مُساءلات في الترقّب والاستعداد

إشارة

حينما تغيب عن المرء حالة الشعور بالمسؤوليّة، ويتغافل عن الحقوق والواجبات، والمتطلّبات والاستحقاقات، نراه يُفاجأ في مواقف عدّة، ويتلّقى صدماتٍ شديدة بين الآونة والأخرى، وربّما أردَتْه إحداهنّ! ومَثَلُه في ذلك مَثلُ طالب العلم الذي يتغيّب عن الدرس، ويهمل وظائفه ويتكاسل عن المراجعة، فإذا به يُخبَر يوماً ما أنّ الامتحان قد حلّ، وأنّ الأسئلة الرهيبة تُواجهه فلا يجد لها عنده أيَّ حلٍّ أو أيَّ جواب!
وكذلك حال الإنسان الذي أشغل قلبه بالدنيا وملأ أوقاته بزخارفها، وأهمل آخرتَه، وتكاسل عن التعرّف على وظائفه وواجباته، وسوّف وأجَّل، وتضجّر وتثاقل، فإذا به يُنادى عليه بالرحيل.. إلى اين ؟! إلى القبر وعالمه البرزخيّ، ثمّ يُصرَخ به ليبعث إلى عالمه القياميّ! وتبقى المفاجآت تلاحقه، وتصدمه، وتُحرجه وتحيّره، في وقتٍ قد فاتته فرصة الاستدراك، وأقعدته صرخة اليأس: « ولاتَ حينَ مَناص » [ سورة ص:3 ]، ورُدِع بقوله تعالى بعد رجاءٍ يائس: « قالَ رَبِّ آرجِعُون * لَعلّي أعملُ صالحاً فيما تركتُ، كلاّ، إنّها كلمةٌ هُوَ قائلُها ومِن ورائِهِم بَرْزَخٌ إلى يومِ يُبعَثُون » [ سورة المؤمنون:99 ـ 100 ].

 

إيقاظ

لقد كان مِن نِعم الله العظمى على البشر أن خلَقَهم في أحسن تقويم، وأكرمهم أفضل إكرام، حيث أودعهم العقل، وبعث إليهم أنبياءَه ورسله مبشّرين ومُنذِرين، وأغدق عليهم آلاءَه، وهيّأ لهم جميع أسباب الهداية والصلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، وبين ذلك كلّه نبّه إلى أنّ هنالك حساباً فيما بعد.. أي بعد الموت وبعد البعث، فلابدّ من التهيّؤ قبل الرحيل، ولابدّ من الاستعداد قبل الفجأة، فهنالك إيقاف رهيب، ومساءلاتٌ عصيبة، فاليومَ عملٌ ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل، والقرآن الكريم يهتف في الضمائر والعقول ويحثّ الهمم والنفوس يقول:
ـ « وتَزَوَّدوا فإنَّ خيرَ الزادِ التّقوى » [ سورة البقرة:197 ].
ـ « واتّقُوا يوماً تُرجَعُونَ فيهِ إلَى اللهِ ثُمَّ تُوفّى كلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَت وهُم لا يُظلَمون » [ سورة البقرة:281 ].
ـ « ووُضِعَ الكتابُ فَتَرى المجرمينَ مُشْفِقين مِمّا فيهِ ويقولون يا ويلتَنا مالِ هذا الكتابِ لا يُغادِرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها، ووَجَدوا ما عَمِلُوا حاضراً ولا يَظلِمُ ربُّك أحداً » [ سورة الكهف:49 ].

 

