مناظرة الإمام الصادق(ع) مع أحد الزنادقة في التوحيد

روي عن هشام بن الحكم ، أنه قال : سأل أحد الزنادقة الإمام الصادق ( عليه السلام ) قائلا : ما الدليل على أن الله صانع ؟

فقال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : وجود الأفاعيل التي دلت على أن صانعها صنعها ، ألا ترى أنك إذا نظرت إلى بناء مشيد مبني ، علمت أن له بانيا ، وإن كنت لم تر الباني ولم تشاهده .

قال : فما هو ؟ قال : هو شئ بخلاف الأشياء ، أرجع بقولي شئ إلى إثباته ، وإنه شئ بحقيقته الشيئية ، غير إنه لا جسم ولا صورة ولا يحس ولا يجس ولا يدرك بالحواس الخمس ، لا تدركه الأوهام ولا تنقصه الدهور ولا يغيره الزمان . قال السائل : فإنا لم نجد موهوما إلا مخلوقا .

قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : لو كان ذلك كما تقول ، لكان التوحيد منا مرتفعا لأنا لم نكلف أن نعتقد غير موهوم ، لكنا نقول : كل موهوم بالحواس مدرك بها تحده الحواس ممثلا ، فهو مخلوق ، ولا بد من إثبات كون صانع الأشياء خارجا من الجهتين المذمومتين : إحداهما النفي إذا كان النفي هو الإبطال والعدم ، والجهة الثانية التشبيه بصفة المخلوق الظاهر التركيب والتأليف ، فلم يكن بد من إثبات الصانع لوجود المصنوعين ، والاضطرار منهم إليه ، إنهم مصنوعون ، وإن صانعهم غيرهم وليس مثلهم ، إن كان مثلهم شبيها بهم في ظاهر التركيب والتأليف وفيما يجري عليهم من حدوثهم بعد أن لم يكونوا ، وتنقلهم من صغر إلى كبر ، وسواد إلى بياض ، وقوة إلى ضعف ، وأحوال موجودة لا حاجة بنا إلى تفسيرها لثباتها ووجودها .

قال الزنديق : فأنت قد حددته إذ أثبت وجوده ؟ قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : لم أحدده ولكني أثبته ، إذ لم يكن بين الإثبات والنفي منزلة .

قال الزنديق : فقوله * ( الرحمن على العرش استوى ) * ( ۱ ) ؟

قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : بذلك وصف نفسه ، وكذلك هو مستول على العرش بائن من خلقه ، من غير أن يكون العرش محلا له ، لكنا نقول : هو حامل وممسك للعرش ، ونقول في ذلك ما قال : * ( وسع كرسيه السماوات والأرض ) * ( ۲ ) ، فثبتنا من العرش والكرسي ما ثبته ، ونفينا أن يكون العرش والكرسي حاويا له ، وأن يكون عز وجل محتاجا إلى مكان ، أو إلى شئ مما خلق ، بل خلقه محتاجون إليه ( ۳ ) .

قال الزنديق : فما الفرق بين أن ترفعوا أيديكم إلى السماء وبين أن تخفضوها نحو الأرض ؟ قال أبو عبد الله : في علمه وإحاطته وقدرته سواء ، ولكنه عز وجل أمر أولياءه وعباده برفع أيديهم إلى السماء نحو العرش ، لأنه جعله معدن الرزق ، فثبتنا ما ثبته القرآن والأخبار عن الرسول ، حين قال : ” إرفعوا أيديكم إلى الله عز وجل ” وهذا تجمع عليه فرق الأمة كلها .

ومن سؤاله أن قال : ألا يجوز أن يكون صانع العالم أكثر من واحد ؟

قال أبو عبد الله : لا يخلو قولك إنهما اثنان من أن يكونا قديمين قويين أو يكونا ضعيفين ، أو يكون أحدهما قويا والآخر ضعيفا ، فإن كانا قويين فلم لا يدفع كل واحد منهما صاحبه ويتفرد بالربوبية ، وإن زعمت أن أحدهما قوي والآخر ضعيف ، ثبت أنه واحد كما نقول ، للعجز الظاهر في الثاني ، وإن قلت : إنهما اثنان ، لم يخل من أن يكونا متفقين من كل جهة ، أو مفترقين من كل جهة ، فلما رأينا الخلق منتظمة ، والفلك جاريا ، واختلاف الليل والنهار والشمس والقمر ، دل ذلك على صحة الأمر والتدبير ، وائتلاف الأمر ، وأن المدبر واحد ( ۴ ) .

————————–
( ۱ ) طه : ۵ .
( ۲ ) البقرة : ۲۵۵ .
( ۳ ) الاحتجاج : ۳۳۲ .
( ۴ ) الاحتجاج : ۳۳۱ .