بحث في ظاهرة الموت

قال الله تعالى { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ }[۱].
الحديث عن الموت يتضجر منه كثير من الناس لأنهم يكرهون الموت فيكرهون الحديث عنه، ولكن الموت حتم على جميع الأحياء ولا مهرب لنا عنه سواء كرهناه أم لا وفيه يتبين مصيرنا النهائي المجهول لدينا الآن.
والحديث عن الموت يترك فينا أثراً بعيداً، فهو يقلل من غرورنا بهذه الحياة الفانية وزخارفها وبالتالي يكون رادعاً لنا عن ارتكاب الجرائم والآثام (وكفى بالموت واعظاً).
ـ ما هو الموت؟!
الجواب: عن هذا السؤال صعب جداً، فإن حقيقة الموت غامضة لدينا نحن الأحياء. وربما يكون السبب أننا لا نعرف الحياة أولاً لنعرف الموت بعد ذلك.
فهنا سؤال آخر يفرض نفسه بالطبع وهو: ما هي الحياة؟!
وليس في مقدوري الإجابة على هذا السؤال أيضاً بالدقة العلمية أو العقلية، ولا أظن أن أحداً من الأطباء وعلماء الأحياء أو الفلاسفة أيضاً يعرفون الجواب الشافي عن هذين السؤالين!
ولعل الجواب القريب إلى الأذهان هو أن الحياة (أقصد حياة الإنسان) هو امتزاج خاص بين الجسد والنفس أو نوع تعلق بينهما. ومن الناس مَن يعبر عن النفس بالروح.
كما أن الفصل بين هذين الجزأين هو الموت!
وليس هذا التعريف حداً علمياً بحيث لا يرد عليه أي اعتراض.
ومن مظاهر الحياة والموت ما يستفاد من القرآن والسنة أن الحياة الدنيا هي المحجوبة بالغفلة والغطاء، والحياة الآخرة هي المجردة التي انكشف عنها الغطاء والحجاب. قال تعالى { لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ }[۲]. وقال تعالى أيضاً { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ }[۳].
وقيل إن الآيات القرآنية التي وردت بشأن الحياة الآخرة أي الموت وما بعده تقرب من ألف وأربعمائة آية وهي ضعف الآيات التي وردت بشأن معرفة الله تعالى وتوحيده فهي سبعمائة آية تقريباً، وذلك يدل على أهمية الاعتقاد بالمعاد والحياة الآخرة. وأن الإكثار من ذكر الموت والآخرة يحقق أهم أهداف القرآن الكريم وهي الهداية والتعليم والتوجيه إلى الخير.
كيف نموت ؟
نحن الأحياء لا ندري كيف نموت ومتى نموت، لأن من حكمة الله عز وجل أن يجعل أخبار الآخرة مقطوعة عنا وبالأحرى إن التركيب المادي الذي يتكون منه الإنسان الحي العادي يمنعه من إدراك حقيقة الموت وما بعده، بل بعد أن يذوق الموت أو يحضره ملك الموت، فأول ما يعرض على المحتضر أن ينعقد لسانه فلا يستطيع أن يعبر عما يراه ويجده من لقاء الموت وملائكة الموت وغير ذلك، وذلك قبل أن تفارق النفس (الروح) البدن تماماً.
وكل المعلومات التي وصلتنا عن الموت فإنما هي بطريق الوحي أعني القرآن والسنة، وربما جاءتنا بعض المعلومات البسيطة عن طريق الرؤيا الصادقة إن صح الاستناد إليها أو عن طريق تحضير الأرواح إذا صحت الدعوى بذلك.

 

حكمة الموت لجميع الأحياء :

قال تعالى { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ} [۴] ، وقال أيضاً {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [۵].
لا يشك أحد في أن الموت محتوم علينا جميعاً مهما طال بنا العمر، ومهما حرصنا على استمرار الحياة ولا ينفع الحذر عن الأجل وكفى بالأجل حارساً { قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ }[۶] ، { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ }[۷] ، والحكمة في ذلك أنه لولا الموت لضاقت الأرض بالأحياء ونفد الطعام والماء والهواء واختلّ النظام في العالم، ومن سنة الحياة أن الإنسان إذا طال به العمر أخذ بالنقص في كل أعضائه وحواسه وعقله، وفقد لذة الحياة وتحولت حياته إلى أرذل العمر وصار عالة على المجتمع، ومشكلةً كبيرة ليس لها حل أو علاج إلا الموت.