ونداءات أخرى

وردت من بيت النبوّة والرسالة والوحي والقداسة:
• قال رسول الله صلّى الله عليه وآله محذّراً أبا ذرّ: « إيّاك والتسويفَ بعملك، فإنّك بيومك ولستَ بما بعدَه، فإن يكن غداً لك فكن في الغد كما كنتَ في اليوم، وإن لم يكن غدٌ لك لم تندم على ما فرّطتَ في اليوم » ( مكارم الأخلاق للطبرسي الحسن بن الفضل:459 ).
• وقال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام: « تَدارَكْ ما بقيَ مِن عمرك، ولا تَقُلْ غداً وبَعَد غد، فإنّما هلك مَن كان قَبلَك بإقامتهم على الأمانيّ والتسويف، حتّى أتاهُم أمرُ الله بغتةً وهم غافلون! » ( الكافي للكليني 110:2 ـ باب ذمّ الدنيا / ح 23 ).
• وعن الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام ورد قوله: « ابنَ آدم، إنّك لا تزال بخيرٍ ما كان لك واعظٌ مِن نفسك، وما كانت المحاسبة مِن همِّك، وما كان الخوف لك شعاراً، والحذرُ لك دِثاراً. ابنَ آدم، إنّك ميّتٌ ومبعوث، وموقوفٌ بينَ يَدَيِ الله جلّ وعزّ، فأعِدَّ جواباً » ( تحف العقول عن آل الرسول لابن شعبة البحرانيّ:202 ).

 

إذاً

هنالك: موت، وهو حقيقةٌ كبيرة نعيشها، وشواهدها في حياتنا كثيرة، ومشاهدها عديدة في تشييع الجنائر ودفن الأجداث وزيارة المقابر. وهنالك: بعث، وهو حقيقة كبرى أخرى نعيشها مع كتاب الله عزّوجلّ وسنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله، وقيامات هذا البعث لَمَسناها في حياتنا أيضاً في تجدّد الأبدان وتوالد البشر وفي اليقظة بعد النوم. كذلك هنالك حساب يُوقِف الناس أجمعين في عرصة القيامة ليُعطى كلٌّ كتابه: بيمينه أو بشماله، حيث أحصى كلَّ قولٍ وعمل، بل وكلَّ نيّة، لم يغادر مِن ذلك صغيرةً ولا كبيرة.
والأمر ليس سهلاً كما يتصوّره البعض حين يقرأ أخباره ووقائعه قراءةً سطحيّة وكأنّها قصصٌ لا تعنيه، ولا تختلف عن القصص الأخرى إلاّ من حيث الزمان: تلك مضت، وهذه ستأتي! لا، ليس الأمر كذلك، بل هي مواقف عصيبةٌ رهيبة، وغريبة عجيبة، لا تخلو من أهوالٍ ومفاجآت، حيث البصرُ حديد، وحيث الحقائق شهود جليّة، والموازين حقّةٌ صادقةٌ دقيقة.
• قال تبارك وتعالى: « إذا وَقَعَتِ الواقعةُ * لَيسَ لِوقْعَتِها كاذِبة * خافضةٌ رافعة » [ سورة الواقعة:1 ـ 3 ]، فهي تخفض أُناساً كانوا عالين في الدنيا ـ بنظر الناس ـ فتذهب بهم إلى جهنّم! نعوذ بالله جَلّ وعلا، وترفع أناساً كانوا ضعفاءَ مستضعفين بين الناس، فتذهب بهم إلى الجنّة.
روى الشيخ الصدوق في كتابه ( الخصال:107 / ح 71 ) عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام قوله: « إنّ أوحشَ ما يكون هذا الخَلقُ في ثلاثة مواطن:. يومَ يُولَد ويخرج مِن بطن أُمّه فيرى الدنيا، ويومَ يموت فيرى الآخرة وأهلَها، ويومَ يُبعَث فيرى أحكاماً لم يَرَها في دار الدنيا. وقد سلّم الله عزّوجلّ على يحيى في هذه الثلاثة المواطن وآمَنَ روعتَه، فقال: « وسَلامٌ عَلَيهِ يومَ وُلِدَ ويومَ يَموتُ ويومَ يُبعَثُ حيّاً » [ سورة مريم:15 ]، وقد سلّم عيسى بن مريم عليه السلام على نفسه في هذه الثلاثة المواطن، فقال: « والسَّلامُ عَلَيَّ يومَ وُلِدتُ ويومَ أموتُ ويومَ أُبعَثُ حيّاً » [ سورة مريم:33 ] ».

