نظرة في الفرق الشيعية

يختلف استيعاب الناس للتشيع من فئة الى اُخرى ابتداء من الولاء والحب العاطفي لآل محمد(صلى الله عليه وآله) وانتهاء بالوعي العميق لحركة التشيّع واستيعاب تاريخها وأهدافها المرحلية وآفاقها المستقبلية والمساهمة في بنائها وقيادتها.

ونتيجة لوجود هذه الاختلافات بالمستويات نلاحظ ظهور اختلافات في صفّ الموالين في فهم معنى التشيّع مع بقاء الولاء لآل محمد(صلى الله عليه وآله) العقد الذي يوحّد مشاعرهم.

وكما أن الكيان الاجتماعي للموالين يتطور مع الزمن كذلك الفهم العقائدي ـ العقيدة لا تتغير ـ متطور مع هذا العامل ومترابط مع العامل الاجتماعي. لذلك فمن المتوقع أن تفرز في كل فترة نواتج عرضية لحركة الفكر في المجتمع وبذلك تظهر الانشقاقات والتكتلات في الكيان الحركي للإسلام. وسنمرّ على نماذج من ذلك:

 

1 ـ الكيسانية

إنّ الاتجاه الكيساني هو أول اتجاه انشقاقي عن الحركة الشيعية، وهو يتناول ببساطة بالغة قضية التشيّع معبّراً عن مرحلة بسيطة من الطرح الشيعي عندما كانت الدعوة تركز على أشخاص الإمام علي والحسن والحسين(عليهم السلام) والهاشميين، لذلك نلاحظ على الخط الكيساني بعد تثبيته للمقولة الأولية وهي الالتزام بأهل البيت يشطح شطحات كبيرة في:

1 ـ العقائد، بتبني مقولات تخالف الكتاب والسنة.

ب ـ الممارسات السياسية، عندما تحولت الدعوة من العلويين الى العباسيين، وعندما أصبحت الكيسانية وعاءاً للتحركات الهادمة للإسلام.

لم يستطع بعض الموالين فهم الدور المرحلي الذي قام به السيد الجليل محمد بن الإمام علي(عليه السلام) (محمد بن الحنفية) من الظهور على ساحة العمل كواجهة لتحرك القيادة الشرعية، فظهرت الكيسانية كمذهب منحرف وناتج سلبي عرضي للتحرك الإسلامي الأصيل.

لقد شخّص الإمام الصادق(عليه السلام) تخلفهم الحركي بقوله: مازال سرّنا مكتوماً حتى صار في يدي ولد كيسان فتحدثوا به في الطريق وقرى السواد.

 

2 ـ الزيدية

وقد اقتضت التطورات المرحلية في بعض الفترات قيام بعض آل محمد بالعمل المسلح ضد السلطة فكان خروج زيد بن علي(عليه السلام) وابنه يحيى(رضي الله عنه) وبعض من آل الحسن(عليه السلام) وتحت اشراف القيادة الشرعية في معظم الأحيان، ولكن عدم استيعاب المهمات المرحلية أدى بجماعة من الموالين الى التقوقع على هذا المفهوم فاشترطوا في إمامة الإمام أن يكون خارجاً على السلطة وحاملاً للسلاح.

 

3 ـ الإسماعيلية

ولم تستطع جماعة اُخرى من الموالين فهم المعنى التنظيمي للسرية والدرجات الحركية فراحوا يلجون أبواباً من المطلسمات والتأويلات التي أدت بهم الى الانحرافات.

إنّ قوام كل مذهب أو اتجاه من هذه المذاهب أو الاتجاهات العناصر التالية:

1- قائد من آل محمد: فالكيسانية اتخذت محمد بن الحنفية إماماً، والزيدية اتخذت من زيد بن علي بن الحسين(عليه السلام) إماماً، والإسماعيلية اتخذت اسماعيل بن جعفر الصادق(عليه السلام) إماماً.

2- جماهير من الموالين المخلصين الذين ينفذون عملهم المرحلي دون أن يعرفوا التفاصيل المتعلقة بالقيادة.

3- عناصر ذكية منتفعة تسعى الى تحقيق مصالحها تحاول استغلال الملابسات في خلق انشقاقات وانحرافات تخدم أهدافها.

فمثلاً كان محمد بن الحنفية مكلفاً بالقيام بعمل معين زمن السجاد(عليه السلام)، ولابد أن يساعده مجموعة من الناس للقيام بعمله هذا يتبعونه ويطيعونه دون أن تكشف لهم العلاقة الحقيقة بين الإمام وعمّه، وبطبيعة الحال إن مثل هؤلاء القوم مع اخلاصهم لأهل البيت لا يطيعون سوى محمد بن الحنفية وبعلم من القيادة المعصومة.

