مناظرة الإمام الرضا(ع) مع سليمان المروزي

قدم سليمان المروزي ـ متكلّم خراسان ـ على المأمون العباسي ، فأكرمه ووصله ، ثمّ قال له : إنّ ابن عمّي علي بن موسى قدم عليَّ من الحجاز ، وهو يحبّ الكلام وأصحابه ، فلا عليك أن تصير إلينا يوم التروية لمناظرته .

فقال سليمان : يا أمير المؤمنين إنّي أكره أن اسأل مثله في مجلس في جماعة من بني هاشم ، فينتقص عند القوم إذا كلّمني ، ولا يجوز الاستقصاء عليه .

قال المأمون : إنّما وجهت إليك لمعرفتي بقوّتك ، وليس مرادي إلاّ أن تقطعه عن حجّة واحدة فقط .

فقال سليمان : حسبك يا أمير المؤمنين ، أجمع بيني وبينه وخلّني وإيّاه وألزم ، فوجّه المأمون إلى الإمام الرضا ( عليه السلام ) ، فقال : إنّه قدم علينا رجلٌ من أهل مرو وهو واحد خراسان من أصحاب الكلام ، فإن خفَّ عليك أن تتجشّم المصير إلينا فعلت .

فنهض ( عليه السلام ) للوضوء ، وقال لنا : تقدّموني وعمران الصابي معنا ، فصرنا إلى الباب ، فأخذ ياسر وخالد بيديّ فأدخلاني على المأمون ، فلمّا سلّمت قال : أين أخي أبو الحسن أبقاه الله ؟

قلت : خلّفته يلبس ثيابه وأمرنا أن نتقدّم ، ثمّ قلت : يا أمير المؤمنين إنّ عمران مولاك معي وهو بالباب .

فقال : من عمران ؟ قلت : الصابي الذي أسلم على يدك .

قال : فليدخل ، فدخل فرحّب به المأمون ، ثمّ قال له : يا عمران لم تمتْ حتّى صرت من بني هاشم .

قال : الحمد لله الذي شرّفني بكم يا أمير المؤمنين .

فقال له المأمون : يا عمران هذا سليمان المروزي متكلّم خراسان .

قال عمران : يا أمير المؤمنين إنّه يزعم أنّه واحد خراسان في النظر وينكر البداء .

قال : فلم لا تناظره ؟

قال عمران : ذلك إليه .

فدخل الرضا ( عليه السلام ) فقال : ( في أيّ شيء كنتم ؟ ) .

قال عمران : يا بن رسول الله هذا سليمان المروزي .

فقال سليمان : أترضى بأبي الحسن وبقوله فيه ؟

قال عمران : قد رضيت بقول أبي الحسن في البداء على أن يأتيني فيه بحجّة احتجّ بها على نظرائي من أهل النظر.

قال المأمون : يا أبا الحسن ما تقول فيما تشاجرا فيه ؟

قال ( عليه السلام ) : ( وما أنكرت من البداء يا سليمان ؟ والله عزّ وجل يقول : ( أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ) ، ويقول عزّ وجل : ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) ، ويقول : ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ، ويقول عزّ وجل : ( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء ) ، ويقول : ( وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ) ، ويقول عزّ وجل : ( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ) ، ويقول عزّ وجل : ( وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ ) ) .

قال سليمان : هل رويت فيه شيئاً عن آبائك ؟

قال ( عليه السلام ) : ( نعم ، رويت عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) أنّه قال : ( إنّ لله عزّ وجل علمين ، علماً مخزوناً مكنوناً لا يعلمه إلاّ هو ، من ذلك يكون البداء ، وعلماً علّمه ملائكته ورسله ، فالعلماء من أهل بيت نبيّه يعلمونه ) .

قال سليمان : أحبّ أن تنزعه لي من كتاب الله عزّ وجلّ .

قال ( عليه السلام ) : ( قول الله عزّ وجل لنبيه ( صلى الله عليه وآله ) : ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ) أراد هلاكهم ثمّ بدا لله ، فقال : ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) .

قال سليمان : زدني جعلت فداك .

قال الرضا ( عليه السلام ) : ( لقد أخبرني أبي عن آبائه أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال : إنّ الله عزّ وجل أوحى إلى نبي من أنبيائه : أن أخبر فلان الملك أنّي متوفّيه إلى كذا وكذا ، فأتاه ذلك النبي فأخبره ، فدعا الله الملك وهو على سريره حتّى سقط من السرير ، فقال : يا ربّ أجّلني يشبّ طفلي وأفضي أمري ، فأوحى الله عزّ وجل إلى ذلك النبي أن ائت فلان الملك فأعلمه أنّي قد أنسيت في أجله ، وزدت في عمره خمس عشرة سنة .

فقال ذلك النبي : يا ربّ أنّك لتعلم أنّي لم أكذب قطّ ، فأوحى الله عزّ وجل إليه : إنّما أنت عبد مأمور ، فأبلغه ذلك والله لا يسأل عمّا يفعل ) ، ثمّ التفت إلى سليمان فقال : ( أحسبك ضاهيت اليهود في هذا الباب ).