 

مواقف مُنتظِرة

• في ( غوالي اللآلي لابن أبي جمهور 154:1 )، وكذلك في ( مسند أحمد بن حنبل 507:2 ) أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قال:
« دخلت امرأةٌ النارَ في هِرّةٍ ربَطَتها، فلم تُطعِمْها، ولم تَدَعها تأكل مِن خُشاش الأرض ».
ربّما يكون الحُكم عليها بدخول جهنّم بسبب مخزون نيّة العدوان والتعذيب، وقد صنَعَت ذلك ونمّته داخل نفسها. وربّما كان تعذيبها لتلك القطّة تعذيباً انتهى إلى موتها. وذلك جزءٌ من مخزون حالتها القاسية، فلو كانت حاكمةً يوماً ما لَعَذّبت شعبها بالجوع حتّى الموت!
• وروى الكليني في ( الكافي 309:2 / ح 2 ـ باب الكِبْر ) عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال:
« الكِبْرُ قد يكون في شرار الناس مِن كلّ جنس. والكِبرُ رداءُ الله، فَمَن نازَعَ اللهَ عزّوجلَّ رداءَه لم يَزِدْه اللهُ إلاّ سَفالاً. إنّ رسول الله مَرَّ في بعض طُرق المدينة وسوداءُ تَلَقَّطُ السِّرقِين، فقيل لها: تَنَحَّيْ عن طريق رسول الله، فقالت: إنّ الطريق لَمُعرَض. فَهَمّ بها بعضُ القوم أن يتناولها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: دَعُوها فإنّها جَبّارة! ».
تلك المرأة التي كانت تلتقط روث البقر وَقوداً للتنّور، وتثير الغبار، كانت من المسلمات، لكنّها كانت ترى نفسها عظيمةً لم يجب عليها احترامُ أحد، بل يجب على الآخرين احترامها فحسب، ولمّا قيل لها لا تُثيري الغبار في وجه رسول الله صلّى الله عليه وآله وتَنَحَّي لحظاتٍ حتّى يمرَّ النبيّ صلّى الله عليه وآله، قالت بأنّ الطريق عريض، فَلْيَتَنَحَّ هو عنّي، وليُبعِد فيَمرَّ من هناك!
فالفقير أو الضعيف أحياناً يصنع في نفسه كبرياءً ككبرياء فرعون، فيكون أخاه في هذه الصفة الخبيثة والنزعة القبيحة، غاية الأمر أنّه لم يُتَحْ له المجال لِيتفرعَنَ كما تفرعن فرعون حين تسنّى له المجال. أمّا الحساب هناك عند الله تبارك وتعالى فعلى مخزون الفرعنة الذي صنعه بإرادته حتّى لو لم يظهر في أعمالٍ كبيرة ومواقف خطيرة، فإن ظهر ذلك المخزون ـ والعياذ بالله ـ كان عليه حسابٌ آخَرُ أعسرُ وأشدّ!
• وفي الكافي أيضاً: عن الإمام جعفر الصادق سلام الله عليه: « طينةُ الناصب مِن حَمَأٍ مَسْنون، وأمّا المستضعَفُون فَمِن تراب. لا يتحوّل مؤمنٌ عن إيمانه، ولا ناصبٌ عن نصبهِ، وللهِ المشيئةُ فيهم » ( الكافي 3:2 / ح 2 ـ باب طينة المؤمن والكافر ).
فالناصبيّ ربّى نفسه على العدوانيّة وكُره أهل البيت عليهم السلام؛ حَسَداً مِن عند نفسه، لأنّ الله تعالى ميّز أهل البيت عليه، أو ميّزهم على أشخاصٍ يُحبّهم ذلك الناصبيّ! فهو في الواقع يعترض على الله سبحانه، ويتّخذ أنداداً هُم: نفسُه وأئمّته، فهو يُحبّهم ويكره بعد ذلك كلَّ الذين فضّلهم الله عليهم!
فمشكلة الناصبيّ أنّه يريد من الله تعالى أن يتبنّى الأنداد الذين اتّخذهم، ومعناه أنّه لا يوحّد الله تعالى إلاّ بشرط، ولا يؤمن برسوله إلاّ بشرط، ولا يطيع اللهَ ولا رسوله إلاّ بشرط، والشرط دائماً هو ذاتُه وأهواؤه وأنداده! وكفى بهذا المخزون النفسيّ الضالّ كفراً مُرْدياً يستوجب صاحبُه جهنّم.