مضافاً إلى أن النظرة الأصيلة إلى الحياة في كل الأديان وفي الإسلام هي أن الحياة ليست هي المقر الأخير للإنسان ـ كما أنها ليست المبدأ ولا المعاد، بل هي جسر يوصل بينهما ـ فلو درسنا كلاً من جزأي الإنسان لوجدنا أن جسده كما قال تعالى { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى }[۸] وأن روحه كما ورد في الخبر ” الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف ” ، وبمقتضى التعبير القرآني المتكرر { إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ }[۹] ، { تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ }[۱۰] ، { إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى }[۱۱] ، { ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ }[۱۲] ، وبمقتضى الأحاديث الشريفة أيضاً أن الأرواح أو النفوس مخلوقة قبل الأبدان في عالم آخر. فالنتيجة أن الإنسان لم يوجد ليبقى في هذا العالم ، بل ليمر منه إلى عالم أفضل وأكمل. الحكمة في مروره بهذا العالم هو الامتحان والاختبار كما ذكرنا قوله تعالى في البداية { الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ }[۱۳].

وسبب آخر أن الإنسان الكامل لا يستوفي رغبته الكاملة ولا يحقق أقصى أمانيه وأهدافه إلا بلقاء الله عز وجل فتلك الذروة العليا التي يبلغها الإنسان المتميز عن الحيوان. ولقاء الله لا يتحقق إلا بالموت والانتقال من هذه الدار الحقيرة الفانية إلى تلك الدار الآخرة.

 

بداية الموت :

هناك نوعان من الأجل فيما نعلم: الأجل المحتوم، والأجل المعلق، ونوعان من الموت: طبيعي وفجائي.
فالموت الطبيعي هو أن تنقضي مقوّمات البدن ببلوغ الشيخوخة والهدم فمن الطبيعي أن يعقبه الموت فمثلاً: السيارة تسع كمية من البنزين أو أي نوع من الوقود وتحتوى على ماكنة (محرك) وأجهزة وأدوات فإذا استهلكت الماكنة والأدوات ونفد الوقود تعطلت السيارة. والجسد الإنساني أو الحيواني يحتوي على أعضاء وأنسجة لها قابلية محدودة للبقاء والعمل، فإذا تلفت هذه الأنسجة ولم يعوض عنها أو تعرضت إلى أمراض وجراثيم أقوى من المقاومة المودعة في الدم أو الجسم أدى ذلك إلى الموت. ولم ينفعه العلاج الطبي.
أما الموت الفجائي فله أسباب لا تحصى كحادث سيارة وطائرة أو زلزال أو قتل متعمد أو قتل خطأ أو غرق أو حرق أو هدم أو تسمم أو نوبة قلبية أو ما أشبه ذلك مما يؤدي إلى الوفاة.
ففي حالة الشيخوخة أو المرض المؤدي إلى الموت، تسبق الموت حالة خاضعة جديرة بالبحث والدراسة هي حالة (الاحتضار).

 

۱٫ الاحتضار:

الاحتضار أو النزع أو السكرات أسماء مختلفة لمعنى واحد وهي حالة ما قبل الموت. وربما تعتبر المنزل الأول من منازل الآخرة أشار القرآن الكريم إليها بقوله { حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (۹۹) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ }[۱۴] ، وقوله { وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ }[۱۵] ويتحقق ذلك بمعاينة ملك الموت قال تعالى { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ }[۱۶] أو أعوانه من الملائكة الذين قال تعالى عنهم { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ }[۱۷ فالمستفاد من الأحاديث الشريفة ومن التجارب العملية والطبية أن الإنسان في هذه الحالة تنفتح له نافذة إلى العالم الجديد (الآخرة) فيرى أشياء لم يكن يراها في حياته المادية، بسبب الغطاء أو الحجاب المادي الذي هو الجسد المانع من رؤية الحقائق التي ينبغي أن يراها الروح أو النفس. ففي هذه الحالة (الاحتضار) يحصل بعض (الكشف) عما وراء الحجاب فيشاهد المحتضر جانباً من تلك المشاهد الغيبية قال أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) ” ولو عاينتم ما عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم وسمعتم وأطعتم ولكن محجوب عنكم ما عاينوا وقريباً ما يسقط الحجاب” [ نهج البلاغة].