قال : أعوذ بالله من ذلك ، وما قالت اليهود ؟

قال ( عليه السلام ) : ( قالت : ( يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ ) ، يعنون أنّ الله قد فرغ من الأمر فليسيحدث شيئاً .

فقال الله عزّ وجل : ( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ ) ، ولقد سمعت قوماً سألوا أبي موسى بن جعفر ( عليه السلام ) عن البداء ، فقال : وما ينكر الناس من البداء ؟ وأن يقف الله قوماً يرجيهم لأمره ) .

قال سليمان : ألا تخبرني عن ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) في أي شيء أُنزلت ؟

قال الرضا ( عليه السلام ) : ( يا سليمان ليلة القدر ، يقدّر الله عزّ وجل فيها ما يكون من السنة إلى السنة ، من حياة أو موت أو خير أو شر ، أو رزق فما قدره من تلك الليلة فهو من المحتوم ) .

قال سليمان الآن قد فهمت جعلت فداك فزدني .

قال ( عليه السلام ) : ( يا سليمان إنّ من الأمور أُموراً موقوفة عند الله تبارك وتعالى ، يقدّم منها ما يشاء ويؤخّر ما يشاء ، يا سليمان إنّ علياً ( عليه السلام ) كان يقول : العلم علمان : فعلم علّمه الله ملائكته ورسله ، فما علّمه ملائكته ورسله فإنّه يكون ، ولا يكذّب نفسه ولا ملائكته ولا رسله .

وعلم عنده مخزون لم يطّلع عليه أحداً من خلقه ، يقدّم منه ما يشاء ويؤخّر منه ما يشاء ، ويمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء ) .

قال سليمان للمأمون : يا أمير المؤمنين لا أنكر بعد يومي هذا البداء ، ولا أُكذّب به إن شاء الله .

فقال المأمون : يا سليمان سل أبا الحسن عما بدا لك ، وعليك بحسن الاستماع والإنصاف .

قال سليمان : يا سيّدي أسألك ؟

قال الرضا ( عليه السلام ) : ( سل عمّا بدا لك ) .

قال : ما تقول فيمن جعل الإرادة اسماً وصفة مثل حيّ وسميع وبصير وقدير ؟

قال الرضا ( عليه السلام ) : ( إنّما قلتم حدثت الأشياء واختلف لأنّه شاء وأراد ، ولم تقولوا حدثت واختلفت لأنّه سميع وبصير ، فهذا دليل على أنّها ليست بمثل سميع ولا بصير ولا قدير ) .

قال سليمان : فإنّه لم يزل مريداً .

قال ( عليه السلام ) : ( يا سليمان فإرادته غيره ؟ ) .

قال : نعم .

قال ( عليه السلام ) : ( فقد أثبتّ معه شيئاً غيره لم يزل ) .

قال سليمان : ما أثبت ؟

قال الرضا ( عليه السلام ) : ( أهي محدثة ؟ ) .

قال سليمان : لا ما هي محدثة .

فصاح المأمون وقال : يا سليمان مثله يعايا أو يكابر ؟ عليك بالإنصاف أما ترى من حولك من أهل النظر ، ثمّ قال : كلّمه يا أبا الحسن ، فإنّه متكلّم خراسان ، فأعاد عليه المسألة .

فقال ( عليه السلام ) : ( هي محدثة ، يا سليمان فإنّ الشيء إذا لم يكن أزليّاً كان محدثاً ، وإذا لم يكن محدثاً كان أزليّاً ) .

قال سليمان : إرادته منه كما أن سمعه منه ، وبصره منه ، وعلمه منه .

قال الرضا ( عليه السلام ) : ( فإرادته نفسه ) .

قال : لا .

قال ( عليه السلام ) : ( فليس المريد مثل السميع والبصير ) .

قال سليمان : إنّما أراد نفسه كما سمع نفسه وأبصر نفسه وعلم نفسه .

قال الرضا ( عليه السلام ) : ( ما معنى أراد نفسه أراد أن يكون شيئاً ، أو أراد أن يكون حيّاً أو سميعاً أو بصيراً أو قديراً ؟! ) .

قال : نعم .

قال الرضا ( عليه السلام ) : ( أفبإرادته كان ذلك ؟! ) ثمّ قال ( عليه السلام ) : ( فليس لقولك أراد ، أن يكون حيّاً سميعاً بصيراً ، معنى إذا لم يكن ذلك بإرادته ) .

قال سليمان : بلى ; قد كان ذلك بإرادته .

فضحك المأمون ومن حوله ، وضحك الرضا ( عليه السلام ) ، ثمّ قال لهم : ( ارفقوا بمتكلّم خراسان ، يا سليمان فقد حال عندكم عن حاله وتغيّر عنها وهذا ممّا لا يوصف الله عزّ وجل به ، فانقطع ) .