خلقاً برسول الله

بلى اذن الحسين ( عليه السلام ) لولده باقتحام الشهادة . ولكن طريقة اذنه كانت فريدة ..
رفع بصره الى السماء . وقال : اللهم إشهد على هؤلاء القوم . فقد برز اليهم غلام اشبه الناس خَلقاً وخُلقاً ومنطقاً برسولك ، وكنا إذا اشتقنا الى نبيك نظرنا الى وجهه ، اللهم امنعهم بركات الأرض ، وفرقهم تفريقاً ، ومزقهم تمزيقاً ، واجعلهم طرائق قدداً ، ولا ترض الولاة عنهم أبداً ، فانهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينـا يقاتلوننـا .
ثـم صاح الحسين بعمـر بن سعد : مالك ؟ قطع اللـــه رحمك ولا بارك الله لك في أمرك ، وسلّط عليك مـن يذبحك بعدي على فراشك كما قطعت رحمي ولم تحفظ قرابتي من رسول الله ثم رفع الحسين صوته وتلا : " إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل ابراهيـم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم " (3) .
وهكذا أعطى الامام وساماً عالياً لهذا المجاهد الأمثل عند انطلاقته في عملية استشهادية فريدة .ولم يفه الامام المعصوم ( عليه السلام ) بحرف باطلاً حاشا لله . إنه مصباح الهدى وسفينة نجاة كما كتب على ســاق العرش ، فكيف ينطق بالباطل .
في واقعة مشابهة عندما برز الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) الى عمر بن ود العامري في معركة الخندق . هناك ايضاً اعطى النبي له وساماً عظيماً حينما قال : برز الايمان كلّه الى الكفر كلّه ..
منـذ القديم كان الناس يعرفون بفطرتهم امكانية انتقـال الصفات الجسدية والنفسية من الأب لإبنه او الجد لحفيده . ولكنّ البحوث العلمية الحديثة عمقت عندنا هذه المعرفة ، حينما كشفت لنا عن الجينات المورثة ومدى اثرها في نقل الصفات من جيل لآخـر . وهكذا كان علي الأكبر ( عليه السلام ) أشبه الناس برسول الله . حيث تجلت فيـه شمائل الرسول الكريمة . من نبرات صوته الى ملامح وجهه الى طريقة مشيته . حتى انه نقل أن يهوديــاً رأى في المنام رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقرر ان يعتنق الدين الاسلامي . فجاء الى الامام الحسين ( عليه السلام ) فادعى رؤية رسول الله . فسأله ان كان يعرفه لو شاهده . قـال : بلى . فطلب علياً الأكبر . فلما رآه استغرق في العجب وقال كأنه هو .
كانت ولا تزال الأمة الاسلامية بأشد ما تكون من الشوق الى رسول الله . حتى أن من الأدعية الشائعة حتى الان بين المؤمنين الدعوة لبعضهم البعض برؤية وجه رسول الله . وهكذا كان يتسلى المسلمون في ذلك العهد حيث ملامح الرسول لم تزل معروفة عند الكثير ممن رآه او سمع كامل وصفه ممن رآه من اصحاب الرسول ، كان يتسلى المسلمون بالنظر الى علي الأكبر .
ولكن هذه الصورة المشابهة جسدياً ونفسياً للرسـول أصبحت مادة ثمينة للتربية المثلى . فاذا كانت صــورة علي الأكبر شبيهة بالنبي ، فإن نفسه أشـد ما تكون مناسبة لتلقـي اخلاق الرسول ايضـاً ..
انها ذهبة خالصة ، صاغتها يد الولاية . يد الامام الحسين سبط النبي فصارت أشبه الناس خلقاً برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأنها شهادة عظيمة وعظيمة جداً ان يمتثل شخص ( من غير الأئمة ) صفات الرسول . كان الرسول هو القرآن بكل جماله وبهاءه وعظمته وروعته . ولقد وصفه الله سبحانه بأنه على خلق عظيم .
وقد سرى حتى اليوم عطر خلقه في حقول الايمان حتى انتشى به كل من أراد كمالاً او رام جمالاً . باخلاقه العطرة ( صلى الله عليه وآله ) فتح القلوب ، وملك الأفئدة حتى قلوب اعداءه ..
وعلي الأكبر ( عليه السلام ) تمثل تلك الأخلاق بأجلى صورها . فمن طلاقة الوجه ، الى أدب المنطق ، الى استقامة السلوك ، الى العفو والصفح ، الى الصبر والزهد، الى التقوى واليقيـن ، الى الشجاعة والتوكل ، وبالتالـي الى الخلق الذي هو أصل كل خلق فاضل وجذر كل سمو أي الصلة بالله سبحانه .
إن بلوغ شخص درجة عالية من العلم ،كمال ، لاشك فـي اهميته وصعوبته . ولكن بلوغ انسان الى درجة عالية من الأخلاق وبهذا المستوى الأسمى من مجاهـدة النفس واتباع الوحي ، وتمثل الرسالة .. انها كمال لايسمو اليه كمـال .. ولقـد بلغـه علـي الأكبـر بشهـادة الامام الحسيـن ( عليه السلام ) .
وانا وأنت . كم نخسر لو ضيعنا فرصة العمر الوحيدة ولما نتمثل خلق الرسول ولو بصورة جزئية . إن المال والجاه والزخارف الدنيوية كلها تصحبنا في أحسن الفروض الى بوابة الآخرة ، أي باب القبر . بينما الخلق الفاضل يصحبنا ليكون عوناً عند سكرات الموت ، وأنيساً في بيت القبـر ، وأمناً عند هول المطلع ، ونوراً في القيامة ، وثقلاً في الميزان عند الحساب ، ودرجة عاليـة في الجنان . على أنه في الدنيا نور وذكر حسن وسعادة .
ولأن علي الأكبر ( عليه السلام ) كان قمة في الخلق المحمدي فقد شهد بفضله الناس وفرض شخصيته حتى علــى أعداءه . فهذا معاوية يزعم إن اولى الناس بالخلافـة إذا تجاوزت بني أمية انما هو علي الأكبر (4) .
وكلام معاوية لا يهمنا إلا بقدر انه يعكس مدى انتشار ذكر علي الأكبر ( عليه السلام ) العطر في الآفاق حتى اضطر عدوه وعدو البيت الهاشمي الى الاعتراف بفضله .

____________________

(3) بحار الأنوار / ج 45 / ص 43 .
(4) بحار الأنوار / ج 45 / ص 45 .