مراحل التشيع

رسم الدكتور عبد العزيز الدوري هذا التطور عن طريق تقسيمه للتشيع إلى روحي بدأ أيام النبي ( ص ) ، وسياسي حدث بعد مقتل الإمام علي ( ع ) .

وقد استدل لذلك بأن التشيع بمعناه البسيط دون باقي خواصه الاصطلاحية قد استعمل في صحيفة التحكيم التي نصت على شيعة لعلي وشيعة لمعاوية مما يعطي معنى المشايعة والمناصرة دون باقي الصفات والأبعاد السياسية التي حدثت بعد ذلك . ( 1 )

ويرى الدكتور كامل مصطفى الشيبي في كتابه ( الصلة بين التصوف والتشيع ) : أن التشيع مر بثلاث مراحل تتصل المرحلة الأولى بظهور الإسلام من حيث أن عليا ( ع ) كان يمثل جوهر الإسلام وقد التقى معه جماعة من المسلمين الأوائل : كسلمان الفارسي ، وأبي ذر الغفاري ، وابن السوداء المعروف – بعمار بن ياسر – وغيرهم ممن دخلوا الإسلام وتشربوا مبادئه وانصهروا بها فأحبوه وتابعوه وكان بعد الرسول مثلهم الأعلى الذي يمثل جوهر الإسلام من جميع نواحيه ، ولم يكن تشيعهم له يومذاك يعدو هذه الناحية .

وتتصل المرحلة الثانية من مراحل التشيع كحركة سياسية بمصرع عثمان بن عفان حين تولى علي ( ع ) الخلافة واقترنت خلافته بتلك الأحداث الجسام والحروب الدامية التي رافقت سني خلافته كلها .

أما المرحلة الثالثة وهي تبلور تلك الحركة على حد تعبيره بمحتواها وما تحمله في طياتها وإعطائها اسم الشيعة كان بعد مقتل الحسين ( ع ) ، ومن مجموع ذلك يمكننا أن نلخص هذا الفصل كما يدعى الشيبي بأن التشيع كان تكتلا إسلاميا ظهرت نزعته أيام النبي ( ص ) وتبلور اتجاهه السياسي بعد مقتل عثمان يوم بويع علي ( ع ) بالخلافة واستقل بمحتواه وبالاصطلاح الدال عليه بعد مقتل الحسين ( ع ) .

واستطاع الشيخ محمد جواد مغنية أن يقسم الدعوة إلى التشيع باعتبار الأدلة التي كان يعتمدها الدعاة إلى ثلاثة أدوار : ويبدأ الدور الأول بوفاة الرسول ( ص ) ، وينتهي بانتهاء العصر الأموي . لأنه ظهر أن دعاة التشيع ورواده في الدور الأول اهتموا قبل كل شئ بالدعوة إلى الولاء لأهل البيت ، والإيمان بأنهم أحق الناس جميعا في خلافة النبي وميراثه في الحكم والسلطان ، وأن الدعاة اعتمدوا على نصوص الكتاب والسنة ، وأخلاق الرسول الأعظم ، والتشيع منذ يومه الأول إلى آخر يوم يسير مع الإسلام جنبا إلى جنب .

ويبدأ الدور الثاني بعهد الإمام الصادق ، أي بأول العهد العباسي إلى عصر المفيد ، وهو دور الحضارة والحركة الفكرية فقد ظهر فيه مذهب التشيع ، وتميز عن غيره أصولا وفروعا ، وأصبح للشيعة فقههم المستقل وآراؤهم الواضحة في كل ما يتصل بالعقيدة من قريب أو بعيد .

ويبدأ الدور الثالث بالشيخ المفيد المتوفى سنة ( 413 ه ) ، وينتهي هذا الدور بالعلامة الحلي المتوفى ( 726 ه ) الذي وضع أجوبة الشبهات ونقضها بشتى أنواعها في وضعها النهائي ، ولم يدع فيها زيادة لمن جاء بعده ، فهو دور الدفاع ورد العاديات . ( 2 )

إن التشيع لعلي ( ع ) بمعناه الروحي زرعت بذرته في عهد النبي ( ص ) ونمت قبل توليه الخلافة والأدلة على ذلك كثيرة أهمها :

أولا – ورود الأحاديث التي سبقت الإشارة إليها .

ثانيا – وصية النبي لعلي بالإمامة والخلافة منها ما رواه الطبري أن النبي ( ص ) في مجلس ضم جماعة من بني هاشم بمكة ، قال مشيرا لعلي : ( إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا . . . ) . ( 3 )

ويضيف الطبري إلى أن النبي ( ص ) قال الحديث المذكور قبل هجرته إلى المدينة ، ويعني ذلك أن النبي ( ص ) أشار بالدرجة الأولى إلى المدلول الديني لإمامة علي للمسلمين لأن الدولة الإسلامية حينذاك لم تقم بعد .

أما بيعة ( غدير خم ) فقد ذكرها اليعقوبي ، وبين أن النبي أوصى فيها لعلي بالإمامة . ( 4 ) وقد تناول العلامة الأميني ( 5 ) البحث عن اشتهار ( بيعة الغدير ) .

أما رأي الشيعة في الوصية فقد عبر عنه الشيخ الطوسي المعروف – بشيخ الطائفة – بقوله : إن التواتر حصل عن الشيعة أن النبي ( ص ) نص علي أمير المؤمنين ( ع ) بالإمامة بعده واستخلفه على أمته بألفاظ مخصوصة نقلوها :

منها قوله ( ص ) : ( سلموا علي علي بأمرة المؤمنين ) .

وقوله ( ع ) مشيرا إليه (صلوات الله عليه)، وآخذا بيده: (هذا خليفتي فيكم من بعدي فاسمعوا له وأطيعوا) (6).

