبيب - وهو في طبقته ومن تلامذة والده - فحكم على رواية الحسكاني الموافقة لرواية الحافظ الثعلبي في التفسير وابن حجر المكي في صواعقه: بأنها تحريف للقرآن، وذلك حيث قال:
___________________
(١). دراسات اللبيب: ٢٤٦ - ٢٤٨
(٢). وفيات الأعيان ٣ / ٢٢٥
(٣). العبر، حوادث ٥٢٩، مرآة الجنان حوادث ٥٢٩، طبقات الشافعية ٢ / ٢٧٥
(٤). طبقات الشافعية ٢ / ٢٧٤. هذا وللحافظ أبي الحسن عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي ترجمة في تذكرة الحفاظ / ١٢٧٦، طبقات السبكي ٤ / ٢٥٥، شذرات الذهب ٤ / ٩٣، تاريخ ابن كثير ١٢ / ٢٣٥
« وأخرج الحسكاني بإسناده عن الأصبغ بن نباته، أنه سأل أمير المؤمنين عن قوله تعالى:( وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلّاً بِسِيماهُمْ ) (١) ، فقال: ويحك يا أصبغ! أولئك نحن، نقف بين الجنة والنار فنعرف من نصرنا بسيماه وندخله الجنة ونعرف من عادانا بسيماه وندخله النار.
وكل هذه الرواية تحريف، فانه ذكر في حقهم صريحاً طمعهم في دخول الجنّة وخوفهم من دخول النار، وهذا لا يناسب شأن الأئمة المهديين »(٢) .
أقول: ومن اراد الاطلاع على تفصيل وجوه قلع هذه الشبهة الركيكة فعليه بكتاب ( مصارع الأفهام ) للعلامة السيد محمد قلي، أحله دار السلام.
___________________
(١). سورة الاعراف: ٤٦.
(٢). هامش التحفة الاثنا عشرية، الباب الحادي عشر.
(٥ )
تصنيف أبي سعيد السجستاني مصنفاً في
طرق حديث الغدير
وصنف أبو سعيد مسعود السجستاني كتاباً مفرداً في طرق حديث الغدير قال السيد ابن طاوس – رحمه الله تعالى -: « إعلم أن نص النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم - على مولانا علي بن أبي طالب -عليهالسلام - يوم الغدير بالإِمامة لا يحتاج إلى كشف وبيان لأهل العلم والإِمامة والدراية، وإنما نذكر تنبيهاً على بعض من رواه، ليقصده من شاء ويقف على معناه:
فمن ذلك: ما صنّفه أبو سعيد مسعود بن ناصر السجستاني المخالف لأهل البيت في عقيدته، المتفق عند أهل المعرفة على صحة ما يرويه لأهل البيت وأمانته، صنف كتاباً سماه كتاب دراية حديث الولاية، وهو سبعة عشر جزء، روى فيه حديث نص النبي بتلك المناقب والمراتب على مولانا علي بن أبي طالب عن مائة وعشرين نفساً من الصحابة »(١) .
___________________
(١). الاقبال: ٤٥٣.
وقال أيضاً: « قد وقفت على كتاب صنّفه أبو سعيد مسعود بن ناصر السجستاني سمّاه كتاب دراية حديث الولاية، وهو سبعة عشر جزء ما وقفت على مثله، وهذا مسعود بن ناصر من أوثق رجال الأربعة المذاهب، وقد كشف عن حديث يوم الغدير ونص النبي على علي بن أبي طالب بالخلافة بعده، رواه عن مائة وعشرين نفساً من الصحابة منهم ست نساء، ومن عرف ما تضمّنه كتاب دراية حديث الولاية ما يشك في أن الذين تقدموا على علي بن أبي طالب عاندوا ومالوا إلى طلب الرئاسة.
وعدد أسانيد كتاب دراية الولاية ألف وثلاثمائة إسناد »(١) .
ترجمة أبي سعيد السجستاني
وأبو سعيد السجستاني من كبار حفاظ أهل السنة قال السمعاني: « أبو سعيد مسعود بن ناصر بن أبي زيد السجزي الركاب: كان حافظاً متقناً فاضلاً رحل إلى خراسان والجبال والعراقين والحجاز، وأكثر من الحديث وجمع الجمع، روى لنا عنه جماعة كثيرة بمرو ونيسابور وأصبهان، وتوفي سنة سبعة وسبعين وأربعمائة »(٢) .
وقال الذهبي: « ومسعود بن ناصر السجزي، أبو سعيد الركاب الحافظ رحل وصنّف وحدّث عن أبي حسان المزكّى وعلي بن بشرى وطبقتهما، ورحل إلى بغداد وأصبهان، قال الدقاق: لم أر أجود إتقاناً ولا أحسن ضبطاً منه: توفي بنيسابور في جمادى الأولى »(٣) .
وقال اليافعي في حوادث سنة ٤٧٧: « وفيها الحافظ أبو سعيد مسعود بن ناصر السجزي، رحل وصنّف وحدّث عن جماعة، قال الدقاق: لم أر أجود إتقاناً
___________________
(١). الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف للسيد ابن طاوس: ٣٨.
(٢). الانساب - السجستاني.
(٣). العبر - حوادث سنة ٤٧٧.
ولا أحسن ضبطاً منه »(١) .
ترجمة الدقاق
ولنذكر ترجمة السيوطي للدقاق المادح لأبي سعيد، قال: « الدقاق الحافظ المفيد الرّحال، أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد بن محمد الأصبهاني، ولد سنة بضع وثلاثين وأربعمائة وسمع وأكثر، وأملى بسرخس، وكان صالحاً يقرئ، متعففاً، صاحب سنّة واتّباع.
قال الحافظ إسماعيل بن محمد: ما أعرف أحداً أحفظ لغرائب الأحاديث وغرائب الأسانيد منه، مات ليلة الجمعة سادس شوال سنة ٥١٤ »(٢) .
___________________
(١). مرآة الجنان، حوادث سنة ٤٧٧. وانظر: تذكرة الحفاظ / ١٢١٦، شذرات الذهب ٣ / ٣٥٧، طبقات الحفاظ: ٤٤٧.
(٢). طبقات الحفاظ: ٤٥٦. وفيه بدل « يقرى »: « فقيرا ». وتاريخ الوفاة فيه: ٥١٦.
(٦ )
تصنيف الحافظ الذهبي في جمع
طرق حديث الغدير
وصنف الحافظ شمس الدين الذهبي كتاباً مفرداً في طرق حديث الغدير وصرّح بأن له طرقاً جيدة جاء ذلك في ( مفتاح كنز دراية المجموع ) حيث قال: « وقال الخطيب البغدادي: كان الحاكم ثقة وكان يميل الى التشيع، جمع أحاديث وزعم أنها صحاح على شرط البخاري ومسلم، منها حديث الطير، ومن كنت مولاه فعلي مولاه، فأنكرها عليه أصحاب الحديث ولم يلتفتوا إلى قوله.
قال الحافظ الذهبي: ولا ريب أن في المستدرك أحاديث كثيرة ليست على شرط الصحة، بل فيه أحاديث موضوعة شان المستدرك بإخراجها فيه، وأمّا حديث الطير فله طرق كثيرة جداً، قد أفردتها بمصنف بمجموعها يوجب أنّ الحديث له أصل، وأمّا حديث من كنت مولاه فعلي مولاه، فله طرق جيّدة وقد أفردت ذلك أيضاً »(١) .
___________________
(١). مفتاح كنز دراية المجموع من درر المجلّد المسموع: ١٠٧.
أقول: والجدير بالذكر هنا أن ( الدهلوي ) أسقط من عبارة الذهبي هذه - حيث نقلها - تصريح الذهبي بتصنيفه كتاباً في طرق حديث الغدير، فقد جاء في ( بستان المحدثين ) له، المنحول من كتاب ( مفتاح كنز دراية المجموع ) بترجمة الحاكم ما هذا تعريبه: « قال الخطيب البغدادي: كان الحاكم ثقة وكان يميل الى التشيع، وقال بعض العلماء بالنسبة الى تشيّعه أنه كان يقول بتفضيل علي على عثمان، وهو مذهب جماعة من الاسلاف، والله أعلم.
ولقد أنكر عليه جماعة من أجلة العلماء كثيراً من أحاديث المستدرك التي حكم بصحتها وزعم أنها صحاح على شرط الشيخين، منها: حديث الطير وهو من مناقب المرتضى المشهورة المعروفة، ومن هنا قال الذهبي: لا يحلّ لأحدٍ أن يغترّ بتصحيح الحاكم ما لم يلاحظ تعقيباتي عليه. وقال أيضاً: في المستدرك أحاديث كثيرة ليست على شرط الصحة، بل فيه أحاديث موضوعة شان المستدرك بإخراجها فيه. وأمّا حديث الطير فله طرق كثيرة جدّاً قد أفردتها بمصنف بمجموعها يوجب أنّ الحديث له أصل »(١) .
فحيا الله أمانة ( الدهلوي ) وديانته، وخدمته للحديث وأهله!!
___________________
(١). بستان المحدثين - ترجمة الحاكم: ٣٤.
(٧ )
تصنيف بعض العلماء في طرق حديث الغدير
وصنف بعض العلماء كتاباً كبيراً في طرق حديث الغدير، وهو يزيد على ثمانية وعشرين مجلدا، على ما نقل الحسين بن جبر عن ابن شهرآشوب * الذي ترجم له في ( الوافي بالوفيات ٤ / ١٦٤ ) و ( البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة / ٢٤٠ ) و ( بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة ١ / ١٨١ ) * حيث قال « قال جدي شهرآشوب: سمعت أبا المعالي الجويني يتعجّب ويقول: شاهدت مجلداً ببغداد في يد صحاف فيه روايات هذا الخبر مكتوبا عليه: المجلدة الثامنة والعشرون من طرق قوله: « من كنت مولاه فعلي مولاه »، يتلوه المجلدة التاسعة والعشرون »(١) .
وحكاه الحافظ القندوزي الحنفي عن الجويني كذلك(٢) .
أقول: فأي حديث أكثر تواتراً من هذا الحديث الذي استغرقت طرقه هذه المجلدات الكثيرة عن أكثر من مائة صحابي!؟
___________________
(١). نخب المناقب: ٩٢.
(٢). ينابيع المودة: ٣٦.
ترجمة أبي المعالي الجويني
وأبو المعالي الجويني، الذي شاهد هذا الكتاب العظيم، من كبار مهرة فن الحديث وفحول التحقيق وفطاحل الأئمة، ترجم له:
ابن خلكان: وفيات الأعيان ٢ / ٣٤١.
اليافعي: مرآة الجنان حوادث ٤٧٨.
الذهبي: العبر حوادث ٤٧٨.
الأسنوي: طبقات الشافعية ١ / ٤٠٩.
الأسدي: طبقات الشافعية ١ / ٢١٨.
ابن الجوزي: المنتظم حوادث سنة ٤٧٨.
ابن كثير: التاريخ حوادث سنة ٤٧٨.
ابن العماد: شذرات الذهب حوادث سنة ٤٧٨.
السبكي: طبقات الشافعية ٥ / ١٦٥.
ولنقتصر على ترجمته من اليافعي:
« وفيها الامام الحفيل السيد الجليل، المجمع على إمامته، المتفق على غزارة مادته وتفننه في العلوم، من الأصول والفروع والأدب وغير ذلك، الإمام الناقد، المحقق البارع، النجيب المدقق، أستاذ الفقهاء والمتكلمين، وفحل النجباء والمناظرين، المقرّ له بالنجابة والبراعة، والبلاغة والبداعة، وتحقيق التصانيف وملاحتها وحسن العبارة وفصاحتها، والتقدم في الفقه، والأصلين، النجيب ابن النجيب، إمام الحرمين، حامل راية المفاخر وعلم العلماء الأكابر، أبو المعالي عبد الملك ابن ركن الإسلام ابن محمد، إمام الحرمين، فخر الإِسلام، إمام الأئمّة ومفتي الأنام، المجمع على إمامته شرقاً وغرباً، المقرّ بفضله السراة والحراة عجماً وعرباً، ربّاه حجر الإِمامة، وحرّك ساعد السعادة مهده، وأرضعه ثدي العلم والورع إلى أن ترعرع فيه ويفع.
أخذ من العربية وما يتعلق بها أوفر حظ ونصيب، وزاد فيها على كلّ أديب، من التوسع في العبارة بعلوها ما لم يعهد من غيره، حتى أنسى سحبان وفاق فيه الاقران، وأعجز الفصحاء اللد وجاوز الوصف والحد، وكان يذكر دروساً يقع كل واحد منها في أطباق وأوراق، لا يتلعثم في كلمة ولا يحتاج إلى استدراك عثرة، يمر فيها كالبرق الخاطف ويصوت كالرعد القاصف، لا يلحقه المبرزون ولا يدرك شأوه المتشدقون المتفيهقون، وما يوجد من كثير من العبارات البالغة كنه الفصاحة، غيض من غيض ما كان على لسانه، وغرفة من أمواج ما كان يعهد من بيانه.
تفقّه في صباه على والده ركن الإسلام ثمّ خلفه من بعد وفاته وأتى على جميع مصنفاته فقلبها ظهراً لبطن وتصرف فيها، خرّج المسائل بعضها على بعض، ودرّس سنين، ولم يرض في شبابه تقليد والده وأصحابه، حتى أخذ في التحقيق وجدّ واجتهد في المذهب والخلاف ومجالس النظر حتى ظهرت نجابته، ولاح على أيّامه همة أبيه وفراسته، وسلك طريق المباحثة وجمع الطرق بالمطالعة والمناظرة، حتى أربى على المتقدمين وأنسى مصنفات الأوّلين، وسعى في دين الله سعياً يبقى أثره إلى يوم الدين » الى آخر الترجمة الحافلة(١) .
___________________
(١). مرآة الجنان - حوادث سنة ٤٧٨.
اقول: وممن ألّف في حديث الغدير من أعلام أهل السنة:
١ - أبو جعفر محمد بن علي بن دحيم الشيباني الكوفي المتوفى سنة ٣٥١، عدّه العلامة الأميني من رواة القرن الرابع وقال: ممن ألّف في الحديث، ثم لم يعده في المؤلفين.
٢ - الحافظ العراقي زين الدين عبد الرحيم بن الحسين الشافعي المتوفى سنة ٨٠٦، ترجم له ابن فهد المكي في ذيل تذكرة الحفاظ / ٢٣١، وذكر هذا الكتاب في مؤلفاته.
٣ - أبوبكر محمد بن عمر البغدادي، المعروف بالجعابي، المتوفى سنة ٣٥٥، والمترجم له في تذكرة الحفاظ وتاريخ بغداد وطبقات الحفاظ / ٣٧٥، له كتاب: « من روى حديث غدير خم » عدّه أبو العباس النجّاشي من كتبه في فهرسته ٢٨١.
٤ - الحافظ الدار قطني علي بن عمر البغدادي المتوفى سنة ٣٨٥، قال الكنجي في كفاية الطالب =
___________________
= عند ذكر حديث الغدير: أجمع الحافظ الدار قطني طرقه في جزء.
٥ - شمس الدين محمد بن محمد المعروف بابن الجزري الدمشقي الشافعي المتوفى سنة ٨٣٣.
أفرد رسالة في اثبات تواتر حديث الغدير وأسماها « أسنى المطالب في مناقب علي بن أبي طالب » وقد عدّها في تآليفه السخاوي في ترجمته في الضوء اللامع. )
تواتر حديث الغدير
هذا، ولبلوغ طرق حديث الغدير حدّ التواتر القطعي، الذي قلّ أن يتحقّق مثله لحديثٍ عن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - لم يجد أكابر محققي أهل السنّة بدّاً من الاعتراف بتواتره، مصرّحين باعتقادهم الجازم بذلك وقطعهم بصدوره عنهصلىاللهعليهوآلهوسلم ، وإليك ذلك بالتفصيل:
ذكر من نص على ذلك
١. الحافظ الذهبي
وتوجد ترجمته في كثير من المعاجم مثل: ( طبقات الأسنوي ١ / ٥٥٨ ) و ( فوات الوفيات ٢ / ٣٧٠ )، وقد عبّر عنه ابن الوزير الصنعاني في ( الروض الباسم ) بـ « شيخ الاسلام » ورثاه تلميذه الشيخ تاج الدين عبد الوهاب بقصيدةٍ بليغة مفصلة، وقال السبط ابن العجمي في مقدمة ( الكشف الحثيث ) الذي انتخبه من ( الميزان ) في وصفه: « حافظ جهبذ ومؤرخ الإسلام وشيخ جماعة من الشيوخ » كما عبّر عنه ( الدهلوي ) بـ « إمام أهل الحديث »(١) * فقد قال الحافظ ابن كثير ما نصّه:
___________________
(١). وتوجد ترجمته في: الوافي بالوفيات ٢ / ١٦٣، وطبقات القراء ٢ / ٧١، وطبقات الشافعية للسبكي ٥ / ٢١٦، والنجوم الزاهرة ١٠ / ١٨٢، وغيرها.
« فأما الحديث الذي رواه ضمرة، عن أبي شوذب، عن مطر الورّاق، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة، قال: لمّا أخذ رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم بيد علي قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، فأنزل الله عزّ وجلّ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (١) . قال أبو هريرة: وهو يوم غدير خم، من صام يوم ثماني عشر من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهراً.
فإنه حديث منكر جداً بل كذب، لمخالفته ما ثبت في الصحيحين عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: أن هذه الآية نزلت في يوم الجمعة يوم عرفة ورسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - واقف بها كما قدمنا. وكذا قوله: إن صيام يوم الثامن عشر من ذي الحجة وهو يوم غدير خم يعدل صيام ستين شهراً، لا يصح، لأنه قد ثبت ما معناه في الصحيح: أن شهر رمضان بعشر أشهر، فكيف يكون صيام يوم واحد يعادل ستين شهراً؟ هذا باطل.
وقد قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي - بعد إيراد هذا الحديث -: هذا حديث منكر جدّاً، ورواه خيشون الخلّال وأحمد بن عبد الله بن أحمد الدّيري - وهما صدوقان - عن علي بن سعيد الرّملي، عن ضمرة، قال: ويروى هذا الحديث من حديث عمر بن الخطاب ومالك بن الحويرث وأنس بن مالك وأبي سعيد وغيرهم بأسانيد واهية.
قال: وصدر الحديث متواتر أتيقّن أن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - قاله وأما: اللهمَّ وال من والاه، فزيادة قوية الإِسناد. وأما هذا الصوم فليس بصحيح، وو الله نزلت الآية يوم عرفة قبل غدير خم بأيام، والله أعلم »(٢) .
٢. الحافظ ابن الجزري
« أخبرنا أبو حفص عمر بن الحسن المراغي فيما شافهني به، عن أبي الفتح
___________________
(١). سورة المائدة: ٣.
(٢). التاريخ لابن كثير ٥ / ٢١٣ - ٢١٤.
يوسف بن يعقوب الشيباني، أخبرنا أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي، أخبرنا أبو منصور القزاز، أخبرنا الامام أبو بكر ابن ثابت الحافظ، أخبرنا محمد بن عمر بن بكير أبو عمر الأخباري، حدثنا أبو جعفر أحمد بن محمد الضبعي، حدثنا الأشج، حدثنا العلاء بن سالم، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: سمعت علياً - رضياللهعنه - بالرحبة ينشد الناس: من سمع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم - يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه؟ فقام اثنا عشر بدريا فشهدوا أنّهم سمعوا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم - يقول ذلك.
هذا حديث حسن من هذا الوجه، صحيح عن وجوه كثيرة، متواتر عن أمير المؤمنين علي -رضياللهعنه - وهو متواتر أيضاً عن النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم .
رواه الجم الغفير عن الجم الغفير، ولا عبرة بمن حاول تضعيفه ممّن لا اطلاع له في هذا العلم.
فقد ورد مرفوعاً عن: أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقّاص، وعبد الرحمن بن عوف والعباس بن عبد المطلب، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب، وبريدة بن الحصيب، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عباس، وحبشي بن جنادة، وعبد الله بن مسعود، وعمران بن حصين، وعبد الله ابن عمر، وعمار بن ياسر، وأبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وسعد بن زرارة، وخزيمة بن ثابت، وأبي أيّوب الأنصاري، وسهل بن حنيف، وحذيفة بن اليمان، وسمرة بن جندب، وزيد بن ثابت، وأنس بن مالك وغيرهم من الصحابة، رضوان الله عليهم.
وصحّ عن جماعة ممن يحصل القطع بخبرهم. وثبت أيضاً أن هذا القول كان منهصلىاللهعليهوآلهوسلم - يوم غدير خم »(١) .
___________________
(١). أسنى المطالب في مناقب علي بن أبي طالب: ٣ - ٤.
ترجمة ابن الجزري
وقد ترجم الحافظ السيوطي لابن الجزري بقوله: « ابن الجزري الحافظ المقري شيخ الاقراء في زمانه شمس الدين أبو الخير محمد بن محمد الدمشقي الشافعي، ولد سنة أحدى وخمسين وسبعمائة وسمع من أصحاب الفخر ابن البخاري وبرع في القراءات، ودخل الروم فاتصل بملكها [ أبي ] يزيد بن عثمان، فأكرمه وانتفع به أهل الروم، فلمّا دخل تيمور لنك إلى الروم وقتل ملكها، اتصل ابن الجزري بتيمور ودخل [ معه ] بلاد العجم، وولّي قضاء شيراز وانتفع به أهلها في القراءات والحديث، وكان إماماً في القراءات لا نظير له في عصره في الدنيا، حافظاً للحديث، وغيره أتقن منه، ولم يكن له في الفقه معرفة.
ألف: النشر في القراءات العشر، لم يصنف مثله، وله أشياء أخر وتخاريج في الحديث وعمل [ وقد ] وصفه ابن حجر بالحفظ في مواضع عديدة من الدرر الكامنة، مات سنة ٨٣٣ »(١) .
وفي ( مفتاح كنز دراية المجموع ) بعد رواية كتاب عقود اللآلي في الأحاديث المسلسلة والعوالي عن مؤلفه ابن الجزري ما نصه:
« إعلام - قال العلامة أبو القاسم عمر بن فهد في معجم شيوخ والده الحافظ تقي الدين ابن فهد: هو الامام العلامة أستاذ القراء أبو الخير قاضي القضاة شمس الدين كان والده تاجراً وبقي مدة من العمر لم يرزق ولداً، فلما حج شرب ماء زمزم وسأل الله أن يرزقه ولداً عالماً، فولد له شيخنا هذا بعد صلاة التراويح، من ليلة السبت الخامس والعشرين من رمضان سنة إحدى وخمسين وسبعمائة بدمشق، ونشأ بها وتفقه بها على العماد ابن كثير، ولع بطلب الحديث والقراءات فسمع من ابن الرميلة الصلاح ابن أبي عمرو وابن كثير في
___________________
(١). طبقات الحفاظ ٥٤٣ - ٥٤٤.
آخرين وله المؤلفات العديدة الجامعة المفيدة، من عيونها: النشر في القراءات العشر وأسنى المطالب في مناقب علي بن أبي طالب ».
وممن ترجم له هو ( الدهلوي ) نفسه، فقد ترجم له وأثنى عليه في ( بستان المحدثين ) الذي انتحله من ( مفتاح كنز الدراية )، فعبارته عين العبارات المتقدمة، فلا حاجة الى تكرارها(١) .
إعتماد العلماء عليه
ومما يدل على جلالة الحافظ ابن الجزري ووثاقته: إعتماد كبار علمائهم على كتبه، ونقلهم لأقواله وآرائه مذعنين بها، فمن ذلك: نقل السيوطي في كتابه ( حسن المقصد بعمل المولد ) عن « التعريف بالمولد الشريف » لابن الجزري، معبّراً عنه بـ « إمام القراء الحافظ ». وأيضاً: نقله في ( ميزان المعدلة في شأن البسملة ) عن كتاب ( النشر ) لابن الجزري معبّرا عنه بـ « أستاذ القراء الامام ».
كما قال السيوطي في كتاب ( الإتقان في علوم القرآن ) في تقسيم القراءات: « وأحسن من تكلم في هذا النوع: إمام القرّاء في زمانه، شيخ شيوخنا، أبو الخير ابن الجزري » ثم قال: بعد كلام له -: « قلت: أتقن الامام ابن الجزري هذا الفصل جداً »(٢) .
بل إنّ جماعة من كبار علمائهم، كابن حجر المكي والبرزنجي والسهارنفوري وغيرهم اعتمدوا على روايته لحديث الغدير وهم بصدد ردّه معبرين عنه بـ « الحافظ ».
كما تمسك ( الدهلوي ) في رد حديث « أنا مدينة العلم » بحكم ابن الجزري
___________________
(١). وتوجد ترجمة ابن الجزري في الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل ٢ / ١٠٩ والبدر الطالع ٢ / ٢٥٧ والضوء اللامع ٩ / ٢٥٥ وطبقات الداودي ٢ / ٥٩ وشذرات الذهب ٧ / ٤٠٢ وطبقات القراء ٢ / ٢٤٧.
(٢). الاتقان في علوم القرآن ١ / ٧٧.
بوضعه - حسب زعم الدهلوي -.
روايتهم لكتبه
ولقد اعتنى علماؤهم بمؤلفات الحافظ ابن الجزري فرووها بأسانيدهم، ويتجلى ذلك بمراجعة رسالة ( أصول الحديث ) و ( كفاية المتطلع ) و ( حصر الشارد ) وغيرها وقد عبروا عنه في أسانيدهم وطرقهم بـ « الحافظ ».
وقال الكاتب الجلبي - حيث ذكر الحصن الحصين لابن الجزري -: « وهو من الكتب الجامعة للأدعية والأوراد والأذكار الواردة في الأحاديث والآثار، ذكر فيه أنه أخرجه من الأحاديث الصحيحة، وأبرزه عدة عند كل شدّة. ولما أكمل ترتيبه طلبه عدوّه وهو تيمور، فهرب منه مختفياً تحصن بهذا الحصن، فرأى سيد المرسلينصلىاللهعليهوآلهوسلم - جالساً على يمينه وكأنّه - عليه الصلاة والسلام - يقول له: ما تريد؟ فقال: يا رسول الله! أدع لي وللمسلمين، فرفع يديه ثم مسح بهما وجهه الكريم، وكان ذلك ليلة الخميس فهرب العدو ليلة الأحد، وفرّج الله سبحانه وتعالى عنه وعن المسلمين، ببركة ما في هذا الكتاب »(١) .
٣. الحافظ السيوطي
* الذي بالغ الشعراني في ( لواقح الانوار ) في تعظيمه، ووصفه المناوي بـ « الحافظ الكبير والامام الشهير » والعزيزي بـ « الإِمام العلامة مجتهد عصره وشيخ الحديث » والشامي صاحب السيرة بـ « شيخنا حافظ الاسلام بقية المجتهدين الأعلام »، وهو ممن يفتخر شاه ولي الله باتصال أسانيده إليه، وبذلك يتباهى ( الدهلوي ) أيضاً ويثني عليه في رسالة ( أصول الحديث ) * فإنّه قال ما هذا لفظه:
« حديث « من كنت مولاه فعلي مولاه » أخرجه الترمذي عن زيد بن أرقم،
___________________
(١). كشف الظنون ١ / ٦٦٩.
وأحمد عن علي وأبي أيوب الأنصاري، والبزّار عن أبي هريرة وطلحة وعمارة وابن عباس وبريدة، والطبراني عن ابن عمر ومالك بن الحويرث وحبشي بن جنادة وحوشب وسعد بن أبي وقّاص وأبي سعيد الخدري وأنس، وأبو نعيم عن خديج الأنصاري.
وأخرجه ابن عساكر عن عمر بن عبد العزيز، قال: حدثني عدة أنهم سمعوا رسول الله يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه.
واخرج ابن عقدة في « كتاب الموالاة » عن ابن حبيش، قال: قال علي: من هاهنا من أصحاب محمد؟ فقام اثنا عشر رجلاً منهم قيس بن ثابت وحبيب بن بديل بن ورقاء، فشهدوا أنهم سمعوا رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - يقول: من كنت مولاه فعليّ مولاه.
وأخرجه أيضاً عن يعلى بن مرة قال: لما قدم علي الكوفة، نشد الناس: من سمع رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه؟ فانتدب بضعة عشر رجلاً، منهم يزيد أو زيد بن شرحبيل الأنصاري »(١) .
أقول: واقتصار الحافظ السيوطي في كتابه هذا، على الاحاديث المتواترة والتزامه بعدم إيراد غيرها فيه، ظاهر من اسمه، ولا بأس بنقل خطبة الكتاب لمزيد الوضوح: « وبعد، فإنّي جمعت كتاباً سميته ( الفوائد المتكاثرة في الأخبار المتواترة )، أوردنا فيه ما رواه من الصحابة عشرة فصاعداً مستوعباً طرق كل حديث وألفاظه، فجاء كتاباً حافلاً لم أسبق إلى مثله، إلّا أنه لكثرة ما فيه من الأسانيد إنما يرغب فيه من له عناية بعلم الحديث، واهتمام عال، وقليل ما هم. فرأيت تجريد مقاصده في هذه الكراسة ليعم نفعه، بأن أذكر الحديث وعدة من الصحابة مقرونا بالعزو إلى من خرّجه من الأئمة المشهورين، وفي ذلك مقنع للمستفيدين، وسميته: الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة ».
___________________
(١). الأزهار المتناثرة: ١.
أقول: فالحافظ السيوطي قد حكم بتواتر هذا الحديث وأدرجه في اثنين من مؤلفاته أعدهما لهذا الموضوع، وهما: ( الفوائد المتكاثرة في الأخبار المتواترة ) و ( الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة )، وسيأتي حكمه بذلك في كتاب ثالث له وهو: ( قطف الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة ).
ذكر كتب السيوطي في الأحاديث المتواترة
هذا، ولا ريب في ثبوت هذه الكتب للحافظ السيوطي، وهي من مؤلفاته المشهورة، وقد أورد الكتابين المذكورين في كشف الظنون، حيث قال: « الفوائد المتكاثرة في الأخبار المتواترة للسيوطي، وهو كتاب أورد فيه ما رواه من الصحابة عشرة فصاعداً مستوعباً فيه، فجاء كتاباً حافلاً، ثمّ جرّد مقاصده وسماه: الأزهار المتناثرة »(١) .
وقال: « الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة، رسالة للسيوطي المذكور، جرّدها من كتابه المسمّى بالفوائد المتكاثرة »(٢) .
كما ذكره السيوطي الكتاب الثاني في قائمة مؤلفاته، وقد علمت تصريحه في خطبته بأنه مختصر من الفوائد المتكاثرة.
وأما كتابه الثالث، فقد ذكره العلامة المتقي، وسيأتي نص كلامه قريباً.
نقل حكمه بتواتر الحديث
وقد نقل حكم الحافظ السيوطي بتواتر حديث الغدير بعض العلماء مرتضين له، منهم:
العلامة المناوي * وستأتي ترجمته * حيث قال بشرح الحديث: « قال:
___________________
(١). كشف الظنون ٢ / ١٣٠١.
(٢). المصدر نفسه ١ / ٧٣.
حديث متواتر »(١) .
والعلامة العزيزي، حيث قال بشرحه كذلك: « قال المؤلف: حديث متواتر »(٢) .
٤. الشيخ علي المتقي
* توجد ترجمته في ( أخبار الأخيار ) لعبد الحق الدهلوي، وقد جاء فيه: « قال الشيخ أبو الحسن البكري: للسيوطي منّة على العالمين وللمتقي منّة عليه ».
وفي ( سبحة المرجان في تراجم علماء هندوستان ) بترجمته: « وكان الشيخ ابن حجر المكي أستاذ المتقي، وقد صار أخيراً تلميذه ». وتوجد ترجمته أيضاً في: ( النور السافر في أخبار القرن العاشر / ٣١٥ ) و ( لواقح الأنوار في طبقات الأخيار، للشعراني ) و ( شذرات الذهب ٨ / ٣٧٩ ) وغيرها * إذ أورد حديث الغدير مع حديث المنزلة في كتاب ( مختصر قطف الأزهار )، وقد قال في خطبة هذا الكتاب:
« هذه أحاديث متواترة نحو اثنين وثمانين حديثاً التي جمعها العلامة السيوطي - رحمة الله تعالى عليه - وسمّاها ( قطف الأزهار المتناثرة ) وذكر فيها رواتها من الصحابة عشرة فصاعداً، لكني حذفت الرواة وذكرت متن الأحاديث ليسهل حفظها ».
٥. الميرزا مخدوم
* صاحب كتاب النواقض على الروافض، وهو حفيد الشريف الجرجاني وقد ذكره البرزنجي في نواقض الروافض واصفاً إيّاه بـ « السيد العلامة القاضي بالحرمين المحترمين معين الدين أشرف، الشهير بميرزا مخدوم الحسيني الحسني حفيد السيد السند المحقق العلامة نور الدين علي الجرجاني شارح المواقف وغيرها
___________________
(١). التيسير في شرح الجامع الصغير ٢ / ٤٤٢.
(٢). السراج المنير في شرح الجامع الصغير ٣ / ٣٦٠.
- صاحب المؤلفات العديدة والتحقيقات المفيدة » وذكر كتابه ( النواقض ) في ( كشف الظنون ) واعتمد عليه: رشيد الدين الدهلوي، وحيدر علي الفيض آبادي، والسهارنبوري، في ردودهم على الامامية * فانه قال في كتابه المذكور الذي تفوح منه رائحة التعصب الشديد. ما نصه:
« ومن هفواتهم القول بوجوب عصمة الأنبياء والأئمة، بمعنى أنه يجب على الله تعالى حفظهم من جميع الصغائر والكبائر وخلاف المروءة عمداً وسهواً وخطاً، من المهد إلى اللحد، مع أنّ القرآن وكتب الأحاديث والتواريخ مشحونة بخلاف ذلك
أفلا تنظرون إلى هذه الجماعة التي تأوّل أمثال هذه النصوص الجلية بما لا يقبله عقل عاقل، بل لا يحسّنه طبع جاهل؟! ومع ذلك يشنّعون علينا تجويزنا عدم دلالة حديث الغدير على نفي خلافة أبي بكر وثبوت خلافة علي بلا فصل، بل يقولون: إنه نص جلي منكره كافر، فإنْ تسألني عن حديث الغدير المتواتر أذكر لك الملخص الذي ذكره مفيدهم »(١) .
ألا تراه بينما يطعن في الاعتقاد بعصمة الأنبياء والأئمةعليهمالسلام يعترف بتواتر حديث الغدير ولقد أجاد صاحب ( مصائب النواصب في الرد على النواقض على الروافض ) حيث قال في جوابه: « وأما رابعاً: فلأن قوله: فإنْ تسألني عن حديث الغدير أذكر لك متضمن الاعتراف بنقيض ما هو بصدده من تضييع الحق وترويج المحال، حيث أجرى الله تعالى على لسان قلمه ما هو الحق، فوصف حديث الغدير بالتواتر من غير أن يكون سياق كلامه مقتضياً لذكر هذا الوصف بوجه من الوجوه »(٢) .
___________________
(١). النواقض على الروافض - مخطوط.
(٢). مصائب النواصب للسيد التستري.
٦. جمال الدين المحدث
* وهو من مشايخ إجازة ( الدهلوي ) ووالده. وفي ( المرقاة في شرح المشكاة ): إن « المحدث » من المشايخ الكبار. ولقد اعتمد المؤرخون والمحدثون على سيرته ( روضة الأحباب ) معتبرين إيّاه من التواريخ المعتبرة * فإنّه قال: « الحديث الثالث عشر من جعفر بن محمد، عن آبائه الكرامعليهمالسلام أن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - لما كان بغدير خم، نادى الناس فاجتمعوا، فأخذ بيد علي وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار. وفي رواية: اللهمَّ أعنه وأعن به وارحمه وارحم به وانصره وانصر به.
فشاع ذلك وطار في البلاد، فبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري، فأتى رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - على ناقة له، فنزل بالأبطح عن ناقته وأناخها، فقال: يا محمد! أمرتنا أن نشهد أن لا إله إلّا الله، وأنك رسول الله فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصلّي خمساً فقبلناه منك، وأمرتنا بالزكاة فقبلناه منك وأمرتنا أن نصوم فقبلناه منك، ثم أمرتنا بالحج فقبلناه منك، ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك تفضله علينا وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شيء منك أم من الله عز وجلّ؟ فقال النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم : والذي لا إله إلّا الله إنّ هذا من الله.
فولّى الحارث بن النعمان وهو يريد راحلته وهو يقول: اللهم إنْ كان ما يقوله محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فما وصل الى راحلته حتى رماه الله عز وجلّ بحجر، فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله، وأنزل الله عز وجلّ:( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) .
أقول: أصل هذا الحديث سوى قصة الحارث، تواتر عن أمير المؤمنينعليهالسلام ، وهو متواتر عن النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم - أيضاً رواه جمع كثير وجم
غفير من الصحابة »(١) .
٧. الملّا علي القاري
* توجد ترجمته في ( خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر ٣ / ١٨٥ ) وغيره، وقد اثنوا عليه واعتمدوا على تصانيفه لا سيّما ( المرقاة في شرح المشكاة ) * قال بشرح قول صاحب المشكاة: « وعن زيد بن أرقم: أن النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم - قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، رواه أحمد والترمذي ». قال: « وفي الجامع: رواه أحمد وابن ماجة عن البراء، وأحمد بن بريدة، والترمذي والنسائي والضياء عن زيد بن أرقم، ففي إسناد المصنف الحديث عن زيد بن أرقم إلى أحمد والترمذي مسامحة لا تخفى.
وفي رواية لأحمد والنسائي والحاكم عن بريدة، بلفظ: من كنت وليّه فعلي وليّه.
وروى المحاملي في أماليه عن ابن عباس ولفظه: علي بن أبي طالب مولى من كنت مولاه.
والحاصل: إنّ هذا حديث صحيح لا مرية فيه، بل بعض الحفّاظ عدّه متواتراً، إذْ في رواية لأحمد: أنه سمعه من النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم - ثلاثون صحابياً، وشهدوا به لعلي لما نوزع أيام خلافته. وسيأتي زيادة تحقيق في الفصل الثالث عند حديث البراء »(٢) .
٨. ضياء الدين المقبلي
* المترجم له في ( البدر الطالع ١ / ٢٨٨ ) و ( التاج المكلّل: ٣٧٦ ) وغيرهما، ووصفه الشيخ محمد بن إسماعيل الأمير في ذيل الأبحاث المسددة بقوله: فإنّ
___________________
(١). الأربعين - مخطوط.
(٢). المرقاة في شرح المشكاة ٥ / ٥٦٨.
الأبحاث المسددة في الفنون المتعددة، تأليف العلامة التقي صالح بن مهدي - رحم الله مثواه وبلّ بوابل رحمته ثراه - قد رزقت القبول، وهي به حقيقة، وكاد أن لا يخلو عنها بيت عالم، لما اشتملت عليه من فوائد أنيقة، إلّا أنّها تدقُّ عبارته عن الايضاح وتكثر إشارته إلى مسائل طال فيها اللجاج والكفاح، فرأيت إيضاح معانيها وشرح المشار إليه في غصون مبانيها، بذيل سميته ( ذيل الابحاث المسدّدة وحل مسائلها المعقّدة ) كما عدّه السندي في ( حصر الشارد ) والشوكاني في ( اتحاف الاكابر ) من الكتب المعتبرة، وذكرا طريقهما إلى مؤلفه في رواية الكتاب * فإنّه قال في ذكر الأحاديث النبوية الواردة في فضل أهل البيت عليهم الصلاة والسلام: « ومن شواهد ذلك ما ورد في حق علي - كرم الله وجهه في الجنة - وهو على حدته متواتر معنى، ومن أوضحه معنى وأشهره روايةحديث: من كنت مولاه فعلي مولاه، وفي بعض رواياته زيادة: اللهمَّ وال من والاه وعاد من عاداه. وفي بعض زيادة: وانصر من نصره واخذل من خذله.
وطرقه كثيرة جداً، ولذا ذهب بعضهم إلى أنه متواتر لفظاً فضلاً عن المعنى، وعزاه السيوطي في الجامع الكبير الى أحمد بن حنبل والحاكم وابن أبي شيبة والطبراني وابن ماجة والترمذي والنسائي وابن أبي عاصم والشيرازي وأبي نعيم وابن عقدة وابن حبان، بعضهم من رواية صحابي، وبعضهم من رواية اثنين، وبعضهم من رواية أكثر من ذلك.
وذلك من حديث: ابن عباس، وبريدة بن الحصيب، والبراء بن عازب، وجرير البجلي، وجندب الانصاري، وحبشي بن الجنادة، وأبي الطفيل، وزيد بن أرقم، وزيد بن ثابت، وحذيفة بن أسيد الغفاري، وأبي أيوب الأنصاري، وزيد ابن شراحيل الانصاري، وعلي بن أبي طالب، وابن عمر، وأبي هريرة، وطلحة، وأنس بن مالك، وعمرو بن مرة. وفي بعض روايات أحمد: عن علي وثلاثة عشر رجلاً، وفي رواية له وللضياء المقدسي، عن أبي أيوب وجمع من الصحابة. و في رواية لابن أبي شيبة وفيها: اللهمَّ وال من والاه الخ، عن أبي هريرة واثني
عشر من الصحابة. وفي رواية أحمد والطبراني والمقدسي: عن علي وزيد ابن أرقم وثلاثين رجلاً من الصحابة.
نعم، فإنْ كان مثل هذا معلوماً وإلّا فما في الدنيا معلوم »(١) .
٩. محمد بن إسماعيل الأمير
* وهو من شيوخ القاضي الشوكاني كما في ( اتحاف الأكابر ) وقد ترجم له وأثنى عليه في ( البدر الطالع ٢ / ١٣٣ ) * قال: « وحديث الغدير متواتر عند أكثر أئمة الحديث، قال الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ في ترجمة من كنت مولاه: ألّف محمد بن جرير فيه كتاباً - قال الذهبي: - وقفت عليه فاندهشت لكثرة طرقه. إنتهى.
وقال الذهبي في ترجمة الحاكم أبي عبد الله بن البيّع: فأما حديث من كنت مولاه فعلي مولاه فله طرق جيّدة أفردتها بمصنّف.
قلت: عدّه الشيخ المجتهد نزيل حرم الله ضياء الدين صالح بن مهدي المقبلي في الأحاديث المتواترة التي جمعها في أبحاث عن لفظ: من كنت مولاه فعلي مولاه، وهو من أئمة العلم والتقوى والانصاف.
ومع إنصاف الأئمة بتواتره فلا نميل بإيراد طرقه بل نتبرك ببعض منها »(٢) .
١٠. محمد صدر العالم
* وهو من أكابر علماء الهند ترجم له وأثنى عليه اللكنهوي في ( نزهة الخواطر ٦ / ١١٣ ) * قال: « ثم اعلم أن حديث الموالاة متواتر عند السيوطي -رحمهالله - كما ذكره في قطف الأزهار، فأردت أن أسوق طرقه ليتضح التواترْ، فأقول:
___________________
(١). الأبحاث المسددة في الفنون المتعددة: ١٢٢ في ذكر الأحاديث النبوية.
(٢). الروضة الندية - شرح التحفة العلوية: ٦٧.
أخرج أحمد والحاكم عن ابن عباس، وابن أبي شيبة وأحمد عنه عن بريدة، وأحمد وابن ماجة عن البراء، والطبراني عن جرير، وأبو نعيم عن جندب الأنصاري، وابن قانع عن حبشي بن جنادة، والترمذي - وقال: حسن غريب - والنسائي والطبراني والضياء المقدسي عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم، وحذيفة بن أسيد الغفاري، وابن أبي شيبة والطبراني، عن أبي أيوب، وابن أبي شيبة وابن أبي عاصم، والضياء، عن سعد بن أبي وقاص، والشيرازي في الألقاب عن عمر، والطبراني عن مالك بن الحويرث، وأبو نعيم في فضائل الصحابة. عن يحيى بن جعدة، عن زيد بن أرقم، وابن عقدة في كتاب الموالاة عن حبيب بن بديل بن ورقاء، وقيس بن ثابت وزيد بن شراحيل الأنصاري، وأحمد عن علي وثلاثة عشر رجلاً، وابن أبي شيبة عن جابر، قالوا:
قال رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم : من كنت مولاه فعلي مولاه. إلى آخر ما أفادوا وأجادوا »(١) .
١١. باني بتي
* وهو القاضي ثناء الله باني بتي، من كبار علماء الهند ترجم له البغدادي في ( ايضاح المكنون ١ / ٣١٠ ) وغيره وتوفي سنة ١٢١٦. * قال ما هذا تعريبه: « الأول - ما رواه بريدة بن حصيب وجماعة غيره من الصحابة: أن النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم - قال في غدير خم - وهو موضع بين مكة والمدينة -: يا أيها الناس إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فهذا مولاه، اللهمَّ وال من والاه وعاد من عاداه - يعني عليّاً -.
وهذا حديث صحيح بل متواتر، رواه ثلاثون صحابياً. منهم: علي بن أبي طالب وأبو أيوب وزيد بن أرقم والبراء بن عازب وعمرو بن مرة وابو هريرة وابن
___________________
(١). معارج العلى في مناقب المرتضى - مخطوط.
عباس وعمارة بن بريدة وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأنس وجرير بن عبد الله البجلي ومالك بن الحويرث وأبو سعيد الخدري وطلحة وأبو الطفيل وحذيفة بن أسيد وغيرهم.
وذكره جمهور المحدثين في الصحاح والسنن والمسانيد.
وجاء في بعض الروايات: من كنت أولى الناس به من نفسه فعلي وليّه، أللهمَّ وال من والاه وعاد من عاداه.
وتمسّك به الروافض على أنه نص جلي على استخلاف علي ويزعمون أن « مولى » بمعنى « الأولى بالتصرف » فهو الإِمام، ويزيدون على ألفاظ هذا الحديث المتواتر: « وهو الخليفة من بعدي وهو وليكم بعدي » وهي زيادة موضوعة »(١) .
١٢. محمد مبين اللكهنوي
* وهو من أكابر علماء أهل السنة في بلاد الهند ترجم له في ( نزهة الخواطر ٧ / ٤٠٣ ) وأرّخ وفاته بسنة ١٢٢٥ * قال بعد ذكر بعض طرقه في فضائل الإِمامعليهالسلام : « وأكثر الأحاديث المذكورة في هذا الباب من المتواترات، كحديث « أنت مني بمنزلة هارون من موسى » و حديث « أنا من علي وعلي مني، اللهمَّ وال من والاه وعاد من عاداه » و حديث « لاعطينّ الراية رجلاً يحب الله ورسوله » وغيرها »(٢) .
___________________
(١). السيف المسلول: ١٠٨.
(٢). وسيلة النجاة في فضائل السادات: ١٠٤.
خلاصة البحث
وخلاصة هذا البحث الطويل هو: أن حديث الغدير حديث متواتر ثابت لدى كبار علماء أهل السنة من حفاظهم ومفسريهم وعلمائهم في الكلام والأصول متواتر عند أعاظم أساطينهم وأعيان علمائهم الفطاحل، من المتقدمين والمتأخرين.
وقد ظهر ذلك جلياً بتصريح جماعة منهم
ولنذكر هنا كلاماً للشّريف المرتضى -رحمهالله - نختم به هذا الفصل من البحث، قال:
« أما الدلالة على صحة الخبر فيما يطالب بها إلّا متعنّت، لظهوره وانتشاره وحصول العلم لكلّ من سمع الاخبار به، وما المطالب بتصحيح خبر الغدير والدلالة عليه، إلّا كالمطالب بتصحيح غزوات النبي الظاهرة المنشورة وأحواله المعروفة وحجّة الوداع نفسها، لأن ظهور الجميع وعموم العلم به بمنزلة واحدة.
وبعد، فان الشيعة قاطبة تنقله وتتواتر به، وأكثر رواة أصحاب الحديث ترويه بالأسانيد المتصلة وأصحاب السير ينقلونه عن أسلافهم خلفاً عن سلف، نقلاً بغير إسناد مخصوص، كما نقلوا الوقائع والحوادث الظاهرة.
وقد أورده مصنفوا الحديث في جملة الصحيح، وقد استبد هذا الخبر بما لا
يشركه فيه سائر الاخبار، لأن الأخبار على ضربين: أحدهما: لا يعتبر في نقله الأسانيد المتصلة كالخبر عن وقعة بدر وخيبر والجمل وصفين وما جرى مجرى ذلك من الامور الظاهرة، التي يعلمها الناس قرناً بعد قرن بغير إسناد وطريق مخصوص، والضرب الآخر: يعتبر فيه إتصال الأسانيد، كأخبار الشريعة.
وقد اجتمع في خبر الغدير الطريقان مع تفريقهما في غيره من الأخبار، على أن ما اعتبر في نقله في أخبار الشريعة إتصال الاسانيد لو فتشت عن جميعه لم تجد رواته إلّا آحاداً، وخبر الغدير قد رواه بالأسانيد الكثيرة المتصلة الجمع الكثير فمزيّته ظاهرة »(١) .
___________________
(١). الشافي في الامامة: ١٣٢ ط القديم.
مع الرازي في كلامه
حول حديث الغدير وفقهه
لقد أوقفك البحث المتقدم على أن جماعات من علماء أهل السنة رووا حديث الغدير حاكمين بصحته وتواتره، مصرّحين بطرقه الجمة وأسانيده الكثيرة، حتى أن جماعة من كبار حفاظهم أفردوا كتباً لجمع ألفاظه وطرقه المعتبرة.
ولكن العصبية المقيتة والانحياز عن أمير المؤمنينعليهالسلام وحبّ الخلاف وإنكار الضروريات كل ذلك حدى بالفخر الرازي إلى دعوى عدم صحة الحديث وإنكار تواتره، معلّلا ذلك بأمور تافهة وأخرى كاذبة وهذا نص كلامه حول هذا الحديث الشريف في ( نهاية العقول ):
« لا نسلّم صحة الحديث، أما دعواهم العلم الضروري بصحته فهي مكابرة، لانا نعلم أنه ليس العلم بصحته كالعلم بوجود محمّدعليهالسلام وغزواته مع الكفّار وفتح مكة وغير ذلك من المتواترات، بل العلم بصحة الأحاديث الواردة في فضائل الصّحابة أقوى من العلم بصحّة هذا الحديث، مع أنّهم يقدحون بها، وإذا كان كذلك فكيف يمكنهم القطع بصحة هذا الحديث؟
وأيضاً: فلأن كثيراً من أصحاب الحديث لم ينقلوا هذا الحديث، كالبخاري ومسلم والواقدي وابن اسحاق، بل الجاحظ وابن أبي داود السجستاني وأبو حاتم الرازي وغيرهم من أئمة الحديث قدحوا فيه.
واستدلوا على فساده بقولهعليهالسلام : قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأسلم وغفار مواليّ دون الناس كلّهم، ليس لهم موالي دون الله ورسوله.
والثاني - وهو أن الشيعة يزعمون أنّه -عليهالسلام - إنّما قال هذا الكلام بغدير خم في منصرفه من الحج، ولم يكن علي مع النبي في ذلك الوقت، فإنه كان باليمن ».
هذا كلام الرازي الملقّب عندهم بـ « الامام » في رد حديث الغدير، وقد رأينا من الضروري إثباته، ثم الاشارة إلى ما فيه من أكاذيب وأغلاط وإنكار للحقائق الراهنة والقضايا الثابتة تاريخياً، ليتبين للملأ مدى سوءة نفس الرجل، وليكون ردّاً حاسماً لكلّ أولئك الذين تقودهم الأغراض إلى الافتراء، وتدعوهم الأهواء إلى الافتعال، وكأنهم نسوا قول الله عز وجلّ:( وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى ) !.
الرد
مقدمة
إن الرازي لم يكتف بالقدح في هذا الحديث الصحيح المروي بالطرق العديدة بالتواتر عن أكثر من مائة نفس من الصحابة، بل زعم أن الأحاديث الواردة عندهم في فضائل الصحابة - مع العلم بأن كثيراً منها موضوع باعتراف أهل العلم والانصاف - أقوى من حديث الغدير!!
وتفيد عبارته - حيث جاء لفظ « الأحاديث » فيها معرفاً باللام - كون جميع تلك الأحاديث - في رأيه - أقوى من هذا الحديث. ولو تنزلنا عن ذلك فلا أقل من حمل « الأحاديث » على الأكثر، فكأنه قال: إن العلم بصحة أكثر الأحاديث الواردة في فضائل الصحابة أقوى من العلم بصحة حديث الغدير الوارد في فضل علي.
ولكن هذا الزعم على إطلاقه باطل، إذْ ليس في أحاديث فضائل الصحابة حديث واحد يجئ بمثابة حديث الغدير سنداً ودلالةً فضلاً عن تلك الكثرة من الخرافات الواهية الموضوعة! وعلى من ادعى مثل ذلك أن يورد أوّلاً بعض تلك الأحاديث المزعومة، مع تصحيح أسانيدها من كبار أئمة الحديث وعلماء الجرح والتعديل - كما هو الثابت والحاصل بالنسبة إلى حديث الغدير - عن جماعة من
الصحابة مطلقاً، ثم يبين مدى العلم الحاصل بصحتها، ومدى دلالتها على مطلوبهم
ثم إن ذلك إنما يتم فيما إذا جاءت تلك الأحاديث - كلها أو بعضها - عن طرق الشيعة الامامية متواترةً أو قويةً بأسانيد متكثرة، كما هو الشأن في حديث الغدير عند الفريقين.
بل إنّا نوسّع المجال للرازي ومن لفّ لفّه، فنتحدّاهم في إثبات مساواة أحاديث معدودة من أحاديث فضائل الصحابة لحديث الغدير، في قوة العلم بالصحة، فضلاً عن إثبات كونها أقوى من هذا الحديث الشريف.
وباختصار: إن قوله: « وأما دعواهم العلم الضروري بصحته فهي مكابرة ». مكابرة، إذ ما من شيء يدّعي أهل السنة التواتر فيه والعلم الضروري بصحّته إلّا وحديث الغدير أقوى منه وأعظم والمنع المحض غير مجد وغير مسموع في مثل هذا الامور، وإلّا لصحّ لمانعٍ أن يمنع وجود مكة والمدينة والنبي محمدصلىاللهعليهوآلهوسلم .
اللهمَّ إلّا أن يذكروا فارقاً بين هذا الحديث الشريف وسائر المتواترات والضروريات وأنى لهم ذلك ولنعم ما أفاد الامام المولى السيد محمد قلي حيث قال: « لا شكّ في أن كلّ من تأمل وأنصف في كثرة طرق الحديث واشتهاره بين الخاصة والعامة، مع وفور الدواعي إلى الكتمان وكثرة الصوارف عن النقل، يحصل له العلم الضروري بصحة هذا الحديث، وكيف وقد يحصل للمسلمين القطع واليقين في كثير من الأمور الدينية التي هي أدون مرتبة في باب التواتر من هذا الحديث، كآيات التحدّي والتحدّي بها على رؤوس الاشهاد من الكفار وأعداء الدين، مع وجود الدواعي إلى المعارضة وعدم وجود موانع، وهكذا صدور المعجزات ونحو ذلك، مع ان الكفار كافة ينكرون ذلك كلّه، ويدّعون أن أهل الاسلام كلّهم تواطئوا على الكذب واختراع هذه الأخبار، لأن كلّهم من ارباب الأغراض والدواعي إلى وضع تلك الأخبار، كما أن أهل الإسلام يدّعون
كذلك في باب الأخبار المخصوصة بأهل المذاهب الفاسدة، من اليهود والنصارى والصابئين وعبدة النيران والأوثان وسائر المشركين، فكيف يسوغ لمسلم منصف أن ينكر التفاوت بين البديهيين، فإنه قد يكون أحدهما أجلى من الآخر، كيف، ولو لم يكن الأمر كذلك يلزم إهمال الكثير من المتواترات »(١) .
وبعد، فلننظر بما ذا تشبّث الرازي في ردّ هذا الحديث:
لقد زعم الرازي عدم نقل كثير من أصحاب الحديث لحديث الغدير، ولكن هذا مردود بما سننقله في الكتاب من أسماء مخرجي حديث الغدير ورواته وناقليه، بحيث يتجلى لمن يقف على تلك القائمة من أسماء أعاظم علماء أهل السنّة أن الكثير منهم يروون هذا الحديث مع التنويه بعظمته وصحته وتواتره، والتصريح بحصول العلم الضروري لهم بصدوره عن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم .
والغريب من الرّازي حيث يقول: إنّ كثيراً من أصحاب الحديث لم ينقلوا هذا الحديث، ثمّ يعدّ من أسماء تلك الكثرة المزعومة أسماء أربعة فقط، وليته ذكر ثلاثين أو عشرين من أعيان المحدّثين حتى يناسب دعواه، لأن عدم نقل أربعة بل عشرة لا يعارض نقل هذا الجم الغفير والجمع الكبير لحديث الغدير
ولو سلّمنا أن كثيرا من أصحاب الحديث لم ينقلوه، فإنّ عدم نقلهم لحديث الغدير المشهور المتواتر إنما هو لانحيازهم عن أمير المؤمنينعليهالسلام وكتمانهم فضائله الشريفة لأغراضهم الفاسدة، بدليل أنهم في نفس الوقت يروون الخرافات الغريبة في فضائل خلفائهم وأئمّتهم
ومتى كان النافي بصراحة لا يعبأ بقوله، لوجود المثبت، فالساكت والمعرض أولى بعدم الاعتناء
هذا، ولنتكلم على تشبّث الرّازي بعدم نقل البخاري ومسلم والواقدي وابن اسحاق.
___________________
(١). عماد الاسلام في الامامة ٤ / ٢١٧.
(١)
عدم رواية البخاري ومسلم حديث الغدير
لنا في ردّ تشبّث الرازي بعدم إخراج البخاري ومسلم حديث الغدير في كتابيهما وجوه:
١. إنه دليل التعصب
إنّ عدم إخراجهما حديث الغدير - على تواتره وشهرته - يدلّ على تعصّبهما المقيت وإعراضهما عن أهل البيت - عليهم الصّلاة والسلام -، ولو لم يكونا كذلك لما تمسّك الجاهلون بمجرّد ذلك بالنّسبة إلى حديث من الأحاديث ومن ذلك حديث الغدير
٢. المثبت مقدّم على النافي
إنّ من القواعد المسلّمة لدى جميع أهل العلم - ولا سيما علماء الأصول - هي القاعدة المعروفة بـ « تقدم المثبت على النافي »
وبناءاً على هذه القاعدة: لا يعبأ بنفي النافي صريحاً - مع وجود المثبت - فكيف يكون السّكوت المحض عن حديث قادحاً؟
ولقد كثر استناد كبار العلماء إلى هذه القاعدة وهذا الأصل المسلَّم، واستدلوا به في مختلف بحوثهم كما لا يخفى على الخبير، ولا بأس بذكر شواهد على ذلك:
١ ) قال الحلبي في ذكر دخول الرسولصلىاللهعليهوآلهوسلم - الكعبة المشرفة بعد الفتح: « قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: فلمّا فتحوا كنت أوّل من ولج، فلقيت بلالاً فسألته هل صلّى فيه رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم ؟ قال: نعم، وذهب عني أن أسأله كم صلّى.
وهذا يدل على أن قول بلال -رضياللهعنه - أنهصلىاللهعليهوآلهوسلم - أتى بالصّلاة المعهودة، لا الدعاء كما ادّعاه بعضهم. و في كلام السهيلي في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه صلى فيها ركعتين.
وعن ابن عبّاس - رضي الله عنهما - قال: أخبرني أسامة بن زيد: أنهصلىاللهعليهوآلهوسلم - لمـّا دخل البيت دعا في نواحيه كلّها، ولم يصلّ فيه حتى خرج، فلمّا خرج ركع في قبل البيت ركعتين، أي بين الباب والحجر الذي هو الملتزم وقال: هذه القبلة.
فبلال -رضياللهعنه - مثبت للصلاة في الكعبة، وأسامة -رضياللهعنه - ناف، والمثبت مقدَّم على النافي »(١) .
٢ ) قال ابن القيّم: « وذكر النسائي عن ابن عمر قال: من سنّة الصلاة أن ينصب القدم اليمنى واستقباله بأصابعها القبلة، والجلوس على اليسرى، ولم يحفظ عنه في هذا الموضوع جلسة غير هذه، وكان يضع يديه على فخذيه، ويجعل حدّ مرفقه على فخذه وطرف يده على ركبتيه، وقبض ثنتين من أصابعه وحلّق حلقه ثم رفع إصبعه يدعو بها ويحركها، هكذا قال وائل بن حجر عنه.
وأمّا حديث أبي داود، عن عبد الله بن الزبير، أن النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم كان يشير بإصبعه إذا دعا لا يحرّكها هكذا. فهذه الزيادة في صحتها نظر. و قد ذكر مسلم الحديث بطوله في صحيحه عنه ولم يذكر الزيادة، قال: كان رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - إذ قعد في الصلاة، جعل قدمه اليسرى بين فخذيه وساقه،
___________________
(١). إنسان العيون في سيرة الامين والمأمون ٣ / ٣١.
وفرش قدمه اليمنى ووضع يده اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى وأشار بإصبعه. وأيضاً: فليس في حديث أبي داود أنّ هذا كان في الصلاة، فلو كان في الصلاة لكان نافياً وحديث وائل مثبتاً وهو مقدّم، وهو حديث ذكره أبو حاتم في صحيحه »(١) .
٣ ) قال المنيني: « المشورة - بضم الشين لا غير كذا صحّحه الحريري في درّة الغواص، قاله البجاتي. وفي المصباح المنير: وفيها لغتان: سكون الشين وفتح الواو، والثانية: ضم الشين وسكون الواو وزان معونة، والمثبت مقدّم على النافي، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ »(٢) .
ترجمة المنيني
وقد ترجم المرادي الشيخ أحمد المنيني المذكور بقوله: « أحمد بن علي، الشيخ العالم العلم العلامة الفهّامة، المفيد الكبير المحدّث الامام الحبر البحر، الفاضل المتقن المحرر المؤلّف المصنّف. كان ألمعياً لغوياً أديباً أريباً حاذقاً، لطيف الطّبع حسن الخلال عشوراً، متضلّعاً متطلّعاً متمكّناً خصوصاً في الأدب وفنونه، حسن النظم والنثر. ولد سنة ١٠٩٨، طلب العلم بعد أن تأهّل له، فقرأ على سادات أجلّاء ذكرهم في ثبته، ومن تآليفه: شرح تاريخ العتبي في نحو أربعين كراساً، ألّفه في رحلته الروميّة بطلب من مفتي الدولة العثمانية في ذلك الوقت، وهو كتاب مفيد.
تزاحمت عليه الأفاضل من الطّلاب وكثر نفعه واشتهر فضله وعقدت عليه خناصر الأنام. وكانت وفاته يوم السبت تاسع عشر جمادى الثانية سنة ١١٧٢ »(٣) .
___________________
(١). زاد المعاد ١ / ٦٠.
(٢). الفتح الوهبي - شرح تاريخ أبي نصر العتبي ١ / ٨.
(٣). سلك الدرر ١ / ١٣٣ - ١٤٥، ملخصاً بلفظه.
٤ ) قال ابن الوزير الصنعاني: « المضعّف للحديث، إذا لم يبيّن سبب التضعيف ناف، والمثبت أولى من النافي »(١) .
أقول - وبالإِضافة إلى ما تقدّم -: تفيد بعض الكلمات أنّ عدم سماع أحد من أصحاب الحديث حديثاً من الأحاديث وعدم تسليمه بصحته لا يكون قادحاً بذاك الحديث قال ابن القيّم: « قال أبو عمرو ابن عبد البرّ: روي عن النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم - أنه كان يسلّم تسليمةً واحدة من حديث عائشة ومن حديث أنس، إلّا أنها معلولة لا يصحّحها أهل العلم بالحديث، ثم ذكر علّة حديث سعد: إنّ النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم - كان يسلّم في الصلاة تسليمة واحدة، وقال: هذا وهم وغلط، وإنما الحديث: كان رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - يسلّم عن يمينه وعن يساره، ثمّ ساقه من طريق ابن المبارك عن معصب بن ثابت، وعن اسماعيل بن محمد بن سعد، عن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: رأيت رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - يسلّم عن يمينه وعن شماله كأني أنظر إلى صفحة خدّه.
قال الزهري: ما سمعنا هذا من حديث رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال له اسماعيل بن محمد: أكلّ حديث رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - قد سمعته؟ قال: لا؟ قال: فنصفه؟ قال: لا، قال: فاجعل هذا في النّصف الّذي لم تسمع »(٢) .
أقول: وإذا كان إنكار الزهري غير وارد، فإعراض البخاري ومسلم - المجرّد عن كلّ إنكار - لحديث الغدير غير قادح بطريق أولى.
٣. الشهادة على النفي غير مسموعة
إنّ الشهادة على النفي غير مسموعة لدى أهل العلم، قال ( الدهلوي ) في
___________________
(١). الروض الباسم في الذب عن أبي القاسم ١ / ٧٩.
(٢). زاد المعاد ١ / ٦٦.
( تحفته ) ما هذا تعريبه: « فإنْ أنكر الزجاج جرّ ( جوار ) مع وجود العاطف فلا يعبأ بإنكاره، لأن أئمة علماء العربية ومهرة الفنّ يجوّزونه، ولأنّه واقع في القرآن الكريم وكلام البلغاء من العرب.
فشهادة الزّجاج سببها قصور التتبّع، وهي شهادة على النّفي، والشهادة على النفي غير مقبولة».
فإذا كان إنكار أحد العلماء - مهما كان جليلاً وإماماً في العلم - لا يقاوم إثبات المحققين، فإن الإِعراض المحض عن ذكر حديث وعدم إخراجه لا يكون قادحا في ثبوته وصحّته قطعاً.
٤. عدم النقل لا يدل على العدم
إن عدم النقل لا يدل على العدم، لا سيّما إذا كان العلم بالأمر ضرورياً بين الناس كافة.
ويشهد بما ذكرنا قول الفاضل حيدر علي الفيض آبادي في كلام له: « وقد ورد في الأحاديث الصحيحة أن الفاروق ونظرائه ناظروا الصّديق الأكبر حول عزمه الواقع بالإِلهام الالهي على قتال مانعي الزكاة، فقالوا: إنّ مفاد الحديث النبوي ومقتضاه هو: أن من قال لا إله إلّا الله فقد حقن دمه وماله، وأنت تريد قتال هؤلاء؟ فقال أبو بكر: هلّا حفظتم ذيل الحديث إذ قال: إلّا أنْ يكون القتال من أجل الكلمة؟ والزكاة من أركانها، والله لو فرق أحد بين الصلاة والزكاة لقاتلته. فقبل الأصحاب منه ذلك وهبّوا للقتال طائعين.
فلو فرضنا أنهم نصبوا قائداً لهم وأرسلوا - وغرضهم من ذلك ردع المرتدين - ثم لم يتذاكروا معهم على ذلك، وكفّوا عن القتال عند الأذان - عملاً بالسّنة - فإن ذلك لا يدل على أن أحداً من المرتدين لم ينكر أداء الزكاة، بشيء من الدلالات الثلاث، فإنّ عدم الذكر ليس دليل العدم، ولا سيّما عدم ذكر ما ثبت من قبل مكرراً وكان حصول العلم به عند الناس ضرورياً، بل إنّ اختفاء واستتار
أمثال هذه الامور المذكورة في مجاميع السنّة، والجارية على ألسن الأصاغر والأكابر، من المحالات العادية »(١) .
٥. عدم استيعاب الكتابين للصحاح
ومن القائل بانحصار الأحاديث الصحيحة في الكتابين؟ البخاري ومسلم أم غيرهما؟ ومتى ثبت ذلك؟ وكيف؟ وما الدليل عليه؟ وهل يصحّ القول بأن كان حديث لم يخرجاه فهو ضعيف؟
إنّا لا يسعنا إلّا أن ننقل بعض النصوص الصريحة في الموضوع:
١ ) قال النووي - بعد ذكر الزام الدارقطني وغيره الشيخين إخراج أحاديث تركا إخراجها، قائلين: إن جماعة من الصحابة رووا عن رسول الله، ورويت أحاديثهم من وجوه صحاح لا مطعن في ناقليها، ولم يخرجا من أحاديثهم شيئاً فيلزمهما إخراجها -:
« وصنّف الدارقطني وأبو ذر الهروي في هذا النوع الذي ألزموهما، وهذا الالزام ليس بلازم في الحقيقة، فإنهما لم يلتزما استيعاب الصحيح، بل صحّ عنهما تصريحهما بانّهما لم يستوعباه، وإنما قصدا جمع جملٍ من الصحيح كما يقصد [ المصنف ] في الفقه جمع جملة من مسائله »(٢) .
٢ ) قال القاضي الكتاني: « لم يستوعبا كلّ الصحيح في كتابيهما، وإلزام الدّارقطني وغيره لهما أحاديث على شرطيهما لم يخرجاها، ليس بلازم في الحقيقة، لأنّهما لم يلتزما استيعاب الصحيح بل جملة منه أو ما يسدّ مسده من غيره منه.
قال البخاري: ما أدخلت في كتاب الجامع إلّا ما صحّ وتركت من الصحاح لحال الطول.
وقال مسلم: ليس كلّ شيء عندي صحيح وضعته هاهنا، وإنّما وضعت ما
___________________
(١). منتهى الكلام / ٩٣ - ٩٤.
(٢). المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج ١ / ٣٧.
أجمعوا عليه. ولعلّ مراده ما فيه شرائط الصحيح المجمع عليه عنده، لا إجماعهم على وجودها في كل حديث منه، أو أراد ما أجمعوا عليه في علمه متناً أو اسناداً، وإن اختلفوا في توثيق بعض رواته، فإنّ فيه جملة أحاديث مختلف فيها متنا أو إسنادا، ثم قيل: لم يفتهما منه إلّا القليل. وقيل: بل فاتهما كثير منه، وإنّما لم يفت الأصول الخمسة: كتاب البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي. ويعرف الزائد عليهما بالنصّ على صحته من إمام معتمد في السنن المعتمدة، لا بمجرد وجوده فيها، إلّا إذا شرط فيها مؤلّفها الصحيح ككتاب ابن خزيمة وأبي بكر البرقاني ونحوهما ...»(١) .
٣ ) قال عبد الحقّ الدهلوي: « ليس الأحاديث الصحاح محصورة في كتابي البخاري ومسلم، فإنّما لم يستوعبا الصحيح، بل إنهما لم يخرجا كلّ الأحاديث الواجدة لشرائط الصحة عندهما فكيف بمطلق الصحّاح؟
قال البخاري: ما أدخلت في كتاب الجامع إلّا ما صحّ، وتركت من الصحاح لحال الطول. وقال مسلم: ليس كلّ شيء عندي صحيح وضعته هاهنا، وإنّما وضعت ما أجمعوا عليه »(٢) .
٤ ) قال الشمس العلقمي بشرح حديث: « ما من غازية » ردّا على من قدح فيه: « وأما قولهم: إنّه ليس في الصحيحين. فليس بلازم في صحة الحديث كونه في الصحيحين ولا في أحدهما»(٣) .
٥ ) قال ابن القيّم - حول حديث أبي الصهباء في باب الطلاق -: « فصل:وأما تلك المسالك الوعرة التي سلكتموها في حديث أبي الصهباء فلا يصحّ شيء منها:
أما المسلك الأول - وهو انفراد مسلم بروايته وإعراض البخاري عنه -
___________________
(١). المنهل الروي في علم أصول حديث النبي: ٦.
(٢). ترجمة المشكاة لعبد الحق الدهلوي.
(٣). الكوكب المنير في شرح الجامع الصغير. حرف الميم - مخطوط.
فتلك شكاة ظاهر عنك عارها، وما ضرّ ذلك الحديث انفراد مسلم به شيئاً، ثمّ هل تقبلون أنتم أو أحد مثل هذا في كلّ حديث ينفرد به مسلم عن البخاري؟ وهل قال البخاري قط: إنّ كلّ حديث لم أدخله في كتابي فهو باطل، أو ليس بحجة أو ضعيف؟ وكم قد احتج البخاري بأحاديث خارج الصحيح وليس لها ذكر في صحيحه؟ وكم صحّح من حديث خارج عن صحيحه؟ »(١) .
٦ ) قال حيدر علي الفيض آبادي: « وبالجملة فإنّي في حيرة من جهة الاعتراض على الحنيفة بما يخالف أصولهم المقرّرة - من تلقاء النفس الأمّارة والحكم بفساد مذهبهم، مع تصريح البخاري ومسلم بأنه لا ينبغي الاعتقاد بحصر الأحاديث الصحاح في كتابيهما ».
وبمثل هذا صرّح في موضع آخر من كتابه أيضاً(٢) .
نقد ورد
وإذا عرفت عدم التزام البخاري ومسلم إخراج كافة الصحاح في كتابيهما وعرفت عدم استيعابهما الصحيح في مصنّفيهما فهلمّ معي وتعجّب من أولئك الذي يقدحون في الأحاديث النبوية الشريفة بمجرد عدم وجودها في كتابي البخاري ومسلم
فهذا ابن تيميّة الحرّاني يردّ قول النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم - في حق أبي ذر -رضياللهعنه -: « ما أقلّت الغبراء ولا أظلّت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر »، فيقول: « والحديث المذكور بهذا اللفظ الذي ذكره الرافضي ضعيف بل موضوع وليس له إسناده يقوم به »(٣) .
___________________
(١). زاد المعاد في هدي خير العباد ٤ / ٦٠.
(٢). منتهى الكلام / ٢٧.
(٣). منهاج السنة ٣ / ١٩٩.
ويرد قولهصلىاللهعليهوآلهوسلم : « ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة » بقوله: « الوجه الرابع أن يقال أوّلاً: أنتم قوم لا تحتجّون بمثل هذه الأحاديث، إنّما يروونه أهل السنّة بأسانيد أهل السنّة، والحديث نفسه ليس في الصحيحين، بل قد طعن فيه بعض أهل الحديث كابن حزم وغيره، ولكن قد أورده أهل السنن كأبي داود والترمذي وابن ماجة، ورواه أهل المسانيد كالامام أحمد وغيره ...»(١) .
