أسباب المرجعية الأُولى للقرآن معرفياً ومعنوياً

لا ريب أنّ هنالك مجموعة مبررات موضوعية تجعل من القرآن المرجع المعرفي والمعنوي الأول في عالم التدوين؛ كما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وعترته الطاهرة عليهم السلام هم المرجع الأول للإنسان في عالم التكوين؛ وهذا التقدّم والريادة في المرجعية القرآنية يُمكن إبرازها من خلال ما يلي:

 

أولاً: الإجابة عن الأسئلة المصيرية.

لاشك أنّ الإنسان العاقل السوي يبحث عن أجوبة لجميع أسئلته المصيرية؛ كما أنه يبحث عن المعارف كافة والارتقاء المعنوي؛ فإذا ما ثبت أنّ القرآن الكريم يُوفِّر هذه الخواص فإنّه يكون مطلوباً ومقصوداً؛ وقد عبَّر القرآن عن نفسه: {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}(۱)؛ وأيضاً: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ}(۲)، ولا يوجد كتاب سماوي أو أرضي عبَّر عن نفسه بذلك.

 

ثانياً: طلب الهداية

إنَّ الإنسان يحرص كثيراً على تحصيل الهداية في قبال الضلالة؛ فإذا علمنا أنَّ القرآن يُحقِّق ذلك؛ بل أكثر من ذلك؛ فإنه يكون مطلوباً ومقصوداً؛ وقد عبَّر القرآن الكريم عن ذلك بقوله تعالى:{إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً}(۳)، فإنه لا يهدي الإنسان وحسب وإنما يهديه للتي هي أقوم، كما أنه يحمل البُشرى للمؤمنين الذين قرنوا إيمانهم بالعمل الصالح بأنَّ لهم أجراً عظيماً.

 

ثالثاً: فهم حركة التأريخ

إنَّ الإنسان المعاصر يريد أن يفهم وقائع حركة الإنسان تأريخياً؛ ويريد أن يفهم كيف بُنيت الحضارة ونشأت المدنيِّة؛ ويريد لذلك مصادر موثوقة؛ فإذا علمنا أنَّ القرآن يُحقِّق ذلك بإن يكون مقصوداً من جهة ومرجعية من جهة ثانية؛ قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}(۴)؛ ويُقدِّم إجابات واقعية تتقاطع مع الخرافات والأساطير الإسرائيلية في تصوير حركة الأنبياء؛ قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}(۵).

 

رابعاً: معالجة الأمور المستعصية

هنالك الكثير من الأُمور المستعصية في حياة الإنسان؛ منها ما يتعلَّق بالقضايا العلمية؛ ومنها ما يتعلَّق بالأمور المعنوية؛ ومنها ما يتعلَّق بالأُمور الاجتماعية؛ ومنها ما يتعلَّق بالأمور الصحّية والحياتية العامة؛ والقرآن الكريم يطرح نفسه كسبيل لرفع الأُمور المستعصية وتحقيق الأهداف العسيرة؛ قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً}(۶)؛ وكون القرآن رافعاً للأُمور المُستعصية يجعل منه المرجع الأول للإنسان.

 

خامساً: الحاجة النفسية للمعجزة العلمية الخارقة

إنَّ الإنسان من الناحية السيكولوجية بحاجة إلى مرجعية علمية تتصف بالإعجاز ليزداد وثوقه بها؛ والقرآن يُحقِّق ذلك الجانب السيكولوجي؛ قال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}(۷)؛ وهذا ما يجعله يمثل المرجعية الأُولى.

 

منازل القرآن (أرضية المرجعية القرآنية الأُولى)

لابد أن نفهم عدة أُمور؛ منها:

أولاً: أنَّ هنالك عالمين؛ الأول عالم التكوين والثاني عالم التدوين.

ثانياً: أنَّ هنالك انسجام كبير ونوع من التطابق بين عالم التكوين وعالم التدوين؛ وبعبارة أُخرى: إنَّ عالم التدوين قد دوِّن فيه عالم التكوين؛ وأن عالم التكوين قد انعكس في عالم التدوين.

ثالثاً: أنَّ عالم التكوين ذو مراتب وليس ذا مرتبة واحدة؛ وهذه المراتبية تدور بين عوالم أربع؛ وهي: عالم المادة والملك؛ وعالم النور والملكوت؛ وعالم العقل والجبروت؛ وعالم الربوبية واللاهوت.