ومن المناسب أن نتطرق إلى أن طائفة من الإنسان تحصل لهم هذه الحالة في حياتهم الطبيعية كالأنبياء مثلاً حين نزول الوحي عليهم حيث تعرض لهم غيبوبة الوحي فيكادون ينقطعون في تلك الحالة عن الحياة المادية، أو المكاشفات التي تحصل لهم فهم يرون ما لا يراه الناس حولهم، ففي كلام الإمام أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) ” .. ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزول الوحي عليه صلى الله عليه وآله فقلت يا رسول الله ما هذه الرنة؟ قال هذا الشيطان قد يئس من عبادته إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي وأنك لوزير وأنك لعلى خير ” [نهج البلاغة].
وطائفة أخرى ممن ليسوا بأنبياء ولكنهم بلغوا بعض مراتب الكمال الإنساني فحصلت لهم بعض المكاشفات من العالم الآخر.هذا كله في حالة اليقظة، أما في حالة النوم كالرؤيا الصادقة أو غير الصادقة فهي أيضاً حالة جديرة بالبحث.

 

النوم والرؤيا :

ما هي حقيقة النوم ؟ كذلك يصعب الجواب الشافي عن هذا السؤال وعن حقيقة الرؤية التي نشاهدها في حالة النوم. ويمكننا الاستشهاد للجواب بقوله تعالى { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى }[۱۸] ، { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ }[۱۹].
فالنوم حال شبه الموت أو نصف الموت، يفارق جزء من الروح (النفس) البدن وهو الجزء المدرك فالنائم لا يسمع الكلام في اليقظة، ولا يدرك اليقظان من الأعمال والمعاني. ويبقى له الجزء الآخر من النفس (الروح) المتعلق بأعضائه الداخلية كدوران الدم، وعملية الهضم وأمثال ذلك.
فلا ندري إلى أين يذهب الجزء المدرك وكم المسافة بينه وبين النائم. والراجح أن هذا الجزء المدرك من النفس هو الذي يرى الرؤيا.

 

أحلام اليقظة :

