شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية

الأبعاد المستوحاة من ليلة عاشوراء

1 المشاركات 05.0 / 5

إنّ لهذه الليلة العظيمة أبعاداً مختلفةً، وجوانبَ متعددةً، وعِبَراً نافعةً في ميادين العقيدة والشريعة الإسلاميّة يجدُرُ الوقوفُ عليها، واستكناه ما في سويعاتها العصيبة التي نزلت بساحة أهل بيت الوحي والتنزيل عليهم السّلام، وما أعقبها من أحداث مُنيَ بها الإسلام والمسلمون بأفدح ما عرفهُ تاريخ البشرية أجمع، وكيف لا وقد اتّفقت الكلمةُ على إبادة أهل بيت الوحي ومعدن الرسالة ومهبط التنزيل !

إنّ ليلة عاشوراءَ الأليمة من سنة (61 هـ) وإن كانت في حساب الليالي ليلةً واحدةً ذات سُويعات محدودة، إلاّ أنّها في حساب التاريخ شكّلت مُنعطفاً حادّاً في تاريخ الإسلام، لم تشهده ليلةٌ من لياليه مُنذ فجره وإلى يومنا هذا، سوى ليال معدودة شاءَ اللهُ أن يجعلها شموساً في تاريخ الإسلام، والتي منها ليلةُ مبيتِ أمير المؤمنين علي عليه السّلام على فراش النبي صلّى الله عليه وآله، وليلةٌ سَمعت فيها فاطمة الزهراء عليها السّلام صوتَ بلال يُردد: أشهد أنّ محمداً رسول الله، وأبوها العظيم صلّى الله عليه وآله ملبٍّ نداء الله: ﴿يَا أَيَّتُها النَّفسُ المُطمئنَّةُ ارجِعي إلى رّبِكِ راضِيةً مَّرضِيَّةً﴾. سورة الفجر:27 ـ 28.

وليلةٌ سمعت فيها عقيلةُ الهاشميين عليها السّلام أخاها الحسين عليه السّلام ينشد ويردد: يا دهر اُفٍّ لك من خليل...  إنّها ليلةُ عاشوراء التي أعاد صبحُهَا أحداثَ بدرٍ الكُبرى، مجسّمةً حيّةً على رمال كربلاءَ، حيثُ تصارعَ الكفرُ والإيمانُ، وانهزم فيها السيف الجبان، وانتصر الحقُّ بحدِّ اللسان، وَكانت كلمةُ الله هي العليا، وكلمة الكُفر هي السُفلى.

صحيح أنّ أحداثَ ليلة عاشوراءَ قد غشيها الظلامُ، إلاّ أنّ الحسين عليه السّلام جعل من ذلك الليلِ المظُلمِ شُموساً وأقماراً تُضيءُ التِلالَ والآكامَ، وتدلُّ على الحقّ وتُعرّف أهله، وتشخّصُ الباطلَ وتلعنُ أهلهَ في كلّ عصر وجيل.

 

البُعد الديني في موقف الحسين عليه السّلام

إنّ ليلة عاشوراءَ وما ترتّب عليها من آثار ومواقف جاءت نتيجة لموقف الحسين عليه السّلام الشرعي، وانطلاقاً من مبدئه السامي القائم على طلب الإصلاح في أُمّة جدّه صلّى الله عليه وآله، كما أوضح هذا قبل خروجه قائلاً: وإنّي لم أخرُج أَشِراً ولا بَطِراً، ولا مُفسِداً ولا ظالِماً، وإِنّما خَرجتُ لطِلبِ الإصلاح في اُمّة جَدّي صلّى الله عليه وآله، اُريدُ أَن آمرَ بالمعروف وأَنهى عن المُنكر، وأَسيرَ بسيرةِ جَدّي وَأبي علي بن أبي طالب، فمَنْ قَبلني بقَبول الحقّ فاللهُ أولى بالحقّ، ومَنْ رَدَّ عليَّ هذا أصبرُ حتّى يقضي اللهُ بيني وبين القوم وهو خيرُ الحاكمين.

 

البُعد الديني في موقف أصحابه عليهم السّلام

وإذا ما تتبّعنا الدوافع التي دفعت بأنصار الحسين (عليه السّلام) للوقوف إلى جانبه ونصرته إلى آخر رمق في حياتهم، وجدناها دوافع انبثقت من الشعور بالمسؤولية الشرعية، والتي تأخذ بأعناقهم جميعاً وتلزمهم بالتضحية معه مهما كلّفهم الأمر.

وقد أفصحت مواقفهم في هذه الليلة عن نواياهم الصادقة النبيلة، وعلى طهارة نفوسهم فارتقوا بذلك إلى أرقى الكمالات النفسية، إذ لم يمازح أهدافهم تلك أي نوع من الأهداف الشخصية، أو المنافع المادية، أو المطامع الدنيوية، أو حبّ الجاه والشهرة.