رابعاً: بنكتة انعكاس التكوين في التدوين لابد من افتراض عينة تدوينية قد تحقَّقت فيها هذه العوالم؛ وليس أمامنا سوى القرآن الكريم؛ وهذا ما نبَّه إليه الإمام الحسين عليه السلام بقوله:(كتاب الله عزّ وجل على أربعة أشياء على العبارة، والإشارة، واللطائف، والحقائق، فالعبارة للعوام، والإشارة للخواص واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء)(۸).

وهنا يطرح الإمام عليه السلام أربعة عوالم للقرآن الكريم؛ وهي:(العبارة والإشارة واللطائف والحقائق).

طبيعة العلاقة بين عوالم التكوين وعوالم القرآن

إذا ما لاحظنا طبيعة العلاقة بين عوالم التكوين وعوالم القرآن نجدها منطبقة تماماً؛ كالتالي:

أولاً: عالم الملك التكويني يُقابله عالم العبارة التدويني.

ثانياً: عالم الملكوت التكويني يُقابله عالم الإشارة؛ والملكوت هو العالم المجرد المُشير إلى الوجود الأكثر إجمالاً وبساطة منه؛ وهو عالم الجبروت.

ثالثاً: عالم الجبروت التكويني يُقابله عالم اللطائف؛ والجبروت هو لطائف عالم الربوبية.

رابعاً: عالم الربوبية التكويني ويُقابله عالم الحقيقة؛ فلا حقيقة حقَّة إلا في عالم الربوبية واللاهوت.

وهذه العوالم القرآنية الأربعة التي تمثل خلاصة عالم التكوين وعالم التدوين أُشير لها بالتجلِّي الإلهي الأعظم في القرآن الكريم؛ فعن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال:(تجلّى الله سبحانه في كتابه)(۹) أو في كلمة صادق أهل البيت عليه السلام:(لقد تجلّى الله لخلقه في كلامه ولكن لا يبصرون)(۱۰).

جوانب تطبيقية للمرجعية القرآنية الأُولى معرفياً ومعنوياً

 

أولاً: الجانب المعرفي

۱٫ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} النساء: ۵۹؛ فالرجوع إلى الله تعالى هو رجوع إلى القرآن فيما اختلفوا فيه من فهم النصوص أو العمل بها؛ والآية الكريمة تنصّ على تقدّم مرجعية القرآن ثم مرجعية الرسول صلى الله عليه وآله؛ وتبيِّن خلفية ذلك من كون الرجوع لهما هو الخير وهو الأحسن تأويلاً، أي هو خير لكم من التنازع والقول بالرأي، وهو أحسن عاقبة ومآلا.

۲٫ قوله تعالى: {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} الإسراء: ۹؛ والهداية للتي هي أقوم في المجالين المعرفي والمعنوي؛ فهنالك الكثير من العلوم النافعة ولكنها ليست معصومة من الخطأ؛ وأما علوم القرآن المعرفية والمعنوية فإنها علوم معصومة من الخطأ.

 

ثانياً: الجانب المعنوي

۱٫ القرآن يُورث الشفاء والرحمة؛ قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً} الإسراء: ۸۲٫ وهذا الشفاء إنّما يكون من الأمراض المعنوية؛ وهذه الرحمة مشيرة إلى ما يفيض به القرآن من خير وبركات. وفي قوله:(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ) دلالة عميقة على المستويات المعنوية المفاضة من الأعلى؛ فالآية لم تقل وَنُنَزِّلُ في الْقُرْآنِ؛ لأنّ القرآن كله شفاء ورحمة؛ فلا يحتاج لإضافة شيء من ذلك؛ وإنّما قال:(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ)؛ أي: ممَّا حواه من شفاء ورحمة؛ ومفتاح هذا الفيض والجريان المعنوي هو الإيمان؛ ولذلك فإنَّ القرآن نفسَه لا يكون للظالمين شفاءً ورحمة؛ وإنما هو سبب في زيارة خسرانهم.

 

وهنا أود أن أُشير إلى أمرين:

الأول: أنَّ أُولئك المشعوذين والدجّالين الذين يوهمون الناس بأنهم يًُشافون الناس بالقرآن إنهم عاجزون عن نيل أيِّ مقدار من شفائية القرآن؛ لأنهم ظلمة والظلمة لا يزيدهم القرآن إلى خَساراً.