وهذا شاه سلامة الله يطعن في الحديث المشهور وهو قولهصلىاللهعليهوآلهوسلم - في فضل أمير المؤمنينعليهالسلام في حديث الراية: « كرّار غير فرّار »، فيقول: « إنّ هذه الزيادة غير مذكورة في الصحيحين»(٢) .
وهذا الفاضل حيدر علي يردّ على ما أخرجه الحافظ الزرندي عن عائشة: « إنّه قيل لها لمـّا حضرتها الوفاة: ندفنك مع رسول الله؟ فقالت: أدفنوني مع أخواتي بالبقيع، فإنّي قد أحدثت أموراً بعده »، فيقول: « لا نسلم صحّة لفظ « الاحداث » عن أم المؤمنين، وسند المنع رواية البخاري، فإنها عارية منه وهي هذه:
عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - إنها أوصت إلى عبد الله بن الزبير لا تدفنّي معهما وادفنّي مع صواحبي بالبقيع لا أزكى به أبداً.
فلا يدلّ الحديث على صدور الأحداث عن أمّ المؤمنين.
وأما رواية صاحب الأعلام في الباب الثالث عشر فهي مرسلة »(٣) .
أقول: يكفى لدفع توهمات ابن تيميّة وشاه سلامة الله وصاحب المنتهى ما قدّمنا نقله من كلمات كبار علماء الحديث، وقد كرر الفاضل حيدر علي نفسه القول بعد التزام البخاري ومسلم باستيعاب الصحاح في كتابيهما.
وأما زعم حيدر علي الفيض آبادي وإرسال رواية ( الاعلام ) فظاهر البطلان،
___________________
(١). منهاج السنة ٢ / ١٠١.
(٢). معركة الاراء لشاه سلامة الله الهندي: ٨٩.
(٣). منتهى الكلام لحيدر علي الفيض آبادي الهندي: ١٢٦.
لأنه صاحبه أخرجها بكل جزم وقطع، وهذا نص عبارته:
« ثمّ تزوّج رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - بعد خديجة، عائشة بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - وهي بنت ست سنين بمكة، في شوال قبل الهجرة بسنتين، وبنى بها وهي بنت تسع سنين بالمدينة بعد الهجرة بسبعة أشهر في شوال، ولم ينكح بكراً غيرها، ومكثت عنده تسع سنين، ومات عنهاصلىاللهعليهوآلهوسلم - فقالت: إدفنوني مع أخواتي بالبقيع فإنّي قد أحدثت أموراً بعده، وأوصت إلى عبد الله بن الزبير ابن أختها - رضي الله عنهما - »(١) .
فالحافظ الزرندي، صاحب الإِعلام، إنما لم يذكر الحديث بسنده لكونه جازماً بصحّته مسلّماً بثبوته
ومن قبله ابن قتيبة، حيث قال ما نصه: « قال أبو محمد: ثمّ تزوّج [ النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم ] عائشة بنت أبي بكر الصديق -رضياللهعنه - بكراً ولم يتزوج بكراً غيرها، وكان تزوجه بها [ اياها ] بمكة وهي بنت ست سنين ودخل بها بالمدينة وهي بنت سبع سنين بعد سبعة أشهر من مقدمة المدينة، وقبض [ رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم ] وهي بنت ثماني عشرة سنة، وتكنى أم عبد الله قال ابن قتيبة: وحدّثني أبو الخطاب، قال: حدّثني مالك بن سعيد، قال: حدّثني الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة [ - رضي الله عنها - ] قالت: تزوّجني رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - وأنا بنت تسع سنين - تريد دخل بي - كنت عنده تسعاً، وبقيت إلى خلافة معاوية، وتوفّيت سنة ثمان وخمسين وقد قاربت السبعين، وقيل لها: ندفنك مع رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم ؟ فقالت: إني قد أحدثت أموراً بعده، فادفنوني مع أخواتي، فدفنت بالبقيع وأوصت إلى عبد الله بن الزبير »(٢) .
وإنْ أبي الخصم إلّا الحديث المسند. فهذه رواية الحاكم أبي عبد الله على شرط البخاري ومسلم: « حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أبو البختري
___________________
(١) الاعلام بسيرة النبيعليهالسلام - مخطوط.
(٢). المعارف / ١٣٤.
عبد الله بن محمد بن بشر العبدي، ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم قال: قالت عائشة - رضي الله عنها - وكانت تحدث نفسها أن تدفن في بيتها مع رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - وأبي بكر، فقالت: إنّي أحدثت بعد رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - حدثاً إدفنوني مع أزواجه، فدفنت بالبقيع.
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه »(١) .
٦. لو أخرجاه لأنكره المتعنتون
ولو أن البخاري ومسلما قد أخرجا حديث الغدير في كتابيهما، لأنكر المتعصّبون المتعنّتون الحديث ونفوا صحته وقدحوا فيه وأبطلوه:
نماذج مما أخرجاه وأنكروه
أليس قد أبطل أبو الحسن الآمدي حديث المنزلة(٢) وهو من أحاديث الكتابين وتبعه في ذلك: ابن حجر المكي، وعضد الدين الإِيجي، وأبو الثناء الاصفهاني شارح المطالع، وأشعر بذلك علاء الدين القوشجي، وأسقطه سعد الدين التفتازاني من درجة الاعتبار؟!
أليس قد أبطل السهارنفوري في مرافضه، و ( الدهلوي ) في تحفته حديث هجر فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليهما وآلهما وسلّم - أبا بكر بن أبي قحافة حتى توفيت، مع أنه في الصحيحين؟! و هذا نصه عند البخاري في باب فرض الخمس: « حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح، عن
___________________
(١). المستدرك على الصحيحين ٤ / ٦.
(٢). وهوقوله - صلىاللهعليهوآلهوسلم -: « علي مني بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنّه لا نبي بعدي ».
وهذا الحديث متواتر سنداً، ومن أقوى الأحاديث وأوضحها دلالة على إمامة أمير المؤمنين - عليهالسلام - بعد رسول الله - صلّى الله عليهما وآلهما - بلا فصل. وهو من الأحاديث التي بحث عنها في هذه الموسوعة، وفقنا الله تعالى لنشره بمحمد وآله الطاهرين.
ابن شهاب [ قال ]: أخبرني عروة بن الزبير: أن عائشة أم المؤمنين أخبرته أن فاطمة [ عليهاالسلام ] بنت رسول الله - صلىاللهعليهوآلهوسلم - سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله - صلىاللهعليهوآلهوسلم - أن يقسّم لها ميراثها مما ترك رسول الله - صلىاللهعليهوآلهوسلم - ممّا أفاء الله عليه، فقال لها أبو بكر: إنّ رسول الله - صلىاللهعليهوآلهوسلم - قال: لا نوّرث ما تركناه صدقة. فغضبت فاطمة بنت رسول الله - صلىاللهعليهوآلهوسلم فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت » (١) .
وقال البخاري في باب قوله -صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا نورث عروة، عن عائشة: إنّ فاطمة والعباس [عليهماالسلام ] أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - وهما يومئذ [ حينئذٍ ] يطلبان أرضيهما من فدك وسهمه [ سهمهما ] من خيبر، فقال لها أبو بكر: سمعت رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - يقول: لا نوّرث ما تركناه صدقه، إنّما يأكل آل محمد من هذا المال، قال أبو بكر: والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - يصنعه فيه إلّا صنعته.
قال: فهجرته فاطمة فلم تكلّمه حتى ماتت »(٢) .
وأخرج البخاري هذا الخبر بالتفصيل في باب غزوة خيبر من كتاب المغازي كما ستطّلع عليه. وأخرجه مسلم أيضاً في باب حكم الفيء من كتاب الجهاد.
فالعجب من أهل السنّة يسقطون أحاديث الكتابين الصريحة في غضب الصديقة الطاهرة عليها الصلاة والسلام على أبي بكر حتى وفاتها، متشبثين بروايات هذا وذاك، وهم مع ذلك يقدحون بحديث الغدير المتواتر بدليل عدم إخراج البخاري ومسلم إيّاه!!
وهكذا طعن بعضهم في حديث امتناع أمير المؤمنينعليهالسلام عن بيعة أبي بكر مدة ستة أشهر، بالرغم من أنه من أحاديث الكتابين، وذلك لأنه حديث
___________________
(١). صحيح البخاري ٤ / ٩٦.
(٢). صحيح البخاري ٨ / ١٨٥.
يهدم أساس الخلافة التي يزعمون قيامها باجماع المسلمين ...؟؟؟ الفاضل حيدر علي الفيض آبادي كيف يحاول الحصول على مطعن في الحديث متناً وسنداً، وهو في نفس الوقت ممن يحترم الشيخين ويعظّم الصحيحين؟!
إنّه يقول: « نعم يمكن أن يفهم من ظاهر رواية الصحيحين قصة فدك - من حديث الصديقة أم المؤمنين - أنه قد أبى عن بيعة الصديق مدة حياة فاطمة الزهراء، فكما لا يكون هذا التباطؤ دليلاً واضحاً على عدم لياقة الصديق للخلافة، كذلك لا يكون دليلاً واضحاً على التخلّف عن البيعة، لما روى الفريقان من: أنه قد أقسم أن لا يرتدي بعد رسول الله حتى يجمع القرآن - سوره وآياته - حفظاً أو كتابة وقد روي الحديث في الاستيعاب والصواعق من كتب أصحابنا، وفي الاحتجاج للفاضل الطبرسي وغيره من كتب الامامية ».
ثم قال المولوي حيدر علي بعد ذكر وجوه في توجيه تخلّفهعليهالسلام عن البيعة: « فقد علم أن هذا التباطؤ المخرّج في الصحيحين، غير قادح في الاجماع ».
قال: « بقي كلام يتعلق بسند هذه الاحاديث، فأقول - أسوة بالبيهقي وغيره، كما هو غير خفي على من نظر في شروح البخاري مثل إرشاد الساري - إن هذا الحديث الدال على التأخّر عن البيعة، يرويه أبو سعيد، وهو ضعيف وغير معتمد، لعدم إسناد الزهري، ورواية أبي سعيد التي مفادها بيعة أمير المؤمنين والزبير - رضي الله عنهما - في اليوم الأول مسندة وموصولة، فتكون هذه أصح ألبتة »(١) .
أقول: إذا أردنا محاسبة هذا الكلام ومناقشته من جميع جوانبه، لخرجنا عن المقصود، غير أنّا نكتفي بالقول بأن دعوى عدم إسناد الزهري الحديث كذب
___________________
(١). منتهى الكلام لحيدر علي الفيض آبادي الهندي: ١٢٧.
محض،ففي الكتابين أن الزهري يروي هذه الأحاديث عن عروة، عن عائشة، قال البخاري في باب غزوة خيبر من كتاب المغازي:
« حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أن فاطمة [عليهاالسلام ] بنت النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم أرسلت الى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - مما أفاءه الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إنّ رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - قال: لا نورّث ما تركناه صدقة، إنّما يأكل آل محمد في هذا المال، وإنّي والله لا أغيّر شيئاً من صدقة رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - ولأعملنّ فيها بما عمل به رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً.
فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك، فهجرته فلم تكلّمه حتى توفيت، وعاشت بعد النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - ستة أشهر. فلمّا توفيت دفنها زوجها علي ليلاً، ولم يؤذن بها أبا بكر و - صلّى عليها، وكان لعلي في الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ولم يكن يبايع تلك الأشهر، فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ولا يأتنا أحد معك، كراهيّة أن يحضر [ المحضر ] عمر، فقال عمر: لا والله، لا تدخل عليهم وحدك، فقال أبو بكر: وما عسيتهم أن يفعلوا بي، والله لآتينّهم. فدخل عليهم أبو بكر فتشهّد علي فقال: إنّا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله اليك، ولكنّك استبددت علينا بالأمر، وكنّا نرى لقرابتنا من رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم نصيباً، حتى فاضت عينا أبي بكر.
فلمّا تكلم أبو بكر قال: والذي نفسي بيده، لقرابة رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - أحبّ إليّ من أهل [ من أن أصل ] قرابتي، وأما الذي شجر بيني وبينكم في هذه الأموال، فإني لم آل فيها عن الخير، ولم أترك أمراً رأيت رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - يصنعه فيها إلّا صنعته، فقال عليّ لأبي بكر: موعدكم العشية للبيعة.
فلمّا صلى أبو بكر الظهر رقي على المنبر فتشهّد وذكر شأن علي وتخلّفه عن البيعة وعذره بالذي اعتذر إليه، ثم استغفر وتشهّد علي فعظّم حق أبي بكر، وحدّث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر ولا إنكاراً للذي فضّله الله به، ولكنا [ كنا ] نرى لنا في هذا الأمر نصيباً فاستبدّ علينا فوجدنا في أنفسنا.
فسرّ بذلك المسلمون وقالوا: أصبت. وكان المسلمون إلى عليّ قريباً حين راجع الأمر بالمعروف»(١) .
وفي مسلم: « حدّثني محمد بن رافع، قال: نا حجين، قال ليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة » الحديث(٢) .
فظهر أن رواية الزهري موصولة، وأن دعوى القطع وعدم الاسناد فيها كذب صريح.
وكذا نسبة هذه الرواية إلى أبي سعيد، فإنّه قد روى الشيخان الخبر عن عائشة لا عن أبي سعيد
ومن العجيب في المقام أن المولوي حيدر علي يعزو نسبة هذا الحديث إلى أبي سعيد، إلى كتاب ( إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري ) والحال أنّه لا أثر لذلك في الكتاب المذكور، وهذا نصّ كلام القسطلاني فيه:
« وقد صحح ابن حبان وغيره من حديث أبي سعيد الخدري -رضياللهعنه -: إن عليا بايع أبا بكر في أول الأمر، وأمّا ما في مسلم عن الزهري أنّ رجلاً قال له: لم يبايع علي أبا بكر حتى ماتت فاطمة -رضياللهعنه - قال: ولا أحد من بني هاشم، فقد ضعّفه البيهقي بأنّ الزهري لم يسنده وأنّ الرواية الموصولة عن أبي سعيد أصح »(٣) .
هذا نص ما جاء في هذا الكتاب، فأين هذا من ذاك؟
___________________
(١). صحيح البخاري ٥ / ١٧٧ - ١٧٨.
(٢). صحيح مسلم ٥ / ١٥٣ - ١٥٤.
(٣). إرشاد الساري لصحيح البخاري ٦ / ٣٦٣.
والظاهر أن المولوي الفيض آبادي وجد هذه النسبة في كلام ابن حجر المكي، فحسبها مطابقة للواقع ونقلها - من دون مراجعة كتاب مسلم وكلمات المحدثين - مع غزوها إلى القسطلاني، وهذا نص كلام ابن حجر المكي بعد نقل الحديث:
« ثمّ هذا الحديث فيه التصريح بتأخير بيعة علي إلى موت فاطمة - رضي الله عنها -، فينافي ما تقدم عن أبي سعيد أنّ عليّاً والزبير بايعا من أول الأمر، ولكن هذا الذي مرّ عن أبي سعيد هو الذي صححه ابن حبان وغيره.
وقال البيهقي: وأما ما وقع في صحيح مسلم عن أبي سعيد من تأخر بيعته هو وغيره من بني هاشم إلى موت فاطمة - رضي الله عنها - فضعيف، فإنّ الزهري لم يسنده. وأيضاً: فالرواية الأولى عن أبي سعيد هي الموصولة فتكون أصح. إنتهى.
وعليه فبينه وبين خبر البخاري المار عن عائشة - رضي الله عنها - تناف »(١) .
فعلم أنّ ابن حجر احتج برواية عائشة الواردة مسندة في كتابي البخاري ومسلم، لاثبات فضيلة لأبي بكر، ثمّ ناقض نفسه بترجيح رواية أبي سعيد الخدري عليها، متمسكاً بتصحيح ابن حبّان لها وناقلاً كلام البيهقي في تضعيف رواية مسلم، ولكن نسبة رواية مسلم إلى أبي سعيد الخدري خطأ فضيع، إمّا من البيهقي وإمّا من ابن حجر المكي نفسه.
وعلى كلّ حال فإن تضعيف البيهقي لا مساس له بأصل الحديث، بل إنّه متوجه إلى الفقرة التي جاءت مصرّحة بتخلّف جميع بني هاشم عن البيعة مع الإمامعليهالسلام ، وقد انفرد مسلم بروايتها كما يظهر من كتاب ( جامع الأصول ).
فهو إذاً لا مساس له بأصل الحديث الوارد مسنداً عن عائشة في الكتابين، فإرجاعه اليه كما في كلام صاحب ( المنتهى ) باطل.
___________________
(١). الصواعق المحرقة: ٩٠.
وبما ذكرنا يتّضح أنّه متى كان الحديث مؤيّداً للامامية، وجّهوا إليه أنواع القدح، وتكلّفوا في ردّه حتى مع كونه من أحاديث الكتابين.
* * *
ولقد اضطرب المولوي حيدر علي، تجاه الحديث الذي أخرجه البخاري في كتاب المغازي، والذي تضمّن قصّة فدك وهجر الزهراءعليهاالسلام أبا بكر، وامتناع أمير المؤمنينعليهالسلام عن البيعة مدة ستة أشهر، فجاء يقدّم رجلاً ويؤخّر أخرى حيران لا يدري ما يصنع لكنه بالتالي لم يجد بدّاً من إبطاله، فبالغ في ذلك، وكدّ كيده في ردّ هذا الحديث الصحيح، ونفي تلك الحقيقة الراهنة، فجعل يقول:
« وأنت إذا أحطت خبراً بما مر وما سيأتي من أقوال المخالفين علمت أن جميع تلك الاشكالات إنما تتوجه على تقدير صحة الحديث، لكن المستفاد من كتب المحدثين - بعد التمحيص والتحقيق - وقوع الشك في صحة أحاديث للبخاري ومسلم، إلّا أن تلك الأحاديث قليلة جداً، وهي في الكتاب الثاني أكثر منه في الأول.
وعلاوة على هذا، فإن لابن الاثير -رحمهالله - كلاماً في جامع الأصول، في الفرع الثالث المختص بطبقات المجروحين، يدل على إقرار بعض الوضاعين بوضع حديث فدك، وهذا نص كلامه:
« ومنهم قوم وضعوا الحديث لهوىً يدعون الناس إليه، فمنهم من تاب عنه وأقرّ على نفسه، قال شيخ من شيوخ الخوارج - بعد أن تاب -: إنّ هذه الأحاديث دين، فانظروا ممن تأخذون دينكم، فإنا كنا إذا هوينا أمرا صيّرناه حديثا. وقال أبو العينا: وضعت أنا والجاحظ حديث فدك، وأدخلناه على الشيوخ ببغداد، فقبلوه إلّا ابن شيبة العلوي، فانه قال: لا يشبه آخر هذا الحديث أوّله، وابى أن يقبله إلى آخره بلفظه.
ويمكن الوقوف بعد التتبع اليسير لكتب الحديث والكلام، من تصانيف أهل الحق والامامية، على مفتريات الشيعة ومطاعنهم في الخلفاء الراشدين، ولا سيما الأحاديث المتعلقة بقصة فدك، وذلك بوصف التسنّن والاعتزال، وقد سبق أن معرفة هؤلاء وإخراجهم من بين أهل السنّة أمر عسير »(١) .
فإذا كان هذا الحديث المخرج في مواضع من كتاب البخاري موضوعاً فأيّ قيمة تبقى لهذا الصحيح وللبخاري!؟ وبأيّ دليل يقال: إن كل حديث لم يخرجاه فهو غير صحيح؟
ثم إن المولوي حيدر علي عاد في كتابه مرة أخرى ليثبت بصراحة وجود أحاديث موضوعة في صحيح البخاري وغيره، قد دسها فيه الشيعة، فقال:
« وبما أن هذه الرواية تخالف الدراية والروايات الأخرى، فإنّه لا يمكن الاعتماد عليها، أفهل يصدّق عاقل ديّن بعدم مبايعة أمير كل أمير، المصداق لـ « علي مع الحق والحق مع علي » مدة ستة أشهر ليكون - والعياذ بالله - من مصاديق قوله -صلىاللهعليهوآلهوسلم : « من لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية » على ما سنحققه، إن شاء الله تعالى »(٢) .
* * *
وتصدى هذا الفاضل لردّ حديث القرطاس - المخرج في سبعة مواضع من البخاري، وبثلاثة طرق عند مسلم - زاعماً أنه من مفتعلات الشيعة نظير حديث فدك على حدّ زعمه فقال:
« كما نقل ناقضوا هفوات المشهدي عن الآمدي أنه قال في مسنده بأن قصة « ايتوني بقرطاس » لا أساس لها من الصحة، وأنهم نقلوا عن شيوخ المحدّثين أنه قد ظهر بعد التحقيق وجود مائتين وعشرة أحاديث ضعيفة في الصحيحين، تفرّد
___________________
(١). إزالة الغين لحيدر علي الفيض آبادي الهندي: ٥٨٢.
(٢). إزالة الغين لحيدر علي الفيض آبادي الهندي: ٥٨٩.
منها البخاري بثمانين، ويبلغ ما تفرد به مسلم المائة، وقد اشتركا في إخراج ثلاثين. إنتهى.
فحال حديث القرطاس عند أحقر الناس كحديث فدك »(١) .
أقول: وعلى هذا الأساس يسقط الاستدلال بعدم إخراجهما حديثاً من الأحاديث لغرض القدح فيه
* * *
وقال في الجواب على ما ألزم به من أن الحنفية يخالفون أحاديث البخاري: « المغالطة الأولى: إن أصحاب أبي حنيفة قد ذهبوا إلى الملازمة بين صحة حديث البخاري ووجوب العمل به، ثم وقعوا في ورطة فقالوا: إما أن تكون أعمال الحنفية مخالفة للاحكام الالهيّة، وإما أن يكون أكثر أحاديث البخاري غير صحيح.
ولكن هذا التقرير إنما جاء نتيجة غلبة الشهوة على العقل، وإلّا فكون العلم بكلّ حديث ورد في البخاري واجباً، يخالف صريح كلمات العلماء الأعلام، قال شيخ الاسلام أبو زكريا النووي في التقريب ما حاصله: ليس كلّ حديث صحيح يجوز العمل به فضلاً عن أن يكون العمل به واجباً، ويمكن الوقوف على أدلة هذه المسألة من شروحه كالتهذيب وغيره بالتفصيل، بل إن كلام قدوة المحدثين والفقهاء المتبحرين، كمال الدين ابن همام، يتلخص في: أنه لا يلزم قبول كلّ أحاديث البخاري ومسلم وأمثالهما، إذ أن هناك خلافاً في عدالة بعض الرواة، فيمكن أن يكون الراوي مجروحاً عند الامام أبي حنيفة وموثّقاً عند الشيخين، وهكذا أن يقول في حديث وصف بالضعف أو رمي بالوضع على الاطلاق: إنّه غير ضعيف أو غير موضوع عندنا. انتهى.
بل يتضح من كتب الثقات: أن علماء الشافعية ربما يرجّحون في بعض
___________________
(١). إزالة الغين لحيدر علي الفيض آبادي الهندي: ٥٩٣.
الموارد روايات الآخرين على روايات البخاري، بل ذكر علي الجيلاني الشيعي في فتح السبل - والعهدة عليه -: أن الامام فخر الدين الرازي قد طعن في بعض أحاديث البخاري في رسالته في تفضيل مذهب الشافعي. إنتهى.
ولكن ما ذكرناه كلّه لا ينافي القول بأصحيّة صحيح البخاري من حيث المجموع، وأنه يجوز عقلاً ونقلاً توفر صفة كمال في المفضول دون الفاضل، كما لا يخفى ».
قال: « إنّه يظهر من تتبع الكتب وتفحّص المقالات أنّ الشأن الذي خصّ به الصحيحان من قبل أهل الحديث، وتقديمهم الكتابين على غيرهما من الكتب، إنما هو اتّباع وتقليد لمجتهدين سبقوهم، إذ لم ينقل شيء هذا القبيل عن الأئمّة الأئمّة الأربعة، وكيف يتصور ذلك، وعلم الغيب يختص بالله، أو أنه من خصائص الامامة على زعم الشيعة »(١) .
٧. رأي الائمّة في الكتابين ومؤلفيهما
لقد رأينا كيف يطعن علماء أهل السنة في أحاديث الكتابين عند تحرّجهم أمام إلزام الشيعة. ولنذكر فيما يلي كلمات جماعة من كبار الأئمّة والحفاظ في الحطّ من شأن الكتابين ومؤلفيهما من غير اضطرار يلجئهم إلى ذلك، بل إنها الحقيقة التي تجري على ألسنتهم، فإليك بعض تلك الكلمات على سبيل التمثيل لا الحصر:
١ ) محي الدين عبد القادر القرشي الحنفي
قال الشيخ محي الدين عبد القادر بن محمد القرشي الحنفي ما نصه:
فائدة - حديث أبي حميد الساعدي في صفة صلاة رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - في مسلم وغيره، يشتمل على أنواع منها التورّك في الجلسة الثانية،
___________________
(١). منتهى الكلام / ٢٧.
ضعّفه الطحاوي لمجيئه في بعض الطرق عن رجل، عن أبي حميد، قال الطحاوي: فهذا منقطع على أصل مخالفينا وهم يروون الحديث بأقل من هذا.
قلت: ولا يحنّق علينا لمجيئه في مسلم، وقد وقع في مسلم أشياء لا تقوى عند الاصطلاح، فقد وضع الحافظ الرّشيد العطّار على الأحاديث المقطوعة المخرجة في مسلم كتاباً سماه بـ« غرر الفوائد المجموعة في بيان ما وقع في مسلم من الأحاديث المقطوعة » سمعته على شيخنا أبي إسحاق ابراهيم بن محمد بن عبد الله الطاهري سنة اثنتي عشر وسبعمائة، بسماعه من مصنفه الحافظ رشيد الدين، بقراءة الشيخ فخر الدين أبي عمرو عثمان المقاتلي، وبيّنها الشيخ محي الدين في أوّل شرح مسلم.
وما يقوله الناس: إن من روى له الشيخان فقد جاز القنطرة، هذا أيضاً من التحنّق ولا يقوى، فقد روى مسلم في كتابه عن ليث بن أبي مسلم وغيره من الضعفاء، فيقولون: إنما روى في كتابه للاعتبار والشواهد والمتابعات، وهذا لا يقوى، لأن الحفاظ قالوا: الاعتبار والشواهد والمتابعات والاعتبارات، أمور يتعرّفون بها حال الحديث، وكتاب مسلم التزم فيه الصحة، فكيف يتعرف حال الحديث الذي فيه بطرق ضعيفة.
واعلم أن « عن » مقتضية للانقطاع عند أهل الحديث، ووقع في مسلم والبخاري من هذا النوع شيء كثير، فيقولون على سبيل التحنّق: ما كان من هذا النوع في غير الصحيحين فمنقطع، وما كان في الصحيحين فمحمول على الاتصال.
وروى مسلم في كتابه، عن أبي الزبير، عن جابر، أحاديث كثيرة بالعنعنة وقال الحافظ: أبو الزبير محمد بن مسلم بن مسلم بن تدرس المكي يدلّس في حديث جابر، فما كان يصفه بالعنعنة لا يقبل، وقد ذكر ابن حزم وعبد الحق عن الليث بن سعد أنه قال لأبي الزبير: علّم لي أحاديث سمعتها من جابر حتى أسمعها منك، فعلّم لي أحاديث أظن أنها سبعة عشر حديثاً فسمعتها منه، قال
الحافظ: فما كان من طريق الليث عن أبي الزبير عن جابر، صحيح.
وقد روى مسلم في كتابه أيضاً، عن جابر وابن عمر، في حجة الوداع أن النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - توجّه إلى مكة يوم النحر، وطاف طواف الافاضة ثم رجع فصلّى الظهر بمنى، فيتحنّقون ويقولون: أعادها لبيان الجواز وغير ذلك من التأويلات، ولهذا قال ابن حزم في هاتين الروايتين: إحداهما كذب بلا شك.
وروى مسلم أيضاً حديث الاسراء وفيه: « وذلك قبل أن يوحى إليه » وقد تكلّم الحفّاظ في هذه اللفظة وبيّنوا ضعفها.
وروى مسلم أيضاً: « خلق الله التّربة يوم السبت » واتفق الناس على أنه يوم السبت لم يقع فيه خلق.
و روى مسلم عن أبي سفيان أنه قال للنبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - لمّا أسلم: « يا رسول الله! أعطني ثلاثا، تزوّج ابنتي أم حبيبة، وابني معاوية اجعله كاتباً وأمّرني أن أقاتل الكفّار كما قاتلت المسلمين، فأعطاه النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم » والحديث معروف مشهور، وفي هذا من الوهم مما لا يخفى، فأم حبيبة تزوّجها رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - وهي بالحبشة وأصدقها النجاشي عن النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - أربعمائة دينار، وحضر وخطب وأطعم، والقصة مشهورة، وأبو سفيان إنما أسلم عام الفتح وبين الهجرة والحبشة والفتح عدّة سنين، ومعاوية كان كاتباً للنبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - من قبل، وأما إمارة أبي سفيان فقد قال الحافظ:إنهم لا يعرفونها. فيجيبون على سبيل التحنّق بأجوبة غير طائلة، فيقولون في نكاح ابنته: إعتقد أنّ نكاحها بغير إذنه لا يجوز وهو حديث عهد بكفر، فأراد من النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم - تجديد النكاح، ويذكرون عن الزبير بن بكار بأسانيد ضعيفة، أن النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - أمّره في بعض الغزوات، وهذا لا يعرف.
وما حملهم على هذا كلّه، إلّا بعض التعصّب، وقد قال الحافظ: إنّ مسلما لـمّا وضع كتابه الصحيح عرضه على أبي زرعة الرازي، فأنكر عليه وقال: سميته الصحيح فجعلت سلّماً لأهل البدع وغيرهم، فإذا روى لهم المخالف حديثاً
يقولون هذا ليس في صحيح مسلم. فرحم الله تعالى أبا زرعة فقد نطق بالصواب، فقد وقع هذا. وما ذكرت ذلك كله إلّا أنه وقع بيني وبين بعض المخالفين بحث في مسألة التورك فذكر لي حديث أبي حميد المذكور أوّلاً، فأجبته بتضعيف الطحاوي، فما تلفظ وقال: مسلم يصحح والطحاوي يضعّف، والله تعالى يغفر لنا وله، آمين »(١) .
ترجمة عبد القادر القرشي
ترجم له الحافظ السيوطي بقوله: « عبد القادر بن محمد بن محمد بن نصر الله بن سالم، محيي الدين أبو محمد بن أبي الوفا القرشي، درّس [ وأفتى ] وصنّف: شرح معاني الآثار، وطبقات الحنفية، وشرح الخلاصة، وتخريج أحاديث الهداية، وغير ذلك. ولد سنة ست وسبعين وستمائة، ومات في ربيع الأول سنة خمس وسبعين وسبعمائة »(٢) .
وقال محمود بن سليمان الكفوي بترجمته: « المولى الفاضل والنحرير الكامل عبد القادر، كان عالماً فاضلاً، جامعا للعلوم، له مجموعات وتصانيف وتواريخ ومحاضرات وتواليف »(٣) .
٢ ) علي القاري
وذكر الملّا علي بن سلطان القاري الفوائد التي ذكرها القرشي المذكور، وبالغ في هذا المرام بعبارات تشبه عباراته، فقد قال في كتاب الرجال على ما نقل صاحب النزهة - طاب ثراه -: « وقد وقع منه ( مسلم بن الحجاج ) أشياء لا تقوى
___________________
(١). الجواهر المضية في طبقات الحنفية ٢ / ٤٢٨ - ٤٣٠.
(٢). حسن المحاضرة في محاسن مصر والقاهرة ١ / ٤٧١.
(٣). كتائب أعلام الأخيار من فقهاء مذهب النعمان المختار للكفوي، وله ترجمة الدرر الكامنة ٢ / ٣٩٢ وشذرات الذهب ٦ / ٢٣٨، وتاج التراجم / ٢٨، وغيرها.
عند المعارضة، وقد وضع الرّشيد العطّار كتاباً على الأحاديث المقطوعة وبيّنها الشيخ محي الدين في أوّل شرح مسلم، وما يقوله الناس: إن من روى له الشيخان فقد جاز القنطرة، هذا أيضاً من التجاهل والتساهل، فقد روى مسلم في كتابه عن الليث عن أبي مسلم وغيره من الضعفاء فيقولون: إنما روى عنهم في كتابه للاعتبار والشواهد والمتابعات، وهذه الاعتبارات لا تقوى، لأن الحفاظ قالوا: الاعتبار أمور يتعرفون بها حال الحديث. وكتاب مسلم التزم فيه الصحة فكيف يتعرف حال الحديث الذي فيه بطرق ضعيفة؟! وقال الحافظ: أبو الزبير محمد بن مسلم المكي يدلّس في حديث جابر فما يصف بالعنعنة لا يقبل. وقد ذكر ابن حزم وعبد الحق عن الليث بن سعد أنه قال لأبي الزبير: علّم لي على أحاديث سمعتها من جابر، حتى أسمعها منك، فعلّم لي أحاديث أظن أنها سبعة عشر حديثاً فسمعتها منه. قال الحافظ: فما كان من طريق الليث عن أبي الزبير عن جابر فصحيح.
وفي مسلم، عن غير طريق الليث، عن أبي الزبير، عن جابر، بالعنعنة أحاديث. وقد روى أيضاً في كتابه عن جابر، عن ابن عمر، في حجة الوداع أن النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - توجه الى مكة يوم النحر فطاف طواف الافاضة، ثم صلى الظهر بمكة ثم رجع إلى منى. وفي الرواية الأخرى: إنه طاف طواف الافاضة، ثم رجع فصلى الظهر بمنى، فيوجّهون ويقولون أعادها لبيان الجواز.
وغير ذلك من التأويلات، ولهذا قال ابن حزم في هاتين الروايتين: إحداهما كذب بلا شك.
وروى مسلم أيضاً حديث الاسراء. وفيه: « وذلك قبل أن يوحى اليه » وقد تكلم الحفاظ في هذه اللفظة وبيّنوا ضعفها.
و قد روى مسلم أيضاً: « خلق الله التربة يوم السبت » واتفق الناس على أن السبت لم يقع فيه خلق، وأن ابتداء الخلق يوم الأحد.
وقد روى مسلم عن أبي سفيان أنه قال للنبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - لما أسلم
« يا رسول الله! أعطني ثلاثاً: تزوّج ابنتي أم حبيبة، وابني معاوية أجعله كاتباً، وأمّرني أن أقاتل الكفار كما قاتلت المسلمين. فأعطاه النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم ما سأله ». والحديث معروف مشهور، وفي هذا من الوهم ما لا يخفى، فأم حبيبة تزوّجها النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم - وهي بالحبشة، وأصدقها النجاشي أربعمائة دينار وحضر وخطب وأطعم، والقصة مشهورة. وأبو سفيان وابنه معاوية إنما أسلما عام الفتح سنة ثمان من الهجرة. وأما إمارة أبي سفيان، فقد قال الحافظ: إنهم لا يعرفونها: فيجيبون بأجوبة غير طائلة، فيقولون في نكاح ابنته: اعتقد أن نكاحها بغير إذنه لا يجوز وهو حديث عهد بالكفر، فأراد النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم - تجديد النكاح، فيذكرون عن الزبير بن بكار بأسانيد ضعيفة أنّ النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم - أمّره في بعض الغزوات، وهذا لا يعرفه الأثبات.
وقد قال الحافظ: إن مسلماً لما وضع كتابه الصحيح عرضه على أبي زرعة فأنكر عليه وتغيّظ وقال: سميته الصحيح وجعلته سلّماً لأهل البدع وغيرهم؟! ».
٣ ) الأدفوي الشافعي
ولأبي الفضل الأدفوي الشافعي تحقيق في هذا الباب، ذكره في رد كلامٍ لابن الصلاح ننقله بنصه: « ثمّ أقول: إن الأمة تلقّت كل حديث صحيح وحسن بالقبول وعملت به عند عدم المعارض، وحينئذ لا يختص بالصحيحين، وقد تلقت الأمّة الكتب الخمسة أو الستة بالقبول وأطلق عليها جماعة اسم « الصحيح » ورجّح بعضهم بعضها على كتاب مسلم وغيره، قال أبو سليمان أحمد الخطابي: كتاب السنن لأبي داود كتاب شريف لم يصنف في حكم الدين كتاب مثله، وقد رزق من الناس القبول كافة، فصار حكماً بين فرق العلماء وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم، وكتاب السنن أحسن وضعاً وأكثر فقهاً من كتب البخاري ومسلم. وقال الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي: سمعت الامام أبا الفضل عبد الله بن محمد الأنصاري بهراة يقول - وقد جرى بين يديه ذكر أبي
عيسى الترمذي وكتابه - فقال: كتابه عندي أنفع من كتاب البخاري ومسلم. وقال الامام أبو القاسم سعيد بن علي الزنجاني: إن لأبي عبد الرحمن النسائي شرطاً في الرجال أشد من شرط البخاري ومسلم. وقال أبو زرعة الرازي لما عرض عليه ابن ماجة السنن كتابه: أظن إنْ وقع هذا في أيدي الناس تعطلت هذه الجوامع كلها، أو قال: أكثرها.
ووراء هذا بحث آخر وهو: إن قول الشيخ أبي عمرو ابن الصلاح: إن الأمّة تلقت الكتابين بالقبول، إن أراد كل الأمة فلا يخفى فساد ذلك، إذ الكتابان إنما صنفا في المائة الثالثة بعد عصر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وأئمة المذاهب المتبعة، ورءوس حفاظ الأخبار ونقاد الآثار المتكلمين في الطرق والرجال المميزين بين الصحيح والسقيم، وإنْ أراد بالأمّة الذين وجدوا بعد الكتابين فهم بعض الأمّة، فلا يستقيم له دليله الذي قرره من تلقي الأمّة وثبوت العصمة لهم، والظاهرية إنما يعتنون بإجماع الصحابة خاصة، والشيعة لا تعتد بالكتابين وطعنت فيهما، وقد اختلف في اعتبار قولهم في الإجماع والانعقاد.
ثم إنْ أراد كل حديث فيهما تلقي بالقبول من الناس كافة فغير مستقيم، فقد تكلّم جماعة من الحفاظ في أحاديث فيهما، فتكلّم الدارقطني في أحاديث وعلّلها، وتكلّم ابن حزم في أحاديث كحديث شريك في الأسراء، قال: إنّه خلط. ووقع في الصحيحين أحاديث متعارضة لا يمكن الجمع بينها، والقطع لا يقطع التعارض فيه.
وقد اتفق البخاري ومسلم على إخراج حديث « محمد بن بشار بندار » وأكثرا من الاحتجاج بحديثه، وتكلّم فيه غير واحد من الحفاظ، أئمة الجرح والتعديل ونسب إلى الكذب، وحلف عمرو بن علي الفلاّس شيخ البخاري أن بندار يكذب في حديثه عن يحيى، وتكلّم فيه أبو موسى، وقال علي بن المديني في الحديث الذي رواه في السجود: هذا كذب، وكان يحيى لا يعبأ به ويستضعفه وكان القواريري لا يرضاه.
وأكثرا من حديث « عبد الرزاق » والاحتجاج به، وتكلم فيه ونسب إلى الكذب.
وأخرج مسلم عن « أسباط بن نصر » وتكلّم فيه أبو زرعة وغيره.
وأخرج أيضاً عن « سماك بن حرب » وأكثر عنه، وتكلّم فيه غير واحد، وقال الامام أحمد بن حنبل: هو مضطرب الحديث، وضعّفه أمير المؤمنين في الحديث شعبة، وسفيان الثوري، وقال يعقوب بن شعبة: لم يكن من المتثبتين وقال النسائي: في حديثه ضعف، قال شعبة: كان سماك يقول في التفسير عكرمة ولو شئت لقلت له ابن عباس لقاله، وقال ابن المبارك، سماك ضعيف في الحديث وضعّفه ابن حزم، قال: وكان يلقّن فيتلقّن.
وكان أبو زرعة يذمّ وضع كتاب مسلم ويقول: كيف تسمية الصحيح وفيه فلان وفلان؟ وذكر جماعة.
وأمثال ذلك يستغرق أوراقاً، فتلك الأحاديث عندهما ولم يتلقوها بالقبول.
وإنْ أراد: غالب ما فيهما سالم من ذلك، لم يبق له حجة »(١) .
ترجمة الأدفوي
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني بترجمة الادفوي: « جعفر بن ثعلب بن جعفر بن علي، أبو الفضل الأدفوي، الأديب الفقيه الشافعي، ولد بعد سنة ثمانين وستمائة وقرأت بخط الشيخ تقي الدين السبكي أنه كان يسمّى وعد الله. قال الصفدي: إشتغل في بلاده فمهر في الفنون، ولازم ابن دقيق العيد وتأدّب بجماعة منهم أبو حيان وحمل عنه كثيراً، وكان يقيم في بستان له ببلده، وصنف الإِمتاع في أحكام السماع، والطالع السعيد في تاريخ الصعيد، والبدر السافر في تحفة المسافر، وكل مجاميعه جيدة، وله النظم والنثر الحسن
___________________
(١). الإِمتاع في أحكام السماع لأبي الفضل الأدفوي: الفصل العاشر. مخطوط.
ومن خط البدر النابلسي: كان عالماً فاضلاً، متقلّلاً من الدنيا، ومع ذلك فكان لا يخلو من المآكل الطيبة. مات في أوائل سنة ٧٤٨ »(١) .
وقال جمال الدين الأسنوي بترجمته: « كان فاضلاً مشاركاً في علوم متعددة أديباً شاعراً، ذكياً كريماً، طارحاً للتكلّف، ذا مروّةٍ كبيرة، صنّف في أحكام السّماعٍ كتاباً نفيساً سماه بالإِمتاع، أنبأ فيه عن اطلاعٍ كثير، فإنه كان يميل إلى ذلك ميلاً كبيراً ويحضره، سمع وحدّث ودرّس قبل موته بأيام يسيرة بمدرس الحديث الذي أنشأه الأمير حبكلي بن البابا بمسجده، وأعاد بالمدرسة الصالحية من القاهرة وكان مقيماً به »(٢) .
وقال أبوبكر ابن قاضي شهبة الأسدي: « جعفر بن ثعلب بن علي، الامام العلامة، الأديب البارع، ذو الفنون، كمال الدين أبو الفضل الأدفوي وقال أبو الفضل العراقي: كان من فضلاء أهل العلم، صنف تاريخاً للصعيد، ومصنفاً في أحكام السماع سماه كشف القناع، وغير ذلك »(٣) .
٤ ) أبو زرعة الرازي
أ - أبو زرعة ومسلم.
لقد علمنا من كلام الأفودي وغيره: أن أبا زرعة الرازي كان يذم وضع كتاب مسلم ويعترض على مسلم صنعه ويقول له: كيف تسمّيه الصحيح وفيه فلان وفلان؟
وقد ذكر الذهبي بترجمة أحمد بن عيسى المصري: « قال: سعيد البرذعي:
___________________
(١). الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ٢ / ٧٢.
(٢). طبقات الشافعية ١ / ١٧٠.
(٣). طبقات الشافعية ٣ / ١٧٢، وتوجد ترجمة الأدفوي في: النجوم الزاهرة ١٠ / ٢٣٧ حوادث سنة ٧٤٨، البدر الطالع ١ / ١٨٢، حسن الحاضرة ١ / ٣٢٠ شذرات الذهب ٦ / ١٥٣، حوادث سنة ٧٤٨.
شهدت أبا زرعة ذكر صحيح مسلم فقال: هؤلاء قوم أرادوا التقدّم قبل أوانه فعملوا شيئاً يتسوّقون به. وأتاه رجل - وأنا شاهد - بكتاب مسلم، فجعل ينظر فيه فإذا حديث عن أسباط بن نصر قال: ما أبعده هذا عن الصحيح، ثم رأى قطن ابن نسير فقال لي: وهذا أطم من الأول، قطن بن نسير يصل أحاديث عن ثابت جعلها عن أنس، ثم نظر فقال: يروي عن أحمد بن عيسى في الصحيح! ما رأيت أهل مصر يشكون في أنه - وأشار إلى لسانه -. »(١) .
وقال بترجمة محمد بن يحيى الذهلي: « قال أبو قريش الحافظ: كنت عند أبي زرعة فجاء مسلم بن الحجاج فسلّم عليه وجلس ساعه، وتذاكرا، فلمّا أن قام قلت له: هذا جمع أربعة آلاف حديث في الصحيح، قال: فلمن ترك الباقي؟ ثم قال: هذا ليس له عقل، لو داري محمد بن يحيى لصار رجلاً »(٢) .
ب - أبو زرعة والبخاري.
ولم يسكت أبو زرعة عن ممد بن إسماعيل البخاري وكتابه المعروف بـ ( الصحيح ) بل تناوله بالقدح والجرح كذلك، قال الذهبي: « علي بن عبد الله ابن جعفر بن الحسن الحافظ، أحد الأعلام الأثبات وحافظ العصر، ذكره العقيلي في كتاب الضعفاء فبئس ما صنع، فقال: جنح إلى ابن أبي داود والجهمية وحديثه مستقيم إنْ شاء الله، قال لي عبد الله بن أحمد: كان أبي حدثنا عنه ثم أمسك عن اسمه، وكان يقول: حدثنا رجل، ثم ترك حديثه بعد ذلك.
قلت: بل حديثه عنه في مسنده، وقد تركه إبراهيم الحربي وذلك لميله إلى أحمد بن أبي داود فقد كان محسناً اليه.
وكذا امتنع مسلم عن الرواية عنه في صحيحه لهذا المعنى، كما امتنع أبو زرعة وأبو حاتم من الرواية عن تلميذه « محمد » لأجل مسألة اللفظ. وقال
___________________
(١). تذهيب التهذيب، مخطوط. وانظر ميزان الاعتدال ١ / ١٢٥.
(٢). سير أعلام النبلاء ١٢ / ٧٠.
عبد الرحمن بن أبي حاتم: كان أبو زرعة ترك الرواية عنه من أجل ما كان منه في المحنة »(١) .
والمراد من « محمد » تلميذ « علي بن المديني » هو: « محمد بن إسماعيل البخاري ».
ومن طرائف الأمور: أن مسلم بن الحجاج - وهو تلميذ البخاري - قد امتنع من الرواية عن علي بن المديني لميله إلى أحمد بن أبي داود
فالاستدلال بإعراض البخاري ومسلم عن رواية حديث الغدير في غير محله لأنهما وشيخهما كلّهم مقدوحون مجروحون
وقال الذهبي: « محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري قدم بغداد طالب حديث على رأس الخمسمائة وكتب عن الموجودين. قال ابن الجوزي وغيره كان كذاباً.
فأمّا محمد بن إسماعيل مولى الجعفيين فحجة إمام، ولا عبرة بترك أبي زرعة وأبي حاتم له من أجل اللفظ »(٢) .
أقول: ولكن تركهما له نافع لنا على كلا التقديرين.
وقد نص آخرون على تركهما له مع استعظامه واستنكاره، فقال الشيخ عبد الوهاب السبكي في طبقاته: « ومما ينبغي أن يتفقد عند الجرح حال العقائد واختلافها بالنسبة إلى الجارح والمجروح، فربما خالف الجارح المجروح في العقيدة فجرحه بذلك، وإليه أشار الرافعي بقوله: وينبغي أن يكون المزكّون برآء من الشحناء والعصبية في المذهب، خوفاً من أن يحملهم ذلك على جرح عدل أو تزكية فاسق، وقد وقع هذا لكثير من الأئمّة جرحوا بناء على معتقدهم وهم المخطئون والمجروح مصيب.
___________________
(١). ميزان الاعتدال في نقد الرجال ٣ / ١٣٨.
(٢). المغني في الضعفاء ٢ / ٥٥٧.
وقد أشار شيخ الاسلام سيد المتأخرين، تقي الدين ابن دقيق العيد، في كتابه الاقتراح إلى هذا وقال: أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، وقف على شفيرها طائفتان من الناس: المحدّثون والحكام.
قلت: ومن أمثلته قول بعضهم في البخاري: تركه أبو زرعة وأو حاتم من أجل مسألة اللفظ، فيا لله والمسلمين أيجوز لأحد أن يقول: البخاري متروك وهو حامل لواء الصناعة ومقدم أهل السنّة والجماعة؟ يا لله والمسلمين أيجعل ممادحه مذام؟ فإن الحق في مسألة اللفظ معه، إذْ لا يستريب عاقل من المخلوقين في أن تلفّظه من الأفعال الحادثة التي هي مخلوقة لله تعالى، وإنما أنكرها الامام أحمد وابن صالح لبشاعة لفظها ».
والظاهر أنه يقصد من « بعضهم » الحافظ الذهبي وهو شيخه، ولذلك آثر عدم التصريح باسمه.
وقال الشيخ عبد الرءوف المناوي بترجمة البخاري: « زين الأئمة صاحب أصح الكتب بعد القرآن، ساحب ذيل الفضل على ممر الزمان، الذي قال فيه إمام الأئمّة ابن خزيمة: ما تحت أديم السماء أعلم منه. وقال بعضهم: إنه آية من آيات الله يمشي على وجه الأرض. قال الذهبي: كان من أفراد العالم مع الدين والورع والمتانة. هذا كلامه في الكاشف.
ومع ذلك غلب عليه الغرض من أهل السنة، فقال في كتاب الضعفاء والمتروكين: ما سلم من الكلام لأجل مسألة اللفظ، تركه لأجلها الرّازيان.
هذه عبارته وأستغفر الله تعالى، نسأل الله السلامة ونعوذ به من الخذلان »(١) .
« والرازيان » هما: أبو زرعة وأبو حاتم.
ثم اعلم أن الحافظ الذهبي وإنْ اكتفى بنقل طعن هذين الإمامين في كتابيه
___________________
(١). فيض القدير في شرح الجامع الصغير ١ / ٢٤.
( الميزان ) و ( المغني )، إلّا أنه ذكر في سائر كتبه قدح الذهلي وابن أعين وغيرهما كذلك، والظاهر أن السبكي والمناوي لم يقفا على ذلك وإلّا لزاد تألمهما وعويلهما
ترجمة أبي زرعة الرازي
وترجم الذهبي لأبي زرعة ترجمة حافلة نذكر منها جملا، قال: « أبو زرعة الرازي الامام سيد الحفاظ محدّث الري.
وقال أبو بكر الخطيب: كان إماماً، ربّانياً، حافظاً متقناً مكثراً، جالس أحمد ابن حنبل وذاكره، وحدّث عنه أهل بغداد.
قال أبو عبد الله ابن بطة: سمعت النجار سمعت عبد الله بن أحمد يقول:
لما ورد علينا أبو زرعة نزل عندنا فقال لي أبي: يا بنيّ قد اعتضت بنوافلي مذاكرة هذا الشيخ.
وقال ابن أبي شيبة: ما رأيت أحفظ من أبي زرعة.
ابن المقري: أنبأ عبد الله بن محمد بن جعفر القزويني، سمعت محمد بن إسحاق الصّاغاني يقول: أبو زرعة يشبَّه بأحمد بن حنبل.
وقال علي بن الحسين بن الجنيد: ما رأيت أحداً أعلم بحديث مالك من أبي زرعة وكذلك سائر العلوم.
قال ابن أبي حاتم: سئل أبي عن أبي زرعة، فقال: إمام.
قال عمر بن محمد بن إسحاق القطان: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل سمعت أبي يقول: ما جاوز الجسر أحد أفقه من إسحاق بن راهويه ولا أحفظ من أبي زرعة.
إبن عدي: سمعت أبا يعلى الموصلي يقول ما سمعنا يذكر أحد في الحفاظ إلّا كان اسمه أكبر من رؤيته، إلّا أبو زرعة الرازي فإنّ مشاهدته كانت أعظم من اسمه، وكان قد جمع حفظ الأبواب والشيوخ والتفسير، كتبنا بإملائه بواسطة ستة
آلاف حديث.
ابن عدي: سمعت الحسن بن عثمان، سمعت ابن رواه، سمعت إسحاق ابن راهويه، يقول: كلّ حديث لا يعرفه أبو زرعة الرازي، فليس له أصل.
قال ابن أبي حاتم: سمعت يونس بن عبد الأعلى، يقول: ما رأيت أكثر تواضعاً من أبي زرعة، هو وأبو حاتم إماما خراسان.
وقال يوسف الميانجي: سمعت عبد الله بن محمد القزويني القاضي، يقول: حدثنا يونس بن عبد الأعلى يوماً فقال: حدثني أبو زرعة، فقيل له: من هذا؟ فقال: إنّ أبا زرعة أشهر في الدنيا من ابن أبي حاتم، ثنا الحسن بن أحمد سمعت أحمد بن حنبل يدعو الله لأبي زرعة، وسمعت عبد الواحد بن غياث يقول: ما رأى أبو زرعة مثل نفسه.
قال النسائي: أبو زرعة الرازي ثقة.
وقال إسحاق بن إبراهيم بن عبد الحميد القرشي: سمعت عبد الله بن أحمد يقول: ذاكرت أبي ليلةً الحفاظ فقال: يا بني! قد كان الحفظ عندنا، ثم تحوّل إلى خراسان إلى هؤلاء الشباب الأربعة، قلت: من هم؟ قال: أبو زرعة ذاك الرازي، ومحمد بن إسماعيل ذاك البخاري، وعبد الله بن عبد الرحمن ذاك السمرقندي، والحسن بن شجاع ذاك البلخي.
قلت: يعجبني كثيرا كلام أبي زرعة في الجرح والتعديل، يبين عليه الورع والخبرة، بخلاف رفيقه أبي حاتم فإنّه جرّاح »(١) .
وترجم له الحافظ ابن حجر ترجمةً مفصلة أيضاً، نقل فيها الكلمات الواردة في حق أبي زرعة من كبار الأئمّة والحفاظ، هذا ملخصها:
« أبو زرعة الرازي أحد الأئمّة الحفّاظ، قال النسائي ثقة، وقال أبو حاتم حدثني أبو زرعة - وما خلّف بعده مثله علماً وفقهاً وصيانةً وصدقاً، ولا أعلم في
___________________
(١). سير أعلام النبلاء ١٣ / ٦٥.
المشرق والمغرب من كان يفهم هذا الشأن مثله، قال: وإذا رأيت الرازي ينتقص أبا زرعة فاعلم أنه مبتدع. وقال ابن حبان في الثقات: كان أحد أئمة الدنيا في الحديث مع الدين والورع والمواظبة على الحفظ والمذاكرة، وترك الدنيا وما فيه الناس »(١) .
وقال الذهبي أيضاً: « أبو زرعة الحافظ، أحد الأعلام »(٢) .
وقال أيضاً: « عبيد الله بن عبد الكريم أبو زرعة الرازي، الحافظ أحد الأعلام، عن أبي نعيم والقعنبي وقبيصة وطبقتهم في الآفاق.
عنه: م ت س ق وأبو عوانة ومحمد بن الحسين والقطّان وأمم.
قال ابن راهويه: كلّ حديث لا يعرفه أبو زرعة فليس له أصل. مناقبه تطول. ولد سنة ١٩٠. ومات سنة ٢٦٤ في آخر يوم من السنة »(٣) .
وقال الحافظ: « إمام حافظ ثقة مشهور، من الحادية عشر »(٤) .
وقال اليافعي: « أبو زرعة الرازي الحافظ أحد الأئمّة الأعلام »(٥) .
وقال السمعاني: « كان إماماً ربّانياً، حافظاً مكثراً صادقاً، وقدم بغداد غير مرة، وجالس أحمد بن حنبل وذاكره وكثرت الفوائد في مجلسهما »(٦) .
وقال السيوطي: « أحد أئمّة الأعلام وحفاظ الإسلام »(٧) .
وقال عبد الغني المقدسي: « الامام، أحد حفاظ الإسلام »(٨) .
___________________
(١). تهذيب التهذيب ٧ / ٣٠.
(٢). العبر - حوادث ٢٦٤.
(٣). الكاشف ٢ / ٢٣٠.
(٤). تقريب التهذيب ١ / ٥٣٦.
(٥). مرآة الجنان، حوادث ٢٦٤.
(٦). الأنساب - الرازي.
(٧) طبقات الحفاظ: ٢٤٩.
(٨) الكمال في معرفة الرجال - مخطوط، لعبد الغني بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي الحافظ المتوفى سنة ٦٠٠. توجد ترجمته في العبر ومرآة الجنان في حوادث السنة المذكورة.
وروى النووي عن أحمد قوله: « إنتهى الحفظ إلى الأربعة من أهل خراسان: أبو زرعة الرازي، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وعبد الله بن الرحمن السمرقندي - يعني الدارمي - والحسين بن الشجاع البلخي ».
ثم روى عن الحافظ أبي علي صالح بن محمد بن جزرة قوله: « أعلمهم بالحديث البخاري، وأحفظهم أبو زرعة وهو أكثرهم حديثاً ».
وعن محمد بن بشار شيخ البخاري ومسلم قوله: « حفّاظ الدنيا أربعة: أبو زرعة بالري، ومسلم بن الحجاج بنيسابور، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل ببخارى »(١) .
وروى أبوبكر الخطيب عن أبي جعفر الطّحاوي قوله: « ثلاثة من علماء الزمان بالحديث إتفقوا بالري، لم يكن في الأرض في وقتهم أمثالهم، فذكر أبا زرعة ومحمد بن مسلم بن وارة وأبا حاتم الرازي »(٢) .
هذا، ولقد وصف ( الدهلوي ) أبا زرعة بـ « رئيس المحدثين » وترجم له ترجمة حافلة(٣) ، لكنه زعم في فصل الكلام على المتعة: أن كتاب مسلم بن الحجاج أصح الكتب(٤) ، مع علمه برأي « رئيس المحدثين » في مسلم وكتابه
٥ ) أبو حاتم الرازي
لقد ترك الامام أبو حاتم الرازي البخاري كرفيقه أبي زرعة الرازي كما علم من الكلمات المتقدمة.
ترجمة أبي حاتم
وتدل جملة من الكلمات المتقدمة في ترجمة أبي زرعة الرازي، على عظمة
___________________
(١). تهذيب الأسماء واللغات ١ / ٦٨. بترجمة البخاري.
(٢). تاريخ بغداد ٣ / ٢٥٦ بترجمة محمد بن مسلم بن وارة.
(٣). بستان المحدثين: ٩.
(٤). التحفة الاثنا عشرية، باب المطاعن: ٣٠٢.
شأن أبي حاتم وجلالة قدره، وقد أفادت أنه من أمثال البخاري وأبي زرعة
٦ ) ابن أبي حاتم
وابن أبي حاتم ذكر البخاري في كتاب ( الجرح والتعديل )، فقد قال الحافظ الذهبي: « قال عبد الرحمن بن أبي حاتم في الجرح والتعديل: قدم محمد بن إسماعيل الري سنة خمسين ومائتين، وسمع منه أبي وأبو زرعة، وتركا حديثه عند ما كتب إليهما محمد بن يحيى أنه أظهر عندهم بنيسابور أن لفظه بالقرآن مخلوق »(١) .
ترجمة ابن أبي حاتم
ترجم له الحافظ الذهبي بما هذا ملخصه: « عبد الرحمن العلّامة الحافظ قال أبو الحسن علي بن إبراهيم الرازي الخطيب في ترجمة عملها لابن أبي حاتم: كان -رحمهالله - قد كساه الله نوراً وبهاءً يسّر من نظر اليه.
قلت: وكان بحراً لا تدركه الدّلاء، روى عنه ابن عدي وحسن بن علي التميمي، والقاضي يوسف الميانجي، وأبو الشيخ ابن حيان، وابو أحمد الحاكم، وعلي بن عبد العزيز بن مردك، وأحمد بن محمد البصير الرازي، وعبد الله بن محمد ابن يزداد، وأخواه أحمد وإبراهيم بن محمد النصرآبادي، وأبو سعيد عبد الوهاب الرازي، وعلي بن محمد القصار وخلق سواهم.
قال أبو يعلي الخليلي: أخذ أبو محمد علم أبيه وأبي زرعة، وكان بحراً في العلوم ومعرفة الرجال، صنف في الفقه وفي اختلاف الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار، قال: وكان زاهداً يعدّ من الأبدال.
قلت: له كتاب نفيس في الجرح والتعديل أربع مجلدات، وكتاب الردّ على
___________________
(١). سير أعلام النبلاء ١٢ / ٣٩١.
الجهمية مجلد ضخم انتخبت منه، وله تفسير كبير في عدة مجلدات عامّته آثار بأسانيد، من أحسن التفاسير.
وقال الرازي المذكور في ترجمة عبد الرحمن: سمعت علي بن محمد المصري - ونحن في حارة ابن أبي حاتم - يقول: قلنسوة عبد الرحمن من السماء وما هو بعجب، رجل منذ ثمانين سنة على وتيرة واحدة لم ينحرف عن الطريق. وسمعت علي بن أحمد الفرضي يقول: ما رأيت أحداً ممن عرف عبد الرحمن ذكر عنه جهالة قط.
قال الامام إبو الوليد الباجي: عبد الرحمن بن أبي حاتم ثقة حافظ »(١) .
وقال صلاح الدين الكتبي: « الإِمام ابن الإِمام الحافظ ابن الحافظ، سمع أباه وغيره، قال ابن مندة له الجرح والتعديل في عدة مجلدات تدل على سعة حفظه وإمامته قال أبو يعلى الخليلي: كان يعدّ من الأبدال.
وقد أثنى عليه جماعة بالزهد والورع التام، والعلم والعمل، وتوفي في المحرم سنة سبع وعشرين وثلاثمائة،رحمهالله تعالى »(٢) .
ووصفه الذهبي بـ « الحافظ الجامع »(٣) ، واليافعي بـ « الحافظ العالم »(٤) .
ونقلا كلمة الخليلي المتقدمة.
٧ ) محمد بن يحيى الذهلي
وأما تكلّم محمد بن يحيى الذهلي في البخاري فمصرح به في عبارات الحفاظ، قال الذهبي: « قال أبو حامد ابن الشرقي: سمعت محمد بن يحيى الذهلي، يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق من جميع جهاته وحيث يصرف، فمن
___________________
(١). سير أعلام النبلاء ١٣ / ٢٦٣.
(٢). فوات الوفيات ٢ / ٢٨٧.
(٣). العبر - حوادث ٣٢٧.
(٤). مرآة الجنان - حوادث ٣٢٧.
لزم هذا استغنى عن اللفظ وعمّا سواه من الكلام في القرآن. ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر وخرج عن الايمان، وبانت منه امرأته، يستتاب فإنْ تاب وإلّا ضربت عنقه وجعل ماله فيئاً بين المسلمين، لم يدفن في مقابرهم. ومن وقف فقال: لا أقول مخلوق ولا غير مخلوق، فقد ضاهى الكفر. ومن زعم: أن لفظي بالقرآن مخلوق فهذا مبتدع لا يجالس ولا يكلّم.
ومن ذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل البخاري، فاتّهموه فإنه لا يحضر مجلسه إلّا من كان على مثل مذهبه »(١) .
ولقد أورد الحافظ ابن حجر هذا الكلام في مقدمة شرح البخاري(٢) .
وقال الذهبي: « قال الحاكم: ثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الأخرم سمعت ابن علي المخلدي، سمعت محمد بن يحيى، يقول: قد أظهر هذا البخاري قول اللفظية، واللفظية عندي شرّ من الجهمية »(٣) .
كفر الجهمية
وقد نصّ أئمّة أهل السنة وكبار حفّاظهم على كفر الجهميّة وهلاكهم وضلالهم، فقد قال الذهبيّ بترجمة علي بن المديني: « قال ابن عمار الموصلي في تاريخه: قال لي علي بن المديني: ما يمنعك أن تكفّر الجهمية؟ وكنت أنا أوّلاً لا أكفّرهم. فلمّا أجاب عليّ إلى المحنة، كتبت إليه أذكّره ما قال لي وأذكّره الله، فأخبرني رجل عنه أنه بكى حين قرأ كتابي، ثم رأيته بعد، فقال لي: ما في قلبي ممّا قلت وأجبت من شيء، ولكنّي خفت أن أقتل وتعلم ضعفي أني لو ضربت سوطاً واحداً لمتّ، أو نحو هذا »(٤) .
___________________
(١). سير أعلام النبلاء ١٢ / ٤٥٥.
(٢). هدي الساري ٢ / ٢٦٣.
(٣). سير أعلام النبلاء ١٢ / ٤٥٥.
(٤). سير أعلام النبلاء ١١ / ٤١.
وقال الذّهبي أيضاً: « جهم بن صفوان أبو محمد السّمرقندي، الضّال المبتدع، رأس الجهميّة، هالك في زمان صغار التابعين، وعلمته روى شيئاً، لكنه زرع شرّاً عظيماً »(١) .
بين الذهلي والشيخين
وقال الحافظ الذّهبي: « قال - يعني الحاكم -: وسمعت محمد بن يعقوب الحافظ يقول: لما استوطن البخاري نيسابور أكثر مسلم بن الحجّاج الاختلاف إليه. فلمّا وقع بين الذّهلي وبين البخاري ما وقع في مسألة اللّفظ، ونادى عليه ومنع النّاس عنه، انقطع عنه أكثر الناس غير مسلم، فقال الذهلي يوماً: ألا من قال باللفظ، فلا يحلّ له أن يحضر مجلسنا، فأخذ مسلم ردائه فوق عمامته وقام على رءوس الناس، وبعث إلى الذّهلي ما كتب عنه على ظهر حمّال، وكان مسلم يظهر القول باللفظ ولا يكتمه.
قال: وسمعت محمد بن يوسف المؤذّن، سمعت أبا حامد بن الشّرقي يقول: حضرت مجلس محمد بن يحيى، فقال: ألا من قال لفظي بالقرآن مخلوق، فلا يحضر مجلسنا، فقام مسلم بن الحجاج عن المجلس، رواها أحمد بن منصور الشيرازي، عن محمد بن يعقوب، فزاد: وتبعه أحمد بن سلمة.
قال أحمد بن منصور الشيرازي: سمعت محمد بن يعقوب الأخرم، سمعت أصحابنا يقولون لـمّا قام مسلم وأحمد بن سلمة من مجلس الذهلي، قال: لا يساكنني هذا الرجل في البلد، فخشي البخاري وسافر »(٢) .
وقال الحافظ ابن حجر: « وقال الحاكم أيضاً عن الحافظ أبي عبد الله ابن الأخرم، قال: لـمّا قام مسلم بن الحجاج وأحمد بن سلمة من مجلس محمد بن يحيى بسبب البخاري، قال الذهلي: لا يساكنني هذا الرجل في البلد. فخشي البخاري
___________________
(١). ميزان الاعتدال ١ / ٤٢٦.
(٢). سير أعلام النبلاء ١٢ / ٤٥٦.
وسافر »(١) .
ترجمة محمد بن يحيى الذهلي
ترجم له الحافظ أبوبكر الخطيب ترجمةً ضافية جدّاً، هذا ملخصها:
« وكان أحد الأئمّة العارفين والحفاظ المتقنين والثقات المأمونين، صنّف حديث الزهري وجوّده، وقدم بغداد وجالس شيوخها، وحدّث بها.
وكان الامام أحمد بن حنبل يثني عليه وينشر فضله.
وقد حدّث عنه جماعة من الكبراء، كسعيد بن أبي مريم المصري وأبي صالح كاتب الليث بن سعد ومحمد بن إسماعيل البخاري وأبي زرعة وأبي حاتم الرازيين وأبي داود السجستاني.
أخبرنا أبو نعيم الحافظ، أخبرني محمد بن عبد الله الضبّي في كتابه: قال: سمعت يحيى بن منصور القاضي يقول: سمعت خالي عبد الله بن علي بن الجارود يقول: سمعت محمد بن سهل بن عسكر يقول: كنا عند الامام أحمد بن حنبل، فدخل محمد بن يحيى - يعني الدهلي - فقام إليه أحمد وتعجّب منه الناس. ثم قال لبنيه وأصحابه: إذهبوا إلى أبي عبد الله فاكتبوا منه.
وأخبرنا ابن زرق، أخبرنا دعلج بن أحمد، حدثنا أبو محمد ابن الجارود قال: سمعت أبا عبد الرحيم محمد بن أحمد بن الجرّاح الجوزجاني يقول: دخلت على الامام أحمد بن حنبل. فقال لي: تريد البصرة؟ قلت: نعم، قال: فإذا أتيتها فالزم محمد بن يحيى وليكن سماعك منه، فإنّي ما رأيت خراسانيّاً - أو قال: ما رأيت أحداً - أعلم بحديث الزهري منه ولا أصح كتاباً منه.
أخبرني محمد بن أحمد بن يعقوب، أخبرنا محمد بن نعيم الضبيّ، قال: سمعت أبا علي الحسين بن علي الحافظ - وسأله أبو عمر الاصبهاني عن محمد بن يحيى وعباس بن عبد العظيم العنبري، أيهما أحفظ؟ قال أبو علي: عباس بن
___________________
(١). هدي الساري ٢ / ٢٦٤.
عبد العظيم حافظ إلّا أنّ محمد بن يحيى أجلّ، حدثني فضلك الرازي أنه قال: حدثني من لم يخطئ في حديث قط محمد بن يحيى الذهلي النيسابوري.
وقال أبو علي بن المديني: كفانا محمد بن يحيى جمع حديث الزهري.
أخبرنا هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري، قال: سمعت العلاء بن محمد الروياني ومحمد بن الحسين الرازي، يقولان: سمعنا عبد الرحمن بن أبي حاتم يقول: سمعت أبي يقول: محمد بن يحيى الذهلي إمام أهل زمانه.
أخبرني محمد بن أبي الحسن، أخبرنا عبيد الله بن القاسم الهمداني بطرابلس، أخبرنا أبو عيسى عبد الرحمن بن إسماعيل العروضي بمصر، حدثنا أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي إملاء قال: محمد بن يحيى بن عبد الله النيسابوري ثقة مأمون.
أخبرنا محمد بن علي المقري قال: قرأنا على الحسين بن هارون، عن أبي سعيد، قال: سمعت عبد الرحمن بن يوسف - يعني ابن خراش - يقول: كان محمد بن يحيى من أئمّة أهل العلم.
أخبرني الحسين بن محمد الخلّال، حدثنا عمر بن أحمد الواعظ، حدثنا عبد الله بن سليمان، حدثنا محمد بن يحيى النيسابوري وكان أمير المؤمنين في الحديث »(١) .
وقال الحافظ الذهبي بترجمة الذّهلي: « الحافظ أحد الأعلام، عن أحمد بن حنبل قال: ما رأيت خراسانياً أعلم بحديث الزهري منه، ولا أصح كتاباً منه.
وقال سعيد بن منصور لابن معيلم، لم تجمع حديث الزهري؟ قال: قد كفانا محمد بن يحيى جمع حديث الزهري.
وقال أبو قريش الحافظ: كنت عند أبي زرعة فجاء مسلم، فجلس ساعة وتذاكرا، فلمّا أن قام قلت: هذا جمع أربعة آلاف حديث في الصحيح، قال: فَلِمَ ترك الباقي؟ ثم قال: ليس لهذا عقل، لو دارى محمد بن يحيى لصار رجلاً.
___________________
(١). تاريخ بغداد ٣ / ٤١٥ - ٤٢٠.
قال أبو حاتم الرازي: محمد بن يحيى الذهلي إمام أهل عصره، أسكنه الله جنته مع جبّته.
وقال السلمي عن الدارقطني: قال: من أحبّ أن يعرف قصور علمه عن علم السلف، فلينظر في علم حديث الزهري لمحمد بن يحيى »(١) .
وقال الذهبي أيضاً بترجمته: « الامام العلّامة الحافظ البارع، شيخ الاسلام وعالم أهل المشرق وإمام الحديث بخراسان، وكان بحراً لا تدركه الدّلاء، جمع علم الزهري وصنّفه وجوّده، من أجل ذلك يقال له: الزهري، ويقال له: الذهلي، فانتهت إليه رئاسة العلم والعظمة والسؤدد ببلده، كانت له جلالة عجيبة بنيسابور من نوع جلالة الامام أحمد ببغداد ومالك بالمدينة.
روى عنه خلائق منهم: الأئمّة سعيد بن أبي مريم، وأبو جعفر النفيلي، وعبد الله بن صالح، وعمرو بن خالد - وهؤلاء من شيوخه - ومحمود بن غيلان، ومحمد بن سهل بن عسكر، ومحمد بن إسماعيل البخاري - ويدلّسه كثيراً، لا يقول محمد بن يحيى، بل يقول: محمد فقط، أو محمد بن خالد، أو محمد بن عبد الله، ينسبه إلى الجد ويعمّى اسمه لمكان الواقع بينهما - غفر الله لهما.
وممن روى عنه: سعيد بن منصور صاحب السنن - وهو أكبر منه -، ومحمد ابن إسحاق الصاغاني، وأبو زرعة، وأبو حاتم، ومحمد بن عوف الطائي، وأبو داود السجزي، وأبو عيسى الترمذي، وابن ماجة، والنسائي في سننهم، وإمام الأئمّة ابن خزيمة، وأبو عوانة، وأكثر عنه مسلم، ثم فسد ما بينهما فامتنع من الرواية عنه، فما ضره ذلك عند الله.
وقد سئل صالح بن جزرة عن محمد بن يحيى فقال: ما في الدنيا أحمق ممن يسأل عن محمد بن يحيى »(٢) .
___________________
(١). تذهيب التهذيب - مخطوط.
(٢). سير أعلام النبلاء ١٢ / ٢٧٣.
ووصفه في موضع آخر بـ « أحد الأئمّة الأعلام »(١) .
وفي آخر بـ « الحافظ »(٢) .
