مباني علم المعرفة في الفلسفة الإنسية القسم الثاني

مباني علم المعرفة في الفلسفة الإنسية *
القسم الثاني :

[ كانط ، المتأثرون بـ كانط ]

أ . مريم صانع بور
 

التتمّة = القسم الثاني :

3 ـ عمانوئيل كانط (1724 ـ 1804) :
قام كانط ، في أوج رواج علم المعرفة الإنسي ، بثورة كوبرنيكية ( مركزية الشمس ) ، في العلم والفلسفة ، بمعنى أنّه كان يعتقد أنّ الإنسان موضوع وفاعل (الذات) ، وفي الوقت نفسه ، هذه ( الذات ) نفسها لها دخل في المعرفة ، ليس صحيحاً أنّ الأشياء هي فقط التي تنعكس في الذهن ، ولكنّ الذهن نفسه هو منشأ المعرفة ومبدأها ، والعمل المعرفي حاصل تفاعل ( الأنا ) في دور الذات ، و( غير الأنا ) في دور الموضوع وعمله .

كان كانط يتصوّر أن الذهن يتضمّن ثلاث قوى أصلية : ( الإحساس ) ، و( المعرفة ) و( الإرادة ) ، وكلّ منها مختص بواحد من ثلاثة أنواع من النقد والتمحيص (14) ، ويعتمد كانط وأتباعه على المعرفة للتوصل إلى النتائج الفلسفية وفي مشربهم تأكيد رجحان كفّة الذهن مقابل المادة ، وهذا القول مؤدّاه في النهاية ، أنّ لا وجود لغير الذهن (15) .

يقول كانط : إنّ دنيا الخارج لا تبعث سوى مادة الإحساس ، أمّا آلتنا الذهنية ، فهي التي تنظم هذه المادة في الزمان والمكان ، وتهيئ التصوّرات التي نفهم التجربة بوساطتها . أنّ الأمور بحدّ ذاتها ، أو الأشياء بنفسها التي هي علل إحساساتنا ، ليست معرفية ، وهذه الأمور ليست واقعة في الزمان ولا في المكان ، وليست جوهراً ، ولا يمكن وصفها بأي من التصوّرات الكلّية التي يسمّيها كانط نفسه ( المعقولات ) . والزمان والمكان ذهنيان ، وليس لهما وجود خارجي ، وهما جزء من آلة إدراكنا .

 ويقول كانط : إنّ الزمان والمكان ليسا تصوراً ، وإنّما هما شكلان من أشكال ( الرؤية ) ، لكنّ التصوّرات موجودة من قبل ، وتلك ( المعقولات ) الاثنا عشرية ، أخذها كانط من المنطق القياسي (16) .

إنّ محور أفكار كانط هو أنّ عالمنا موجود بقدر ما نفكّر فيه ، أي بذلك المقدار الذي يتبع قوانين التفكّر ، يقول :

( لقد افترض حتى اليوم ، أنّ جميع علومنا ومعارفنا ، يجب أن تأتي مطابقة لواقع الأشياء ، حسنا ، فليحقّقوا مرّة واحدة في هذه المسالة القائلة : أنّه إذا نظّمت الأشياء طبقا لمعرفتنا ، لربّما أعطتنا سعادة أكبر ) .

هذه هي نفسها الثورة العارمة ، التي حدثت في نظرية المعرفة ، وعبر عنها كانط نفسه ، في أثناء مقارنته بينها وبين ثورة كوبرنيك في علم النجوم . بناء على ذلك ، فإنّ يقيناً مرتبطا بالحقائق العلمية ، أمر يمكن أن نعده خطأً أو توهماً ، إنّ بنية الذهن البشري نفسها معدّة بحيث تستوعب في داخلها جميع معارفها خالصة وحقيقية في الحدود التي اكتشفت من طريق النقد .

ومن أجل هذه الواقعية التجريبية ، الشرط الأصلي ( للتصوّر ) هو خارج التجربة ، أنّ ( الشيء بذاته ) لا يعرف من طريق العلم ، والعقل الذي يتصوّر أنّ باستطاعته أن يتوصّل إلى جوهر الأشياء وعمق ( الأنا ) ، بمنظار علم النفس مخطئ .

