مناظرة الشيخ المفيد مع أبي بكر الباقلاني وبعض المعتزلة في حكم القياس

قال الشريف المرتضى عليه الرحمة : ومن كلام الشيخ أدام الله عزّه أيضاً في إبطال القياس : سئل الشيخ أيّده الله في مجلس لبعض القضاة ، وكان فيه جمع كثير من الفقهاء والمتكلّمين ، فقيل له : ما الدليل على إبطال القياس في الاَحكام الشرعية ؟ فقال الشيخ أدام الله عزّه : الدليل على ذلك أنني وجدت الحكم الذي تزعم خصومي أنه أصل يقاس عليه ويستخرج منه الفرع ، قد كان جائزاً من الله سبحانه التعبد في الحادثة ، التي هو حكمها بخالقه مع كون الحادثة على حقيققتها وبجميع صفاتها ، فلو كان القياس صحيحاً لما جاز في العقول التعبد في الحادثة بخلاف حكمها ، إلا مع اختلاف حالها وتغير الوصف عليها ، وفي جواز ذلك على ما وصفناه دليل على إبطال القياس في الشرعيات . فلم يفهم السائل معنى هذا الكلام ولا عرفه ، والتبس على الجماعة كلها طريقه ، ولم يَلُحْ لاَحد منهم ولا فطن به ، وخلط السائل وعارض على غير ما سلف ، فوافقه الشيخ أدام الله عزّه على عدم فهمه للكلام وكرره عليه لم يحصل له معناه . قال الشيخ أيده الله : فاضطررت إلى كشفه على وجه لا يخفى على الجماعة ، فقلت : إن النبي صلى الله عليه وآله نصَّ على تحريم التفاضل في البر ، فكان النص في ذلك أصلاً زعمتم أيها القايسون أن الحكم بتحريم التفاضل في الاَرز مقيساً عليه وأنه الفرع له ، وقد علمنا أن في العقل يجوز إن كان يتعبد القديم سبحانه وتعالى بإباحة التفضل في البر ، وهو على جميع صفاته بدلاً من تعبده بحظره فيه ، فلو كان الحكم بالحظر لعلة في البر أو صفة هو عليها لاستحال ارتفاع الحظر إلا بعد ارتفاع العلة أو الوصف ، وفي تقديرنا وجوده على جميع الصفات والمعاني التي يكون عليها مع الحظر عند الاباحة دليل على بطلان القياس فيه ، ألا ترى أنّه لما كان وصف المتحرك إنما لزمه لوجود الحركة ، أو لقطعه المكانين استحال توهم حصول السكون له في الحقيقة مع وجود الحركة ، أو قطعة للمكانين ، وهذا بين لمن تدبره فلم يأت القوم بشيء يجب حكايته . قال : الشيخ أدام الله عزه : ثم جرى هذا الاستدلال في مجلس آخر فاعترض بعض المعتزلة فقال : ما أنكرت على من قال لك : إن هذا الدليل إنما هو على من زعم أن الشرعيات علل موجبة كعلل العقليات ، وليس في الفقهاء من يذهب إلى ذلك ، وإنما يذهبون إلى انها سمات وعلامات غير موجبة لكنها دالة على الحكم ، ومنبئة عنه ، وإذا كانت سمات وعلامات لم يمتنع من تقدير خلاف الحكم على الحادثة مع كونها على صفاتها ، وذلك مسقط لما اعتمدت عليه . قال الشيخ أيده الله : فقلت له : ليس مناقضة الفقهاء الذين أومأت إليهم حجة عليَّ فيما اعتمدته ، وقد ثبت أن حقيقة القياس هو حمل الشيء على نظيره في الحكم بالعلة الموجبة له في صاحبه ، فإذا وضع هؤلاء القوم هذه السمة على غير الحقيقة فأخطأوا لم يخل خطأهم بموضع الاعتماد ، مع أن الذي قدمته يفسد هذا الاعتراض أيضاً ، وذلك أن السمة والعلامة إذا كانت تدلّ على حكم من الاَحكام فمحال وجودها ، وهي لا تدلّ لاَنّ الدليل لا يصحّ أن يخرج عن حقيقته ، فيكون تارة دليلاً وتارة ليس بدليل ، وإذا كنتم تزعمون أن العلامة هي صفة من صفات المحكوم عليه