وقال السمعاني في « الزهري »: « أما الامام أبو عبد الله محمد بن يحيى بن خالد الذّهلي إمام أهل نيسابور في عصره ورئيس العلماء ومقدّمهم، لقب بالزهري لجمعه الزهريات، وهي أحاديث محمد بن مسلم بن شهاب الزهري »(٣) .
وقال البدخشاني: « وهو من كبار الحفاظ الثقات الأثبات، وأجلّة شيوخ البخاري وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة »(٤) .
وقال اليافعي: « الإمام الحافظ أحد الأعلام »(٥) .
وترجم له الحافظ السيوطي في طبقات الحفاظ(٦) .
٨ ) أبوبكر ابن الأعين والبخاري
قال الحافظ الذهبي بترجمة علي بن حجر:
« قال الحافظ أبوبكر ابن الأعين: مشايخ خراسان ثلاثة: قتيبة، وعلي بن حجر، ومحمد بن مهران الرازي. ورجالها أربعة: عبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي، ومحمد بن إسماعيل البخاري ( قبل أن يظهر )، ومحمد بن يحيى، وأبو زرعة »(٧) .
فقوله: « قبل أن يظهر » يفيد الطعن كما لا يخفى.
___________________
(١). العبر في خبر من غبر - حوادث سنة ٢٥٨.
(٢). الكاشف ٣ / ١٠٧.
(٣). الأنساب - الزهري.
(٤). تراجم الحفاظ - مخطوط.
(٥). مرآة الجنان - حوادث سنة ٢٥٨.
(٦). طبقات الحفاظ / ٢٣٤.
(٧) سير أعلام النبلاء ١١ / ٥٠٧.
الامام أحمد واللّفظية
ثم قال الحافظ الذهبي:
« قلت: هذه دقة من الأعين، الذي ظهر من « محمد » أمر خفيف من المسائل التي اختلف فيها الأئمّة في القول في القرآن، وتسمّى مسألة أفعال التالين. فجمهور الأئمّة والسلف والخلف على أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وبهذا ندين الله تعالى وندعو من خالف ذلك.
وذهب الجهميّة والمعتزلة والمأمون وأحمد بن أبي داود القاضي وخلق من المتكلّمين والرافضة، إلى أنّ القرآن كلام الله المنزل مخلوق، وقالوا: الله خالق كلّ شيء، والقرآن شيء، وقالوا: الله تعالى أن يوصف بأنّه متكلّم، وجرت محنة القرآن وعظم البلاء، فضرب أحمد بن حنبل بالسّياط ليقول ذلك، نسأل الله تعالى السّلامة في الدين.
ثم نشأت طائفة فقالوا: كلام الله تعالى منزّل غير مخلوق ولكن ألفاظنا به مخلوقة، يعنون لفظهم وأصواتهم به، وكتابهم له ونحو ذلك، وهم حسين الكرابيسي ومن تبعه، فأنكر ذلك الامام أحمد وأئمّة الحديث.
وبالغ الامام أحمد في الحطّ عليهم وثبت عنه أنّه قال: اللفظية جهميّة، وقال: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، وقال: من قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع، وسدّ باب الخوض في هذا.
وقال أيضاً: من قال لفظي بالقرآن مخلوق - يريد القرآن - فهو جهميّ.
وقالت طائفة: القرآن محدث، كداود الظاهري ومن تبعه، فبدّعهم الامام أحمد فأنكر ذلك واثبت علم الجزم بأنّ القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق وأنّه من علم الله تعالى، وكفّر من قال بخلقه، وبدّع من قال بحدوثه، وبدّع من قال: لفظي بالقرآن قديم، ولم يأت عنه ولا عن السّلف القول بأنّ القرآن قديم، ما تفوّه به أحد منهم بهذا، فقولنا قديم من العبارات المحدثة المبدعة، كما أنّ قولنا محدث
بدعة.
وأمّا البخاري فكان من كبار الأئمّة الأذكياء، فقال: ما قلت ألفاظنا بالقرآن مخلوقة وإنما حركاتهم وأصواتهم وأفعالهم مخلوقة، والقرآن المسموع المتلوّ المكتوب في المصاحف كلام الله تعالى غير مخلوق، وصنّف في ذلك أفعال العباد مجلّد، فأنكر عليه طائفة ما فهموا مرامه، كالذهلي وأبي زرعة وأبي حاتم وأبي بكر ابن الأعين وغيرهم.
ثم ظهر بعد ذلك مقالة الكلاميّة والأشعرية، وقالوا: القرآن معنى قائم بالنفس، وإنّما هذا المنزل حكايته وعبارته ودال عليه. وقالوا: هذا المتلو معدود متعاقب، وكلام الله تعالى لا يجوز عليه التعاقب والتعدّد، بل هو شيء واحد قائم بالذات المقدسة.
واتسع المقال في ذلك ولزم منه أمور وألوان، تركها - والله - من حسن الايمان، وبالله تعالى نتأيّد »(١) .
أقول: وإذا ثبت أنّ الامام أحمد قال: « اللفظية جهميّة » وأنّه أنكر على الكرابيسي ومن تبعه مقالتهم، وبالغ في الحطّ عليهم، وثبت أيضاً « أنّ البخاري كان من اللفظية » - كما علم من سير أعلام النبلاء في ما سبق - فإنا نستنتج من ذلك شمول طعن الامام أحمد وإنكاره للبخاري أيضاً، فهو من « الجهميّة » والجهميّة « كفرة » كما سبق.
بل في ( ميزان الاعتدال ) و ( سير أعلام النّبلاء )، بترجمة الحسين الكرابيسي: « انّ الامام أحمد أنكر عقيدته وعدّه متجهّماً ومقت النّاس الكرابيسي وتركوه »(٢) . ومقتضى الاتّحاد بين الكرابيسي والبخاري في العقيدة في هذه المسألة، كون البخاري كذلك عند أحمد. بل جاء بترجمة أحمد بن حنبل من ( سير أعلام النبلاء ) ما نصّه:
___________________
(١). سير أعلام النبلاء ١١ / ٥١٠.
(٢). ميزان الاعتدال ١ / ٥٤٤، سير أعلام النبلاء ١٢ / ٧٩.
« قال اسماعيل بن الحسن السرّاج: سألت أحمد عمن يقول: القرآن مخلوق، قال: كافر. وعمّن يقول: لفظي بالقرآن مخلوق فقال: فهو جهميّ »(١) .
فلابدّ لهم من الاعتراف بجهميّة البخاري وإنْ تجهّموا وتعبّسوا، ولا محيص لهم من الإذعان بضلاله وإنْ تغيّروا وتربّدوا.
الامام أحمد بن صالح واللفظية
وقال الامام الحافظ أحمد بن صالح: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر نقله الحافظ الذّهبي عنه بترجمته، حيث قال:
« قال محمد بن موسى المصري: سألت أحمد بن صالح، فقلت له: إنّ قوماً يقولون: إن لفظنا بالقرآن غير الملفوظ، فقال: لفظنا بالقرآن هو الملفوظ والحكاية هي المحكي، وهو كلام الله غير مخلوق. ومن قال: لفظي به مخلوق فهو كافر ».
موجز ترجمة أحمد بن صالح
وقد عنون الحافظ الذهبي أحمد بن صالح المذكور بقوله: « أحمد بن صالح الامام الكبير حافظ زمانه بالدّيار المصرية، أبو جعفر المصري المعروف بابن الطبري، كان أبوه جنديّاً من أهل طبرستان، وكان أبو جعفر رأساً في هذا الشأن، قلّ أن ترى العيون مثله، مع الثقة والبراعة »(٢) .
مع الذهبي
ولنا هنا وقفة قصيرة مع الحافظ الذّهبي فإنّ الملاحظ أنّ الذهبي يتلوّن عند ما ينقل كلمات الأئمّة: الذهلي وأحمد بن حنبل وأحمد بن صالح وغيرهم في هذا المقام
___________________
(١). سير أعلام النبلاء ١١ / ١٧٧.
(٢). سير أعلام النبلاء ١٢ / ١٦٠.
فمرّة: يصوّب كلام أحمد بن حنبل في الكرابيسي ولا يستعظم تكفيره إيّاه
وأخرى: يؤيّد الكرابيسي ويحاول توجيه طعن الامام أحمد وتكفيره له، فيقول: « ولا ريب أن ما ابتدعه الكرابيسي وحرّره في مسألة اللفظ وأنه مخلوق هو حق، لكن أباه الامام أحمد، لئلّا يتذرّع به إلى القول بخلق القرآن، فسدّ الباب، لأنّك لا تقدر أن تفرز المتلفّظ من الملفوظ الذي هو كلام الله تعالى إلّا في ذهنك »(١) .
ولكن هذا العذر لا يكفي لتصحيح تكفير الرجل لا سيّما وأن الكرابيسي كان قد أوضح مقالته وحرر مرامه على أن المفهوم من كلام الذهبي هو أنّ الامام أحمد كان يوافق الكرابيسي في هذا الاعتقاد ويصوّبه، فهل يجوز دفع الباطل بإبطال الحق وإنكاره؟ ولو كانت الغاية في الواقع ما ذكره الذهبي، فلتجز التقية ومجاملة أهل الباطل مطلقاً
ومرّة ثالثة: يجوّز احتمالين في كلام الكرابيسي، فيؤيّده على معنى ويحمل إنكار الامام أحمد على المعنى الآخر، فيقول: « وكان يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق ولفظي به مخلوق، فإن عنى التلفظ، فهذا جيّد، فإنّ أفعالنا مخلوقة. وإن قصد الملفوظ وأنه مخلوق، فهذا الذي أنكره الامام أحمد والسلف، وعدوه تجهّما، ومقت الناس حسينا لكونه تكلّم في أحمد ».
وهذا ينافي ما تقدم من أنه « لا ريب أن ما ابتدعه الكرابيسي هو حقّ، لكن أباه الامام أحمد لئلّا ».
ثم لو سلّمنا تحمّل كلامه للاحتمالين، فما وجه تكفير الامام أحمد إيّاه، وحمله كلامه على المحمل الباطل فحسب؟!
وعلى أي حال فلا جدوى لاعتذار الذهبي، لوجود التنافي البيّن والتناقض
___________________
(١). سير أعلام النبلاء ١٢ / ٧٩.
الواضح في كلماته
وبهذا يندفع ما ذكره بترجمة أحمد بن صالح بعد كلامه المتقدم نقله: « قلت:
إنْ قال: لفظي، وعنى به القرآن، فنعم، وإنْ قال: لفظي وقصد به تلفظي وصوتي وفعلي أنه مخلوق، فهذا مصيب ».
وأما قول الذهبي بترجمة علي بن حجر في الدفاع عن البخاري: « وأمّا البخاري فكان من كبار الأئمّة الأذكياء » فغريب جدّاً، لأن معناه: أن البخاري لم يقل بأن ألفاظنا مخلوقة بالقرآن، بل قال: إنّ حركاتنا وأصواتنا وأفعالنا مخلوقة، والقرآن المسموع المتلوّ الملفوظ هو كلام الله تعالى وهو غير مخلوق، فالبخاري إذاً لا يقول بخلق القرآن.
والحال أنه يناقضه ما ذكره عن البخاري سابقاً، ومع غض النظر عن ذلك فإن هذا التفريق لا يتفوه به عاقل ذو فهم أبداً، وهذا من أوضح البراهين على جمود عقول هؤلاء، فإنّهم تارة يفرّقون بين اللفظ والملفوظ ويحكمون بكونه مخلوقاً، وأخرى يفرّقون بين الألفاظ وبين الأصوات والحركات
ولـمّا كان هذا التفريق باطلاً فإنّ الذهبي لـمّا تنبّه إلى فساده، أيّد الكرابيسي في قوله بخلق القرآن، من غير التفات إلى تأويل البخاري، فقال: « لا ريب أن ما ابتدعه الكرابيسي وحرّره في مسألة اللفظ وأنه مخلوق هو حق ».
فالعجب من الذهبي، لما ذا يضطرب هذا الاضطراب؟ ويتلوّن هذا التلوّن؟ وكيف يزعم أن الذهلي وأبا زرعة وأبا حاتم وابن الأعين وغيرهم لم يفهموا مغزى كلام البخاري؟
بل كلام الذهبي بترجمة هشام بن عمار صريح في اتّحاد حكم اللفظ والأصوات، وفي أنّهما مخلوقان، وهذا نص كلامه:
« قلت: كان الامام أحمد يسدّ الكلام في هذا الباب ولا يجوّزه، ولذلك كان يبدّع من يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق، ويضلّل من يقول: لفظي بالقرآن قديم، ويكفّر من يقول: القرآن مخلوق. بل يقول: القرآن كلام الله منزل غير
مخلوق، وينهى عن الخوض في مسألة اللفظ.
ولا ريب أن تلفظنا بالقرآن من كسبنا، والقرآن الملفوظ المتلوّ كلام الله تعالى غير مخلوق، والتلاوة واللفظ والكتابة والصوت من أفعالنا، وهي مخلوقة، والله سبحانه وتعالى أعلم »(١) .
هذا، وقد قال الذهبي بترجمة محمد بن يحيى الذهلي:
« كان الذهلي شديد التمسك بالسنّة، قام على محمد بن إسماعيل لكونه أشار في مسألة خلق أفعال العباد إلى أنّ تلفظ القارئ بالقرآن مخلوق، فلوّح وما صرّح والحق أوضح، ولكن أبى البحث في ذلك أحمد بن حنبل وابوزرعة والذّهلي، والتوسع في عبارات المتكلمين سدّ للذريعة، فأحسنوا أحسن الله تعالى جزاهم.
وسافر إبن اسماعيل مختفياً من نيسابور، وتألم من فعل محمد بن يحيى. وما زال كلام الكبار المتعاصرين بعضهم في بعض لا يلوى عليه بمفرده، وقد سبقت ذلك في ترجمة ابن اسماعيل، رحم الله تعالى الجميع وغفر لهم ولنا آمين »(٢) .
أقول: وإذا كانت شدة تمسك الذهلي بالسنّة هي السبب في قيامه علي البخاري، فإنّ قول الذهبي: « وما زال » غريب جدّاً، أفهل يقال: إن قيامه على البخاري كان حسداً منه له؟ أو عناداً؟ أم ماذا؟
وعلى كلّ حال نقول: إذا لم يكن تكلّم الذهلي وغيره من كبار الأئمّة وقيامهم على البخاري وتركهم له قادحاً في وثاقته، فإن إعراض البخاري ومسلم عن حديث الغدير وتركهم روايته غير قادح في صحّته وثبوته بالأولوية.
وأيضاً: لا يكون قدح أبي داود وأبي حاتم قابلاً للاعتماد بعد سقوط كلام شيخهما الذهلي عن درجة الاعتبار، كما لا يبقى بعد ذلك أيّ وزن واعتبار لقدح الجاحظ
فسقط تمسك الفخر الرازي بذلك كله والحمد لله.
___________________
(١). سير أعلام النبلاء ١١ / ٤٢٠.
(٢). المصدر نفسه ١٢ / ٢٧٣.
٩ ) عبد العلي الأنصاري الهندي
وممن تكلّم في الكتابين: المولوي عبد العلي الأنصاري السهالي * المعروف * في بلاد الهند بـ « بحر العلوم » وقد أثنى عليه واعتمد على تحقيقاته كبار العلماء * فانه قال:
« فرع - ابن الصلاح وطائفة من الملقّبين بأهل الحديث زعموا أن رواية الشيخين محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج صاحبي الصحيح، يفيد العلم النظري، للإجماع على أنّ للصحيحين مزيّة على غيرهما، وتلقّت الأمّة بقبولها، والإجماع قطعي.
وهذا بهت، فإنّ من راجع إلى وجدانه، يعلم بالضرورة أنّ مجرّد روايتهما لا يوجب اليقين البتّة، وقد روي فيهما أخبار متناقضة، فلو أفاد روايتهما علماً لزم تحقق النقيضين في الواقع، وهذا - أي ما ذهب اليه ابن الصلاح وأتباعه - يخالف ما قالت الجمهور من الفقهاء والمحدّثين، فإن انعقاد الاجماع على المزية على غيرهما من مرويّات ثقات آخرين ممنوع. والاجماع على مزيّتهما في أنفسهما لا يفيد، ولأنّ جلالة شأنهما وتلقّي الأمّة بكتابيهما لو سلّم لا يستلزم ذلك القطع والعلم، فانّ القدر المسلّم المتلقى بين الأمّة، ليس إلّا أن رجال مروياتهما جامعة للشروط التي اشترطها الجمهور لقبول روايتهم، وهذا لا يفيد إلّا الظنّ.
وأمّا أن مروياتهما ثابتة عن رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - فلا اجماع عليه أصلاً، فكيف ولا اجماع على صحة جميع ما في كتابيهما، لأن رواتهما منهم قدريّون وغيرهم من أهل البدع، وقبول رواية أهل البدع مختلف فيه، فأين الإجماع على صحة مرويات القدريّة؟ غاية ما يلزم أن أحاديثهما أصح الصحيح، يعني أنها مشتملة على الشروط المعتبرة عند الجمهور على الكمال، وهذا لا يفيد إلّا الظنّ.
هذا هو الحق المتبع، ولنعم ما قال الشيخ ابن الهمام: إنّ قولهم بتقديم
مروياتهما على مرويّات الأئمّة الآخرين، قول لا يعتد به ولا يقتدى، بل هو من تحكّماتهم الصرفة، كيف لا وأن الأصحيّة من تلقاء عدالة الرواة وقوة ضبطهم، وإذا كان رواة غيرهم عادلين ضابطين، فهما وغيرهما على السواء، لا سبيل للحكم بمزيتهما على غيرهما، إلّا تحكماً، والتحكّم لا يلتفت اليه. فافهم »(١) .
___________________
(١). فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت ٢ / ١٢٣ هامش المس؟؟؟.
أحاديث من الصحيحين في الميزان
هذا، وإنّ في كتابي البخاري ومسلم، أحاديث كثيرة تكلّم فيها أئمّة الحديث وكبار الحفّاظ الثقات ونحن ننقل هنا نصوص طائفة من تلك الأحاديث بأسانيدها، وكلمات أعلام الحديث المحقّقين حولها، على سبيل التمثيل لا الحصر لنقف على حقيقة ما اشتهر بينهم من تلقيّ أهل السنّة أحاديث الكتابين بالقبول، وما قيل من تقديم مرويّاتهما على مرويّات غيرهما ونرى أن ذلك - في الحقيقة - ليس إلّا تحكّما صرفاً، وبهتاً واضحاً، ودعوى فارغة
الحديث الأول
أخرج البخاري في كتاب الطب قائلاً: « حدثنا سيدان بن مضارب أبو محمد الباهلي قال: حدثنا أبو معشر يوسف بن يزيد البراء، قال: حدثني عبيد الله ابن الأخنس أبو مالك، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس: إنّ نفراً من أصحاب رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - مرّوا بماء [ و ] فيهم لديغ أو سليم فعرض لهم رجل من أهل السماء، فقال: هل فيكم من راق؟ إن في الماء رجلاً لديغاً أو سليماً.
فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء فبرأ، فجاء بالشاء إلى أصحابه، فكرهوا ذلك [ و ] قالوا: أخذت على كتاب الله أجرا، حتى قدموا المدينة، فقالوا: يا رسول الله! أخذ على كتاب الله أجراً، فقال رسول الله - صلىاللهعليهوآلهوسلم -: إنّ أحقّ ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله » (١) .
ابن الجوزي وهذا الحديث
و قد أورده الحافظ ابن الجوزي في الموضوعات قائلاً: « قال ابن عدي: روى عمرو بن المحرم البصري، عن ثابت الحفار، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، قالت: سألت رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - عن كسب المعلّمين فقال: إنّ أحقّ ما أخذ عليه الأجر كتاب الله.
قال ابن عدي: لعمرو أحاديث مناكير، وثابت لا يعرف، والحديث منكر »(٢) .
ترجمة ابن الجوزي
وقد ترجم ابن خلكان لابن الجوزي بقوله: « الفقيه الحنبلي الواعظ، الملقب جمال الدين الحافظ، كان علامة عصره وإمام وقته في الحديث وصناعة الحفظ، صنّف في فنون عديدة، منها: زاد المسير في علم التفسير، أربعة أجزاء أتى فيه بأشياء غريبة، وله في الحديث تصانيف كثيرة، وله المنتظم في التاريخ وهو كبير، وله الموضوعات في أربعة أجزاء ذكر فيها كل حديث موضوع، وله تلقيح فهوم الأثر على وضع كتاب المعارف لابن قتيبة »(٣) .
وترجم له الحافظ الذهبي بقوله: « وابو الفرج ابن الجوزي، الحافظ الكبير
___________________
(١). صحيح البخاري ٧ / ١٧٠.
(٢). الموضوعات ١ / ٢٢٩.
(٣). وفيات الأعيان ٢ / ٣٢١.
جمال الدين الحنبلي الواعظ المتقن، صاحب التصانيف الكبيرة الشهيرة في أنواع العلم من التفسير والحديث والفقه والزهد والوعظ والأخبار والتاريخ والطب وغير ذلك »(١) .
وقال الحافظ السيوطي ما ملخّصه: « إبن الجوزي الامام العلاّمة الحافظ عالم العراق وواعظ الآفاق، صاحب التصانيف السائرة في فنون، قال الذهبي في التاريخ الكبير: لا يوصف ابن الجوزي بالحفظ عندنا باعتبار الصنعة بل باعتبار كثرة اطّلاعه وجمعه »(٢) .
ووصفه الخوارزمي بـ: « إمام أئمة التحقيق »(٣) .
واليافعي عند الذب عن أحمد بن حنبل بـ « الإمام »(٤) .
كما اعتمده كبار علمائهم في الحديث والكلام، فقد اعتمده ابن تيمية في مواضع في كتابه، منها في ردّ حديث ردّ الشمس، و حديث: أنت أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني.
وابن روزبهان في ردّ حديث النور.
وابن حجر المكي في تكلّمه على حديث: أنا مدينة العلم وعلي بابها.
و ( الدهلوي ) في رد حديث: أنا مدينة العلم وعلي بابها.
والمولوي حيدر علي في ( إزالة الغين ) معبّراً عنه بـ « سند المحدثين والمنقدين ».
الحديث الثاني
وهو الحديث الذي أورده الحافظ ابن حزم عن البخاري، وأبطله سنداً
___________________
(١). العبر - حوادث سنة ٥٩٧.
(٢). طبقات الحفاظ / ٤٧٧.
(٣). جامع مسانيد أبي حنيفة: ٢٨.
(٤). مرآة الجنان، حوادث سنة ٥٩٧.
ودلالة، وهذا نص كلامه في كتابه ( المحلى ):
« ومن طريق البخاري: قال هشام بن عمار، نا صدقة بن خالد نا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، نا عطية بن قيس الكابلي، نا عبد الرحمن بن غنم الأشعري، حدثني أبو عامر وأبو مالك الأشعري - والله ما كذبني - أنه سمع رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - يقول: ليكونن من أمتي قوم يستحلّون الخزّ والخنزير والخمر والمعازف.
وهذا منقطع، لم يتصل ما بين البخاري وصدقة بن خالد، ولا يصح في هذا الباب شيء أبداً، وكل ما فيه موضوع ».
ترجمة الحافظ ابن حزم
والحافظ ابن حزم - وإنْ كان ممقوتاً لدى كثير من علمائهم ولا سيّما المعاصرين له منهم - مذكور في معاجم التراجم وكتب الرجال مع التعظيم والإجلال فقد ذكره الحافظ الذهبي بقوله:
« وأبو محمد ابن حزم، العلامة، صاحب المصنفات، مات مشرّدا عن بلده من قبل الدولة، ببادية بقرية له، ليومين بقيا من شعبان عن اثنتين وسبعين سنة.
وكان إليه المنتهى في الذّكاء وحدّة الذهن، وسعة العلم بالكتاب والسنة والمذاهب والملل والنحل والعربية والآداب والمنطق والشعر، مع الصدق والأمانة والديانة والحشمة والسؤدد والرئاسة والثروة وكثرة الكتب. قال الغزالي: وجدت في أسماء الله تعالى كتاباً لابي محمد بن حزم، يدل على عظم حفظه وسيلان ذهنه. وقال ابن صاعد في تاريخه: كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعهم معرفة، مع توسّعه في علم اللّسان والبلاغة والشعر والسّير والأخبار، أخبرني ابنه الفضل أنّه اجتمع عنده من تأليفه نحو أربعمائة مجلد »(١) .
وقال السيوطي: « ابن حزم، الامامة العلامة، الحافظ الفقيه، أبو محمد،
___________________
(١). العبر في خبر من غبر، حوادث سنة ٤٥٦.
كان أولاً شافعياً، ثم تحوّل ظاهرياً، وكان صاحب فنون وورع وزهد، وإليه المنتهى في الذكاء والحفظ وسعة الدائرة في العلوم، أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعهم معرفة، مع توسّعه في علوم اللسان والبلاغة والشعر والسير والأخبار »(١) .
وقال الشيخ محي الدين ابن عربي: « رأيت النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - وقد عانق أبا محمد ابن حزم المحدّث، فغاب الواحد في الآخر، فلم يزالا واحداً هو ورسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم -، فهذا غاية الوصلة وهو المعبَّر عنه بالاتحاد »(٢) .
وقد وصفه الأدفوي بـ « الحافظ » واعتمده في مسألة ضرب العود(٣) .
وذكر ( الدهلوي ): ان ابن حزم من علماء أهل السنة الذين يدفعون المطاعن عن أمير المؤمنين -عليهالسلام -(٤) .
وسيأتي: أن ابن تيمية يعتمد على كلام ابن حزم في حصر فضائل الامام -عليهالسلام - في الأحاديث التالية:
أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى.
و: سأعطين الرّاية غداً رجلاً
و: إنّ عليّاً لا يحبّه إلّا مؤمن ولا يبغضه إلّا منافق.
وسيأتي أيضاً: أن ابن حزم يذهب إلى القول بوضع سائر الأحاديث التي يتمسك بها الامامية في إثبات إمامة علي -عليهالسلام -، كما نقل عنه ابن تيمية القدح في حديث الغدير.
فابن حزم عندهم، من كبار الحفّاظ الذين يعتمدون على كلامهم في
___________________
(١). طبقات الحفّاظ / ٤٣٦.
(٢). الفتوحات، الباب ٢٢٣: ٢ / ٥١٩.
(٣). الإِمتاع في أحكام السماع، في مسألة ضرب العود.
(٤). التحفة الاثنا عشرية، باب الامامة: ١٧٣.
كتبهم، إلّا أن كثيراً منهم مقتوه لآراء له بعيدة عن الصواب ومخالفة للمشهور بين جمهور العلماء، ولذلك نهوا الناس عن اتباعه وتقليده والأخذ بأقواله
الحديث الثالث
ما أخرجه البخاري قائلاً: « حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث، عن يزيد، عن عراك، عن عروة: أن النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - خطب عائشة إلى أبي بكر، فقال له أبو بكر: إنما أنا أخوك. فقال: أنت أخي في دين الله وكتابه، وهي لي حلال »(١) .
مغلطاي وهذا الحديث
وقد تكلّم الحافظ مغلطاي بن قليج في صحة هذا الحديث، قال الحافظ ابن حجر ما نصه:
« وقال مغلطاي: في صحة هذا الحديث نظر، لأن الخلة لأبي بكر إنما كانت بالمدينة، وخطبة عائشة كانت بمكة، فكيف يلتئم قول: إنما أنا أخوك؟
وأيضاً: فالنبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - ما باشر الخطبة بنفسه، كما أخرجه ابن أبي عاصم من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن عائشة أن النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - أرسل خولة بنت حكيم إلى أبي بكر يخطب عائشة، فقال لها أبو بكر: هل تصلح له، إنما هي بنت أخيه؟ فرجعت فذكرت ذلك للنبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - فقال: ارجعي فقولي له: أنت أخي في الإسلام، وابنتك تصلح لي، فأتت أبا بكر فذكرت ذلك له، فقال: ادعي رسول الله، فجاء فأنكحه »(٢) .
___________________
(١). صحيح البخاري ٧ / ٦.
(٢). فتح الباري في شرح صحيح البخاري ١١ / ٢٦.
ترجمة الحافظ مغلطاي
وقد ذكر الحافظ السيوطي الحافظ مغلطاي وترجم له قائلاً: « مغلطاي بن قليج بن عبد الله، الحنفي الامام الحافظ علاء الدين، ولد سنة ٦٨٩، وسمع من الدبوسي والختني [ وخلائق ]، ووليّ تدريس الحديث بالظّاهرية بعد ابن سيد الناس وغيرها، وله مآخذ على المحدّثين وأهل اللغة. قال العراقي: كان عارفاً بالأنساب معرفة جيّدة، وأما غيرها من متعلّقات الحديث فله بها خبرة متوسّطة.
وتصانيفه أكثر من مائة، منها شرح البخاري وشرح ابن ماجة لم يكمل، وقد شرعت في إتمامه، وشرح ابن أبي داود لم يتم، وجمع أوهام التهذيب وأوهام الأطراف، وذيل على التهذيب، وذيل على المؤتلف والمختلف لابن نقطة، والزّهر الباسم في السّيرة، ورتّب المبهمات على الأبواب، ورتّب بيان الواهي [ الوهم ] لابن القطان، وخرّج رواية [ زوائد ] ابن حبّان على الصحيحين. مات في رابع عشر في شعبان سنة ٧٦٢ »(١) .
وقال أيضاً: « مغلطاي بن قليج الحنفي الامام الحافظ علاء الدّين، ولد سنة ٦٨٩، وكان حافظاً عارفاً بفنون الحديث علّامة في الأنساب، وله أكثر من مائة تصنيف »(٢) .
وكذا قال الزرقاني المالكي حيث ذكره(٣) .
وقال ابن قطلوبغا بترجمته: « مغلطاي بن قليج علاء الدين البكحري، إمام وقته وحافظ عصره »(٤) .
أقول: وردُّ الحافظ ابن حجر كلام الحافظ مغلطاي بقوله: « قلت:
___________________
(١). طبقات الحفاظ: ٥٣٤.
(٢). حسن المحاضرة ١ / ٣٥٩.
(٣). شرح المواهب اللدنية ١ / ١٢٧.
(٤). طبقات الحنفية - تاج التراجم: ٧٧.
اعتراضه الثاني يردّ اعتراضه الأول » لو سلّم لا يضرّ بما نحن بصدده، كما لا يخفى.
الحديث الرابع
ما أخرجه البخاري حول شفاعة الخليل ابراهيم -عليهالسلام - لأبيه من كتاب التفسير، قائلاً:
« حدّثنا إسماعيل، قال: حدّثنا أخي، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة عن النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - قال: يلقى إبراهيم أباه فيقول: يا رب إنك وعدتني ألّا تخزيني يوم يبعثون، فيقول الله: إنّي حرّمت الجنة على الكافرين »(١) .
الحافظ الاسماعيلي وهذا الحديث
وقد طعن الحافظ الاسماعيلي في صحة هذا الحديث قال الحافظ ابن حجر العسقلاني بشرحه: « وقد استشكل الاسماعيلي هذا الحديث من أصله وطعن في صحته، فقال بعد أن أخرجه: هذا خبر في صحته نظر، من جهة أنّ ابراهيم عالم [ علم ] أن الله لا يخلف الميعاد، فكيف يجعل ما يأتيه [ صار لأبيه ] خزياً [ له ] مع علمه بذلك؟
وقال غيره: هذا الحديث مخالف لظاهر قوله تعالى:( وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ) .
ثم جعل ابن حجر يرد على هذا الاشكال مصححاً الحديث(٢) ، ولكن ذلك
___________________
(١). صحيح البخاري ٦ / ١٣٩.
(٢). فتح الباري - شرح صحيح البخاري ٨ / ٤٠٦.
لا ينافي ما نحن بصدده، كما تقدم.
ترجمة الحافظ الاسماعيلي
وقد ترجم السمعاني للحافظ الاسماعيلي، فقال ما ملخصه: « إمام أهل جرجان والمرجوع اليه في الحديث والفقه، رحل إلى العراق والحجاز وصنّف التّصانيف، وهو أشهر من أن يذكر، وكذلك أولاده وأحفاده، وله وجوه في المذهب مذكورة منظورة، وروى عنه الأئمّة والحفّاظ.
ذكره الحاكم أبو عبد الله الحافظ في تاريخ نيسابور فقال: الامام أبو بكر الاسماعيلي، واحد عصره، وشيخ الفقهاء والمحدّثين، وأجلّهم في الرئاسة والمروءة والسّخاء، بلا خلاف بين عقلاء الفريقين من أهل العلم فيه، وقد كان أقام بنيسابور لسماع الحديث غير مرّة، وقدمها وهو رئيس جرجان.
وحكى حمزة بن يوسف السهمي، عن أبي الحسن الدارقطني، قال: كنت عزمت غير مرة أن أرحل إلى أبي بكر الاسماعيلي فلم أرزق، وكان الحسن بن علي الحافظ المعروف بابن غلام الزهري بالبصرة يقول: كان الواجب للشيخ أبي بكر أن يصنّف سنناً ويختار على حسب اجتهاده، فإنّه كان يقدر عليه، لكثرة ما كان كتبه ولغزارة علمه وفهمه وجلالته، وما كان له أن يتبع كتاب البخاري، فإنّه كان أجل من أن يتّبع غيره.
قال السّهمي: وكان أبو الحسين محمد بن المظفر الحافظ يحكي جودة قراءته وقال: كان مقدّماً في جميع المجالس، وكان إذا حضر مجلساً لا يقرأ غيره. وكان أبو القاسم البغوي يقول: ما رأيت أقرأ من أبي بكر الجرجاني »(١) .
وقال اليافعي: « وفيها الامام الجامع الحبر النافع، ذو التصانيف الكبار في الفقه والأخبار، أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الجرجاني، الحافظ الفقيه
___________________
(١). الأنساب - الاسماعيلي.
الشافعي المعروف بالجرجاني. وكان حجة كثير العلم حسن الدين »(١) .
وبمثله قال الحافظ الذهبي(٢) .
الحديث الخامس
وهو ما أخرجه البخاري في كتاب الصلح، حيث قال: « حدثنا مسدد، ثنا معتمر، قال: سمعت أبي أنّ أنساً قال: قيل للنبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - لو أتيت عبد الله بن أبي، فانطلق إليه النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - وركب حماراً، فانطلق المسلمون يمشون معه وهي أرض سبخة، فلما أتاه النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - قال: إليك عني، والله لقد آذاني نتن حمارك.
فقال رجل من الأنصار منهم: والله لحمار رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - أطيب ريحاً منك. فغضب لعبد الله رجل من قومه فشتما، فغضب لكلّ واحدٍ منهما أصحابه، فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنها نزلت:( وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ) .
[ قال أبو عبد الله: هذا مما انتخبت من مسدد قبل أن يجلس ويحدث ] »(٣) .
ابن بطال وهذا الحديث
وقد أبطل الامام ابن بطال هذا الحديث، فقد قال البدر الزركشي ما نصه: « فبلغنا أنها نزلت: وانْ طائفتان. قال ابن بطال: يستحيل نزولها في قصة عبد الله بن أبي والصحابة، لأن أصحاب عبد الله ليسوا بمؤمنين وقد تعصّبوا بعد الاسلام في قصة الافك، وقد رواه البخاري في كتاب الاستيذان عن أسامة بن
___________________
(١). مرآة الجنان، حوادث سنة ٣٧١.
(٢). العبر، حوادث سنة ٣٧١.
(٣). صحيح البخاري ٣ / ٢٣٩.
زيد - رضي الله عنهما -: أن النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - مر في مجلس فيه أخلاط من المشركين والمسلمين، وعبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبد الله بن أبي، وذكر الحديث.
فدلّ على أن الآية لم تنزل فيه، وإنّما نزلت في قوم من الأوس والخزرج اختلفوا في حق فاقتتلوا بالعصي والنعال »(١) .
ترجمة الزركشي
وقد ترجم الحافظ ابن حجر للبدر الزركشي بقوله: « هو محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي، ولد سنة خمس وأربعين وسبعمائة، بتقديم المهملة على الموحدة كما رأيت بخطه في الحديث. وقرأ على جمال الدين الأسنوي وتخرّج به في الفقه، وسمع من ابن كثير، وأخذ عن الأذرعي وغيره، وأقبل على التصنيف، فكتب بخطه ما لا يحصى لنفسه ولغيره.
ومن تصانيفه: تخريج أحاديث الرافعي في خمس مجلدات، وخادم الرافعي في عشرين مجلداً، والتنقيح، وشرع في شرح كبير على البخاري لخصه من شرح ابن الملقن وزاد فيه كثيراً، وشرح جمع الجوامع في مجلّدين، وشرح المنهاج في عشرة، ومختصره في مجلدين، والتجريد في أصول الفقه في ثلاث مجلدات، وغير ذلك. وتخرّج به جماعة. وكان مقبلا على شأنه، منجمعا عن الناس، وكان يقول الشعر الوسط.
مات في ثلاث رجب سنة أربعين وتسعين بتقديم المثناة الفوقية وسبعمائة، رحمة الله تعالى عليه. انتهى »(٢) .
وهكذا ترجم له مخاطبنا ( الدهلوي )(٣) .
___________________
(١). التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح: ١٣٣.
(٢). أنباء الغمر ٣ / ١٣٨.
(٣). بستان المحدثين: ٩٩.
الحديث السادس
و هو ما أخرجه البخاري في كتاب التفسير، حيث قال:
« حدثنا عبيد بن اسماعيل، عن أبي أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لـمّا توفّي عبد الله بن أبي، جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - فسأله أن يعطيه قميصه يكفّن فيه أباه فأعطاه ثم سأله أن يصلّي عليه. فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله، فقال: يا رسول الله تصلّي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه، فقال رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - إنّما خيّرني الله فقال:( إسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً ) وسأزيده على السبعين. قال: إنّه منافق.
قال: فصلّى عليه رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - [ قال: ] فأنزل الله:( وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ ) (١) .
فأخرجه البخاري في الباب مرة أخرى عن ابن عباس(٢) .
و أخرجه في باب ما يكره من الصلاة على المنافقين والاستغفار للمشركين بإسناد آخر، عن عبيد الله، عن ابن عباس، عن عمر(٣) .
كبار الأئمّة وهذا الحديث
ولقد طعن في صحة هذا الحديث، جماعة من أئمّة علماء أهل السنة، وهم:
___________________
(١). صحيح البخاري ٦ / ٨٥.
(٢). نفس المصدر ٦ / ٨٥.
(٣). نفس المصدر ٢ / ١٢١.
الامام أبوبكر الباقلاني.
الامام إمام الحرمين الجويني.
الامام أبو حامد الغزالي الطوسي.
الامام الداودي.
وقد ذكر طعن هؤلاء الأئمّة - في صحة هذا الحديث المخرج في البخاري ثلاث مرّات - الحافظ ابن حجر في شرحه، حيث قال ما نصه:
« واستشكل فهم التخيير من الآية، حتى أقدم جماعة من الأكابر على الطعن في صحة هذا الحديث، مع كثرة طرقه واتفاق الشيخين وسائر الذين خرّجوا الصحيح على تصحيحه، وذلك ينادي على منكري صحته بعدم معرفة الحديث وقلّة الاطلاع على طرقه.
قال ابن المنير: مفهوم الآية زلّت فيه الأقدام، حتى أنكر القاضي أبو بكر صحة الحديث وقال: لا يجوز أن يقبل هذا ولا يصلح أن الرسول قاله. انتهى.
ولفظ القاضي أبي بكر الباقلاني في التقريب: هذا الحديث من أخبار الآحاد التي لا يعلم ثبوتها.
وقال إمام الحرمين في مختصره: هذا الحديث غير مخرّج في صحيح. وقال في البرهان: لا يصحّحه أهل الحديث.
وقال الغزالي في المستصفى: الأظهر أن هذا الحديث غير صحيح.
وقال الداودي الشارح: هذا الحديث غير محفوظ.
والسبب في إنكارهم صحته، ما تقرر عندهم ممّا قدّمناه، وهو الذي فهمه عمر -رضياللهعنه - من حمل « أو » على التسوية لما يقتضيه سياق القصة وحمل السبعين على المبالغة »(١) .
وقال شهاب الدين القسطلاني، بعد أن نقل كلمات الأئمّة المذكورين:
___________________
(١). فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٨ / ٢٧١.
« وهذا عجيب من هؤلاء الأئمّة، كيف باحوا بذلك وطعنوا فيه مع كثرة طرقه واتفاق الشيخين على تصحيحه، بل وسائر الذين خرّجوا في الصحيح وأخرجه النسائي وابن ماجة »(١) .
أقول: وقد صرّح الغزالي في مبحث المفهوم بعد كلامٍ طويل، بأن هذا الحديث كذب قطعا، وإليك نصّ ما قال: « وأما الشافعي فلم ير التخصيص باللّقب مفهوماً، ولكنّه قال بمفهوم التخصيص بالصّفة والزّمان والمكان والعدد، وأمثلته لا تخفى، وضبط القاضي مذهبه بالتخصيص بالصّفة وادّعى اندراج جميع الأقسام تحته، إذ الفعل لا يناسب المكان والزمان إلّا لوقوعه فيه وهو كالصفة له. وتمسّك أصحابنا في نصرة مذهب الشافعي بطريقتين مزيّفتين الثانية: قولهم: لا بعد في اقتباس العلم من أمور توافرت الصّور فيها على التطابق، وان كان نقلة الصّور آحادا انحطّوا عن مبلغ التواتر، كالقطع بشجاعة علي وسماحة حاتم، وآحاد وقائعها لم ينقلها إلينا إلّا آحاد الرجال، وادّعوا مثل ذلك من الصّحابة في المفهوم، وعدّوا وقائع و قوله -عليهالسلام - في قوله تعالى:( إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً ) ، لأزيدنَّ على السبعين.
وهذا مزيّف على أنّ ما نقل في آية الاستغفار كذب قطعاً، إذ الغرض منه التناهي في تحقيق اليأس من المغفرة، فلا يظنّ برسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم الذهول عنه »(٢) .
الحديث السابع
و هو ما رواه البخاري بعد حديثٍ عن ابن مسعود، وهذا نصّه:
« حدّثنا محمد بن كثير، عن سفيان، قال حدثنا منصور والأعمش، عن ابن
___________________
(١). إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري ٧ / ١٤٨.
(٢). المنخول في علم الأصول ٢٠٩ - ٢١٢.
أبي الضحى، عن مسروق، قال: أتيت ابن مسعود فقال: إنّ قريشاً أبطئوا عن الإسلام، فدعا عليهم النبي - صلىاللهعليهوآلهوسلم - فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام، فجاءه أبو سفيان فقال: يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم، إنّ قومك قد هلكوا فادع الله، فقرأ: ( فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ ) . الآية. ثم عادوا إلى كفرهم، فذلك قوله تعالى: ( يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ ) الآية. ثم عادوا إلى كفرهم فذلك قوله تعالى: ( يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى ) يوم بدر.
قال: « وزاد أسباط عن منصور: فدعا رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - فسقوا الغيث، فأطبقت عليهم سبعاً، وشكا الناس كثرة المطر. فقال: اللهم حوالينا ولا علينا، فانحدرت السحابة عن رأسه، فسقوا الناس حولهم »(١) .
كبار الأئمّة وهذا الحديث
وقد أبطل وغلّط جماعة من كبار أئمّتهم هذه الزيادة عن أسباط وهم:
الامام العلامة قاضي القضاة بدر الدين العيني شارح البخاري.
والامام الداودي.
والامام أبو عبد الملك والامام الدمياطي.
والامام الكرماني.
فقد قال العيني بشرح هذا الحديث: « هذا تعليق - يعني زاد أسباط بن نصر، عن ابن أبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود - قد وصله البيهقي من رواية علي بن ثابت، عن أسباط بن نصر، عن ابن أبي الضحى، عن مسروق عن ابن مسعود، قال: لـمّا رأى رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - من الناس
___________________
(١). صحيح البخاري ٢ / ١٣٧.
إدباراً، فذكر نحو الذي قبله، وزاد: فجاءه أبو سفيان وأناس من أهل مكّة، فقالوا: يا محمد إنّك تزعم أنك بعثت رحمة، وإنّ قومك قد هلكوا، فادع الله لهم. فدعا رسول الله -عليهالسلام - فسقوا الغيث. الحديث.
وأسباط - بفتح الهمزة وسكون السّين المهملة بعدها الباء الموحّدة وفي آخره الطاء المهملة - قال صاحب التّوضيح: أسباط هذا هو: ابن محمد بن عبد الرحمن القاصّ أبو محمد القرشي مولاهم الكوفي، ضعّفه الكوفيون، وقال النّسائي، ليس به بأس، وثقّه ابن معين.
وقيل: هو ابن نصر وهو الصحيح، وهو أسباط بن نصر الهمداني أبو يوسف، ويقال: أبو نصر الكوفي، وثقّه ابن معين، وتوقّف فيه أحمد، وقال النّسائي: ليس بالقوي.
واعترض على البخاري زيادة أسباط هذا، فقال الداودي: أدخل قصة المدينة في قصة قريش وهو غلط.
وقال أبو عبد الملك: الذي زاده أسباط وهم واختلاط، لأنّه ركّب سند عبد الله بن مسعود على متن حديث أنس بن مالك وهو قوله: فدعا رسول الله -عليهالسلام - فسقوا الغيث إلى آخره.
وكذا قال الحافظ شرف الدّين الدّمياطي وقال: هذا حديث عبد الله بن مسعود وكان بمكة، وليس فيه هذا.
والعجب من البخاري كيف أورد هذا وكان مخالفاً لما رواه الثقات.
وقد ساعد بعضهم البخاري بقوله: لا مانع أن يقع ذلك مرّتين. وفيه نظر لا يخفى.
وقال الكرماني: قلت: قصة قريش والتماس أبي سفيان كان في مكة، لا في المدينة. قلت: القصة مكيّة إلاّ القدر الذي زاد أسباط، فإنه وقع في المدينة »(١) .
___________________
(١). عمدة القاري - شرح صحيح البخاري ٧ / ٤٦.
ترجمة العيني
ونكتفي بترجمة الحافظ جلال الدين السيوطي للبدر العيني، حيث قال:
« محمود بن أحمد بن حسين بن يوسف بن محمود الغسّاني، الحنفيّ العلامة، قاضي القضاة بدر الدين العيني، ولد في رمضان سنة ثلاثين وستّين وسبعمائة بعين تاب، ونشأ بها وتفقّه واشتغل بالفنون وبرع ومهر وانتفع في النحو وأصول الفقه والمعاني وغيرها بالعلامة جبريل بن صالح البغدادي، وأخذ عن الجمال يوسف الملطي والعلاء السّيرافي، ودخل معه القاهرة، وسمع مسند أبي حنيفة للحارثي على الشرف بن الكويك، ووليّ نظر الحسبة بالقاهرة مراراً، ثم نظر الأحباس، ثم قضاء الحنفيّة، ودرّس الحديث بالمؤيّدية، وتقدّم عند السلطان الأشرف برسياي.
وكان إماماً عالماً علامة، عارفاً بالعربية والتصريف، وغيرهما، حافظاً للّغة كثير الاستعمال لحواشيها، سريع الكتابة، عمّر مدرسةً بقرب الجامع الأزهر ووقف بها كتبه »(١) .
عمدة القاري
وذكر الكاتب الجلبي كتابه بقوله: « ومن الشروح المشهورة أيضاً: شرح العلامة بدر الدين أبي محمد محمود بن أحمد العيني الحنفيّ المتوفى سنة خمس وخمسين وثمانمائة، وهو شرح كبير أيضاً في عشرة أجزاء وأزيد، وسمّاه عمدة القاري
وقد استمدّ فيه من فتح الباري بحيث ينقل منه الورقة بكمالها، وكان يستعيره من البرهان ابن خضر بإذن مصنّفه له، وتعقّبه في مواضع وطوّله بما تعمّد
___________________
(١). بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة ٢ / ٢٧٥. وتوجد ترجمته في: الضوء اللامع ١٠ / ١٣١ - ١٣٥، البدر الطالع ٢ / ٢٩٤، حسن المحاضرة ١ / ٧٧٠، شذرات الذهب ٧ / ٢٨٧، نظم العقيان / ١٧٤ - ١٧٥، وغيرها، توفي سنة ٨٥٥.
الحافظ ابن حجر حذفه من سياق الحديث بتمامه، وإفراد كلّ من تراجم الرواة بكلام وتباين الأنساب واللّغات والاعراب والمعاني والبيان، واستنباط الفوائد من الحديث والأسئلة والأجوبة.
وحكى أنّ بعض الفضلاء ذكر لابن حجر ترجيح شرح العيني بما اشتمل عليه من البديع وغيره، فقال بديهة: هذا شيء نقله من شرح ركن الدين، وقد كنت وقفت عليه قبله، ولكن تركت النقل منه لكونه لم يتمّ
وبالجملة، فإنّ شرحه حافل كامل في معناه، لكن لم ينتشر كانتشار فتح الباري في حياة مؤلّفه وهلمّ جرّاً »(١) .
الحافظ ابن حجر وهذا الحديث
أقول: وبالرغم من كثرة محاولة الحافظ ابن حجر العسقلاني الدّفاع عن مرويات صحيح البخاري ومساعدة مؤلّفه، فإنه لم يجد بدّاً هنا من الاعتراف بأنّ هذا الحديث منكر، وإنكار الحديث يساوق القدح فيه كما ذكر ( الدّهلوي ) في كلامه على حديث: « أنا مدينة العلم وعلي بابها »
أمّا إنكار الحافظ ابن حجر هذه الزّيادة، فقد جاء بترجمة أسباط بن نصر الهمداني:
« أسباط بن نصر الهمداني أبو يوسف قال حرب: قلت لأحمد كيف حديثه؟ قال: ما أدري، وكأنّه ضعّفه. وقال أبو حاتم: سمعت أبا نعيم يضعّفه وقال: أحاديثه عامّتها سقط مقلوب الأسانيد، وقال النّسائي: ليس بالقوي.
قلت: علّق له البخاري حديثاً في الاستسقاء، وقد وصله الإِمام أحمد والبيهقي في السنن الكبير، وهو حديث منكر أوضحته في التعليق.
وقال البخاري في تاريخه الأوسط: صدوق. وذكره ابن حبّان في الثقات.
___________________
(١). كشف الظنون ١ / ٥٤٨.
وسيأتي في ترجمة مسلم بن الحجاج إنكار أبي زرعة عليه إخراجه لحديث أسباط هذا. وقال الساجي في الضعفاء: روى أحاديث لا يتابع عليها عن سماك بن حرب. وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال مرّة: ثقة. وقال موسى بن هارون: لم يكن به بأس »(١) .
الحديث الثامن
وهو حديث « تكثر لكم الأحاديث من بعدي، فإذا روي لكم حديث فأعرضوه على كتاب الله تعالى، فما وافقه فاقبلوه، وما خالفه فردّوه ».
وقد أخرجه البخاري في صحيحه.
التفتازاني وهذا الحديث
قال التفتازاني « بأنه خبر واحد » وأضاف بأنه « قد طعن فيه المحدثون » وهذا نصّ كلامه:
« قوله: وإنما يرد خبر الواحد في معارضة الكتاب، لأنّه مقدّم لكونه قطعياً متواتر النظم، لا شبهة في متنه ولا في سنده، لكنَّ الخلاف إنما هو في عمومات الكتاب وظواهره، فمن يجعلها ظنيّة يعتبر بخبر الواحد إذا كان على شرائط عملاً بالدليلين، ومن يجعل العامّ قطعياً، فلا يعمل بخبر الواحد في معارضته، ضرورة أنّ الظنّي يضمحلّ بالقطعي، فلا ينسخ الكتاب به ولا يزاد عليه أيضاً، لأنه بمنزلة النسخ.
واستدل على ذلك بقوله -عليهالسلام - تكثر لكم الأحاديث من بعدي فإذا روي لكم حديث فأعرضوه على كتاب الله تعالى فما وافقه فاقبلوه وما خالفه
___________________
(١). تهذيب التهذيب ١ / ٢١٢.
فردّوه.
وأجيب: بأنه خبر واحد قد خصّ منه البعض، أعني المتواتر والمشهور، فلا يكون قطعياً، فكيف يثبت به مسألة الأصول، على أنه يخالف عموم قوله تعالى:( وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) .
وقد طعن المحدّثون بأن في روايته يزيد بن ربيعة وهو مجهول، وترك في إسناده واسطة بين الأشعث وثوبان فيكون منقطعاً.
وذكر يحيى بن معين: إنه حديث وضعته الزّنادقة.
وإيراد البخاري إيّاه في صحيحه لا ينافي الانقطاع أو كون أحد رواته غير معروف بالرواية ...»(١) .
ترجمة التفتازاني
وقد ترجم الحافظ السّيوطي للتّفتازاني بقوله: « مسعود بن عمر بن عبد الله، الشّيخ سعد الدين التّفتازاني، الامام العلاّمة، عالم بالنحو والتصريف والمعاني والبيان والأصلين والمنطق وغيرهما، شافعي.
قال ابن حجر: ولد سنة ستّين وسبعمائة وأخذ عن القطب والعضد، وتقدّم في الفنون واشتهر بذلك، وطار صيته وانتفع النّاس بتصانيفه، وله شرح العضد، وشرح التلخيص مطوّل وآخر مختصر، شرح القسم الثاني من المفتاح، وله التلويح على التنقيح في أصول الفقه، شرح العقائد، المقاصد في الكلام، وشرحه الشّمسية في المنطق، شرح تصريف العزّي، الإرشاد في النحو، حاشية الكشاف لم يتمّ، وغير ذلك.
وكان في لسانه لكنة، وانتهت اليه معرفة العلوم بالمشرق، مات بسمرقند سنة إحدى وتسعين وسبعمائة »(٢) .
___________________
(١). التلويح على التنقيح، في أصول الفقه ٢ / ٣٩٧.
(٢). بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة ٢ / ٢٨٥.
وقال محمد بن سليمان الكفوي: « وكان من كبار علماء الشافعية، ومع ذلك له آثار جليلة في أصول الحنفيّة، بلغني من الثقات أنه كتب حول صندوق قبره بسرخس: ألا أيّها والزوار زوروا وسلّموا على روضة الحبر الامام المحقق والحبر المدقق، سلطان المصنفين، وارث علوم الأنبياء والمرسلين، معدّل ميزان المعقول والمنقول، منقّح أغصان الفروع والأصول، ختم المجتهدين أبي سعد الحقّ والدين مسعود القاضي الامام مقتدى الأنام ».
وقال الكفوي في ( كتائبه ): « وكان -رحمهالله - من محاسن الزمان، لم تر العيون مثله في الأعيان والأعلام، والمذكور في بطون الأوراق، إشتهرت تصانيفه في الأرض ذات الطول والعرض، حتى أنّ السيد الشّريف في مبادي التأليف وأثناء التصنيف كان يغوص في بحار تحقيقه وتحريره، ويلتقط الدرّ من تدقيقه وتسطيره، ويعترف برفعة شأنه وجلالته ووفور فضله وعلوّ مقامه وإمامته ».
وترجم له جار الله أبو مهدي الثعالبي المالكي في رسالة ( أسانيده ) ترجمة حافلة، حيث نقل كلام السيوطي المذكور، ثمّ ترجمة ابن حجر العسقلاني إياه(١) .
الحديث التاسع
وهو ما أخرجه البخاري قائلاً:
« حدثني محمد بن حاتم بن بزيع، ثنا شاذان، ثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كنا في زمن النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثمّ عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - لا نفاضل بينهم.
___________________
(١). وتوجد ترجمة التفتازاني في: الدرر الكامنة ٤ / ٣٥٠، شذرات الذهب ٦ / ٣١٩، البدر الطالع ٢ / ٣٠٣ - ٣٠٥، وغيرها.
تابعه عبد الله بن صالح بن عبد العزيز »(١) .
الحافظ ابن عبد البر وهذا الحديث
وقد تكلّم الحافظ ابن عبد البر القرطبي على هذا الحديث وغلّطه وأبطله وذلك حيث قال ما نصه: « وأخبرنا محمد بن زكريا ويحيى بن عبد الرحمن [ وعبد الرحمن ] بن يحيى، قالوا: حدثنا أحمد بن سعيد بن حزم، ثنا أحمد بن خالد، ثنا مروان بن عبد الملك، قال: سمعت هارون بن إسحاق يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: من قال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعرف لعلي [ كرّم الله وجهه ] سابقته وفضله فهو صاحب سنة، ومن قال: أبو بكر وعمر وعلي وعثمان وعرف لعثمان سابقته فهو صاحب سنة.
فذكرت له هؤلاء الذين يقولون: أبو بكر وعمر وعثمان ويسكتون فتكلّم فيهم بكلام غليظ، وكان يحيى بن معين يقول: أبو بكر وعمر وعلي وعثمان.
قال أبو بكر: من قال بحديث ابن عمر: كنّا نقول على عهد رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم نسكت - يعني فلا نفاضل وهو الذي أنكر ابن معين وتكلّم فيه بكلام غليظ، لأن القائل بذلك قد قال بخلاف ما أجمع عليه أهل السنة من السلف والخلف من أهل الفقه والأثر: أن عليّاً أفضل الناس بعد عثمان. وهذا مما لم يختلفوا فيه، وإنّما اختلفوا في تفضيل علي وعثمان، واختلف السلف أيضا في تفضيل علي وأبي بكر.
وفي إجماع الجميع - الذي وصفنا - دليل على أنّ حديث ابن عمر وهم وغلط، وأنه لا يصح معناه وإنْ كان إسناده صحيحاً، ويلزم من قال به أن يقول بحديث جابر وحديث أبي سعيد: كنّا نبيع أمّهات الأولاد على عهد رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - وهم يقولون بذلك، فقد ناقضوا، وبالله التوفيق »(٢) .
___________________
(١). صحيح البخاري ٥ / ١٨.
(٢). الاستيعاب ٣ / ١١١٥ - ١١١٧.
ترجمة الحافظ ابن عبد البر
وقد ترجم الحافظ الذهبي الحافظ ابن عبد البر ترجمة ضافية نلخّصها في ما يلي:
« إبن عبد البر، الامام العلّامة، حافظ المغرب، شيخ الإسلام، أبو عمرو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري الأندلسي القرطبي المالكي، صاحب التصانيف الفائقة. مولده في سنة ثمانين وستين وثلاثمائة في شهر ربيع الأول: وقيل: في جمادى الأولى. طلب العلم بعد التسعين والثلاثمائة وأدرك الكبار وطال عمره وتكاثر عليه الطلبة، وجمع وصنف ووثّق وضعّف وسارت بتصانيفه الركبان وخضع لعلمه علماء الزمان، وفاته السماع من أبيه الامام أبي محمد، وكان تفقّه على التحسين وسمع من أحمد بن مطرف وأبي عمرو بن حزم المؤرّخ.
وصاحب الترجمة، أبو عمرو، سمع من أبي محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن، والمعمّر محمد بن عبد الملك بن صفوان، وأبي القاسم عبد الوارث بن سفيان، وسعيد بن نصر مولى الناصر لدين وأبي عمر أحمد بن محمد بن الحسور وخلف بن القاسم بن سهل الحافظ والحسين بن يعقوب البجارتي، وقرأ على عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الموهراني، وأبي عمر الطلمنكي والحافظ أبي الوليد ابن الفرضي، وسمع من يحيى بن عبد الرحمن ابن وجه الجنة ومحمد بن رشيق المكتّب وأبي المطّرف عبد الرحمن بن مروان القنازعي وأحمد بن فتح بن الرسان وأبي عمر أحمد بن عبد الله بن محمد بن الباجي وأبي عمر أحمد بن عبد المكودي، وطائفة سواهم.
قال الحميدي: أبو عمرو فقيه حافظ مكثر عالم بالقراءات وبالخلاف وبعلوم الحديث والرجال، قديم السماع، يميل في الفقه إلى أقوال الشافعي.
وقال أبو علي الغسّاني: لم يكن أحد ببلدنا في الحديث مثل قاسم بن محمد
وأحمد بن خالد الحباب، ثم قال أبو علي: ولم يكن ابن عبد البر بدونهما ولا متخلّفاً عنهما، وكان من النمر بن قاسط، طلب وتقدم ولزم أبا عمر أحمد بن عبد الملك الفقيه، ولزم أبا الوليد بن الفرضي ودأب في طلب الحديث وافتتن به وبرع براعةً فاق بها من تقدّمه من رجال الأندلس، وكان مع تقدمه في علم الأثر وبصره بالفقه والمعاني له بسطة كبيرة في علم النسب والأخبار، جلا عن وطنه فكان في الغرب مدة ثم تحول إلى شرق الأندلس.
قلت: كان إماماً ديناً ثقة متقناً علامة متبحراً، صاحب سنة واتباع، وكان أولاً أثرياً ظاهرياً فيما قيل، ثمّ تحوّل مالكياً مع ميل بيّن إلى فقه الشافعي في مسائل، ولا ينكر له ذلك، فإنه ممن بلغ رتبة الأئمّة المجتهدين، ومن نظر في مصنّفاته بان له منزلته من سعة العلم وقوة الفهم وسيلان الذهن.
قال أبو القاسم ابن بشكوال: ابن عبد البر إمام عصره، واحد دهره، قال أبو علي ابن سكرة: سمعت أبا الوليد الباجي يقول: لم يكن بالأندلس مثل أبي عمرو ابن عبد البر في الحديث، وهو أحفظ أهل المغرب.
مات أبو عمر ليلة الجمعة سلخ ربيع الآخر سنة ثلاث وستّين وأربعمائة، واستكمل خمساً وتسعين سنة وخمسة أيام،رحمهالله .
قلت: كان حافظ المغرب في زمانه، وفيها مات حافظ المشرق أبو بكر الخطيب »(١) .
الحديث العاشر
و هو حديث شريك في قصة الأسراء. أخرجه البخاري ومسلم، قال
___________________
(١). سير أعلام النبلاء. وتوجد ترجمته أيضاً في: تاريخ ابن كثير ١٢ / ١٠٤، مرآة الجنان ٣ / ٨٩ وفيات الأعيان ٢ / ٤٥٨، شذرات الذهب ٣ / ٣١٤، تذكرة الحفاظ ٣ / ٣٠٦، طبقات السبكي ٤ / ٨، النجوم الزاهرة ٥ / ٧٧ المنتظم ٨ / ٣٤٢.
البخاري: « حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، قال: حدثني سليمان، عن شريك بن عبد الله، أنه قال: سمعت أنس بن مالك يقول: ليلة أسري برسول الله - صلىاللهعليهوآلهوسلم - من مسجد الكعبة: أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أولهم: أيّهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم، فقال آخرهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة، فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه - وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم - فلم يكلّموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم، فتولّاه منهم جبرئيل فشق جبرئيل ما بين نحره إلى لبتّه حتى فرغ من صدره وجوفه، فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه، ثم أتى بطست من ذهب فيه تور من ذهب محشواً إيماناً وحكمة، فحشا به صدره ولغاديده - يعني عروق حلقه - ثم أطبقه ثم عرج به إلى السماء الدّنيا، فضرب باباً من أبوابها فناداه أهل السماء: من هذا؟ فقال: جبرئيل، قالوا: ومن معك؟ قال: معي محمد، قالوا: وقد بعث؟ قال: نعم، قالوا: فمرحباً به » (١) .
وأخرجه مسلم حيث قال:
« حدثنا هارون بن سعيد الايلي، حدثنا ابن وهب، قال: أخبرنا سليمان - وهو ابن بلال - حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر، قال: سمعت أنس بن مالك يحدثنا عن ليلة أسري برسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - من مسجد الكعبة، أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه »(٢) .
كبار الأئمّة وهذا الحديث
وقد طعن في هذا الحديث جماعة من أئمة التحقيق من أهل السنة، فقد قال الحافظ أبو زكريا النووي في شرح حديث مسلم:
___________________
(١). صحيح البخاري ٩ / ١٨٢ - ١٨٣.
(٢). صحيح مسلم ١ / ١٠٢.
« - وذلك قبل أن يوحى إليه - وهو غلط لم يوافق عليه، فإن الاسراء أقلّ ما قيل فيه أنه كان بعد مبعثه -صلىاللهعليهوآلهوسلم - بخمسة عشر شهراً. وقال الحربي: كان ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة. وقال الزهري: كان ذلك بعد مبعثه -صلىاللهعليهوآلهوسلم - بخمس سنين. وقال ابن اسحاق: أسري به -صلىاللهعليهوآلهوسلم - وقد فشا الاسلام بمكة والقبائل.
وأشبه هذه الأقوال قول الزهري وابن إسحاق، إذ لم يختلفوا أن خديجة - رضي الله عنها - صلّت معه -صلىاللهعليهوآلهوسلم - بعد فرض الصلاة عليه، ولا خلاف [ في ] أنها توفيت قبل الهجرة بمدة قيل: بثلاث سنين، وقيل: بخمس.
ومنها: أن العلماء مجمعون على أن فرض الصلاة كان ليلة الاسراء، فكيف يكون هذا قبل أن يوحى إليه؟
وأما قوله في رواية شريك: وهو نائم، وفي الرواية الأخرى، بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان، فقد يحتجّ به من يجعلها رؤية [ رؤيا ] نوم، ولا حجة فيه إذ قد يكون ذلك حالة أول وصول الملك إليه، وليس في الحديث ما يدل على كونه نائماً في القصة كلّها.
هذا كلام القاضي -رحمهالله - وهذا الذي قاله في رواية شريك وانّ أهل العلم أنكروها قد قاله غيره.
وقد ذكر البخاري رواية شريك هذه عن أنس، في كتاب التوحيد في [ من ] صحيحه وأتى بالحديث مطوّلاً، قال الحافظ عبد الحق -رحمهالله - في كتابه الجمع بين الصحيحين بعد ذكره هذه الرواية: هذا الحديث بهذا اللفظ من رواية شريك ابن أبي نمر عن أنس، وقد زاد فيه زيادة مجهولة وأتى فيه بألفاظ غير معروفة.
وقد روى حديث الاسراء جماعة من الحفّاظ المتقنين والأئمّة المشهورين كابن شهاب وثابت البناني وقتادة - يعني عن أنس - قال: فلم يأت أحد منهم بما أتى به شريك، وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث. قال: والأحاديث التي
تقدّمت قبل هذا هي المعوّل عليها. هذا كلام الحافظ عبد الحق،رحمهالله »(١) .
ترجمة الحافظ النووي
وقد أنثى ( الدهلوي ) على الحافظ النووي في ( رسالة أصول الحديث ) ووصفه بـ « الإِمام » وذكر بأنه والبغوي والخطابي علماء معوَّل على كلامهم وتحقيقهم
وترجم له الحافظ الذهبي قائلاً: « والشيخ محي الدين النواوي، شيخ الاسلام أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري بن حسن الشافعي، ولد سنة إحدى وثلاثين وستمائة، وقدم دمشق ليشتغل، فنزل بالرواحية وحفظ التنبيه في سنة خمس، وحج مع أبيه سنة احدى وخمسين، ولزم الاشتغال ليلاً ونهاراً نحو عشر سنين حتى فاق الأقران وتقدم على جميع الطلبة، وحاز قصب السبق في العلم والعمل
وكان مع تبحّره في العلم وسعة معرفته بالحديث والفقه واللغة وغير ذلك ممّا سارت به الركبان رأساً في الزهد، قدوةً في الورع، عديم المثل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر »(٢) .
وقال جمال الدين الأسنوي بترجمته في طبقاته: « هو محرر المذهب ومهذّبه ومنقّحه ومرتّبه، سار في الآفاق ذكره وعلا في العالم محلّه وقدره، صاحب التصانيف المشهورة المباركة النافعة ...»(٣) .
وقال اليافعي في حوادث سنة ٦٧٦: « وفي السنة المذكورة توفي الفقيه الامام شيخ الاسلام مفتي الأنام، المحدّث المتقن، المدقق النجيب الحبر المفيد، المقرئ المعيد محرّر المذهب، الفاضل الوليّ الكبير الشهير، ذو المحاسن العديدة والسيرة
___________________
(١). المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج ٢ / ٦٥ - ٦٦.
(٢). العبر في خبر من غبر، حوادث سنة ٦٧٦.
(٣). طبقات الشافعية ٢ / ٤٧٦.
الحميدة والتصانيف المفيدة، الذي فاق جميع الأقران وسارت بمحاسنه الركبان، واشتهرت فضائله في سائر البلدان، وشوهدت منه الكرامات، وارتقى في علاء المقامات، ناصر السنة ومعتمد الفتوى، الشيخ محي الدين النّووي يحيى بن شرف ابن مري بن حسن الشافعي، مؤلّف: الروضة، والمنهاج، والمناسكين، وتهذيب الأسماء واللغات، وشرح صحيح مسلم، وشرح المهذب، وكتاب التّبيان، وكتاب الارشاد، وكتاب التّيسير والتقريب، وكتاب رياض الصالحين، وكتاب الأذكار، وكتاب الأربعين، وكتاب طبقات الفقهاء الشافعية
روى عنه جماعة من أئمة الفقهاء والحفاظ، قالوا: وكان الشّيخ محي الدين النووي متبحّراً في العلم، متسعاً في معرفة الحديث والفقه واللغة وغير ذلك
قلت: ورأيت لابن العطار جزء في مناقبه، ذكر فيه أشياء عزيزة »(١) .
وترجم له أبو بكر ابن قاضي شهبة الاسدي في طبقاته ترجمة ضافية وصفه فيها بـ « الفقيه الحافظ الزاهد أحد الأعلام شيخ الاسلام » وقال: « كان محققاً في علمه وفنونه مدققاً في عمله وشئونه، حافظاً لحديث رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - عارفاً بأنواعه من صحيحه وسقيمه وغريب ألفاظه واستنباط فقهه، حافظاً للمذهب وقواعده وأصوله وأقوال الصّحابة والتابعين واختلاف العلماء ...»(٢) .
وذكره جمال الدين ابن تغري بردي في حوادث سنة ٦٧٦ « وفيها توفي شيخ الاسلام النووي الفقيه الشافعي الزاهد، صاحب المصنفات المشهورة قلت: وفضله وعلمه وزهده أشهر من أن يذكر، وقد ذكرنا من أمره نبذة كبيرة في تاريخنا المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي اذ هو كتاب تراجم يحسن الاطناب فيه »(٣) .
___________________
(١). مرآة الجنان، حوادث ٦٧٦.
(٢). طبقات الشافعية ٣ / ٩.
(٣). النجوم الزاهرة في محاسن مصر والقاهرة، حوادث سنة ٦٧٦.
الامام الكرماني وهذا الحديث
وقال الامام محمد بن يوسف الكرماني بشرح الحديث:
« قال النووي: جاء في رواية شريك أوهام أنكرها العلماء، من جملتها: أنه قال ذلك قبل أن يوحى وهو غلط لم يوافق عليه. وأيضاً: العلماء أجمعوا على أن فرض الصلاة كان ليلة الاسراء فكيف يكون قبل الوحي؟
أقول: وقول جبرئيل في جواب بوّاب السماء، إذ قال: أبعث؟ نعم. صريح في أنه كان بعده»(١) .
ترجمة الكرماني
وترجم الحافظ السيوطي للكرماني شارح البخاري بقوله: « محمد بن يوسف بن علي بن سعيد الكرماني ثم البغدادي، الشيخ شمس الدين صاحب شرح البخاري، الامام العلّامة في الفقه والتفسير والأصلين والمعاني والعربية.
قال ابنه في ذيل المسالك: ولد يوم الخميس سادس عشر جمادى الآخرة سنة سبع عشرة وسبعمائة، وقرأ على والده بهاء الدين، ثم انتقل إلى كرمان وأخذ عن العضد وغيره، ومهر وفاق أقرانه وفضل غالب أهل زمانه، ثم دخل دمشق ومصر وقرأ بها البخاري على ناصر الدين الفارقي، وسمع من جماعة وحج ورجع إلى بغداد واستوطنها، وكان تام الخلق، فيه بشاشة وتواضع للفقراء وأهل العلم، غير مكترث بأهل الدّنيا ولا يلتفت اليهم، تأتي إليه السلاطين في بيته ويسألونه الدعاء والنصيحة، وله من التصانيف شرح البخاري، شرح المواقف، شرح مختصر ابن الحاجب سماه السبعة السيارة، شرح الغياثية في المعاني والبيان، شرح الجواهر أنموذج الكشاف، حاشية على تفسير البيضاوي - وصل فيها إلى سورة يوسف -
___________________
(١). الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري ٢٥ / ٢٠٤.
رسالة في مسألة الكحل.
مات بكرة يوم الخميس سادس عشر المحرم، سنة ست وثمانين وسبعمائة، بطريق الحج، فنقل إلى بغداد ودفن بقبر أعدّه لنفسه بقرب الشيخ أبي اسحاق الشيرازي »(١) .
وترجم له الحافظ ابن حجر العسقلاني وأثنى عليه(٢) .
وكذلك ( الدهلوي ) في كتاب ( بستان المحدثين ) الذي انتحله من ( مفتاح كنز دراية المجموع من درر المجلد المسموع )(٣) .
العلامة ابن القيم وهذا الحديث
وقال العلامة الشهير ابن قيم الجوزية حول الحديث المذكور، بعد كلام له:
« وقد غلّط الحفّاظ شريكاً في ألفاظ من حديث الاسراء، ومسلم أورد المسند منه، ثم قال: فقدّم وأخّر وزاد ونقص ولم يسرد الحديث وأجاد،رحمهالله »(٤) .
الحديث الحادي عشر
وهو ما رواه البخاري بقوله: « حدثنا نعيم بن حماد، نا هشيم، عن حصين عن عمرو بن ميمون، قال: رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة قد زنت، فرجموها فرجمتها معهم »(٥) .
___________________
(١). بغية الوعاة ١ / ٢٧٩.
(٢). إنباء الغمر - حوادث ٧٨٦: ٢ / ١٨٢.
(٣). وتوجد ترجمته أيضاً في البدر الطالع للشوكاني ٢ / ٢٩٢.
(٤). زاد المعاد ٢ / ٤٩.
(٥). صحيح البخاري ٥ / ٥٦.