علم النفس والعقل والميتافيزياء متعلّقة ( بالشيء بذاته ) ، والعلم الإلهي العقلي غير موجود ، ولا يمكن أن يكون موجوداً ، نحن في علم كانط المعرفي ، لا نحقّق سوى في ( الأعراض ) . يبدو ، بناء على ذلك ، بالنسبة إلى أي شيء خارج عن محوطة علم الظاهر ، أي علم الأخلاق وعلم الدين ، يميل نقد كانط قبل مذهب هيوم الشكّي وبصورة ، أكثر جذرية منه إلى النفي والإنكار ، لأنّ الاعتماد على قوى العقل الذاتية لا يوصل إلى شيء ) (17) .

وتحلّل فلسفة كانط قدرات الفكر البشري على نحو أكثر تنظيماً من الفلسفات الإنسانية التي سبقتها ، وتعترف بشكل منصف : أنّ العقل البشري الذي هو في تفكّره قائم بذاته ( من دون ارتباط بعامل ما فوق عالم المادة ) ، ليست لديه القدرة على معرفة الحقيقة .

وبتعبير آخر ، فلسفة كانط هي عالم الأعراض والظواهر ، وليس في هذا أي أثر للحقيقة . وهو في جوابه عن مشكلة الثنائية الدكارتية ، عرف بالحقيقة وبالمعنى الواقعي للموجودات ، التي لم تتوصّل إليها الفلسفة الدكارتية . وليس في نظرياته أيّ أثر للجوهر الواحد السبينوزي ، كموفق بين المعنى والمادة ، وكذلك ارتباط الفكر بامتداداته أي المادة ، قد انقطعت أيضاً ، إلى حد أنّ يقول كانط ، أنّ لا طريق أساسا يوصل إلى حقيقة الأمور ، وحتى إلى عمق ( الأنا ) وحقيقتها من منظار علم النفس .

إنّ حدود المعرفة تتلخص في الأعراض الذهنية للموجودات ، وهذه ، كانت النتيجة الطبيعية لمحاولة كانط أن ينظم الأشياء مطابقة لمعرفة ( الأنا ) ، ولعده الذهن البشري المحور والأصل الذين يهبان الأشياء صورها .

( لقد صرّح كانط ، في فلسفته ، بأنّ العالم الخارجي يتحقّق عن طريق التصوّر الذي يتشكّل في ذهن العالم ، وتخلّى عن مثاليته بالنسبة إلى الماورائيات وعلم الكون ، ليتمكّن بالعقل وبمعرفة المنهج النقدي من تحصيل العلاقة بين العلّة المعلول ) (18) .

يعتقد كانط أنّنا نعرف العالم بالطريقة التي يمكننا أن نعرفها ، وتتدخّل الذات في هذه المعرفة ( ثورة كانط الكوبرنيكية ) ؛ بمعنى أنّ الإنسان هو الذي يهب العالم معناه ، والإنسان هو واهب الصور ، أنا موجود بأن أعطي عمل المعرفة ،  بـ ( الأمر نفسه ) صورته . وهذه هي المرحلة الجديدة من الفلسفة ( الإنسية ) ، أي أنّ العالم بحدّ ذاتّه مادّة محضة ، وعالم الأمر نفسه هيولي ، وأنا الذي أهبه الصورة ) (19) .

الفرضية في فلسفة كانط تقول : أنّ الإدراكات هي علم الأشياء بذاتها ، أو هي بحسب قولنا نابعة من وقائع العالم المادي . لك،ّ هذه الفرضية ليس لها أيّ ضرورة منطقية على الإطلاق ، فإذا تركنا هذه الفرضية ، لن تكون الإدراكات حينئذٍ ( ذهنية ) أيّ معنى من المعاني ، لأنّه ليس هنالك ما يقف في مواجهتها . ( الشيء في نفسه ) ، في فلسفة كانط ، عنصر غير متعيّن ، وقد تخلى عنه ورثة كانط المباشرون كلّياً ، فوقعوا نتيجة لذلك في مأزق شبيه  بـ ( أصالة الأنا ) Solipasm  لدى ديكارت .

الفلاسفة المتأثرون بـ كانط :

إنّ تناقضات فلسفة كانط هي التي جعلت من غير الممكن تجنب هذا الأمر ، فكان على الفلاسفة الذين تأثّروا بكانط أن يتّجهوا بسرعة نحو التجربة ، أو باتّجاه المطلق ..