وهناك أحلام يحلم بها الإنسان في حال اليقظة وربما تسمى بـ (الخيال) يتخيلها في نفسه ويفكر بها عند الاختلاء بنفسه، وينشعب منه حديث النفس. فبعض أنواع الرؤيا يرتبط بأحلام اليقظة، وهذه الأحلام وما يتبعها من الرؤيا (غير الصادقة) مصدرها أهواء النفس والرغبات والشهوات أو المخاوف لذلك قالوا إن بعض أصناف الناس لا تعبر روؤياهم مثل العاشق والخائف والراغب في شيء فهؤلاء تؤثر أحلام يقظته في أحلام نومهم فروؤياهم لا ترتبط بعالم الأرواح ولا تفسير لها قال ابن عباس: في بني آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس فالنفس بها العقل والتمييز فإذا نام قبض الله نفسه ولم يقبض روحه وإذا مات قبض الله نفسه وروحه ، وقال الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) ” ما من أحد ينام إلا وعرضت نفسه إلى السماء وبقيت روحه في بدنه وصار بينهما سبب كشعاع الشمس فإذا أذن الله تعالى في قبض الروح أجابت الروح النفس وإذا أذن الله في رد النفس أجابت النفس الروح ” ، وهو قوله تعالى { اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى }[۲۰].
أما القسم الآخر من المنامات فهي الرؤيا الصادقة ولها حقيقة واقعية ولها ارتباط بالحقائق الغيبية ووقائع المستقبل وقد ورد في الحديث الشريف ” إن الرؤيا الصادقة جزء من ستين جزءاً من النبوة ” ، وقد أخبر عنها القرآن الكريم عندما أخبر عن رؤيا للملك المعاصر ليوسف (عليه الصلاة والسلام) حيث انكشفت له حوادث المستقبل برمز خاص { وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ }[۲۱] ، وكذلك رؤيا يوسف (عليه الصلاة والسلام) { إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ }[۲۲] ، ورؤيا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ }[۲۳] هذه كلها مرتبطة بالروح عند تجردها وانفلاتها عن حصار الجسد فإنها ستنطلق في عالم وراء هذا العالم المحسوس لدينا. وخاصة عندما يرى الإنسان في روؤياه شخصاً مضى على وفاته مدة من الزمان فيتحدثان ويخبر الميت الحي في المنام بكثير من أخبار الدنيا وما بعد الموت ويتبين حقيقة بعضها أو كلها. وقد تعرضت الأحاديث لشرح بعض هذه الرؤيا وكيفية الرؤية ومكان الرؤية. وعلى الإجمال فالرؤية والسماع لا يقعان بنفس العين والأذن الماديتين لأنهما معطلتان في المنام عن العمل وإن كان هناك بعض العلاقة بين الروح أو النفس المدركة وبين العضو الجسدي بدليل الاحتلام والشهوة وخروج المني من مجراه الطبيعي وحصول الجنابة في النوم ولعل الاحتلام يعتبر من القسم الأول من الرؤيا المرتبطة بأحلام اليقظة لأنه يحصل للشباب والعزاب دون الشيوخ ودون المكتفين جنسياً.ففي الرؤيا الصادقة تكون الروح هي المدرك رؤية وسماعاً ولمساً وغير ذلك من الحواس الخمس الباطنة، وبرموز خاصة قابلة للتأويل والتعبير، وأن هناك ارتباطاً حقيقياً بين الرؤيا وتعبيره وتأويله إذا كان تأويله حقيقياً كما نجد ذلك في تعبير يوسف ويعقوب لمنام الملك ومنام يوسف مثلاً.
وهذا الارتباط موجود أيضاً بين هذه الدنيا وبين الآخرة فإن الأعمال الصادرة منا تتجسد وتتجسم في الآخرة وتظهر بصورتها الحقيقية هناك من الخير والشر، وما نشاهد، هنا ما هو في الحقيقة إلا رموز وإشارات، ومجموعة حياتنا الحاضرة تمر بمنزلة الرؤيا التي يراها النائم. فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ” الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ” ، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً ” إنكم تموتون كما تنامون وتبعثون كما تستيقظون ” .قلنا إن المحتضر تفتح له حين الاحتضار نافذة إلى الآخرة، فيشاهد الملائكة أو الشياطين وأرواح الموتى، وربما يشاهد الأولياء والمعصومين (عليهم الصلاة والسلام) ، وقد وردت أحاديث كثيرة تشرح حالة الاحتضار وما يجده الإنسان حينئذ من شدة الألم والخوف والحزن، فلعل ألم الموت يفوق جميع الآلام، ففي بعض النصوص ” أن خروج الروح بمنزلة نشر بالمناشير وقرض بالمقاريض ” ، كذلك الخوف لأن الموت بنفسه مخيف، ولأنه لا يعلم إلى أين يكون مصيره فيتذكر وحشة القبر وعذابه وفزع القيامة وما يعقب ذلك من عقبات كؤدة، ثم أن الموت وما بعده يتضمن قوانين تختلف عن قوانين هذه الدنيا وهي غامضة مجهولة فمن الطبيعي أن يخاف الإنسان منها. ومن الناس مَن يخاف من عاقبة ذنوبه وأعماله السيئة. كذلك يشعر المحتضر بالحزن العميق لفراق أهله وماله وولده وأصدقائه بل وجسده وأعضائه. كل هذه المصائب من الألم والخوف والحزن تجتمع على المحتضر فتتعاظم مصيبته وهمومه وكرباته، ويضاف إلى ذلك شدة المرض وعجز الطبيب والدواء عن علاجه، وتشتد حالته بانعقاد لسانه وعجزه عن الكلام، ثم يعقب ذلك عجزه عن السمع، فيرى أهله ربما يبكون عليه ويجزعون ولكنه لا يسمعهم وبعد ذلك يفقد قوة البصر ثم تفارق روحه الجسد.ومن المناسب أن نذكر بعض الأخبار الواردة بهذا الخصوص :