الحافظان الحميدي وابن عبد البر وهذا الحديث
وهذا الحديث قد استنكره ابن عبد البر، وقال الحافظ أبو عبد الله الحميدي بأنه: « ليس في نسخ البخاري أصلاً، فلعلّه من الأحاديث المقحمة في كتاب البخاري ». هذا كلامهما حول هذا الحديث. ذكر ذلك الحافظ ابن حجر حيث قال:
« وقد استنكر ابن عبد البر قصة عمرو بن ميمون هذه وقال: فيها إضافة الزنا إلى غير مكلّف وإقامة الحدّ على البهائم، وهذا منكر عند أهل العلم. قال: فإنَّ كانت الطريق صحيحة، فلعلّ هؤلاء كانوا من الجن، لأنّهم من جملة المكلّفين. وإنّما قال ذلك لأنّه تكلّم على الطريق التي أخرجها الاسماعيلي فحسب.
وأجيب: بأنه لا يلزم من كون صورة الواقعة صورة الزنا والرجم أن يكون ذلك زناء حقيقة ولا حدّا، وانما أطلق ذلك عليه لشبهه به، فلا يستلزم ذلك إيقاع التكليف على الحيوان.
وأغرب الحميدي في الجمع بين الصحيحين، فزعم أن هذا الحديث [ وقع ] في بعض نسخ البخاري وأن أبا مسعود وحده ذكره في الأطراف، قال: وليس في نسخ البخاري أصلاً، فلعلّه من الأحاديث المقحمة في كتاب البخاري.
وما قاله مردود وأما تجويزه أن يزاد في صحيح البخاري ما ليس منه فهذا ينافي ما عليه العلماء، من الحكم بتصحيح جميع ما أورده البخاري في كتابه، ومن اتفاقهم على أنه مقطوع بنسبته اليه، وهذا الذي قاله تخيّل فاسد، يتطرّق منه عدم الوثوق بجميع ما في الصحيح، لأنه إذا جاز في واحد بعينه، جاز في كل فرد فرد، فلا يبقى لأحد الوثوق بما في الكتاب المذكور »(١) .
___________________
(١). فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٧ / ١٢٧.
ثلاثة أحاديث في البخاري
وأخرج البخاري ثلاثة أحاديث عن عطاء، عن ابن عباس اثنان منها في كتاب الطلاق والآخر في كتاب التفسير، فأمّا ما أخرجه في كتاب الطلاق فهذا نصه:
« حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام، عن ابن جريج. وقال عطاء عن ابن عباس: كان المشركون على منزلتين من النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - والمؤمنين كانوا مشركي أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه، وكان اذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فاذا طهرت حل لها النكاح، فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردّت اليه، وإنْ هاجر عبد منهم أو أمة فهما حرّان ولهما ما للمهاجرين. ثم ذكر من أهل العهد مثل حديث مجاهد، وإنْ هاجر عبد أو أمه للمشركين أهل العهد لم يردّوا وردّت أثمانهم.
وقال عطاء عن ابن عباس: كانت قريبة بنت أبي أمية عند عمر بن الخطّاب فطلّقها، فتزوّجها معاوية بن أبي سفيان. وكانت أم الحكم ابنة أبي سفيان تحت عياض بن غنم الفهري فطلّقها فتزوّجها عبد الله بن عثمان الثقفي »(١) .
وأما حديثه في كتاب التفسير، فهذا نصه:
« حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام، عن ابن جريج. وقال عطاء عن ابن عباس: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ودّ [ ف ] كانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع كانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجوف عند سبا، وأما يعوق فكانت لهمدان وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى
___________________
(١). صحيح البخاري ٧ / ٦٢ - ٦٣.
الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً، وسمّوها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت »(١) .
كبار الأئمّة وهذه الأحاديث
وهذا الأحاديث الثلاثة، أخرجها البخاري من حديث عطاء عن ابن عباس في التفسير، مع العلم بأن أكابر الأساطين والأئمّة من أهل السنة يقدحون في رواية عطاء في التفسير، ويسقطونها عن درجة الاعتبار مطلقاً.
والحافظ ابن حجر - وهو الذي طالما ساعد البخاري وذبّ عن كتابه - يذكر كلمات القدح، ويعترف بأن هذا المقام من المواضع العقيمة عن الجواب السديد، ويقول بأنه: لا بدّ للجواد من كبوة، ومعنى هذا: أن البخاري قد أخطأ في إخراج أحاديث عطاء هذه في كتابه.
وهذا نص كلام الحافظ ابن حجر في هذا الموضوع:
« الحديث الحادي والثمانون - قال أبو علي الغساني، قال: البخاري: ثنا إبراهيم بن موسى، ثنا هشام - هو ابن يوسف -، عن ابن جريج قال قال - عطاء عن ابن عباس: كان المشركون على منزلتين من النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - الحديث. وفيه قصة تطليق عمر بن الخطاب قريبة بنت أبي أمية وغير ذلك.
تعقّبه أبو مسعود الدمشقي فقال: ثبت هذا الحديث والذي قبله - يعني بهذا الاسناد سوى الحديث المتقدّم في التفسير - في تفسير ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس، وابن جريج لم يسمع التفسير من عطاء الخراساني وإنما أخذ الكتاب من ابنه عثمان ونظر فيه.
قال أبو علي: وهذا تنبيه بليغ [ بديع ] من أبي مسعود -رحمهالله - فقد رويناه عن صالح بن أحمد بن حنبل، عن [ علي ] ابن المديني، قال: سمعت هشام
___________________
(١). صحيح البخاري ٦ / ١٩٩.
بن يوسف يقول: قال لي ابن جريج: سألت عطاء - يعني ابن أبي رباح - عن التفسير من البقرة وآل عمران، ثم قال: اعفني من هذا، قال هشام: فكان بعد إذا قال: عطاء عن ابن عباس، قال: الخراساني، قال هشام: فكتبنا ما كتبنا ثم مللنا - يعني حسبنا [ كتبنا ] أنه عطاء الخراساني -.
قال علي بن المديني: وإنّما كتبت هذه القصة، لأن محمد بن ثور كان يجعلها عطاء عن ابن عباس، فظنّ الذين حملوها عنه، أنّه عطاء بن أبي رباح قال عليّ: وسألت يحيى القطّان عن حديث ابن جريح عن عطاء الخراساني فقال: ضعيف، فقلت: له: إنه يقول: أخبرنا، قال: لا شيء، كلّه ضعيف، إنما هو كتاب دفعه اليه.
قلت: ففيه نوع اتصال، ولذلك استجاز ابن جريح أن يقول فيه: أخبرنا. لكن البخاري ما أخرجه إلّا على أنّه من رواية عطاء بن أبي رباح، وأمّا الخراساني فليس من شرطه، لأنّه لم يسمع عن ابن عباس.
لكن لقائل أن يقول: هذا ليس بقاطع في أنّ عطاء المذكور هو الخراساني فإنّ ثبوتهما في تفسيره لا يمنع أن يكونا عند عطاء بن أبي رباح أيضاً، فيحتمل أن يكون هذان الحديثان عند عطاء بن أبي رباح وعطاء الخراساني جميعاً، والله أعلم.
فهذا جواب إقناعي، وهذا عندي من المواضع العقيمة عن الجواب السّديد، ولا بدّ للجواد من كبوة، والله المستعان. وما ذكره أبو مسعود من التعقب قد سبقه إليه الاسماعيلي، ذكر ذلك الحميدي في الجمع، عن البرقاني، عنه، قال: وحكاه عن علي بن المديني، يشير إلى القصة التي ساقها الغسّاني، والله الموفّق »(١) .
أقول:
والعجب من الحافظ ابن حجر، فانه أورد هذا الجواب الإقناعي في شرح الحديث في كتاب التفسير، ولم يقل هناك بأنّ هذا عنده « من المواضع العقيمة عن
___________________
(١). هدى الساري - مقدمة فتح الباري: ٢ / ١٣٥ - ١٣٦.
الجواب السديد، ولا بدّ للجواد من كبوة » وهذا نصّ كلامه: « قوله: عن ابن جريج وقال عطاء. كذا فيه وهو معطوف على كلام محذوف، وقد بيّنه الفاكهي من وجه آخر عن ابن جريج، قال في قوله [ تعالى ]:( وَدًّا وَلا سُواعاً ) الآية، قال: أوثان كان قوم نوح يعبدونها [ نهم ]، وقال عطاء: كان ابن عباس إلى آخره.
قوله: عن ابن عباس، قيل: هذا منقطع لأنّ عطاء المذكور هو الخراساني ولم يلق ابن عباس، فقد أخرج عبد الرزاق هذا الحديث في تفسيره عن ابن جريج، فقال: أخبرني عطاء الخراساني، عن ابن عباس.
وقال أبو مسعود: ثبت هذا الحديث في تفسير ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، وابن جريج لم يسمع التفسير من عطاء الخراساني وإنما أخذه من ابنه عثمان بن عطاء، فنظر فيه.
وذكر صالح بن أحمد بن حنبل في الخلل عن علي بن المديني، قال: سألت يحيى القطّان عن حديث ابن جريج عن عطاء الخراساني، فقال: ضعيف فقلت له: إنّه يقول: أخبرنا، قال: لا شيء، إنّما هو كتاب دفعه اليه. إنتهى. وكان ابن جريح يستجيز إطلاق أخبرنا في المناولة والمكاتبة.
وقال الاسماعيلي: أخبرت عن علي بن المديني أنه ذكر في [ عن ] تفسير ابن جريج كلاماً معناه أنه كان يقول: عن عطاء الخراساني، عن ابن عبّاس، فطال على الورّاق أن يكتب الخراساني في كل حديث، فتركه، فرواه من روى على أنه عطاء بن أبي رباح. إنتهى. وأشار بهذا إلى القصة التي ذكرها صالح بن أحمد عن علي بن المديني، ونبّه عليها أبو علي الغسّاني في تقييد المهمل، قال ابن المديني سمعت هشام بن يوسف يقول: قال لي ابن جريج: سألت عطاء عن التفسير من البقرة وآل عمران، ثمّ قال اعفني من هذا، [ قال: ] قال هشام: فكان بعد إذا قال عطاء عن ابن عباس، قال عطاء الخراساني، قال هشام: فكتبنا ثمّ مللنا - يعني حسبنا أنّه [ كتبنا ] الخراساني - قال ابن المديني وإنّما بيّنت هذا لأنّ محمد بن ثور كان يجعلها - يعني في روايته - عن ابن جريج، عن عطاء عن ابن عباس فيظنّ
أنّه عطاء بن أبي رياح.
وقد أخرج الفاكهي الحديث المذكور، من طريق محمد بن ثور، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، ولم يقل: الخراساني. وأخرجه عبد الرزاق كما تقدّم فقال: الخراساني.
وهذا مما استعظم على البخاري أن يخفى عليه، لكن الذي قوي عندي أن هذا الحديث بخصوصه عند ابن جريج عن عطاء الخراساني وعن عطاء بن أبي رباح جميعاً، ولا يلزم من امتناع عطاء بن أبي رباح من التحديث بالتفسير أن لا يحدث بهذا الحديث في باب آخر من الأبواب، أو في المذاكرة، وإلّا فكيف يخفى على البخاري ذلك مع تشدّده في شرط الاتصال واعتماده غالباً في العلل على علي ابن المديني شيخه، وهو الذي نبّه على هذه القصّة. وممّا يؤيّد ذلك أنه لم يكثر من تخريج هذه النسخة، وإنما ذكر بهذا الاسناد موضعين هذا والآخر في النكاح، ولو كان خفى [ ذلك ] عليه لا ستكثر من إخراجها، لأنّ ظاهرها أنها [ على ] شرطه »(١) .
أقول: وعلى أي حال، فإنّا نريد إثبات تكلّم الحفّاظ والفقهاء في أحاديث الصحيحين، وهذا ما هو الواقع، وأمّا دفاع الحافظ ابن حجر - بعد اعترافه بعدم وجود جواب سديد في هذا المقام - فيرجع الحكم في صحته وسقمه الى جهابذة الفن
الحديث الخامس عشر
و هو ما أخرجه البخاري في كتاب المغازي من كتابه، حيث قال: « حدثنا موسى بن اسماعيل، حدثنا أبو عوانة، عن حصين، عن أبي وائل، قال: حدثني مسروق بن الاجدع، قال: حدّثتني أم رومان - وهي أم عائشة - قالت: بينا أنا قاعدة أنا وعائشة إذ ولجت امرأة من الأنصار، فقالت: فعل الله بفلان وفعل،
___________________
(١). فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٨ / ٥٤١.
فقالت أمّ رومان: وما ذاك؟ قالت: ابني ممّن [ فيمن ] حدّث الحديث، قالت: وما ذاك؟ قالت: كذا وكذا، قالت عائشة: سمع رسول الله - صلىاللهعليهوآلهوسلم ؟ قالت: نعم، قالت: وأبو بكر؟ قالت: نعم، فخرّت مغشيّاً عليها، فما أفاقت إلّا وعليها حمّى بنافض، فطرحت عليها ثيابها فغطّيتها، فجاء النبي - صلىاللهعليهوآلهوسلم - فقال: ما شأن هذه؟ قلت: يا رسول الله! أخذتها الحمى بنافض، قالت: فلعلّ في حديث تحدّث [ به ]، قالت: نعم، فقعدت عائشة، فقالت: والله لئن حلفت لا تصدّقوني، ولئن قلت لا تعذروني، مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه، والله المستعان على ما تصفون. قالت: وانصرف ولم يقل [ لي ] شيئاً، فأنزل الله عذرها، قالت: بحمد الله لا بحمد أحد ولا بحمدك » (١) .
كبار الحفّاظ وهذا الحديث
وصريح هذا الحديث سماع مسروق بن الأجدع من أم رومان أم عائشة، ولقد غلّط كبار الأئمّة الحفّاظ هذا الحديث وقالوا: إن مسروقاً لم يدرك أم رومان، ومن هؤلاء:
الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي.
الحافظ أبو عمرو ابن عبد البر القرطبي.
الحافظ أبو الفضل القاضي عياض اليحصبي.
الحافظ ابراهيم بن يوسف صاحب مطالع الأنوار على صحاح الآثار.
الحافظ أبو القاسم السهيلي شارح السيرة.
الحافظ أبو الفتح ابن سيد الناس الأندلسي.
الحافظ جمال الدين المزّي.
الحافظ شمس الدين الذّهبي.
الحافظ أبو سعيد صلاح الدين العلائي.
___________________
(١). صحيح البخاري ٥ / ١٥٤.
وإليك كلمات القوم الصريحة في ذلك:
قال ابن عبد البر الحافظ ما نصّه: « رواية مسروق عن أم رومان مرسلة، ولعله سمع ذلك من عائشة - رضي الله عنها - »(١) .
وقال الحافظ المزّي بعد أن أورد الحديث المذكور:
« وقال الحافظ أبو بكر الخطيب: هذا حديث غريب من رواية أبي وائل عن مسروق، لا نعلم رواه غير حصين بن عبد الرحمن عنه، وفيه إرسال، لأن مسروقاً لم يدرك أم رومان، وكانت وفاتها على عهد رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - وكان مسروق يرسل رواية هذا الحديث عنها ويقول: سئلت أم رومان، فوهم حصين فيه إذ جعل السائل لها مسروقاً، أللهمَّ إلّا أن يكون بعض النقلة كتب « سألت » بالألف، فإن من الناس من يجعل الهمزة في الخط ألفاً وإنْ كانت مكسورة أو مرفوعة، فتبرأ حينئذٍ حصين من الوهم فيه، على أن بعض الرواة قد رواه عن حصين على الصواب.
قال: وأخرج البخاري هذا الحديث في صحيحه، لما رأى فيه عن مسروق قال: سألت أم رومان، ولم تظهر له علته.
وقد بيّنا ذلك في كتاب المراسيل وأشبعنا القول بما لا حاجة لنا إلى إعادته »(٢) .
وقال الحافظ السهيلي بترجمة أم رومان:
« وروى البخاري حديثاً عن مسروق فقال فيه:
سألت أم رومان وهي أم عائشة عما قيل فيها، ومسروق ولد بعد رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - بلا خلاف، فلم ير أم رومان قط، فقيل: إنّه وهم في الحديث. وقيل: بل الحديث صحيح وهو مقدّم على ما ذكره أهل السيرة من موتها في حياة رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم -.
___________________
(١). الاستيعاب ٤ / ١٩٣٧.
(٢). تهذيب الكمال في معرفة الرجال ٣٥ / ٣٦٠.
وقد تكلّم شيخنا أبو بكر ابن العربي -رحمهالله - على هذا الحديث واعتنى به لإِشكاله ...»(١) .
وقال ابن سيد الناس.
« وقد وقع في الصحيح رواية مسروق عنها بصيغة العنعنة وغيرها ولم يدركها، وملخص ما أجاب به أبو بكر الخطيب أن مسروقاً يمكن أن يكون قال: سئلت أم رومان، فأثبت الكاتب صورة الهمزة فتصحفت على من بعده بسألت، ثم نقلت إلى صيغة الإخبار بالمعنى في طريق، وبقيت على صورتها في آخر، ومخرجها التصحيف المذكور »(٢) .
وقد ذكر الحافظ ابن حجر كلام الحافظ الخطيب وتصدى للجواب عنه مدافعاً عن البخاري ثم قال: « وقد تلقى كلام الخطيب بالتسليم: صاحب المشارق، والمطالع، والسهيلي، وابن سيد الناس، وتبع المزي الذهبي في مختصراته، والعلائي في المراسيل، وآخرون.
وخالفهم صاحب الهدى »(٣) .
أقول: ( صاحب المشارق ) هو: الحافظ القاضي عياض، وكتابه ( مشارق الأنوار على صحاح الأخبار ) من الكتب المعروفة المعتبرة، ذكر فيه تحريفات وتصحيفات وأخطاء وقعت في الموطأ وكتاب البخاري وكتاب مسلم.
( وصاحب المطالع ) هو: الحافظ إبراهيم بن يوسف، وكتابه ( مطالع الأنوار على صحاح الآثار ) قال الكاتب الجلبي بتعريفه:
« مطالع الأنوار على صحاح الآثار، في فتح ما استغلق من كتب الموطأ ومسلم والبخاري، وإيضاح مبهم لغاتها في غريب الحديث، لابن قراقول ابراهيم ابن يوسف، المتوفى سنة تسع وستين وخمسمائة صنّفه على منوال مشارق الأنوار
___________________
(١). الروض الأنف ٦ / ٤٤٠.
(٢). عيون الأثر ٢ / ١٠١.
(٣). فتح الباري ٧ / ٣٥٣.
للقاضي عياض، ونظمه شمس الدين محمد بن محمد الموصلي المتوفى سنة أربع وسبعين وسبعمائة، أوّله: الحمد لله الذي أظهر دينه على كل دين، وهو مأخوذ ممّا شرحه وأوضحه وبيّنه وأتقنه وضبطه وقيده الفقيه أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض البستي، في كتابه المسمى بمشارق الأنوار، لكن اختصره واستدرك عليه وأصلح فيه أوهاماً الفقيه أبو اسحاق ابن قراقول »(١) .
ترجمة الحافظ العلائي
« والعلائي » هو: الحافظ خليل بن كليدي صلاح الدين أبو سعيد الدمشقي، ترجم له ابن قاضي شهبة في طبقاته بقوله: « خليل بن كليدي بن عبد الله، الامام البارع المحقق، بقية الحافظ، صلاح الدين أبو سعيد العلائي الدمشقي ثم المقدسي، ولد بدمشق في ربيع الأول سنة أربع وتسعين - بتقديم التاء - وستمائة، وسمع الكثير ودخل البلاد وبلغ عدد شيوخه بالسماع سبعمائة وأخذ علم الحديث عن المزي وغيره، وأخذ الفقه عن الشيخين برهان الفزاري - ولازمه وخرج له مشيخة - وكمال الدين ابن الزملكاني وتخرّج به وعلّق منه كثيراً، وأجيز بالفتوى، وأخذ واجتهد حتى فاق أهل عصره في الحفظ والاتقان ودرّس بدمشق بالأسدية وبحلقة صاحب حمص، ثم انتقل إلى القدس مدرّسا بالصلاحية سنة إحدى وثلاثين، فأقام بالقدس مدة طويلة يدرّس ويفتي ويحدّث ويصنّف إلى آخر عمره.
ذكره الذهبي في معجمه وأثنى عليه.
وقال الحسيني في معجمه وذيله: كان إماماً في الفقه والنحو والأصول، متفنناً في علوم الحديث ومعرفة الرجال، علامة في معرفة المتون والأسانيد، بقية الحفاظ، ومصنّفاته تنبئ عن إمامته في كل فن، ودرّس وأفتى وناظر ولم يخلف بعده مثله.
___________________
(١). كشف الظنون ٢ / ١٧١٥.
وقال الأسنوي في طبقاته: كان حافظ زمانه، إماماً في الفقه والأصول وغيرهما، ذكياً ونظاراً فصيحاً كريماً، ذا رئاسة وحشمة، وصنّف في الحديث تصانيف نافعة، وفي النظائر الفقهية كتاباً كبيراً، ودرّس بالصلاحية بالقدس الشريف وانقطع فيها للاشتغال والافتاء والتصنيف.
وقال السبكي في الطبقات الكبرى: كان حافظاً ثبتاً ثقة عارفاً بأسماء الرجال والعلل والمتون، فقيهاً متكلماً أديباً شاعراً ناظماً ناثراً، متقناً، أشعرياً صحيح العقيدة سنيّاً، لم يخلف بعده مثله - إلى أن قال: وأما الحديث فلم يكن في عصره من يدانيه، وأما بقية علومه من فقه ونحو وتفسير وكلام، فكان في كلّ واحد منها حسن المشاركة، توفي بالقدس في المحرم سنة إحدى وستين وسبعمائة
ومن تصانيفه »(١) .
الحافظ ابن السكن(٢) وهذا الحديث
أضف إلى هؤلاء الحفاظ: الحافظ أبا علي ابن السكن صاحب كتاب ( الحروف في الصحابة ) وهو من مصادر كتاب ( الاستيعاب )، فإنّه أيضاً قد خطّأ الحديث المذكور، فقد قال الحافظ ابن حجر العسقلاني ما نصه:
« ثم وجدت للخطيب سلفاً، فذكر أبو علي ابن السكن في كتاب الصحابة في ترجمة أم رومان أنها ماتت في حياة النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم -.
قال: وروى حصين، عن أبي وائل، عن مسروق: قال سألت أم رومان.
قال ابن السكن: هذا خطأ ثم ساق بسنده إلى حصين عن أبي وائل عن مسروق أن أم رومان حدّثتهم، فذكر قصة الإِفك التي أوردها البخاري، ثم
___________________
(١). طبقات الشافعية ٣ / ٢٤٢.
(٢). هو: الحافظ سعيد بن عثمان البغدادي البزاز، المتوفى سنة ٣٥٣. توجد ترجمته في: تذكرة الحفاظ ٣ / ٩٣٧ والنجوم الزاهرة ٣ / ٣٣٨ وشذرات الذهب ٧ / ١٢ وطبقات الحفاظ / ٣٧٨.
قال:
تفرد به حصين، ويقال: إن مسروقاً لم يسمع من أم رومان، لأنّها ماتت في حياة النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - وبالله التوفيق »(١) .
حول رأي صاحب الهدي
وأما قول الحافظ ابن حجر العسقلاني في كلامه المذكور سابقاً: « وخالفهم صاحب الهدي » - وهو ابن قيم الجوزية في كتابه ( زاد المعاد في هدي خير العباد ) - فوهم - لأن ابن القيّم في هذا الكتاب ينقل أقوال المخطّئين لهذا الحديث، ثم كلمات المصحّحين الذين أوّلوه وحملوه على محمل صواب، من دون أن يرجح أحد القولين على الآخر، فالقول بأنه خالف الخطيب ومن تبعه في الخطئة، خطأ.
على أن ابن القيم قد صرّح في كتابه المذكور - في الكلام حول زوجات النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - بأن من له أدنى علم بالسير والتواريخ وما قد كان، لا يرد نقل المؤرخين لحديث واحد، وذلك حيث قال: « وأمّا حديث عكرمة بن عمار، عن أبي زميل، عن ابن عباس، إن أبا سفيان قال للنبيصلىاللهعليهوآلهوسلم : أسألك ثلاثاً فأعطاه إيّاهنَّ منها: وعندي أجمل العرب أم حبيبة، أزوّجك إياها، فهذا الحديث غلط ظاهر لا خفاء به، قال أبو أحمد ابن حزم: وهو موضوع بلا شك، كذبه عكرمة بن عمار. قال ابن الجوزي: هو وهم من بعض الرواة لا شك فيه ولا تردد.
وقد اتهموا به عكرمة بن عمار، لأنّ أهل التواريخ أجمعوا على أن أم حبيبة كانت تحت عبيد الله بن جحش، ولدت له وهاجر بها وهما مسلمان إلى أرض الحبشة، ثم تنصر وثبتت أم حبيبة على إسلامها، فبعث رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - إلى النجاشي يخطبها عليه، فزوّجه إيّاها وأصدقها عن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - صداقاً وذلك في سنة سبع من الهجرة، وجاء أبو سفيان في زمن الهدنة
___________________
(١). الاصابة ٤ / ٤٣٤.
ودخل عليها فثنت فراش رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - حتى لا يجلس عليه، ولا خلاف أن أبا سفيان ومعاوية أسلما في فتح مكة سنة ثمان.
وأيضاً في هذا الحديث أنه قال له: وتؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، فقال: نعم، ولا يعرف أن رسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - أمّر أبا سفيان البتّة، وقد أكثر الناس الكلام في هذا الحديث وتعددت طرقهم في وجهه، فمنهم من قال: الصحيح أنه تزوّجها بعد الفتح لهذا الحديث. قال: ولا يرد هذا بنقل المؤرخين، وهذه الطريقة باطلة عند من له أدنى علم بالسيرة وتواريخ ما قد كان. وقالت طائفة »(١) .
وحاصل هذا الكلام، هو عدم جواز ردّ الاجماع القائم من جميع المؤرّخين على وقوع وفاة أم رومان في حياة النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - وإنّ مسروقاً لم يدركها بحديث واحد رواه البخاري في كتابه
وعلى هذا فهو من المخطّئين لحديث البخاري تبعاً للحافظ أبي بكر الخطيب وجماعته، فلا يصح قول ابن حجر: « وخالفهم صاحب الهدى ».
أقول: وبهذا الذي ذكرنا عن ابن القيم يرد على جواب ابن حجر عمّا ذكر الخطيب وأتباعه، ورده كلام الواقدي المتضمّن وفاة أم رومان على عهد رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - دفاعاً عن البخاري وكتابه.
هذا، وقد قلنا فيما سبق: إن الذي نريد إثباته في هذه البحوث، هو قدح كبار الأئمّة والحفّاظ في طائفة من مرويات البخاري في كتابه
على أنا نقول: كما أن ابن حجر يكذّب الواقدي صاحب السيرة والتاريخ في مسألة وفاة أم رومان، ولا يجعل روايته قادحة في حديث البخاري المذكور فإنّنا نضعّف إعراض الواقدي عن رواية حديث الغدير، ونقول بأنه غير قادح في صحته - بالإِضافة إلى الوجوه الآخرى الآتية -. فلا وجه لتمسك الفخر الرازي بذلك.
___________________
(١). زاد المعاد في هدي خير العباد ١ / ٢٧.
الحديث السادس عشر
أخرج البخاري في كتاب المغازي هذا الحديث بقوله:
« حدثني يحيى بن قزعة، حدثنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي، عن أبيهما، عن علي بن أبي طالب، أن رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الانسية »(١) .
و في كتاب الذبائح:
« حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي، عن أبيهما، عن علي قال: نهى النبي [ رسول الله ] -صلىاللهعليهوآلهوسلم - عن المتعة عام خيبر وعن لحوم [ ال ] حمر الانسية »(٢) .
و في كتاب الحيل:
« حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى، عن عبيد الله بن عمر، حدثنا الزهري عن الحسن وعبد الله ابني محمد بن علي، عن أبيهما: إن علياً قيل له: إن ابن عباس لا يرى بمتعة النساء بأساً، فقال: إن رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - نهى عنها يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإِنسية »(٣) .
و أخرجه مسلم في كتابه بأسانيد متعددة، حيث قال:
« حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن ابن شهاب، عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي، عن أبيهما، عن علي بن أبي طالب: إن رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر
___________________
(١). صحيح البخاري ٥ / ١٧٢.
(٢). صحيح البخاري ٧ / ١٢٣.
(٣). المصدر نفسه ٩ / ٣١.
الأنسية.
و حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء الضبعي، حدثنا جويرية، عن مالك بهذا الاسناد وقال: سمع علي بن أبي طالب يقول لفلان: إنك رجل تائه، نهى [ نهانا ] رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - بمثل حديث يحيى [ بن يحيى ] عن مالك.
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير وزهير بن حرب جميعا، عن ابن عيينة، قال زهير: نا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن الحسن وعبد الله ابني محمد بن علي، عن أبيهما، عن علي: أن النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر وعن لحوم الحمر الأهلية.
و حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، قال: نا أبي قال: نا عبيد الله، عن ابن شهاب، عن الحسن وعبد الله ابني محمد بن علي، عن أبيهما، عن علي، إنه سمع ابن عباس يليّن في متعة النساء، فقال: مهلاً يا ابن عباس، فإنّ رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - نهى عنها يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإِنسية.
و حدثنا أبو الطاهر وحرملة [ ابن يحيى ]، قالا: نا ابن وهب [ قال ]: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن الحسن وعبد الله ابني محمد بن علي بن أبي طالب، عن أبيهما أنه سمع علي بن أبي طالب يقول لابن عباس: نهى رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية »(١) .
كبار العلماء وهذا الحديث
وهذا الحديث بأسانيده المختلفة في الكتابين، ينص على أن تحريم المتعة كان يوم خيبر، ولكن المحقّقين من أهل السنة وفطاحل الحديث والأثر، يعدّون ذلك من الأوهام الفاحشة، وإليك بعض كلماتهم الصريحة في ذلك:
قال الحافظ السهيلي: « ومما يتصل بحديث النهي عن أكل لحوم الحمر تنبيه
___________________
(١). صحيح مسلم ٤ / ١٣٤ - ١٣٥.
على إشكالفي رواية مالك عن ابن شهاب، فإنه قال فيها: نهى رسول الله - صلىاللهعليهوآلهوسلم - عن نكاح المتعة يوم خيبر وعن لحوم الحمر الاهلية.
وهذا شيء لا يعرفه أحد من أهل السير ورواة الأثر، أن المتعة حرمت يوم خيبر، و قد رواه أبو عيينة، عن ابن شهاب، عن عبد الله بن محمد، فقال فيه: إن رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - نهى عن أكل الحمر الأهلية عام خيبر وعن المتعة، فمعناه على هذا اللفظ: ونهى عن المتعة بعد ذلك اليوم، فهو اذاً تقديم وتأخير وقع في لفظ ابن شهاب لا لفظ مالك، لأن مالكاً قد وافقه على لفظه جماعة من رواة ابن شهاب »(١) .
وقال ابن قيم الجوزية: « فصل - ولم تحرم المتعة يوم خيبر، وإنما كان تحريمهما عام الفتح. هذا هو الصواب، وقد ظنّ طائفة من أهل العلم أنه حرمها يوم خيبر واحتجوا بما في الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب -رضياللهعنه - »(٢) .
وقال ابن القيم أيضاً: « والصحيح أن المتعة إنما حرّمت عام الفتح، لأنه قد ثبت في الصحيح أنهم استمتعوا عام الفتح مع رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - بإذنه، ولو كان التحريم زمن خيبر لزم النسخ مرّتين وهذا لا عهد بمثله في الشريعة ألبتة، ولا يقع مثله فيها. وأيضاً: فإن خيبر لم يكن فيها مسلمات وإنما كنَّ يهوديات، وإباحة نساء أهل الكتاب لم يكن بعد »(٣) .
وقال: « فصل - وأما نكاح المتعة فثبت عنه -صلىاللهعليهوآلهوسلم - أنه أحلّها عام الفتح، وثبت عنه أنه نهى عنها عام الفتح. واختلف: هل نهى عنها يوم خيبر؟ على قولين، والصحيح: أن النهي عنها إنما كان عام الفتح، وأن النهي يوم خيبر إنما كان عن الحمر الأهلية »(٤) .
___________________
(١). الروض الأنف ٦ / ٥٥٧.
(٢). زاد المعاد في هدي خير العباد ٢ / ١٤٢.
(٣). المصدر نفسه ٢ / ١٨٣.
(٤). زاد المعاد ٤ / ٦.
وقال بدر الدين العيني بشرح الحديث في كتاب المغازي: « قال ابن عبد البر: وذكر النهي عن المتعة يوم خيبر غلط. وقال السهيلي: النهي عن المتعة يوم خيبر لا يعرفه أحد من أهل السير ورواة الأثر »(١) .
و قال شهاب الدين القسطلاني بشرح الحديث في كتاب النكاح حيث قال البخاري: « حدثنا مالك بن اسماعيل، قال: حدثنا ابن عيينة أنه سمع الزهري يقول: أخبرني الحسن بن محمد بن علي وأخوه عبد الله، عن أبيهما: أن علياً قال لابن عباس: إنّ النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر ».
قال القسطلاني: « زمن خيبر » ظرف للأمرين، و في غزوة خيبر من كتاب المغازي: نهى رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - يوم خيبر عن متعة النساء وعن لحوم الحمر الأهلية. لكن قال البيهقي فيما قرأته في كتاب المعرفة: وكان ابن عيينة يزعم أن تاريخ خيبر في حديث علي إنما في النهي عن لحوم الحمر الأهلية، لا في نكاح المتعة. قال البيهقي: يشبه أن يكون كما قال، قد روي عن النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - أنه رخص فيه بعد ذلك، ثم نهى عنه، فيكون احتجاج علي نهيه أخيراً، حتى يقوم الحجة على ابن عباس.
وقال السهيلي: النهي عن نكاح المتعة يوم خيبر شيء لا يعرفه أهل السير ورواة الأثر ...»(٢) .
وقال القسطلاني في شرح الحديث في كتاب المغازي:
« قال ابن عبد البر: إن ذكر النهي يوم خيبر غلط. وقال البيهقي: لا يعرفه أحد من أهل السير »(٣) .
___________________
(١). عمدة القاري - شرح صحيح البخاري ١٧ / ٢٤٦ - ٢٤٧.
(٢). إرشاد الساري - شرح صحيح البخاري ٨ / ٤١.
(٣). المصدر نفسه ٦ / ٥٣٦.
مع ابن حجر
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني بشرح الحديث من كتاب المغازي:
« قيل: إن في الحديث تقديماً وتأخيراً، والصواب: نهي يوم خيبر عن لحوم الحمر الانسية وعن متعة النساء.
ويوم خيبر ظرف لمتعة النساء، لأنه لم يقع في غزوة خيبر تمتع بالنساء، وسيأتي بسط ذلك في مكانه من كتاب النكاح، إن شاء الله ».
ثم إنه أورد في كتاب النكاح بشكل مبسوط، أحاديث المسألة وكلمات البيهقي والسهيلي وابن عبد البر وغيرهم حولها، ثم قال: « لكن يمكن الانفصال عن ذلك بأن علياً لم يبلغه الرخصة فيها يوم الفتح لوقوع النهي عنها عن قرب كما سيأتي بيانه. ويؤيّد ظاهر الحديث على ما أخرجه أبو عوانة وصحّحه من طريق سالم بن عبد الله: إن رجلاً سأل ابن عمر عن المتعة، فقال: إن فلاناً يقول فيها، فقال: والله لقد علم أن رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - حرّمها يوم خيبر وما كنّا مسافحين»(١) .
أقول: لقد حمل الدفاع عن البخاري الحافظ ابن حجر على نسبة الخطأ والجهل إلى أمير المؤمنين وباب مدينة علم رسول رب العالمين - عليهما الصلاة والسلام - في هذا الحديث - على ما رووه، ونعوذ بالله من تعصبٍ يقود صاحبه إلى مهاوي الهلاك.
ولكن يتضح بطلان ما زعمه الحافظ هنا من كلام ( الدهلوي ) ووالده شاه ولي الله في كتاب ( قرة العينين ) فقد قال ( الدهلوي ) في الجواب عن مطاعن عمر بن الخطاب ما هذا ترجمته:
« المطعن الحادي عشر - نهيه الناس عن متعة النساء وتحريمه متعة الحج،
___________________
(١). فتح الباري - شرح صحيح البخاري ٩ / ١٣٨.
مع أن كلتيهما كانتا جاريتين على عهد رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - فنسخ حكم الله تعالى وحرّم ما أحله. وقد ثبت هذا باعترافه كما في كتب أهل السنة، إذ يروون عنه أنه قال: متعتان كانتا على عهد رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - وأنا أنهى عنهما.
والجواب: إن أصحّ الكتب عند أهل السنة هو: صحيح مسلم، وقد أخرج فيه عن سلمة بن الأكوع وسبرة بن معبد الجهني، وأخرج في غيره من الصحاح عن أبي هريرة: إن رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - حرّم المتعة بعد أن رخّصها ثلاثة أيام في حرب الأوطاس تحريماً مؤبّداً إلى يوم القيامة. ورواية الأمير في ذلك مشهورة متواترة بحيث رواها عنه أحفاده، وهي ثابتة في الموطأ وصحيح مسلم وغيرهما من الكتب المعروفة بطرق متعددة.
وأما شبهة بعض الشيعة بأن التحريم وقع في غزوة خيبر وأحلّت في غزوة الأوطاس مرة أخرى فيردّها: أنها ناشئة من الخلط وسوء الفهم، فإنّ الذي في رواية علي في غزوة خيبر هو تحريم الحمر الانسية لا تحريم المتعة، لكن العبارة توهم كون غزوة خيبر تاريخ تحريمهما جميعاً. وقد حقق هذا الوهم بعضهم فنقلوا - بناءاً على ذلك - أنه نهى عن متعة النساء يوم خيبر، ولو كان الأمير يحدّث تحريم المتعة مؤرخاً بغزوة خيبر، فكيف يمكنه الرد والالزام في كلامه مع ابن عباس، مع أنه ذكر هذه الرواية، حين ردّ عليه وألزمه، وزجر ابن عباس عن تجويزه المتعة زجراً شديداً، وقال له: إنك رجل تائه.
فمن قال: إن غزوة خيبر ظرف لتحريم المتعة، فكأنه قد ادعى وقوع الغلط في استدلال الأمير، وتكفي دعواه هذه شاهداً على جهله وحمقه »(١) .
أقول: وحاصل هذا الكلام بطلان الاحاديث الواردة في أنه -صلىاللهعليهوآلهوسلم - نهى عن المتعة يوم خيبر. ويدل أيضاً على جهل البخاري ومسلم
___________________
(١). التحفة الاثنا عشرية: ٣٠٢.
وغيرهما من رواة هذه الأحاديث والمعتمدين عليها، باعتبار أنها لو كانت صحيحة لاقتضت بطلان استدلال أمير المؤمنين -عليهالسلام -
ويدل هذا الكلام على حمق الحافظ ابن حجر ومن تبعه، لنسبتهم عدم بلوغ القصة أمير المؤمنين -عليهالسلام -.
هذا، وليراجع كتاب ( تشييد المطاعن ) للوقوف على نقض ما زعمه ( الدهلوي ) على الامامية في هذا المقام.
الامام الشافعي وهذا الحديث
هذا، ولم يصحّح الامام الشافعي ذكر « المتعة » في روايات النهي عن لحوم الحمر الأهلية، عن سيدنا أمير المؤمنين -عليهالسلام - فقد قال العيني:
« وقد روى الشافعي، عن مالك، باسناده عن علي -رضياللهعنه - أن رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - نهى يوم خيبر عن أكل لحوم الحمر الأهلية.
ولم يزد على ذلك وسكت عن قصة المتعة، لما علم فيها من الاختلاف »(١) .
فظهر أن الشافعي أيضاً ممن يخدش في هذه الروايات الصحيحة!!
خلاصة البحث
إن كثيراً من مرويات البخاري ومسلم في كتابيهما باطل لدى كبار أئمّة أهل السنة وحفاظ الحديث ونقدة الأخبار، إمّا سنداً وإمّا متناً ولو أردنا بسط الكلام في هذا الموضوع، لخرجنا عن المقصود، وفيما ذكرناه كفاية.
ومتى ثبت قدح الأعلام وكبار الأئمّة العظام فيما أخرجه الشيخان في كتابيهما، فكيف يقبل تمسك الفخر الرازي بإعراضهما عن رواية حديث الغدير المتواتر المشهور!؟ وكيف يكون تركهما له قادحاً في صدوره عن رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم -؟!
___________________
(١). عمدة القاري ١٧ / ٢٤٧.
الفخر الرازي وأحاديث الكتابين
وبعد فقد وجدنا الرازي نفسه يطعن في حديث اتفق الشيخان البخاري ومسلم على إخراجه إنه يقول في تفسيره ما نصه:
« واعلم أن بعض الحشوية روى عن النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - إنه قال: ما كذب إبراهيم إلّا ثلاث كذبات. فقلت: الأولى أن لا تقبل مثل هذه الأخبار، فقال - على سبيل الاستنكار -: إن لم نقبله لزمنا تكذيب الرواة. فقلت له: يا مسكين! إن قبلناه لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم -عليهالسلام - وإنْ رددناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة، ولا شك أن صون إبراهيم عن الكذب أولى من صون طائفة من المجاهيل عن الكذب »(١) .
___________________
(١). قال الرازي بتفسير( قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ) في ذكر الأقوال في معانيه: « القول الثاني - وهو قول طائفة من أهل الحكايات -: إن ذلك كذب واحتجوا بما روي عن النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم - أنه قال: لم يكذب إبراهيم إلّا ثلاث كذبات، كلّها في ذات الله تعالى، قوله:( إِنِّي سَقِيمٌ ) وقوله:( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا ) . وقوله لسارة: « هي أختي ». وفي خبر آخر: إن أهل الموقف إذا سألوا إبراهيم الشفاعة، قال: إني كذبت ثلاث كذبات
واعلم أن هذا القول مرغوب عنه، أما الخبر الأول - وهو الذي رووه - فلان يضاف الكذب إلى رواته أولى من أن يضاف إلى الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -. [ ثم قال بعد تأويل كلمات إبراهيم - عليهالسلام - في هذه المواضع: ] وإذا أمكن حمل الكلام على ظاهره من غير نسبة الكذب =
مع أن حديث « لم يكذب إبراهيم إلّا ثلاث كذبات » من مرويات الشيخين « ولا شك أن صون إبراهيم عن الكذب، أولى من صون طائفة من المجاهيل [ البخاري ومسلم ورواة الحديث ] عن الكذب » نعم لا شك في ذلك وإليك نص الحديث في الكتابين الصحيحين:
قال البخاري: « حدثنا سعيد بن تليد الرعيني، أخبرني ابن وهب، أخبرني جرير بن حازم، عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة، [ قال: ] قال رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - لم يكذب إبراهيم إلّا ثلاثاً
حدثنا محمد بن محبوب، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة، قال: لم يكذب إبراهيم [عليهالسلام ] إلّا ثلاث كذبات، ثنتين منهنّ في ذات الله عزّ وجلّ: «( إِنِّي سَقِيمٌ ) » وقوله: «( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا ) ».
و قال بينا هو ذات يوم وسارة إذ اتى على جبار من الجبابرة، فقيل له: إنّ هاهنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل اليه فاسأله [ فسأله ] عنها، فقال: من هذه؟ قال: أختي، فأتى سارة فقال: يا سارة! ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي، فلا تكذبيني فأرسل اليها، فما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فأخذ، فقال: ادعي الله لي ولا أضرّك فدعت الله فأطلق، ثم تناولها ثانية فأخذ مثلها أو أشد، فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت
___________________
= إلى الأنبياء -عليهمالسلام - فحينئذ لا يحكم بنسبة الكذب إليهم إلاّ زنديق » ج ٢٢ / ١٨٥ - ١٨٦.
وقال بتفسير( إِنِّي سَقِيمٌ ) : « الوجه السابع: قال بعضهم: ذلك القول عن إبراهيم -عليهالسلام كذبة، ورووا فيه حديثاً عن النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - أنه قال: ما كذب ابراهيم إلّا ثلاث كذبات.
قلت لبعضهم: هذا الحديث لا ينبغي أن يقبل، لأنّ نسبة الكذب إلى إبراهيم لا تجوز. فقال ذلك الرجل: فكيف يحكم بكذب الرواة العدول؟
فقلت: لما وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبته إلى الخليل -عليهالسلام - كان من المعلوم بالضرورة، أن نسبته إلى الراوي أولى » ج ٢٦ / ١٤٨.
فأطلق، فدعا بعض حجبته، فقال: إنك لم تأتني بإنسان، انما أتيتني بشيطان، فأخذ معها [ فأخذ ] منها هاجر فأتته وهو قائم يصلي فأومأ بيده مهيا، قالت: رد الله كيد الكافر [ أ ] والفاجر في نحره، وأخدم هاجر. قال أبو هريرة: [ فـ ] تلك أمكم يا بني ماء السماء »(١) .
و قال مسلم:
« حدثني أبو الطاهر، قال: أنا عبد الله بن وهب [ قال: ] أخبرني جرير بن حازم، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، أن رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - قال: لم يكذب ابراهيم [ النبي ] -عليهالسلام - قط إلّا ثلاث كذبات، ثنتين في ذات الله، قوله: «( إِنِّي سَقِيمٌ ) » وقوله: «( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا ) ». وواحدة في شأن سارة، فإنّه قدم أرض جبار ومعه سارة [ و ] كانت أحسن الناس فقال لها: إنّ هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك فإنْ سألك فأخبريه أنك أختي، فإنّك أختي في الاسلام، فإني لا أعلم في الأرض مسلماً غيري وغيرك ...»(٢) .
أقول: ولنا هنا ملاحظتان:
الأولى: إن الرازي يكذّب هذا الحديث - وهو من مرويات الكتابين - عن أبي هريرة، مع انه يتشبث في مقابلة حديث الغدير بحديث لم يرو عن غيره كما سيأتي.
والثانية: إن الرازي يتشبث في ردّ حديث الغدير، بعدم إخراج الشيخين إياه، ولكنه في نفس الوقت يزعم عدم حضور الامام أمير المؤمنين -عليهالسلام - حجة الوداع وأنه كان باليمن، مع أن الشيخين قد رويا رجوعه من اليمن وموافاته رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - في حجة الوداع.
وهل هذا إلا تناقض وتهافت!؟
___________________
(١). صحيح البخاري ٤ / ١٧١.
(٢). صحيح مسلم ٧ / ٩٨.
والذي نستنتجه من هذا وأمثاله: أنه ليس لهؤلاء القوم قاعدة يلتزمون بها ويقفون عندها لدى البحث والمناظرة، وإنهم لا يهدفون إلّا إنكار فضائل سيدنا علي -عليهالسلام - والدفاع عن خصومه ومناوئيه، فمتى روى الشيخان حديثاً باطلاً، أو أعرضا عن حديث حق، جعلوا كتابيهما المصدر الأول وأصح الكتب في الاسلام بعد القرآن الكريم، ومتى أخرجا ما يستند اليه الشيعة ويؤيد مطلوبهم، جعلوا يقدحون ويطعنون في رواته ويبحثون عن حال رجال أسانيده قائلين: هذا ضعيف، وذاك مجهول، وذاك كذاب، وهلمّ جراً
دفاع الرازي عن الشافعي
وثمة شيء آخر يجدر بنا ذكره، وهو محاولة الرازي الدفاع عن إمام الشافعية، في الجواب عن شبهة ضعفه في الرواية، باعتبار أن البخاري ومسلماً ما رويا عنه، ولو لا أنه كان ضعيفاً في الرواية، لرويا عنه كما رويا عن سائر المحدثين.
فطفق يذكر الوجوه العديدة حماية للشافعي وذباً عنه. فلنذكر الطعن والوجوه التي أوردها لدفعه
« إن البخاري ومسلماً ما رويا عنه، ولو لا أنه كان ضعيفاً في الرواية لرويا عنه، كما رويا عن سائر المحدثين ».
فأجاب بوجوه قائلاً:
« الأول: أن البخاري ومسلماً لعلّهما إنما تركا الرواية عن الشافعي، لأنهما ما أدركاه، فلو اشتغلا بالرواية عنه لافتقرا إلى الرواية عمن يروي عنه، لكن أكثر شيوخ البخاري ومسلم كانوا تلامذة مالك، فكانا لهذا السبب كمن يروي عن الشافعي في الدرجة، فلو رويا عن تلامذة الشافعي لصارت الرواية نازلة من غير حاجة والمحدثون لا يرغبون في هذا.
الثاني: إنّهما رويا عن أحمد بن حنبل، وأحمد روى عن الشافعي، ولو كانت الرواية عن الشافعي غير جائزة، صار أحمد بسبب روايته عن الشافعي
مجروحاً، وصارا بسبب روايتهما عنه مجروحين. وإنْ كانت رواية أحمد عن الشافعي جائزة، سقط السؤال.
الثالث: إنهما ما كان عالمين بجميع المغيبات، وذلك فإن البخاري روى عن أقوام ما روى عنهم مسلم، ومسلماً روى عن أقوام لم يرو عنهم البخاري، فدلّ على أنهما إذا تركا الرواية عن رجل لم يوجب ذلك قدحاً فيه، وكيف وأبو سليمان الخطابي أورد مؤاخذات كثيرة على صحيح البخاري، في كتاب سماه بأعلام الصحيح؟
الرابع: إن ما ذكرتم معارض بأن أبا داود السجستاني روى عن الشافعي حديث ركانة ابنة عبد يزيد في الطلاق، وكذلك روى عنه أبو عيسى الترمذي وعبد الرحمن بن أبي حاتم ومحمد بن إسحاق بن خزيمة. ولا شك في علو شأن هؤلاء في الحديث.
الخامس: إنهما ما طعنا في الشافعي، بل ذكراه بالمدح والتعظيم، وترك الرواية لا يدل على الجرح، وأما المدح والتعظيم فانه دليل التعديل.
السادس: إن كان تركهما الرواية عنه يدل على ضعفه، فالطعن الشديد على أبي حنيفة المنقول عن الأعمش والثوري، وجب أن يدل على الوهن العظيم فيه، وكذلك طعن يحيى بن معين وأحمد بن حنبل ويحيى بن سعيد. فإن لم تؤثر هذه التصريحات، فكذا القول فيما ذكرتم »(١) .
أقول:
ما أشبه قضية استدلال الرازي بترك البخاري ومسلم رواية حديث الغدير للقدح فيه، باستدلال الطاعنين في الشافعي بتركهما الرواية عنه فلنسأل الرازي هل نسي هذه الوجوه في قضيتنا، فكما أن الترك هناك لا يدل على الجرح فكذلك هنا.
___________________
(١). مناقب الشافعي، في البحث عما طعن به في الشافعي.
وكما أن ما ذكروا معارض برواية أبي داود والترمذي وو كذلك ما ذكره الرازي معارض برواية الترمذي وعبد الرحمن بن أبي حاتم وو و
بل روى حديث الغدير جماعة من شيوخ البخاري ومسلم كما سيأتي.
ونقول أيضاً: ان كان ترك البخاري ومسلم رواية حديث الغدير، يدل على ضعفه أو عدم تواتره، فالطعن الشديد على أبي حنيفة المنقول عن الأعمش وغيره وجب أن يدل على الوهن العظيم. فإنْ لم تؤثر هذه التصريحات فكذا القول فيما ذكر الرازي.
فظهر أن ترك البخاري ومسلم رواية حديث الغدير في كتابيهما، لا يدل على ضعفه أو عدم تواتره.
فسقط تشبث الرازي بذلك.
وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً.
والحمد لله رب العالمين.
(٢)
عدم رواية الواقدي حديث الغدير
والجواب عن تشبث الرازي بعدم رواية الواقدي حديث الغدير من وجوه:
١. الواقدي من رواة مثالب الخلفاء
١ ) إن الواقدي من رواة مثالب الخلفاء والصحابة، فإنْ كان تركه رواية حديث الغدير، يوجب قدحاً في ثبوته وصدوره، كانت روايته لمطاعن الخلفاء أدل على القدح والطعن فيهم
فقد روى الواقدي حديث إحراق عمر بن الخطاب، بيت فاطمة الزهراء بضعة الرسول -صلىاللهعليهوآلهوسلم -، فقد ذكر شيخنا العلامة الحسن بن المطهر الحلي - رحمة الله عليه - في بحث مطاعن أبي بكر ما نصه:
« ومنها - أنه طلب هو وعمر بن الخطاب إحراق بيت أمير المؤمنين، وفيه أمير المؤمنين وفاطمة وابناهما وجماعة من بني هاشم، لأجل ترك مبايعة أبي بكر، ذكر الطبري في تاريخه قال: أتى عمر بن الخطاب منزل علي فقال: والله لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ للبيعة.
وذكر الواقدي: أن عمر جاء إلى علي في عصابة، فيهم أسيد بن الحصين ومسلمة بن أسلم - فقال: أخرجوا، أو لنحرقنّها عليكم »(١) .
___________________
(١). نهج الحق وكشف الصدق: ٢٧١.
لكن الفضل ابن روزبهان الشيرازي كذّب الخبر وجميع رواته، حيث قال في كتابه ( الباطل ):
« أقول: من أسمج ما افتراه الروافض هذا الخبر، وهو إحراق عمر بيت فاطمة، وما ذكر أن الطبري ذكره في التاريخ، فالطبري من الروافض مشهور بالتشيع، حتى أن علماء بغداد هجروه لغلوّه في الرفض والتعصب، وهجروا كتبه ورواياته وأخباره.
وكل من نقل هذا الخبر لا يشك أنه رافضي متعصّب، يريد إبداء القدح والطعن على الأصحاب، لأن المؤمن الخبير بأخبار السلف، ظاهر عليه أن هذا الخبر كذب صراح وافتراء بيّن، لا يكون أقبح منه ولا أبعد من أطوار السّلف ».
٢ ) وروى الواقدي نفي عثمان بن عفان سيّدنا أبا ذر الغفاري -رضياللهعنه - إلى الربذة. وقد نقل العلامة الحلي المذكور روايته هذه، ردّاً على قاضي القضاة عبد الجبار المعتزلي، حيث زعم خروج أبي ذر إليها إختياراً.
ولكن الفضل ابن روزبهان، لما رأى أن هذه الرواية من مطاعن ثالث خلفائهم، جعل يدافع عنه مؤيداً كلام قاضي القضاة برواية الطبري وابن الجوزي ثم قال:
« ومخالفة الواقدي في بعض النقول، لا يقدح ما ذهب اليه العامة ».
أقول: والغريب من الفضل، اعتماده هنا على رواية الطبري وقد رماه بأنه « من الروافض مشهور بالتشيع، حتى أن علماء بغداد هجروه »، وقديماً قيل: من مدح وذم كذب مرتين.
وهذا أيضاً مما يشهد بما ذكرنا من عدم تمسّك القوم بقواعد البحث والمناظرة
٣ ) وروى الواقدي: أن عثمان بن عفان ردّ الحكم بن أبي العاص إلى المدينة المنورة، وهو طريد رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - منها قال العلّامة الحلي -رحمهالله -:
« قال الواقدي من طرق مختلفة وغيره، أن الحكم بن أبي العاص لما قدم الى المدينة بعد الفتح، أخرجه النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - إلى الطائف وقال: لا يساكنني في بلد أبداً، لأنه كان يتظاهر بعداوة رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - والوقيعة فيه، حتى بلغ به الأمر إلى أنّه كان يعيب النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - في مشيه، فطرده النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - وأبعده ولعنه، ولم يبق أحد يعرفه إلّا بأنه طريد رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم -.
فجاء عثمان إلى النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - وكلّمه فيه، فأبى. ثم جاء إلى أبي بكر وإلى عمر في ذلك، في زمان ولايتهما فكلّمهما فيه، فأغلظا عليه القول وزبراه، قال له عمر: يخرجه رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - وتأمرني أن أدخله!؟ والله لو أدخلته لم آمن قول قائل غيّر عهد رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم فإياك يا ابن عفان أن تعاودني فيه بعد اليوم.
فكيف يحسن من القاضي هذا العذر؟ وهلّا اعتذر به عثمان عند أبي بكر وعمر وسلم من تهجينهما إيّاه وخلص من عتابهما عليه »(١) .
فقال الفضل ابن رزبهان:
« روى أصحاب الصحاح أن عثمان لما قيل له: لم أدخلت الحكم بن أبي العاص؟ قال: استأذنت رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - في إدخاله، فأذن لي.
وذكرت ذلك لأبي بكر وعمر، فلم يصدّقاني، فلمّا صرت والياً عملت بعلمي في إعادته إلى المدينة.
هذا مذكور في الصّحاح، وإنكار هذا النقل من قاضي القضاة إنكار باطل ».
٤ ) وروى الواقدي قضايا من استئثار عثمان أهله وبني أبيه بأموال المسلمين قال العلامة الحلي - رحمة الله تعالى عليه -:
___________________
(١). نهج الحق وكشف الصدق: ٢٩١.
« ومنها - أنه كان يؤثر أهل بيته بالأموال العظيمة التي هي عنده للمسلمين، دفع إلى أربعة أنفس من قريش وزوّجهم ببناته أربعة آلاف دينار، وأعطى مروان ألف دينار.
وأجاب قاضي القضاة: بأنه ربّما كان من ماله.
واعترضه المرتضى: بأن المنقول خلاف ذلك، فقد روى الواقدي أن عثمان قال: إن أبا بكر وعمر كانا يناولان من هذا المال ذوي أرحامهما، وإني ناولت منه صلة رحمي، وروى الواقدي أيضاً أنه بعث إليه أبو موسى الأشعري بمال عظيم من البصرة، فقسّمه عثمان بين ولده وأهله بالصحاف. وروى الواقدي أيضاً، قال: قدمت إبل من إبل الصدقة إلى عثمان، فوهبها للحارث بن الحكم بن أبي العاص، وولّى الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة، فبلغت ثلاثمائة ألف فوهبها له، وأنكر الناس على عثمان إعطائه سعيد بن العاص مائة الف درهم »(١) .
وقد أجاب الفضل عن ذلك بأن هذه الأموال ربما كانت من أمواله الخاصة وبأن الأصل أن تحمل أعمال الخلفاء على الصواب
والحاصل: إنْ كان الواقدي رافضياً متعصّباً - كما يقول ابن روزبهان والبعض - سقط تشبث الفخر الرازي بتركه رواية حديث الغدير، وإنْ كان عدلاً ثقة صدوقاً فيما يرويه، فلتقبل رواياته الجمّة تلك التي يتمسك بها الامامية في مباحث مطاعن الخلفاء، وغيرها من المسائل الكلامية والتأريخية التي يرويها، وتسقط أجوبة قاضي القضاة وابن روزبهان وغيرهما من متكلّمي أهل السنة والجماعة.
وأما قبول روايته، أو الاعتماد على تركه رواية حديث، عند ما ينفعهم ذلك، وردّ روايته في كلّ موردٍ يثبت بها بطلان مذهبهم، فممّا لا يحسن بهم
___________________
(١). نهج الحق وكشف الصدق: ٢٩٢.
٢. إعراض الرازي عن روايات الواقدي
إن الفخر الرازي نفسه لم يعبأ بروايات الواقدي، وأسقطها من الحساب وكأنها لم تكن، فقال في مبحث مطاعن عثمان بن عفان من كتابه ( نهاية العقول ):
« قوله: ثانياً - إنه رد الحكم بن أبي العاص وقد سيّره رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم -.
قلنا: إنّه -رضياللهعنه - أجاب عن ذلك بنفسه فيما رواه سيف بن عمر في كتاب الفتوح: إنّي رددت الحكم وقد سيّره رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - من مكة إلى الطائف، ثمّ ردّه رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم -، فرسول الله سيّره ورسول الله يردّه، أفكذلك؟
قالوا: اللهم نعم.
وقيل: إنه روى عثمان -رضياللهعنه - في زمن أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - عن رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - أنّه أذن في ردّه، فقالا له: إنّك شاهد واحد، لأنّ ذلك لم يكن شهادة على شرع حتى تكفى رواية الواحد، بل كان حكماً في غيره، فلا بدّ من الشاهدين، فلما صار الأمر اليه حكم بعلمه.
قوله: ثالثاً - إنّه كان يعطي العطايا الجزيلة لأقاربه.
قلنا: لعلّه كان يعطيها من صلب ماله، لأنّه كان ذا ثروة عظيمة ».
أقول: فالعجب من الرازي، إنه حين يريد تضعيف حديث الغدير يقول: لم يخرجه الواقدي، مع أنّ عدم الإِخراج لا يفيد الردّ.
وحين يجيب عن مطاعن عثمان، لم ينظر بعين الاعتبار إلى روايات الواقدي المؤكّدة لتلك المطاعن.
وعلى هذا أيضاً: فإنّ لنا أن نقول: إنّ سكوت الواقدي عن رواية حديث الغدير غير قادح في تواتره وصحته.
٣. الواقدي مجروح
ثم إنّ الواقدي - وإن تمسّك الرازي بعدم روايته حديث الغدير، وعدّه القوشجي والتفتازاني من الأئمّة المحققين وفي مرتبة البخاري ومسلم، ومدحه عبد الحق الدّهلوي وحسام الدين السهارنفوري ووصفاه بالحفظ والاتقان كالبخاري ومسلم، واستند إلى روايته الكابلي و ( الدهلوي )، وعبّر عنه جماعة بـ « أمير المؤمنين في الحديث » - مجروح من قبل جماعة من أكابر الأئمّة الحفّاظ وعلماء الجرح والتّعديل، كالبخاري وأحمد وابن معين وأبي حاتم والنسائي والدارقطني وابن عديّ وابن الجوزي وابن المديني وابن راهويه والذّهبي وغيرهم
وتجد كلمات هؤلاء وغيرهم في الحطّ عليه والطّعن فيه بترجمته في معاجم الرجال، أمثال:
١ - ميزان الاعتدال ٣ / ٦٦٢.
٢ - تذهيب التهذيب - مخطوط.
٣ - المغني في الضعفاء ٢ / ٦١٩.
٤ - العبر - حوادث سنة ٢٠٧.
٥ - الكاشف ٣ / ٨٢.
٦ - سير أعلام النّبلاء ٩ / ٤٥٤.
٧ - التاريخ الصغير للبخاري ٢ / ٣١١.
٨ - الأنساب - الواقدي.
٩ - مرآة الجنان - حوادث سنة ٢٠٧.
١٠ - تقريب التهذيب ٢ / ١٩٤.
١١ - طبقات الحفّاظ / ١٤٤.
ففي ( ميزان الاعتدال ): « أحد أوعية العلم على ضعفه، قال أحمد بن حنبل هو كذّاب يقلّب الأحاديث، وقال ابن معين: ليس بثقة، وقال مرّة: لا
يكتب حديثه، وقال البخاري وأبو حاتم: متروك، وقال أبو حاتم أيضاً والنسائي: يضع الحديث، وقال الدارقطني: فيه ضعف، وقال ابن عديّ: أحاديثه غير محفوظة والبلاء منه، وقال ابن راهويه: هو عندي ممّن يضع الحديث ».
بل قال الذهبي في ( المغني ): « مجمع على تركه ».
وفي ( وفيات الأعيان ): « ضعّفوه في الحديث وتكلّموا فيه ».
وفي ( الأنساب ): « وقد تكلّموا فيه ».
وفي ( مرآة الجنان ): « لكن أئمّة الحديث ضعّفوه ».
وفي ( تقريب التهذيب ): « متروك ».
وفي ( تدريب الراوي في شرح تقريب النّواوي ): « قال النسائي: الكذّابون المعروفون بوضع الحديث أربعة: ابن أبي يحيى بالمدينة، والواقدي ببغداد، ومقاتل بخراسان، ومحمد بن سعيد المصلوب بالشام ».
وقد ترجم ابن سيد الناس في أول ( عيون الأثر ) الواقدي بإسهاب فذكر كلمات المادحين والقادحين كلّها بالتفصيل.
والذي نقوله نحن بعد ذلك كلّه: إنّه لا يجوز التمسكّ بعدم إخراج الواقدي لحديث الغدير، في مقابل الأماميّة، حتى لو كان مجمعاً على وثاقته والاعتماد عليه وذلك:
١ - لأنّه من أهل الخلاف.
٢ - لأنّ ترك إخراج الحديث لا يلتفت إليه.
٣ - لأنّ الرازي نفسه قد خالف رواياته.
(٣)
عدم رواية ابن إسحاق حديث الغدير
وأمّا الاستدلال الفخر الرازي بترك ابن اسحاق رواية حديث الغدير، فهو مردود بوجوه:
١. ابن اسحاق من رواة حديث الغدير
إنّ ابن اسحاق روى حديث الغدير، وروى قصة هذا الحديث، كما نقل عنه جماعة من كبار علماء القوم. فدعوى عدم روايته حديث الغدير كذب واضح وبهتان مبين
ذكر من نقل عن ابن اسحاق حديث الغدير
ومن المناسب أن نورد في هذا المقام كلمات جماعةٍ من الأعلام ونقلة حديث الغدير، عن ابن اسحاق:
فمنهم: الحافظ ابن كثير الدمشقي، فإنه قال في ذكر القصة:
« ولمـّا رجع -عليهالسلام - من حجة الوداع، فكان بين مكة والمدينة بمكانٍ يقال له « غدير خمّ »، خطب الناس هنالك خطبته في اليوم الثامن عشر من ذي الحجة، فقال في خطبته: من كنت مولاه فعليّ مولاه. وفي بعض الروايات: أللهمَّ
وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله . والمحفوظ الأول.
وإنّما كان سبب هذه الخطبة والتنبيه على فضل عليّ - ما ذكره ابن إسحاق - من أنّ علياً بعثه رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - إلى اليمن أميراً على خالد بن الوليد، فرجع عليّ فوافى حجة الوداع مع النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم -، وقد كثرت فيه القالّة وتكلّم فيه بعض من كان معه، بسبب استرجاعه منهم خلعاً كان خلعها نائبه عليهم، لما تعجّل السّير إلى رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم -، فلمّا فرغ رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - من حجة الوداع أحبّ أن يبرئ ساحته مما نسب إليه من القول فيه ».
ومنهم: ابن حجر المكي، حيث قال في الجواب عن الاستدلال بحديث الغدير ما نصّه.
« وأيضاً فسبب ذلك - كما نقله الحافظ شمس الدين الجزري عن ابن اسحاق - إنّ عليّاً تكلّم فيه بعض من كان معه في اليمن، فلمّا قضى -صلىاللهعليهوآلهوسلم - حجّه، خطبها تنبيهاً على قدره وردّاً على من تكلّم فيه كبريدة، لما في البخاري: أنه كان يبغضه، وسبب ذلك ما صحّحه الذهبي أنه خرج معه إلى اليمن، فرأى منه جفوه، فنقصّه للنبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم -، فجعل يتغيّر وجهه ويقول: يا بريدة! ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه»(١) .
ومنهم: محمد بن عبد الرسول البرزنجي، فقد قال في رد حديث الغدير:
« الوجه الثاني - وهو: أنّ السبب في هذه الوصيّة - كما رواه الحافظ شمس الدين ابن الجزري عن ابن اسحاق صاحب المغازي -: أنّ عليّاً -رضياللهعنه - لما رجع من اليمن، تكلّم فيه بعض من كان معه في اليمن. فلمّا قضى رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - حجّه، خطب هذه الخطبة تنبيها على قدره، وردّاً على من
___________________
(١). الصواعق المحرقة / ٢٥.
تكلّم فيه كبريدة - رضياللهعنه -، لما في البخاري أنه كان يبغض علياً، حين رجع معه من اليمن، وسببه - كما صحّحه الذّهبي - أنه خرج معه إلى اليمن، فرأى منه جفوة فنقّصه للنبي - صلىاللهعليهوآلهوسلم - فجعل وجهه - صلىاللهعليهوآلهوسلم - يتغيّر ويقول: يا بريدة! ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه » (١) .
ومنهم: المولوي حسام الدين السهارنبوري - الذي طالما نقل ( الدهلوي ) خرافاته، متى لم يجد بغيته في صواقع نصر الله الكابلي - فإنّه أورد كلام ابن حجر المكي المتقدم بنصه(٢) .
ومنهم: ( الدّهلوي ) نفسه، فقد ذكر في خاتمة كلامه في ردّ حديث الغدير، رواية ابن اسحاق لهذا الحديث الشريف(٣) .
وبعد:
فإنّ هذه التصريحات، تكذّب الفخر الرازي في دعواه ترك ابن إسحاق رواية حديث الغدير.
ولقد تنبّه إلى قبح هذه الدعوى وبطلانها، جماعة من علمائهم، كالسّعد التفتازاني في ( شرح المقاصد ) - بالرغم من تقليده الرازي في منع تواتر هذا الحديث والقوشجي في ( شرح التجريد )، وعبد الحق الدهلوي في ( ترجمة المشكاة )، وصاحب ( المرافض )، فلم يذكروا « ابن إسحاق » في جملة من سكت عن رواية حديث الغدير.
هذا، ومن الطريف: إسقاط كمال الدين الجهرمي اسم « ابن إسحاق » من عبارة ابن حجر صاحب الصواعق المتقدم نصها، في كتاب ( البراهين القاطعة في
___________________
(١). نواقض الروافض، في رد حديث الغدير.
(٢). مرافض الروافض، في رد حديث الغدير.
(٣). التحفة الاثنا عشرية: ٢١٠.
ترجمة الصواعق المحرقة ) ليكتم بذلك فضيحة الفخر الرّازي هذه ولكنْ « لن يصلح العطار ما أفسده الدهر ».
٢. ذكر ابن إسحاق حضور علي في حجة الوداع
لقد علم ممّا تقدم رواية ابن إسحاق حديث الغدير، وقد عنون ابن إسحاق موافاة أمير المؤمنين رسول الله - صلّى الله عليهما وآلهما - في حجة الوداع أيضا فإن كان « ابن إسحاق » ثقة، فلم ينكر الرازي وجود الامام -عليهالسلام - في تلك الحجة مع رواية ابن إسحاق ذلك كغيره!؟ وإن لم يكن ثقة فلم يتشبّث به في عدم رواية حديث الغدير فضلا عن بطلان أصل النسبة!؟
وأمّا رواية ابن إسحاق قفول الامام -عليهالسلام - من اليمن وموافاته النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - فهذا نصها في سيرته التي هذّبها ابن هشام فاشتهرت باسمه:
« موافاة علي -رضياللهعنه - في قفوله من اليمن رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - في الحج: قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح أن رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - كان بعث علياً -رضياللهعنه - إلى نجران، فلقيه بمكة وقد أحرم، فدخل على فاطمة بنت رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - فوجدها قد حلّت وتهيّأت، فقال: مالك يا بنت رسول الله؟ قالت: أمرنا رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - أن نحل بعمرة فحللنا. قال: ثم أتى رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - فلما فرغ من الخبر عن سفره، قال له رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم -: إنطلق فطف بالبيت وحل كما حل أصحابك، قال: يا رسول الله إنّي أهللت كما أهللت، فقال: إرجع فاحلل كما حلّ أصحابك قال: يا رسول الله! إنّي قلت حين أحرمت: اللهمّ إنّي أهل بما أهل به نبيّك وعبدك ورسولك محمد، قال: فهل معك من هدي؟ قال: لا، فأشركه رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - في هديه وثبت على إحرامه مع رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - حتى فرغا من الحجّ،
ونحر رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - الهدي عنهما.
قال ابن اسحاق: وحدثني يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن يزيد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، قال: لما أقبل علي -رضياللهعنه - من اليمن، ليلقى رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - بمكة تعجّل إلى رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - واستخلف على جنده الذي معه رجلاً من أصحابه فعمد ذلك الرجل، فكسى كل رجل من القوم حلة من البرد الذي كان مع علي -رضياللهعنه - فلما دنا جيشه خرج ليتلقّاهم، فاذا عليهم الحلل، قال: ويلك ما هذا؟
قال: كسوت القوم ليتجملوا به إذا قدموا في الناس، قال: ويلك انزع قبل أن تنتهي به إلى رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم -.
قال: فانتزع الحلل من الناس فردها في البز، قال: وأظهر الجيش شكواه لما صنع بهم »(١) .
أقول: فثبت بالوجهين المذكورين رواية ابن إسحاق القصة والحديث معاً، وسقط ما زعمه الرازي.
٣. ابن اسحاق مجروح
هذا، وقد جرح ابن إسحاق غير واحد علماء الجرح والتعديل منهم، فالتمسك بسكوته عن حديث الغدير - على تقدير التسليم - غير صحيح بناء على ذلك:
فقد كذّبه القطان، وقال ابن معين: ثقة وليس بحجة، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال الدارقطني: لا يحتجّ به، وقال أحمد: هو كثير التدليس جدا وقد ذكرت هذه الكلمات بترجمة محمد بن إسحاق من كتاب ( ميزان الاعتدال في نقد الرجال )، وكتاب ( المغني في الضعفاء ) للحافظ شمس الدين الذهبي.
___________________
(١). سيرة ابن هشام ٢ / ٦٠٢ - ٦٠٣.
ففي ( ميزان الاعتدال ): « وثّقه غير واحد، ووهّاه آخرون، وهو صالح الحديث، ماله عندي ذنب إلّا ما قد حشا في السيرة من الأشياء المنكرة المنقطعة والأشعار المكذوبة، وقال أحمد بن حنبل: هو حسن الحديث، وقال ابن معين ثقة وليس بحجّة، وقال علي بن المديني: حديثه عندي صحيح، وقال النسائي وغيره: ليس بالقوي، وقال الدارقطني: لا يحتج به، وقال سليمان التيمي: كذّاب، وقال عبد الرحمن بن مهدي: كان يحيى بن سعيد الأنصاري ومالك يجرحان ابن إسحاق. فالذي يظهر أن ابن اسحاق حسن الحديث صالح الحال صدوق، وما إنفرد به ففيه نكارة، فإن في حفظه شيئاً، وقد احتج به أئمّة، فالله أعلم. وقد استشهد مسلم بخمسة أحاديث لابن إسحاق ذكرها في صحيحه »(١) .