( فيخته ) (1762 ـ 1814) ، خليفة كانط المباشر ، تخلّى عن فرضية ( الأشياء في ذاتها ) ، وأوصل الاعتقاد بأصالة الذهن إلى حدٍّ بدا كأنّه جنون . يقول : ( إنّ ( الأنا ) هي الواقعة النهائية الوحيدة ، وسبب وجودها هو أنّ وجود الله مبني عليها ، و( اللا أنا ) التي هي واقعة فرعية موجودة أيضاً ؛ لأنّ ( الأنا ) سبب وجودها ) (20) .

كان تأثير علم كانط المعرفي في تلميذه فيخته ، أنّه إضافة إلى قبوله ما جاء في فلسفة كانط عن فاعلية الذهن المطلقة ، سعى إلى حلّ الثنائية الديكارتية ، لأنّ التعارض بين الموجودات والظواهر بمنظار كانط ، أصبح أعمق بكثير من التعارض بين الجسم والروح الديكارتي ، لذلك سعى لأن يستبدل الوحدة من جديد بالثنائية ، لكن الحاكم المطلق في هذه الوحدة ، كان ذهن الإنسان لا غير ، لذلك سال : ( من أين يعلم أنّ مادة العلم أيضاً كصورته ، ليست في الذهن نفسه ، وإذا كانت كذلك ينتفي امتياز الأعراض والذوات ، لأنّنا اعتبرنا الأعراض نتيجة مؤثّرات تدخل إلى الذهن من الخارج ، ولكن بما انّنا اعتقدنا أنّ لا تأثيرات تصل إلى الذهن من الخارج وكلّ شيء يأتي من الفكر نفسه ، فإنّ الأعراض تصبح غير حقيقية ، ولا يبقى مجال لوجود الذوات التي كنا نظن أنّها منشأ تلك الأعراض ، والأصل الأصيل هو شيء واحد ، أي هو نفسه الذي ينسب إليه العلم وهو الذي يقول ( أنا ) ، وهو نفسه الذي يصنع المعلوم ويخلقه . بيان المسالة ، أنّ ما يعلمه الناس عن ( الوجود ) وهو إمّا ( الأعراض ) أو ( الذوات ) ، ليس حقيقيا وإنّما هو ظواهر ، ليس ذاتاً وإنّما هو مظهر ، الحقيقي هو تلك ( الأنا ) نفسها ) (21) .

( الأنا ) ، بناء على نظرة كانط هذه ، لا تستطيع حتى أن تكون كاشفة لحقيقة الأشياء ، وفي تفكير تلميذه فيخته ، الحقيقة المحضة منحصرة بالفرد ، وهكذا يلخّص فيخته جميع الأشياء بصورة مطلقة في الظاهرة نفسها ، وبتعبير آخر : ليس ( الموجود ) في رأيه سوى ( الظاهرة ) ، لتحلّ الوحدة لديه محلّ ثنائية كانط .

أمّا في ما يتعلّق بمعرفة ما بعد الطبيعة ، فإنّ كانط يعتقد أنّ معرفتها محال ( لأنّ كلّ ما يتصوّره الذهن ، فهو يتصوّره من خلال الزمان والمكان ) . بعبارة أخرى : الحواس هي منبع المعرفة الأوّل والوحيد ، بناءً على ذلك ، لا اعتبار للمقولات إلاّ إذا ارتبطت بالتجربة الحسية ، ولكلّ مقولة ارتباط خاص بالزمان ، ومن الصعب أن يكون للمعقولات التي هي بحسب التعريف لا زمانية في الأصل ، اعتبار ومعنى ) (22) .

