معاداة القبور.. أم معاداة أهلها

إنّ لحفظ آثار رسول الله صلّى الله عليه وآله وصيانتها فوائدَ كبيرة، كذلك آثار الأنبياء عليهم السلام.. فاليومَ نجد تاريخ الديانات يفتقر إلى المعالم المذكِّرة بوقائع الرسُلِ السابقين، بينما يُواجه المسلمون العالَمَ مرفوعي الرؤوس، فتلك خصائص الرسالة المحمّديّة مصانةٌ محفوظة.. هنا الدار التي وُلدِ فيها النبيّ صلّى الله عليه وآله، وهذا غارُ حِراء مَهبطُ الوحي، وذا مسجدُه الشريف، وتلك الحُجرة التي دُفن فيها، وهذه بُيوتاته وقبور بعض أولاده وزوجاته، وفي الأرجاء تشمخ أضرحةُ أوصيائه وخلفائه عليٍّ وآل عليّ سلام الله عليهم.

* * *

إنّ الإسلام دينٌ خالد، وسيبقى ساطعاً إلى يوم القيامة بأنواره النبويّة، ولكي تتعرّف الأجيال المتلاحقة المتعاقبة على أصالة الإسلام، ولكي تزداد شوقاً إلى أيّام الرسالة الأولى، أصبح من الواجب علينا صيانة جميع آثاره ومعالم النبوّة. ولقد بذل المسلمون جهوداً مشكورةً على مدى التاريخ من أجل المحافظة على آثار رسول الله المصطفى صلّى الله عليه وآله، فدوّنوا خصائصه وصفاته وسيرته، ومسائله الشخصيّة.. مثل: علامات سيفه ودرعه وجواده وناقته، والأراضي التي أوقَفَها للخير، وكيف كانت مِشيتُه وتناوله للأشياء.. إلى آخِر ما دُوِّن ولا زال محفوظاً، فضلاً عن الاعتناء بقبره المبارك ومرقده النيّر الطاهر.

* * *

ومن خلال مراجعة تاريخ المسلمين والتَّجوال في البلدان الإسلاميّة، يتبيّن لنا بأنّ إعمار القبور وصيانتها من الفَناء والزوال كان أمراً مألوفاً مُتداوَلاً، ولا تزال هنالك عشرات، بل مئات الأضرحة والمقابر المشهورة باسم الأنبياء والأوصياء والأولياء، منتشرةً في العالم الإسلامي وهي عامرةٌ ببنائها وزوّارها، ومصانةٌ بالعائدات الموقوفة عليها.

ولم يكن هنالك أيُّ عالمٍ مِن أيّ مذاهب معترضاً على بقاء تلك القبور أو تعميرها، حتّى أنّ أحمد بن حنبل كان يتبرّك بقبر الإمام موسى الكاظم صلوات الله عليه ويستشفي به، ويقول بأنه التِّرياق الأحمر.. هذا في العراق، والحال مثلُها في مصر والشام والمغرب وتونس، وجميع أرجاء البلاد الإسلاميّة، المقابر عامرة، يزورها المسلمون أفواجاً أفواجاً من أقاصي الأصقاع وأدانيها، يقرأون الفاتحة وسورَ الآي الكريم، ويهدون ثواب ذلك إلى العلماء والصالحين والشهداء، ويُنذرون ويطلبون عندها من الله حوائجهم.

* * *

هذا ما آطّردت عليه سيرة المسلمين، ولم يعلموا إلاّ أنّ ذلك من الأمور المندوبة، ومن السُّنن الشريفة والأعمال الخيّرة الطيّبة؛ لأنّ زيارة القبر لم تتعرّض لنقد العلماء ولا الفقهاء، فضلاً عن عدم تحريم الأنبياء والأوصياء، بل يستنبط أهلُ الفهم من بعض آيات القرآن الكريم استحبابَ إعمارِ قبور الأولياء باعتباره أحدَ السُّبل المؤدّية إلى تكريمهم، وتكريمُهم هو تعظيمٌ لشعائر الله تبارك وتعالى، وذلك من تقوى الله كما صرّحت الآية المباركة: ومَنْ يُعظِّمْ شَعائرَ اللهِ فإنَّها مِن تَقْوى القُلُوب [ سورة الحجّ:22 ].