وترجم ابن سيد الناس لابن اسحاق في اول ( عيون الأثر ) كذلك وهذا مختصرها:
« ذكر الكلام في محمد بن اسحاق والطعن عليه روى ابن معين، عن يحيى القطان أنه كان لا يرضى محمد بن إسحاق ولا يحدّث عنه، وقيل لأحمد: يا أبا عبد الله إذا تفرد بحديث تقبله؟ قال: لا، والله إنّي رأيته يحدّث عن جماعة بالحديث الواحد ولا يفصل كلام ذا من كلام ذا، وقال ابن المديني مرة: هو صالح وسط، روى الميموني عن ابن معين: ضعيف، وروى عنه غيره: ليس بذلك، وروى الدوري عنه: ثقة ولكنه ليس بحجة، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال البرقاني: سألت الدارقطني، عن محمد بن اسحاق بن يسار وعن أبيه. فقال: جميعاً لا يحتج بهما وإنما يعتبر بهما، و قال علي: قلت ليحيى بن سعيد: كان ابن إسحاق بالكوفة وأنت بها؟ قال: نعم. قلت: تركته متعمّداً؟ قال: نعم، ولم أكتب عنه حديثاً قط، وقال سليمان التيمي: كذّاب وقال يحيى القطان: ما
___________________
(١). ميزان الاعتدال ٣ / ٤٦٨.
تركت حديثه إلّا لله أشهد أنه كذّاب. قلت: والكلام فيه كثيرا جدّاً. وقد قال أبو بكر الخطيب: قد احتج بروايته في الأحكام قوم من أهل العلم وصدف عنها آخرون »(١) .
ولو كان ابن إسحاق ثقة بالإجماع، لما كان سكوته عن رواية حديث من الأحاديث مطلقاً موجباً للقدح، فكيف والحال هذه!؟
والخلاصة
إنه لم يبق ريب في شناعة تمسك الرازي بعدم نقل البخاري ومسلم والواقدي وابن اسحاق، بعد الوقوف على وجوه الجواب التي قدمنا ذكرها في الفصول المتقدمة، وقد ثبت لدى أصحاب النظر وذوي الإمعان والتدبر، أنه لو أعرض مائة رجل كهؤلاء الأربعة عن حديث الغدير، لم يكن إعراضهم قادحاً في تواتره ولا صحته، بحال من الأحوال. كيف؟ وللتواتر شروط متى اجتمعت في حديث حكم بتواتره ألبتة، وليس من الشروط عدم سكوت هؤلاء أو أمثالهم عن ذلك الحديث، وعلى من ادعى ذلك إقامة الدليل والبرهان.
نعم إن السبب الوحيد لترك هؤلاء رواية حديث الغدير، إنما هو التعصّب والانحياز عن أهل البيت الطاهرين، حتى يأتي من بعدهم الرازي وغيره، فيقول في رد هذا الحديث: لم يخرجه فلان وفلان ولكنّ أبا زرعة الحافظ الامام أغلظ للبخاري ومسلم القول، لئلّا يتذرع بهما أحد ويتمسك بكتابيهما فبطلت ظنون القوم وخابت آمالهم والحمد لله رب العالمين.
___________________
(١). عيون الأثر ١ / ١٠ - ١٣.
(٤)
عدم رواية الجاحظ حديث الغدير
والجواب عن تشبّث الرّازي بترك الجاحظ رواية حديث الغدير من وجوه:
١. الجاحظ من النواصب
إن الجاحظ يعدّ من كبار النواصب لأمير المؤمنين -عليهالسلام - ومن أنصار المروانية أعداء الامام، حتى أنه ألّف لهم كتاباً في تأييد مذهبهم شحنه كذباً وافتراءً على علي -عليهالسلام -، وملأه تنقيصاً وتشكيكاً في فضائله ومناقبه وخصائصه، ومواقفه التي لم يشركه فيها أحد من المسلمين، في الدفاع عن الإسلام ونبي الاسلام محمد -صلىاللهعليهوآلهوسلم -.
قال ( الدهلوي ): « الجاحظ معتزلي وناصبي معاً، وله كتاب ذكر فيه نقائص أمير المؤمنين، وأكثر رواياته هي عن إبراهيم النظام »(١) .
ثم إن ( الدهلوي ) صرح في باب الامامة من كتابه بأن الطعن في أمير المؤمنين -عليهالسلام - كفر.
هذا، وقد نص على تأليف الجاحظ الكتاب المشار اليه ابن تيمية الحراني حيث قال بعد كلام له حول مراتب الصحابة:
___________________
(١). حاشية التحفة الاثنا عشرية - مبحث الدلائل العقلية على إمامة أمير المؤمنين.
« فإذا كانت هذه مراتب الصحابة عند أهل السنة، كما دلَّ عليه الكتاب والسنة، وهم متفقون على تأخر معاوية وأمثاله من مسلمة الفتح، ممن أسلم بعد الحديبية، وعلم تأخر هؤلاء عن السابقين الأولين أهل الحديبية، وعلم أن البدريين أفضل من غير البدريين، وأن علياً أفضل من جماهير هؤلاء، لم يقدّم عليه أحداً غير الثلاثة، فكيف ينسب إلى أهل السنة تسويته بمعاوية أو تقديم معاوية عليه؟
نعم، مع معاوية طائفة كثيرة من المروانية وغيرهم، كالذين قاتلوا معه وأتباعهم، يقولون إنه كان في قتاله على الحق مجتهداً مصيباً، وإنّ عليّاً ومن معه كانوا ظالمين أو مجتهدين مخطئين، وقد صنّف لهم في ذلك مصنفات مثل كتاب المروانية الذي صنفه الجاحظ »(١) .
وقال ابن تيمية في موضع آخر من كتابه:
« والمروانية الذين قاتلوا علياً وإنْ كانوا لا يكفّرونه، فحجتهم أقوى من حجّة هؤلاء الرافضة، وقد صنف الجاحظ كتاباً للمروانية ذكر فيه من الحجج التي لهم ما لا يمكن للزيدية نقضه، دع الرافضة »(٢) .
فهذا هو حال الجاحظ الذي يتمسك الرازي بتركه رواية حديث الغدير.
٢. أضاليل الجاحظ وردود المفيد عليه
واعلم أن الجاحظ قد أورد في كتابه المذكور عن إبراهيم النظام مطاعن أمير المؤمنين -عليهالسلام - والعياذ بالله -. وقد أجاب عن تلك المزاعم شيخ الامامية الشيخ المفيد - رحمة الله عليه - في كتابه ( العيون والمحاسن ) الذي اختصره تلميذه الشّريف المرتضى علم الهدى -رحمهالله - في كتابٍ أسماه بـ ( الفصول المختارة من
___________________
(١). منهاج السنة ٢ / ٢٠٧.
(٢). المصدر نفسه ٤ / ٧٠.
العيون والمحاسن )، وقد اعتمد ( الدهلوي ) على تلك الأجوبة فأوردها في ( التحفة ) في الجواب عن الدليل السادس من الأدلة العقلية على إمامة أمير المؤمنين -عليهالسلام - نقلاً عن النواصب.
ترجمة الشيخ المفيد
والشيخ المفيد من كبار أئمّة الإِمامية، وقد ترجم له علماء أهل السنة:
١ - الحافظ الذهبي: « والشيخ المفيد أبو عبد الله محمد بن النعمان البغدادي الكرخي، ويعرف أيضاً بابن المعلّم، عالم الشيعة وإمام الرّافضة وصاحب التصانيف الكثيرة.
قال ابن أبي طي في تاريخ الامامية: هو شيخ مشايخ الطائفة ولسان الإمامية ورئيس الكلام والفقه والجدل، يناظر أهل كلّ عقيدة، مع الجلالة العظيمة في الدولة البويهية، قال: وكان كثير الصدقات، عظيم الخشوع، كثير الصلاة والصوم، خشن اللباس.
وقال غيره: كان عضد الدّولة ربما زار الشيخ المفيد، وكان شيخاً ربعة نحيفاً أسمر، عاش ستاً وسبعين سنة، وله أكثر من مائتي مصنف، كانت جنازته مشهودة، وشيّعه ثمانون ألفا من الرافضة والشيعة، وأراح الله منه، وكان موته في رمضان »(١) .
٢ - اليافعي: « وفيها توفي عالم الشيعة وإمام الرافضة صاحب التصانيف الكثيرة، شيخهم المعروف بالمفيد وبابن المعلم أيضاً، البارع في الكلام والجدل والفقه، وكان يناظر أهل كل عقيدة مع الجلالة والعظمة في الدولة البويهية. قال ابن أبي طي »(٢) .
___________________
(١). العبر - حوادث سنة ٤١٣.
(٢). مرآة الجنان - حوادث سنة ٤١٣.
٣ - الحافظ ابن حجر: « محمد بن محمد بن النعمان، الشيخ المفيد، عالم الرافضة أبو عبد الله ابن المعلم صاحب التصانيف البدعية وهي مائتا تصنيف، طعن فيها على السلف، له صولة عظيمة بسبب عضد الدولة، شيّعه ثمانون ألف رافضي مات سنة ٤١٣.
قال الخطيب: صنّف كتباً كثيرة في ضلالهم والذب عن اعتقادهم والطعن على الصحابة والتابعين وأئمّة المجتهدين، وهلك بها خلق، إلى أن أراح الله منه في شهر رمضان.
قلت: وكان كثير التقشف والتخشع والاكباب على العلم، تخرّج به جماعة وبرع في أفعاله الامامية حتى كان يقال: له على كل إمامي منة، وكان أبوه مقيماً بواسط وولد المفيد بها وقيل: بعكبرا. ويقال: إن عضد الدولة كان يزوره في داره ويعوده إذا مرض.
وقال الشريف أبو يعلى الجعفري - وكان تزوج بنت المفيد -: ما كان المفيد ينام من الليل إلّا هجعة، ثمّ يقوم يصلي أو يطالع أو يدرّس أو يتلو القرآن »(١) .
ردود الاسكافي على الجاحظ
كما أورد ابن أبي الحديد المعتزلي في ( شرح نهج البلاغة ) طرفاً من تشكيكات الجاحظ في فضائل الامام -عليهالسلام - ومناقبه وخصائصه التي انفرد بها من بين الصحابة، ككونه أول من أسلم، ومبيته على فراش النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - وشجاعته ومواقفه في الغزوات، وغير ذلك، ونقل ردود شيخه أبي جعفر الاسكافي المعتزلي على أضاليله وأباطيله في كتابه ( نقض العثمانية ) فمن أراد الوقوف عليها فليراجع.
___________________
(١). لسان الميزان ٥ / ٣٦٨.
ترجمة أبي جعفر الاسكافي
وقد ترجم لأبي جعفر الاسكافي - صاحب الرد على الجاحظ -:
١ - السمعاني: « أبو جعفر محمد بن عبد الله الاسكافي، أحد المتكلمين من معتزلة البغداديين، له تصانيف معروفة، وكان الحسين بن علي الكرابيسي يتكلّم معه ويناظره. وبلغني أنه مات في سنة أربعين ومائتين »(١) .
٢ - ياقوت الحموي: « محمد بن عبد الله أبو جعفر الاسكافي، عداده في أهل بغداد، أحد المتكلّمين من المعتزلة، له تصانيف، وكان يناظر الحسين بن علي الكرابيسي ويتكلّم معه. مات في سنة أربع ومائتين »(٢) .
٣ - قاضي القضاة عبد الجبار المعتزلي * وهو صاحب كتاب ( المغني ) ترجم له الأسنوي في طبقاته، فقال: القاضي أبو الحسن عبد الجبار الاسترآبادي، إمام المعتزلة، كان مقلّدا للشافعي في الفروع، وعلى رأس المعتزلة في الأصول، وله في ذلك التصانيف المشهورة، تولى قضاء القضاة بالري، ورد بغداد حاجّاً وحدّث بها عن جماعة كثيرين، توفي في ذي القعدة سنة خمس عشرة وأربعمائة، ذكره ابن الصلاح * إذ قال ابن أبي الحديد ما نصه:
« أبو جعفر الاسكافي، فهو شيخنا محمد بن عبد الله الاسكافي، عدّه قاضي القضاة في الطبقة السابعة من طبقات المعتزلة، مع عباد بن سليمان الصيمري ومع زرقان ومع عيسى بن الهيثم الصوفي، وجعل أول الطبقة ثمامة بن أشرس أبا معن، ثم أبا عثمان الجاحظ، ثمّ أبا موسى عيسى بن صبيح المرداد، ثم أبا عمران يونس بن عمران، ثم محمد بن شبيب، ثم محمد بن إسماعيل العسكري، ثم عبد الكريم بن روح العسكري، ثم أبا يعقوب يوسف بن عبد الله الشحّام، ثم
___________________
(١). الأنساب - الاسكافي.
(٢). معجم البلدان ١ / ١٨١.
أبا الحسين الصالح، ثم صالح قبة، ثم الجعفران جعفر بن جرير وجعفر بن ميسر، ثم أبا عمران بن النقاش، ثم أبا سعيد أحمد بن سعيد الأسدي، ثم عباد ابن سليمان ثم أبا جعفر الاسكافي هذا.
وقال: كان أبو جعفر فاضلاً عالماً، وصنّف سبعين كتاباً في علم الكلام وهو الذي نقض كتاب العثمانية على أبي عثمان الجاحظ في حياته، ودخل الجاحظ سوق الورّاقين ببغداد، فقال: من هذا الغلام السوادي الذي بلغني أنه تعرّض لنقض كتابي - وأبو جعفر جالس -؟ فاختفى منه حتى لم يره، وكان أبو جعفر يقول بالتفضيل على قاعدة معتزلة بغداد يبالغ في ذلك، وكان علويّ الرأي، محققاً منصفاً، قليل العصبية ».
٣. قال الخطابي: الجاحظ ملحد
ولهذه الأمور وغيرها صرّح الحافظ الخطابي بأن الجاحظ رجل ملحد وهل يستند الى ترك رواية هذا الرجل حديث الغدير للطعن فيه؟
إنّه لا قيمة لكلام هكذا شخص ولا وزن له في معرفة الأحاديث النبوية الشريفة مطلقا
أما كلام الخطابي فقد أورده الشيخ محمد طاهر الكجراتي * المتوفى سنة ٩٨٦، ترجمه الشيخ العيدروس في ( النور السافر عن أخبار القرن العاشر ) في حوادث السنة المذكورة بقوله: « استشهد الرّجل الصّالح العلامة جمال الدين محمد طاهر الملقب بملك المحدثين الهندي – رحمه الله آمين - على يدي المبتدعة من فرقتي الرافضة السّبابة والمهدوية القتّالة وهو الذي أشار إليه النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - بالمزية في الرؤيا التي رآها الشيخ علي المتقي السابقة، وناهيك بها من منقبة علية، وكان على قدم من الصلاح والورع والتبحّر في العلم، كانت ولادته سنة ٩١٣، وحفظ القرآن وهو لم يبلغ الحنث، وجدّ في العلم ومكث كذلك نحو خمسة عشر سنة، وبرع في فنونٍ عديدة وفاق الأقران، حتى لم يعلم أن أحداً من
علماء كجرات بلغ مبلغه في فن الحديث. كذا قال بعض مشايخنا. وله تصانيف نافعة » * في كتابه ( تذكرة الموضوعات ) حيث قال:
« في المقاصد: « اختلاف أمتي رحمة » للبيهقي، عن الضحاك، عن ابن عباس، رفعه في حديث طويل بلفظ: واختلاف أصحابي لكم رحمة، وكذا الطبراني والديلمي والضحاك عن ابن عباس منقطع، وقال العراقي: مرسل ضعيف، وقال شيخنا: إن هذا الحديث مشهور على الألسنة وقد أورده ابن الحاجب في المختصر في القياس، وكثر السؤال عنه، فزعم كثير من الأئمة أنه لا أصل له. لكن ذكره الخطابي وقال: اعترض على هذا الحديث رجلان، أحدهما ما جن والآخر ملحد، وهما: إسحاق الموصلي والجاحظ، وقالا: لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابا، ثم رد الخطابي عليهما »(١) .
و قد نقله الشيخ نصر الله الكابلي أيضاً، حيث قال في ( صواعقه ):
« الثامن - ما رواه البيهقي في المدخل، عن ابن عباس -رضياللهعنه - انه قال -صلىاللهعليهوآلهوسلم -: إختلاف أمتى رحمة. قال شيخ الإسلام شهاب الدين ابن حجر العسقلاني: هو حديث مشهور على الألسنة. وقال الخطابي في غريب الحديث: اعترض على هذا الحديث رجلان أحدهما ما جن والآخر ملحد وهما: إسحاق الموصلي وعمرو بن بحر الجاحظ وقالا جميعاً: لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذاباً ».
وفي شرح حديث القرطاس من شرح مسلم للنووي عن الخطابي في الجاحظ إنه « مغموص عليه في دينه ».
ترجمة الخطابي
وقد ذكر الخطابي مترجموه بكل إطراء وثناء، فقد ترجم له:
___________________
(١). تذكرة الموضوعات / ٩٠ - ٩١.
١ - السمعاني: « أبو سليمان أحمد(١) بن محمد بن ابراهيم بن الخطاب البستي الخطابي، إمام فاضل، كبير الشأن، جليل القدر، صاحب التصانيف الحسنة مثل: أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري، ومعالم السنن في شرح الأحاديث التي في السنن، وكتاب غريب الحديث، والعزلة، وغيرها. سمع أبا سعيد ابن الأعرابي بمكة، وأبا بكر محمد بن بكر بن داسة التمّار بالبصرة وإسماعيل ابن محمد الصفار ببغداد، وغيرهم. وروى عنه الحاكم أبو عبد الله الحافظ، وأبو الحسين عبد الغافر بن محمد الفارسي، وجماعة كثيرة.
وذكره الحاكم أبو عبد الله في التاريخ فقال: الفقيه الأديب البستي أبو سليمان الخطابي، أقام عندنا بنيسابور سنين، وحدّث بها وكثرت الفوائد من علومه، وتوفي في سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة ببست »(٢) .
٢ - ابن خلكان: « كان فقيهاً، أديباً محدثاً، له التصانيف البديعة وكان يشبّه في عصره بأبي عبيد القاسم علماً وأدباً وزهداً وورعاً وتدريساً وتأليفاً »(٣) .
٣ - الذهبي ، ووصفه بـ « الفقيه الأديب » وقال: « كان علامة محققاً »(٤) .
٤ - اليافعي ، ووصفه بـ « الامام الكبير والحبر الشهير » قال: « كان فقيهاً أديباً، محدثاً »(٥) .
٥ - الصفدي ، وذكر عن السمعاني قوله: « كان الخطابي حجة صدوقاً » وعن الثعالبي: « كان يشبّه في زماننا بأبي عبيد القاسم بن سلام »(٦) .
___________________
(١). في بعض المصادر اسمه: حمد.
(٢). الأنساب - الخطابي.
(٣). وفيات الأعيان ١ / ٤٥٣.
(٤). العبر - حوادث سنة ٣٨٨.
(٥). مرآة الجنان - حوادث سنة ٣٨٨.
(٦). الوافي بالوفيات ٧ / ٣١٧.
٦ - الأسنوي: « كان فقيهاً، رأساً في علم العربية والأدب وغير ذلك »(١) .
٧ - ابن قاضي شهبة الأسدي، وأضاف: « ومحلّه من العلم مطلقا ومن اللّغة خصوصاً، الغاية العليا »(٢) .
٨ - السيوطي: « الخطابي الامام العلامة المفيد المحدث الرحّال وكان ثقة ثبتاً [ متثبتاً ] من أوعية العلم »(٣) .
٩ - محمد بن محمد السنهوري الشافعي، وصفه بـ « العلامة الحافظ »(٤) .
١٠ - عبد الحق الدهلوي: « المشار إليه في عصره والعلامة فريد دهره في الفقه والحديث والأدب ومعرفة الغريب، له التصانيف المشهورة والتأليفات العجيبة »(٥) .
١١ - ( الدهلوي )، ذكر النووي البغوي والخطابي وقال: « إنّهم من علماء الشافعية وهم معتمدون جدّاً، وكلامهم متين مضبوط »(٦) .
١٢ - الفخر الرازي، حيث مدحه وأطراه بقوله: « والمتأخرون من المحدثين فأكثرهم علماً وأقواهم قوة وأشدّهم تحقيقاً في علم الحديث هؤلاء وهم:
أبو الحسن الدارقطني، والحاكم أبو عبد الله الحافظ، والشيخ أبو نعيم الاصفهاني، والحافظ أبو بكر البيهقي، والامام أبو بكر عبد الله بن محمد بن زكريا الجوزقي صاحب كتاب المتفق، والامام الخطيب صاحب تاريخ بغداد. والامام أبو سليمان الخطابي الذي كان بحراً في علم الحديث واللغة، وقيل في وصفه: جعل الحديث لأبي سليمان كما جعل الحديد لأبي سليمان، يعنون داود النبي
___________________
(١). طبقات الشافعية ١ / ٤٦٧.
(٢). طبقات الشافعية ١ / ١٥٩.
(٣). طبقات الحفاظ: ٤٠٣.
(٤). التعليق على فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للعراقي - مخطوط.
(٥). رجال المشكاة لعبد الحق الدهلوي: ٣٨٤.
(٦). أصول الحديث: ٢٣.
صلىاللهعليهوآلهوسلم - حيث قال تعالى فيه: وألنّا له الحديد.
فهؤلاء العلماء صدور هذا العلم بعد الشيخين، وهم بأسرهم متفقون على تعظيم الشافعي»(١) .
هذا، وقد اعتمد عليه نصر الله الكابلي في ( صواقعه ) في الجواب عن منع عمر المغالاة في المهر، واصفاً إيّاه بـ « الحافظ ». وكذا ( الدهلوي ) في ( التحفة ) في الجواب عن القضية المذكورة، وحيدر علي الفيض آبادي في كتابه ( منتهى الكلام )(٢) .
٤. آراء العلماء في الجاحظ
ومن المناسب أن نورد هنا طرفاً من كلمات أئمّة الجرح والتعديل في الجاحظ، الصريحة في سقوط الرجل عن درجة الاعتبار، وفي عدم وثوقهم به:
١ - الحافظ الذهبي: « عمرو بن بحر الجاحظ المتكلم صاحب الكتب. قال ثعلب: ليس ثقة ولا مأموناً »(٣) .
٢ - الذهبي أيضاً: « عمرو بن بحر الجاحظ صاحب التصانيف، روى عنه أبو بكر بن أبي داود فيما قيل. قال ثعلب: ليس ثقة ولا مأموناً. قلت: وكان من أئمّة البدع »(٤) .
٣ - الذهبي أيضاً: « الجاحظ العلّامة المتبحر، ذو الفنون، ابو عثمان عمرو ابن بحر بن محبوب البصري المعتزلي، صاحب التصانيف، أخذ عن النظام وروى
___________________
(١). فضائل الشافعي للفخر الرازي: ٦٥.
(٢). وله ترجمة أيضاً في يتيمة الدهر ٤ / ٣٣٤، إنباه الرواة ١ / ١٢٥، معجم الأدباء ٤ / ٢٤٦، شذرات الذهب ٣ / ١٢٧ تذكرة الحفاظ ١٠١٨ المنتظم حوادث ٣٨٨، تاريخ ابن كثير والنجوم الزاهرة في حوادث السنة المذكورة.
(٣). المغني في الضعفاء ٢ / ٤٧١.
(٤). ميزان الاعتدال في نقد الرجال ٣ / ٢٤٧.
عن أبي يوسف القاضي وثمامة بن أشرس. روى عنه أبو العيناء، ويموت بن المزرع ابن أخته. وكان أحد الأذكياء.
قال ثعلب: ما هو بثقة، وقال: قال يموت: كان جدّه جمالاً أسود. وعن الجاحظ: نسيت نسبي ثلاثة أيام حتى عرفني أهلي.
قلت: كان ماجناً قليل الدين، له نوادر
قلت: يظهر من شمائل الجاحظ أنه يختلق.
قال اسماعيل بن الصفار: أنا أبو العيناء، قال: أنا والجاحظ وضعنا حديث فدك، فادخلناه على الشيوخ ببغداد، فقبلوه إلّا ابن شيبة العلوي، فإنّه قال: لا يشبه آخر هذا الحديث أوّله.
أخبرنا أحمد بن سلامة كتابة، عن أحمد بن طارق، أنبأنا السلفي، أنبأ المبارك بن الطيوري، أنبأ محمد بن علي الصوري إملاء، أنبأ خلف بن محمد الحافظ بصور، أنبأ أبو سليمان بن زبر، ثنا أبو بكر بن أبي داود، قال: أتيت الجاحظ فاستأذنت عليه فاطلع عليَّ من كوّةٍ في داره، فقال: من أنت؟ فقلت رجل من أصحاب الحديث، فقال: أو ما علمت أني لا أقول بالحشوية! فقلت إني ابن أبي داود. فقال: مرحباً بك وأبيك، أدخل. فلما دخلت قال لي: ما تريد؟ فقلت تحدثني بحديثٍ واحد. فقال: أكتب: أنبأ حجاج بن المنهال أنبأ حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس أن النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - صلى على طنفسة فقلت: زدني حديثاً آخر، فقال: ما ينبغي لابن أبي داود أن يكذب.
قلت: كفانا الجاحظ المئونة، فما روى في الحديث إلّا النزر اليسير، ولا هو بمتّهم في الحديث، بلى في النفس من حكاياته ولهجته، فربما جازف، وتلطخه بغير بدعة أمر واضح، ولكنه أخباري علامة صاحب فنون وأدب باهر، وذكاء بين. عفا الله تعالى عنه »(١) .
___________________
(١). سير أعلام النبلاء ١١ / ٥٢٦.
٤ - وقال ابن حجر العسقلاني بترجمته ما ملخصه:
« عمرو بن بحر الجاحظ صاحب التصانيف، روى عنه أبو بكر بن أبي داود فيما قيل: قال ثعلب: ليس بثقة ولا مأمون. قلت: وكان من أئمّة البدع.
قلت: وروى الجاحظ عن حجاج الأعور وأبي يوسف القاضي وخلق كثير وروايته عنهم في أثناء كتابه في الحيوان.
وحكى ابن خزيمة أنه دخل عليه هو وإبراهيم بن محمود. وذكر قصة.
وحكى الخطيب بسند له: أنه كان لا يصلّي.
وقال الصولي: مات سنة خمسين ومائتين.
وقال إسماعيل بن محمد الصفار: سمعت أبا العيناء، يقول: أنا والجاحظ وضعنا حديث فدك.
وقال الخطابي: هو مغموص في دينه.
وذكر أبو الفرج الاصبهاني أنه كان يرمى بالزندقة، وأنشد في ذلك أشعاراً.
وقد وقفت على رواية ابن أبي داود عنه، ذكرتها في غير الموضع، وهو في الطيوريات.
قال ابن قتيبة في اختلاف الحديث: ثم نصير إلى الجاحظ وهو أحسنهم للحجة استنارة، وأشدّهم تلطّفاً، لتعظيم الصغير حتى يعظم وتصغير العظيم حتى يصغر، ويكمل الشيء وينقصه، فتجده مرة يحتج للعثمانية على الرافضة، ومرة للزندقة على أهل السنة، ومرة يفضّل عليا ومرة يؤخّره، ويقول: قال رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - كذا، ويتبعه أقوال المجان، ويذكر في الفواحش ما يجل رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - أن يذكر في كتاب ذكر أحد منهم فيه، فكيف في ورقة أو بعد سطر أو سطرين؟ ويعمل كتابا يذكر حجج النصارى على المسلمين، فإذا صار إلى الرد عليهم تجوز الحجة، فكأنّه إنما أراد تنبيههم على ما لا يعرفون وتشكيك الضعفة، ويستهزء بالحديث إستهزاءً لا يخفى على أهل العلم، وذكر الحجر الأسود وأنه كان أبيض فسوّده المشركون، قال: وقد كان يجب
أن يبيّضه المسلمون حين استلموه، وأشياء من أحاديث أهل الكتاب، وهو مع هذا أكذب الأمة، وأوضعهم للحديث، وأنصرهم للباطل.
وقال النديم: قال المبرد: ما رأيت أحرص على العلم من ثلاثة: الجاحظ وإسماعيل القاضي والفتح بن خاقان.
وقال النديم - لما حكى قول الجاحظ لما قرأ المأمون كتبي، قال هي كتب لا يحتاج إلى تحضير صاحبها -: إن الجاحظ حسّن هذا اللفظ تعظيماً لنفسه وتفخيماً لتآليفه. وإلّا فالمأمون لا يقول ذلك.
وقال ابن حزم في الملل والنحل: كان أحد المجّان الضلّال، غلب عليه قول الهزل، ومع ذلك فإنّا ما رأينا في كتبه تعمّد كذبة يوردها مثبتاً لها، وإنْ كان كثير الإِيراد لكذب غيره.
وقال أبو منصور الأزهري في مقدّمة تهذيب اللّغة: وممّن تكلّم في اللغات بما حصده لسانه وروى عن الثقات ما ليس من كلامهم الجاحظ. وكان أوتي بسطة في القول، وبياناً عذباً في الخطب ومجالاً في الفنون، غير أنّ أهل العلم ذمّوه، وعن الصدوق دفعوه.
وقال ثعلب: كان كذّاباً على الله وعلى رسوله وعلى الناس »(١) .
ترجمة أبي منصور الأزهري
والأزهري - الذي قال عن الجاحظ ما نقله الحافظ ابن حجر - هو: محمد ابن أحمد اللغوي من كبار علماء أهل السنة وأئمّتهم:
ترجم له ابن خلكان وقال: « الامام المشهور في اللغة، كان فقيهاً شافعي المذهب، غلبت عليه اللّغة فاشتهر بها، وكان متفقاً على فضله وثقته ودرايته وورعه »(٢) .
___________________
(١). لسان الميزان ٤ / ٣٥٥.
(٢). وفيات الأعيان ٣ / ٤٥٨.
وقال السبكي: « وكان إماماً في اللغة، بصيراً بالفقه، عارفاً بالمذهب، عالي الاسناد، كثير الورع، كثير العبادة والمراقبة، شديد الإِنتصار لألفاظ الشافعي متحرّياً في دينه »(١) .
وقال اليافعي: « وفيها الامام العلّامة اللغوي الشافعي »(٢) .
وذكره الذهبي في حوادث السنة المذكورة(٣) .
وقال السيوطي: « وكان عارفاً عالماً بالحديث، عالي الاسناد، كثير الورع »(٤) .
ترجمة ثعلب
واما ثعلب - الذي قال عن الجاحظ: « ليس ثقة ولا مأموناً » وقال: « كان كذاباً على الله وعلى رسوله وعلى الناس » - فهو أيضاً من كبار المحدّثين، ومن أساطين الفقه والأدب واللغة
قال السيوطي: « ثعلب الامام المحدث، شيخ اللغة والعربية أبو العباس أحمد بن يحيى بن زيد الشيباني مولاهم البغدادي، المقدّم في نحو الكوفيين. ولد سنة ٢٠٠، وابتدأ الطلب سنة ١٦ حتى برع في علم الحديث.
وإنما أخرجته في هذا الكتاب لأنه قال: سمعت من عبيد الله بن عمر القواريري ألف حديث.
وقال الخطيب: كان ثقة ثبتاً حجة صالحاً مشهوراً بالحفظ. مات في جمادى الآخرة سنة ٢٩١»(٥) .
___________________
(١). طبقات الشافعية ٣ / ٦٣ - ٦٧.
(٢). مرآة الجنان حوادث ٣٧٠.
(٣). العبر حوادث ٣٧٠.
(٤). بغية الوعاة: ١ / ١٩.
(٥). طبقات الحفاظ ٢٩٠.
وترجم له السيوطي أيضاً ترجمة حافلة ووصفه فيها بـ « الامام » وأورد كلمات العلماء في حقه وقال: « قال أبو بكر بن مجاهد: قال لي ثعلب: يا أبا بكر اشتغل أصحاب القرآن بالقرآن ففازوا، واصحاب الحديث بالحديث ففازوا، وأصحاب الفقه بالفقه ففازوا، واشتغلت أنا بزيد وعمرو، فليت شعري ما ذا يكون حالي. فانصرفت من عنده فرأيت النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - في تلك الليلة فقال لي: إقرأ أبا العباس منّي السّلام وقل له: أنت صاحب العلم المستطيل ».
قال السيوطي: « وذكره الداني في طبقات القراء »(١) .
وقال ابن خلكان: « كان إمام الكوفيين في النحو واللغة وكان ثقة حجة صالحاً مشهوراً بالحفظ وصدق اللهجة، والمعرفة بالعربية ورواية الشعر القديم مقدماً عند الشيوخ منذ هو حدث. فكان ابن الأعرابي إذا شك في شيء قال له: ما تقول يا أبا العباس في هذا؟ ثقة بغزارة حفظه...»(٢) .
وقال اليافعي: « وفي السنة المذكورة توفي الامام العلامة الأديب أبو العباس المشهور بثعلب صاحب التصانيف المفيدة، إنتهت اليه رئاسة الأدب في زمانه وكان ثقة صالحاً، مشهوراً بالحفظ وصدق اللهجة ...»(٣) .
وترجم له الحافظ الذهني، وذكر أنه سمع من عبيد الله القواريري وطائفة »(٤) .
وكذا ترجم له ابن الوردي في تاريخه(٥) .
وقال النووي بترجمته ما ملخصه:
« ثعلب مذكور في باب الوقف من المهذّب والوسيط، هو الامام المجمع على
___________________
(١). بغية الوعاة ١ / ٣٩٦ - ٣٩٨.
(٢). وفيات الاعيان ١ / ١٠٢ - ١٠٤.
(٣). مرآة الجنان حوادث سنة ٢٩١.
(٤). العبر - حوادث سنة ٢٩١.
(٥). تتمة المختصر - حوادث سنة ٢٩١.
إمامته، وكثرة علومه وجلالته، إمام الكوفيين في عصره لغةً ونحواً، وثعلب لقب له. قال الامام أبو منصور الأزهري في خطبة كتابه تهذيب اللغة: أجمع أهل هذه الصناعة من العراقيين أنه لم يكن في زمن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب، وأبي العباس محمد بن يزيد المبرد مثلهما، وكان أحمد بن يحيى أعلم الرجلين وأورعهما وأرواهما للّغات والغريب، وأوجزهما كلاماً وأقلّهما فضولاً »(١) .
أقول: فهذا رأي علماء أهل السنّة وأئمّة الجرح والتعديل في الجاحظ، فهل يليق بالرازي أن يستند إلى ترك هكذا شخص رواية حديث الغدير، ويستدل بذلك على عدم صحته؟
٥. اتصاف الجاحظ بالصفات الذميمة
والجاحظ - بالاضافة إلى ما تقدم - متصف بصفات ذميمة وأعمال قبيحة تسقطه عن درجة الاعتبار، ولا تدع مجالاً للتوقف في عدم جواز الاعتماد على كلامه في رواية أو قدحه في حديث:
فمن ذلك: أنه كان لا يصلي وقد ذكر ذلك في ترجمته من كتاب ( لسان الميزان ).
ومن ذلك: أنه كان كذّاباً وقد تقدم ذلك أيضاً في ( لسان الميزان ).
ومن ذلك: انه كان مختلفاً وقد صرح بذلك الحافظ الذهبي.
بل ذكر جماعة من علمائهم وضعه - مع أبي العيناء - حديث فدك، وممن ذكر ذلك سبط ابن العجمي في ( الكشف الحثيث عمن رمي بوضع الحديث ) والسيوطي في ( تدريب الراوي ) وابن الأثير في ( جامع الأصول ).
ومن ذلك: أنه كان كثير الهزل نص على ذلك ابن الوردي وغيره.
ومن ذلك: انه كان يستمع إلى الغناء ويجتمع بالمغنيات، وذكر ذلك ابن
___________________
(١). تهذيب الأسماء واللغات للنووي ٢ / ٢٧٥.
خلكان واليافعي في تاريخيهما.
٦. الآثار المترتبة على الاعتماد على الجاحظ
وأخيراً، فإن الاعتماد على الجاحظ في الروايات والأخبار، والدفاع عنه ونفي عداوته للإمام أمير المؤمنين -عليهالسلام ، وتنزيهه عمّا نسب اليه، يؤدّي إلى وقوع أهل السنة في إشكال قوي يصعب بل يستحيل التخلّص منه
وبيان ذلك: انه قد ثبت أن الجاحظ كان يتبع شيخه إبراهيم النظّام في جميع أقو اله وآرائه وما كان يدين به وقد ثبت أيضاً أن النّظام كان يعتقد بإسقاط عمر بن الخطاب جنين فاطمة الزهراء -عليهاالسلام - وبغير ذلك من الأمور التي لا يرتضيها أهل السنة عامة كما جاء في ترجمته من كتاب ( الوافي بالوفيات ).
وقد صرح باقتفاء الجاحظ أثر النّظام في جميع مقالاته جماعة من الأعلام كاليافعي وابن الوردي وابن خلكان.
فلو جاز للفخر الرازي أن يستدل بترك الجاحظ رواية حديث الغدير - أو قدحه فيه - جاز للامامية الاستدلال بكلام شيخه النظّام في باب الطعن في عمر ابن الخطاب وخلافته
ولقد اعتمد ( الدهلوي ) تبعاً لابن حزم على كلام النظّام في الطعن في مؤمن الطاق -رحمهالله تعالى - وهكذا استشهد الحافظ ابن حجر في ( لسان الميزان ) بأشعار النظّام التي أنشدها في ذمّ أبي يوسف يعقوب بن ابراهيم القاضي - تلميذ أبي حنيفة - على قبره.
فإنْ قيل: ذمُّ النظام أبا يوسف القاضي غير مسموع، لذمّ العلماء النظّام وقدحههم فيه، كما في ( الأنساب ) و ( لسان الميزان ) و ( الوافي بالوفيات ) وغيرها
قلنا: إن هذا إنّما يتوجه فيما إذا لم يركن العلماء إلى أقواله، ولم يعتمد المحدّثون على مقالاته، ولم يبذلوا قصارى عهدهم في الدفاع عن تلميذه
الجاحظ الأخذ بأقواله والمقتفي لآثاره، والناقل عنه وجوه المناقشة في فضائل مولانا أمير المؤمنين -عليهالسلام -.
وإذا كان الجاحظ معتمداً عليه كما يدل عليه صنيع الرازي فقد ثبت ان الجاحظ قد انتقد أبا بكر وعمر على منعها ميراث فاطمة الزهراء من أبيها رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - وظلمهما لها وتعدّيهما عليها في كلام طويل له في الموضوع، ذكره الشريف المرتضى -رحمهالله - حيث قال:
« فإنْ قيل: إذا كان أبو بكر قد حكم بخطأ في دفع فاطمة -عليهاالسلام - عن الميراث واحتج بخبر لا حجة فيه، فما بال الأمّة أقرّته على هذا الحكم ولم تنكر عليه؟ وفي رضائها وإمساكها دليل على صوابه.
قلنا: قد مضى أن ترك النكير لا يكون دليل الرضا، إلّا في المواضع التي لا يكون له وجه سوى الرضا، وبيّنا في الكلام على إمامة أبي بكر هذا الموضع بياناً شافياً.
وقد أجاب أبو عثمان الجاحظ في كتاب العباسية عن هذا السؤال، جواباً جيّد المعنى واللفظ، نحن نذكره على وجهه ليقابل بينه وبين كلامه في العثمانية وغيرها.
قال: وقد زعم أناس أن الدليل على صدق خبرهما - يعني أبا بكر وعمر - في منع الميراث وبراءة ساحتهما: ترك أصحاب رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم النكير عليهما.
ثم قال: فيقال لهم: لئن كان ترك النكير دليلاً على صدقهما، ليكوننّ ترك النكير على المتظلمين منهما والمحتجين عليهما والمطالبين لهما دليلاً على صدق دعوتهم واستحسان مقالتهم، لا سيّما وقد طالت به المناجاة وكثرت المراجعة والملاحاة، وظهرت الشكية واشتدّت المواجدة، و قد بلغ ذلك من فاطمة حتى أنها أوصت أن لا يصلي عليها أبو بكر، ولقد كانت قالت له حين أتته طالبة حقها ومحتجة برهطها:
من يرثك يا أبا بكر إذا متَّ؟
قال: أهلي وولدي.
قالت: فما بالنا لا نرث النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم ؟
فلمّا منعها ميراثها وبخسها حقّها واعتلّ عليها وحلج في أمرها، وعاينت التهضم وأيست من النزوع، ووجدت من الضعف وقلة الناصر، قالت:
و الله لأدعونَّ الله عليك.
قالت: والله لأدعونَّ الله لك.
قالت: والله لا أكلمّك أبداً.
قال: والله لا أهجرك أبداً.
فإن يكن ترك النكير على أبي بكر دليلاً على صواب منعه، إنّ في ترك النكير على فاطمة دليلاً على صواب طلبها، وأدنى ما كان يجب عليهم في ذلك تعريفها ما جهلت، وتذكيرها ما نسيت، وصرفها على الخطأ، ورفع قدرها عن البذاء، وأن تقول هجراً وتجور عادلاً وتقطع واصلاً، فاذا لم نجدهم أنكروا على الخصمين جميعاً فقد تكافأت الأمور واستوت الأسباب، والرجوع إلى أصل حكم الله في المواريث أولى بنا وبكم، أوجب علينا وعليكم.
وإنْ قالوا: كيف يظنّ بأبي بكر ظلمها والتعدي عليها، وكلّما ازدادت فاطمة عليه غلظة ازداد لها ليناً ورقة، حيث يقول: والله لا أهجرك أبداً ثم تقول: والله لأدعونَّ الله عليك، فيقول: والله لأدعونَّ الله لك!؟ ولو كان كذلك لم يحتمل هذا الكلام الغليظ والقول الشديد في دار الخلافة بحضرة قريش والصحابة مع حاجة الخلافة إلى البهاء والرفعة، وما يجب لها من التنزيه والهيبة، ثم لم يمنعه ذلك أن قال معتذراً ومتقرّباً بالكلام المعظّم لحقّها المكرّم لمقامها، والصائن لوجهها والمتحنّن عليها: ما أحد أعن به عليَّ منك فقراً، ولا أحب إليّ منك غنى، ولكني سمعت رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - يقول: إنا معشر الأنبياء لا نرث ولا نورّث ما تركناه صدقة.
قيل لهم: ليس ذلك بدليل على البراءة من الظلم والسلامة من العمد، وقد يبلغ من مكر الظالم ودهاء الماكر إذا كان أريباً وللخصومة معتاداً أن يظهر كلام المظلوم وذلّة المنتصب وحدب الوامق ومقة المحق.
وكيف جعلتم ترك النكير حجة قاطعة ودلالة واضحة، وقد زعمتم أن عمراً قال على منبره: « متعتان كانتا على عهد رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - متعة النّساء ومتعة الحج وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما » فما وجدتم أحداً أنكر قوله، ولا استشنع مخرج نهيه، ولا خطّئه في معناه، ولا تعجّب منه ولا استفهمه؟
وكيف تقضون بترك النكير وقد شهد عمر يوم السّقيفة وبعد ذلك: أنّ النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - قال: « الأئمّة من قريش » ثمّ قال في شكاته: ولو كان سالم حيّاً ما تخالجني فيه شك - حين أظهر الشك في استحقاق كلّ واحد من الستّة الذين جعلهم شورى - وسالم عبد لامرأةٍ من الأنصار، وهي أعتقته وحازت ميراثه، ثم لم ينكر ذلك من قوله منكر ولا قابل إنسان بين خبريه ولا تعجّب منه؟
وإنما يكون ترك النكير على من لا رغبة له ولا رهبة عنده، دليلاً على صدق قوله وصواب عمله، فأمّا ترك النكير على من يملك الضعة والرفعة والأمر والنهي، والقتل والاستحياء، والحبس والاطلاق، فليس بحجّة نفي ولا دلالة ترضيّ.
قال: وقال آخرون: بل الدليل على صدق قولهما وصواب عملهما إمساك الصحابة عن خلعهما والخروج عليهما، وهم الذين وثبوا على عثمان في أيسر من جحد التنزيل وردّ المنصوص، ولو كانا كما يقولون وما يصفون ما كان سبيل الأمة فيهما إلّا كسبيلهم فيه، وعثمان كان أعزّ نفراً وأشرف رهطاً وأكثر عدداً وثروة وأقوى عدّة.
قلنا: إنّهما لم يجحدا التنزيل ولم ينكرا المنصوص، ولكنّهما بعد إقرارهما بحكم الميراث وما عليه الظاهر من الشريعة، إدّعيا رواية وتحدّثا بحديثٍ لم يكن مجال كذبه ولا يمتنع في حجج العقول مجيؤه، وشهد له عليه من علمه مثل علمهما فيه، ولعلّ بعضهما كان يرى التصديق للرجل إذا كان عدلاً في رهطه، مأموناً في
ظاهره، ولم يكن قبل ذلك عرفه بفجرة ولا جرّب عليه غدرة، فيكون تصديقه له على جهة حسن الظن وتعديل الشاهد، ولأنّه لم يكن كثير منهم يعرف حقائق الحجج، والذي يقطع بشهادته على المغيب، وكان ذلك شبهة على أكثرهم، فلذلك قلّ النكير وتواكل الناس واشتبه الأمر، فصار لا يتخلص إلى معرفة حق ذلك من باطله إلّا العالم المتقدّم والمؤيد المسترشد.
ولأنه لم يكن في عثمان في صدور العوام وفي قلوب السّفلة والطغام ما كان لهما من الهيبة والمحبّة. ولأنّهما كانا أقلّ استيثاراً بالفيء وأقلّ تفكّها بمال الله منه، ومن شأن الناس إهمال السّلطان بما وفّر عليهم أموالهم، ولم يستأثر بخراجهم ولم يعطّل ثغورهم. ولأنّ الذي صنع أبو بكر من منع العترة حقّها [ حظّها ] والعمومة ميراثها قد كان موافقاً لجلّة قريش وكبراء العرب. ولأن عثمان أيضاً كان مضعوفاً في نفسه ومستخفّاً لقدره، لا يمنع ضيماً ولا يقمع عدوّاً، ولقد وثب أناس على عثمان بالشتم والقدح، والقذف بالتشنيع والنكير، لأمور لو أتى عمر أضعافها وبلغ أقصاها لما اجترأوا على اغتيابه، فضلاً عن مبارزته والاغراء به ومواجهته، كما أغلظ عيينة بن حصين له فقال له: أما أنه لو كان عمر لقمعك ومنعك، فقال عيينة: إنّ عمر كان خيراً لي منك، أرهبني فأنقاني.
ثم قال: والعجب أنا وجدنا جميع من خالفنا في الميراث على اختلافهم في التشبيه والقدر والوعيد، يرد كل صنف منهم من أحاديث مخالفيه وخصوصه ما هو أقرب أسناداً وأصح رجالا وأحسن اتصالا، حتى إذا صاروا إلى القول في ميراث النبيّ نسخوا الكتاب، وخصّوا الخبر العام بما لا يداني بعض ما رووه وكذّبوا ناقليه، وذلك أن كل إنسان منهم إنما يجري إلى هواه ويصدق ما وافق رضاه.
مضى ما أردنا حكايته من كلام الجاحظ »(١) .
* * *
___________________
(١). الشافي في الامامة: ٣٣٣ - ٣٣٤.
وقد أنشد الجاحظ بيتين من الشعر فيهما إشارة إلى طلحة بن عبيد الله والزبير ابن العوام وعائشة بنت أبي بكر، في قضية حرب البصرة مع ذم شديد لهم وطعن عليهم، حيث عبّر عن الرجلين بـ « الأشقين » وشبّه عائشة بـ « الهرة » قد أجاد فيهما التشبيه وأحسن القول
ذكر ذلك عنه الحافظ جلال الدين السيوطي، حيث قال: « وإذا جاعت الهرة أكلت أولادها. وقيل: تفعل ذلك لمحبتهم، أنشد الجاحظ:
جاءت مع الأشقين في هودج |
تزجي إلى البصرة أجنادها |
|
كأنها في فعلها هرة |
تريد أن تأكل أولادها(١) |
وبهذا القدر من الكلام نكتفي في الجواب عن استدلال الفخر الرازي - في ردّ حديث الغدير - بعدم رواية أبي عثمان الجاحظ إيّاه، فإنّ في ما ذكرناه حجة قاطعة ودلالة واضحة على بطلان استدلال الرازي بذلك واعتماده عليه وبالله التوفيق.
___________________
(١). ديوان الحيوان لجلال الدين السيوطي. أنظر « الهر ». وراجع أيضاً كتاب الحيوان للجاحظ ٥ / ٢٩٥.
الدفاع عن الجاحظ
كلام ابن روزبهان وإبطاله
وقد أغرب الفضل ابن روزبهان إذ أنكر الحقيقة الراهنة، فكذّب بغض الجاحظ ونصبه العداوة لأمير المؤمنين -عليهالسلام . فقال - مدافعاً عن الجاحظ في جواب قول العلامة الحليرحمهالله -:
« قال الجاحظ - وهو من أعظم الناس عداوة لأمير المؤمنينعليهالسلام : صدق علي في قوله: نحن أهل البيت لا يقاس بنا أحد ».
فقال الفضل ما نصه:
« أقول: ما ذكر من كلام الجاحظ صحيح لا شك فيه، وفضائل أمير المؤمنين أكثر من أن تحصى، ولو أني تصديت لبعضها لأغرقت الطّوامير.
وأمّا ما ذكر أن الجاحظ من أعدائه فهذا كذب، لأن محبة السلف لا يفهم إلّا من ذكر فضائلهم، وليس هذه المحبة أمراً مشتهياً للطبع، وكل من ذكر فضائل أحد من السلف، فنحن نستدلّ من ذلك الذكر على وفور محبته إيّاه، وقد ذكر الجاحظ أمير المؤمنين بالمناقب المنقولة، وكذا ذكره في غير هذا من رسائله، فكيف يحكم بأنه عدو لأمير المؤمنين!؟
وهذا يصح على رأي الروافض، فإنّ الروافض لا يحكمون بالمحبّة إلّا بذكر
مثالب الغير، فعندهم محبّ علي من كان مبغض الصحابة، وبهذا المعنى يمكن أن يكون الجاحظ عدواً ».
هذا، ولكن كلام ( الدهلوي ) الذي نقلناه سابقاً، يكفي دليلاً على كذب ابن روزبهان وبطلان تكذيبه العلامة الحلي طاب ثراه.
كلام الرشيد الدهلوي ووجوه بطلانه
وجاء بعده رشيد الدين خان الدهلوي منكراً ما ثبت من عداوة الجاحظ لأمير المؤمنين -عليهالسلام ، فقال - بعد أن ذكر كلام ابن روزبهان المتقدم -:
« وأما ما وصف العلامة الحلي أبا عثمان الجاحظ المعتزلي من كونه من أشدّ الناس عدواهً لأمير المؤمنين، ثم نقله فضائله من رسالة الجاحظ الغرّاء التي صنفها في مناقب أمير المؤمنين، فإنه ممّا يحيّر الناظر النبيه، لأنّ الشريف الرضي قال في نهج البلاغة بعد الخطبة التي أوّلها:
يا أيّها الناس إنا قد أصبحنا في دهر عنود، وزمن شديد يعدّ فيه المحسن مسيئاً، ويزداد الظالم فيه عتواً - الخ قال الرضي: ربما نسبها من لا علم له إلى معاوية، وهو كلام أمير المؤمنين الذي لا شك فيه، وأين الذهب من الرغام والعذاب من الأجاج؟
وقد دل على ذلك الدليل الخريّت، ونقده الناقد البصير عمرو بن بحر الجاحظ، فإنه ذكر هذه الخطبة في كتاب البيان والتبيين، وذكر ما نسبها إلى معاوية، ثم تكلّم من بعدها بكلام في معناها - إلخ.
وكلام الشريف الرضي هذا نص على مهارة الجاحظ ومعرفته بكلام أمير المؤمنين، حتى أن صاحب نهج البلاغة ينسب هذه الخطبة اليه اعتماداً على نسبة عمرو بن بحر الجاحظ إيّاها في كتابه اليه، فجعل من كان ناقداً بصيراً في كلام أمير المؤمنين ومعتمداً لدى الرضي بل دليلاً لذلك، من أعظم الناس عداوة لأمير المؤمنين، فاسد ناشئ من العدوان ومخالف للعدل والانصاف.
وما ذكره القاضي نور الله التستري بصدد إثبات عداوة الجاحظ لأمير المؤمنين - مع عدم ذكر تأليفه كتاباً في مناقبه، وحمل ذلك على محمل يستغفر به الأذكياء بل الأغنياء - من أن الجاحظ كان يذهب إلى أن الامامة تنتقل بالوراثة فيكون العباس إماماً بعد النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - دون علي ليتقرب بذلك إلى المأمون العباسي، أعجب مما ادّعاه العلّامة الحلّي.
وذلك لأنّ دعوى جريان الإِرث في مسألة الإِمامة - على تقدير تسليم القول بها من هذا المعتزلي - إنما هي خطأ في الرأي، وهو لا يستلزم العداوة لأمير المؤمنين عليّ، وإنما يترتب على هذا الرأي حرمان أحب الأحباب، وانتقال الميراث إلى غير المحبوب.
ومن المعلوم أنه لو كانت الامامة تنتقل بحسب طبقات الورّاث لم تكن لتصل إلى ابن العم، مع وجود العم.
فصاحب هذا الزعم الذي ذهب اليه لغرض إرضاء المأمون - وهو أحد ملوك الشيعة كما صرح به القاضي التستري - يكون من أعداء أمير المؤمنين؟ فاعتبروا يا أولى الألباب، إنّ هذا لشيء عجاب!
والكلام حول مودّة الجاحظ المعتزلي لأمير المؤمنين وخدمته لكلامه - وإنْ كان لا وجه له في هذا المقام - إلّا أنه ينطوى على فائدة كبيرة وهي: أن جعل الجاحظ الذي وضع رسالة غراء في فضائل أمير المؤمنين - والذي اقتدى به الشريف الرضي في معرفة كلامه وعبر عنه بـ « الناقد » - من أشد الناس عداوة لأمير المؤمنين تعبير يختص بالامامية، وهو يشبه تماما تسمية اللغويين الصحراء القاحلة بالمفازة، وتعبير أهل العرف العام عن الأعمى بالبصير ».
أقول - قبل كلّ شيء -: إن كلام رشيد الدين الدهلوي هذا رد وتكذيب لكلام شيخه ( الدهلوي )، الصريح في أن الجاحظ ناصبي وكافر، وإنما جاء حكم الشيعة - بكون الجاحظ من أشد الناس عداوةً لأمير المؤمنين -عليهالسلام - نظراً إلى ما أورده الجاحظ في رسالته ( العثمانية ) من الخرافات على الامام، واستناداً إلى
كلمات أبي جعفر الاسكافي و ( الدهلوي ) وغيرهما في نقض كلماته المضلة.
فما ذكره رشيد الدين هنا من الطعن على الشيعة، وارد في الحقيقة على ( الدهلوي ) أيضاً.
ثم نجيب عن استدلاله بكلام الشريف الرضي -رحمهالله تعالى - حول الجاحظ بوجوه:
١ ) الفضل ما شهدت به الأعداء
لقد شاع وكثر اعتماد العلماء على أقوال الأعداء والمخالفين في باب الفضائل والمناقب فكم من رجل ينكر فضائل مخالفه في العقيدة والمذهب، ويثني عليه، ويعترف بسجاياه وخصائصه الحسنة وليس ذلك عند نقلة تلك الكلمات والمستشهدين بها دليلاً على المحبّة والمودّة، ولا يتّخذونها دليلاً على نفي العداوة وعدم الخلاف، بل يجعلون ذلك الثناء والإِطراء اعترافاً من عدوٍ في حق عدوه، ويثبتون بذلك جلالة الممدوح وعظمته من باب: الفضل ما شهدت به الأعداء.
وكأنّ الرشيد الدهلوي لم يسمع هذا المثل المعروف
ولا بأس بذكر نماذج من مصاديق ذلك:
قال الفخر الرازي في مناقب الشافعي: « وأما يحيى بن معين، فروي أنه ذهب يوما إلى أحمد بن حنبل، فمرّ الشافعي على بغلة، فقام أحمد اليه وتبعه وأبطأ على يحيى، فلما رجع إليه قال له يحيى: يا أبا عبد الله لم هذا؟ فقال أحمد: دع عنك هذا والزم ذنب البغلة.
قال الحافظ البيهقي: وكان يحيى بن معين فيه بعض الحسد للشافعي ومع هذا يحسن القول فيه. ثم روى بإسناده عن يحيى بن معين أنه قال: الشافعي صدوق لا بأس به.
وروى البيهقي عن الزعفراني أنه قال: سألت يحيى بن معين عن الشافعي فقال: لو كان الكذب مطلقاً لمنعته مروّته عن أن يكذب. ثم قال البيهقي: وانما
كانوا يسألون يحيى عنه لما كان قد اشتهر من حسده له، والفضل ما شهدت به الأعداء.
فلما شهد يحيى بصدق لهجة الشافعي مع شدة حسده له، وكثرة طعنه في كلّ من أمكنه الطعن فيه، دلّ ذلك على أن الشافعي كان في الغاية القصوى ».
وهكذا نستدل على كون هذه الخطبة للامامعليهالسلام بكلام الجاحظ - وهو من أشد الناس عداوة له - لأن « الفضل ما شهدت به الأعداء ».
وقال حيدر علي الفيض آبادي - وهو أيضاً من أشد الناس عداوة لأمير المؤمنين -عليهالسلام -، بعد أن قدح في شجاعة الامام -عليهالسلام - وذكر أن قتله عمرو بن عبد ود في وقعة الخندق لا يدلّ على شيء مما يذكره الشيعة - قال وهو يريد إثبات أفضلية أبي بكر وعمر:
« نعم، ذكر الامام الأعظم - يعني شارح تجريد العقائد - حكاية عمرو بن عبد ود من باب القول المشهور: والفضل ما شهدت به الأعداء. يفيد أهل الحق فيما نحن فيه، وذلك لما روي في كتب الفريقين أن ذلك الشقي لما رأى أمير المؤمنين أمامه قال: يشق عليّ أن أضربك، ولو جاء أبو بكر لتناولته بالسيف، وإذا بارزني عمر لم أعدل عن مبارزته، فارجع إلى جيشك وأرسل إليَّ أحدهما »(١) .
أقول: إنه يستدل بكلام عمرو الذي زعم أنه من روايات الفريقين على أنّ الرجلين أفضل وأشجع من أمير المؤمنين -عليهالسلام - من باب « الفضل ما شهدت به الأعداء ».
وقال الرشيد الدهلوي نفسه في مباحث فضائل عثمان والدفاع عنه. من ( ايضاحه ):
« قال الشريف المرتضى في الشافي: لو كان إنفاق أبي بكر صحيحا، لوجب أن تكون وجوهه معروفة كما كانت نفقة عثمان معروفة في تجهيز جيش العسرة
___________________
(١). منتهى الكلام / ٣٦٩.
وغيره، لا يقدر على إنكارها منكر، ولا يرتاب في جهاتها مرتاب.
فمن كان صاحب هذه الفضيلة المتفق عليها بين الفريقين، بحيث يقول الشريف المرتضى فيها: لا يقدر على إنكار منكر ولا يرتاب من جهاتها مرتاب والفضل ما شهدت به الأعداء، فالتقوّل عليه بالرذائل دليل على كمال التعصب ».
فكيف يذكر الفاضل الرشيد هذا القول المشهور بعد كلام السيد المرتضى في حق عثمان، ولو كان تأليف الجاحظ رسالة في فضائل الامام -عليهالسلام - دليلاً على حبه له، لكان كلام السيد المرتضى دليلاً على حبه لعثمان كذلك
أقول: والحاصل أنه لم يقل أحد من العقلاء إنّ مطلق المدح دليل على المحبة، وإلّا لكان المشركون الذين وصفوا النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - بالصدق والأمانة مسلمين محبين له. ولكان معاوية بن أبي سفيان الذي يعترف بعظمة أمير المؤمنين -عليهالسلام - مراراً - في حياته وبعد وفاته - محباً له، مع أن عداوته للامام -عليهالسلام - لا يحتاج الى بيان وقد روى المبرد كتاباً من معاوية بن أبي سفيان إلى سيدنا أمير المؤمنين - عليه الصلاة والسلام - جاء فيه:
« وأما شرفك في الاسلام وقرابتك من النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - وموضعك ممّن بايعاك، وما حجتك على أهل الشام إلّا كحجّتك على قريش فلست أدفعه ».
ثم روى المبرد جواب الامام -عليهالسلام - وفيه: « وأما شرفي في الإسلام وقرابتي من النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - وموضعي من قريش، فلعمري لو استطعت دفعه لدفعته »(١) .
فهكذا شأن معاوية، وهو مع ذلك يعترف بما لعلي من الفضائل والجاحظ مثل معاوية
___________________
(١). الكامل في الأدب: ١ / ١٩١ - ١٩٤.
ترجمة المبرد
وابو العباس المبرد النحوي، كان إماماً في علوم الأدب والعربية، علامة ثقة في التاريخ والأخبار. توفي سنة ٢٨٥، وتوجد ترجمته في:
١ - وفيات الأعيان: ٤ / ٣١٣.
٢ - مرآة الجنان - حوادث سنة ٢٨٥.
٣ - العبر في خبر من غبر: حوادث سنة ٢٨٥.
٤ - بغية الوعاة: ١ / ٢٦٩.
٥ - تاريخ بغداد: ٣ / ٣٨٠ - ٣٨٧.
٦ - المنتظم ٦ / ٩ - ١١.
٧ - ابن كثير ١١ / ٧٩ - ٨٠.
٨ - النجوم الزاهرة ٣ / ١١٧.
٩ - المختصر في أحوال البشر ٢ / ٦١.
١٠ - شذرات الذهب ٢ / ١٩٠.
ومن عجائب الأمور أن ( الدهلوي ) ينسب إلى الامامية النصب والعداء لأهل البيت الطاهرين، تبعا لشيخه نصر الله الكابلي، وتبعهما على ذلك: السيف الملتاني وحيدر علي الفيض آبادي ورشيد الدين الدهلوي.
ونحن نقول: إذا كان ذكر فضائل أمير المؤمنين وأهل بيته الطاهرين -عليهمالسلام - دليلاً على المحبة ونفي العداوة والبغض - كما يزعم رشيد الدين الدهلوي - فإن الشيعة الإِمامية يذكرون من فضائلهم أكثر وأكثر مما ذكره الجاحظ في رسالته، ويسعون مع ذلك في ردّ مطاعنه التي أوردها النواصب كالجاحظ وأمثاله. وإلّا فكيف يزعم الرشيد الدهلوي كذب نسبة العلامة الحلي بغض أمير المؤمنين إلى الجاحظ؟
فهم الكاذبون على كل حال.
٢ ) وصف الجاحظ بالمهارة لا ينفي عداوته
ثم إنّ الشريف الرضي ما وصف الجاحظ إلّا بالمهارة والنقد، ومجرّد كون الرجل ماهراً ناقداً لا يدل على عدم العداوة، وإنما وصف الشريف الرضي الجاحظ بذلك لغرض إلزام المنكرين وإفحام المخالفين، من حيث أنهم يعتقدون بمهاره الجاحظ ونقده، ومكانته في معرفة الكلام
٣ ) الحافظ ابن خراش ومثالب الشيخين
هذا، وما ذكره الرشيد الدهلوي في حق الجاحظ، معارض بما ذكروه بترجمة الحافظ ابن خراش - مع وصفه بالحفظ وسعة الاطلاع والنقد - من أنّه خرّج مثالب الشيخين وأبطل حديث: ما تركناه صدقة. قال الحافظ السيوطي:
« ابن خراش الحافظ البارع الناقد، أبو محمد عبد الرحمن بن يوسف بن سعيد بن خراش المروزي البغدادي. قال أبو نعيم [ بن عدي ]: ما رأيت أحفظ منه.
وقال أبو زرعة: كان رافضياً، خرج مثالب الشيخين في جزءين وأهداهما إلى بندار، فأجازه بألفي درهم، بنى له بها حجرة فمات إذ فرغ منها.
قال عبدان: قلت له: حديث « ما تركنا صدقة »؟ قال: باطل. قال: وقد روى مراسيل [ وصلها ] ومواقيف رفعها.
مات سنة ٢٨٣ »(١) .
وترجم له الحافظ الذهبي قائلاً: « عبد الرحمن بن يوسف بن خراش الحافظ ( فأورد ما تقدم. فقال ): قلت: والله هذا هو الشيخ المغتر الذي ضلّ سعيه، فإنه كان حافظ زمانه، وله الرحلة الواسعة والاطلاع الكثير والاحاطة وبعد هذا فما
___________________
(١). طبقات الحفاظ / ٢٩٧.
انتفع بعلمه، فلا عتب على حمير الرافضة وحواتر جزين ومشغر! وقد سمع ابن خراش من الفلّاس وأقرانه بالعراق، ومن عبد الله بن عمران العائدي وطبقته بالمدينة، ومن الذهلي
وعنه ابن عقدة وأبو سهل القطان »(١) .
أقول: واذا كان وصف الشريف الرضي الجاحظ بالمهارة والنقد للكلام دليلاً على بطلان نسبة نصب العداء لأمير المؤمنين -عليهالسلام - إليه، فليكن وصف الذهبي وأبي نعيم والسيوطي الحافظ ابن خراش بالحفظ والبراعة والنقد وسعة الاطلاع والاحاطة وغير ذلك، دليلاً على بطلان حديث: ما تركناه صدقة:
٤ ) إطراء أهل السنة علماء الشيعة
وكثيراً ما نجد علماء القوم يمدحون كبار الشيعة ويثنون عليهم الثناء البالغ:
* فقد تقدمت في الكتاب ترجمة الشيخ المفيد طاب ثراه من ( لسان الميزان ) و ( العبر ) و ( مرآة الجنان ).
* وترجمة الشيخ ابن شهر آشوب السروي عن كتب القوم.
ترجمة الشريف الرّضي
* كما ترجم أبو منصور الثعالبي - وهو عبد الملك بن محمد المتوفى سنة ٤٣٠، توجد ترجمته في ( وفيات الأعيان ) و ( العبر ) و ( مرآة الجنان ) و ( بغية الوعاة ) وقد وصفوه بـ « الأديب اللبيب الشاعر، صاحب التصانيف الأدبية السائرة في الدنيا، راعي تلعات العلم وجامع أشتات النظم، سار ذكره سير المثل وضربت
___________________
(١). ميزان الاعتدال ٢ / ٦٠٠، وترجم له أيضاً في تذكرة الحفاظ ٢ / ٢٨٤ والعبر ٢ / ٧٠.
إليه رابط الابل، وطلعت دواوينه في المشارق والمغارب طلوع النجم في الغياهب، وله من التواليف كتاب يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، وهو أكبر كتبه وأحسنها
* الشريف الرضيرحمهالله بقوله:
« الباب العاشر في ذكر الشريف أبي الحسن النقيب وغرر من شعره: هو محمد بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر ابن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - كرّم الله وجهه ووجوههم - ومولده ببغداد سنة تسع وخمسين وثلاثمائة.
وابتدأ يقول الشعر بعد أن جاوز العشر سنين بقليل، وهو أبرع أبناء الزمان وأنجب سادة العراق، يتحلى مع محتده الشريف ومفخره المنيف بأدب ظاهر وفضل باهر وحظ من جميع المحاسن وافر، ثم هو أشعر الطّالبيين من مضى منهم ومن غبر، على كثرة شعرائهم المفلّقين كالحمّاني وابن طباطبا وابن الناصر وغيرهم، ولو قلت أنه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق »(١) .
وترجم له ابن خلكان أيضاً بمثل ما تقدم »(٢) .
وقال اليافعي في حوادث سنة ٤٠٦: « وفي السنّة المذكورة الشريف الرضي أبو الحسن محمد بن الحسين بن موسى الحسيني الموسوي البغدادي الشيعي، نقيب الأشرف، ذو المناقب ومحاسن الأوصاف » ثم نقل كلام الثّعالبي وغيره في حقه(٣) .
وترجم له أبو الحسن الباخرزي * المتوفى سنة ٤٦٧، قال السمعاني: واحد عصره وعلّامة دهره وساحر زمانه في ذهنه وقريحته، وكان في شبابه يتردد إلى الامام أبي محمد الجويني ولازمه حتى انخرط في سلك أصحابه، ثم ترك ذلك وشرع في الكتابة » وقال الذهبي « الباخرزي العلامة الأديب صاحب دمية القصر، أبو
___________________
(١). يتيمة الدهر ٣ / ١٣٦ - ١٥٦.
(٢). وفيات الأعيان ٤ / ٤١٤.
(٣). مرآة الجنان - حوادث سنة ٤٠٦.
الحسن علي بن الحسن بن علي بن أبي الطّيب الباخرزي، الشاعر الفقيه الشافعي، تفقّه بأبي محمد الجويني ثم برع في الانشاء والأدب وسافر الكثير وسمع الحديث ».
وقال الأسنوي في طبقات الشافعية: « كان فقيهاً أديباً » * بقوله:
« السيّد الرّضي الموسوي -رضياللهعنه وأرضاه - له صدر الوسادة بين الأئمّة والسّادة، وأنا إذا مدحته كنت كمن قال لذكاء: ما أنورك، ولخضارة: ما أغزرك. وله شعر إذا افتخر به أدرك من المجد أقاصيه وعقد بالنجم نواصيه، وإذا نسب انتسب رقة الهواء إلى نسيبه وفاز بالقدح المعلّى من نصيبه، حتى لو أنشد الرّاوي غزليّاته بين يدي العزهاة لقالت له: من العزهات، وإذا وصف فكلامه في الأوصاف أحسن من الوصائف والوصاف، وإنْ مدح تحيّر فيه الأوهام من مادح وممدوح له بين المتراهنين في الحلبتين سبق سابق مروج، وإن نثر حمدت منه الأثر ورأيت هناك خرزات من العقد تنفض، وقطرات من المزن ترفض، ولعمري إنّ بغداد قد انبجست [ انجبت ] به فبوأّته ضلالها وأرضعته زلالها وأنشقته شمالها، وورد شعره دجلتها فشرب منها حتى شرق، وانغمس فيها حتى كاد أن يقال غرق، فكلّما أنشدت محاسن تنزهت بغداد في نضرة نعيمها وتشنفت من أنفاس الهجير بمرواح نسيمها »(١) .
وترجم للشريف الرضي أيضاً:
١ - الصفدي في الوافي بالوفيات: ٢ / ٣٧٤.
٢ - ابن ماكولا في الإكمال: ٤ / ٧٥.
٣ - الذهبي في العبر: حوادث سنة ٤٠٦.
٤ - ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان: ٥ / ١٤١.
٥ - ابن الوردي في تتمة المختصر - حوادث سنة ٤٠٦.
___________________
(١). دمية القصر ١ / ٢٩٢ - ٢٩٣.
وأما مدح أبي العلاء المعرّي * المتوفى سنة ٤٤٩، قال ابن خلكان وابن الوردي: كان علّامة عصره -رحمهالله - وكان متضلّعاً في فنون الأدب، أخذ عنه التنوخي والخطيب التبريزي وغيرهما. ولما توفي قرئ على قبره سبعون مرثية، وممن رثاه تلميذه أبو الحسن علي بن الهمام. قال ابن الوردي: إنّه كان تقياً زاهداً، ألف الصّاحب كمال الدين ابن العديم -رحمهالله - في مناقبه كتاباً سماه « كتاب العدل والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري » وصنف بعض الأعلام في مناقبه كتاباً سماه « دفع المعرّة عن شيخ المعرّة »، ووضع أبو طاهر الحافظ السلفي كتاباً في أخبار أبي العلاء. وترجم له أيضاً الجلال السيوطي في ( بغية الوعاة ) ووصفه بالامام، وقال: « كان غزير الفضل شائع الذكر وافر العلم غاية في الفهم، عالماً باللغة حاذقاً بالنحو، جيّد الشعر جزل الكلام، شهرته تغني عن صفته ...» وهكذا ترجم له وأثنى عليه صاحب ( مرآة الجنان ) وغيره الشريفين المرتضى والرضي في القصيدة التي رثى بها أباها الشريف أبا أحمد الحسين فمشهور جداً. فراجع ديوانه.
ترجمة الشريف المرتضى
* ومن كبار علماء الشيعة الذين ترجم لهم في معاجم أهل السنة بكل ثناء وتعظيم: الشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي العلوي:
فقد ترجم له ابن خلكان بقوله:
« الشريف المرتضى أبو القاسم علي بن طاهر ذي المناقب أبي أحمد الحسين ابن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق ابن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم -.
كان نقيب الطالبيّين، وكان إماماً في علم الكلام والأدب والشعر، وهو أخو الشريف الرضي، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
وله تصانيف على مذهب الشيعة، ومقالة في أصول الدين، وله ديوان شعر كبير، وإذا وصف الطّيف أجاد فيه، وقد استعمله في كثير من المواضع
وذكره ابن بسام في أواخر كتاب الذخيرة فقال: كان هذا الشريف إمام أئمّة العراق بين الاختلاف والاتفاق، إليه فزع علماؤها وعنه أخذ عظماؤها، صاحب مدارسها وجماع شاردها وآنسها، ممّن سارت أخباره وعرفت به أشعاره »(١) .
ترجمة ابن خلكان
وابن خلكان من أكابر علماء أهل السنّة، ترجم له الحافظ الذهبي في ( العبر )(٢) .
وقال ابن الوردي: « كان فاضلاً عالماً، تولى القضاء بمصر والشام، وله مؤلفات جليلة »(٣) .