لقد استنتج كانط أنّ عمل ( علم ما بعد الطبيعة ) الهدام ، بالمعنى المتعارف عليه ، محكوم بالانكسار والفشل ، فقوّة الفهم لدينا تستطيع في حدود قدرتها القصوى أن تكشف فقط أوضاعاً وأحوالاً تجعلنا نتعرّف إلى العالم الظاهر ، لكن أيّ جهد للذهاب وراء هذا العالم ، واستخدام أوصاف أحكامنا الضرورية بالنسبة إلى التجربة لكشف عناصر العالم الواقعي ، تنتهي دائماً بالانكسار وسوء العاقبة . نحن لا يمكننا القول مطلقاً : أنّ عالم الذات المعقول زماني ومكاني ، يمكننا فقط أن نقول : أنّ العالم الظاهر يجب أن يكون هكذا ، ولا يمكننا أن نقول مطلقاً . أنّ عالم الذات المعقول يشمل جواهر وأعراضا مرتبطة معاً من ناحية علّية ، ولكن يمكننا القول فقط : أنّ عالم الحقّ يجب أن يفسّر على هذا النحو ، وبناء على ذلك فإنّ كلّ جهد للبحث والاستدلال عن حدود ( الذات ) (النفس) ، أو ( الشيء في نفسه ) ( العالم ) ، أو الله ، هو بنظر كانط توهّم جدلي مؤسف (23) ، يقول كانط :

( إنّ منهج الميتافيزياء الصحيح هو أساساً المنهج نفسه الذي استخدمه ( نيوتن ) في العلوم الطبيعية ، وتوصّل بوساطته إلى نتائج باهرة ) (24) .

وفي اليوم نفسه ، وفي اللحظة نفسها ، التي كتب فيها كانط هذه العبارات البسيطة ، كان يعبر ( خط الموت ) ، الذي كانت وراءه تلك الصحراء اليباب القاحلة ، التي لا يستطيع أن يعيش فيها أي نوع من أنواع ما بعد الطبيعة .

الملاحظ أنّه إذا كان ديكارت قد اعتمد على قدرة العقل المتناهي للإحاطة بالله اللامتناهي ، إلاّ أنّ أصول فلسفته الإنسانية انتهت مع كانط ( بنقد العقل الخاص ) ، إلى القول بعجز العقل ، وحين قطع الفكر الإنسي علاقة العقل بما وراءه ، أي الوحي كلياً ، حكم على الإنسان بالإقصاء عن عالم معرفة الحقيقة ، وكذلك عن معرفة ما فوق عالم الطبيعة ، كما أقفل في وجهه طريق الوصول إلى معرفة الله الطبيعية . وبتعبير آخر : إذا كان إسبينوزا قد جعل ذلك الإله القائم في الذهن الإنساني (مبدأ للمعرفة) محدوداً بعالم الطبيعة ، لتكون معرفته ممكنة من دون اتصال بما وراء الذهن الآدمي ، فإنّ عجز العقل في فلسفة كانط عن معرفة الطبيعة في نفسها أدّى إلى حرمان الإنسان حتى من معرفة الله المعادل للطبيعة ( لدى إسبينوزا ) .

جولة في علم المعرفة الانسي :

إنّ نهضة الإنسية (المذهب الإنساني ) ، التي كانت قد طرحت ، في البداية ، بوصفها توجّها من التوجّهات ، تحولّت في مسيرة تطوّرها في القرن الخامس عشر ، التي بدأتها بالأصل الديكارتي : ( أنا أفكر ، إذاً أنا موجود ) ، إلى فلسفة وطريقة خاصة في التفكير ، والإنسان الذي لم يكن يحس في داخله بالحاجة إلى الدين سعى بعد عصر النهضة إلى بناء نظامه الفكري على أساس أصولي قائم على حرية الإنسان وكرامته ( من دون الارتباط بالخالق ) ، وفي هذه المسيرة طرح ديكارت الإنسان أساساً للكينونة وللوجود ، على عكس التفكير المتعلّق بالمبدأ ، لأنّه في التفكير المتعلّق بالمبدأ ( الكينونة ) والوجود المطلق أصل في موجودية الإنسان ، وفي باب علم المعرفة ، يصبح الإنسان ( مبدأ المعرفة ) في حين أنّه في التفكير الذي يركز على ( محورية الإنسان ) ، أو بتعبير آخر ( البناء الفكري الذاتي ) (25) ، الإنسان أصل ( الكينونة ) والوجود ، وهو بمنظار علم المعرفة ( مبدأ المعرفة ) .

