دور العقل في فهم وتفسير القرآن

دور العقل في فهم وتفسير القرآن

موقع السيد كمال الحيدري

من الأبحاث الأساسية التي وقع النزاع فيها كثيراً على مرّ تاريخ الإنسان الطويل: هل يمكن الاعتماد على نتائج الاستدلالات العقلية في مختلف المجالات الفكرية والعقدية؟

والواقع: أنّ هذا النزاع تارةً يمكن تصويره بين الاتّجاه الحسّي الذي لا يؤمن إلاّ بنتائج العلوم الطبيعية القائمة على أساس المنهج التجريبي، وبين الاتّجاه العقلي الذي ذهب إليه الفلاسفة عموماً حيث آمنوا بإمكان الاعتماد على نتائج العلوم العقلية القائمة على أساس المنطق الأرسطي.

وأُخرى بين الاتّجاه الذي يصرّ على الاقتصار على ظواهر الكتاب والسنّة والاجتناب عن تعاطي الأُصول المنطقية والعقلية لفهم المعارف الدينية عموماً ، وبين الاتّجاه الذي يعتقد أنّ الكتاب والسنّة هما الداعيان إلى التوسّع في استعمال الطرق العقلية الصحيحة ، وهي المقدّمات البديهية أو المتّكئة على البديهية.

قبل هذا وذاك لابدّ من تعريف العقل، وماذا يراد به في مثل هذه الأبحاث؟

يطلق اسم العقل بالاشتراك على أربعة معان:

1ـ الوصف الذي به يفارق الإنسان سائر البهائم ، وهو الذي به استعدّ لقبول العلوم النظرية وتدبير الصناعات الخفيّة الفكرية ، وهو الذي أراده الحارث المحاسبي حيث قال في حدّ العقل : إنّه غريزة يتهيّأ بها إدراك العلوم النظرية وتدبير الصناعات وكأنّه نور يقذف في القلب ، به يستعدّ لإدراك الأشياء ، فإنّ الغافل عن العلوم والنائم يسمّيان عاقلين باعتبار وجود هذه الغريزة مع فقد العلوم .

 وكما أنّ الحياة غريزة بها يتهيّأ الجسم للحركات الاختيارية والإدراكات الحسّية ، فكذلك العقل غريزة بها يتهيّأ بعض الحيوانات للعلوم النظرية ، ويمكن تشبيه ذلك بالمرآة التي تفارق غيرها من الأجسام في حكاية الصور والألوان ؛ لصفة اختصّت بها وهي الصقالة ، وكذلك العين تفارق الأعضاء بصفة غريزية بها استعدّت للرؤية.

 فنسبة هذه الغريزة في استعدادها لانكشاف العلوم كنسبة المرآة إلى صور الألوان ونسبة العين إلى صور المرئيات.

والعقل بهذا المعنى يستعمله الفلاسفة في كتاب البرهان ، ويعنون به : قوّة النفس التي بها يحصل اليقين بالمقدّمات الصادقة الضرورية.

2ـ علوم تستفاد من التجارب بمجاري الأحوال ، فإنّ من حنّكته التجارب وهذّبته المذاهب يقال: إنّه عاقل في العادة ، ومن لا يتّصف بذلك يقال: إنّه غبيّ جاهل ، (ومرجعه إلى جودة الرويّة وسرعة التفطّن في استنباط ما ينبغي أن يؤثر أو يتجنّب ، وإن كان في باب الأغراض الدنيوية وهوى النفس الأمّارة بالسوء ، فإنّ الناس يسمّون من له هذه الرويّة المذكورة عاقلاً، أمّا أهل الحقّ فلا يسمّون هذه الحالة عقلاً ، بل أسماء أُخر كالدهاء ، أو الشيطنة وغيرهما) (1).

3ـ (أن ينتهي قوّة تلك الغريزة إلى أن يعرف عواقب الأُمور، فيقمع الشهوة الداعية إلى اللذّة العاجلة ويقهرها ، فإذا حصلت هذه القوّة سمّي صاحبها عاقلاً ، بحيث إنّ إقدامه وإحجامه بحسب ما يقتضيه النظر في العواقب لا بحكم الشهوة العاجلة ، وهذا أيضاً من خواصّ الإنسان التي يتميّز بها عن سائر الحيوانات)(2).