وترجم له الصّلاح الصّفدي فقال: « وكان فاضلاً بارعاً متفقهاً عارفاً بالمذهب، حسن الفتاوى جيّد القريحة، بصيراً بالعربية، علاّمة بالأدب والشعر وأيام الناس، كثير الإِطّلاع، حلو المذاكرة وافر الحرمة، فيه رئاسة كبيرة »(٤) .
وترجم له اليافعي وأثنى عليه كذلك(٥) .
وقال السبكي بترجمته: « كان أحنف وقته حلماً، وشافعي زمانه علماً، وحاتم عصره، إلّا أنه لا يقاس به حاتم، من بقايا البرامكة الكرام، والسادة الذين ليّنوا جانب الدهر الغرام، وكان زمنه مثل ذلك الزمان الذاهب، وعلى منوال ذلك الاحسان وتلك المواهب، مع التخلّق بتلك الخلائق التي كأنما بات يشب عنبرها
___________________
(١). وفيات الأعيان ٣ / ٣١٣.
(٢). العبر - حوادث سنة ٦٨١.
(٣). تتمة المختصر - حوادث سنة ٦٨١.
(٤). الوافي بالوفيات ٧ / ٣٠٨.
(٥). مرآة الجنان حوادث سنة ٦٨١.
أو أصبح يتخير من أكل جواهر الثريّا جوهرها، بحلم ما داوى معاوية سورة غضبه بمثله، ولا دارى بشبهه أبو مسلم في مكائده، وفعله كرم ما دانى السفاح غمامة ولا دان به المأمون وقد طلب الامامة، هذا إلى أدب خفّ به جانب الخفاجي، واستصغر الوليد وطوى ذكر الطائي، مع إتقان في ذكر الوقائع وحفظ البدائع، أحد علماء عصره المشهورين، وسيّد أدباء دهره المذكورين »(١) .
وممن ترجم لابن خلكان.
السيوطي في حسن المحاضرة ١ / ٣٢٠.
وابن تغري بردي في النجوم الزاهرة - حوادث سنة ٦٨١.
والأسنوي في طبقات الشافعية ١ / ٤٩٦.
وابن قاضي شهبة الاسدي في طبقات الشافعية ٢ / ٢٢.
وقال اليافعي - المتوفى سنة ٧٦٧، ترجم له الاسنوي فقال: « كان إماماً يسترشد بعلومه ويقتدى، وعلماً يستضاء بأنواره ويهتدى » وترجم له ابن قاضي شهبة ووصفه بـ « الشيخ الامام القدوة العارف الفقيه العالم شيخ الحجاز » كما ترجم له وأثنى عليه ابن حجر في ( الدرر الكامنة ٢ / ٢٤٧ ) وبدر الدين التهامي في ( طبقات الخواص أهل الصدق والإخلاص ) والجامي في ( نفحات الانس من حضرات القدس ) وابن العماد في ( شذرات الذهب ٦٠ / ٢١٠ ) والسبكي في ( طبقات الشافعية ٦ / ١٠٣ ) والشوكاني في ( البدر الطالع ١٠ / ٣٧٨ ) - في حوادث سنة ٤٣٦:
« توفي فيها الشريف المرتضى كان نقيب الطالبيين، وكان إماماً في علم الكلام والأدب والشعر حكى الخطيب أبو زكريا يحيى بن علي التبريزي اللغوي أن أبا الحسن علي بن أحمد الفالي الأديب كانت له نسخة من كتاب الجمهرة لابن دريد في غاية الجودة، وقد دعته الحاجة إلى بيعها فباعها، واشتراها
___________________
(١). الطبقات الصغرى - مخطوط.
الشريف المرتضى بستين دينارا، وتصفّحها فوجد فيها أبياتا بخط بائعها أبي الحسن الفالي:
أنست بها عشرين حولاً وبعتها |
لقد طال وجدي بعدها وحنيني |
|
وما كان ظنّي أنني سأبيعها |
ولو خلدتني في السجون ديوني |
|
ولكنْ لضعفٍ وافتقارٍ وصبيةٍ |
صغارٍ عليهم تستهلُّ شوؤني |
|
وقد تخرج الحاجات يا أم مالك |
كرائم من ربٍ بهنّ ضنين |
فأرسل اليه الكتاب ووهب له الثمن.
وملح الشريف المرتضى وفضائله كثيرة، وكانت ولادته سنة ٣٥٥ »(١) .
وترجم له أبو الحسن الباخرزي(٢) .
وجلال الدين السّيوطي الحافظ، وكان مما قال: « قال ياقوت: قال أبو جعفر الطوسي [ مجمع على فضله ] توحّد في علوم ٍكثيرةٍ مثل الكلام والفقه والأدب من النحو والشعر ومعانيه واللغة وغير ذلك، وله تصانيف »(٣) .
والحافظ الذهبي، فقال: « والشريف المرتضى نقيب الطالبيين، وشيخ الشيعة ورئيسهم بالعراق، أبو القاسم عليْ بن الحسين بن موسى الحسيني الموسوي، وله إحدى وثمانون سنة، وكان إماماً في الكلام والشعر والبلاغة، كثير التصانيف، متبحراً في فنون العلم، أخذ عن الشيخ المفيد »(٤) .
والحافظ ابن حجر: « قال ابن أبي طي: هو أوّل من جعل داره دار العلم وقررها للمناظرة، ويقال إنه أفتى ولم يبلغ العشرين، وكان قد حصل على رئاسة الدنيا والعلم، مع العمل الكثير في المواظبة على تلاوة القرآن وقيام الليل
___________________
(١). مرآة الجنان حوادث سنة ٤٣٦.
(٢). دمية العصر: ١ / ٢٩٩.
(٣). بغية الوعاة ٢ / ١٦٢.
(٤). العبر: حوادث سنة ٤٣٦.
وإفادة العلم، وكان لا يؤثر على العلم شيئاً، مع البلاغة وفصاحة اللهجة، وكان أخذ العلوم عن الشيخ المفيد، وزعم أنه رأى فاطمة الزهراء ليلةً ناولته صبيين فقالت: خذ ابنيَّ هذين فعلّمهما، فلما استيقظ وافاه الشريف أبو أحمد ومعه ولداه الرضي والمرتضى، فقال له: خذهما إليك وعلّمهما، فبكى وذكر القصة.
وذكر أبو جعفر الطوسي له من التصانيف: الشافي في الامامة خمس مجلدات، الملخّص والموجز في الأصول، وتنزيه الأنبياء، والغرر والدرر، ومسائل الخلاف، والانتصار لما انفردت به الامامية، وكتاب المسائل كبير جدّاً، وكتاب الرد على ابن جنّي في شرح ديوان المتنبي، وسرد أشياء كثيرة.
يقال: إن الشيخ أبا اسحاق الشيرازي كان يصفه بالفضل، حتى نقل عنه أنه قال: كان الشريف المرتضى ثابت الجأش، ينطق بلسان المعرفة ويورد الكلمة المسددة، فتمرق مروق السهم من الرمية، ما أصاب [ أصمى ] وما أخطأ أشوى.
إذا شرع الكلام رأيته في |
جانب منه وللناس جانب |
وذكر بعض الامامية: إن المرتضى أول من بسط كلام الامامية في الفقه، وناظر الخصوم، واستخرج الغوامض، وقيّد المسائل
وحكى ابن برهان النحوي أنه دخل عليه وهو مضطجع ووجهه إلى الحائط وهو يخاطب نفسه، ويقول: أبو بكر وعمر ولّيا فعدلا واسترحما فرحما، أما أنا فأقول: ارتدّا »(١) .
ترجمة ابن حجر
وابن حجر الحافظ من كبار الأئمّة الحفّاظ وشيوخ أهل السنة الأعلام، يوجد الثناء عليه في كافّة المعاجم الرجالية، فقد قال الحافظ السّخاوي بترجمته ما
___________________
(١). لسان الميزان ٤ / ٢٢٣.
ملخّصه:
« أحمد بن علي بن محمد بن [ محمد بن ] علي بن أحمد، شيخي الأستاذ، إمام الأئمّة الشهاب أبو الفضل الكناني العسقلاني المصري ثم القاهري الشافعي ويعرف بابن حجر، ولد في ثمان عشر من شعبان سنة ٧٧٣، درس عند شيوخ القاهرة ثم ارتحل إلى البلاد الشامية والمصرية والحجازية، وأكثر جداً من المسموع والشيوخ، فسمع العالي والنازل، وأخذ عن الشيوخ والأقران فمن دونهم، واجتمع له من الشيوخ المشار اليهم والمعوّل في المشكلات عليهم، ما لم يجتمع لأحد من أهل عصره، لأنّ كلّ واحد منهم كان متبحّرا ورأسا في فنه الذي اشتهر به لا يلحق، فالتنوخي في معرفة القراءات، والعراقي في معرفة علوم الحديث، والهيثمي في حفظ المتون واستحضارها، والبلقيني في سعة الحفظ وكثرة الاطلاع، وابن الملقّن في كثرة التصانيف، والمجد الفيروزآبادي في حفظ اللغة، والغماري في معرفة العربية وكذا المحب وابن هشام، والعزّ ابن جماعة في تفننه.
وأذن له جلّهم أو جميعهم كالبلقيني والعراقي في الإِفتاء والتدريس، وتصدى لنشر الحديث، وشهد له أعيان شيوخه بالحفظ، وزادت تصانيفه على مائة وخمسين تصنيفاً، ورزق فيها من السعد والقبول، خصوصاً فتح الباري بشرح البخاري.
وأملى ما ينيف على ألف مجلس ما حفظه، واشتهر ذكره وبعد صيته، وارتحل الأئمّة إليه وتبحّح الأعيان بالوفود عليه، وكثرت طلبته، حتى كان رءوس العلماء من كل مذهب من تلامذته، وأخذ الناس عنه طبقة بعد طبقة، وامتدحه الكبار، وتبجّح فحول الشعراء بمطارحته، وطارت فتاواه التي لا يمكن دخولها تحت الحصر في الآفاق، وحدّث بأكثر مرويّاته خصوصاً المطوّلات منها، كل ذلك مع شدة تواضعه وحلمه وبهائه.
وقد شهد له القدماء بالحفظ والثقة والامانة، والمعرفة التامة والذهن الوقاد والذكاء المفرط وسعة العلم في فنون شتى، وشهد له شيخه العراقي بأنه أعلم
أصحابه بالحديث، وقال كلّ من التقي الفاسي والبرهان الحلبي: ما رأينا مثله.
وسئل: أرأيت مثل نفسك؟ فقال قال الله: ولا تزكّوا أنفسكم.
ومحاسنه جمّة، وما عسى أن أقول في هذا المختصر، أو من أنا حتى يعرف بمثله، خصوصاً وقد ترجمه من الأعيان في التصانيف المتداولة بالأيدي، التقي الفاسي في ذيل التقييد، والبدر البشتكي في طبقاته للشعراء، والتقي المقريزي في العقود الفريدة، والعلاء ابن خطيب الناصرية في ذيل تاريخ حلب، والشمس ابن ناصر الدين في توضيح المشتبه، والتقي ابن قاضي شهبة في تاريخه، والبرهان الحلبي في بعض مجاميعه، والتقي ابن فهد المكي في ذيل طبقات الحافظ، والقطب الخيضري في طبقات الشافعية، وجماعة من أصحابنا كابن فريد النجم في معاجمهم وغير واحد من الوفيات، وهو نفسه في رفع الإصر، وكفى بذلك فخراً.
توفي في أواخر ذي الحجة سنة اثنتين وخمسين »(١) .
وترجمه الحافظ السيوطي بقوله: « ابن حجر شيخ الإسلام والامام الحافظ في زمانه، وحافظ الديار المصرية، بل حافظ الدنيا مطلقا، قاضي القضاة »(٢) .
وقال بترجمته أيضا ما ملخصه: « قاضي القضاة شيخ الإسلام إمام الحفاظ شهاب الدين، فريد زمانه، وحامل لواء السنّة في أوانه، ذهبي هذا العصر ونضاره، وجوهره الذي ثبت به على كثير من الأعصار فخاره، إمام هذا الفن للمقتدين ومقدم عساكر المحدثين، وعمدة الوجود في التوهين والتصحيح، وأعظم الحكام والشهود في باب التعديل والتجريح، شهد له بالانفراد خصوصا في شرح البخاري كل مسلم، وقضى له كل حاكم بأنه العلم المعلم، له الحفظ
___________________
(١). الضوء اللامع لأهل القرن التاسع ٢ / ٣٦ - ٤٠.
(٢). طبقات الحفاظ / ٥٤٧، وفيه: « إمام الحفاظ في زمانه » بدل: « الامام الحافظ ».
الواسع »(١) .
كما ترجم له في تاريخ مصر بقوله: « ابن حجر إمام الحافظ في زمانه، إنتهت اليه الرحلة والرئاسة في الحديث في الدنيا بأسرها، فلم يكن في عصره حافظ سواه »(٢) .
ترجمة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي
وأما الشيخ أبو اسحاق الشيرازي الذي وصف الشريف المرتضى -رحمهالله - بما نقله الحافظ ابن حجر فإليك بعض كلماتهم في مدحه:
قال ابن خلكان ما ملخصه:
« الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي الفيروزآبادي الملقّب جمال الدين، سكن بغداد وتفقّه على جماعة من الأعيان، وصحب القاضي أبا الطيّب الطبري كثيراً وانتفع به وناب عنه في مجلسه، ورتّبه معيدا في حلقته، وصار إمام وقته ببغداد، ولما بنى نظام الملك مدرسته ببغداد سأله أن يتولاّها فلم يزل إلى أن مات. وصنّف التصانيف المباركة وانتفع به خلق كثير، وله شعر حسن، وكان في غاية من الورع والتشدّد في الدين، ومحاسنه أكثر من أن تحصر، وكانت ولادته في سنة ٣٩٣، وتوفي سنة ٤٧٦.
وذكره محب الدين ابن النجار في تاريخ بغداد، فقال في حقه: إمام أصحاب الشافعي، ومن انتشر فضله في البلاد، وفاق أهل زمانه بالعلم والزهد، وأكثر علماء الأمصار من تلامذته »(٣) .
وقال الذهبي بترجمته:
___________________
(١). نظم العقيان في أعيان الأعيان / ٤٥.
(٢). حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة ١ / ٣٦٣.
(٣). وفيات الأعيان ١ / ٢٩.
« أبو اسحاق الشيرازي، الشيخ الامام القدوة المجتهد شيخ الاسلام نزيل بغداد. قال السمعاني: هو إمام الشافعية ومدرّس النظامية وشيخ العصر، رحل الناس إليه من البلاد وقصدوه، وتفرّد بالعلم الوافر مع السيرة الجميلة. صنّف في الأصول والفروع والخلاف والمذهب، وكان زاهداً ورعاً. قال أبو بكر الشاشي: أبو إسحاق حجة الله على أئمة العصر. وقال الموفّق الحنفي: أبو اسحاق أمير المؤمنين في الفقهاء.
قال السمعاني: سمعت جماعة يقولون: لمـّا قدم أبو إسحاق نيسابور رسولاً تلقّوه، وحمل إمام الحرمين غاشية ومشى بين يديه وقال: أفتخر بهذا. وكان عامة المدرّسين بالعراق والجبال تلامذته وأتباعه، وكفاهم بذلك فخراً.
قال الماوردي: ما رأيت كأبي إسحاق. لو رآه الشافعي لتجمّل به.
أخبرني الحسن بن علي، أنا جعفر الهمداني، أنا السلفي، سألت شجاع الذهلي عن أبي إسحاق فقال: إمام أصحاب الشافعي والمقدّم عليهم في وقته ببغداد، كان ثقة ورعاً صالحاً عالماً بالخلاف لا يشاركه فيه أحد.
قال محمد بن عبد الملك الهمداني: ندب المقتدى أبا اسحاق للمراسلة إلى المعسكر فتوجّه، فكان يخرج اليه أهل البلد بنسائهم وأولادهم يمسحون أردانه ويأخذون تراب نعليه يستشفون به، وخرج الخبازون ونثروا الخبز، وخرج الفاكهة والحلوى ونثروا، حتى الأساكفة عملوا مداساتٍ صغاراً ونثروها وهي تقع على رءوس الناس.
قال شيرويه الديلمي في تاريخ همدان: الشيخ أبو إسحاق إمام عصره، وكان ثقة فقيهاً زاهداً في الدنيا على التحقيق، أوحد زمانه »(١) .
وقال اليافعي في تاريخه حيث عنون أبا إسحاق: « الشيخ الامام المتّفق على جلالته وبراعته في الفقه والأصول، وزهادته وورعه وعبادته وصلاحه وجميل
___________________
(١). سير أعلام النبلاء ١٨ / ٤٥٢.
صفاته، السيد الجليل أبو إسحاق المشهور فضله في الآفاق » ثمّ قال بعد أن أورد كلمات العلماء في حقه:
« كان قد استقر إجماع أهل بغداد بعد موت الخليفة على أن تعقد الخلافة لمن اختاره الشيخ أبو إسحاق، فاختار المقتدى بأمر الله »(١) .
وقد ترجمه أيضاً:
١ - الذهبي في العبر في خبر من غبر: حوادث سنة ٤٧٦.
٢ - ابن الوردي في تاريخه: تتمة المختصر في أخبار البشر: حوادث سنة ٤٧٦.
٣ - الأسنوي في طبقات الشافعية: ٢ / ٨٣.
٤ - ابن قاضي شهبة في طبقات الشافعية ١ / ٢٤٤.
* * *
والخلاصة: إذا كان ذكر « الجاحظ » فضائل أمير المؤمنين -عليهالسلام - دليلاً على الحب وعدم العداوة والنصب، فاللازم أن يكون ذكر هؤلاء الأئمّة وترجمتهم كبار الامامية بكل مدحٍ وثناءٍ دليلاً على حبهم وودّهم لهم، والموافقة معهم في عقائدهم، وتنزيههم مما يقال فيهم وينسب اليهم من المذاهب الباطلة على حد زعم أهل السنة.
ولكن رشيد الدين الدهلوي لا يسلم بذلك ولا يلتزم به.
فكذلك ذكر الجاحظ الامام -عليهالسلام - بفضائله ومناقبه فما ذكره رداً على « العلامة الحلي » ودفاعاً عن الجاحظ باطل.
___________________
(١). مرآة الجنان: حوادث سنة ٤٧٦.
تكملة
وأما ما ذكره رشيد الدين الدهلوي عن السيد الشهيد القاضي نور الله التستري - طاب ثراه - ونسبه إليه، فهو غريب جداً بل كذب، يلوح ذلك لمن راجع كتاب ( احقاق الحق ) للقاضي المذكور، بل بطلانه واضح من كلام الرشيد الدهلوي نفسه.
أما من ( احقاق الحق ) فان القاضي -رحمهالله - قال في الرد على كلام ابن روزبهان الذي تقدم نصه:
« قد علم عداوة الجاحظ من كلماته الأخر، ومن بعض عقائده الدالّة على أن صدور تلك المدائح عنه من قبيل ما أشار اليه تعالى بقوله:( يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) . وبقوله تعالى:( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ ) .
وأقل ما صدر عن الجاحظ ممّا يدلّ على عداوته لأمير المؤمنين ومخالفته لاجماع المسلمين أنه أظهر في سنة عشر ومائتين من الهجرة القول بأن الامامة بالميراث، وأن وارث النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - هو عمّه العباس دون علي، وكان ذلك منه تقرّباً إلى الخليفة المأمون العباسي، فباع دينه بدنياه، نظير ذلك أن معاوية كان يصف علياً -عليهالسلام - عند خواص أصحابه، ويحاربه ويأمر
بسبّه على رؤوس المنابر، والشيطان يسبّح الله ويقدّسه بل يزعم في دعوى إخلاصه أن سجدة آدمعليهالسلام شرك مع الله، وصار لمخالفته الأمر بها عدواً لله ملعوناً مطروداً، وبهذا يعلم بطلان استدلاله المذكور على المحبة، ويفهم أنه لم يذق طعم المحبة.
وبالجملة، قد علم أن الجاحظ - وهو أبو عثمان عمرو بن بحر - كان عثمانياً مروانياً، ومع هذا قد اعترف بفضل بني هاشم وأهل بيت النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - وتقديمهم، وفضل علي -عليهالسلام - وتقديمه في بعض رسائله، فإنْ كان هذا مذهبه فذاك، وإلّا فقد أنطقه الله تعالى بالحق وأجرى لسانه بالصدق، وقال ما يكون حجةً عليه في الدنيا والآخرة، ونطق بما لو اعتقد غيره لكان خصيمه في محشره فإن الله تعالى عند لسان كلّ قائل، فلينظر قائل ما يقول وأصعب الأمور وأشقها أن يذكر الانسان شيئاً يستحق به الجنة، ثم يكون ذلك موجباً لدخول النار، نعوذ بالله من ذلك».
فظهر ان القاضي التستري -رحمهالله - قد ذكر تأليف الجاحظ رسالة فضائل علي وأهل البيت -عليهمالسلام -، وأنه لم يحمل ذلك على محمل مستغرب، فقول رشيد الدين الدهلوي: « مع عدم ذكر تأليفه كتاباً في مناقبه، وحمل ذلك على محمل يستغفر به الأذكياء بل الأغنياء » كذب صريح.
وأما ظهور كذب هذا الرجل من كلام نفسه، فلأنه يقول: « وحمل ذلك على محمل يستغربه الأذكياء بل الأغنياء » لأنّ هذا الكلام يتضمن عدم إنكار السيد تصنيف الجاحظ تلك الرسالة.
هذا، وأما دعوى أنه « يستغربه الأذكياء بل الأغنياء » فطريفة جداً. فلقد ثبت بالقطع واليقين لدى ( الدهلوي ) نصب الجاحظ وعداوته وثبت عنده أن الجاحظ صنّف رسالة في الطعن في خصائص مولانا علي -عليهالسلام -، فلابدّ أنْ يكون ( الدهلوي ) يحمل رسالة الجاحظ - المذكورة - على ذلك المعنى أيضاً، فيكون حينئذٍ خارجاً من عداد الأذكياء بل الأغنياء في رأي تلميذه الرشيد
بل الألطف من هذا: أن رشيد الدين خان يجعل استدلال القاضي -رحمهالله - على عداوة الجاحظ ومخالفته لإِجماع المسلمين بإظهار قوله المذكور في الامامة، أعجب ممّا ادّعاه العلّامة الحلّي -رحمهالله - وكأن الرشيد الدهلوي لا يدري أن مقالة الجاحظ هذه تؤدي إلى إنكار خلافة الامام -عليهالسلام - حتى في المرتبة الرابعة، فلو لم يكن هذا المذهب نصباً وعداوة لدى الرشيد الدهلوي فليقل لنا ما هو مصداق العداوة والبغض والانحراف في رأيه
هذا، وأما تشكيك رشيد الدين الدهلوي في صدور هذه المقالة من الجاحظ حيث قال « على تقدير تسليم صدورها من هذا المعتزلي » فيدل على طول باعه في التحقيق وسعة اطلاعه وإحاطته بالمذاهب والنحل ...!!
فإن صدور هذه المقالة من الجاحظ مشهور، فقد قال الشريف في ردّ كلام قاضي القضاة عبد الجبار المعتزلي القائل بعد كلام له:
« وبعد، فإنْ جاز حصول النص على هذه الطريقة ويختص بمعرفته قوم على بعض الوجوه، ليجوزنّ إدعاء النص على العباس وغيره، وإن اختص بمعرفته قوم دون قوم ثم انقطع النقل، لأنه إنْ جاز انقطاع النقل فيما يعم تكليفه عن بعض دون بعض جاز انقطاعه عن المكلَّفين كذلك، لأن ما أوجب إزاحة العلة في كلّهم يوجب إزاحة العلة في بعضهم ».
قال الشريفرحمهالله في ردّه:
« يقال له: إن المعارضة بما يدعى من النص على العباس، أبعد عن الصواب من المعارضة بالنص على أبي بكر، والذي يتبيّن بطلان هذه المقالة، والفرق بينها وبين ما يذهب اليه الشيعة في النص على أمير المؤمنين -عليهالسلام - وجوه:
منها: أنا لا نسمع بهذه المقالة إلّا حكاية وما شاهدنا قط ولا شاهد من أخبرنا ممن لقيناه قوماً يدينون بها، والحال في شذوذ أهلها أظهر من الحال في شذوذ البكرية، وإنْ كنا لم نلق منهم إلّا آحاداً لا يقوم الحجة بمثلهم، فقد وجدوا على
حال وعرف في جملة الناس من يذهب إلى المقالة المرويّة عنهم، وليس هذا في العباسية.
ولو لا أن الجاحظ صنّف كتاباً حكى فيه مقالتهم وأورد فيه ضرباً من الحجاج نسبه إليهم، لما عرفت لهم شبهة ولا طريقة تعتمد في نصرة قولهم.
والظاهر أن قوماً ممّن أراد التسوّق والتوصل إلى منافع الدنيا، تقرّب إلى بعض خلفاء ولد العباس بذكر هذا المذهب وإظهار اعتقاده ثم انقرض أهله وانقطع نظام القائلين به لانقطاع الأسباب والدواعي لهم إلى إظهاره، ومن جعل ما يحكى من هذه المقالة الضعيفة الشاذة معارضة لقول الشيعة في النص، فقد خرج عن الغاية في البهت والمكابرة.
ومنها: ان الذي يحكى عن هذه الفرقة التي أخبرنا عن شذوذها وانقراضها مخالف أيضاً لما تدين به الشيعة من النص، لأنهم يعوّلون فيما يدعونه من النص على صاحبهم على أخبار آحادٍ ليس في شيء منها تصريح بنصّ ولا تعريض، ولا دلالة عليه من الفحوى ولا ظاهر، وإنما يعتمدون على أن العم وارث، وأنه يستحق وراثة المقام كما يستحق وراثة المال، وعلى ما روي من قوله ردوا عليَّ أبي وما أشبه هذا من الأخبار التي إذا سلم نقلها وصحت الرواية المتضمنة لها لم يكن فيها دلالة على النص والامارة، ولا اعتبار بمن يحمل نفسه من مخالفينا على أن يحكى عنهم القول بالنص الجلي الذي يوجب العلم ويزيل الريب كما يقول الشيعة، لأن هذا القول عن قائله لا يغني عنه شيئاً، مع العلم بما حكي من مقالة هذه الفرقة وسطر من احتجاجها واستدلالها.
ولولم يرجع في ذلك إلّا إلى ما صنّفه الجاحظ لهم، لكان فيه أكبر حجة وأوضح دلالة، فما وجدناه - مع توغّله وشدّة توصّله إلى نصرة هذا المذهب - أقدم على أن يدعي عن رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - نصاً صريحاً بالامامة، بل الذي اعتمده فهو ما قدمنا ذكره وما يجري مجراه.
مثل: قول العباس - وقد خطب رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم
خطبته المشهورة في الفتح فانتهى إلى قوله: إنّ مكة حرام، حرّمها الله يوم خلق السماوات والأرض لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها - إلّا الأذخر يا رسول الله. فأطرق رسول الله - صلىاللهعليهوآلهوسلم - وقال: إلّا الأذخر.
ومثل: ما روي من تشفيعه له في مجاشع بن مسعود السلمي - وقد التمس البيعة على الهجرة بعد الفتح - فأجابه إلى ذلك.
ومثل: إدعائه سبقه الناس إلى الصلاة على رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - عند وفاته.
وتعلّقه بحديث الميراث، وحديث اللدود.
إلى غير ما ذكرناه مما هو مسطور في كتابه.
ومن تصفحه علم أن جميع ما اعتمده لا يخرج عما حكمنا فيه بخلوّه من الاشارة إلى نص أو دلالة، وقد علمنا عادة الجاحظ فيما ينصره من المذاهب، فإنه لا يدع غثّاً ولا سميناً، ولا يغفل عن إيراد ضعيف ولا قوي، حتى أنه ربما خرج إلى ادعاء ما لا يعرف. فلو كان لمن ذهب إلى مذهب العباسية خبر ينقلونه يتضمن نصاً صريحاً على صاحبهم، لما جاز أن يعدل عن ذكره مع تعلّقه بما حكينا بعضه، واعتماده على أخبار آحاد أكثرها لا يعرف »(١) .
وأما قول رشيد الدين الدهلوي: « وإنما يترتب على هذا الرأي حرمان أحب الأحباب، وانتقال الميراث إلى غير المحبوب ».
فتوجيه لمقالة الجاحظ، وفيه ما لا يخفى.
وأما قوله: « فصاحب هذا الزعم فاعتبروا يا أولي الألباب » فيتضمن وجهين للدفاع عن الجاحظ:
الأول: إنما قال ذلك ليتقرّب إلى المأمون العباسي، لا عداوةً لأمير المؤمنين -عليهالسلام -.
___________________
(١). الشافي في الامامة / ٩٨ - ٩٩.
والثاني: إن العداوة أمر باطني، وكلام الجاحظ لا يدل عليها.
وكلا الوجهين فاسد.
أما الأوّل: فلأن مقتضاه: أن كلّ قول صدر إرضاءً لملك أو رئيس - وإنْ كان في أقصى مراتب الشناعة والفساد - لا يدل على اعتقاد قائله به، وهذا يستلزم أن لا يكون الذين سبّوا علياً تقربّاً إلى الأمويين نواصب له وأعداء، وأن لا يحكم بالكفر على من سبَّ رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - وأهانه واستهزأ به تقرباً إلى أئمّة الكفر إلى غير ذلك من اللوازم الواضح فسادها.
وأما الثاني: فكالأول في البطلان، بل أظهر منه.
هذا، ومن الضروري أن نشير هنا إلى أن القاضي التستري -رحمهالله - لم ينفرد في دعوى تشيّع المأمون، بل قال بذلك جماعة من أئمّة أهل السنّة من السابقين واللاحقين، كالجلال السيوطي في ( تاريخ الخلفاء ) والذهبي في ( سير أعلام النبلاء ) والبرزنجي في ( مرافضه )، بل ذكر ابن خلدون في ( تاريخه ): « أن دولة بني العباس دولة شيعية ».
على أن للتشيع معنيين: أحدهما: التشيع بالمعنى الخاص، وهو الاعتقاد بامامة أئمّة الإِثنى عشر من أهل البيت، أوّلهم أمير المؤمنين عليّ، وآخرهم: المهدي المنتظر،عليهمالسلام .
والثاني: التشيع بالمعنى العام، وهو الاعتقاد بامامة علي -عليهالسلام ، بعد رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - بلا فصل.
وقد صرح القاضي التستري في مقدمة كتابه ( مجالس المؤمنين ) بأنه يذكر فيه الشيعة بالمعنى العام لا الخاص.
فظهر بطلان دفاع الرشيد الدين الدهلوي عن الجاحظ، وانتقاداته لكلام القاضي التستري -رحمهالله -.
٥ ) حول رسالة الجاحظ في فضل عليعليهالسلام
وإن تصنيف الجاحظ رسالة فضائل المؤمنين -عليهالسلام - إنما كان يفيده لو لم يرتكب تلك القبائح، ولم يطعن في فضائل الامام -عليهالسلام - في رسالة أخرى صنّفها في نصرة العثمانية.
ومع ذلك فإنا لا نستبعد اعتقاد الجاحظ بإمامة علي بعد رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - ولعله من هنا أثبت في رسالته في الفضائل أفضليته من غيره، واعترف بمناقبه وفضائله التي لا تحصى، ولكن دعته الدواعي الدنيوية والشهوات النفسانية إلى تصنيف الرسالة الأخرى، التي زعم فيها كون الامامة بالميراث ...كما ذكره الشريف المرتضى والقاضي التستري - رحمهما الله تعالى -.
ونظير ذلك ما ذكره شمس الأئمّة محمد بن عبد الستار الكردي العمادي المتوفى سنة ٦٤٢ * ترجم له محيي الدين ابن أبي الوفا القرشي في ( الجواهر المضيّة في طبقات الحنفية ) بقوله: « كان أستاذ الأئمّة على الاطلاق والموفود اليه من الآفاق، قرأ بخوارزم على الشيخ برهان الدين ناصر بن أبي المكارم عبد السيد بن علي المطرزي صاحب المغرب، ثم رحل إلى ما وراء النهر وتفقّه بسمرقند على شيخ الاسلام المرغيناني صاحب الهداية، والشيخ مجد الدين المهاري السمرقندي المعروف بامام زاده، وسمع الحديث منهما، وتفقّه ببخارى على العلامة بدر الدين عمر بن عبد الكريم، والشيخ شرف الدين أبي محمد عمر بن محمد بن عمر العقيلي وبرع في معرفة المذاهب وإحياء علم أصول الفقه بعد اندراسه من زمن القاضي أبي زيد الدبوسي وشمس الأئمّة السرخسي، وتفقه عليه خلق كثير ».
وترجم له محمود بن سليمان الكفوي في ( كتائب أعلام الأخيار من مذهب النعمان المختار ) بقوله: « الشيخ الامام الموفود اليه من الآفاق مرضي الشمائل، جامع مكارم الأخلاق، بدر الأمة، شمس الأئمة أخذ عن كبار الفقهاء
وأعلام العلماء، حتى قرن الله مساعيه بالنجاح، وجعل صيته الطيار موفور الجناح، أخذ عن جمع كثير لا يحيط بها الحد ولا يضبطها العد، كان قد وصل إلى خدمة الرجال من أصحاب الكتيبة التاسعة والعاشرة والحادية عشر وأخذ عنهم وسمع التفسير والحديث، وبرع في معرفة المذاهب، وكان أستاذ الأئمّة على الاطلاق وكانت الطلبة ترحل اليه من الآفاق »
*عن الشافعية بقوله :
« الحمد لله رب العالمين، والصلاة على سيد المرسلين محمد وآله العالمين العاملين. وبعد، فإني ما كنت أسمع شفعوياً يذم إمام الأئمّة وسراج الأمة أبا حنيفة -رضياللهعنه - ويسيء القول به ويلعنه، بل أراهم يتقربون إلى أتباعه ويتودّدون إلى أشياعه إلّا المعتزلة منهم، فإنّهم كانوا يبغضون لبدعتهم ويعادون لعداوتهم.
حتى دخلت حلب - طهّرها الله عن البدع - فسمعت بعد مدة أنّ أعلام المدرسين من الشفعوية، لعن أبا حنيفة -رحمهالله - فانكرت على الناقل وكذّبته، ثم توالى على سمعي من سكان مدارس الشفعوية من المتفقهة منهم، أنهم يسيئون القول في الحنفيين ويبغضونهم، وفي أيديهم كتاب مكتوب فيه مناظرة الشافعي - رحمه الله تعالى - مع محمد بن الحسن الشيباني، يذكر فيه أن الشافعي -رحمهالله - ناظره فنظره عند هارون الرشيد وكفّره، وهم يعتقدون صحة ذلك ويدرسونه، فقلت: سبحان الله! الشافعي كان تلميذ محمد بن الحسن واستفاد منه علم أبي حنيفة -رحمهالله - وأثنى عليه، كيف يستجرئ أن يناظره وينظره ويحاجّه ويحجّه، فضلاً عن أن ينظره ويكفّره، مع علمه قبح ذلك في الشريعة المطهرة؟
فطلبت ذلك المكتوب فأخفوه، والآن وقعت في يدي جزازة مكتوب فيها: إن أبا محمد الغزالي الطوسي أحد رؤساء الشفعوية ذكر في آخر كتابه الموسوم بالمنخول في الاصول باباً، قدّم فيه مذهب الشافعي على سائر المذاهب، وفضّله على سائر أصحاب المناصب، مثل أبي حنيفة وأحمد ومالك -رحمهمالله -، وسلك في تصحيح دعواه ثلاث مسالك وطعن فيه، وخص أبا حنيفة -رحمهالله - بالتشنيع
العظيم والتقبيح العميم، ووصفه بما يشير إلى أنه كان ملحداً لا مؤمناً، نحو قوله: فأما أبو حنيفة فقد قلّب الشريعة ظهراً لبطن وشوّش مسلكها وخرم نظامها، وسنذكر تمامه في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
فقلت لنفسي: لا أتيقّن هذا ما لم أطّلع على الكتاب الموسوم بالمنخول، فتوسّلت بطريقةٍ إلى تحصيله، فوجدته بعد جهد جهيد في زمان مديد، فوجدته كما نسخ في هذه الجزازة، فأورد في قلبي وجداً وحرارة، فبان لي أن تقرّبهم في بلاد العجم إلى أصحاب الامام المعظم كان تقية، لما يرون من تقدّمهم وقربهم وتعصباً لأمرائهم، وأن تبغضهم بهم في هذه وإزراءهم عليهم لقربهم من السلطان وميله إليهم، ولاح لي بدلالة واضحة وأمارة لائحة أن القوم يعرفون أن أبا حنيفة -رحمهالله - هو الامام المقدّم والحبر المعظم، والعالم التقي والزاهد النقي، لكن يظهرون خلاف ما يضمرون، طلباً للرئاسة الكلية والشوهات النفسانية والحفوظ الدنيوية.
ومصداق هذه الدعوى وبرهانها أن خيارهم يأخذون الشفعة بالجوار، وأنه غصب وعدوان عندهم، ويتطهّرون بماء الحمام ويغتسلون به وهو نجس عندهم والصلاة بتلك الطهارة باطلة عندهم، بناءاً على أن رماد النجاسة المحرقة نجس عندهم، وقد خلط بالكلس في الحمام وبطليه، وأن النجاسة تحترق في الاتون وأنّ أجزاء رمادها تقع في مجرى الحوض، فيجري عليه الماء فيتنجس، ويتعاملون في السوق بالأخذ والعطاء بدون قولهم بعت واشتريت في المطعوم والمشروب والملبوس، وأنه باطل عندهم، والمقبوض بناء على ذلك كالمقبوض بالغصب.
وكذا يبيعون ويشترون على أيدي صبيانهم وتصرفاتهم عندهم باطلة، ويزارعون والمزارعة عندهم فاسدة، ويتزوّجون بتزويج أولياء فساق وتزويجهم في مذهبهم باطل، وكذلك أنكحتهم بحضرة الفساق فاسدة، فيظهر بهذا أن أنكحتهم في الأكثر باطلة، ووطؤهم بناء على تلك الأنكحة زنا وأولادهم أولاد زنا، وما يأكلون ويشربون ويلبسون حرام، وكذا ما يجمعون بتلك الطرق.
فإن قالوا: أخذنا في هذه المسائل بمذهب أبي حنيفة -رحمهالله - وأنه حقّ، فما بالهم يطعنون عليه ويلعنون؟!
وإنْ قالوا: مذهبه باطل ومذهبنا حق، فما بالهم يلابسون المحظورات ويقارفون المنهيّات، ويبارزون بالمعاصي لمالك الأوامر والنواهي، وهم يعلمون ذلك ولا يتناهون عنه ولا يرجعون، بل يتعاونون على ذلك ويتظافرون وعلى ذلك يموتون ولا يتوبون عن ذلك ولا يتذكرون؟! وممّا يؤيّد هذا ويوضحّه أنك ترى أعلمهم وأزهدهم إذا تمكّن من أمير أو وزير يعتقد أنه ظالم غاشم يجري معه في هواه ويوافقه فيما يهواه، فيمدحه في وجهه بما ليس فيه حتى يصمّه ويعميه، ومذهبه أنه لا ولاية لهذا الأمير والوزير على أولاده الصغار تزويجاً وعلى أموالهم بيعاً وشراءً، وعلى تزويج بنته البكر البالغة، فضلاً عن أن يثبت له ولايته على العوام وأموال الأيتام والأوقاف وأموال بيت المال، وأنّ توليته لا تصحّ، وأنّ الأنكحة بحضرة أمثاله لا تنعقد، ومع ذلك يتقلّد منه القضاء والنظر في الأوقاف وأموال الأيتام مع اعتقاده أنّ توليته باطلة وتقلّده فاسد، وهو في مدحه إيّاه وإعانته ظالم آثم ثمّ ربما تعدّى من ذلك إلى الوزارة وجمع المال بالطرق المحرمة، ويظهر له أنه ناصح أمين وشفيق ومسكين وهو في الحقيقة خائن مبين، فيتلهى بالرجل حتى يصل إلى أغراض فاسدة، من التقدّم على العوام وجمع الحطام وتخريب المدارس والرباطات معنى بتوليته من لا يصلح لها، إذا علم أنه يدخل معه في هواه ويوافقه فيما يهواه، وترك الصالح للتدريس والفتيا وعدم تمكينه من ذلك خوفاً من أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وينكر عليه أفعاله ولا يحسن أحواله.
فلينظر العاقل المنصف أنّ من هذه صفاته هل يصلح أن يعتمد عليه في أمور الدين والدنيا، ويؤتمن عليه في المصالح ويفوّض إليه تدبير المملكة، فمن هذه صفته لا يبعد منه أن يعتقد حقيّة مذهب الإِمام أبي حنيفة -رحمهالله - ثم يظهر خلافه ليحصل له الرئاسة الكلية ».
ثم إنّ الكردري أورد طعن الغزالي صاحب ( المنخول ) في أبي حنيفة في الفصل الأول من كتابه وذكر أن الغزالي « ردّد أمر أبي حنيفة -رحمهالله - بين أن يكون جاهلاً ومجنوناً. وبين كونه كافراً زنديقاً » فقال:
« فهذا اعتقادهم في إمام الأئمّة وسراج الأُمّة، فكيف في أتباعه ومقلدي مذهبه، من الأمراء والسلاطين وقواد عساكر المسلمين والفقهاء منهم والمدرسين؟
واعتقادهم في أتباعه ما نص عليه من وصفهم به، من شدة الغباوة وقلة الدراية وشدّة الخذلان، فإنّ حواسّهم فاسدة غير سليمة وعقولهم وأنظارهم غير سديدة ».
ثم قال: « ثمّ لا يستحيون ويظهرون في وجوه أتباعه من الأمراء والقضاة والولاة من الأطراء ما يزيد على الصّديق وعمر الفاروق ».
قال: « ثمّ إنّ الله تعالى عزّ وجلّ أظهر كرامة أبي حنيفة -رحمهالله - بأنْ سلّط على هذا الطّاعن فيه رؤساء مذهبه وعملائهم، فقابلوه على طعنه بأن شهدوا عليه بالإِلحاد والزندقة والتزوير والمخرقة عند السلطان سنجر، وأفتوا بإباحة دمه ووجوب قتله »(١) .
أقول: وهكذا حال الجاحظ وشأنه مع مولانا أمير المؤمنين -عليهالسلام - وعليه ينطبق جميع ما قاله الكردري في حق الغزالي، وكذا على من كان على شاكلته.
٦ ) يستند إلى أقوال العلماء في فنونهم
قد علمت أن مدح الشريف الرضي -رحمهالله - للجاحظ لم يكن مدحاً على حقيقته، بل كان مدح إلزام وإفحام
ثم نقول: إنه لا مانع من أن يكون مدحاً واقعياً، وأن يكون استناد الشريف إلى كلام الجاحظ في معرفة كلام الامام -عليهالسلام - استناداً حقيقياً
___________________
(١). الرد على مطاعن أبي حنيفة في كتاب المنخول للغزالي.
... وذلك لأن العلماء كثيراً ما يستندون إلى أشعار الكفّار، وفي المسائل الطبية - مثلاً - إلى أقوال الطبيب الملحد، ولا يرون في ذلك بأساً أبداً
وقد تعرّض لهذه المسألة علماء الدراية وعلم الحديث في كتبهم التي وضعوها في هذا العلم، قال الحافظ جلال الدين السيوطي:
« قال عز الدين بن عبد السلام في جواب سؤال كتبه اليه أبو محمد بن عبد الحميد: وأما الاعتماد على كتب الفقه الصحيحة الموثوق بها فقد اتفق العلماء في هذا العصر على جواز الاعتماد عليها والاسناد اليها، لأنّ الثقة قد حصلت بها كما تحصل بالرواية، ولذلك اعتمد الناس على الكتب المشهورة في النحو واللغة والطب وسائر العلوم، لحصول الثقة بها وبعد التدليس، ومن زعم [ اعتقد ] أن الناس قد اتفقوا على الخطأ في ذلك فهو أولى بالخطأ منهم، ولو لا جواز الاعتماد على ذلك لتعطّل كثير من المصالح المتعلّقة بها.
وقد رجع الشارع الى قول الأطباء في صور، وليست كتبهم مأخوذة في الأصل إلّا عن قول الكفار [ قوم كفار ] ولكنْ لمـّا بَعُدَ التدليس فيها اعتمد عليها، كما اعتمد في اللغة على أشعار العرب وهم كفار، لبعد التدليس »(١) .
هذا، وأما مدح الكفار والمشركين والخوارج بصفات كانوا يتصفون بها فكثير في الصحاح وكتب الحديث والتواريخ وغيرها.
وبهذا نكتفي في رد دفاع الفاضل رشيد الدين الدهلوي عن الجاحظ.
___________________
(١). تدريب الراوي - شرح تقريب النواوي ١ / ١٥٢.
(٥)
عدم رواية ابن أبي داود حديث الغدير
وأمّا استناد الفخر الرازي إلى ترك ابن أبي داود حديث الغدير وقدحه فيه، فمردود بوجوه:
١. لا دليل على القدح
إن دعوى قدح ابن أبي داود السجستاني في حديث الغدير دعوى لا يدعمها أي دليل، ولم يقم عليها برهان.
وكل دعوى لم يقم صاحبها على صحّتها دليلاً فهي غير مسموعة
٢. دعوى القدح كاذبة
بل إن هذه الدعوى باطلة لا أصل لها، فقد قيل: إنّ ابن أبي داود لم ينكر خبر الغدير، وإنما أنكر منه بعض أمور خارجة عن أصل الحديث قال الشريف المرتضى - رحمه الله تعالى:
« فإنْ قيل: أليس قد حكي عن ابن أبي داود السجستاني في دفع الخبر، وحكي عن الخوارج مثله، وطعن الجاحظ في كتاب العثمانية فيه؟
قيل له: أول ما نقوله أن لا معتبر في باب الإجمال بشذوذ كل شاذ عنه، بل الواجب أن يعلم أن الذي خرج عنه ممن يعتبر قوله في الإجماع ثم يعلم أنّ الاجماع لم يتقدم خلافه.
فإنّ ابن أبي داود والجاحظ لو صرّحا بالخلاف لسقط خلافهما بما ذكرناه من الاجماع، خصوصاً بالذي لا شبهة فيه من تقدم الاجماع وفقد الخلاف وقد سبقهما ثم تأخر عنهما.
على أنه قد قيل: إن ابن أبي داود لم ينكر الخبر، وإنّما أنكر كون المسجد الذي بغدير خم متقدّماً، وقد حكي عنه التنصّل من القدح في الخبر والتبرّي مما قذفه به محمد بن جرير الطبري.
وأما الجاحظ فلم يتجاسر أيضاً على التصريح بدفع الخبر، وإنما طعن على بعض رواته، وادّعى اختلاف ما نقل من لفظه.
ولو صرّح الجاحظ والسجستاني وأمثالهما بالخلاف لم يكن قادحاً لما قدّمناه »(١) .
٣. استدلال الرازي يخالف قواعد البحث
ولو سلّمنا ما حكي من قدح ابن أبي داود في حديث الغدير، فإنه لا وجه لتمسك الرازي بذلك، لأنه خروج عن قواعد البحث وآداب المناظرة، إذ قد تقرر في علم المناظرة أن يتخذ المخاصم من أقوال خصمه وتصريحات أصحابه وأبناء طائفته دليلاً على الرد، لا أن يعتمد المخاصم على ما ذكره أهل مذهبه وعلماء نحلته لأجل أن يخصم بذلك خصمه
وعلى هذا الأساس التزم ( الدهلوي ) في مقدمة ( التحفة ) ومن قبله والده في ( قرّة العينين ) بعدم الاحتجاج بروايات أهل السنة، حتى من البخاري وغيره من صحاحهم في محاجة الإِمامية ولكنهما - مع الأسف - خالفا ما التزما ولم يفيا بما وعدا
___________________
(١). الشافي في الامامة / ١٣٢.
٤. المعارضة بتصحيح الأئمّة
على أنّ ترك ابن أبي داود حديث الغدير أو قدحه فيه، معارض برواية أكابر أئمة أهل السنة إياه، وتصريحهم بصحته، وتنصيصهم على ثبوته وتواتره عن رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم -
فهو حديث مجمع على صحّته، ولا اعتبار بقول شاذّ خارج عن هذا الإِجماع
٥. المعارضة برواية أبي داود
ومن رواة حديث الغدير: أبو داود ( والد أبي بكر ابن أبي داود ) فقد قال الحافظ النسائي ما نصه:
« أخبرني أبو داود قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا عبد الملك بن أبي عيينة، قال: أخبرنا الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن بريدة، قال: خرجت مع علي -رضياللهعنه - إلى اليمن فرأيت منه جفوةً، فقدمت على النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فذكرت علياً -رضياللهعنه - فتنقصته، فجعل رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - يتغيّر وجهه فقال: يا بريدة ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: من كنت مولاه فعلي مولاه »(١) .
فما ذكره ابن أبي داود - لو ثبت - معارض برواية أبيه للحديث، ومن المسلَّم به تقدم والده عليه علماً وحفظاً وثقة
ومن هنا يظهر ما في نسبة القدح في حديث الغدير إلى أبي داود السجستاني، كما عن ابن حجر المكي في ( الصواعق ) وكمال الدين الجهرمي في ( البراهين القاطعة ) ونور الدين الحلبي في ( السيرة ) وعبد الحق الدهلوي في ( شرح المشكاة )
___________________
(١). خصائص أمير المؤمنين علي / ٩٤.
والسهارنبوري في ( المرافض ) فإنها نسبة باطلة لا أساس لها من الصّحة
٦. قال أبو داود: ابني عبد الله كذّاب
ثم إنّ أبا بكر ابن أبي داود قد تكلّم فيه جماعة من كبار الأئمّة والحفاظ المشاهير وغيرهم منهم:
ابن صاعد
وابراهيم الاصفهاني
والبغوي
وابن أبي عاصم
وابن مندة
والأخرم
وابن الجارود
والقطّان
والطّبري
وابن الفرات
وعلي بن عيسى الوزير
وقال أبوه: « إبني عبد الله كذّاب ».
وقد كفانا ما قال أبوه
واليك النص الكامل لما جاء بترجمته على لسان الحافظ الذهبي حيث قال: « أبو بكر عبد الله بن سليمان بن الأشعث، الامام العلّامة الحافظ شيخ بغداد، أبو بكر السجستاني صاحب التصانيف، ولد بسجستان في سنة ٢٣٠، روى عن خلق كثير بخراسان والحجاز والعراق ومصر والشام وإصبهان وفارس، وكان من بحور العلم، بحيث أن بعضهم فضّله على أبيه. صنّف السنن، والمصاحف، وشريعة القاري، والناسخ والمنسوخ، والبعث وأشياء. حدّث عنه خلق كثير
منهم: ابن حبان، وأبو أحمد الحاكم، وأبو عمر ابن حيويه وابن المظفر، وابن شاهين، والدارقطني وآخرون.
قال الحاكم أبو عبد الله: سمعت ابن أبي داود يقول: حدّثت من حفظي بإصفهان بستة وثلاثين ألفاً، ألزموني الوهم فيها في سبعة أحاديث، فلمّا انصرفت وجدت في كتابي خمسة منها على ما كنت حدثتهم به.
قال الحافظ أبو محمد الخلّال: كان ابن أبي داود إمام أهل العراق، ومن نصب له السلطان المنبر، وقد كان في وقته بالعراق مشايخ أسند منه، ولم يبلغوا في الجلالة والإتقان ما بلغ هو.
أبو ذر الهروي: أنبأ أبو حفص ابن شاهين، قال: أملى علينا ابن أبي داود وما رأيت بيده كتاباً، إنما كان يملي حفظاً، فكان يقعد على المنبر بعد ما عمي ويقعد دونه بدرجة ابنه أبو يعمر بيده كتاب فيقول له: حديث كذا، فيسرده من حفظه حتى يأتي على المجلس، قرأ علينا يوماً حديث الفنون من حفظه، فقام أبو تمام النرسي وقال: لله درّك ما رأيت مثلك إلّا أن يكون إبراهيم الحربي فقال: كلّما كان يحفظ إبراهيم فأنا أحفظه، وأنا أعرف النجوم وما كان هو يعرفها.
أبو بكر الخطيب: كان فقيهاً عالماً حافظاً.
قلت: وكان رئيساً عزيز النفس مدلاً بنفسه سامحه الله.
قال أبو حفص ابن شاهين: أراد الوزير علي بن عيسى أن يصلح بين ابن أبي داود وابن صاعد فجمعهما وحضر أبو عمر القاضي، فقال الوزير: يا أبا بكر أبو محمد أكبر منك فلو قمت إليه، فقال: لا أفعل. فقال الوزير: أنت شيخ زيف، فقال: الشيخ الزيف الكذّاب على رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - فقال الوزير: من الكذاب؟ قال: هذا، ثمّ قام وقال: تتوهم أني أذل لك لأجل رزقي وأنه يصل على يدك؟ والله لا آخذ من يدك شيئاً، قال: فكان الخليفة المقتدر يزن رزقه بيده ويبعث به في طبق على يد الخادم.
قال أبو أحمد الحاكم سمعت أبا بكر يقول: قلت لأبي زرعة الرازي: ألق
عليَّ حديثاً غريباً من حديث مالك، فألقى عليَّ حديث وهب بن كيسان عن أسماء لا تحصى فيحصى عليك، رواه عن عبد الرحمن بن شيبة وهو ضعيف، فقلت: نحب أن نكتبه عن أحمد بن صالح، عن عبد الله بن نافع، عن مالك، فغضب أبو زرعة وشكاني إلى أبي وقال: أنظر ما يقول لي أبو بكر.
ويروى باسناد منقطع أن أحمد بن صالح كان يمنع المرد من حضور مجلسه، فأحب أبو داود أن يسمع ابنه منه، فشدّ على وجهه لحيةً وحضر، فعرف الشيخ فقال: أمثلي يعمل معه هذا؟ فقال أبو داود: لا تنكر علي واجمع ابني مع الكبار، فإنْ لم يقاومهم بالمعرفة فأحرمه السماع. حدث بها القاسم ابن السمرقندي، حدثنا يوسف بن الحسن التفكري، سمعت الحسن بن علي بن بندار الزّنجاني، قال: كان أحمد بن صالح يمنع المرد من التحديث تنزّهاً، فذكرها وزاد: فاجتمع طائفة فغلبهم الابن بفهمه، ولم يرو له أحمد بعدها شيئاً، وحصل له الجزء الأول فأنا أرويه.
قلت: بل أكثر عنه.
قال أبو عبد الرحمن السلمي: سألت الدارقطني عن ابن أبي داود فقال: ثقة كثير الخطأ في الكلام على الحديث.
وقد ذكر أبو أحمد ابن عدي أبا بكر في كامله وقال: لو لا أنا شرطنا أنّ كلّ من تكلّم فيه ذكرناه لما ذكرت ابن أبي داود، قال: وقد تكلّم فيه: أبوه وابراهيم بن اورمة، ونسب في الابتداء إلى شيء من النصب، ونفاه ابن الفرات من بغداد إلى واسط، ثم ردّه الوزير علي بن عيسى فحدّث وأظهر فضائل علي -رضياللهعنه ثم تحنبل فصار شيخاً فيهم، وهو مقبول عند أصحاب الحديث، وأما كلام أبيه فيه فلا أدري أيش تبين له منه. وسمعت عبدان يقول: سمعت أبا داود يقول: من البلاء أن عبد الله يطلب القضاء.
ابن عدي: أنبأ علي بن عبد الله الداهري، سمعت أحمد بن محمد بن عمرو كركره، سمعت علي بن الحسين الجنيد، سمعت أبا داود يقول: ابني عبد الله
كذّاب.
قال ابن صاعد: كفانا ما قال فيه أبوه.
ابن عدي: سمعت موسى بن القاسم بن الأسلت يقول: حدثني أبو بكر: سمعت إبراهيم الاصفهاني يقول: أبو بكر بن أبي داود كذّاب.
ابن عدي: سمعت أبا القاسم البغوي - وقد كتب اليه أبو بكر بن أبي داود رقعة يسأله عن لفظ حديث لجدّه، فلما قرأ رقعته قال: أنت والله منسلخ من العلم.
قال: وسمعت محمد بن الضحاك بن عمرو بن أبي عاصم يقول: أشهد على محمد بن يحيى بن مندة بين يدي الله تعالى أنه قال: أشهد على أبي بكر بن أبي داود بين يدي الله أنه قال: روى الزهري عن عروة قال: حفيت أظافير فلان من كثرة ما كان يتسلّق على أزواج النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم -.
قلت: هذا باطل وإفك مبين، واين إسناده إلى الزهري؟ ثم هو مرسل، ثم لا يسمع قول العدو في عدوه، وما أعتقده أن هذا صدر عن عروة أصلاً، وابن أبي داود إنْ كان حكى هذا فهو خفيف الرأس، ولقد بقي بينه وبين ضرب العنق شبر، لكونه تفوّه بمثل هذا البهتان، فقام معه وشدّ متنه رئيس اصبهان محمد بن عبد الله بن حفص الهمداني الذكواني وخلّصه من أبي ليلى أمير إصبهان، وكان انتدب له بعض العلوية خصماً ونسبت إلى ابي بكر المقالة، وأقام عليه الشهادة محمد بن يحيى بن مندة الحافظ، ومحمد بن العباس الأخرم، وأحمد بن علي بن الجارود، واشتد الخطب، وأمر أبو ليلى بقتله، فوثب الذكواني وجرح الشهود مع جلالتهم، فنسب ابن مندة إلى العقوق، ونسب أحمد الى أنه يأكل الربا، وتكلم في آخر، وكان الهمداني الذكواني كبير الشأن، فقام وأخذ بيد أبي بكر وخرج به من الموت، فكان أبو بكر يدعو له طول حياته ويدعو على أولئك الشهود. حكاها أبو نعيم الحافظ ثم قال: فاستجيب له فيهم منهم من احترق، ومنهم من خلط وفقد عقله.
قال أحمد بن يوسف الأزرق: سمعت أبا بكر بن أبي داود يقول: كل الناس مني في حل إلّا من رماني ببغض علي -رضياللهعنه - قال الحافظ ابن عدي: كان في الابتداء ينسب إلى شيء من النصب، فنفاه ابن الفرات من بغداد فردّه ابن عيسى فحدّث وأظهر فضائل علي، ثم تحنبل فصار شيخاً فيهم.
قلت: كان شهماً قوي النفس، وقع بينه وبين ابن جرير وابن صاعد وبين الوزير الذي قرّبه»(١) .
أقول: في هذه الترجمة فوائد:
الأولى: أن ابن أبي داود كان مدلاً بنفسه ومتكبراً، شيخاً زيفاً وهذه صفات ذميمة كما لا يخفى على ناظر كتاب ( إحياء علوم الدين ) وغيره.
الثانية: أنه كان ناصبياً معادياً لأمير المؤمنين -عليهالسلام -، وقد روى حديثاً لا يرويه إلّا من كان كذلك.
الثالثة: أنه كان كثير الخطأ في الكلام على الحديث، كما قال الحافظ الدار قطني، وقد نقله عنه الذهبي في ( ميزان الاعتدال في نقد الرجال ) أيضاً.
الرابعة: أنه قد تكلّم فيه جماعة من كبار الأئمّة منهم أبوه.
الخامسة: أنه كان كذّاباً كما قال أبوه وابراهيم الاصفهاني.
السادسة: أنه كان مسلخاً من العلم كما قال البغوي.
ترجمة ابن صاعد
وابن صاعد البغدادي القائل: « كفانا ما قال فيه أبوه » من كبار الحفّاظ الثقات، وقد أنثى عليه كلّ من ترجم له، فقد قال الحافظ الذهبي في حوادث سنة ٣١٨:
« وفيها يحيى بن محمد بن صاعد، الحافظ الحجة، أبو محمد البغدادي مولى
___________________
(١). سير أعلام النبلاء ١٣ / ٢٢٩.
بني هاشم، في ذي القعدة وله تسعون سنة، عني بالأثر وجمع وصنّف وارتحل إلى الشام والعراق ومصر والحجاز، وروى عن مطين وطبقته.
وقال أبو علي النيسابوري: لم يكن بالعراق في أقران ابن صاعد في فهمه، والفهم عندنا أجلّ من الحفظ، وهو فوق أبي بكر بن أبي داود في الفهم والحفظ »(١) .
وقال أيضاً:
« حافظ بغداد يحيى بن محمد بن صاعد، وله تسعون سنة، قال أبو علي النيسابوري: هو عندنا فوق ابن أبي داود في الفهم والحفظ »(٢) .
وكذا قال اليافعي في تاريخه ( مرآة الجنان وعبرة اليقظان ) في حوادث السنّة المذكورة.
ترجمة إبراهيم الاصفهاني
وإبراهيم الاصفهاني الذي قال: « أبو بكر بن أبي داود كذّاب » من كبار الحفاظ كذلك، قال السمعاني:
« وأمّا أبو إسحاق إبراهيم بن أورمة بن سادس بن فروخ الحافظ الاصفهاني كان حافظاً مكثراً من الحديث، وكان يتعبّد ببغداد
روى عنه: أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، وإسماعيل بن أحمد ابن أصيب، ومحمد بن يحيى وغيرهم وتوفي ببغداد سنة ٢٧١. »(٣) .
وقال الذهبي في حوادث سنة ٢٦٦:
« وفيها مات إبراهيم بن أورمة أبو اسحاق الاصفهاني الحافظ أحد أذكياء
___________________
(١). العبر: حوادث سنة ٣١٨.
(٢). دول الاسلام: حوادث سنة ٣١٨.
(٣). الأنساب: الاصبهاني.
المحدثين »(١) .
وقال الذهبي أيضاً:
« ابراهيم بن أورمة الإِمام الحافظ البارع أبو اسحاق الاصبهاني مفيد الجماعة ببغداد قال الدارقطني: هو ثقة حافظ نبيل. وقال أبو الحسين ابن المنادي: ما رأينا في معناه مثله، وكان ينتخب على عباس الدوري. وقال أبو نعيم الحافظ: فاق إبراهيم أورمة أهل عصره في المعرفة والحفظ، وأقام بالعراق يكتبون عنه مدة بقائه.
قلت: لم ينتشر حديثه، لأنّه مات قبل محل الرواية »(٢) .
وهكذا ترجم له كلّ من:
الحافظ السيوطي في ( طبقات الحفاظ ).
واليافعي في ( مرآة الجنان وعبرة اليقظان ).
ترجمة البغوي
والبغوي الذي قال لما قرأ رقعة ابن أبي داود إليه: « أنت والله منسلخ من العلم » من كبار الحفاظ كذلك، قال السمعاني بترجمته ما ملخصه:
« وكان محدث العراق في عصره، عمَّر العمر الطويل حتى رحل الناس إليه وكتبوا عنه، وكان ثقة مكثراً، فهماً عارفاً بالحديث، سمع أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وعلي بن الجعد وخلف بن هشام ومحمد بن عبد الوهاب الحارثي.
روى عنه: يحيى بن محمد بن صاعد، وعلي بن إسحاق البحري، وابن قانع، وحبيب بن الحسن القزاز، وأبو بكر الجعابي، وابن حبان، وابن عدي وأبو بكر الاسماعيلي، وأبو القاسم الطبراني، وابن المقرئ، والدارقطني، ومحمد بن
___________________
(١). العبر: حوادث سنة ٢٦٦.
(٢). سير أعلام النبلاء ١٣ / ١٤٥.
المظفر، وخلق كثير سوى هؤلاء.
قال أبو الحسن الدارقطني: كان أبو القاسم ابن منيع قل ما يتكلّم على الحديث فإذا تكلّم كان كلامه كالمسمار في الساج.
وكانت ولادته سنة ٢١٣. ومات سنة ٣١٧ »(١) .
وقال الذهبي في حوادث سنة ٣١٧ ما ملخصه:
« وكان محدثاً حافظاً مجوداً مصنفاً، إنتهى إليه علو الاسناد في الدنيا »(٢) .
وقال الذهبي أيضاً في حوادث السنة المذكورة.
« وفيها مات مسند الدنيا المعمّر الحافظ المصنف، أبو القاسم عبد الله بن محمد البغوي ببغداد ليلة الفطر، وعمر مائة وأربع سنين »(٣) .
وقال السيوطي: « البغوي الحافظ الكبير الثقة، مسند العالم، أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز بن المرزبان البغوي الأصل البغدادي، ابن بنت أحمد ابن منيع، ولد في رمضان سنة ٢١٣، وسمع ابن الجعد، وأحمد، وابن المديني وخلقاً، وصنف: معجم الصحابة، والجعديات. وطال عمره وتفرّد في الدنيا.
قال ابن أبي حاتم: أبو القاسم يدخل في الصحيح. وقال الدارقطني: كان قلّ أن يتكلّم على الحديث، فاذا تكلّم كان كلامه كالمسمار في الساج، ثقة جليل إمام، أقل المشايخ خطأ. وقال الخطيب: حافظ عارف.
توفي ليلة عيد الفطر سنة ٣١٧ عن مائة وثلاث سنين »(٤) .
___________________
(١). الأنساب - البغوي.
(٢). العبر - حوادث سنة ٣١٧.
(٣). دول الاسلام - حوادث سنة ٣١٧. ٢ / ٨٦. ١٣ / ٣٦٤. ١٣ / ٣٦١. ١٣ / ٣٦٩.
(٤). طبقات الحفاظ / ٣١٢، وتاريخ الوفاة فيه: ٢١٤. وفيه بدل « الخطيب »، « الخليلي ».
الشهود على روايته الحديث الموضوع
وأمّا قصة الحديث الذي ذكره الذهبي ثم قال: « هذا باطل وإفك مبين » والذي كاد ابن أبي داود يقتل بسببه، فإن المقصود من « فلان » فيه، هو « أمير المؤمنين عليعليهالسلام »!! وقد شهد على تفوّه ابن أبي داود بهذا الإِفك المبين والبهتان العظيم ثلاثة من كبار الحفاظ:
١ - محمد بن يحيى بن مندة.
٢ - محمد بن العباس أبو جعفر الأخرم.
٣ - أحمد بن علي بن الجارود.
ترجمة ابن مندة
وابن مندة ذكره الحافظ الذهبي في حوادث سنة ٣٠١ قائلاً: « وفيها محمد ابن يحيى بن مندة الحافظ الامام أبو عبد الله الاصفهاني جد الحافظ الكبير محمد ابن اسحاق بن مندة، روى عن لوين وأبي كريب وخلق.
قال أبو الشيخ: كاد أستاذ شيوخنا وإمامهم. وقيل: إنه كان يجاري أحمد ابن الفرات الرازي وينازعه »(١) .
وكذا قال اليافعي بترجمته من تاريخه(٢) .
وقال الصلاح الصفدي: « محمد بن يحيى بن مندة - الحافظ المشهور أبو عبد الله صاحب تاريخ إصبهان، كان أحد الحفاظ الثقات، وهو من أهل بيت كبير خرج منهم جماعة من العلماء لم يكونوا عبديين، وإنما أم الحافظ أبي عبد الله المذكور كانت من عبد ياليل »(٣)
___________________
(١). العبر - حوادث سنة ٣٠١.
(٢). مرآة الجنان: حوادث سنة ٣٠١.
(٣). الوافي بالوفيات ٥ / ١٨٩.
وترجم له السيوطي في طبقاته ووصفه بالحافظ الرحّال(١) .
ترجمة الأخرم
وقال السيوطي بترجمة أبي جعفر الأخرم:
« ابن الأخرم الحافظ الامام أبو جعفر محمد بن العباس بن أيوب الاصبهاني ثقة محدّث حافظ. مات سنة ٣٠١ »(٢) .
وقال الذهبي في حوادث السنة المذكورة:
« وفيها الحافظ أبو جعفر محمد بن العباس بن الأخرم الاصفهاني الفقيه، روى عن أبي كريب وخلق »(٣) .
الطبري وابن أبي داود
وكما ثبت نصب ابن أبي داود وعداوته لأمير المؤمنين -عليهالسلام - من كلام هؤلاء الأعلام وشهادتهم، كذلك ثبت من كلام محمد بن جرير الطبري فقد قال الحافظ الذهبي ما نصه: « وقال محمد بن عبد الله القطّان: كنت عند محمد بن جرير، فقال رجل: ابن أبي داود يقرأ على الناس فضائل علي -رضياللهعنه - فقال ابن جرير: تكبيرة من حارس »(٤) .
وذكر الذهبي كلام الطبري هذا في ( سير أعلام النبلاء ) أيضاً إلّا أنّه تعقّبه هناك بقوله: « قلت: لا يسمع هذا من ابن جرير للعداوة الواقعة بين الشيخين ».
أقول: ولكن ابن جرير - صاحب المذهب المستقل والامام المعتمد لدى أهل السنة قاطبة، حتى لقد فضّله وقدّمه ابن تيمية في منهاجه على الامامين
___________________
(١). طبقات الحفاظ: ٣١٣.
(٢). طبقات الحفاظ: ٣١٥.
(٣). العبر - حوادث سنة ٣٠٢.
(٤). ميزان الاعتدال ٢ / ٤٣٣.
العسكريينعليهماالسلام ، كما قد اعتمد عليه الذهبي نفسه في أمور مهمة جداً - أجل من أن يطعن في رجل وينسبه إلى أمر فظيع ومذهب شنيع تبعاً لهواه وبدافع العداوة والبغضاء.
دفاع الذهبي
ثم إن الذهبي شكك في تكلّم أبي داود في ابنه وحاول توجيهه، فقال بعد كلامه السابق:
« قلت: لعل قول أبيه فيه - إنْ صح - أراد الكذب في لهجته لا في الحديث وأنه حجة فيما ينقله، أو كان يكذب ويورّي في كلامه. ومن زعم أنه لا يكذب فهو أرعن، نسأل الله تعالى السلامة من عثرة السيئات.
ثم إنه شاخ وارعوى ولزم الصدق والتقى ».
أقول: لكن هذا التشكيك مندفع بما نقله هو في ( ميزان الاعتدال ) عن ابن عدي وابن صاعد.
وأما تأويله، فنقول: إنْ لم يكن ابن أبي داود كاذباً في حديثه وفيما ينقله - على ما زعم - فإنّ مجرد كذبه في لهجته يكفي لاثبات فسقه وعدم جواز الاعتماد على روايته.
ثم إن التورية، إن كانت جائزة فالقول بأنّه « كذب » غير صحيح، وإنْ لم تكن جائزة فلا جدوى لهذا التأويل، إذ تكون التورية والكذب حينئذٍ على حدٍ سواء.
وأمّا قوله: « ثمّ إنه شاخ وارعوى ولزم الصدق والتقى » فاعتراف منه بكونه « كاذباً » ومرتكباً لهذه الصفة القبيحة والذنب الكبير
هذا، وكأن الذهبي قد شعر بعدم ترتب فائدة على هذه التأولات، فلم يذكرها بترجمة ابن أبي داود في ( ميزان الاعتدال في نقد الرجال ).
كما لم يتعرّض الحافظ ابن حجر في ( لسان الميزان ) للذبّ عن ابن أبي داود
بهذه الوجوه السخيفة.
والجدير بالذكر اعتراف الذهبي برداءة بعض عبارات ابن أبي داود، ونحوسة بعض كلماته بالنسبة إلى فضيلة من فضائل مولانا أمير المؤمنينعليهالسلام ، وهو « حديث الطير » فقد قال في ( سير أعلام النبلاء ).
« قال أبو أحمد ابن عدي: سمعت علي بن عبد الله الداهري يقول: سألت ابن أبي داود عن حديث الطير فقال: إنْ صح حديث الطير، فنبوة النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - باطلة، لأنّه حكى عن حاجب النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم خيانة - يعني أنساً - وحاجب النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم لا يكون خائناً.
قلت: هذه عبارة ردية وكلام نحس، بل نبوة محمد -صلىاللهعليهوآلهوسلم - حق قطعي إنْ صح خبر الطير وإنْ لا يصح، وما وجه الارتباط؟
هذا أنس قد خدم النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - قبل جريان القلم، فيجوز أن تكون قصة الطائر في تلك المدة، فرضنا أنه كان محتلماً، ما هو بمعصوم من الخيانة، بل فعل هذه الخيانة متأوّلاً، ثم إنه حبس علياً عن الدخول كما قيل، فكان ما ذا؟ والدعوة النبوية قد نفذت واستجيبت، فلو حبسه أو ردّه مرّات ما بقي يتصوّر أن يدخل ويأكل مع المصطفى سواه، أللهمَّ أن يكون النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - قصد بقوله: « ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي » عدداً من الخيار يصدق على مجموعهم أنهم أحبّ الناس إلى الله، فنقول: الصدّيقون والانبياء، فيقال: فمن أحب الأنبياء كلهم إلى الله تعالى؟ فنقول: محمد وإبراهيم وموسى، والخطب في ذلك يسير.
وأبو لبابة - مع جلالته - بدت منه خيانة، حيث أشار لبني قريظة الى خيانة وتاب الله عليه. وحاطب بدت منه خيانة فكاتب قريشاً بأمر يخفي به نبي الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - من غزوهم. وغفر الله لحاطب مع عظم فعلهرضياللهعنه .
وحديث الطّير - على ضعفه - فله طرق جمة، وقد أفردتها في جزء ولم يثبت،
ولا أنا بالمعتقد بطلانه، وقد أخطأ ابن أبي داود في عبارته وقوله، وله على خطئه أجر واحد، وليس من شرط الثقة أن لا يخطئ ولا يغلط ولا يسهو، والرجل فمن كبار علماء الاسلام، ومن أوثق الحافظ -رحمه الله تعالى.
قال ابنه عبد الأعلى: توفي أبي وله ست وثمانون سنة وأشهر ».
تكملة
وقد روى ابن أبي داود حديثاً موضوعاً في فضائل السور وهو يعلم أنّه موضوع، قال ابن الجوزي بعد أن ذكره وبيّن كونه موضوعاً:
« وإنّما عجبت من ابي بكر ابن أبي داود كيف فرّقه - يعني هذا الحديث - على كتابه الذي صنّفه في فضائل القرآن، وهو يعلم أنّه حديث محال.