بالحكم الذي ورد به النص ، فقد جرت مجرى العلة في إستحالة وجودها مع عدم مدلولها ، كما يستحيل وجود العلة مع عدم معلولها ، وليس بين الاَمرين فصل. فخلط هذا الرجل تخليطاً بيّناً ثم ثاب إليه فكره ، فقال : هذه السمات عندنا سمعية طارئة على الحوادث ، ولسنا نعلمها عقلاً ولا اضطراراً وإنما نعلمها سمعاً وبدليل السمع ، وعندنا مع ذلك أن العلل السمعية والاَدلة السمعية قد تخرج أحياناً عن مدلولها ومعلولها ، وهي كالاَخبارالعامة التي تدل على استيعاب الجنس بإطلاقها ، ثم تكون خاصة عند قرائنها ، وهذا فرق بين الاَمور العقلية والسمعية. قال الشيخ أيده الله : فقلت له : إن كانت هذه السمات سمعية طارئة على الحوادث ، وليست من صفاتها اللازمة لها ، وإنما هي معان متجددة فيجب أن يكون الطريق إليها السمع خاصة دون العقل والاِستنباط ، لاَنها حينئذٍ تجري مجرى الاَسماء التي هي الاَلقاب ، فلا يصل عاقل إلى حقائقها إلاّ بالسمع الوارد بها ، ولو كان ورد بها سمع لبطل القياس ، لاَنّه كان حينئذٍ يكون نصاً على الحمل ، كقول اقطعوا زيداً فقد سرق من حرز ، وإنّما استحق القطع لاَنّه سرق من حرز لا لغير ذلك من شيء يضاد هذا الفعل أو يقاربه ، وهذا نص على قطع كل سارق من حرز إذا كان التقييد فيه على ما بيناه . فإن كنتم تذهبون في القياس إلى ما ذكرناه فالخلاف بيننا وبينكم في الاسم دون المعنى ، والمطالبة لكم بعده بالنصوص الواردة في سائر ما استعملتم فيه القياس ، فإن ثبت لكم زال المراء بيننا وبينكم ، وإن لم يثبت علمتم أنكم إنما تدفعون عن مذاهبكم بغير أصل معتمد ، ولا برهان يلجأ إليه. فقال : لسنا نقول إن النص قد ورد في الاُصول حسبما ذكرت ، وإنما ندرك السمات بضربٍ من الاستخراج والتأمل . قال الشيخ أيده الله : فقلت : هذا هو الذي يعجز عنه كل أحد إلاّ أن يلجأإلى استخراج عقلي ، وقد أفسدنا ذلك فيما سلف ، والآن فإن كنت صادقاً فتعاط ذلك ، فإن قدرت عليه أقررنا لك بالقياس الذي أنكرناه ، وإن عجزت عنه بأن ما حكمناه به عليك من دفاعك عن الاَصل المعروف . فقال : لا يلزمني ذكر طريق الاستخراج ، وجعل يضجع في الكلام ، وبان عجزه . فقال أبو بكر بن الباقلاني : لسنا نقول هذه العلامات مقطوع بها ، ولا معلومة فنذكر طريق استخراجها ، ولكن الذي أذهب إليه وهو مذهب هذا الشيخ ، وأومأ إلى الاَول القول بغلبة الظن في ذلك ، فما غلب في ظنّي عملت عليه وجعلته سمة وعلامة ، وإن غلب في ظن غيري سواه وعمل عليه أصاب ولم يخطىء ، وكل مجتهد مصيب فهل معك شيء على هذا المذهب ؟ فقلت : هذا أضعف من جميع ما سلف وأوهن ، وذلك أنّه إذا لم يكن لله تعالى دليل على المعنى ولا السمة وإنما تعبدك على ما زعمت بالعمل على غلبة الظن ، فلا بد أن يجعل لغلبة الظن سبباً ، وإلاّ لم يحصل ذلك في الظن ولم يكن لغلبته طريق ، وهب أنا سلمنا لك التعبد بغلبة الظن في الشريعة ، ما الدليل على أنه قد يغلب فيما زعمت ؟ وما السبب الموجب له أرناه ؟ فإنا نطالبك به كما طالبنا هذا الرجل بجهة الاستخراج للسمة ؟ والعلّة السمعية كما وصف فإن أوجدتنا ذلك ساغ لك ، وإن لم توجدناه بطل ما اعتمدت عليه . فقال : أسباب غلبة الظن معروفة وهي كالرجل الذي يغلب في ظنه إن سلك هذا الطريق نجا وإن سلك غيره هلك ، وإن اتجر في ضرب من المتاجر ربح ، وإن اتجر في غيره خسر ، وإن ركب إلى ضيعة والسماء متغيمة مطر ، وإن ركب وهي مصحية سلم ، وإن شرب هذا الدواء انتفع ، وإن عدل إلى غيره استضر ، وما أشبه ذلك ، ومن خالفني في أسباب غلبة الظن قبح كلامه. فقلت له : إن هذا الذي أوردته لا نسبة بينه وبين الشريعة وأحكامها ، وذلك أنه ليس شيء منه إلاّ وللخلق فيه عادة وبه معرفة ، فإنما يغلب ظنونهم حسب عاداتهم ، وإمارات ذلك ظاهرة لهم ، والعقلاء يشتركون في أكثرها وما اختلفوا فيه فلاختلاف عاداتهم خاصة ، وأما الشريعة فلا عادة فيها ولا إمارة من درية ومشاهدة ، لاَن النصوص قد جاءت فيها باختلاف المتفق في صورته وظاهر معناه ، واتفاق المختلف في الحكم ، وليس للعقول في رفع حكم منها وإيجابه مجال ، وإذا لم يك فيها عادة بطل غلبة الظن فيها. ألاّ ترى أنه من لا عادة له بالتجارة ولا سمع بعادة الناس فيها ، لا يصح أن يغلب ظنه في نوع منها بربح أو خسران ، ومن لا معرفة له بالطرقات ولا باغيارها ، ولا له عادة في ذلك ولا سمع بعادة أهلها ، فليس يغلب ظنّه بالسلامة في طريق دون طريق. ولو قدرنا وجود من لا عادة له بالمطر ، ولا سمع بالعادة فيه ، لم يصح أن يغلب في ظنه مجيء المطر عند الغيم دون الصحو ، وإذا كان الاَمر كما بيّناه وكان الاِتفاق حاصلاً على أنه لا عادة في الشريعة للخلق بطل ما ادعيت من غلبة الظن ، وقمت مقام الاَول في الاقتصار على الدعوى . فقال : هذا الآن رد على الفقهاء كلّهم وتكذيب لهم فيما يدعونه من غلبة الظن ومن صار إلى تكذيب الفقهاء كلّهم قبحت مناظرته . فقلت له : ليس كل الفقهاء يذهب مذهبك في الاعتماد في المعاني والعلل على غلبة الظن ، بل أكثرهم يزعم أنه يصل إلى ذلك بالاستدلال والنظر ، فليس كلامنا رداً على الجماعة وإنما هو ردّ عليك وعلى فرقتك خاصة ، فإن كنت تقشعر من ذلك فما ناظرناك إلا له ، ولا خالفناك إلا من أجله ، مع أن الدليل إذا أكذب أكذب الجماعة فلا حرج علينا في ذلك ولا لوم ، بل اللوم لهم إذا صاروا إلى ما تدل الدلائل على بطلانه وتشهد بفساده. وليس قولي : إنكم معشر المتفقهة تدعون غلبة الظن ، وليس الاَمر كذلك بأعجب من قولك وفرقتك إن الشيعة والمعتزلة وأكثر المرجئة ، وجمهور الخوارج فيما يدعون العلم به من مذهبهم في التوحيد والعدل مبطلون كاذبون مغرورون ، وإنهم في دعواهم العلم بذلك جاهلون ، فأي شناعة تلزم فيما وصفت به أصحابك مع الدليل الكاشف عن ذلك ، فلم يأت بشيء(2).

____________

(1) هو : محمد بن الطيب بن محمد ، أبو بكر القاضي المعروف بابن الباقلاني ، المتكلم على مذهب الاَشعري من أهل البصرة وولد فيها سنة 338 هـ ، له بعض التصانيف ، وقيل : إنه انتهت إليه الرياسة في مذهب الاَشاعرة ، ووجهه عضد الدولة سفيراً عنه إلى ملك الروم ، فجرت له في القسطنطينية مناظرات مع علماء النصرانية بين يدي ملكها ، من كتبه إعجاز القرآن ، ومناقب الاَئمة ، والملل والنحل ، سكن بغداد وتوفي فيها سنة403هـ. راجع ترجمته في : تاريخ بغداد للخطيب : ج 5 ص 379 ، وفيات الاَعيان : ج 4 ص 269 ترجمة رقم : 608 ، الاَعلام للزركلي : ج7 ص46 .

(2) الفصول المختارة للشيخ المفيد : ص 50 ـ 55 .