وهذا المعنى هو الذي أشارت إليه الرواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: قلت له: ما العقل؟ قال: (ما عُبد به الرحمان ، واكتسب به الجنان)(3). قال المجلسي في (مرآة العقول): (والمراد من العقل ، ملكة وحالة في النفس تدعو إلى اختيار الخيرات والمنافع واجتناب الشرور والمضارّ، وبها تقوى النفس على زجر الدواعي الشهوانية والغضبية والوساوس الشيطانية)(4).

4ـ (وهو المذكور في كتاب الإلهيات ومعرفة الربوبيات ، وهو الموجود الذي لا تعلّق له بشيء إلاّ بمبدعه وهو الله القيّوم ، فلا تعلّق له بموضوع كالعرض ولا بمادّة كالصورة ولا ببدن كالنفس ، وليس له كمال بالقوّة ، ولا في ذاته جهة من جهات العدم والإمكان والقصور إلاّ ما صار منجبراً بوجوب وجود الحقّ تعالى، ولهذا يقال لعالمه عالم الجبروت ، وكلّه نور وخير لا يشوبه شوب ظلمة وشرّ إلاّ ما احتجب بسطوة الضوء الأحدي وهو أمر الله وكلمته)(5) وهذا هو الذي ورد في الروايات : (أوّل ما خلق الله العقل).

عن سماعة بن مهران قال: (قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): (إنّ الله عزّ وجلّ خلق العقل ، وهو أوّل خلق من الروحانيين عن يمين العرش من نوره ، فقال له: أدبر فأدبر، ثمّ قال له: أقبل فأقبل ، فقال الله : خلقتك خلقاً عظيماً وكرّمتك على جميع خلقي...)(6).

والمراد من العقل في هذه الأبحاث هو المعنى الأوّل، قال الطباطبائي: (إنّ الحسّ لا ينال غير الجزئيّ المتغيّر، والعلوم لا تستنتج ولا تستعمل غير القضايا الكلّية ، وهي غير محسوسة ولا مجرّبة ، فإنّ التشريح مثلاً إنّما ينال من الإنسان مثلاً أفراداً معدودين قليلين أو كثيرين ، يعطي للحسّ فيها مشاهدة أنّ لهذا الإنسان قلباً وكبداً مثلاً ، ويحصل من تكرارها عدد من المشاهدة يقلّ أو يكثر وذلك غير الحكم الكلّي في قولنا: (كلّ إنسان له قلب أو كبد) ، فلو اقتصرنا في الاعتماد والتعويل على ما يستفاد من الحسّ والتجربة فحسب من غير ركون على العقليات من رأس لم يتمّ لنا إدراك كلّي ولا فكر نظريّ ولا بحث علميّ ، فكما يمكن التعويل أو يلزم على الحسّ في مورد يخصّ به ، كذلك التعويل فيما يخصّ بالقوّة العقلية ، ومرادنا بالعقل هو المبدأ لهذه التصديقات الكلّية ولمدرك لهذه الأحكام العامّة، ولا ريب أنّ الإنسان معه شيء شأنه هذا الشأن)(7).

وقال أيضاً: (العقل يطلق على الإدراك من حيث إنّ فيه عقد القلب بالتصديق ، على ما جبل الله سبحانه الإنسان عليه من إدراك الحقّ والباطل في النظريات ، والخير والشرّ والمنافع والمضارّ في العمليات ، حيث خلقه الله سبحانه خلقة يدرك نفسه في أوّل وجوده ، ثمّ جهّزه بحواسّ ظاهرة يدرك بها ظواهر الأشياء ، وبأُخرى باطنة يدرك معاني روحية بها ترتبط نفسه مع الأشياء الخارجة عنها كالإرادة والحبّ والبغض والرجاء والخوف ونحو ذلك ، ثمّ يتصرّف فيها بالترتيب والتفصيل والتخصيص والتعميم ، فيقضي فيها في النظريات والأُمور الخارجة عن مرحلة العمل قضاءً نظرياً ، وفي العمليات والأُمور المربوطة بالعمل قضاءً عملياً ، كلّ ذلك جرياً على المجرى الذي تشخّصه له فطرته الأصلية، وهذا هو العقل)(8).

