نظريات القرآن الأخلاقية شاهد على إعجازه

نظرياته الأخلاقية

نزل القرآن الكريم على قلب سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، في عصر الظلمة والجهل، حيث لم يكن من فضائل الأخلاق ومكارِمِها، ذِكْرٌ ولا أثر إلاّ النزر اليسير. ففي ذاك الظرف جاء القرآن مستقصياً للأخلاق الفاضلة، ومبيّناً للأخلاق الرذيلة، فدعا إلى التزيُّن بالأُولى، والانتهاء عن الثانية، وأقام بذلك أشرف مدرسة أخلاقية زاهرة، بِجُمَلِ كَلِمِهِ وجوامِعِها، ويكفي في ذلك قوله سبحانه: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبي وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْىِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ(النحل:90-91).

وفي الآيات التالية اجتمعت أُصول أخلاقية عشرة فيها حياة المجتمع، قال سبحانه: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَق نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيًما فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(الأنعام:151ـ153).

هذه نماذج من الأُصول الأخلاقية الواردة في القرآن الكريم، وللتوسع مجال ليس هنا موضعه.

نعم، نرى أنّ التوراة أَمَرَتْ بني إسرائيل بالحكم بالعدل لأقربائهم، ونَهَتْهُم عن الحقد على أبناء شعبهم، وعن السعي بالوشاية وشهادة الزشور على أقربائهم وأن يَغْدُرَ أحدُهم بصاحبه، ولكنها شَوَّهت جمال هذه الأُصول الأخلاقية، بتخصيص تعاليمها ببني إسرائيل، وبتخصيصها بالقريب والشعب والصاحب. وهذا بخلاف القرآن، فإنّه يوجّه خطاباته الأخلاقية إلى الناس أجمعين، من دون فرق بين قوم وقوم، وعنصر وآخر.

وأمّا الأناجيل الرائجة، فقد أفرطت في الدعوة إلى التصوّف البارد، حتى نهت عن ردع الظالمين بالانتصاف من الظالم، وقطع مادة الفساد، بل قالت: "لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدّك الأيْمَن، فحوّل له الآخر أيضاً * ومن أراد أن يُخاصِمَك ويأخُذَ ثَوْبَكَ، فاترك له الرداء أيضاً!!"1.

إنّ للأخلاق القرآنية صبغة خاصة وميزة فريدة، فلا هي أخلاق يونانية تجعل الغاية من التزين بالأخلاق هي النفع المادي العائد على الإنسان، كالدعوة إلى إكرام الجار، حتى لا يسرق متاعاً عند غيابك، أو يردع الطاغية الظالم عنها. ولا هو أخلاق روحانية بحتة، لا ترى إلاّ ترقية الروح وإسعادَها، وتنسى أنّ البشر مخلوق ممزوج من مادة ومعنى، وجسم وروح، ولا تتحقق السعادة إلاّ بإعطاء كلٍّ حقَّه. بل هي مُثُل أخلاقية وسطى، تضمن سعادة الإنسان في كلا الجانبين.

هذه ثمانية من الشواهد الدالّة بوضوح على أنّ القرآن ليس تَقَوُّلاً على الوحي، ولا نتاج فكر إنسان عادي منقطع عن التعليم الإلهي، وأنّ هذا الكتاب بهذه المزايا والسمات، يمتنع أن يقومَ به إنسان مهما بلغ في العقل والذكاء، أو فاق أقرانه وأماثله من بني البشر، إلاّ أن يكون متصلاً بالوحي السماوي، مستمداً تعاليمه من خالق البشر.

*الإلهيات.آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام،ج3،ص434-436

_________________________

1- لاحظ العهد الجديد، إنجيل متى، الأصحاح الخامس، الجملتان39و40 ص9 ، ط دار الكتاب المقدس.