ومن هنا يمكن للمنحرفين أن يدخلوا فيستغلون هذا الولاء من جهة، ووفاء للقائد من جهة اُخرى فيخترعون مذهباً جديداً وانشقاقاً في الخط الأصيل.

روي في رجال الكشي ما يفيد أن شخصيات موالية مهمة ما كانت تعرف القيادة الحقيقية وإنما كان اتصالها عن طريق قيادات ثانوية وما كان يتاح لها من معرفة القيادة إلاّ بعد مدة طويلة وثقة عميقة.

عن أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر(عليه السلام) يقول: كان أبوخالد الكابلي يخدم محمد بن الحنفية دهراً وما كان يشك في أنه إمام حتى أتاه ذات يوم فقال له: جعلت فداك إنّ لي حرمة ومودّة وانقطاعاً، اسألك بحرمة رسول الله وأمير المؤمنين إلاّ أخبرتني أنت الإمام الذي فرض الله طاعته على خلقه؟

قال:، فقال: يا أبا خالد حلّفتني بالعظيم، الإمام علي بن الحسين(عليه السلام) عليّ وعليك وعلى كل مسلم.

فأقبل أبو خالد لمّا ان سمع ما قاله محمد بن الحنفية. جاء الى علي بن الحسين(عليه السلام) فلما استأذن عليه فأخبر أن أبا خالد بالباب، فأذن له ولمّا دخل عليه دنا منه قال: مرحباً يا كنكر ما كنت لنا بزائر ما بدا لك فينا؟

فخرّ أبو خالد ساجداً شاكراً لله تعالى ممّا سمع من علي بن الحسين(عليه السلام) فقال الحمدلله الذي لم يمتني حتى عرفت إمامي.

فقال له علي(عليه السلام): وكيف عرفت إمامك يا أبا خالد؟

قال انّك دعوتني باسمي الذي سمتني اُمي التي ولدتني، وقد كنت في عمياء من أمري، ولقد خدمت محمد بن الحنفية دهراً من عمري ولاشك إلاّ وأنه إمام حتى إذا كان قريباً سألته بحرمة الله وبحرمة رسوله وبحرمة أمير المؤمنين فأرشدني إليك وقال: هو الإمام عليَّ وعليك وعلى جميع خلق الله كلهم، ثم أذنت لي فجئت فدنوت منك سمّيتني باسمي الذي سمّتني اُمي فعلمت أنك الإمام الذي فرض الله طاعته على كل مسل[1] وبعد هذه المقدمات نرغب بتثبيت أهم المراحل التي مرّ بها تحرّك الأئمة وهي كما نتصور أربع مراحل نلخصها بما يلي:

 

1 ـ المرحلة الاُولى

الإمام الأوّل علي بن أبي طالب المرتضى(عليه السلام).

الإمام الثاني، الحسن بن علي المجتبى(عليه السلام).

الإمام الثالث، الحسين بن علي الشهيد(عليه السلام).

ومن أهم ممارسات وتوجهات هذه المرحلة ما يلي:

أ ـ كشف عدم شرعية الخطوط الحاكمة وتبيان انحرافها للاُمة.

ب ـ إيقاف عملية التحريف وكشف الأشياء المحرّفة.

ج ـ إيقاظ الاُمة وتحريك ضميرها باتجاه القيادة الشرعية.

لقد كانت شهادة الإمام الحسين(عليه السلام) قمّة نضج هذه المرحلة، فقد كشفت الحكّام المنحرفين وكشفت التحريف وشدّت الناس بأهل البيت(عليهم السلام).

 

2 ـ المرحلة الثانية:

الإمام الرابع، علي بن الحسين السجاد(عليه السلام).

الإمام الخامس، محمد بن علي الباقر(عليه السلام).

الإمام السادس، جعفر بن محمد الصادق(عليه السلام).

ومن أهم توجهات وممارسات هذه المرحلة ما يلي:

أ ـ نشر علوم أهل البيت وبث الإسلام الصحيح بين أبناء الاُمة.

ب ـ كسب الاُمة فكرياً للخط الصحيح وانتقاء قطاعات مناسبة منها لإعدادها بموجب خط أهل البيت.