بل كانت غايتهم رضا الله تعالى، ونصر الرسول صلّى الله عليه وآله في شخص الحسين عليه السّلام، فأصبحوا مصداقاً لقوله تعالى: ﴿إِنّهمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً * وَرَبَطْنَا عَلَى‏ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبّنَا رَبّ السّماوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَدْعُوَا مِن دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً﴾. سورة الكهف:13 ـ 14.

وإذا أمعنا النظر في أفعالهم وأقوالهم في هذه الليلة، وجدناها تفصح عن دوافعهم الإيمانية، وشعورهم بالمسؤولية الشرعية التي لا مناص من الالتزام بها، وهذا ما كان واضحاً جلياً في كلماتهم التي عاهدوا فيها الحسين عليه السّلام على الشهادة حينما أذن لهم بالانصراف، فمن تلك الكلمات: كلمة مسلم بن عوسجة والتي يقول فيها: أنحن نخلّي عنك ؟! ولمّا نعذر إلى الله في أداء حقك.

وهذا صريح في أنّ هذا الأمر واجب وفرض لا مناص منه، ولِذا ابتدأ كلمته هذه بالاستفهام الإنكاري قائلاً: أنحن نخلّي عنك ؟! موضّحاً أنّ الإعذار إلى الله تعالى لا يتُم إلاّ بنصر الحسين عليه السّلام والوقوف معه، وأنّه ملزم بالإعذار تجاه الله تعالى، وإنّها مسؤولية شرعية، معنى هذا أنّه لو تخلّى عنه هو وأصحابه فلا يكونون معذورين عند الله تعالى.

 

الرضا والتسليم لله تعالى

وهو ترك الاعتراض والسخط باطناً وظاهراً، وَقولاً وَفعلاً، وهو من ثمراتِ المحبّة ولوازمها، إذ المُحبّ يَستحسنُ كُلّ مَا يصدر عن محبوبه، وصاحبُ الرضا يستوي عندَهُ الفقرُ والغنى، والراحةُ والعناء، والعزُ والذلّ، والصحةُ والمرض، والموتُ والحياة، ولا يُرجّحُ بعضَها على بعض، ولا يثقلُ شيءُ منها على طَبعه، إذ يرى صُدورَ الكلّ من الله سبحانه، وقد رسخ حُبّه في قلبه، بحيث يُحبّ أفعالَه، ويَرجّح على مُراده مُرادُه تعالى، فيرضى لكلّ ما يكون ويرد.

وروي: أنّ واحداً من أرباب الرضا عمَّر سبعين سنةً، ولم يَقل في هذه المُدة لشيء كان: ليتَهُ لم يكن، ولا لشيء لم يكن: ليته كان.

وقيل لبعضهم: ما وجَدتَ من آثار الرضا في نفسك ؟ فقال: ما فيَّ رائحةٌ من الرضا، ومع ذلك لو جعلني اللهُ جسراً على جهنَّم، وعبرَ عليه الأوّلون والآخرون من الخلائق ودخلوا الجنّة، ثم يلقوني في النار، وملأ بي جهنَّم لأحببت ذلك من حُكمه، ورضيتُ به من قسمه، ولم يختلج ببالي أنّه لِمَ كان كذا ؟ وليت لم يكن كذا ! ولِمَ هذا حظّي وذاك حظّهم ؟

وصاحبُ الرضا أبداً في رَوح وراحة، وسُرور وبهجة، لأنّهُ يشاهدُ كلّ شيء بعين الرضا، وينظرُ في كلّ شيء إلى نور الرحمة الإلهية، وسرّ الحكمة الأزلية، فكأنّ كلّ شيء حصل على وفق مُراده وهواه.

وفائدةُ الرضا عاجلاً: فراغُ القلبِ للعبادة والراحة من الهموم. وآجلاً: رضوان الله والنجاة من غضبه تعالى.

والرضا بالقضاء أفضل مقاماتِ الدين، وأشرف منازل المقرّبين، وهو بابُ الله الأعظم، ومَنْ دخلهُ دخلَ الجنّة، قال الله سبحانه: رَضيَ اللهُ عنهُمْ ورَضوا عَنهُ.

 

الاستبشار بالشهادة

ليس من المُعتاد أن يفرح الإنسان ويبتهج وهو يعلم بدنو أجله وانقطاع حبل حياته من الدنيا، فتراه إذا ما علم بدنو أجله اعتراه الخوف والوجل والاضطراب، ولربما مات بسبب خوفه من الموت، إذ أنّ كلّ إنسان يحبّ الحياة والبقاءَ ويتشاءم من الموت.

ولعلك تعجب إذا ما سمعت بأنّ أصحاب هذه الليلة باتوا ليلتهم وهم أشدُ الناس فرحاً، وأبهجهم حالةً، وأربطهم جأشاً. مستبشرين بما أقدموا عليه وبما يصيرون إليه، وقد أخذ يداعبُ بعضهم بعضاً مع علمهم بدنو آجالهم، وأنّ أجسادهم سوف تصبح عن قريب طعمةً للسيوف ونهبةً للأسنّة ومرمى للسهام.