ولكن شره بذلك جمهور المحدّثين، فإنّ من عادتهم تنفيق حديثهم ولو بالبواطيل، وهذا قبيح منهم، لأنّه قد صحّ عن رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم أنه قال: من حدّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين »(١) .
وقال السيوطي: « وإنّما عجبت من أبي بكر ابن أبي داود كيف أورده في كتابه الذي صنّفه في فضائل القرآن، وهو يعلم أنّه حديث محال مصنوع بلا شك، ولكن إنما حمله على ذلك الشره»(٢) .
أقول: وكأنّ السيوطي استحيا من أن يذكر الحديث الذي ذكره ابن الجوزي في ذيل كلامه، فاكتفى بهذا القدر في التشنيع على ابن أبي داود.
ولكن الأحاديث في ذم رواية الأكاذيب مع العلم بكذبها كثيرة، قال مسلم ابن الحجاج:
« ودلّت السنة على نفي رواية المنكر من الأخبار، كنحو دلالة القرآن على
___________________
(١). الموضوعات ١ / ٢٤٠.
(٢). الللالئ المصنوعة ١ / ٢٢٧.
نفي خبر الفاسق، وهوالأثر المشهور عن رسول الله - صلىاللهعليهوآلهوسلم -: من حدّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين.
و أيضاً فيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم -:
كفى بالمرء كذباً أن يحدّث بكلّ ما سمع »(١) .
وقال النووي - بشرح قولهصلىاللهعليهوآلهوسلم - « من كذب عليّ متعمّداً فليتبوأ مقعده من النار » -:
« فيه تحريم رواية الحديث الموضوع على من عرف كونه موضوعاً أو غلب على ظنه وضعه. فمن روى حديثاً علم أو ظنّ وضعه فهو داخل في هذا الوعيد، مدرج [ مندرج ] في جملة الكاذبين على رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - ويدل عليه أيضاً الحديث السابق: من حدّث عني بحديث يرى أنه كذب، فهو أحد الكاذبين »(٢) .
___________________
(١). صحيح مسلم ١ / ٧.
(٢). المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج ١ / ١٠٠.
هـ - كان يلقي نفسه بين الصبيان: قال ابن قتيبة: « روى عفان، عن حمّاد ابن سلمة، عن ثابت، عن أبي رافع، قال: كان مروان ربما استخلف أبا هريرة على المدينة، فيركب حماراً قد شدّ عليه برذعه وفي رأسه حبل من ليف، فيسير فيلقى الرجل فيقول: الطريق الطريق، قد جاء الأمير.
وربما أتى الصبيان وهم يلعبون باللّيل لعبة الغراب، فلا يشعرون بشيء حتى يلقي نفسه بينهم ويضرب برجليه فيفزع الصبيان فيتفرقون [ فيفرون ].
وربما دعاني إلى عشائه بالليل فيقول: [ أ ] دع العراق للأمير، فأنظر فاذا هو ثريد بزيت »(١) .
وقال ابن كثير: « وقال حمّاد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي رافع: كان مروان ربما استخلف أبا هريرة على المدينة، فيركب الحمار ويلقى الرجل فيقول: الطريق، قد جاء الأمير - يعني نفسه -، وكان يمرّ بالصبيان وهم يلعبون بالليل لعبة الغراب وهو أمير، فلا يشعرون إلّا وقد ألقى نفسه بينهم ويضرب برجليه، كأنه مجنون، يريد بذلك أن يضحكهم، فيفزع الصبيان منه ويفرّون عنه هاهنا وهاهنا يتضاحكون »(٢) .
و - كان يعجبه أكل المضيرة عند معاوية: قال جار الله محمود الزمخشري: « أبو رافع: كان أبو هريرة ربّما دعاني إلى عشائه فيقول: أدع العراق للأمير، فأنظر فاذا هو ثريد، وكان يقول: التمر أمان من القولنج، وشرب العسل على الرّيق أمان من الفالج، وأكل السفرجل يحسّن اللون والولد، وأكل الرمان يصلح الكبد، والزبيب يشد العصب ويذهب الوصب والنصب، والكرفس يقوي المعدة ويطيّب النكهة، والعدس يرقّ القلب ويذرف الدمعة، والقرع يزيد في اللب ويرق البشر، وأطيب اللحم الكتف وحواشي فقار الظهر.
___________________
(١). المعارف ٢٧٨.
(٢). تاريخ ابن كثير ٨ / ١١٣.
وكان يديم الهريسة والفالوذجة ويقول: هما مادة الولد. وكان تعجبه المضيرة كثيراً فيأكلها مع معاوية. واذا حضرت الصلاة صلى خلف علي -رضياللهعنه - فاذا قيل له قال: مضيرة معاوية أدسم وأطيب، والصلاة خلف علي أفضل، فكان يقال له: شيخ المضيرة »(١) .
وقال الزمخشري أيضاً: « كان أبو هريرة يقول: أللهم ارزقني ضرساً طحوناً ومعدة هضوماً ودبراً نثوراً »(٢) .
أقول: وكلّ هذا يدل على شره أبي هريرة وجشعه وميله إلى الدنيا وأهلها ولذاتها، وهذه الخصال لا تجتمع مع الزهادة والورع والعدالة.
ز - كان يعادي علياً ويوالي عدوه: والشواهد على ذلك كثيرة جداً
٧. نظرات في سند الحديث
وبعد، فإنّ من شرط المعارضة صلاحيّة الحديث الذي يقصد جعله معارضاً من جميع الجهات لهذا الغرض. ومع الغض عن الوجوه المذكورة حول هذا الحديث المزعوم، فإنّ هذا الحديث مخدوش في نفسه من حيث السند، ونحن نوضّح ذلك فيما يلي:
١ - في طريق الحديث: « سفيان الثوري ».
إنّ في طريق هذا الحديث « سفيان الثوري »، قال البخاري: « حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن هرمز عن أبي هريرة، قال: قال النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم -: قريش والأنصار وجهينة ومزينة واسلم وغفار وأشجع مواليّ، ليس لهم مولى دون الله ورسوله »(٣) .
___________________
(١). ربيع الأبرار ٢ / ٧٠٠.
(٢). نفس المصدر ٢ / ٦٨٠.
(٣). صحيح البخاري ٤ / ٢٢٠.
وقال مسلم: « حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبي، حدثنا سفيان عن سعد بن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة »(١) .
إعتراض الثوري على إمام أهل البيت
ولم تكن بين « الثوري » و « الامام الصادقعليهالسلام » أية صلة من صلات المودة والمحبة، بل لقد اعترض على الامامعليهالسلام في أبسط الأشياء وهو الامام المعصوم من الزلل والمأمون من الفتن، هو من أهل بيت دلّ الكتاب والسنّة على عصمتهم ووجوب متابعتهم ومحبتهم
وقد روي اعتراض الثوري على سادس أئمّة أهل البيتعليهمالسلام إذ دخل عليه فرأى عليه جبّةً من خز فقال: « ليس هذا من لباسك »، ولم يعلم المسكين أن الامامعليهالسلام كان قد لبس تحته ثوباً من شعر خشن. أما الامام فكان يعلم أن الثوري كان قد لبس تحت جبته الخشنة قميصاً أرق من بياض البيض « فخجل سفيان » ثم قال له: « يا ثوري لا تكثر الدخول علينا تضرنا ونضرك ».
هذا هو الثوري الصوفي الزاهد!؟ وهذه سيرته مع إمام أئمّة الدنيا علماً وعملاً ونحن لا نعتمد على رواية هكذا انسان ولا نستدل بحديثه إلّا من باب الإِلزام
و قد روى قصته مع الامام الصادقعليهالسلام جمع من علماء أهل السنة الأعلام، قال الشعراني بترجمة الامام: « ودخل عليه الثوري -رضياللهعنه - فرأى عليه جبة من خز، فقال له: إنكم من بيت النبوة تلبسون هذا؟ فقال: ما تدري؟ أدخل يدك، فإذا تحته مسح من شعر خشن. ثم قال: يا ثوري أرني ما تحت جبّتك، فوجد تحتها قميصاً أرق من بياض البيض. فخجل سفيان. ثم قال: يا
___________________
(١). صحيح مسلم ٧ / ١٧٨.
ثوري لا تكثر الدخول علينا تضرّنا ونضرّك » (١) .
و روى أبو نعيم الحافظ والحافظ الذهبي(٢) وابن طلحة(٣) - واللفظ للأول -: « حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد الغطريفي، ثنا محمد بن أحمد بن مكرم الضبي، ثنا علي بن عبد الحميد، ثنا موسى بن مسعود، ثنا سفيان الثوري، قال: دخلت على جعفر بن محمد وعليه جبّة خز [ دكناء ] وكساء خز أندجاني [ ايراجاني ]، فجعلت أنظر إليه تعجباً [ معجباً ] فقال لي: يا ثوري مالك تنظر الينا، لعلك تعجبت مما ترى [ رأيت ]؟ قال: قلت: يا ابن رسول الله! ليس هذا من لباسك ولا لباس آبائك. فقال لي: يا ثوري كان ذلك زماناً مقفراً مقتراً، وكانوا يعملون على قدر إقفاره وإقتاره.
و هذا زمان قد أسبل [ أقبل ] كل شيء فيه عز اليه. ثم حسر عن ردن جبته فاذا تحتها [ جبة] صوف بيضاء يقصر الذيل عن الذيل والردن عن الردن. فقال لي: يا ثوري لبسنا هذا لله، وهذا لكم. فما كان لله [ تعالى ] أخفيناه وما كان لكم أبديناه »(٤) .
و روى أبو نعيم أيضاً: « حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر، ثنا محمد بن العباس، حدثني محمد بن عبد الرحمن بن غزوان، حدثني مالك بن أنس، عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، قال: لما قال سفيان الثوري: لا أقوم حتى تحدثني. قال جعفر [ قال له ]: أما إني أحدّثك وما كثرة الحديث لك بخير يا سفيان »(٥) .
و روى سبط ابن الجوزي: « أخبرنا أبو اليمن اللغوي، أنبأ القزاز، أنبأ
___________________
(١). لواقح الأنوار في طبقات الاخيار ١ / ٣٢.
(٢). تذهيب التهذيب - مخطوط.
(٣). مطالب السئول: ٥٦.
(٤). حلية الأولياء ٣ / ١٩٣.
(٥). المصدر ٣ / ١٩٣.
الخطيب، أنبأ أبو بكر البرقاني، أنبأ أحمد بن إبراهيم الاسماعيلي، عن محمد بن أبي القاسم السمناني، عن الخليل بن محمد الثقفي، عن عيسى بن جعفر القاضي، عن أبي حازم المدني، قال: كنت عند جعفر بن محمد، فجاء سفيان الثوري، فقال له جعفر: أنت رجل يطلبك السلطان وأنا أتّقي السلطان. فقال سفيان: حدثني حتى أقوم » (١) .
و روى ابن الصباغ المالكي(٢) والعيدروس(٣) - واللفظ للأول -:
« قال ابن أبي حازم: كنت عند جعفر الصادق إذ جاء الآذن فقال: سفيان الثوري بالباب. فقال: ائذن له. فدخل فقال له جعفر: يا سفيان! إنك رجل يطلبك السلطان في أكثر الأحيان وتحضر عنده، وأنا أتّقي السلطان، فاخرج عني غير مطرود »
كان الثوري يدلّس
ومما ذكروا عن « الثوري » أنه كان يدلس عن الضعفاء، قال الذهبي بترجمته:
« سفيان بن سعيد الحجة الثبت المتفق عليه، مع أنه كان يدلّس عن الضعفاء، ولكن كان له نقد وذوق، ولا عبرة بقول من قال: كان يدلّس ويكتب عن الكذّابين »(٤) .
وقال ابن حجر الحافظ: « وقال ابن المبارك: حدثته - يعني الثوري - بحديث، فجئته وهو يدلّسه، فلما رآني استحيا وقال: نرويه عنك »(٥) .
___________________
(١). تذكرة خواص الأمة: ٣٤٢.
(٢). الفصول المهمة في معرفة الأئمة: ٢٢٣.
(٣). العقد النبوي والسر المصطفوي: ٧٢.
(٤). ميزان الاعتدال في نقد الرجال ٢ / ١٦٩.
(٥). تهذيب التهذيب: ترجمته ٤ / ١١٥.
وقال:
« سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الكوفي ثقة حافظ فقيه عابد إمام حجة من رؤوس الطبقة السابعة، وكان ربما دلّس. مات سنة إحدى وستين وله أربع وستّون »(١) .
وذكره ابراهيم بن محمد سبط ابن العجمي المكي في المدلّسين قائلاً: « سفيان الثوري مشهور به »(٢) .
وقال السيوطي بشرح قول النووي: « النوع الثامن عشر - في التدليس. وهو قسمان، الأول تدليس الاسناد، يروي عمن عاصره ما لم يسمعه منه موهماً سماعه قائلاً: قال فلان أو عن فلان. ونحوه. وربما لم يسقط شيخه وأسقط غيره ضعيفاً أو صغيراً تحسينا للحديث ».
قال السيوطي بشرح قوله: « وربما لم يسقط »
« وهذا من زوائد المصنّف على ابن الصلاح وهو قسم آخر من التدليس يسمى تدليس التسوية، سماه بذلك ابن القطان، وهو شر أقسامه، لأنّ الثقة الأول قد لا يكون معروفاً بالتدليس ويجده الواقف على المسند كذلك بعد التسوية قد رواه عن ثقة، فيحكم له بالصحة وفيه غرور شديد
قال الخطيب: وكان الأعمش وسفيان الثوري يفعلون مثل هذا. قال العلائي: وبالجملة فهذا النوع أفحش أنواع التدليس مطلقاً وأشرّها، قال العراقي: وهو قادح فيمن تعمّد فعله، وقال شيخ الاسلام: لا شك أنه جرح وإنْ وصف به الثوري والأعمش، فالاعتذار أنهما لا يفعلانه إلّا في حق من يكون ثقة عندهما ضعيفاً عند غيرهما »(٣) .
___________________
(١). تقريب التهذيب ١ / ٣١١.
(٢). التبيين لأسماء المدلسين.
(٣). تدريب الراوي بشرح تقريب النواوي ١ / ٢٢٤.
وقال علي القاري في ( نزهة النظر ): « قال الشيخ شمس الدين محمد الجزري وربما لم يسقط المدّلس شيخه، لكن يسقط من بعده رجلاً ضعيفاً وصغير السن يحسّن الحديث بذلك، وكان الأعمش والثوري وابن عيينة وابن اسحاق وغيرهم يفعلون هذا النوع ».
حرمة التدليس وشناعته
ولقد علم مما سلف « أن التدليس قادح في من تعمّد فعله » و « أنّه جرح ». وقال القاري بعد كلامه المتقدم نقله: « وهذا القسم من التدليس مكروه جداً، فاعله مذموم عند أكثر العلماء، ومن عرف به فهو مجروح عند جماعة لا تقبل روايته، بيّن السماع أو لم يبيّنه ».
وكذا قال ابن جماعة الكناني
وقال السيوطي بعد تقسيم التدليس:
« أما القسم الأول فمكروه جدّاً ذمه أكثر العلماء، وبالغ شعبة في ذمه فقال: لئن أزني أحب إليّ من أن أدلّس. وقال: التدليس أخو الكذب »(١) .
وقال السيوطي أيضاً: « ( ثم قال فريق منهم ) من أهل الحديث والفقهاء ( من عرف به ) يعني بتدليس الاسناد ( صار مجروحاً ) مردود الرواية ( مطلقاً ) وانْ بيّن السماع »(٢) .
أقول: فيجب التوقف في روايات الثوري، بل مفاد بعض الكلمات سقوطها مطلقاً.
٢ - نسبة البخاري الحديث إلى يعقوب بن إبراهيم
واعلم أن البخاري نسب رواية هذا الحديث إلى يعقوب بن إبراهيم أيضاً،
___________________
(١). تدريب الراوي ١ / ٢٢٨.
(٢). المصدر نفسه ١ / ٢٢٩.
فإنّه قال:
« حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن سعد.
أبو عبد الله: وقال يعقوب بن ابراهيم: حدثنا أبي، عن أبيه، قال: حدثني عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم -: قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأسلم وأشجع وغفار موالي ليس لهم مولى دون الله ورسوله »(١) .
ولكن أبا مسعود الدمشقي كذّب هذه النسبة، وأفاد بأن رواية يعقوب تخالف رواية سفيان، لأن يعقوب إنما رواه عن أبيه، عن صالح بن كيسان، عن الأعرج، عن أبي هريرة بلفظ: غفار وأسلم ومزينة ومن كان من جهينة خير عند الله من أسد وطي وغطفان، كذا أخرجه مسلم(٢) .
هذا بالاضافة إلى ما جاء بترجمة إبراهيم بن سعد - والد يعقوب - من تكلّم جماعة فيه، فقد قال الحافظ ابن حجر العسقلاني:
« وذكر ابن عدي في الكامل عن عبد الله بن أحمد، سمعت أبي يقول: ذكر عند يحيى بن سعيد عقيل وابراهيم بن سعد، فجعل كأنه يضعّفهما. يقول:
عقيل وابراهيم! ثم قال أبي: إيش ينفع هذا، هؤلاء ثقات لم يجدهما [ يخبرهما ] يحيى.
و عن أبي داود السجستاني: سمعت أحمد، سئل عن حديث إبراهيم بن سعد عن أبيه، عن أنس مرفوعاً: الأئمّة من قريش، فقال: ليس هذا في كتب إبراهيم ابن سعد، لا ينبغي أن يكون له أصل.
قلت: رواه جماعة عن إبراهيم.
ونقل الخطيب: أن إبراهيم كان يجيز الغناء بالعود ووليّ قضاء المدينة.
___________________
(١). صحيح البخاري ٤ / ٢١٨.
(٢). أطراف الصحيحين - مخطوط. وأبو مسعود الدمشقي: ابراهيم بن محمد بن عبيد الحافظ. توجد ترجمته في طبقات الحفاظ / ٤٢٦.
وقال ابن عيينة: كنت عند ابن شهاب، فجاء ابراهيم بن سعد فرفعه وأكرمه وقال: إنّ سعداً وصّاني بابنه سعد، وسعد سعد.
وقال ابن عدي: هو من ثقات المسلمين حدّث عنه جماعة من الأئمّة ولم يختلف أحد في الكتابة عنه، وقول من تكلم فيه تحامل، وله أحاديث صالحة مستقيمة عن الزهري وغيره »(١) .
٣ - في طريقه « سعد بن إبراهيم »
وفي طريق الحديث الذي استدل به الفخر الرازي « سعد بن ابراهيم » وقد ذكر علماء الرجال ترك مالك بن أنس الرواية عن سعد قال الحافظ ابن حجر: « وقال الساجي: ثقة أجمع أهل العلم على صدقه والرواية عنه إلّا مالك، وقد روى مالك عن عبيد الله بن إدريس، عن سعيد، عن سعد بن إبراهيم، فصحّ باتّفاقهم أنه حجة.
ويقال: إن سعداً وعظ مالكاً فوجد عليه فلم يرو عنه.
حدثني أحمد بن محمد: سمعت أحمد بن حنبل يقول: سعد ثقة، فقيل له: إنّ مالكاً لا يحدّث عنه، فقال: من يلتفت إلى هذا؟ سعد ثقة رجل صالح.
ثنا أحمد بن محمد، سمعت المطيعي يقول لابن معين: كان مالك يتكلّم في سعد سيد من سادات قريش، ويروي عن ثور وداود بن الحصين خارجيين خسيسين [ خبيثين ].
قال الساجي: ومالك إنما ترك الرواية عنه، فإما أن يكون يتكلّم فيه فلا أحفظه، وقد روى عنه الثقات والله [ والأئمّة و ] كان ديّنا عفيفا.
وقال أحمد بن البرقي: سألت يحيى عن قول بعض الناس في سعد أنه كان يرى القدر وترك مالك الرواية عنه، فقال: لم يكن يرى القدر، وإنما ترك مالك
___________________
(١). تهذيب التهذيب ١ / ١٢٢ - ١٢٣.
الرواية عنه، لأنّه تكلّم في نسب مالك، فكان مالك لا يروي عنه، وهو ثبت لا شك فيه »(١) .
٨. هذا الحديث مرويّ بالمعنى
والظاهر - على تقدير صحة الحديث - أن أبا هريرة قد نقله بالمعنى، فأضاف إليه لفظتي « ليس » و « دون » الدالّين على الحصر، نظير ما زعمه ابن حجر المكي في ( صواعقه ) بالنسبة إلى حديث الغدير، والكابلي في ( صواقعه ) و ( الدهلوي ) في ( تحفته ) بالنسبة إلى حديث ابن عباس في معنى آية المودة.
ويؤكّد ما ذكرنا من عدم وجود اللفظين في أصل الحديث، ما أخرجه مسلم بطريق آخر، حيث قال: « حدثني زهير بن حرب، نا يزيد - هو ابن هارون - أنا أبو مالك الأشجعي، عن موسى بن طلحة، عن أبي أيوب، قال: قال رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم -: الأنصار ومزينة وجهينة وغفار وأشجع ومن كان من بني عبد الله موالي دون الناس، والله ورسوله مولاهم »(٢) .
٩. قيل: « انما » قد لا تدل على الحصر
لقد زعم غير واحد من علماء أهل السنة ومحققيهم كالتفتازاني في ( شرح المقاصد ) والقوشجي في ( شرح التجريد ) و ( الدهلوي ) في ( التحفة ) في الجواب عن الاستدلال الشيعة بآية الولاية:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ ) زعموا أنّ أداة الحصر إنما يكون نفياً لما وقع فيه تردد ونزاع
فنقول: وهل كان في ولاية الله ورسوله لهذه القبائل تردد ونزاع حتى يحتاج إلى أداة الحصر؟ كلا اللهم كلا
___________________
(١). تهذيب التهذيب ٣ / ٤٤٦ - ٤٦٥.
(٢). صحيح مسلم ٧ / ١٧٨.
وهذا أدل دليل على بطلان الحديث الذي تمسك به الفخر الرازي، وعلى بطلان استدلاله به على فرض صحته
بل زعم الرازي نفسه أن أداة الحصر قد لا تدل على الحصر، فقد قال في تفسير آية الولاية الدالة على إمامة علي -عليهالسلام -:
« أما الوجه [ الأول ] الذي عوّلوا عليه وهو: إن الولاية المذكورة في الآية غير عامة، والولاية بمعنى النصرة عامة، فجوابه من وجهين:
الأول: لا نسلّم أن الولاية المذكورة في الآية غير عامة، ولا نسلم أنّ كلمة « إنما » للحصر، والدليل عليه قوله تعالى:( إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ) ولا شك أن الحياة الدنيا لها أمثال أخرى سوى هذا المثل »(١) .
أقول: ولو تم ما ذكره الرازي حول هذه الآية، لأمكننا القول بعدم دلالة « ليس » و « دون » المذكورين في الحديث المزعوم على الحصر، وحينئذٍ يمتنع معارضة حديث الغدير المتواتر بهذا الحديث.
١٠. لا تنافي بين الحديثين
ومع التنزل عن جميع ما تقدم من وجوه الجواب عن حديث أبي هريرة نقول: كيف يعارض حديث الغدير بهذا الحديث ولا تنافي بينهما!؟
وبيان ذلك: إن الفقرة الأولى من الحديث تفيد كون هذه القبائل موالي لرسول اللهصلىاللهعليهوآلهوسلم - بأيّ معنى كان من المعاني - وذلك لا ينافي ولاية أمير المؤمنين، عليه الصلاة والسلام.
وأما الفقرة الثانية - والظاهر أنها - محل الاستدلال لوجود أداة الحصر فكالفقرة الأولى، لأنّ المراد من ولاية الله ورسوله إنْ كان ما عدا التصرف في الأمور فلا تناقض بين حديث أبي هريرة وحديث الغدير، إذ أنّ معنى « مولى » في
___________________
(١). التفسير الكبير ١٢ / ٣٠.
حديث الغدير ليس إلّا « الأولى بالتصرف » أو « المتصرف في الأمور » وليس هذا المعنى في حديث أبي هريرة.
وإن كان المراد: الأولوية في التصرف، فهي محصورة في الله ورسوله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - دون غيرهما، فالحديث يعارض حديث الغدير، فنقول: إنه - بالاضافة إلى الاعتراف الضمني بكون « مولى » في حديث الغدير بمعنى « الأولى بالتصرف » وهو المطلوب - يستلزم بمقتضى الحصر عدم كون أمير المؤمنين -عليهالسلام - وليّاً وإماماً في وقت من الأوقات، وهذا يخالف إجماع المسلمين، بل يستلزم بطلان خلافة الخلفاء أيضاً، ولكنهم لا يرتضون بذلك.
فالحديث إذاً لا ينافي حديث الغدير في مدلوله.
والحل التحقيقي لحديث أبي هريرة - على فرض صحته باللفظ المذكور - هو: احتمال أن يكون المراد نفي ولاية غير الله ورسوله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - على هذه القبائل في حياة النبيصلىاللهعليهوآلهوسلم .
وأما حديث الغدير، فيدل على استقرار ولاية علي -عليهالسلام - بعد رسول الله - صلّى الله عليهما وآلهما - مباشرة كما سيأتي شرح ذلك فيما بعد، إن شاء الله تعالى.
(٨)
الردّ على أنه
« لم يكن علي مع النّبي »
وقول الفخر الرازي: « ولم يكن علي مع النبي في ذلك الوقت فانه كان باليمن ».
من أعاجيب الأكاذيب، يترفّع عن التفوّه به أقل الطلبة فضلاً عن أكابر أهل العلم فإنّ رجوع الامام أمير المؤمنين من اليمن وموافاته النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - في حجة الوداع، مما ثبت بالأحاديث الصحيحة وتحقق في التواريخ المعتبرة والآثار المشهورة:
قال البخاري: « حدثنا الحسن بن علي الخلال الهذلي، قال: حدثنا سليم ابن حيان قال: سمعت مروان الأصغر، عن أنس بن مالك، قال: قدم علي على النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - من اليمن، فقال: بم أحللت؟ قال بما حل به النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - لو لا أن معي الهدي لأحللت »(١) .
و قال مسلم: « وقدم علي من اليمن ببدن النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - فوجد فاطمة ممن حل ولبست ثياباً صبيغاً واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت إن أبي أمرني بهذا »(٢) .
___________________
(١). صحيح البخاري ٢ / ١٧٢.
(٢). صحيح مسلم ٤ / ٤٠.
وقال ابن ماجة: « وقدم علي ببدن على النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - فوجد فاطمة ممن حل ولبست ثياباً صبيغاً »(١) .
وقال أبو داود: « وقدم علي من اليمن ببدن النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - »(٢) .
و قال الترمذي: « عن أنس بن مالك: إنّ عليّاً قدم على رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - من اليمن، فقال: بما أحللت »(٣) .
و قال النسائي: « أخبرني أحمد بن محمد بن جعفر، قال: حدثني يحيى بن معين، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، عن البراء، قال: كنت مع علي حين أمّره النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - على اليمن فأصبت عليه [ معه ] أواقي. فلما قدم علي على النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - قال [ علي ]: وجدت فاطمة قد نضحت البيت »(٤) .
هذا، وقال ابن حجر المكي حول حديث الغدير:
« ولا التفات لمن قدح في صحته، ولا لمن ردّه بأن عليّاً كان باليمن، لثبوت رجوعه منها وإدراكه الحج مع النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - »(٥) .
وقال القاري: « وأبعد من ردّه بأن عليّاً كان باليمن، لثبوت رجوعه منها وإدراكه الحج مع النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - »(٦) .
ولا يخفى أنه لو فرضنا عدم رجوعهعليهالسلام من اليمن عند خطبة النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - بغدير خم، فانه غير قادح في صحة حديث الغدير
___________________
(١). سنن ابن ماجة ٢ / ١٠٢٤.
(٢). سنن أبي داود ٢ / ١٥٨.
(٣). سنن الترمذي ٢ / ٢١٦.
(٤). سنن النسائي ٥ / ١٥٧.
(٥). الصواعق المحرقة ٢٥.
(٦). المرقاة في شرح المشكاة ٥ / ٥٧٤.
(٦)
عدم رواية أبي حاتم حديث الغدير
وأمّا تمسك الرازي بعدم إخراج أبي حاتم حديث الغدير، أو قدحه فيه، فالجواب عنه بوجوه:
١. أبو حاتم متعنت
إن قدح أبي حاتم في حديث الغدير - إنْ ثبت - دليل آخر من أدلة تعنّته في الرجال، وبرهان على عداوته لأمير المؤمنين - عليه الصلاة والسلام - وتعصّبه الشّديد تجاه فضائله ومناقبه الثابتة بالتواتر
ولقد نص على تعنّت أبي حاتم، وأنه كان كثير الجرح في الرواة بدون تورّع وبغير دليل، جميع علماء الرجال وأئمّة الجرح والتعديل وإليك بعض الشواهد على ذلك:
قال الذهبي بترجمة أبي حاتم: « إذا وثّق أبو حاتم رجلاً فتمسك بقوله، فإنه لا يوثق إلّا رجلاً صحيح الحديث، وإذا ليّن رجلاً أو قال فيه: لا نحتج به فلا، توقّف حتى ترى ما قال غيره فيه، وإنْ وثّقه أحد فلا تبن على تجريح أبي حاتم، فإنه متعنّت في الرجال، قد قال في طائفة من رجال الصحاح: ليس بحجة، ليس بقوي، أو نحو ذلك »(١) .
___________________
(١). سير أعلام النبلاء ١٣ / ٢٦٠.
وقال الذهبي بترجمة أبي زرعة الرازي: « يعجبني كثيراً كلام أبي زرعة في الجرح والتعديل يبين عليه الورع والخبرة، بخلاف رفيقه أبي حاتم فإنّه جراح »(١) .
وقال الذهبي بترجمة أبي ثور الكلبي: « إبراهيم بن خالد أبو ثور الكلبي، أحد الفقهاء الأعلام، وثّقه النسائي والناس، وأما أبو حاتم فتعنت وقال: يتكلّم بالرأي فيخطئ ويصيب، ليس محلّه محلّ المستمعين في الحديث. فهذا غلو من أبي حاتم سامحه الله.
وقد سمع أبو ثور من سفيان بن عيينة، وتفقه على الشافعي وغيره، وقد روي عن أحمد بن حنبل أنه قال: هو عندي في مسلاخ سفيان الثوري.
قلت: مات سنة ٢٤٠ ببغداد وقد شاخ »(٢) .
٢. أبو حاتم ممّن قدح في البخاري
لقد تقدّم سابقاً أنّ أبا حاتم الرازي من جملة المحدّثين الذين طعنوا وقدحوا في محمّد بن إسماعيل البخاري وكتابه المعروف بالصّحيح، فمن العجيب ذكر الرازي إيّاه فيمن قدح في حديث الغدير، لا سيّما مع ثبوت كونه جرّاحاً متعنّتاً، وأنّه كان كثير الجرح والقدح في الرجال من غير دليل.
وإذا كان جمهور أهل السنة لا يعبأون بقدحه في البخاري، فإن الشيعة والمنصفين من العلماء لا يعبأون بقدحه في هذا الحديث، ولا يصغون إلى اعتماد الفخر الرازي على ذلك، فإنه ليس إلّا تعنتاً وتعصباً مقيتاً
بل لقد نقل عن بعضهم اللعنة على من تكلّم في البخاري فقد قال السبكي: « وقال أبو عمرو أحمد بن نصر الخفاف: محمد بن إسماعيل أعلم بالحديث من إسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل وغيرهما بعشرين درجة، ومن
___________________
(١). سير أعلام النبلاء ١٣ / ٨١.
(٢). ميزان الاعتدال ١ / ٢٩.
قال فيه شيئاً فمني عليه ألف لعنة »(١) .
ولا ريب في سقوط الملعون عن درجة الاعتبار
٣. نسبة أبي حاتم كتاباً للبخاري إلى نفسه
ومما يذكر عن أبي حاتم الرازي أنه نسب كتاباً لمحمد بن إسماعيل البخاري إلى نفسه، فقد قال السبكي ما نصه:
« وقال أبو حامد الحاكم في الكنى: عبد الله بن الديلمي أبو بسر، وقال البخاري ومسلم فيه: أبو بشر - بشين معجمة -. قال الحاكم: وكلاهما أخطأ في علمي، إنما هو أبو يسر، وخليق أن يكون محمد بن إسماعيل مع جلالته ومعرفته بالحديث اشتبه عليه، فما نقله مسلم في كتابه تابعه على زلته. ومن تأمل كتاب مسلم في الأسماء والكنى علم أنه منقول من كتاب محمد بن إسماعيل حذو القذّة بالقذّة، حتى لا يزيد عليه فيه إلاّ ما يسهل عدّه، وتجلد في نقله حق الجلادة إذ لم ينسبه إلى قائله.
وكتاب محمّد بن اسماعيل في التاريخ كتاب لم يسبق اليه، ومن ألّف بعده شيئاً في التاريخ أو الأسماء أو الكنى لم يستغن عنه، فمنهم من نسبه إلى نفسه مثل أبي زرعة وأبي حاتم ومسلم، ومنهم من حكاه عنه، فالله يرحمه فإنه الذي أصّل الأصول »(٢) .
وهذا الّذي صنع أبو حاتم من أشنع الأشياء وأقبحها، قال الشيخ سالم السّنهوري - الّذي ترجم له المحبي في خلاصة الأثر ٢ / ٢٠٤ -: « وألزم العزو غالباً إلّا فيما أنقله من شروح الشيخ بهرام والتوضيح وابن عبد السّلام وابن عرفة، فلا أعزو لها غالباً إلّا ما كان غريباً، أو ذكره في غير موضعه، أو لغرضٍ من
___________________
(١). طبقات الشافعية للسبكي ٢ / ٢٢٥ ترجمة البخاري.
(٢). طبقات السبكي ١ / ٢٢٥ - ٢٢٦.
الأغراض.
وقد ذكر ابن جماعة الشافعي في منسكه الكبير أنّه صحّ عن سفيان الثوري أنّه قال: إنّ نسبة الفائدة إلى مفيدها من الصّدق في العلم وشكره، فإنّ السكوت عن ذلك من الكذب في العلم وكفره »(١) .
٤. المعارضة برواية ابنه
ثم إن ما نسبه الرازي إلى أبي حاتم معارض برواية ابنه عبد الرحمن بن أبي حاتم الحافظ نزول آية التبليغ في يوم الغدير في مولانا أمير المؤمنين -عليهالسلام -، قال الحافظ السيوطي:
« وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية -( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) - على رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - يوم غدير خم في علي بن أبي طالب »(٢) .
___________________
(١). تيسير الملك الجليل لجمع الشروح وحواشي الشيخ خليل - خطبة الكتاب: ٣.
(٢). الدر المنثور في التفسير بالمأثور ٢ / ٢٩٨.
رد الرازي على نفسه
وبعد فقد اعترف الفخر الرازي بأن « من خالف الشيعة إنما يروون أصل الحديث للاحتجاج به على فضيلة عليّ »، فحديث الغدير - باعتراف الرازي - من مرويات أهل السنة، وهم يجعلونه من فضائل أمير المؤمنينعليهالسلام
وللرازي كلمات أخرى في هذا المضمار كذلك سننقلها.
وهلّا كان من المناسب أن تكون كلماته هذه نصب عينيه، لئلّا ينكر صحة حديث الغدير، وحتى لا يتشبث بتعنّت هذا وتعصب ذاك لمناقشته.
وإليك نصوص عبارات الفخر الرازي في كتبه المختلفة:
قال في نهاية العقول:
« ثم إنْ سلّمنا صحة أصل الحديث، ولكن لا نسلّم صحة تلك المقدّمة وهي قوله -عليهالسلام - ألست أولى بكم من أنفسكم.
وبيانه: إن الطرق التي ذكرتموها في تصحيح أصل الحديث لا يمكن دعوى التواتر فيها، ولا يمكن أيضا دعوى إطباق الأمة على قبولها، لأن من خالف الشيعة إنما يروون أصل الحديث للاحتجاج به على فضيلة علي -رضياللهعنه - ولا يروون هذه المقدّمة ».
كما صرّح فيه بأنّ الأمّة روت هذا الحديث.
وقال في أربعينه ما نصه.
« وأمّا الشبهة الثانية عشر - وهي التمسك
بقولهعليهالسلام : من كنت مولاه فعلي مولاه
. فجوابها من وجوه:
الأول: أنه خبر واحد.
قوله: الأمّة اتفقت على صحته، لأن منهم من تمسّك به في فضل [ تفضيل ] علي، ومنهم من تمسّك به في إمامته.
قلنا: تدعي أن كلّ الأمّة قبلوه قبول القطع أو قبول الظن.
الأول: ممنوع وهو نفس المطلوب.
والثاني: مسلّم وهو لا ينفعكم في مطلوبكم »(١) .
وقال في تفسيره - في الأقوال في شأن نزول آية التبليغ:
« العاشر - نزلت هذه الآية في فضل علي، و لمـّا نزلت هذه الآية أخذ بيده فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه.
فلقيه عمر -رضياللهعنه - فقال: هنيئاً لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.
وهو قول ابن عباس، والبراء بن عازب، ومحمد بن علي »(٢) .
___________________
(١). الأربعين / ٤٦٢.
(٢). تفسير الرازي ١٢ / ٤٩.
(٧)
تفنيد المعارضة بحديث
« قريش والأنصار مواليَّ دون الناس »
وقد عارض الفخر الرازي حديث الغدير بقولهصلىاللهعليهوآلهوسلم : « قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأسلم وغفار مواليّ دون الناس كلّهم، ليس لهم موالي دون الله ورسوله ».
ولكن هذه المعارضة باطلة لوجوه:
١. إنه من أخبار المخالفين
إن هذا الحديث من أخبار أهل السنة، قد انفردوا بروايته، فلا حجية له عند أهل الحق الشيعة الامامية حتى يقابل به حديث الغدير.
بل إن التمسّك والاستدلال بأحاديث أهل السنة لا يفيد لافحام الشيعة مطلقا، ولا يجوز للمناظر أن يلزم خصمه إلّا بما رواه قومه في كتبهم المعتبرة وبأسانيدهم المعتمدة، ولذا ترى ( الدهلوي ) يدّعى في مقدمة ( تحفته ) الالتزام بأنْ لا يستدل إلّا بكتب الشيعة، ليتمّ له مراده ويثبت مرامه في الاحتجاج معهم.
٢. ليس من الأحاديث المشتهرة
بل ليس هذا الحديث من الأحاديث المتفق على روايتها لدى أهل السنة
أنفسهم أيضاً، فلم يرد في كتبهم إلّا قليلا، بل لم يرو في جميع صحاحهم، وقد أوضح ابن الأثير أنه مما تفرد به الشيخان(١) .
٣. هو خبر واحد عن أبي هريرة
ثم هو من أخبار الآحاد، إذ لم يخرجه الشيخان عن غير أبي هريرة، وهذا لا يصلح لأن يذكر في مقابلة حديث رواه أكثر من مائة نفس من أصحاب رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - ومنهم أبو هريرة نفسه
٤. حديث الغدير برواية أبي هريرة
فقد روى أبو هريرة حديث الغدير واعترف بصحته وسماعه إيّاه من رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - في غدير خم
قال الخوارزمي: « قال الأصبغ: دخلت على معاوية وهو جالس على نطع من الأدم متكياً على وسادتين خضراوتين عن يمينه عمرو بن العاص وحوشب وذو الكلاع، وعن يساره أخوه عتبة وابن عامر وابن كريز والوليد بن عقبة وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد وشرحبيل بن السمط، وبين يديه أبو هريرة وأبو الدرداء والنعمان بن بشير وأبو أمامة الباهلي.
فلما قرأ الكتاب قال: إنّ عليّاً لا يدفع إلينا قتلة عثمان.
فقلت له: يا معاوية لا تعتل بدم عثمان، فإنك تطلب الملك والسلطان، ولو كنت أردت نصرته حياً، ولكنك تربصت به لتجعل ذلك سبباً إلى وصولك إلى الملك. فغضب.
فأردت أن يزيد غضبه فقلت لأبي هريرة: يا صاحب رسول الله! إني أحلّفك بالله الذي لا إله إلّا هو عالم الغيب والشهادة، وبحق حبيبه المصطفى
___________________
(١). جامع الأصول ١٠ / ١٣٦.
عليهالسلام - إلّا أخبرتني أشهدت غدير خم؟
فقال: بلى شهدته.
قلت: فما سمعته يقول في علي؟
قال: سمعته يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله.
قلت له: فاذن أنت واليت عدوه وعاديت وليه.
فتنفس أبو هريرة الصّعداء وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
فتغيّر معاوية عن حاله وغضب وقال: كف عن كلامك »(١) .
٥. أبو هريرة كذّاب
هذا كله بناء على توثيق أبي هريرة، ولكن أبا هريرة لم يكن ثقة في حديثه عن رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - لدى كبار الصحابة ومن دونهم
فمن الصّحابة الّذين كذّبوه: أمير المؤمنين عليّ، وعمر بن الخطّاب وعثمان ابن عفّان، وعبد الله بن الزبير، وعائشة بنت أبي بكر كما لا يخفى على من راجع كتاب ( الردّ على من قال بتناقض الحديث لابن قتيبة ) و ( عين الإِصابة فيما استدركته عائشة على الصحابة للسيوطي ) و ( التاريخ لابن كثير ) وغير ذلك.
بل رووا عن أبي هريرة نفسه قوله مخاطباً لأصحاب رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم -: « الا إنكم تحدّثون أنّي أكذب على رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - » راجع ( الجمع بين الصّحيحين ) و ( المفاتيح في شرح المصابيح ) وغيره من الشروح.
بل ثبت أنّ عمر نهاه عن التحديث قائلاً له: « لتتركنّ الحديث عن رسول الله أو لألحقنّك بأرض دوس »، وقد روي هذا الكلام بلفظ آخر والمعنى واحد
___________________
(١). مناقب علي بن أبي طالب، لأخطب خطباء خوارزم ١٣٤ - ١٣٥.
... أنظر ( الأصول للسّرخسي ) و ( التاريخ لابن كثير ) وغيرهما.
وأمّا قصّة عزل عمر إيّاه عن البحرين فمشهورة، وممّن رواها بالتفصيل:
١ - ابن عبد ربه في العقد الفريد
٢ - جار الله الزمخشري في الفائق في غريب الحديث.
٣ - ياقوت الحموي في معجم البلدان.
٤ - ابن كثير الدمشقي في تاريخه.
ومن التابعين والفقهاء الذين كذّبوه وصرّحوا بعدم الثقة به: « أبو حنيفة » فقد رووا عنه قوله: « أترك قولي بقول الصّحابة إلّا ثلاثة منهم: أبو هريرة، وأنس ابن مالك وسمرة بن جندب » راجع ( روضة العلماء للزندويستي ) و ( كتائب أعلام الأخيار للكفوي ) وغيرهما.
ومنهم: عيسى بن أبان الفقيه الحنفي، فقد ذكر عنه الزندويستي قوله: « أقلّد أقاويل جميع الصحابة إلّا ثلاثة منهم: أبو هريرة ووابصة بن معبد، وأبو سنابل بن بعك ».
ومنهم: جماعة من الحنفية، كذّبوا أبا هريرة في حديث المصراة كما في ( المحلّى لابن حزم ) و ( فتح الباري لابن حجر ) وغيرهما.
ومنهم: محمد بن الحسن الشيباني كما في ( المحلى ) في مسألة أن البائع أحق بالمتاع إذا أفلس
٦. وجوه القدح في أبي هريرة
هذا بالاضافة إلى وجوهٍ أخرى من القدح والطعن في أبي هريرة، وهي أمور يكفي كل منها لسقوطه عن درجة الاعتبار، أو يفيد فسقه بوضوح، وإليك بعضها:
ألف - كان يلعب بالشطرنج: قال الدميري: « وروى الصعلوكي تجويزه - أي الشطرنج - عن عمر بن الخطاب والحسن البصري والقاسم بن محمد وأبي
قلابة وأبي مجلز وعطا والزهري وربيعة بن عبد الرحمن وأبي زناد،رحمهمالله .
والمروي عن أبي هريرة من اللعب به مشهور في كتب الفقه »(١) .
وقال ابن الأثير: « وفي حديث بعضهم، قال: رأيت أبا هريرة يلعب بالسدر والسدر لعبة يقامر بها »(٢) .
وكذا قال محمد طاهر الكجراتي الفتني(٣) .
ولا ريب في أنّ الشطرنج حرام. وقال ابن تيمية:
« مذهب جمهور العلماء أن الشطرنج حرام، وقد ثبت عن علي بن أبي طالب مرّ بقوم يلعبون بالشطرنج، فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون.
وكذلك النهي عنها معروف عن أبي موسى وابن عباس وابن عمر وغيرهم من الصحابة.
وتنازعوا في [ أنّ ] أيّهما أشدّ تحريماً الشطرنج أو النرد، فقال مالك: الشطرنج أشد من النرد. وهذا منقول عن ابن عمر، وهذا لأنّها تشغل القلب بالفكر الذي يصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة أكثر من النرد. وقال أبو حنيفة وأحمد: النرد أشد »(٤) .
ب - كان مخلّطاً: قال ابن كثير الدمشقي: « وقال مسلم بن الحجاج: ثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ثنا مروان الدمشقي، عن الليث بن سعد، حدثني بكير بن الأشج، قال: قال لنا بشر بن سعيد: إتقوا الله وتحفّظوا من الحديث، فو الله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدّث حديث رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - عن كعب وحديث كعب عن رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم -.
وفي رواية: يجعل ما قاله كعب عن رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم -،
___________________
(١). حياة الحيوان: « الهر ».
(٢). النهاية في غريب الحديث: « السدر ».
(٣). مجمع البحار: « السدر ».
(٤). منهاج السنة ٢ / ٩٨.
وما قاله رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - عن كعب، فاتقوا الله وتحفّظوا في الحديث »(١) .
ج - كان مدلّسا: قال ابن كثير: « وقال يزيد بن هارون: سمعت شعبة يقول: أبو هريرة كان يدلّس. أي: يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - ولا يبين، [ يميّز ] هذا من هذا. ذكره ابن عساكر.
وكان شعبة يشير بهذا إلى حديثه: من أصبح جنبا فلا صيام له. فإنّه لمـّا حوقق عليه، قال: أخبرنيه مخبر ولم أسمعه من رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - »(٢) .
د - كان متروكا: قال ابن كثير: « وقال شريك، عن مغيرة، عن ابراهيم قال: كان أصحابنا يدعون من حديث أبي هريرة.
وروى الأعمش، عن إبراهيم، قال: ما كانوا يأخذون من كل حديث أبي هريرة.
قال الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، قال: كانوا يرون في أحاديث أبي هريرة شيئاً، وما كانوا يأخذون من حديثه إلّا ما كان من حديث صفة جنة أو نار أو حديث على عمل صالح أو نهي عن شيء جاء القرآن به ».
قال ابن كثير: « وقد انتصر ابن عساكر لأبي هريرة وردّ هذا الذي قاله إبراهيم النخعي، وقد قال ما قاله ابراهيم طائفة من الكوفيين والجمهور على خلافهم. وقد كان أبو هريرة من الصّدق والحفظ والديانة والعبادة والزهادة والعمل الصالح على جانب عظيم »(٣) .
___________________
(١). تاريخ ابن كثير ٨ / ١٠٩ مع اختلاف.
(٢). تاريخ ابن كثير ٨ / ١٠٩.
(٣). تاريخ ابن كثير ٨ / ١٠٩ - ١١٠.
وثبوته نعم إن ذلك يقدح في الأحاديث التي اشتملت على حضوره عنده -صلىاللهعليهوآلهوسلم - وأخذه بيده، وقد صرح بهذا المعنى الشريف الجرجاني في ( شرح المواقف )(١) .
* * *
وجاء بعضهم وأراد التشكيك في صحة هذا الحديث بنحو آخر، ذكره العلامة الأمير وقد أجاد في ردّه، حيث قال:
« تنبيه - اعترض بعض من قصر نظره عن بلوغ مرتبة التحقيق في حديث الغدير الذي رواه زيد بن أرقم -رضياللهعنه - مشكّكاً ذلك المعترض بقوله: إن في الرواية أنه -صلىاللهعليهوآلهوسلم - خطب بالجحفة يوم ثامن عشر في شهر ذي الحجة، وأنه لا يمكن بلوغ الجحفة لمن خرج بعد الحج من مكة في ذلك اليوم، وجعله قادحاً في الحديث.
وأقول: هذا تشكيك بلا دليل وخبط جبان خال عن عدة الأدلة ذليل. فقد ثبت أنهعليهالسلام خرج من مكة يوم الخميس خامس عشر ذي الحجة، راجعا إلى المدينة، وثبت أن الجحفة على اثنين وثمانين ميلا من مكة كما صرح به مجد الدين في القاموسرحمهالله . وثبت أن المرحلة العربية أربعة برد كمن جدة إلى مكة، كما أخرجه البخاري تعليقا من حديث ابن عباس وابن عمر أنّهما كانا يقصّران من مكة إلى العرفات، وثبت تقدير الأربعة البرد بالمرحلة بما رواه الشافعي بسند صحيح: أنه قيل لابن عباس أتقصر من مكة إلى العرفات؟ قال: لا، ولكن إلى عرفات وإلى جدة وإلى الطائف، وكل جهة من هذه مرحلة إلى مكة. فإذا كانت المرحلة أربعة برد، والبريد اثني عشر ميلاً، يكون المرحلة ثمانية وأربعين ميلا.
___________________
(١). شرح المواقف ٨ / ٣٦٠.
وإذا عرفت هذا، عرفت أن من مكة إلى الجحفة لا يكون إلّا دون المرحلتين الكاملتين، لأنّهما اثنان وثمانين ميلاً. واذا عرفت أن رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - خرج من مكة يوم خامس عشر من ذي الحجة فيوم ثامن عشر رابع أيام سفره، فعلم أنه بات ليلة ثامن عشر في الجحفة وصلى بها الظهر وخطب بعد الصلاة.
فيا للعجب ممن قصر نظره عن البحث، كيف يقدح فيما صح باتفاق الكل بأمر يرجع إلى المحسوس المشاهد. لقد نادى على نفسه بالبلاهة وسوء الظن وعدم الدراية.
ولا يقال: إنه باعتبار هذه الأزمنة لا يمكن.
لأنا نقول: إنْ أريد أسفار أهل الرفاهة والمترفين والمرضى والزمناء فلا اعتبار به. وإنْ أريد في أسفار العرب، ففي هذا الزمن يبلغ من مكة الى المدينة على الركاب في أربع، وأهل المدينة يسافرون الحج في زماننا هذا يوم خامس أو رابع ذي الحجة، ويوافون عرفات. وأمّا أهل الرفاهة فلا اعتبار بهم. وقد كان -صلىاللهعليهوآلهوسلم - على نهج العرب، وقد كان بلغ في دخوله بمكة في تلك الحجة في سبعة أيام أو ثمانية على اختلاف الرواية.
وبالجملة فالتشكيك بهذا نوع من الهذيان، فقد عرفت بما قدمنا أن الحديث متواتر والأسفار تختلف وليس محالاً عادة ولا عرفاً. ثم حديث الموالاة قد ثبت باتفاق الفريقين، فلا يسمع هذا التشكيك من قائله، والله الموفق »(١) .
___________________
(١). الروضة الندية - شرح التحفة العلوية: ٧٨.
الخاتمة
فيها كلمات في ذم الفخر الرازي
ومن المناسب - في خاتمة الرد على الفخر الرازي ودحض مزاعمه - أن نورد طرفاً من كلمات بعض علماء الرجال والحديث في الفخر الرازي:
قال الذهبي: « الفخر ابن الخطيب صاحب تصنيف، رأس في الذكاء والتعليقات، لكنه عري من الآثار، وله تشكيكات على مسائل من دعائم الدين تورث حيرة، نسأل الله أن يثبت الإِيمان في قلوبنا.
وله كتاب: السر المكتوم في مخاطبة النجوم، سحر صريح، فلعلّه تاب من تأليفه إن شاء الله »(١) .
وقال ابن تيمية في الكلام على الصفات بعد كلام له:
« وأمّا الجبرية، فمنهم من ينفيها ومنهم من يتوقف فيها كالرازي والآمدي وغيرهم، ونفاة الصفات من الجبرية منهم من يتأوّل نصوصها ومنهم من يفوض معناها الى الله تعالى »(٢) .
___________________
(١). ميزان الاعتدال ٣ / ٣٤٠.
(٢). منهاج السنة. مبحث صفات الباري ١ / ١١١.
وهذا الكلام صريح في كون الرازي من الجبرية.
وقال الشعراني في ( ارشاد الطالبين ): « وقد طلب الشيخ فخر الدين الرازي الطريق إلى الله، فقال له الشيخ نجم الدين البكري: لا تطيق مفارقة صنمك الذي هو علمك، فقال: يا سيدي، لا بدّ إنْ شاء الله تعالى. فأدخله الشيخ خلوة وسلبه جميع ما معه من العلوم، فصاح في الخلوة بأعلى صوته: لا تطيق، فأخرجه وقال: أعجبني صدقك وعدم نفاقك ».
وقال المولوي عبد العلي في مبحث الإجماع: « واستدل ثانياً بقوله -صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا تجتمع أمتي على الضلالة، فانه يفيد عصمة الأمة عن الخطأ فانه متواتر المعنى، فانه قد ورد بألفاظ مختلفة يفيد كلها العصمة، وبلغت رواة تلك الألفاظ حد التواتر
[ واستحسنه ابن الحاجب ] فانه دليل لا خفاء فيه بوجه ولا مساق للارتياب فيه.
[ واستبعد الامام الرازي ] صاحب المحصول، كما هو دأبه من التشكيكات في الأمور الظاهريّة [ التواتر المعنوي على حجيته ]
وهذا الاستبعاد في بعد بعيد كبرت كلمة خرجت من فيه »(١) .
وقال الحافظ ابن حجر بترجمته بعد كلام الذهبي المتقدم ما ملخصه:
« وقد عاب التاج السبكي على المصنف، ذكره هذا الرجل في هذا الكتاب، وقال: إنه ليس من الرواة، وقد تبرأ المصنف من الهوى والعصبية في هذا الكتاب.
والفخر كان من أئمة الأصول وكتبه في الأصلين شهيرة، وله ما يقبل وما يرد، وقد ترجم له جماعة من الكبار بما ملخصه:
انّ مولده سنة ٥٣٣ واشتغل على والده، وكان من تلامذة البغوي. ثمّ
___________________
(١). فواتح الرحموت ٢ / ٢١٥.
اشتغل على الكمال السمناني وتمهّر في عدة علوم، وأقبل على التصنيف. فصنّف التّفسير الكبير، والمحصول في أصول الفقه، والمعالم، والمطالب العالية، والأربعين، والخمسين، والملخّص، والمباحث المشرقية، وطريقه في الخلاف، ومناقب الشافعي.
قال ابن الربيب: وكان مع تبحره في الأصول يقول: من التزم دين العجائز فهو فائز، وكان يعاب بايراد الشبه الشديدة ويقصر في حلها، قال بعض المغاربة: يورد الشبهة نقداً ويحلها نسيئة.
وقد ذكره ابن دحية فمدح وذم.
وذكره ابن شامة فحكى عنه أشياء ردية.
وكانت وفاته بهراة سنة ٦٥٦.
ورأيت في الاكسير في علم التفسير للنجم الطوخي ما ملخصّه: ما رأيت في التفاسير أجمع لغالب علم التفسير من القرطبي ومن تفسير الامام فخر الدين إلّا أنّه كثير العيوب. فحدّثني شرف الدين النصيبي عن شيخه سراج الدين السرمساجي المغربي أنّه صنّف كتاب المآخذ في مجلدين، بيّن فيهما ما في تفسير الفخر من الزيف والبهرج، وكان ينقم عليه كثيراً.
قال الطوخي: ولعمري هذا دأبه في الكتب الكلامية حتى اتّهمه بعض الناس.
وذكر ابن خليل السكوني في كتاب الرد على الكشاف: ان ابن الخطيب قال في كتبه في الأصول إنّ مذهب الجبر هو المذهب الصحيح، وقال بصحة بقاء الأعراض وبنفي صفات الله الحقيقيّة، وزعم أنها مجرّد نسب وإضافات كقول الفلاسفة، وسلك طريق أرسطو في دليل التمانع.
ونقل عن تلميذه التاج الأرموي: إنه نظر كلامه فهجره إلى مصر وهمّوا به فاستتر، ونقلوا عنه أنه قال: عندي كذا وكذا مائة شبهة على القول بحدوث العالم.
ثم أسند عن ابن الطباخ: إن الفخر كان شيعياً يقدم محبة أهل البيت كمحبة الشيعة، حتى قال في بعض تصانيفه: وكان علي شجاعاً بخلاف غيره، وعاب عليه تسميته لتفسيره مفاتيح الغيب.
وقد مات الفخر يوم الاثنين سنة ست وخمسين وستمائة بمدينة هراة، واسمه محمد بن عمر بن الحسين، وأوصى بوصية تدل على حسن اعتقاده »(١) .
___________________
(١). لسان الميزان ٤ / ٤٢٦.
وقفة مع من أنكر
تواتر حديث الغدير
وأمّا دعوى عدم تواتر حديث الغدير فمن العجائب المضحكة، خصوصاً دعوى عدم تواتره لدى الشيعة « كبرت كلمة تخرج من أفواههم إنْ يقولون إلّا كذباً » وكيف يتفوّه بهذه الهفوة الباطلة عاقل بالنسبة إلى حديث رواه أكثر من مائة صحابي، وجمع طرقه جمع من كبار الحفاظ في مصنفات عديدة!؟ قد علمت أنه ليس متواتراً عند الشيعة فحسب، بل صرح بتواتره كبار حفّاظ أهل السنة، كالحافظ الذهبي الذي تمسك ابن حجر المكي بتصحيحه طرق حديث الغدير حيث قال: « فقد ورد ذلك من طرق صحيح الذهبي كثيراً منها »(١) . فمن العجيب تمسكه بتصحيح الذهبي بعض طرق الحديث وإعراضه عن تصريحه وتنصيصه على تواتره.
ومن الطريف دعوى ابن حجر تواتر حديث صلاة أبي بكر لرواية ثمانية من الصحابة إيّاه - مع العلم ببطلانه لدى الشيعة - وهو ينكر تواتر حديث الغدير المروي عن أكثر من مائة نفس من الصحابة، ولا أقل من الثلاثين، العدد الذي اعترف ابن حجر نفسه به، وهل هذا إلّا تناقض قبيح وتحكّم لا يعتضد بشيء من
___________________
(١). الصواعق المحرقة / ٢٥.
الترجيح؟
نور الدين الحلبي
وقد نسج نور الدين الحلبي على منوال ابن حجر الهيتمي - المكي، فقال في جواب حديث الغدير: « وقد ردّ عليهم في ذلك بما بسطته في كتابي المسمّى بالقول المطاع في الرد على أهل الابتداع، لخصّت فيه الصواعق للعلامة ابن حجر الهيتمي، وذكرت أن الرد عليهم في ذلك من وجوه:
أحدها: إن هؤلاء الشيعة والرافضة اتفقوا على اعتبار التواتر فيما يستدلون به على الامامة من الأحاديث، وهذا الحديث مع كونه احاداً طعن في صحته جماعة من أئمة الحديث كأبي داود وأبي حاتم الرازي كما تقدم، فهذا منهم مناقضة »(١) .
وهذا الكلام مردود من وجوه:
أحدها: إنّ نفي تواتر حديث الغدير مصادمة مع الواقع وإنكار للحقيقة الراهنة، وقد صرح بتواتره كبار أئمة أهل السنة كما سبق.
الثاني: إنه يكفي ثبوت تواتره لدى الشيعة.
الثالث: إنّه يكفي في الالزام في باب الامامة الاستدلال بالحديث الوارد من طرق أهل السنّة ولو احاداً، ولا ضرورة لأن يكون متواتراً حتى يجوز الاحتجاج به وإلزامهم به.
الرابع: إن ذكر طعن بعض أئمة الحديث في صحة حديث الغدير، هو في الحقيقة إثبات للطعن في هؤلاء الأئمّة المتعصبين.
الخامس: نسبة الطعن في صحته إلى أبي داود، كذب صريح وبهتان مبين كما دريت سابقاً.
___________________
(١). انسان العيون ٣ / ٣٣٧ - ٣٣٨.
علي القاري
ولقد ناقض الشيخ نور الدين علي بن سلطان الهروي القاري نفسه وجاء بكلماتٍ متهافتة حول حديث الغدير، فقال مرّة:
« ثمّ هذا الحديث مع كونه احاداً مختلف في صحته، فكيف ساغ للشيعة أن يخالفوا ما اتفقوا عليه اشتراط التواتر في أحاديث الامامة، ما هذا إلّا تناقض صريح وتعارض قبيح؟! »(١) .
فهو هنا يزعم كونه احاداً وأنه مختلف في صحّته لدى العلماء، والحال أنه قد ذكر قبل هذا الكلام بقليل: « والحاصل أن هذا حديث لا مرية فيه، بل بعض الحفّاظ عدّه متواتراً، إذ في رواية لأحمد أنه سمعه من النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - ثلاثون صحابياً وشهدوا به لعلي لما نوزع أيام خلافته »(٢) .
فهل من الانصاف دعوى كونه آحادا مختلفا في صحته مع الاعتراف بأنه صحيح لا مرية فيه، بل بعض الحفاظ عدّه متواتراً ...؟
وقال في موضع آخر: « رواه أحمد في مسنده، وأقلّ مرتبته أن يكون حسناً، فلا التفات لمن قدح في ثبوت هذا الحديث »(٣) .
فأيّ تحقيق هذا؟ وأيّ إنصاف هذا؟ وأيّ ضبط هذا؟ أن يتلون الرجل في كتاب واحد حول حديث واحد، ما هذا إلّا تناقض صريح وتعارض قبيح!! ولو فرض عدم تواتر هذا الحديث عند أهل السنة، لصحّ استدلال الشيعة به بلا ريب لوجهين:
الأول: لكونه متواتراً لدى الشيعة، واعتضاده بروايات المخالفين يفيد القطع واليقين.
___________________
(١). المرقاة ٥ / ٥٧٤.
(٢). نفس المصدر ٥ / ٥٦٨.
(٣). نفس المصدر ٥ / ٥٧٤.
والثاني: لجواز الاستدلال بالآحاد عند أهل السنة، فالالزام بحديث الغدير والاحتجاج به صحيح على كل تقدير.
الميرزا مخدوم بن عبد الباقي
وقال الميرزا مخدوم بن عبد الباقي: « وما أدري ما الذي يورث في طبائعهم المنحرفة الجزم بدلالة ما نقل عن النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - في غير الكتب الصحاح أنه قال بغدير خمّ: من كنت مولاه، على إمامة المرتضى »(١) .
ولقد كذب في مقالته هذه الكذب الصريح، فإن الحديث مخرج في الكتب الصحاح كما نص عليه ابن روزبهان كما سيجيء.
ويوضّح ذلك مراجعة صحيح الترمذي وصحيح ابن ماجة والمستدرك على الصحيحين وصحيح ابن حبان والمختارة للضياء المقدسي وما ماثلها.
وفوق ذلك كلّه: تصريح هذا الرجل بتواتر حديث الغدير في مقام آخر من كتابه بعد هذا الكلام وقد ذكرنا نص عبارته سابقاً فراجع.
إسحاق الهروي
وقال اسحاق الهروي سبط صاحب النواقض لمذكور في ( سهامه ) في جواب حديث الغدير: « قلنا: أولاً لا نسلّم تواتر الخبر، وكيف ولم يذكره الثقات من المحدّثين كالبخاري ومسلم والواقدي، وقد قدح في صحة الحديث كثير من أئمّة الحديث كأبي داود والواقدي وابن خزيمة وغيرهم من الثقات، ومن رواه لم يرو أوّل الحديث أي قوله: ألست أولى بكم من أنفسكم، وهو القرينة على كون المولى بمعنى أولى ».
وهذا الكلام عجيب للغاية، فإنه يقتضي أن لا يكون هذا الجمّ الغفير من
___________________
(١). نواقض الروافض - مخطوط.
رواة حديث الغدير من الأئمّة الثقات، وفيهم أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجة ونظراؤهم
ولقد زاد الهروي هذا في الطنبور نغمة أخرى، فزاد على من زعم قدحه في حديث الغدير الواقدي وابن خزيمة، والحال أن أسلافه الذين أخذ منهم هذه المزاعم لم يذكروهما فيمن نسب إليهم القدح في هذا الحديث الشريف
هذا ويكفي في الردّ على هذه المكابرات تصريح جدّه صاحب النواقض بتواتر حديث الغدير.
عبد الحق الدهلوي
وقال الشيخ عبد الحق الدّهلوي في ( شرح المشكاة ): « وهذا الحديث صحيح بلا ريب، رواه جماعة كالترمذي والنسائي وأحمد، وله طرق كثيرة، رووه عن ستة عشر نفس من الصحابة، وفي رواية لأحمد: أنه سمعه من النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - ثلاثون صحابياً وشهدوا به لعلي لما نوزع أيام خلافته، وكثير من أسانيده صحاح أو حسان، ولا التفات بقول من تكلّم في صحته ولا بقول بعضهم القائل بأن: اللهم وال من والاه، موضوع. لوروده من طرق متعدّدة صحح أكثرها الذهبي، كذا قال الشيخ ابن حجر في الصواعق المحرقة.
ولكنا نقول للشيعة على طريق الإلزام - حيث اتفقوا على لزوم أن يكون دليل الامامة متواتراً، وأنه متى لم يكن الحديث متواتراً لم يجز الاستدلال به على الامامة - بأن هذا الحديث غير متواتر يقيناً، على أنه مختلف فيه - وإنْ كان هذا الاختلاف في بعض الخصوصيات - وقد طعن في صحته بعض أئمّة الحديث وعدولهم المرجوع إليهم في هذا الشأن، كأبي داود السجستاني وأبي حاتم الرازي وغيرهم، وقد تركه أهل الحفظ والإتقان الذين طافوا البلاد وساروا إلى الأمصار في طلب الحديث، كالبخاري ومسلم والواقدي وغيرهم من أكابر أهل الحديث، وهذا وإنْ كان غير مخل بصحة الحديث إلّا أن دعوى التواتر في مثله من
العجائب ».
فهو وإنْ بالغ في الردّ على من أنكر صحة الحديث وخدش في ثبوته، إلّا أنه حاول إنكار تواتره، فسلك طرقاً ملتوية وأتى بكلمات متهافتة سعياً وراء ذلك، ولكن لا تخفى حقيقة الأمر على الناظر في كلامه، لأنه ينكر تواتر هذا الحديث في حين أنه يذعن بكثرة طرقه، وأنه رواه ستة عشر شخص من الصحابة وأن أكثر طرقه صحاح أو حسان. فأيّ كلام في ثبوت تواتر حديث هذا شأنه!؟ مع أنهم يعتقدون بحصول التواتر بالأقل من هذا العدد، ويرون تحققه لما رواه ثمانية من الصحابة كما في ( الصواعق ).
بل ذكر هذا الشيخ أن في روايةٍ لأحمد أنه سمعه من النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - ثلاثون من الصحابة، وشهدوا به لأمير المؤمنينعليهالسلام .
وهذا بناءاً على ما ذكره هذا الرجل، وإلّا فقد علمت أن رواته من الصحابة يزيدون على المائة
وقد نص أبو محمد علي بن أحمد بن حزم على تواتر حديث رواه أربعة من الصحابة، حيث قال في ( المحلى ) في مسألة عدم جواز بيع الماء بعد أن نقل رواية المنع عن أربعة من الصحابة: « فهؤلاء أربعة من الصحابة - رضي الله عنهم -، فهو نقل تواتر لا تحل مخالفته »، فمن العجيب أن يكون ما رواه الأربعة متواتراً ولا يكون ما رواه الستة عشر أو الثلاثون أو الأكثر بمتواتر، وهل هذا إلّا تحكّم قبيح وتعصب فضيح؟!
هذا بالاضافة إلى ما تقدم من تصريح الأئمّة المحققين من أهل السنة ومنهم الذهبي الذي استند اليه ابن حجر، كما ذكره عبد الحق في هذه العبارة، بتواتر حديث الغدير
ومن العجائب أيضاً نفيه تواتر حديث الغدير تمسكاً بوجود الاختلاف فيه، وهذا واضح البطلان جداً، لاعترافه هو في هذا الكلام ببطلان هذا الخلاف، وإذا كان الخلاف في الحديث مردوداً كان التمسك بهذا الخلاف مردوداً كذلك.
والحاصل إنّ هذا الكلام مختل الأركان ضعيف البنيان واضح البطلان، فهو من جهة يتمسك بقدح القادحين في هذا الحديث للقدح في تواتره، ومن جهة أخرى ينص على أن الخلاف في هذا الحديث مردود، ومن جهة ثالثة يعود ليمدح القادحين فيه ويصفهم بالامامة في هذا الشأن ليشيد بالتالي بقدحهم في الحديث ويسقطه بذلك عن الاعتبار.
وإذا كانت هذه التناقضات والتعصبات - التي يأباها أتباع القادحين ومقلديهم - قادحة في الأحاديث المتواترة، كان مكابرة المخالفين للإسلام وقدحهم في تواتر معاجز النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - جديرة بالإذعان ومؤثرة في الطعن في الدين الحنيف. وذلك لأن هذه المكابرات وتلك التعصبات من باب واحد.
والفرق بأن القادحين هنا أئمة عدول بخلافهم هناك فإنهم ملحدون لا يسمن ولا يغني من جوع. أما أولاً: فلأنّهم لدى الشيعة في مرتبة واحدة، وأما ثانياً: فمع التسليم بالفرق فإنّ كلام الطرفين في البابين في البطلان على حد سواء. على أن الملاك في التواتر حصول شروطه، فمتى تحققت في مورد حكم بتواتره، وليس من شروطه عدم وجود قادح فيه أبداً، بل إذا توفرت شروط التواتر، كان قدح القادحين موجباً للطعن فيهم لا في الحديث وإنْ كانوا من كبار الأئمّة، فلو قدح أبو حاتم وأمثاله في وجوب الصوم مثلاً كان ذلك موجباً للقدح في أنفسهم لا في وجوب الصوم كما لا يخفى.
ثم إنّ نسبة القدح في حديث الغدير إلى أبي داود أكذوبة أخرى، لما عرفت سابقاً من أنه قد روى هذا الحديث. فهذه النسبة باطلة لا أصل لها البتّة. ومن التعصب الفاحش أن ينسب إلى أبي داود هذا البهتان ويتّهم بهذا الأمر الفظيع، ثم يتمسك بهذا القدح المزعوم - مع الاعتراف بكونه مردوداً - في نفي تواتر الحديث خلافاً للمحققين من الأئمّة، وبالرغم من الإذعان بكثرة طرقه!!
النقض بموقف ابن مسعود من الفاتحة والمعوذتين
ثم إن التمسك بقدح أبي حاتم وجماعته لإِنكار تواتر حديث الغدير، منقوض بإنكار ابن مسعود كون الفاتحة والمعوّذتين من القرآن، وإسقاطه إيّاهما من مصحفه، مع قيام الإجماع من المسلمين على تواترهما وأنّهما من القرآن، وإنّ من جحد ذلك كافر، قال السيوطي: « قال النووي في شرح المهذّب: أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة من القرآن، وأن من جحد منها شيئاً كفر ».
وأمّا موقف ابن مسعود من هذه السور، فهو مما اشتهر اشتهار الشمس في رابعة النهار. قال الراغب: « وأسقط ابن مسعود من مصحفه أمّ القرآن والمعوّذتين »(١) .
وقال السيوطي: « أخرج عبد بن حميد ومحمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة، وابن الأنباري في المصاحف، عن محمد بن سيرين أن أبيّ بن كعب كان يكتب فاتحة الكتاب والمعوّذتين، وأللهم إياك نعبد، وأللهم إنا نستعينك، ولم يكتب ابن مسعود شيئاً من هذا، وكتب عثمان بن عفّان فاتحة الكتاب والمعوّذتين »(٢) .
وقال السّيوطي: « أخرج عبد بن حميد، عن إبراهيم، قال: كان عبد الله لا يكتب فاتحة الكتاب في المصحف، وقال: لو كتبتها، لكتبت في أوّل كل شيء »(٣) .
وقال أيضاً: « أخرج أحمد والبزار والطبراني وابن مردويه من طرق صحيحة عن ابن مسعود أنه كان يحكّ المعوّذتين، وكان ابن مسعود لا يقرأ بهما. قال البزار: لم يتابع ابن مسعود أحد من الصحابة، وقد صحّ عن النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم -
___________________
(١). المحاضرات ٢ / ١٨٩.
(٢). الدر المنثور ١ / ٢.
(٣). نفس المصدر ١ / ٢.
قراءتهما في الصلاة وأثبتهما في المصحف »(١) .
و قال: « أخرج أحمد والبخاري والنسائي وابن الضريس وابن الأنباري وابن حبّان وابن مردويه عن زرّ بن حبيش، قال: أتيت المدينة، فلقيت أبيّ بن كعب، فقلت له: يا أبا المنذر، إني رأيت ابن مسعود لا يكتب المعوّذتين في مصحفه، فقال: أما والذي بعث محمداً بالحق، لقد سألت رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - عنهما، وما سألني عنهما أحد منذ سألت غيرك، قال: قيل لي: قل: فقلت: فقولوا فنحن نقول كما قال رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم »(٢) .
وقال السيوطي: « أخرج أبو عبيدة عن ابن سيرين، قال: كتب أبيّ بن كعب في مصحفه فاتحة الكتاب والمعوّذتين، وأللهمّ إنّا نستعينك، واللهمّ إياك نعبد، وتركهنّ ابن مسعود، وكتب عثمان منهنّ فاتحة الكتاب والمعوّذتين »(٣) .