بناء على ذلك ، فإنّ الأصل الديكارتي : ( أنا أفكر ، إذاً أنا موجود ) ، الذي يشكّل نقطة البداية لمحورية الإنسان في التفكير العقلاني ، كان مرتبطا  بـ ( الفطريات ) (26) ، التي يمكن أن تكون ـ على نحو ما ـ نقطة اتصال بالمبدأ ، ولكن حين أنكرت ( الفطريات ) في فلسفة ( جون لوك ) التجريبية (27) ، أحرز الإنسان استقلالا كاملاً عن المبدأ ، أمّا فلسفة باركلي ( التي بنيت على أساس ( الأنا المدركة ) ، حيث أدركت حاجة ( الأنا التجريبية ) إلى وجود الله فقد ابتليت بنوع من السفسطة ، وبدلاً من إثبات وجود الله انجرّت إلى بناء إله ذهني ( كان أسرع عطباً من الأصنام الخشبية والحجرية ) ، و( باركلي الذي كان يهدف في البداية إلى إثبات وجود الله ، بعلمه المعرفي المثالي المبني على التجربة التي محورها الإنسان ، وقد نجح عمليا في إثبات وجود إله قائم في ذهن الإنسان (مدرك) ، لم يكن سوى صنم ذهني صرف ، لا وجود خارجياً له ، وسيظهر في التفكير الفرويدي بعد ذلك بسنوات أنموذج هذا الأمر أكثر وضوحاً (28) .

وصلت الفلسفة الإنسانية ، في مسيرة تطوّرها في اتجاهين : ( الأنا العقلانية ) و( الأنا التجريبية ) ، إلى تناقض عجيب في فلسفة هيوم ، ولم يبق لديه من حيلة سوى الشك ، فأنكر عالم المادة ( الذي استبعد في تفكير باركلي ) ، وأنكر أيضاً النفس الإنسانية التي كانت محور ( المذهب الإنساني ) ، ما يشير إلى أنّه كلّما اعتمد الإنسان مبدأ للمعرفة ، لن يكون لشك ديكارت المنهجي ( بعد عبور المراحل العقلانية والتجريبية ) من مستقبل سوى ( شكّ هيوم الماحق ) ، إلى حدّ أنّ هيوم لم ينفِ الجوهر المادي والضرورة العلّية فقط ، وإنّما أنكر أيضاً ( الأنا النفسانية ) التي كانت بعد ديكارت محور التفكير ، وأوصل نظرية المعرفة التي تتمحور حول الإنسان إلى معبر مسدود ، فهو يقول : ( ليس لدينا أيّ تأثر بذواتنا ، ولذا لا وجود لدينا لأفكار نابعة من ذواتنا ) (29) ، وقد قيل : ( إنّ مذاهب الشك كانت في تاريخ الفلسفة قرينة ( للمذاهب الإنسية اليقينية ) (30) .

سعى كانط بعد هيوم ليهب ( الأنا ) التي كانت قد أعدمت ، روحاً جديدة وطرح في ثورته الكوبرنيكية الإنسان موجودا واهباً للصور ، حيث ( يهب الذهن للمادة الخارجية صورة الزمان والمكان ، ويحوّلها إلى ظاهرة ) (31) .

شرع كانط الذي شكّك بشكوك هيوم في مقدرة العقلانية والعقل المحض ، بالتحقيق في مقدرة آلة الفهم الفاهمة ، وعد معرفة ( الأشياء في ذاتها ) غير ممكنة ) (32) ، وقد أعلن برغسون في انتقاده لنظرية كانط ( أنّنا لا نرى في تفكيره أي نسبة ممكنة الإدراك ، أو أي قدر مشترك بين الشيء في نفسه أي الحقيقة الواقعة ، والتنوعات المحسوسة التي نصوغ بوساطتها معرفتنا بالعالم الخارجي ) (33) .

بعد أن عبر كانط خط ( عدم اعتبار العقل ) ، شرع بالتحقيق في قوة فهم الإنسان الفاهمة ، بوصفها واهبة للصور ، واقر بأنّ الإنسان هو الموضوع والمحور ، كما أنّه في تقسيم مراتب الوجود ( التي جاءت كالتالي : الوجود أو الواجب أو الممكن ) ، اعتمد تقسيماً جديداً ، هو أنّ الموجود أو الفاعل المعرفي هو ( الأنا ) أو ( متعلّق الأنا المعرفي ) وفي كل الأحوال ، وصل تأثير محورية الإنسان في فكر كانط إلى أوج استحكامه ، واعتمد الإنسان ملاك المعرفة ومبدأها الوحيد .