كذلك جاءت الآية المباركة واضحة في قوله عزّ من قائل: فِي بُيوتٍ اَذِنَ اللهُ اَنْ تُرفَعَ ويُذْكَرَ فِيها آسمُه، يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بالْغُدُوِّ والآصالِ * رِجالٌ لا تُلْهِيهِم تِجارةٌ ولا بَيعٌ عَن ذِكْرِ الله.. [ سورة النور:36،37 ]، فجاءت الآية الشريفة مشيرةً إلى أنّ بعضَ البيوت هي محلُّ الذِّكر والتسبيح.. وقد أوضَحَت رواية أنس بن مالك وبُرَيدة بُيوتَ مَن هذه التي أذِن الله أن تُرفَع ويُذكَرَ فيها اسمه، حيث أورد الكراجكيّ في ( كنز الفوائد:185 ) رواية قال فيها مالك وبُريدة: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وآله: في بُيوتٍ اَذِنَ اللهُ أن تُرفَعَ ويُذكَرَ فيها آسمُه ، فقام إليه أبو بكرِ فقال: يا رسولَ الله، هذا البيت منها ؟ ـ وأشار إلى بيت عليٍّ وفاطمة عليهما السلام ـ فأجابه النبيّ صلّى الله عليه وآله: « نَعَم، مِن أفضلِها ».

ثمّ أين قُرّاء القرآن الكريم وهم يمرّون على الآية الشريفة في سورة الكهف من قوله تعالى: فقالُوا آبْنُوا عَلَيهِم بُنْياناً رَبُّهُم أعلَمُ بِهِم، قالَ الَّذينَ غَلَبُوا عَلى أمْرِهِم لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيهِم مَسْجِداً [ الآية:21 ]، ولم يَقْرأوا إنكاراً ولا آستنكاراً لذلك وقد شُيّد مسجدٌ على قبور أصحاب الكهف رضوانُ الله عليهم. قال المفسّرون: ظاهر سياق الآية كونُ قول الموحّدين: لَنَتَّخِذَنّ عَلَيهِم مَسْجِداً ردّاً منهم لقول المشركين: ابنُوا عَلَيهِم بُنْياناً.. ،.. وهؤلاءِ القائلون: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيهِم مَسْجداً هم الموحِّدون، ومِن الشاهد على ذلك تعبيرُهم عمّا اتّخذوه بالمسجد دون المعبد؛ فإنّ المسجد في عُرف القرآن هو المحلّ المُتَّخَذ لِذِكر الله والسجودِ له، قال تعالى: ومَساجِدُ يُذْكَرُ فِيها آسمُ الله [ الحجّ:40 ].. ( تفسير الميزان للسيّد محمّد حسين الطباطبائي 266:13 ـ 267 ).

* * *

إنّ محاولة مَحْوِ آثار آلِ الله من الأنبياء والأوصياء والأولياء عليهم السلام، تنصبّ في محاولة محو آثار الدين ومعالمه، كذلك تخريب قبور أهل البيت النبويّ الطاهر مُنْصَبّ في تعمية الحقائق على الناس، لينصرفوا عن هذا البيت الذي شَهِد نزولَ الوحي وتلاوة آيات الله لأوّل مرّة، ويذهبوا إلى بُيوتٍ تجذّرت فيها الجاهليّة بأرجاسها من الشرك والكفر والمفاسد بأنواعها، وإلاّ لماذا تُهدَّم قبور أئمّة البقيع في مدينة رسول الله صلّى الله عليه وآله وتُترك آثار الجاهليّة الأُولى كقصرَي سعيد بن العاص، وكحِصنِ كعبِ بن الأشرف وأطم الطخيان، والبلاطات: الشرقيّ والشماليّ والأعظم ؟! لماذا تُمحى بُيوت رسول الله وتُحوَّل إلى أبنيةٍ تافهة فيما تُحفَظ معالمُ سقيفة بني ساعدة، وبعض معالم الآثار الرديئة ؟! حُفِظت ودُوِّنت بالخرائط والفهارس والصور الحديثة على يد عبدالقدّوس الأنصاري في كتابه ( آثار المدينة المنوّرة )، في حين لم يُذكر بيت سيّد الكائنات رسول الله صلّى الله عليه وآله، ذلك البيت الذي وُلدِ فيه، كذلك لم يُشَر ـ ولو إشارةً ـ إلى بيت سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام ولا دار عليّ، ولا إلى أيّ أثرٍ للقبور الشريفة لأئمّة البقيع: الحسن المجتبى ريحانة المصطفى، وعليِّ بن الحسين زين العابدين وسيّد الساجدين، ومحمّد بن عليٍّ الباقر ـ كما سماه رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ وجعفر الصادق ناشر المعارف في آفاق الدنيا صلوات ربّنا عليهم، وهم أحفاد النبيّ، وسلالة الخليفة الوصيّ!