وقال محب الدين الطبري الشافعي في ذكر مطاعن عثمان: « و [ أما ] الخامسة عشرة وهي إحراق مصحف ابن مسعود، فليس ذلك مما يعتذر عنه، بل هو من أكبر المصالح، فانه لو بقي في أيدي الناس لكان أدّى ذلك إلى الفتنة الكبيرة في الدين، لكثرة ما فيه من الشذوذ المنكرة عند أهل العلم بالقرآن، ولحذفه المعوّذتين، من مصحفه مع الشهرة عند الصحابة إنهما من القرآن، وقال عثمان لما عوتب في ذلك: خشيت الفتنة في القرآن »(٤) .
وقال حسين الديار بكري المؤرّخ: « أما إحراق مصحف ابن مسعود، فليس ذلك مما يعتذر عنه، بل هو من أكبر المصالح، فإنه لو بقي في أيدي الناس لأدى ذلك إلى فتنة كبيرة في الدين، لكثرة ما فيه من الشذوذ المنكر عند أهل العلم بالقرآن، ولحذفه المعوّذتين من مصحفه مع الشهرة عند الصحابة أنهما من
___________________
(١). الدر المنثور ٦ / ٤١٦.
(٢). نفس المصدر ٦ / ٤١٦.
(٣). الاتقان في علوم القرآن ١ / ٦٧.
(٤). الرياض النضرة ٢ / ١٩٨، مع اختلاف.
القرآن »(١) .
وقال المولوي محسن الكشميري: « وأسقط، أي ابن مسعود، عنه، أي عن المصحف، المعوذتين وبالغ في أنهما ليست من القرآن مع أن الفاتحة أمّه »(٢) .
وروى أحمد بن حنبل، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: « كان عبد الله يحك المعوّذتين من مصاحفه ويقول: إنهما ليستا من كتاب الله تبارك وتعالى »(٣) .
وأخرج رواية زرّ بن حبيش المتقدمة: « قلت لأبيّ: إنّ أخاك يحكّهما من المصحف فلم ينكر. قيل لسفيان: ابن مسعود؟ قال: نعم، وليسا في مصحف ابن مسعود، كان يرى رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - يعوّذ بهما الحسن والحسين ولم يسمعه يقرأ بهما [ يقرأهما ] في شيء من صلاته، فظنّ أنهما عوذتان وأصرّ على ظنّه »(٤) .
و قال البخاري: « حدثنا علي بن عبد الله، قال: حدثنا سفيان، قال:
حدثنا عبدة بن أبي لبابة، عن زر، قال: سألت أبيّ بن كعب، قلت: يا أبا المنذر، إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا، فقال أبي: سألت رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - فقال لي: قل، فقلت: فنحن نقول كما قال رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم »(٥) .
وقال ابن حجر العسقلاني بشرح هذا الحديث:
« قوله: يقول كذا وكذا، هكذا وقع هذا اللفظ مبهماً، وكأن بعض الرواة أبهمه استعظاماً له، وأظن ذلك من سفيان، فإنّ الاسماعيلي أخرجه من طريق عبد الجبار بن العلاء عن سفيان كذلك على الإِبهام، وكنت أظن أولاً أن الذي
___________________
(١). الخميس ٢ / ٢٧٣.
(٢). نجاة المؤمنين - مخطوط.
(٣). المسند ٥ / ١٢٩ - ١٣٠.
(٤). مسند أحمد ٥ / ١٣٠.
(٥). صحيح البخاري بشرح ابن حجر ٨ / ٦٠٣ - ٦٠٤.
أبهمه البخاري، لأنّني رأيت التصريح به في رواية أحمد عن سفيان، ولفظه: قلت لأبيّ: إنّ أخاك يحكهما [ يحكها ] من المصحف. وكذا أخرجه الحميدي، عن سفيان، ومن طريقه أبو نعيم في المستخرج، وكان سفيان تارة يصرّح بذلك وتارة يبهمه، وقد أخرجه أحمد أيضاً وابن حبّان من رواية حمّاد بن سلمة عن عاصم بلفظ: ان [ عبد الله ] ابن مسعود كان لا يثبت [ يكتب ] المعوّذتين في مصحفه، وأخرج أحمد عن أبي بكر بن عيّاش، عن عاصم، بلفظ: ان عبد الله يقول في المعوذتين، وهذا أيضاً فيه إبهام.
وقد أخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند والطبراني وابن مردويه من طريق الأعمش، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد [ زيد ] النخعي، قال: كان ابن مسعود يحك المعوّذتين من مصاحفه ويقول: إنهما ليستا من كتاب الله، قال الأعمش: و [ قد ] حدثنا عاصم عن زرّ عن أبي بن كعب، فذكر نحو حديث قتيبة الذي في الباب الماضي، و قد أخرجه البزاز وفي آخره [ و ] يقول: إنما أمر النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - أن نتعوّذ بهما.
قال البزار: لم يتابع ابن مسعود على ذلك أحد من الصحابة، وقد صح عن النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - أنه قرأها في الصلاة. قلت: هو في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر، وزاد فيه ابن حبّان من وجه آخر عن عقبة بن عامر، فإنْ استطعت أن لا تفوتك قراءتهما [ في صلاة ] فافعل.
و أخرج أحمد من طريق أبي العلاء بن الشخير، عن رجل من الصحابة أن النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - أقرأه المعوّذتين وقال له: إذا أنت صلّيت فاقرأ بهما. وإسناده صحيح. ولسعيد بن منصور من حديث معاذ بن جبل: إنّ النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - صلّى الصبح فقرأ فيها بالمعوذتين.
وقد تأوّل القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب الانتصار، وتبعه عياض وغيره، ما حكى عن ابن مسعود فقال: لم ينكر ابن مسعود كونهما من القرآن، وإنما أنكر إثباتهما في المصحف، فإنّه كان يرى أن لا يكتب في المصحف شيئا إلّا أن
كان النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - اذن في كتابته فيه وكأنّه لم يبلغه الاذن في ذلك قال: فهذا تأويل منه وليس جحداً لكونهما قرآناً، وهو تأويل حسن، إلّا أن الرواية [ الصحيحة ] الصريحة التي ذكرتها تدفع ذلك حيث جاء فيها: ويقول: إنّهما ليستا من كتاب الله، نعم يمكن حمل لفظ كتاب الله على المصحف فيتمشى التأويل المذكور.
وقال غير القاضي: لم يكن اختلاف ابن مسعود مع غيره في قرآنيّتهما، وإنما كان في صفة من صفاتهما [ صفتهما ] انتهى. وغاية ما في هذا أنه أبهم ما بيّنه القاضي. ومن تأمل سياق الطرق التي أوردتها للحديث استبعد هذا الجمع.
وأمّا قول النووي في شرح المهذب: أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة من القرآن، وإنّ من جحد شيئاً منها كفر، وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح، ففيه نظر، وقد سبقه لذلك أبو محمد بن حزم، قال في أوائل المحلّى: ما نقل عن ابن مسعود من انكار قرآنيّة المعوّذتين، فهو كذب باطل، وكذا قال الفخر الرازي في أوائل تفسيره: الأغلب على الظنّ أن هذا النقل عن ابن مسعود كذب باطل، والطعن في الروايات الصحيحة بغير سند لا يقبل، بل الرواية صحيحة والتأويل محتمل، والإجماع الذي نقله إن أراد شموله لكل عصر فهو مخدوش، وإنْ أراد استقراره فهو مقبول.
وقد قال ابن الصباغ في الكلام على مانعي الزكاة: وإنّما قاتلهم أبو بكر على منع الزكاة، ولم يقل أنهم كفروا بذلك، وإنما لم يكفر لأن الاجماع لم يكن استقر، قال: ونحن الآن نكفّر من جحدها، قال: وكذلك ما نقل عن ابن مسعود في المعوّذتين يعني انه لم يثبت عنده القطع بذلك، ثم حصل الاتفاق بعد ذلك.
وقد استشكل هذا الموضع الفخر الرازي، فقال: إنْ قلنا أن كونهما من القرآن كان متواتراً في عصر ابن مسعود لزم تكفير من أنكرهما، وإنْ قلنا أنه لم يكن متواتراً لزم أن بعض القرآن لم يتواتر. قال: وهذه عقدة صعبة، وأجيب باحتمال أنه كان متواترا في عصر ابن مسعود، ولكن لم يتواتر عند ابن مسعود، فانحلت العقدة
بعون الله تعالى »(١) .
وقال السيوطي بعد أن ذكر أحاديث في مسألة جزئية البسملة من كل سورة: « فهذه الأحاديث تعطي التواتر المعنوي بكونها قرآناً منزلاً في أوائل السور، ومن المشكل على هذا الأصل ما ذكره الامام فخر الدين، قال: نقل في بعض الكتب القديمة أن ابن مسعود كان ينكر كون سورة الفاتحة والمعوّذتين من القرآن، وهو في غاية الصعوبة، لأنا إنْ قلنا أن النقل المتواتر كان حاصلاً في عصر الصحابة بكون ذلك من القرآن، فإنكاره يوجب الكفر، وإنْ قلنا لم يكن حاصلاً في ذلك الزمان، فيلزم أن القرآن ليس بمتواتر في الأصل. قال: والأغلب على الظن أن نقل هذا المذهب عن ابن مسعود نقل باطل وبه يحصل الخلاص عن هذه العقدة، وكذا قال القاضي أبو بكر لم يصح عنه أنها ليست بقرآن ولا حفظ عنه، إنّما حكّها وأسقطها من مصحفه إنكاراً لكتابتها لا جحداً لكونها قرآناً، لأنّه كانت السنّة عنده أن لا يكتب في المصحف إلّا ما أمره النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - بإثباته فيه ولم يجده كتب ذلك ولا سمعه أمر به.
وقال النووي في شرح المهذّب: أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة من القرآن، وأن من جحد منها شيئاً كفر، وما نقل عن ابن مسعود باطل ليس بصحيح.
وقال ابن حزم في المحلى: هذا كذب على ابن مسعود، موضوع، وإنما صح عنه قراءة عاصم عن زرّ عنه، وفيه المعوّذتان والفاتحة.
وقال ابن حجر في شرح البخاري: قد صح عن ابن مسعود إنكار ذلك، فأخرج أحمد وابن حبان عنه أنه كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه، وأخرج عبد الله بن أحمد في زيادات المسند والطبراني وابن مردويه من طريق الأعمش عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي، قال: كان عبد الله بن مسعود يحك
___________________
(١). فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٨ / ٦٠٣ - ٦٠٤.
المعوّذتين من مصاحفه ويقول: إنهما ليستا من كتاب الله، وأخرج الطبراني والبزار من وجه آخر عنه أنه كان يحكّ المعوّذتين من المصحف ويقول إنما أمر النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - أن نتعوذ بهما، وكان عبد الله لا يقرأ بهما أسانيدها صحيحة، قال البزار: لم يتابع ابن مسعود على ذلك أحد من الصحابة وقد صح أنه -صلىاللهعليهوآلهوسلم - قرأهما في الصلاة.
قال ابن حجر: فقول من قال إنه كذب مردود والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل، بل الرواية صحيحة والتأويل محتمل، قال: وقد أوّله القاضي وغيره على إنكار الكتابة كما سبق، قال: وهو تأويل حسن إلّا أن الرواية الصريحة التي ذكرتها تدفع ذلك حيث جاء فيها: ويقول: إنهما ليستا من كتاب الله. قال: ويمكن حمل لفظ كتاب الله على المصحف، فيتم التأويل المذكور، قال: لكن من تأمل سياق الطرق المذكورة استبعد هذا الجمع، قال: وقد أجاب ابن الصباغ بأنه لم يستقر عنده القطع بذلك، ثم حصل الاتفاق بعد ذلك، وحاصله أنهما كانتا متواترتين في عصره، لكن لم يتواترا عنده، انتهى
وقال ابن قتيبة في مشكل القرآن: ظن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - أن المعوذتين ليستا من القرآن، لأنّه رأى النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - يعوّذ بهما الحسن والحسين فأقام على ظنه، ولا نقول أنه أصاب في ذلك وأخطأ المهاجرون والأنصار. قال: وأما إسقاطه الفاتحة من مصحفه فليس لظنه أنها ليست من القرآن، معاذ الله، ولكنه ذهب إلى أن القرآن إنما كتب وجمع بين اللّوحين مخافة الشك والنسيان والزيادة والنقصان، ورأى أن ذلك مأمون في سورة الحمد لقصرها ووجوب تعلّمها على كل أحد.
قلت: وإسقاطه الفاتحة من مصحفه أخرجه أبو عبيد بسندٍ صحيح كما تقدم في أوائل النوع التاسع عشر »(١) .
___________________
(١). الاتقان في علوم القرآن ١ / ٨١ - ٨٢.
أقول:
فإذا لم يكن إنكار ابن مسعود المعوّذتين قادحاً في تواترهما وقرآنيّتهما، فإنّ قدح مثل أبي حاتم وغيره في حديث الغدير، لا يكون قادحاً في تواتره قطعاً، كيف والحال أن أبا حاتم وأمثاله لا يبلغون في الشرف والكرامة مرتبة تراب أقدام ابن مسعود!! بل إنّ غبار أنف فرس ابن مسعود مع رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - أفضل من أبي حاتم وأمثاله، حسب ما نقله ابن حجر المكي في تفضيل معاوية على عمر بن عبد العزيز.
النقض بموقف بعضهم من حديث انشقاق القمر
وأيضاً: فإنّ كان إنكار أبي حاتم ومن حذا حذوه حديث الغدير يضرّ في تواتره، كان إنكار بعضهم حديث انشقاق القمر موجباً للقدح في تواتر هذه المعجزة العظيمة والكرامة الباهرة الثابتة - لرسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم فقد جاء في ( نهاية العقول ) للرازي أنّ « الحليمي » قد منع وقوع انشقاق القمر. و « الحليمي » من أكابر علماء أهل السنّة ومن فطاحل أئمّتهم، كما لا يخفى على من راجع تراجمه في معاجم التراجم المعتبرة(١) .
لكن حديث انشقاق القمر متواتر قطعاً:
قال الشهاب القسطلاني: « وقال ابن عبد البرّ: قد روي هذا الحديث - يعني حديث انشقاق القمر - عن جماعة كثيرة من الصحابة، وروى ذلك عنهم أمثالهم من التابعين، ثم نقله الجمّ الغفير إلى أن انتهى إلينا وتأيّد بالآية الكريمة. إنتهى.
___________________
(١). الأنساب الحليمي، وفيات الأعيان ٢ / ١٣٧، مرآة الجنان - حوادث سنة ٤٠٣ طبقات الأسنوي ١ / ٤٠٤.
وقال العلّامة ابن السبكي في شرحه لمختصر ابن الحاجب: الصحيح عندي أنّ انشقاق القمر متواتر منصوص عليه في القرآن، مروي في الصحيحين وغيرهما، من طرق من حديث شعبة، عن سليمان عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن أبن مسعود. ثمّ قال: وله طرق أخر شتّى بحيث لا يمترى في تواتره انتهى »(١) .
وقال السيوطي في كلام له في معنى التواتر: « فقد وصف جماعة من المتقدّمين والمتأخّرين أحاديث كثيرة بالتواتر، منها: حديث نزل القرآن على سبعة أحرف، وحديث الحوض، وانشقاق القمر، وأحاديث الهرج والفتن في آخر الزمان »(٢) .
فإذا لم يؤثّر إنكار « الحليمي » ومنعه وقوع إنشقاق القمر في تواتر هذا الحديث، كان إنكار بعض المتعصّبين حديث الغدير غير مؤثّر في تواتره كذلك.
ومن الغرائب إنكار الشاه وليّ الله الدهلوي هذا الحديث كذلك، وقد قال ما نصّه: « أمّا شقّ القمر، فعندنا ليس من المعجزات، إنّما هو من آيات القيامة، كما قال الله تعالى:( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) ، ولكنه أخبر عنه قبل وجوده، فكان معجزة من هذا السبيل »(٣) .
عود إلى النظر في كلام عبد الحق الدهلوي
وأمّا استناد الشيخ عبد الحقّ بترك البخاري ومسلم والواقدي رواية حديث الغدير، فقد تقدّم الجواب عنه بالتفصيل في الردّ على كلام الفخر الرازي.
على أنّ ترك هؤلاء روايته، غير قادح في صحة الحديث، كما اعترف هو بذلك، وإذْ ليس قادحاً في صحته، فكيف يكون قادحاً في تواتره؟
وبالجملة، فإنّ دعوى عدم تواتر حديث الغدير، بالاستناد الى هذه
___________________
(١). المواهب اللدنية ١٥ / ٣٥٦.
(٢). إتمام الدراية / ٥٥، هامش مفتاح العلوم.
(٣). راجع: التفهيمات الالهية ٣ / ٦٥.
الهفوات والأباطيل، من أعجب العجائب. ولنعم ما قال ابن حجر العسقلاني في شرح حديث إنشقاق القمر: « فأمّا من سأل عن السبب في كون أهل التنجيم لم يذكروه، فجوابه: أنه لم ينقل عن أحد منهم أنّه نفاه وهذا كاف، فإنّ الحجة فيمن أثبت لا فيمن لم يوجد منه صريح النفي، حتى أنّ من وجد منه صريح النفي يقدّم عليه من وجد منه صريح الإثبات »(١) .
محمد البرزنجي
وممن وقع في هذه الورطة، محمد بن عبد الرسول البرزنجي، فإنّه مع دعوى انسابه إلى الدّوحة العلوية، وبالرغم من تصريحه بصحة حديث الغدير سلك سبيل مشايخه المتعصّبين، فتطرّق إلى الخلاف في صحّته وأثنى على من نسب إليهم القدح فيه، وعدّ فيهم أبا داود السجستاني - كذباً وبهتاناً - فقال:
« والخلاف في صحته ينفي تواتره، بل يخرجه عن كونه صحيحاً متّفقاً عليه، والطاعنون جمع من أئمّة الحديث أجلّاء، كأبي داود السجستاني وأبي حاتم وغيرهما »(٢) .
حسام الدين السهارنبوري
وقال حسام الدين ابن الشيخ محمد بايزيد السهارنبوري:
ولا نسلّم أنّ الأمة تلقّت هذا الحديث بالقبول، لأن جماعة من الأئمة العدول وثقات المحدّثين المرجوع اليهم في هذا الشأن كأبي داود السجستاني وأبي حاتم الرازي وغيرهما، طعنوا فيه، وتكلّموا في صحّته، على ما صرّح بذلك الشيخ ابن حجر -رحمهالله - في الصواعق، وعليّ القوشجي -رحمهالله - في شرح التجريد، وإنّ جماعة من أهل الحق والإيقان وأكابر المحدثين كالإمام البخاري
___________________
(١). فتح الباري ٧ / ١٤٧.
(٢). نواقض الروافض - مخطوط.
ومسلم والواقدي وغيرهم لم يرووه، كما ذكر الشيخ عبد الحق، وهؤلاء من أعاظم علماء السنّة والجماعة وأكابر أصحاب الحديث وأخبار خير البريّة - عليه الصلاة والتحيّة - وقد طافوا البلاد وساروا في الأمصار في طلب الأحاديث والآثار، وبلغوا في هذا العلم الشريف أقصى الغاية وارتقوا فيه على أعلى الدرجات.
فدعوى تلقي جميع الأمة حديثاً طعن فيه رؤساء المحدّثين وتركه ثقاتهم بالقبول باطلة وإثبات تواتره مع طعن أئمّة المحدثين وعدولهم فيه مشكل جداً »(١) .
أقول: لقد تبع هذا الرجل ابن حجر المكي وعبد الحق الدهلوي وأخذ عنهما هذه الخرافات، لكن لا يخفى من كلامه أنّه أكثر منهما تعصباً وأشد انحرافاً عن الحق، لأن ابن حجر وعبد الحق قد شهدا قبل القدح في حديث الغدير بصحته وكثرة طرقه، وأنه قد رواه ستة عشر من الصحابة وشهد به ثلاثون منهم على ما أخرجه أحمد، وأن كثيراً من طرقه صحيح أو حسن، وقد أضاف عبد الحق أن القدح فيه مردود غير مسموع.
لكن صاحب المرافض لم يتعرض لهذه الكلمات الحقة، واقتصر على أخذ الخرافات وآيات التعصب والعناد منهما، فذكر كلماتهما الباطلة ونسج على منوالهما في تلك الدعاوي الكاذبة
وعلى كل حال، فلا يخفى بطلان هذه المناقشات وسقوطها عن درجة الاعتبار، ولا سيما دعوى قدح جماعة من الأئمّة العدول المرجوع إليهم في حديث الغدير، فإنّها دعوى كاذبة باطلة، كما ذكرنا مراراً، ويشهد بذلك نسبة القدح إلى أبي داود - تبعاً لغيره - وقد علمت أن أبا داود من رواة هذا الحديث الشريف.
ومن الجدير بالذكر أن صاحب المرافض قد نقل حديث الغدير عن أحمد ابن حنبل في فضائل أمير المؤمنين -عليهالسلام - من ذي قبل.
___________________
(١). مرافض الروافض - مخطوط.
ابن تيمية
وقال ابن تيمية: « أما قوله: من كنت مولاه فعلي مولاه، فليس [ هو ] في الصحاح، لكن هو مما رواه العلماء، وتنازع الناس في صحته. ونقل عن البخاري وابراهيم الحربي وطائفة من أهل العلم بالحديث، أنهم طعنوا فيه وضعّفوه، ونقل عن أحمد بن حنبل أنه حسّنه كما حسّنه الترمذي. وقد صنف أبو العباس ابن عقدة مصنفاً في جمع طرقه »(١) .
أقول:
أما قوله: « فليس في الصحاح » فيكفي في رده كلام القاضي سناء الله في ( السيف المسلول ) حيث صرح فيه برواية الجمهور هذا الحديث في الصحاح السنن والمسانيد، وقد سبق نص كلامه فيما مضى.
وأيضاً يتضح بطلانه من مراجعه: صحيح الترمذي وصحيح ابن ماجة وصحيح ابن حبان والمستدرك والمختارة للضياء المقدسي - وهي كلّها من الكتب الصحاح لدى أهل السنة - فإنها قد أخرجت حديث الغدير.
ولقد اعترف ابن روزبهان - مع تعصبه - بكون هذا الحديث مخرجاً في الصحاح كما سيجيء ان شاء الله.
وأمّا: أن « البخاري » طعن فيه، فنقول: لقد كان أهل الحق في حيرة وعجب من ترك البخاري حديث الغدير، مع توفر شروط التواتر فيه بأضعاف مضاعفة، فهو مؤاخذ على تركه رواية هذا الحديث، حتى جاء ابن تيميّة فادّعى طعن البخاري فيه، وهذا أعجب من ذلك بكثير! وهل من الجائز الاعتماد على هكذا أناس في نقل السنة النبويّة؟
___________________
(١). منهاج السنة ٤ / ٨٦.
ولقد وقفت على طرف من قوادح البخاري وكتابه فيما سبق نقلاً عن أكابر القوم وستقف على طرف آخر منها فيما سيأتي إنْ شاء الله تعالى. وإنّ من أفحش قوادحه وأقبح مساويه استرابته في بعض أحاديث الامام الصادق -عليهالسلام - تبعاً ليحيى القطان جعله الله قاطناً في دركات النيران، على ما ذكر ابن تيمية حيث قال:
« وبالجملة، فهؤلاء الأئمّة الأربعة ليس منهم من أخذ عن جعفر من قواعد الفقه، لكن رووا عنه الأحاديث كما رووا عن غيره، وأحاديث غيره أضعاف أحاديثه، وليس بين حديث الزهري وحديثه نسبة لا في القوة ولا في الكثرة، وقد استراب البخاري في بعض أحاديثه لمـّا بلغه عن يحيى بن سعيد القطان فيه كلام، فلم يخرج له، ويمتنع أن يكون حفظه للحديث كحفظ من يحتج بهم البخاري »(١) .
وأما: أن « ابراهيم الحربي » طعن فيه، فإنّ طعنه مردود بالوجوه التي ذكرناها في رد قدح ابن أبي داود
على أن هذا الرجل مقدوح لما ذكروا في ترجمته من أنه كان يستحسن الابتلاء بعشق الصبي المليح قال صلاح الدين الكتبي:
« وقال ياقوت: حدثني صديقنا الحافظ أبو عبد الله محمد بن محمود ابن النجار، قال: حدثني أحمد بن سعيد الصباغ، يرفعه إلى أبي نعيم، قال: كان يحضر مجلس إبراهيم الحربي جماعة من الشبّان للقراءة عليه، ففقد أحدهم، فسأل عنه من حضر، فقالوا: هو مشغول، ثم سأل يوماً آخر فقالوا: هو مشغول وكان قد ابتلي بمحبة شخص شغله عن الحضور، وعظّموا إبراهيم الحربي أن يخبروه بجلية الحال. فلما تكرّر السؤال عنه - وهم لا يزيدونه على أنه مشغول - قال: يا قوم، إن كان مريضاً قوموا بنا لنعوده، وإنْ كان مديوناً اجتهدنا في مساعدته
___________________
(١). منهاج السنة ٢ / ٨٦.
أو محبوساً سعينا في خلاصه، فخبّروني عن جلية حاله. فقالوا: نجلك عن ذلك فقال: لا بدّ أن تخبروني، فقالوا: إنه ابتلي بعشق صبي. فاحتشم إبراهيم ثم قال: هذا الصبي الذي ابلي بعشقه هو مليح أو قبيح؟ فعجب القوم من سؤاله عن مثل ذلك مع جلالته في أنفسهم، وقالوا: أيها الشيخ مثلك يسأل عن مثل هذا؟ فقال: إنه بلغني أن الانسان إذا ابتلي بمحبة صورة قبيحة، كان بلاء يجب الاستعاذة من مثله، وإنْ كان مليحاً كان ابتلاء يجب الصبر عليه واحتمال المشقة فيه. قال: فعجبنا مما أتى به »(١) .
أقول: وكيف لا يتعجبون مما أتى به؟ وعشق الصبي في غاية القبح والشناعة والفظاعة، وقد كتب الشيخ محمد حياة السندي - وهو من أكابر العلماء المتبحّرين - رسالة في النهي عن عشق صور المرد والنسوان قال فيها على ما نقل عنها معاصره القنوجي في ( اتحاف النبلاء ) بترجمته: « تلك لعمر الله الفتنة الكبرى والبلية العظمى استعبدت النفوس لغير خلّاقها، وملكت القلوب لمن يسومها الهوان من عشّاقها، وألقت الحرب بين العشق والتوحيد ودعت إلى موالاة كل شيطان مريد - إلى قوله -: إنما حكى الله العشق عن الكفرة قوم لوط وامرأة العزيز، وكانت إذ ذاك مشركة، والفتنة بعشق الصور تنافي أن يكون دين العبد كله لله، بل ينقص من دينه بحسب ما حصل له من فتنة العشق، وربما أخرجت صاحبه من أن يبقى معه شيء من الدين، والمفتون بالصور مخالف لقوله:( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ ) والمبتلى بها ليس بغاض بصره بل يلتذ بالنظر الحرام وربما يقع به في الزنا - إلى قوله: - فإنّ تعبّد القلب للمعشوق شرك وقد أثبت النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - اسم التعبد على المحبة لغير الله تعالى في قوله في الصحيح: تعس عبد الدينار وعبد الدراهم الخ ».
وقال الذهبي بترجمة إبراهيم الحربي: « قال المسعودي: كانت وفاة الحربي
___________________
(١). فوات الوفيات ١ / ١٦.
المحدث الفقيه في الجانب الغربي وله نيف وثمانون سنة، وكان صدوقاً عالماً فصيحاً جواداً عفيفاً زاهداً عابداً ناسكا، وكان مع ذلك ضاحك السنّ ظريف الطّبع ولم يكن معه تكبّر ولا تجبّر، يمازح مع أصدقائه بما يستحيى منه ويستقبح من غيره »(١) .
قال: « ويروى أن ابراهيم لما صنّف غريب الحديث وهو كتاب نفيس كامل في معناه، قال ثعلب: ما لإِبراهيم وغرائب الحديث، رجل محدث، ثم حضر مجلسه فلما حضر المجلس سجد ثعلب وقال: ما ظننت أن على وجه الأرض مثل هذا الرجل »(٢) .
هذا، ولم ينقل الذهبي عن الحربي أنه أنكر على ثعلب سجوده له، فهو اذاً يجوّز السجود لغير الله تعالى، وهذا أيضاً من مساويه وقبائحه.
ومن مساويه طعنه في علي بن المديني - شيخ البخاري - إذ قال الذهبي: « قال أبو بكر الشافعي: سمعت إبراهيم الحربي يقول: عندي عن علي بن المديني قمطر ولا أحدّث عنه بشيء، لأنّه رأيته في المغرب وبيده نعله مبادراً، فقلت: إلى أين؟ قال: ألحق الصلاة مع أبي عبد الله، فظننته يعني أحمد بن حنبل، ثم قلت: من أبو عبد الله؟ قال: ابن أبي داود »(٣) .
وهذا لا يكون إلّا من التعنت
ولا بأس بنقل كلمات أساطين أهل السنة في الثناء على بن المديني ليتضح سقوط كلام الحربي ومدى انهماكه في التعصب المقيت:
قال النووي: « علي بن المديني الامام أحد أئمّة الاسلام المبرزين في الحديث. صنف فيه مائتي مصنف لم يسبق الى معظمها ولم يلحق في كثير منها، سمع أباه وحماد بن زيد وسفيان بن عيينة ويحيى القطان وخلائق. روى عنه معاذ ابن معاذ وأحمد بن حنبل والبخاري وخلائق من الأئمّة، وأجمعوا على جلالته وإمامته
___________________
(١). سير أعلام النبلاء ١٣ / ٣٦٤.
(٢). سير أعلام النبلاء ١٣ / ٣٦١.
(٣). سير أعلام النبلاء ١٣ / ٣٦٩.
وبراعته في هذا الشأن وتقدمه على غيره.
قال عبد الغني بن سعيد المصري: أحسن الناس كلاماً على حديث رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - ثلاثة: علي بن المديني في وقته، وموسى بن مروان في وقته، والدر قطني في وقته.
وقال سفيان بن عيينة - وهو أحد شيوخ علي بن المديني -: حدثني علي بن المديني - وتلومونني على حب علي، والله لقد كنت أتعلّم منه أكثر ممّا يتعلّم منّي -.
وكان سفيان يسميه حيّة الوادي، وكان اذا سئل عن شيء يقول: لو كان حية الوادي.
وقال حفص بن محبوب: كنت عند ابن عيينة، ومعنا علي بن المديني وابن الشاذكوني، فلما قام ابن المديني، قال السفيان: إذا قامت الخيل لم نجلس مع رجّالة.
وقال محمد بن يحيى: رأيت لعلي بن المديني كتاباً على ظهره مكتوب المائة والنيف والستون من علل الحديث.
وقال عباس العنبري: كانوا يكتبون قيام ابن المديني وقعوده ولباسه وكل شيء يقول ويفعل أو نحو هذا، وكان ابن المديني إذا قدم بغداد تصدّر بالحلقة وجاء أحمد ويحيى والمعيطي والناس يتناظرون، فإذا اختلفوا في شيء تكلّم فيه.
وقال الأعين: رأيت ابن المديني مستلقياً، وأحمد بن حنبل عن يمينه ويحيى ابن معين عن يساره، وهو يملي عليهما.
وقال البخاري: ما استصغرت نفسي عند أحد قط إلّا عند علي بن المديني.
وقال يحيى القطان: نحن نستفيد من ابن المديني أكثر مما يستفيد منا.
وقال عبد الرحمن بن المهدي: علي بن المديني أعلم الناس بحديث رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - وخاصة بحديث ابن عيينة.
وقال أبو حاتم: كان ابن المديني علماً في الناس في معرفة الحديث والعلل وكان أحمد بن حنبل لا يسميّه بل يكنّيه ابا الحسن تبجيلاً، وما سمعت أحمد سمّاه
قط.
قال البخاري: توفي ابن المديني ليومين بقيا من ذي القعدة سنة أربع وثلاثين ومائتين بالعسكر»(١) .
ابن حزم
وقال ابن حزم الاندلسي - فيما نقل عنه ابن تيمية -: « وأما من كنت مولاه فعلي مولاه، فلا يصح من طريق الثقات أصلاً »(٢) .
أقول: أعوذ بالله من الكذب والبهتان والتفوه بمثل هذا الهذر والهذيان ولكن ابن حزم مشهور بالتعصب لبني أمية ماضيهم وباقيهم، وباعتقاده بصحة إمامتهم، حتى نسب إلى النصب لأمير المؤمنين وأهل البيت الطاهرين - عليهم الصلاة والسلام - إلى غير ذلك من مساويه وصفاته حتى أجمع فقهاء عصره على تضليله
ولا بدّ من نقل نصوص عبارات مشاهير علمائهم المحققين في ترجمته في هذا المقام:
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: « ولد بقرطبة سنة ٣٨٤، ونشأ في نعمة ورئاسة، وكان أبوه من الوزراء وولي هو وزارة بعض الخلفاء من بني أمية بالأندلس، ثم ترك واشتغل في صباه بالأدب والمنطق والعربية وقال الشعر وترسّل ثم أقبل على العلم فقرأ الموطأ وغيره. ثم تحوّل شافعيّاً فمضى على ذلك وقت ثم انتقل إلى مذهب الظاهر وصنف فيه وردَّ على مخالفيه.
وكان واسع الحفظ إلّا أنه لثقته بحافظته، كان يهجم على القول في التعديل والتجريح وتبيين أسماء الرواة فيقع له من ذلك أوهام شنيعة، وقد تتبع كثيراً منها الحافظ قطب الدين الحلبي ثم المصري م المحلى خاصة، وسأذكر منها أشياء.
___________________
(١). تهذيب الأسماء واللغات ١ / ٣٥٠ - ٣٥١.
(٢). منهاج السنة ٤ / ٨٦.
... وقال مؤرخ الأندلس أبو مروان ابن حيان: كان ابن حزم حامل فنون من حديثٍ وفقهٍ ونسبٍ وأدب، مع المشاركة في أنواع التعاليم القديمة، وكان لا يخلو في فنونه من غلط لجرأته على التسوّر على كل فن، ومال أولاً إلى قول الشافعي وناضل عنه حتى نسب إلى الشذوذ، واستهدف لكثير من فقهاء عصره ثم عدل إلى الظاهر فجادل عنه ولم يكن يلطف في صدعه بما عنده بتعريض ولا تدريج، بل يصك به معارضه صك الجندل وينشقه في أنفه انشاق الخردل، فتمالأ عليه فقهاء عصره وأجمعوا على تضليله وشنّعوا عليه وحذّروا أكابرهم من فتنته ونهوا عوامهم عن الاقتراب منه. فطفقوا يغضّونه وهو مصرّ على طريقته حتى كمل له من تصانيفه وقر بعير لم يتجاوز أكثرها عتبة بابه لزهد العلماء فيها، حتى أحرق بعضها باشبيلية ومزّقت علانية، ولم يكن مع ذلك سالماً من اضطراب رايه، وكان لا يظهر عليه أثر علمه حتى يسئل فينفجر منه علم لا تكدّره الدّلاء.
وكان مما يزيد في بغض الناس تعصبه لبني أمية ماضيهم وباقيهم، واعتقاده بصحة إمامتهم حتى نسب إلى النصب
وقال القاضي أبو بكر ابن العربي: ابتدأ ابن حزم أولاً فتعلّق بمذهب الشافعي، ثم انتسب إلى داود، ثم خلع الكلّ واستقل وزعم أنه إمام الأئمّة يضع ويرفع ويحكم ويشرّع، واتفق كونه بين أقوام لا بصر لهم إلّا بالمسائل فيطالبهم بالدليل ويتضاحك لهم، وذكر بقية الحطّ عليه في كتاب العواصم والقواصم.
ومما يعاب به ابن حزم وقوعه في الأئمّة الكبار بأفحش عبارة وأشنع ردّ وقد وقعت بينه وبين أبي الوليد الباجي مناظرات ومنافرات.
وقال أبو العباس ابن العريف الصالح الزاهد: لسان ابن حزم وسيف الحجاج شقيقان » ثم ذكر ابن حجر نبذة من أغلاط ابن حزم في وصف الرواة(١) .
___________________
(١). لسان الميزان ٤ / ٢٠١.
وذكر الذهبي كلام أبي مروان ابن حيان المذكور بترجمة ابن حزم وقد جاء في آخره: « وكان مما يزيد في شنآنه، تشيّعه لأمراء بني أمية ماضيهم وباقيهم واعتقاده بصحة إمامتهم، حتى نسب إلى النصب ».
قال الذهبي: « قلت: ومن تواليفه كتاب تبديل اليهود والنصارى للتوراة والانجيل. وقد أخذ المنطق - أبعده الله من علم - عن محمد بن الحسن المذحجي الزبيدي، وأمعن فيه فزلزله في أشياء»(١) .
أقول:
ومما يشهد بنصب ابن حزم العداوة لأمير المؤمنين -عليهالسلام - دعواه أن ابن ملجم - لعنه الله - مجتهد في قتله لعلي -عليهالسلام -، فألجمه الله بلجامٍ من نار وجزاه شر جزاء الأشرار قال ذلك في كتابه ( المحلى ) حيث قال:
« مسألة - مقتول كان في أوليائه غائب أو صغير أو مجنون، اختلف الناس في هذا فنظرنا قول أبي حنيفة، فوجدناه ظاهر التناقض، إذ فرّق بين الغائب والصغير، ووجدنا حجّتهم في هذا أنّ الغائب لا يولّى عليه. قالوا: وكما كان أحد الأولياء يزوّج آخر إذا كان صغيرا من الأولياء فكذلك يقتل، وقالوا: قد قتل الحسن ابن عليّ - رضي الله عنهما - عبد الرحمن بن ملجم ولعليّ بنون صغار وهم بحضرة الصحابة - رضي الله عنهم - من دون خالف يعرف له منهم
وكان من اعتراف الشافعيين أن قالوا: إنّ الحسن بن عليّ - رضي الله عنهما - كان إماماً فنظر في ذلك بحقّ الامامة وقتله بالمحاربة لا قوداً.
وهذا ليس بشيء، لأنّ عبد الرحمن بن ملجم لم يحارب ولا أخاف السّبيل، وليس للامام عند الشافعيين ولا للوصيّ أن يأخذ القود بصغير حتى يبلغ، فبطل شغبهم. وهذه القصة عائدة على الحنفيين بمثل ما شنّعوا على الشّافعيين سواء
___________________
(١). سير أعلام النبلاء ١٨ / ١٨٤.
بسواء، لأنّهم والمالكيين لا يختلفون في أنّ من قتل آخر على تأويل فلا قود في ذلك.
ولا خلاف بين أحد من الأمّه في أنّ عبد الرحمن بن ملجم لم يقتل علياً -رضياللهعنه - إلّا متأوّلاً مجتهداً مقدّراً على أنّه صواب، وفي هذا يقول عمران بن حطّان شاعر الصّفرية:
يا ضربة من تقيّ ما أراد بها |
إلّا ليبلغ من ذي العرش رضوانا |
|
إنّي لأذكره حبّأ فأحسبه |
أوفى البريّة عند الله ميزانا |
فقد حصل الحنفيّون في خلاف الحسن بن عليّ على مثل ما شغبوا به على الشافعيّين، وما ينفكّون أبداً من رجوع سهامهم عليهم ومن الوقوع فيما حفروه، فظهر تناقض الحنفيّين والمالكيّين في الفرق بين الغائب والصغير »(١) .
وقد ذكر العلّامة محمد بن اسماعيل بن صلاح الأمير دعوى ابن حزم هذه، حيث قال: « قال النواصب:
قد أخطأ معاوية في الاجتهاد |
وأخطأ فيه صاحبه |
|
والعفو في ذاك مرجوّ لفاعله |
وفي أعالي جنان الخلد راكبه |
قال:
كذبتم فلِمْ قال النبي لنا |
في النار قاتل عمّار وسالبه؟ |
وما دعوى الاجتهاد لمعاوية في قتاله، إلّا كدعوى ابن حزم أنّ ابن ملجم أشقى الآخرين مجتهد في قتله لعلي -عليهالسلام - كما حكاه عنه الحافظ ابن حجر في تلخيصه.
وإذا كان من ارتكب هواه ولفّق باطلاً يروّج به ما يراه اجتهاداً لم يبق في
___________________
(١). المحلى ١٠ / ٥٨٤ - ٥٨٦.
الدنيا مبطل، إذ لا يأتي أحد منكراً إلّا وقد أهبّ له عذراً، وهؤلاء عبدة الأوثان قالوا: ما نعبدهم إلّا ليقرّبونا إلى الله زلفى »(١) .
أقول:
فظهر أنّ القدح في حديث الغدير الصحيح المتواتر، ليس إلّا من التعصب المقيت والنصب الشديد والجحد للفضائل العلويّة والسعي وراء إخفائها وإطفاء نورها ودعوى أنّ ذلك منهم من باب النقد والتحقيق لا التعصّب والبغض واضحة البطلان. فإنّ مثل من ينكر فضائل عليّ الصحيحة كمثل من ينكر فضائل النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - الصحيحة ومعاجزه الثابتة، ويعين اليهود والنصارى على إنكارها ويستند إلى خرافاتهم وهفواتهم في ردّها فهل يقال: هذا محقق ناقد، أو يقال: إنه كافر ملحد؟
وكيف لا يكون الرازي وأمثاله نواصب والحال أنهم يقدحون في حديث الغدير الثابت الصحيح، ويشاركون النواصب ويساعدونهم في إبطاله وينقلون كلماتهم في كتبهم مستدلّين بها ومستندين إليها؟
والواقع أنّ هؤلاء كلّهم نواصب معادون لأمير المؤمنين -عليهالسلام - وإنْ تستّروا بستار التسنّن
وكيف لا يكونون كذلك، والحال أنّ بعضهم يقدح في فضائل علىّ كلّها - على كثرتها حتى قال أحمد بن حنبل كما في ( الصواعق ) وغيره: إنه لم يرد في أحد من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الحسان ما ورد في حقّه - وهم يثبتون لغيره من الفضائل ما أدرجه أئمّتهم في الموضوعات ونصّوا على بطلانها؟
وهذا ابن تيميّة، ينقل كلاماً لابن حزم ويقرّره في أنه لم يصحّ من فضائل علي إلّا ثلاثة أحاديث، وهذا نصّ كلامه:
___________________
(١). الروضة الندية - شرح التحفة العلوية: ١١٨.
« قال أبو محمد ابن حزم: الذي صحّ في فضائل عليّ فهو قول رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم -: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي. و قوله: لأعطينّ الرّاية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله. وهذه صفة واجبة لكلّ مسلم مؤمن وفاضل. و عهده -صلىاللهعليهوآلهوسلم -: إنّ عليّاً لا يحبّه إلّا مؤمن ولا يبغضه إلّا منافق. وقد صحّ مثل هذا في الأنصار - رضي الله عنهم - أنّه لا يبغضهم من يؤمن بالله واليوم الآخر.
وأمّا من كنت مولاه لعليّ مولاه، فلا يصحّ من طريق الثقات أصلاً.
وأمّا سائر الأحاديث التي تتعلّق بها الروافض، فموضوعة يعرف ذلك من له أدنى علم بالأخبار ونقلتها.
فان قيل: فلم لم يذكر ابن حزم ما في الصحيحين من قوله: إنّك منّي وأنا منك. وحديث المباهلة والكساء؟
قيل: مقصود ابن حزم الذي في الصحيحين من الحديث الذي لا يذكر فيه إلّا علي، وأما تلك ففيها ذكر غيره »(١) .
فهذا كلامه لكنّهم يناقشون في دلالة حديث المنزلة، بل زعم يوسف الأعور دلالته على الذمّ دون المدح والفضل، والعياذ بالله.
وأما حديث خيبر، فقد رأيت ما يدعّيه ابن حزم حوله في الكلام المذكور.
وأما الحديث الثالث، فقد زعم عدم اختصاص تلك المنزلة بالامام -عليهالسلام - وأنه قد صحّ مثله في الانصار.
فأي عناد أبلغ من هذا يا منصفون؟!
التشنيع على رد الأحاديث
هذا، وغير خفي على من له أدنى علم بالأحاديث والآثار وكلمات العلماء
___________________
(١). منهاج السنة ٤ / ٨٦.
الأعلام، شناعة ردّ الأحاديث النبوية وفضاعة إنكارها وجحدهاقال نور الدين السّمهودي: « أخرج البيهقي عن عطاء بن يسار أنّ معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء - رضياللهعنه -: سمعت رسول الله - صلىاللهعليهوآلهوسلم - نهى عن مثل هذا إلّا مثلاً بمثل. فقال معاوية: ما أرى بأساً، فقال أبو الدرداء: من يعذرني من معاوية؟ أخبره عن رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - ويخبرني عن رأيه، لا أساكنك بأرض أنت بها.
قال البيهقي: قال الشافعي: فرأى أبو الدرداء الحجة تقوم بخبره، ولمـّا لم ير معاوية ذلك، فارق أبو الدرداء الأرض التي هو بها إعظاماً، لأنّه ترك خبراً عن رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم -.
قال الشافعي: وأخبرنا أنّ أبا سعيد الخدري لقي رجلاً فأخبره عن رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - شيئاً فخالفه. فقال أبو سعيد: والله لا آواني وإياك سقف بيت أبداً »(١) .
أقول: فاذا كان ردّ خبر واحد بهذه المثابة من الشناعة، فإنّ شناعة إنكار الحديث المتواتر أكثر وأشدّ كما هو واضح.
وقال الذهبي: « قال أحمد بن محمد بن اسماعيل الآدمي: ثنا الفضل بن زياد، سمعت أحمد بن حنبل يقول: من ردّ حديث رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - فهو على شفا هلكة »(٢) .
أقول: فظهر بحمد الله أن المنكرين لحديث الغدير الذي أخرجه جمع من المشاهير - ومنهم هذا الامام النحرير - من الهلاك على شفير.
وقال السيوطي: « قال أبو معاوية الضرير: ما ذكرت النبي - صلّى الله عليه
___________________
(١). جواهر العقدين - مخطوط.
(٢). سير أعلام النبلاء ١١ / ٢٩٧.
وسلّم بين يدي الرشيد إلّا قال: صلّى الله على سيّدي.
وحدّثته بحديثه -صلىاللهعليهوآلهوسلم -: وددت أني أقاتل في سبيل الله، فأقتل ثم أحيي فأقتل: فبكى حتى انتحب.
وحدّثته يوماً حديث: إحتج آدم وموسى. وعنده رجل من وجوه قريش فقال القرشي: فأين لقيه؟ فغضب الرشيد وقال: النطع والسيف، زنديق يطعن في حديث النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم -!! قال أبو معاوية: فما زلت أسكنّه وأقول يا أمير المؤمنين كانت منه بادرة، حتى سكن »(١) .
أقول: وإذا كان قول الرجل في حديث إحتجاج آدم وموسى « فأين لقيه » دليل الكفر واستحقاق القتل والعقاب، فإنّ إنكار الرازي واهتمامه في إبطال حديث الغدير يستوجب ذلك بالأولوية القطعية.
وقال الذهبي: « وقال الفضل بن زياد عن أحمد بن حنبل، قال: بلغ ابن أبي ذئب أنّ مالكاً لا يأخذ بحديث البيّعان بالخيار، فقال: يستتاب فإنْ تاب وإلّا ضربت عنقه. قال أحمد: ومالك لم يرد الحديث لكن تأوّله »(٢) .
أقول: وظاهر كلام أحمد في هذا المقام، إستحقاق مالك القتل إنْ كان قد ردّه ردّ إنكار ولم يتب، وإذا كان هذا حكم ردّ حديث من أحاديث النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - حتى ولو كان الراد - مالك بن أنس على جلالته وعظمته، فإنّ منكر حديث الغدير، وهو أجلّ من حديث البيّعان بالخيار من جميع الجهات، يستحقّ الحكم المذكور - إن لم يتب - بالأولوية القطعية.
وقال ابن قيّم الجوزيّة - بعد حديث طويل رواه عن عبد الله بن أحمد بن حنبل في ذكر قدوم وفد بني المنتفق -: « هذا حديث كبير جليل ينادي جلالته وفخامته وعظمته على أنه قد خرج من مشكاة النبوة لا يعرف إلّا من حديث
___________________
(١). تاريخ الخلفاء ١ / ١١١.
(٢). تذهيب التهذيب - مخطوط.
عبد الرحمن بن المغيرة بن عبد الرحمن المدني، رواه عنه إبراهيم بن ضمرة الزبيري، وهما من كبار أهل المدينة ثقتان محتج بهما في الصحيح، إحتجّ بهما إمام الحديث محمد بن إسماعيل البخاري
وقال ابن مندة: روى هذا الحديث محمد بن إسحاق الصغاني وعبد الله بن أحمد بن حنبل وغيرهما، وقد رواه بالعراق بمجمع من العلماء وأهل الدين جماعة من الأئمة، منهم أبو زرعة الرازي، وأبو حاتم، وأبو عبد الله محمد بن إسماعيل، ولم ينكره أحد ولم يتكلّم في إسناده، بل رووه على سبيل القبول والتسليم، ولا ينكر هذا الحديث إلّا جاحد جاهل أو مخالف للكتاب والسنة. هذا كلام أبي عبد الله ابن مندة -رحمهالله - »(١) .
أقول: فإذا كان هذا حال منكر هذا الحديث - مع أنه لا يعرف إلا من حديث عبد الرحمن بن المغيرة، كما نص عليه ابن القيّم - فلا ريب في ثبوته لمن أنكر حديث الغدير المتواتر بالأولوية القطعية.
وقال أبو طالب محمد بن علي المكي * المترجم له في مرآه الجنان حوادث * سنة ٣٨٦ وغيره * في كتابه ( قوت القلوب ): « وفي رد أخبار الصفات بطلان شرائع الاسلام من قبل أن الناقلين إلينا ذلك هم ناقلوا شرائع الدين وأحكام الايمان، فانْ كانوا عدولاً فيما نقلوه من الشريعة، فالعدل مقبول القول في كل ما يقوله، وإنْ كانوا كذبوا فيما نقلوا من أخبار الصفات فالكذاب مردود القول في كلّ ما جاء، والكذب على الله تعالى كفر، فكيف تقبل شهادة كافر! وإذا جاز أن يجترئوا على الله سبحانه بأن يزيدوا في صفاته ما لم يسمعوه عن رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - فهم أن يكذبوا على الرسول فيما نقلوا من الأحكام أولى. ففي ذلك إبطال الشرع وتكفير النقلة من الصحابة والتابعين بإحسان، فلذلك كفّر أهل الحديث من نفى أخبار الصفات ».
___________________
(١). زاد المعاد في هدي خير العباد ٣ / ٥٦.
أقول: وبهذا الأسلوب من الاستدلال نستدل في المقام، لأن حديث الغدير ليس أدنى مرتبةً من أخبار الصفات
وقال أبو سعد السمعاني: « البترية بفتح الباء الموحدة وسكون التاء ثالث الحروف وفي آخرها الراء.
هذه النسبة لجماعة من الشيعة من الفرقة الزيدية، وهي إحدى الفرق الثلاث من الزيدية وهي الجارودية والسليمانية والبترية. وأما البترية فهم أصحاب كثير النوّا والحسن بن صالح بن حي، وقولهم كقول سليمان، غير أنهم توقفوا في عثمان -رضياللهعنه - وأمره وحاله. وأظللنا هذه الطائفة لأنهم شكّوا في إيمان عثمان -رضياللهعنه - وأجازوا كونه كافراً من أهل النار، ومن شك في إيمان من أخبر النبي -عليهالسلام - أنه من أهل الجنّة فقد شك في صحة خبره. والشاك في خبره كافر.
وهذه الفرق الثلاثة من الزيدية يكفّر بعضهم بعضاً، لأنّ الجارودية أكفرت أبا بكر وعمر، والسليمانية والبترية أكفرت من أكفرهما »(١) .
أقول: وإذا كان « الشاك » في خبر النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - « كافراً »، فان « منكره » - ولا سيما مثل حديث الغدير - « كافر » بالأولوية القطعية.
ومن العجيب أن يحكم بكفر الشاك في إيمان عثمان مع احتمال أن لا يكون حديث إخبار النبي -صلىاللهعليهوآلهوسلم - أنه من أهل الجنّة صحيحاً عنده وعند أتباعه فضلاً عن أن يكون متواتراً - ولا يحكم بكفر من ينكر حديث الغدير الذي رواه أهل مذهبه - خلفاً عن سلف في جميع الطبقات وصرح أئمّة علمائهم بتواتره؟ بل ولا ينسب إلى التعصب ولا يوصف بالتعسف؟
وقال ملك العلماء شهاب الدين الدولت آبادي: « وفي المضمرات في كتاب الشهادات: ومن أنكر الخبر الواحد والقياس وقال: إنه ليس بحجة، فإنه يصير
___________________
(١). الأنساب - البترية.
كافراً. ولو قال: هذا الخبر غير صحيح وهذا القياس غير ثابت، لا يصير كافراً ولكن يصير فاسقاً»(١) .
أقول: فمن أنكر الخبر المتواتر يصير كافراً بالأولوية القطعية.
وقال المولوي عبد الحليم في ( نظم الدرر في سلك شق القمر ): « اعلم أنه تقدم أن حديث شق القمر خبر مشهور او متواتر، فعلى الأول منكره يضلّل وعلى الثاني يكفّر فإنّ الأخبار المروية عنه -صلىاللهعليهوآلهوسلم - على ثلاث مراتب كما بينته في شرح النخبة، ونخبته هاهنا، أنه إما متواتر وهو ما رواه جماعة عن جماعة لا يتصور تواطؤهم على الكذب، فمن أنكره كفّر.
أو مشهور، وهو ما رواه واحد ثم جمع عن جمع لا يتصور توافقهم على الكذب، فمن أنكره كفّر عند الكل إلّا عيسى بن أبان، فإنّ عنده يضلّل ولا يكفّر وهو الصحيح.
أو خبر الواحد وهو أن يرويه واحد عن واحد، فلا يكفّر جاحده غير أنّه يأثم بترك القبول، إذا كان صحيحاً أو حسناً.
وفي الخلاصة: من ردّ حديثاً قال بعض مشايخنا يكفّر، وقال المتأخّرون: إن كان متواتراً كفّر. أقول: هذا هو الصحيح إلا إذا كان رد حديث الآحاد من الأخبار على وجه الاستخفاف والانكار ».
أقول: وبناء عليه أيضاً يكفّر منكر حديث الغدير، لما تقدّم من ثبوت تواتره حسب كلمات فحول العلماء الأعيان.
ولو تنزّلنا عن ذلك، فلا ريب في شهرته، فمنكره يضلّل.
وقال علي بن سلطان القاري، في رسالته في الردّ على إمام الحرمين الجويني: « ومنها قوله: إنّ من توضّأ بنبيذ التمر، فقد جعل نفسه شهرة للعالمين وأنكالاً للخلق أجمعين، ونسب مثل هذا القول إلى القفّال، زعماً منه أنّه من العاقلين
___________________
(١). هداية السعداء - مخطوط.
الكاملين، مع أنّ هذا موجب لكفر الطاعنين والقائلين، فإنّ الإِمام أبا حنيفة -رضياللهعنه - لم يذهب إلى هذه القول برأيه، بل بما ثبت عنده من الأحاديث المرويّة عن سيد المرسلين بواسطة أجلّاء أصحابه - رضي الله عنهم أجمعين - وليس منفرداً به أيضاً بين المجتهدين، إذ ذهب إليه سفيان الثوري وعكرمة أيضاً من التابعين ».
أقول: فاذا كان طعن الطاعنين على القول بجواز التوضّي بنبيذ التمر موجباً لكفرهم، لثبوت هذا الحكم بالأحاديث المرويّة عن رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - حسب زعمه، فكيف لا يكفّر الطاعن في حديث الغدير يا منصفون؟
وإذا كان قد وافق سفيان وعكرمة أبا حنيفة في هذه الفتوى، فإنّ حديث الغدير متواتر عن رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - مشهور لدى جميع المحدّثين، ورواه كلهم خلفاً عن سلف في جميع الطبقات، واعتنوا به وجمعوا طرقه وألفاظه في كتبهم المختلفة وأسفارهم المعتبرة
وقال الشاه ولي الله الدهلوي في ( التفهيمات الالهية ): « تفهيم - من كان مقلداً لواحد من الأئمّة وبلغه عن رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - ما يخالف قوله في مسألة وغلب على ظنّه أنّ ذلك نقل صحيح فليس له عذر في أن يترك حديثه -عليهالسلام - إلى قول غيره، وما ذلك شأن المسلمين ويخشى عليه النفاق إنْ فعل ذلك ».
أقول: فإذا لم يكن من شأن المسلمين ترك حديث غلب على ظنّه أنّ ذلك نقل صحيح، وأنّه يخشى على فاعله النفاق، فإنّ ردّ مثل حديث الغدير الصحيح المتواتر، يوجب الخروج من عداد المسلمين والدخول في زمرة المنافقين قطعاً
و قال الفضل بن روزبهان - في الجواب عن قول العلامة الحلّي -رحمهالله - روى الجمهور أنّه -عليهالسلام - لمـّا برز إلى عمرو بن عبد ود العامري في غزاة الخندق، وقد عجز عنه المسلمون، قال النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم - برز الايمان كلّه إلى الكفر كلّه - قال الفضل:
« أقول: إنه صح هذا أيضاً في الخبر، وهذا أيضاً من مناقبه وفضائله التي لا ينكرها إلّا سقيم الرأي ضعيف الإِيمان، ولكن الكلام في إثبات النص وهذا لا يثبته ».
أقول: فمنكر حديث الغدير سقيم الرأي ضعيف الايمان بالأولوية القطعية
لم يتكلم في صحة حديث الغدير إلّا متعصّب جاحد
هذا كله بالاضافة إلى أن جماعة من كبار علماء أهل السنة نصّوا بالنسبة إلى خصوص حديث الغدير على أنه لم يتكلم في صحته إلّا متعصب جاحد لا اعتبار بقوله فقد قال الميرزا محمد بن معتمد خان البدخشي: « هذا حديث صحيح مشهور، ولم يتكلّم في صحته إلّا متعصب جاحد لا اعتبار بقوله، فإنّ الحديث كثير الطرق جدّاً، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد، وقد نصّ الذهبي على كثير من طرقه بالصحة، ورواه من الصحابة عدد »(١) .
أقول: فتبين أن البخاري وأبا حاتم الرازي وابن أبي داود وابراهيم الحربي وابن حزم والفخر الرازي وأمثالهم، متعصبون جاحدون لا اعتبار بقولهم ولله الحمد على ذلك.
وقال شمس الدين ابن الجزري بعد أن صرح بتواتر حديث الغدير:
« ولا عبرة بمن حاول تضعيفه ممن لا اطلاع له في هذا العلم »(٢) .
وقال ( الدهلوي ) في الجواب عن حديث الغدير: « قالت النواصب - خذلهم الله -: هذا الخبر على تقدير صحته، منسوخ بما صحّ عندكم في الصحاح أن رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - قال: إنّ آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء إنما
___________________
(١). نزل الأبرار: ٢١.
(٢). أسنى المطالب في مناقب علي بن أبي طالب: ٣.
وليّ الله وصالح المؤمنين. وأجاب أهل السنة: إن اسم أبي طالب ليس في صحاحنا وإنما لفظالحديث: إن آل أبي فلان فلعله أراد أبا لهب وهو مذهب أكثر أهل السنة، حيث خصصوا الخمس بما عدا أولاده، وإنْ ذكره، بعض النواصب في روايته فلا يكون حجة علينا. قالوا: قد صح عن عمرو بن العاص أنه ذكر أبا طالب. قلنا لم يصح عندنا وإنما صح عندكم، ولو فرض صحته فالمراد من آله من لم يكن حينئذٍ مؤمناً كأبي طالب وبنيه، لا سيدنا ومولانا علي وأخواه جعفر وعقيل حتى يصح دعوى نسخقوله: من كنت مولاه فعلي مولاه.
وأيضاً: دعوى النسخ إنما يمكن أذا علم التاريخ. وأجاب بعض أهل السنة بأن الخبرين من باب الاخبار، والاخبار لا يحتمل النسخ. وردّه النواصب: إن الخبر متى تضمّن حكماً كقوله:( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ) ونحوه، صح نسخه. وقوله: من كنت مولاه فعلي مولاه، على تقدير صحّته من هذا القبيل، فإنّه يتضمّن إيجاب محبته »(١) .
أقول: فظهر أن ردّ هذا الحديث من صنيع النواصب، لكن الرازي ومن تبعه أسوء حالاً من النواصب، لأنّهم اعتقدوا بطلان حديث الغدير وحاولوا ردّه بكلّ جهدهم، أما النواصب فإنهم ناقشوا فيه وأجابوا عنه « على تقدير صحته » فإنّهم غير جازمين ببطلانه
محمد محسن الكشميري
وجاء محمد محسن الكشميري، ففاق من سبقه في الوقاحة وسبقهم في التعصب والعناد، فقال في الجواب عن حديث الغدير:
« وأما عن الحديث فبوجوه: أما أولاً فبأن المهرة كأبي داود وأبي حاتم الرازي قد ضعّفوا هذا الحديث، وما أخرجه إلّا أحمد بن حنبل في مسنده، وهو مشتمل على الصحيح والضعيف وليس من الصحاح، كما صرح به مهرة فن الحديث، فهو
___________________
(١). حاشية التحفة.
خبر واحد ضعيف، فلا يصح للحجية في الأصول سيما في أصل الدين، ولم يخرج غيره من الثقات إلّا الجزء الأخير من قوله: اللهم وال من والاه »(١) .
وجوه الجواب عن كلام الكشميري
وهذا الكلام يشتمل على هفوات وأكاذيب، فالجواب عنه بوجوه:
١ ) نسبة التضعيف إلى أبي داود كذب.
لقد علمت فيما سبق مراراً أن نسبة تضعيف حديث الغدير إلى أبي داود كذب محض وبهتان بحت.
نعم ضعّفه ابنه - الكذاب - لكن الكشميري نسب ذلك إلى الأب بدلا عن الابن، تقليدا لبعض أسلافه المغفلين المتعصبين
٢ ) بطلان التمسك بتضعيف أبي حاتم.
وعلمت فيما سبق بطلان مزاعم أبي حاتم وأمثاله حول حديث الغدير وسخافة الخرافات التي تمسكوا بها لتضعيفه
وهل المهارة في الحديث تختص بهذين الرجلين؟ وهل تختص بمن يقدح في فضائل أمير المؤمنين -عليهالسلام -؟
ولكن لا عجب من صدور هذه الترهات من هذا الرجل بعد صدورها من الرازي والتفتازاني وغيرهما
٣ ) قوله: ما أخرجه إلّا أحمد.
وقوله: ما أخرجه إلّا أحمد بن حنبل في مسنده، كذب صريح وتعصب فضيح، يكشف عن شدة عداء الرجل، وكثرة جهله وجحده، حتى أن اسلافه المتعصبين الجاحدين أبوا عن التفوه بهذه الدعوى الكاذبة.
٤ ) قوله: وهو مشتمل على الصحيح والضعيف.
___________________
(١). نجاة المؤمنين - مخطوط.
وقد وصف الكشميري كتاب المسند لأحمد بن حنبل بأنه مشتمل على الصحيح والضعيف، ولكن هذه الدعوى مردودة لدى جماعة من المحققين كالسبكي وغيره.
٥ ) قوله: وليس من الصحاح
ثم قال حول حديث الغدير: وليس من الصحاح كما صرح به مهرة فن الحديث، وهذه أكذوبة أخرى، فإن كثيراً من طرق حديث الغدير صحيح حسب تصريح أئمة فن الحديث كما سمعت سابقاً.
٦ ) قوله: فهو خبر واحد ضعيف
ثم قال: فهو خبر واحد ضعيف فلا يصح للحجية وهذا كذب واه وكلام سخيف، فقد عرفت صحة هذا الحديث وتواتره بحمد الله تعالى حسب نصوص عبارات الأئمّة المحققين وأساطين الحديث.
٧ ) قوله: ولم يخرج غيره
ثم قال: ولم يخرج غيره - يعني أحمد بن حنبل - من الثقات إلّا الجزء الأخير من قوله: اللهم وال من والاه.
أقول: وهذه الدعوى الكاذبة يجل عن التفوه بها أدنى المنتسبين إلى الدين الاسلامي، ولو باللسان، لأن كذبها واضح حتى على العوام فضلاً عن الخواص.
وبالرغم من ثبوت تواتر هذا الحديث في جميع الطبقات حتى العدة الكثيرة والجم الغفير من صحابة رسول الله -صلىاللهعليهوآلهوسلم - من الفصول المتقدمة في الكتاب، فإنا نذكر هنا أسماء جماعة من مهرة فن الحديث وكبار الأئمّة والحفاظ والرواة في القرون المختلفة، ثم نصوص رواياتهم وأسانيدهم الى الصحابة في نقل حديث الغدير، مزيداً لتوضيح المرام وزيادة تقبيح وتفضيح للكشميري وأسلافه اللئام، والله الموفق في البدء والختام.
( قال الميلاني ): الى هنا تم هذا الجزء من الكتاب، الذي جعلنا عنوانه ( المدخل ). وسنشرع من الجزء الذي يليه في البحث حول ( حديث الغدير ) سنداً
ودلالة. والله الموفق والمعين، وله الحمد أولاً وآخراً.
الفهرس
اهداء ٥
حديث الغدير ٧
كلمة السيد صاحب العبقات ٣٥
كلام الدهلوي حول حديث الغدير ٣٧
المؤلّفون في حديث الغدير ٤٧
كلام ابن المغازلي ٥٠
ابن المغازلي ثقة ٥١
تصنيف ابن عقدة في طرق الحديث ٥٣
[ ذكر من روى عنه ابن عقدة حديث الغدير من الصحابة ] ٥٤
ذكر من صرح بتأليف ابن عقدة الكتاب المذكور ١ ) ابن تيمية ٢ ) ابن حجر العسقلاني ٥٩
ذكر من أورد كلام العسقلاني ٦٠
٣ ) ابن حجر العسقلاني أيضاً ٦١
٤ ) الشّريف السمهودي ٥ ) الشيخاني القادري ٦٢
٦ ) البدخشاني رواة كتاب الموالاة ٦٣
ترجمة ابن عقدة ووثاقته ٧١
كلمات في توثيقه ٧٣
تصنيف الطبري كتاباً في طرق حديث الغدير ٨٠
ذكر من قال ذلك ٨١
ترجمة الطبري ٨٢
تصنيف الحسكاني في طرق حديث الغدير ترجمة الحسكاني ٨٦
ترجمة عبد الغافر ٨٩
تصنيف أبي سعيد السجستاني مصنفاً في طرق حديث الغدير ٩١
ترجمة أبي سعيد السجستاني ٩٢
ترجمة الدقاق ٩٣
تصنيف الحافظ الذهبي في جمع طرق حديث الغدير ٩٤
أقول: ٩٥
تصنيف بعض العلماء في طرق حديث الغدير ٩٦
ترجمة أبي المعالي الجويني ٩٧
تواتر حديث الغدير ١٠١
ذكر من نص على ذلك ١. الحافظ الذهبي ١٠٣
٢. الحافظ ابن الجزري ١٠٤
ترجمة ابن الجزري ١٠٦
إعتماد العلماء عليه ١٠٧
روايتهم لكتبه ٣. الحافظ السيوطي ١٠٨
ذكر كتب السيوطي في الأحاديث المتواترة نقل حكمه بتواتر الحديث ١١٠
٤. الشيخ علي المتقي ٥. الميرزا مخدوم ١١١
٦. جمال الدين المحدث ١١٣
٧. الملّا علي القاري ٨. ضياء الدين المقبلي ١١٤
٩. محمد بن إسماعيل الأمير ١٠. محمد صدر العالم ١١٦
١١. باني بتي ١١٧
١٢. محمد مبين اللكهنوي ١١٨
خلاصة البحث ١١٩
مع الرازي في كلامه حول حديث الغدير وفقهه ١٢١
مقدمة ١٢٥
عدم رواية البخاري ومسلم حديث الغدير ١٢٩
١. إنه دليل التعصب ٢. المثبت مقدّم على النافي ١٣١
٣. الشهادة على النفي غير مسموعة ١٣٤
٤. عدم النقل لا يدل على العدم ١٣٥
٥. عدم استيعاب الكتابين للصحاح ١٣٦
نقد ورد ١٣٨
٦. لو أخرجاه لأنكره المتعنتون نماذج مما أخرجاه وأنكروه ١٤١
٧. رأي الائمّة في الكتابين ومؤلفيهما ١ ) محي الدين عبد القادر القرشي الحنفي ١٥٠
ترجمة عبد القادر القرشي ٢ ) علي القاري ١٥٣
٣ ) الأدفوي الشافعي ١٥٥
ترجمة الأدفوي ١٥٧
٤ ) أبو زرعة الرازي ١٥٨
ترجمة أبي زرعة الرازي ١٦٢
٥ ) أبو حاتم الرازي ترجمة أبي حاتم ١٦٥
٦ ) ابن أبي حاتم ترجمة ابن أبي حاتم ١٦٦
٧ ) محمد بن يحيى الذهلي ١٦٧
كفر الجهمية ١٦٨
بين الذهلي والشيخين ١٦٩
ترجمة محمد بن يحيى الذهلي ١٧٠
٨ ) أبوبكر ابن الأعين والبخاري ١٧٣
الامام أحمد واللّفظية ١٧٤
الامام أحمد بن صالح واللفظية ١٧٦
موجز ترجمة أحمد بن صالح مع الذهبي ١٧٦
٩ ) عبد العلي الأنصاري الهندي ١٨٠
أحاديث من الصحيحين في الميزان الحديث الأول ١٨٢
الحديث الثاني ١٨٤
الحديث الثالث ١٨٧
الحديث الرابع ١٨٩
الحديث الخامس ١٩١
الحديث السادس ١٩٣
الحديث السابع ١٩٥
الحديث الثامن ٢٠٠
الحديث التاسع ٢٠٢
الحديث العاشر ٢٠٥
الحديث الحادي عشر ٢١١
ثلاثة أحاديث في البخاري ٢١٣
الحديث الخامس عشر ٢١٧
الحديث السادس عشر ٢٢٥
الفخر الرازي وأحاديث الكتابين ٢٣٢
دفاع الرازي عن الشافعي ٢٣٦
عدم رواية الواقدي حديث الغدير ٢٣٩
١. الواقدي من رواة مثالب الخلفاء ٢٤١
٢. إعراض الرازي عن روايات الواقدي ٢٤٥
٣. الواقدي مجروح ٢٤٦
عدم رواية ابن إسحاق حديث الغدير ٢٤٩
١. ابن اسحاق من رواة حديث الغدير ذكر من نقل عن ابن اسحاق حديث الغدير ٢٥١
٢. ذكر ابن إسحاق حضور علي في حجة الوداع ٢٥٤
٣. ابن اسحاق مجروح ٢٥٥
عدم رواية الجاحظ حديث الغدير ٢٥٩
١. الجاحظ من النواصب ٢٦١
٢. أضاليل الجاحظ وردود المفيد عليه ٢٦٢
٣. قال الخطابي: الجاحظ ملحد ٢٦٦
٤. آراء العلماء في الجاحظ ٢٧٠
٥. اتصاف الجاحظ بالصفات الذميمة ٢٧٦
٦. الآثار المترتبة على الاعتماد على الجاحظ ٢٧٧
الدفاع عن الجاحظ كلام ابن روزبهان وإبطاله ٢٨٣
كلام الرشيد الدهلوي ووجوه بطلانه ٢٨٤
١ ) الفضل ما شهدت به الأعداء ٢٨٦
٢ ) وصف الجاحظ بالمهارة لا ينفي عداوته ٣ ) الحافظ ابن خراش ومثالب الشيخين ٢٩٠
٤ ) إطراء أهل السنة علماء الشيعة ٢٩١
تكملة ٣٠٤
٦ ) يستند إلى أقوال العلماء في فنونهم ٣١٤
عدم رواية ابن أبي داود حديث الغدير ٣١٧
١. لا دليل على القدح ٢. دعوى القدح كاذبة ٣١٩
٣. استدلال الرازي يخالف قواعد البحث ٣٢٠
٤. المعارضة بتصحيح الأئمّة ٥. المعارضة برواية أبي داود ٣٢١
٦. قال أبو داود: ابني عبد الله كذّاب ٣٢٢
الشهود على روايته الحديث الموضوع ٣٣٠
تكملة ٣٣٤
٧. نظرات في سند الحديث ٣٣٨
٢ - نسبة البخاري الحديث إلى يعقوب بن إبراهيم ٣٤٣
٣ - في طريقه « سعد بن إبراهيم » ٣٤٥
٨. هذا الحديث مرويّ بالمعنى ٩. قيل: « انما » قد لا تدل على الحصر ٣٤٦
١٠. لا تنافي بين الحديثين ٣٤٧
الردّ على أنه « لم يكن علي مع النّبي » ٣٤٩
عدم رواية أبي حاتم حديث الغدير ٣٥٣
١. أبو حاتم متعنت ٣٥٤
٢. أبو حاتم ممّن قدح في البخاري ٣٥٥
٣. نسبة أبي حاتم كتاباً للبخاري إلى نفسه ٣٥٦
٤. المعارضة برواية ابنه ٣٥٧
رد الرازي على نفسه ٣٥٨
تفنيد المعارضة بحديث « قريش والأنصار مواليَّ دون الناس » ٣٦٠
١. إنه من أخبار المخالفين ٢. ليس من الأحاديث المشتهرة ٣٦٣
٣. هو خبر واحد عن أبي هريرة ٤. حديث الغدير برواية أبي هريرة ٣٦٤
٥. أبو هريرة كذّاب ٣٦٥
٦. وجوه القدح في أبي هريرة ٣٦٦
الخاتمة فيها كلمات في ذم الفخر الرازي ٣٧١
وقفة مع من أنكر تواتر حديث الغدير ٣٧٥
نور الدين الحلبي ٣٧٨
علي القاري ٣٧٩
ابن تيمية ٣٩٥
ابن حزم ٤٠٠
محمد محسن الكشميري ٤١٣
الفهرس ٤١٨