الثاني: إنَّ تلك الرحمة المشار إليها في الآية يمكن تحصيلها من خلال الاستماع للقرآن والإصغاء إليه؛ قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} الأعراف: ۲۰۴؛ إلا إذا قلنا بأنّ هذه الرحمة عامة وتلك خاصة.

۲٫ القرآن يُورث الخشية الحقيقية من الله تعالى؛ قال تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} الحشر: ۲۱؛ فإذا ما قرأه الإنسان بنيّة التنزّل عليه فإنه سيُصيبه من الخشوع والحلال ما تنتفي فيه الكثرة وتتجلى فيه الوحدة.

وقد كان الإمام الصادق عليه السلام في صلاته فأُغمي عليه فسألوه عن حالته هذه بعدما أفاق من غشيته فقال: ما زلت أُردد الآية ـ يعني: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ـ على قلبي وعلى سمعي حتى سمعتـُها من المتكلم بها، فلم يثبتْ جسمي لمعاينة قدرته)(۱۱).

وهنالك نصّ في إشارة عميقة إلى أنَّ المشركين أنفسهم كانوا يتصوَّرون هذه الآثار المعنوية والتكوينية في القرآن الكريم؛ ولكنهم قد أخذتهم العزة بالإثم؛ قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاءُ اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} الرعد: ۳۱٫

فالآية تريد أن تقول لو أنّ هنالك قرآناً تُسيَّر به الجبال أو تُقطَّع به الأرض، أو يُكلَّم به الموتى، فإنّه سيكون هذا القرآن لا غير؛ والمانع من إظهار هذه القدرات المعنوية والتكوينية للقرآن هو أنّ طالبي هذه المعاجز منه ليسوا بصادقين؛ فلو وقعت هذه الآثار جميعاً فإنَّ الكفار والمشركين والمنافقين سيبقون على عنادهم أيضاً.

وأما نفس الأثر فقد دلَّت الآية السابقة على تحقيق بعضٍ منه، وهو قوله تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} الحشر: ۲۱؛ وأما تقطيع الأرض فقريب منه ما يُصطلح عليه بطوي الأراضي، فتجميع الأرض وانطباقها أعظم من تقطيعها بالمقاسات المادية؛ وهذا الطيّ للأراضي كرامة ينالها الأولياء الصالحون عندما يُعملون ذكراً أو ورداً فيتحقّق ذلك؛ وهو هنالك ذكر أو ورد أعظم من القرآن؛ وقد جاء في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله:(فضل القرآن على سائر الأذكار كفضل الله على خلقه)(۱۲)؛ وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه)(۱۳)؛ وعنه صلى الله عليه وآله:(القرآن غنى لا غنى دونه، ولا فقر بعده)(۱۴).

هذا ما أمكن إيجازه في موضوع أسباب المرجعية الأُولى للقرآن معرفياً ومعنوياً؛ لننتقل بعدها مقالتنا القادمة إلى موضوعة أُخرى لها صلة وثيقة بمرجعية القرآن وريادته؛ وهي موضوع رصد العلاقة بين الإنسان والقرآن في بُعدها التربوي.

________________________
۱ ـ يوسف: ۱۱۱٫
۲ ـ النحل: ۸۹٫
۳ ـ الإسراء: ۹٫
۴ ـ يوسف: ۳٫
۵ ـ النمل: ۷۶٫
۶ ـ الإسراء: ۸۲٫
۷ ـ الإسراء: ۸۸٫
۸ ـ بحار الأنوار، للعلامة المجلسي: ج ۸۹ ص۲۰ ح ۱۸٫
۹ ـ الفروع من الكافي، للشيخ الكليني: ج ۸ ص ۲۸۶ح ۵۸۶٫
۱۰ ـ وفي رواية أخرى:(…ولكنّهم لا يبصرون). انظر: عوالي اللآلي، لابن أبي جمهور الأحسائي: ج ۴ ص ۱۱۶ ح ۱۸۱٫ وأيضاً: بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج ۸۹ ص ۱۰۷٫
۱۱ ـ التفسير الصافي، الفيض الكاشاني: ج ۱ ص ۷۳٫
۱۲ ـ شرح الأزهار، الإمام أحمد المرتضى: ج ۱ ص ۲۵۰٫
۱۳ ـ بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج ۸۹ ص ۱۹٫
۱۴ ـ بحار الأنوار، العلامة المجلسي: ج ۸۹ ص ۱۹٫