الوحدة الإسلامية عصمة التعدد

قَالَ تَعَالى ﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَسورة آل عمران، آية ۱۰۳٫

ربما يخيل للبعض حينما يتلوا الآيات ويقرأ الروايات الآمرة بالوحدة والناهية عن التفرق، أن المراد منها الرفض المطلق للتعدد والتنوع في المجتمع الإسلامي ومؤسساته، فيرى أن الحديث عن الوحدة يعني بالضرورة إلغاء لأي نمط من أنماط التعدد إلا النمط الذي دل الدليل عليه، وبناء على ذلك فإنه يؤسس فكرة مستوحاة من فهمه لنظرية الوحدة ومفادها: التوحد والاندماج أولا لا التعدد والتنوع، ويزعم أن ما ربما يستند إليه للقدح في هذه الفكرة كتعدد الجماعة وكثرة المساجد وما أشبه يعد استثناءا لا يرقى إلى النقض بل ولا التضعيف.

 

بين الوحدة والتعدد

مما لا شك فيه أن دعوة الدين الإسلامي بل وكل الديانات السماوية إلى الوحدة والإتحاد واعتمادهم في ذلك على أهم أصل عقدي “التوحيد” يعطيها قيمة كبرى في واقع الأمة، إلا أن ذلك لا يرقى بها إلى إلغاء التعدد، بل لا يمكن أن نتصورها من دونه كما لا فائدة من وجوده بدونها.

ولك أن تدقق النظر في مختلف ميادين العمران البشري والفكر الإنساني فإنك ستجد أن التعدد والتنوع سنة من سنن الله سبحانه وآية من آياته جلت قدرته. ففي تعددية القوميات والأجناس يقول سبحانه ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَسورة الروم، آية ۲۲٫ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ سورة الحجرات، آية ۱۳٫ وفي حضارات البشر يرى القرآن الكريم أن التعددية هي المحرك الأساس للتنافس والتقدم والتسابق إلى الخيرات، والباعث على حيوية الإبداع إذ لا يمكن الوصول إليه مع غياب التمايز وإلغاء الخصوصيات. قَالَ تَعَالى ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَسورة المائدة، آية ۴۸٫ وفي الدولة الإسلامية التي أسسها الرسول الأكرم في المدينة المنورة حيث التعدد القبلي والديني أقرت بالخصوصيات وأبرزت مفهوم التعدد والتنوع. وقد جاء في الصحيفة وهي أول وثيقة للدولة الإسلامية الفتية: “المؤمنون المسلمون من قريش وأهل يثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة من دون الناس… وأن اليهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم”. ولم تقتصر رؤية الدين الإسلامي على الإقرار بالتنوع والتعدد بل أعد لها رباطا يعصمها من الصراع والعدوان ومن ثم التفتت والهلاك، ويقودها نحو الفضيلة والتقدم مع الاحتفاظ بالخصوصيات لكل من الفرقاء. وبكلمة أخرى: التعددية الموزونة لا تكون إلا بجمع عناصر الحق والصواب من الجميع وتأطيرها بإطار الدين من دون إلغاء للخصوصيات والميزات التي يختص أو يمتاز بها أي طرف على الآخر، فتكون التعددية تميزا لأطراف أو جماعات أو فرقاء أو مذاهب أو مدارس علمية أو تيارات فكرية يجمعهم جامع الدين الإسلامي الحنيف، وهذا يعني أن التعددية لا تتأتى داخل حضارة أو دولة أو مجتمع كبير أو صغير إلا مع الاعتصام بحبل الله، فلو انتفى الاعتصام انتفت الفائدة المرجوة من الوحدة.