ثالثا – اختصاص عدد من الصحابة بعلي واعترافهم بالولاء له خلال حياة الرسول وفي حكم الخلفاء الثلاثة الأول من الراشدين . وفي الفتنة التي قتل بها عثمان قال الفضل بن العباس في علي ( ع ) :

وكان ولي العهد بعد محمد   علي وفي كل المواطن صاحبه
علي ولي الله أظهر دينه   وأنت مع الأشقين فيما تحاربه

 

ومن الجدير بالذكر أن كلمة ( ولي ) التي وردت في الشعر المذكور لها دلالتها الدينية ، ويمكن أن تقوم دليلا على اعتراف الفضل بوجود صفات روحية لدى الإمام علي ( ع ) لا توجد لدى غيره من الصحابة .

رابعا – وجود عدد من شيعة علي يقولون بآرائه الفقهية في حياته ومن المعلوم أن القول بآراء فقهية لإمام معين خير دليل على الاعتراف بإمامته ، ثم أن أبا ذر وسلمان قالا بالآراء المذكورة قبل أن يتولى على رئاسة المسلمين السياسية لأنهما لم يدركا خلافته . فهما والحالة هذه من أشهر المعتقدين بالتشيع الروحي لعلي .

ومن الأدلة على ظهور التشيع السياسي في خلافة علي هو أن اصطلاح ( شيعة على ) أي أنصاره بقي شائع الاستعمال .

 وكان الاصطلاح المذكور يعني الحزب أو المناصرين .

وذات مرة دخل علي ( ع ) على عائشة في البصرة ومعه شيعته من همدان . ( 7 )

ولعل ذلك يعود إلى أن عليا بويع خليفة للمسلمين ، بما فيهم شيعته .

 وكان الذين أسهموا في حروبه مع خصومه يتكونون من شيعته ومن غيرهم .

يضاف إلى ذلك أن عليا أثناء خلافته كان يستعمل غالبا كلمة ( مسلمين ) بدلا من ( شيعة ) حين يخاطب أنصاره وذلك لوجود مسلمين بينهم من غير شيعته .

أما رأي المفكر الإسلامي الكبير السيد محمد باقر الصدر بهذا الصدد ، فالتشيع إذن لا يمكن أن يتجزأ إلا إذا فقد معناه كأطروحة لحماية مستقبل الدعوة بعد النبي وهو مستقبل بحاجة إلى المرجعية الفكرية والزعامة السياسية للتجربة الإسلامية معا .

 وقد كان هناك ولاء واسع النطاق للإمام علي في صفوف المسلمين باعتباره الشخص الجدير بمواصلة دور الخلفاء الثلاثة في الحكم وهذا الولاء هو الذي جاء به إلى السلطة عقيب مقتل عثمان ولكن هذا الولاء ليس تشيعا روحيا ولا سياسيا وإنما التشيع الروحي والسياسي داخل إطاره فلا يمكن أن نعتبره مثالا على التشيع المجزأ .

كما أن الإمام كان يتمتع بولاء روحي وفكري من عدد من كبار الصحابة في عهد أبي بكر وعمر من قبيل سلمان وأبي ذر وعمار وغيرهم ولكن هذا لا يعني أيضا تشيعا روحيا منفصلا عن الجانب السياسي بل أنه تعبير عن إيمان أولئك الصحابة بقيادة الإمام علي للدعوة بعد وفاة النبي فكريا وسياسيا وقد انعكس إيمانهم بالجانب الفكري من هذه القيادة بالولاء الروحي المتقدم وانعكس إيمانهم بالجانب السياسي منها بمعارضتهم لخلافة أبي بكر وللاتجاه الذي أدى إلى صرف السلطة عن الإمام إلى غيره . ( 8 )

هذه هي الأقوال والآراء التي تداولها الكتاب في تعليل ( نشأة التشيع ) ، وفي مقابلها يرى الشيعة منذ أقدم عصورهم أن التشيع بمحتواه الشيعي وبما لهذه الكلمة من دلالة عند الشيعة أصيل أصالة الإسلام وجزء من محتواه ، وهو ليس كغيره من الطوائف والفرق الطارئة التي كانت وليدة ظروف وأحداث معينة كما أحصتها المؤلفات في الفرق الإسلامية ومجاميع التاريخ ، وهو يعني فيما يعينه اختيار علي ( ع ) لقيادة الأمة بعد النبي ( ص ) لإتمام المسيرة التي قطع منها أشواطا بعيدة لبناء الإسلام ، وكانت بذرته الأولى يوم هتف النبي ( ص ) بكلمة التوحيد وأنزل الله عليه الآية ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) ، فدعا يومذاك عشيرته وجمعهم على طعام أعده لهم وهتف فيهم قائلا ( أيكم يؤازرني على هذا الأمر ليكون أخي ووارثي ووصيي وخليفتي فيكم بعدي ) .

وظل طيلة حياته يستغل الفرص والمناسبات ليؤكد هذا الأمر وينوه بفضل علي ومقامه الرفيع حتى لا يدع مجالا أو حجة لطامع فيها .
ـــــــــــــــــــــــ
( 1 ) مقدمة في تاريخ صدر الإسلام : ص 72 .
( 2 ) الشيعة في الميزان : ص 96 – 111 .
( 3 ) الكامل : ج 2 ص 93 .
( 4 ) التأريخ : ج 2 ص 93 .
( 5 ) الغدير في الكتاب والسنة والأدب .
( 6 ) تلخيص الشافي : ج 2 ص 56 – X 7 .
( 7 ) مروج الذهب : ج 2 ص 231 .
( 8 ) مروج الذهب : ج 2 ص 277 .