في محورية الإنسان هذه ، لا مكان للمعرفة الماورائية ولوجود الله ، لان كانط كان يعتقد أنّ ليس بإمكان العقل الإنساني ولا في وسعه أن يؤيّد ما بعد الطبيعة والله ، أو يهز الإيمان بهما ويزعزعه (34) .

في هذا الجزء من البحث ننتقل من ( ذاتانية ) كانط إلى تحقيق مجمل في علم المعرفة لدى خلفائه ، فكما أنّ خلفاء ديكارت سعوا لاعتماد نوع من الوحدة بدلاً من ثنائية الجسد والروح :

( إسبينوزا ) استبدل بها الجوهر الفرد ، و( لايبنتز ) المذهب الذري ( المونادولوجيا ) ومالبرانش المذهب الظرفي ( اوكازياناليسم ) ، حاول خلفاء كانط بالطريقة نفسها أن يحلّوا مشكلة الثنائية الكانطية ، وقد أسهم كلّ من فيخته وشلينغل بحصّته لاستبدال الوحدة بالثنائية ، وفي هذا الطريق وقعوا هم أيضاً تحت تأثير السفسطة (ما يشبه نظريات باركلي ) ، يرى فيخته (1762 ـ 1814) أنّ تلاقي ( الأنا ) مع ( اللا أنا ) ، لا يشبه اللقاء مع شيء مقدّم عليها ومستقل عنها ، ف ـ ( اللا أنا ) من خلق ( الأنا ) ، تضعها الأنا في مقابلها لتوجد نفسها . النتيجة أنّ التفكير يصنعنا كمؤدّى لهويتي ( الأنا ) و( اللا أنا ) ، وليس لله تشخص أو تعيّن وإنّما هو ( الأنا المثال للإنسانية ) ، وهو قائم بالنفوس الجزئية قياماً حلولياً ومشتاق إلى تعيّن ذاته (35) ، الإله الذي خلقه الإنسان ـ الذي هو نفسه المحور ـ ما هو مصيره ؟ وما هو موقف الإنسان من قيمومة إله قائم في الذهن البشري . يقول البيركامو : ( الإنسان الذي كان يستمد تماسكه الذاتي من خالقه ، وجد نفسه ، منذ تلك اللحظة التي انفصل فيها عنه رسمياً ، أسير اللحظات والأيام العابرة ، والتأثر غير المجدي ، حائراً مضطرباً كجميع الذين لا يملكون قواعد للحياة ) (36) .

جان بول سارتر ، أحد النماذج البارزة لطغيان مركزية الإنسان في مقابل الله ، كان يؤمن بإلوهية الإنسان ، وعلى يديه وصلت محورية علم المعرفة الإنسي في نهاية مسيرتها إلى تأليه الإنسان ، ففي نظر سارتر لا وجود للإله ، ولذلك فإنّ فرضية النظام أو تصميم الخَلْق ، لا جدوى منها ، ومحال هي الفرضية القائلة أنّ العالم مركّب من مجموعات واقعية مؤلّفة من أشياء متشابهة ومتماثلة ، وهم شركاء في طبيعة مشتركة . وكلّ فردٍ هو واحد ووحيد ومطلق وكامل ، وما من طبيعة إنسانية مشتركة على الإطلاق ( مع أنّ مجموعة مشتركة من الأوضاع والأحوال ، أو ما يسمّى بالوضع الإنساني يجتاحنا كلّنا ) .

يستنتج من هنا أن لا وجود للقيم ، والمسلّم هو أنّ الإنسان حرّ ، ليصنع نفسه خطوة خطوة ، بإرادته متجاوزاً الأحوال والأوضاع التي تعترض طريقه ... على الإنسان في جميع مراحل حياته أن يتمركّز حول ذاته وحده (37) .

بناء على ذلك ، فقد وصلت الفلسفة الإنسية في نهاية مسيرتها في فلسفة سارتر إلى حد إنكار الوحدة النوعية للبشر ، وكل إنسان منحصر في فرديّته ، وليس في تفكيره أي حلقة من حلقات زنجير يمكن أن يربط الأفراد المنفصلين عن بعضهم ، وهذا هو الأمر مصدر التشتت والتبعثر إلى حد أنّ الحياة في نظره : ( جولات دائمة لأنواع معيّنة من الاضطراب والقلق تثقل بشكل لا يمكن تجنبه على شعور وإدراك الموجود الذي يعلم أنّه عاجلاً أو آجلا سيفنى ... فالموت حادثة مهيبة ومخيفة ) (38) .