 

التعدد + الوحدة = التكامل

يمتاز المجتمع الهادف الذي يحمل تطلعات نحو التقدم والازدهار عن غيره من المجتمعات بالحيوية والأمل، والنشاط والعمل بل وإتقانه، مما يعطيه وفرة في الإنتاج ويسهل له السبيل نحو مقاصده، وهذا لا يكون إلا على أرضية التعدد المؤطر بالوحدة، فالتعدد يفرض حالة التنافس والتسابق في إنجاز المزيد من الأعمال كما وكيفا مما يقود إلى التقدم والازدهار، بينما الوحدة هو الإطار الذي ينظم العلاقة بين الفرقاء ويمنع من التصادم بينهم، والأهم من ذلك كله هو أن الوحدة توفر الأرضية المناسبة والمناخ الملائم بين مختلف المشاريع والأعمال بل والنظريات والأفكار لعلاقات إيجابييه تسير نحو التعاون والتكامل.

ومعنى التكامل هو: أن يقوم كل واحد أو مجموعة أو تيار بما يراه – في إطار الدين – ولكنه يفترض أن يكون ذلك مكملا للآخرين، وكذلك نظرته لما يقوم به الآخر حيث ينبغي أن يفترض فيها أنها مكملة لما يحمل من أهداف وما يتبنى من أعمال. وبناء على هذا المعنى يكون من الخطأ الكبير أن يتصور أحد ما – شخص، أو مذهب، أو تيار، ومهما أوتوا من قوة أو جاه أو مال – أنه الوحيد في ساحة العمل، وأنه الوحيد القادر على صنع المعجزات في الوسط الاجتماعي.

 

بصائر في التعدد والوحدة

۱٫ رفض الإسلام ” الصراع ” سبيلا لحل التناقضات والإشكالات التي تحدث بين فرقاء التعددية، وذلك لأن غاية الصراع ومآله إلى نفي وإلغاء الآخر وبالتالي نفي وإلغاء التعددية بل والوحدة أيضا لأنها سالبة بانتفاء الموضوع. وبدلا من الصراع أمر القرآن الكريم بالتدافع بالتي هي أحسن.

قَالَ تَعَالى ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ(۳۴)سورة فصلت. والتدافع الذي يأمر به القرآن لا يلغي المختلف أو الآخر وإنما يسعى إلى تحويله من موقع الخطأ إلى موقع الصواب إن كان على خطأ. ۲٫ حث القرآن الكريم على التنافس فقال ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (۲۶)سورة المطففين. وأمر بالمسارعة والتسابق إلى الخيرات ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (۱۳۳)آل عمران. ﴿وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(۱۴۸)سورة البقرة. والتنافس والتسابق والمسارعة لا تكون إلا بتعدد المشاريع والأعمال والأفكار – ضمن دائرة الدين – في شتى المجالات. ۳٫ مهما أوتي الإنسان من قوة فإنه لن يصل إلى تحقيق أهدافه أو أهداف الدين الذي ينتمي إليه بمفرده لذا لا بد أن يعمل مع الآخرين ويتكامل معهم، لذا فإنك تجد أن البعد الجمعي حاضرا في كثير من الأوامر الدينية، فالعبادات مثلا تجدها ذات طابع جمعي واجتماعي بل وحتى العبادات التي يؤديها الإنسان منفردا في ظلمة الليل فإنك تجدها مليئة بهذا البعد حيث الدعاء للمؤمنين، وهذا يعني توطيد العلاقة بالمجموع وتكريس حب الخير لهم. وبمقدار ما تحمل من أهداف وتطلعات فإنك بحاجة إلى المزيد من الانفتاح على مجاميع تتعاون وإياها لتحقيق تلك الأهداف والتطلعات. ۴٫ حبل الله الذي أمرنا بالاعتصام به هو كتاب الله أو دين الله أو أئمة الهدى كما جاء في مروياتنا، أو الجماعة كما ورد عن بعض أهل السنة، أو غير ذلك، لا يعني إلغاء الآخر ولا إفنائه بل يعني التنوع والتعدد في إطار الدين والحق والاعتصام به أمان من الفرقة والتيه والضلال. فمن اعتصم به نجا من الفرقة والاختلاف ويؤيد ذلك ما ورد في كثير من الروايات التي تفسر حبل الله ومنها ما رواه أبو سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ﴿أيها الناس ! إني قد تركت فيكم حبلين إن أخذتم بهما ، لن تضلوا بعدي ، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله، حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض﴾.