حبّ الله تعالى

من النعم الإلهية التي أودعها الله تعالى في كيان الإنساني، وجعلها من الغرائز الفطرية في وجود كل إنسان مع اختلاف شرائعهم وشرائحهم، هو حبِّه للكمال، وبغضه لخلافه، فكل إنسان يفرح ويبتهج إذا وُصف أنَّه مؤمن، أو أمين، أو عالم، أو غير ذلك من صفات الكمال، كما أنَّه يبغض ويهرب من كل صفة نقص فلا يحب أنْ يوصف بأنَّه فاسق، أو خائن، أو جاهل وغير ذلك من الصفات السلبية التي تعد نقصاً ورذيلة.

وهذا الأمر كاشف عن فطرية حب الكمال والانجذاب نحو كل كامل، كلما كان الكمال أكمل وأعظم شأناً، كلما كان الشوق إليه أكثر والابتهاج أوفر، وكذلك في الجهة المخالفة للكمال وهي النقيصة والرذيلة. ومن هنا نجد أنَّ ثلة من البشر حينما ينكشف لهم الكمالات الإلهية المطلقة التي لا حدَّ لها ولا مقدار، تنجذب قلوبهم نحوه سبحانه وتعالى من دون إرادة أو شعور، فيسعون للاتصاف بصفاته الجمالية والجلالية قدر سعيهم وقابليتهم. ومقدار قابليتهم سعة ًوضيقاً منوط بمقدار ما يملك هذا الإنسان من علم وعمل كثرةً وقلة ً، ولهذا تجد غالباً توأمية العلم والعمل في الكثير من الآيات القرآنية، فعلى سبيل المثال، قال تعالى: ﴿ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(۱) وقال سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا(۲). الإيمان الذي هو تعبير ثان عن العلم إذا اقترن مع العمل كانت لهما جذبات وتأثيرات عظيمة على النفس الإنسانية وخصوصاً بالإنجذاب نحو الكمال، وبالأخص الكمال المطلق سبحانه وتعالى. إنَّ اختلاف مراتب الأنبياء من حيث القرب والمقام والمنزلة عند الله تعالى راجع إلى هذين الأمرين الأساسين، فخاتم الأنبياء أفضل الرسل على الإطلاق لما له من ميزةٍ متميزةٍ في هذين الأمرين على غيره من الرسل، وكذا القول في التمايز الحاصل عند سائر البشر. إنَّ إنشغاف المقربين والأبرار والأولياء تكون واضحةً وجلية ًفي أحوالهم وأفعالهم وأقوالهم، يكشف أمير المؤمنين جانب من جوانب تعلقه وحبه لله تعالى قائلاً في دعاء كميل: ” فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي وربي صبرت على عذابك فكيف أصبر على فراقك، وهبني صبرت على حر نارك فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك أم كيف أسكن في النار ورجائي عفوك، فبعزتك يا سيدي ومولاي أقسم صادقاً لئن تركتني ناطقاً لأضجن إليك بين أهلها ضجيج الآملين، ولأصرخن إليك صراخ المستصرخين ولأبكين عليك بكاء الفاقدين ولأنادينك أين كنت يا ولي المؤمنين! يا غاية آمال العارفين! يا غياث المستغيثين! يا حبيب قلوب الصادقين!”.(۳) كما تلاحظ أنَّ الأنس واللذَّة والحبَّ يتجلى في مناجاة الإمام زين العابدين، في مناجاة المحبين في الصحيفة السجادية: ” اللهم اجعلنا ممن دأبهم الارتياح إليك والحنين، ودهرهم الزفرة والأنين، جباههم ساجدة لعظمتك، وعيونهم ساهرة في خدمتك، ودموعهم سائلة من خشيتك، وقلوبهم متعلقة بمحبتك، وأفئدتهم منخلعة من مهابتك، يا من أنوار قدسه لأبصار محبيه رائقة، وسبحات وجهه لقلوب عارفيه شائقة، يا منى قلوب المشتاقين، ويا غاية آمال المحبين، أسألك حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يوصلني إلى قربك، وأن تجعلك أحب إلي مما سواك، وأن تجعل حبي إياك قائداً إلى رضوانك، وشوقي إليك ذائداً عن عصيانك، وامنن بالنظر إليك علي وانظر بعين الود والعطف إلي، ولا تصرف عني وجهك، واجعلني من أهل الإسعاد والحظوة عندك، يا مجيب يا أرحم الراحمين “. (۴)

_____________
۱- سورة السجدة: الآية ۱۹٫

۲- سورة الإسراء: الآية ۹٫

۳- مصباح المتهجد- الشيخ الطوسي، ص ۸۴۷٫

۴- الصحيفة السجادية- الإمام زين العابدين(ع)، مناجاة المحبين.