ولعله لم تمر عليهم ليلةٌ بأسعد منها، حتّى بدت على وجوههم الطلاقة والإشراق والطمأنينة. لا يستشعرون بخوف ولا وجل، وذلك أنّهم وجدوا أنفسهم يؤدّون وظائفهم الشرعية تجاه سبط الرسول (صلّى الله عليه وآله)، إذ سوف يحوزون على أعظم وأقدس شهادة عرفها تاريخ البشرية، ثم ذلك النعيمُ الدائم الذي لا اضمحلال فيه، فأصبحوا مصداقاً لقوله تعالى، ﴿إِنّ الّذِينَ قَالُوا رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولئِكَ أَصْحَابُ الجنّة خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾. سورة فصلت:30.

 

البُعد العبادي

قيل إنّ من آثار المحبّة ولوازمها الشوق والأنس في الخلوة مع المحبوب ولذة مناجاته، كما أنّ من شأن المُحبّ أن يؤثر مراد محبوبه على مراده.

ولذا كان من شأن المُحبّ للخالق تعالى عدم الغفلة عن عبادته وذكره في كلّ أحواله، ( إذ مَن أحبّ شيئاً أكثر ضرورةً ذكرَه وذكر ما يتعلّق به، فمحبّ الله لا يخلو عن ذكر الله وذكر رسوله وذكر القرآن وتلاوته، لأنّه كلامه، ويكون محبّاً للخلوة، ليتفرّد بذكره وبمناجاته، ويكون له كمالُ الأنس والالتذاذ بمناجاته، وفي أخبار داوود: كَذبَ مَنْ ادّعى محبّتي وإذا جنّه الليل نام عنّي، أليس كلّ محبّ يحبّ لقاءَ حبيبه، فها أنا ذا موجود لمَنْ طلبني.

وكذا أيضاً من آثار المحبّة للخالق (عزّ وجلّ) عدم الصبر على فراقه والبعد عنه. قال أمير المؤمنين عليه السّلام في دعاء كميل: (( فهبْني يا إلهي وسيدي ومولاي وربّي صبرت على عذابك، فكيف أصبرُ على فراقك. وكما جاء أيضاً في مناجاة الإمام زين العابدين عليه السّلام): وغلّتي لا يُبردها إلاّ وصلُك، ولوعتي لا يطفيها إلاّ لقاؤُك، وشوقي إليك لا يبلّه إلاّ النظر إلى وجهك، وقراري لا يقرّ دون دنوّي منك.

 

الصدق والصراحة في التعامل

الصدق: هو من الصفات الكريمة ومن أشرفها، والتي تؤدي إلى سمو الإنسان ورفعته وتكامل شخصيته، وأساس ثقة الناس به، وهو أحد الأركان التي عليها مدار نظام المجتمع الإنساني، ولذا عنى الإسلام بهذه الصفة الكريمة وبالغ في التحلّي بها، وقد أثنى على مَنْ تخلّق بها، قال تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ﴾. سورة الأحزاب:23.

كما أثنى تعالى على نبيّه إسماعيل وقال: ﴿إِنّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نّبِيّاً﴾. سورة مريم:54.

وممّا ورد عن أهل بيت العصمة عليهم السّلام في مدح هذه الخصلة الشريفة والتحلّي بها ما روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال: إنّ الله لم يبعث نبيّاً إلاّ بصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى البرّ والفاجر. اُصول الكافي ـ للكليني 2:104 ح1.

وكما لا يخفى أنّ هذه الخصلة الشريفة من خصال أهل بيت العصمة عليهم السّلام، والتي ظهرت بشكل واضح على أفعالهم وأقوالهم، فهمُ الصدّيقون حقّاً، كما عناهم القرآن الكريم بذلك في قوله تعالى: ﴿يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ﴾. سورة مريم:54.

فهمُ الصادقونَ الذين أمر القرآنُ الكريم باتّباعهم والسيرَ على منهجهم الشريف، وقد استأثرت هذه الخصلة الشريفة بعناية بالغة عندهَم عليهم السّلام مؤكّدين عليها، وملتزمينَ بها في حياتهم، وفي تعاملهم مع سائر الناس، بعيداً عن المداهنة والخداع والتضليل حتّى في وقت الشدائد ووقوع المكاره.

فقد اتسم طريقُهم بالصِدقِ والصراحة في جميع فترات حياتهم، وإن أدّى ذلك إلى تفرُّق الناس عنهم، ما داموا على الحقّ والذي لا يعدلون به إلى غيره، إذ ليسوا كغيرهم (صلوات الله عليهم) من أولئك الذين يصلون إلى غاياتهم، بكلّ وسيلة ما دام ذلك يُعزِّرُ موقفهم والتفاف الناس حولَهم، ويُحقق لَهمُ الفوزَ والغلبةَ على مُناوئيهم ولو بالمُداهنة والخُداع والتضليل.

أضف تعليقك

تعليقات القراء

ليس هناك تعليقات
*
*

شبكة الإمامين الحسنين عليهما السلام الثقافية