بعد أن اتّضح معنى العقل نقول: إنّ الحياة الإنسانية قائمة على أساس الإدراك والفكر، ولازم ذلك أنّ الفكر كلّما كان أصحّ وأتمّ كانت الحياة أقوم ، وقد دعا القرآن إلى الفكر الصحيح وترويج طرق العلم في آيات كثيرة وبطرق وأساليب متنوّعة كقوله: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) (الأنعام: 122) ، (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر: 9) ، (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) (المجادلة: 11) ، (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الألْبَابِ) (الزمر: 17 ـ 18).

ولم يعيّن في الكتاب العزيز هذا الفكر الصحيح القيّم الذي يندب إليه إلاّ أنّه أحال فيه إلى ما يعرفه الناس بحسب عقولهم الفطرية وإدراكهم المركوز في نفوسهم ، ولو تتبّعت الكتاب الإلهي ثمّ تدبّرت في آياته وجدت ما لعلّه يزيد على ثلاثمائة آية تتضمّن دعوة الناس إلى التفكّر أو التذكّر أو التعقّل ، أو تلقّن النبي (صلى الله عليه وآله) الحجّة لإثبات حقّ أو لإبطال باطل كقوله: (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَِ اللهِ شَيْئاً إنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ) (المائدة: 17) أو تحكي الحجّة عن أنبيائه وأوليائه كنوح وإبراهيم وموسى وسائر الأنبياء العظام ، ولقمان ومؤمن آل فرعون وغيرهما ، كقوله: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) (إبراهيم: 10) وقوله: (وَإذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)  (لقمان:13 ) ،(وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ) (غافر: 28) وقوله حكاية عن سحرة فرعون : (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ... ) (طه: 72).

ولم يأمر الله تعالى عباده في كتابه ولا في آية واحدة أن يؤمنوا به أو بشيء ممّا هو من عنده أو يسلكوا سبيلاً وهم عمي لا يشعرون ، حتّى أنّه علّل الشرائع والأحكام التي جعلها لهم ـ ممّا لا سبيل للعقل إلى تفاصيل ملاكاته ـ بأُمور تجري مجرى الاحتجاجات كقوله: (إنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) (العنكبوت: 45) وقوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183) وقوله في آية الوضوء: (مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (المائدة: 6) إلى غير ذلك من الآيات.

وهذا الإدراك العقلي ـ أعني الفكر الصحيح الذي يحيل إليه القرآن الكريم ويبني على تصديقه ما يدعو إليه من حقّ أو خير أو نفع، ويزجر عنه من باطل أو شرّ أو ضرّ ـ إنّما هو الذي نعرفه بالخلقة والفطرة ممّا لا يتغيّر ولا يتبدّل ولا يتنازع فيه إنسان وإنسان ولا يختلف فيه اثنان ، وإن فرض فيه اختلاف أو تنازع فإنّما هو من قبيل المشاجرة في البديهيات ، ينتهي إلى عدم تصوّر أحد المتشاجرين أو كليهما حقّ المعنى المتشاجر فيه ؛ لعدم التفاهم الصحيح.

ــــــــــــــــــــــ

(1) شرح أصول الكافي، لصدر الدين محمّد بن إبراهيم الشيرازي، عني بتصحيحه: محمّد خواجوي، مؤسّسة مطالعات وتحقيقات فرهنگى، إيران، الطبعة الأولى: ج1 ص225، كتاب العقل والجهل.

(2) آداب النفس، للعارف الحكيم السيّد محمّد العيناني، حقّقه وصحّحه السيّد كاظم الموسوي المياموي، منشورات المكتبة الرضوية: ص7 في الحاشية.

(3) الأصول من الكافي، مصدر سابق: ج1 ص11، كتاب العقل والجهل، الحديث: 3.

(4) مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، تأليف: العلاّمة شيخ الإسلام المولى محمّد باقر المجلسي، الطبعة الثانية،1404هـ، دار الكتب الإسلامية، إخراج ومقابلة وتصحيح: السيّد هاشم الرسولي: ج1 ص25.

(5) شرح أصول الكافي، للشيرازي، مصدر سابق: ج1 ص227.

(6) الأصول من الكافي، مصدر سابق: ج1 ص21، كتاب العقل والجهل، الحديث: 14.

(7) الميزان في تفسير القرآن: ج1 ص48.

(8) المصدر نفسه: ج2 ص249.