لقد كان تحرّك الإمام الصادق(عليه السلام) القمة في تكامل هذا التوجه، فقد نشر العلم الإسلامي في أوسع مساحة ممكنة، وأوضح الكثير من المفاهيم الإسلامية للاُمة، كما أنه استطاع أن ينتقي الطليعة القادرة على نقل توجهات القيادة الشرعية للاُمة.

 

3 ـ المرحلة الثالثة:

الإمام السابع، موسى بن جعفر الكاظم(عليه السلام).

الإمام الثامن، علي بن موسى الرضا(عليه السلام).

الإمام التاسع، محمد بن علي الجواد(عليه السلام).

ومن أهم توجهات وممارسات هذه المرحلة ما يلي:

أ ـ اتساع الممارسة السياسية للخط في معارضته للحكم المنحرف.

ب ـ قيادة الجماهير الناقمة على السلطة ومحاولة ترشيد تحرّكها ضمن توجهات الخط الرسالي القائد.

ج ـ بث الوكلاء في أرجاء العالم الإسلامي وتنضيج خطوط تحرك الخواص من أبناء الاُمة، لذلك سجن الإمام الكاظم(عليه السلام) تلك المدة الطويلة لكن ابنه الرضا(عليه السلام) اُجبر على استلام ولاية العهد، وبعده ابنه الجواد(عليه السلام)زوّج بابنة رأس النظام القائم، كل ذلك لاحتواء تحركهم السياسي المضاد للحكومة القائمة آنذاك.

ونعتقد أن الإمام الجواد(عليه السلام) يمثل اكتمال ونضج هذه المرحلة.

 

4 ـ المرحلة الرابعة:

الإمام العاشر، علي بن محمد الهادي(عليه السلام).

الإمام الحادي عشر، الحسن بن علي العسكري(عليه السلام).

الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف).

 

ومن أهم توجهات وممارسات هذه المرحلة ما يلي:

أ ـ اكتمال بناء الاُمة القائدة (الشيعة) وزرع بذور تنامي التحرك فيها.

ب ـ اكتمال وتبلور بناء الجهاز المرجعي النائب عن الأئمة(عليهم السلام) في غيبة قائمهم.

ج ـ إعداد الاُمة لغيبة الإمام الثاني عشر وتوليد حالة الانتظار عندها لظهوره.

ولا يخفى أن الإمام المهدي سلام الله عليه لم ينتقل الى غيبته الكبرى إلاّ وقد أعدّ الاُمة إعداداً كاملاً قواعد وقيادة، فأصبحت قادرة على تسيير اُمورها حتى ظهوره وقادرة على تنضيج المسيرة الإسلامية للدرجة التي تتأهل الاُمة والعالم لتقبل الحكومة الإسلامية العالمية.

هذه المقدمة تبيّن لنا طبيعة العلاقة التلازمية بين التشيع والإسلام ومراحل تطور المسيرة الشيعية والفرق المنشقة من الخط الأصيل وملابسات عملية الانشقاق وهي مساحة واسعة من تاريخ المسيرة.

ويحتل الإمام الصادق(عليه السلام) دوراً مركزياً في كل آفاق هذه المساحة الواسعة.

إنّ الإمام الصادق(عليه السلام) نجم لامع في سماء العلم والإمامة والقيادة، وكان له دور ريادي في بناء الاُمة الإسلامية وفي اعداد المجتمع الصالح، وإذا أردنا أن نبحث عن ملامح دور الإمام الصادق في المسيرة الإسلامية وحركة الإيمان فإننا سنجد عطاءات هذا الإمام عبر محطات نذكر منها:

1- الحفاظ على سلامة الرسالة الإسلامية ومحاربة محاولات ومشاريع التحريف.

2- تربية الاُمة على الصعيد العام (عموم المسلمين) والصعيد الخاص (النخبة الواعية المؤمنة).

3 ـ تقديم المثال الصالح للاُمة من خلال التجسيد لمفاهيم وعلوم الإسلام.

4- دعوة الاُمة للالتزام بالخط الشرعي والقيادة الرشيدة ممثلين بالأئمة من أهل البيت.

5 ـ التصدي السياسي عبر الأساليب المختلفة.

6 ـ إعداد العلماء وبناء المدرسة العلمية لعلوم أهل البيت (عليهم السلام).

7 ـ ايضاح مستقبل المسيرة الإسلامية (القضية المهدوية).
_____________________
[1] اختيار معرفة الرجال المعروف بـ (رجال الكشي) لشيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي، تصحيح وتعليق السيد ميرداماد الاسترابادي، طبع مؤسسة آل البيت (عليهم السلام)1404 هـ  1/7 ـ 336 .