وهكذا فإنّ سارتر لم يبدأ بإنكار الله فقط ، وإنّما نفى أيّ نوع من أنواع القيم لدى الإنسان ، إله الفلسفة الإنسية ، الذي وصل في النهاية إلى الاضطراب والحيرة والخوف من العدم ، لأن المصير المحتوم لتفكير يجعل الإنسان الفاني محور جميع الأمور وحتى موضوعاً للعبادة ، لا يصل أخيراً إلاّ إلى نهاية لا جدوى من ورائها ، وكذلك إلى خوف من العدم ، وحرمان الإنسان إمكانية أيّ نوع من أنواع السعادة في هذا العالم ( السعادة التي كانت مطلب الإنسيين الأساسي في عصر النهضة ) ، هذه السعادة الأرضية المنفصلة عن المتعالي ظلّ المفكّرون الغربيون يسعون وراءها منذ حوالي ستمئة عام .

ـــــــــــــــــــــــــ
 

* تنسيق وتقويم قسم المقالات في شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام ) ، وأصل المقالة منقول عن : مجلة المنهاج ، العدد 26 .

هوامش القسم الثاني :

 14 ـ ببكين ، ريتشارد ، استرول ، آروم ، كليات الفلسفة ، ترجمه إلى الفارسية سيد جلال الدين مجتبوي ، منشورات‏ حكمت ، طهران ، 1374ه .ش ، 1995 ، ص 233 .

 15 ـ راسل برتراند ، تاريخ فلسفة الغرب ، ترجمه إلى الفارسية نجف دريا بندرى ، فرانكليني 1353هـ .ش ، 1974م ، الكتاب ‏الثالث ، ص 374 .

16 ـ م .ن ، ص 380 .

17 ـ ووكاسة بير ، الفلسفات الكبرى ، م .س . ، ص 105 .

18 ـ ديويي ، جان ، بنية الفلسفة الجديدة ، ترجمه إلى الفارسية صالح أبو سعيدي ، منشورات إقبال . طهران 1373ه .ش ،1994م ، ص 57 .

 19 ـ الفلسفة ، والبحث عن الحقيقة ، ترجمه الى الفارسية سيد جلال لادين مجتبوي ، منشورات حكمت ، 1370ه .ش ،1991م ، ص 280 .

 20 ـ كاسيرر ، ارنست ، الفلسفة والثقافة ، ترجمه الى الفارسية بزرگ نادر زاده ، مؤسسة المطالعات والتحقيقات الثقافية ،طهران 1360ه .ش ، 1981م ، ص 397 .

21 ـ فروغي ، محمد علي اسير حكمت در اوربا ، زوار ، طهران ، 1344 ، ج‏3 ، ص 19 .

 22 ـ فلسفة يا بژوهش حقيقت ، ص 290 ـ 292 .

23 ـ كليات فلسفة ، ص 201 .

 24 ـ نقد تفكر فلسفي غرب ، ص 213 .

 25 ـ See . Heidegger, Lettre sur Lhumanism, pp . 61,63 M

26 ـ راجع ، تأملات ، التأمل الثالث .

 27 ـ سير حكمت در أوربا ، ج الثاني ، ص 113 ـ 128 .

 28 ـ ديورانت ، ويل . لذات فلسفة ، ترجمة عباس زرياب ، ص 383 .

 29 ـ راسل ، برتراند ، تاريخ فلسفة غرب ، ص 301 .

30 ـ كاسيرر ، آرنست . فلسفة وفرهنگ ، ص 6 .

 31 ـ Can, Critigue of pure . M . Bearkley, New 1960 Reason in The philosophers Eueopean from Descar York, Introduction .Tes to Nietzche, ed

32 ـ فلسفة يا بژوهش حقيقت ، ص 271 .

 33 ـ برغسون ، هنري مادة وياد ، ترجمة علي قلي بياني ، نشر فرهنگ إسلامي ، طهران 1375ه .ش ، ص 325 .

 34 ـ فلسفة يا بژوهش حقيقت ، ص 271 .

 35 ـ فولكيه ، بل . ما بعد الطبيعة ترجمة يحيى مهدو