۱٫ في البحار، عن أبي عبدالله (عليه الصلاة والسلام) قال: قال علي بن الحسين (عليه الصلاة والسلام) ” قال الله عز وجل: ما من شيء أتردد عنه ترددي عن قبض روح المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته فإذا أحضره أجله الذي لا يؤخر فيه بعثت إليه بريحانتين من الجنة، تسمى إحديهما المسخية، والأخرى المنسية فأما المسخية فتسخية عن ماله وأما المنسية فتنسيه أمر الدنيا “.[ البحار ج۶/ ۱۵۲].
۲٫ البحار: … قيل للصادق (عليه الصلاة والسلام) صف لنا الموت قال (عليه الصلاة والسلام) ” للمؤمن كأطيب ريح يشمه فينعس لطيبه وينقطع التعب والألم كله عنه. وللكافر كلسع الأفاعي ولدغ العقارب أو أشد قيل فإن قوماً يقولون: إنه أشد من نشر بالمناشير وقرض بالمقارض ورضخ بالأحجار وتدوير قطب الأرحية على الأحداق، قال كذلك هو على بعض الكافرين والفاجرين ألا ترون منهم مَن يعاين تلك الشدائد فذاكم الذي هو أشد من هذا لا من عذاب الآخرة فإنه أشد من عذاب الدنيا قيل فما بالنا نرى كافراً يسهل عليه النزع فينطفئ وهو يحدث ويضحك ويتكلم، وفي المؤمنين أيضاً مَن يكون كذلك، وفي المؤمنين والكافرين مَن يقاسي عند سكرات الموت هذه الشدائد، فقال: ما كان من راحة المؤمن هناك فهو عاجل ثوابه وما كان من شدة فتمحيصه من ذنوبه ليرد الآخرة نقياً نظيفاً مستحقاً لثواب الأبد، لا مانع له دونه وما كان من سهولة هناك على الكافر فليوفي أجر حسناته في الدنيا ليرد الآخرة وليس له إلا ما يوجب عليه الجواب، وما كان من شدة على الكافر، هناك فهو ابتداء عذاب الله له بعد نفاد حسناته، ذلكم بأن الله عدل لا يجور “. [ البحار ج۶/ ۱۵۳ ].
۳٫ البحار: … قيل لأمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) صف لنا الموت. فقال ” على الخبير سقطتم، هو أحد ثلاثة أمور يرد عليه: أما بشارة بنعيم الأبد، وأما بشارة بعذاب الأبد، وأما تحزين وتهويل وأمره مبهم لا تدري من أي الفرق هو، فأما ولينا المطيع لأمرنا فهو المبشر بنعيم الأبد، وأما عدونا المخالف علينا فهو المبشر بعذاب الأبد، وأما المبهم أمره الذي لا يدري ما حاله فهو المؤمن المسرف على نفسه لا يدري ما يؤول إليه حاله. يأتيه الخبر مبهماً مخوفاً ثم لن يسويه الله عز وجل بأعدائنا لكن يخرجه من النار بشفاعتنا فاعملوا وأطيعوا ولا تتكلوا ولا تستصغروا عقوبة الله عز وجل فإن من المسرفين مَن لا تلحقه شفاعتنا إلا بعد عذاب ثلاثمائة ألف سنة “. [ البحار ج۶/ ۱۵۴ ].
۴٫ البحار: … قال: دخل موسى بن جعفر (عليه الصلاة والسلام) على رجل قد غرق في سكرات الموت وهو لا يجيب داعياً فقالوا له يا ابن رسول الله وددنا لو عرفنا كيف الموت وكيف حال صاحبنا فقال ” الموت هو المصفاة تصفي المؤمنين من ذنوبهم فيكون آخر ألم يصيبهم كفارة آخر وزر بقى عليهم، وتصفي الكافرين من حسناتهم فيكون آخر لذة أو راحة تلحقهم هو آخر ثواب حسنة تكون لهم. وأما صاحبكم هذا فقد نخل من الذنوب نخلاً وصفي من الآثام تصفية، وخلص حتى نقي كما ينقي الثوب من الوسخ، وصلح لمعاشرتنا أهل البيت في دارنا دار الأبد “. البحار ج۶/ ۱۵۵].
______________________
[۱] سورة الملك ، الآية :۲٫
[۲] سورة ق ، الآية :۲۲٫
[۳] سورة الروم ، الآية :۷٫
[۴] سورة آل عمران ، الآية :۱۸۵٫
[۵] سورة الرحمن ، الآية :۲۶٫
[۶] سورة الأحزاب ، الآية :۱۶٫
[۷] سورة النساء ، الآية :۷۸٫
[۸] سورة طه ، الآية :۵۵٫
[۹] سورة البقرة ، الآية :۱۵۶٫
[۱۰] سورة البقرة ، الآية :۲۸۱٫
[۱۱] سورة العلق ، الآية :۸٫
[۱۲] سورة التوبة ، الآية :۹۴٫
[۱۳] سورة الملك ، الآية :۲٫
[۱۴] سورة المؤمنون ، الآيتان ۹۹-۱۰۰٫
[۱۵] سورة ق ، الآية :۱۹٫
[۱۶] سورة السجدة ، الآية :۱۱٫
[۱۷] سورة النحل ، الآية :۲۸٫
[۱۸] سورة الزمر ، الآية :۴۲٫
[۱۹] سورة الأنعام ، الآية :۶۰٫
[۲۰] سورة الزمر ، الآية :۴۲٫
[۲۱] سورة يوسف ، الآية :۴۳٫
[۲۲] سورة يوسف ، الآية :۴٫
[۲۳] سورة الإسراء ، الآية :۶۰٫