فارسية التشيع

اتُّهِم التشيع بأنه فارسي ، لأسباب نجملها بما يأتي :

 

الأول

نقول : لا تختص هذه التهمة بالفرس ، وإنما هي صورة من صور رمي التشيع بكل ما هو مكروه ، ولما كانت العلاقات بين الفُرْس والعرب قد ساءت ، بعد أن امتدَّ نفوذ الفُرْس في دولة الإسلام ، أراد أعداء الشيعة أن يرموهم بالفارسية ، ليضيفوا إلى قوائم التهريج قائمة أخرى ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر لمَّا كان الشيعة منذ فترة تكوينهم من المعارضين للحكم ، لأنهم يرون أنَّ الخلافة بالنص وليست بالشورى .

ويرون أيضاً أنَّها للإمام عليٍّ وَوُلدِه ( عليهم السلام ) ، وإنما تنازل الإمام علي ( عليه السلام ) عنها وسكتَ حِرصاً على مصلحة المسلمين ، وتضحية بالمهم في سبيل الأهم ، وقد حفظ ذلك بيضة الإسلام ، وقد جرَّت عليهم هذه العقيدة كل أنواع الملاحقة ، وبالخصوص أيام معاوية وما تلاها ، إلى العصور المتأخرة .

وللإِمعان بالتنكيل بهم ، وإبعادهم عن الساحة ، حشدت لهم السلطات كل ما تملك من وسائل التحطيم ، حتى أصبح الشيعة مختبراً لممارسة البطولات من كل حامل سلاح ، وإن كان سيفه مثلوماً ، ويده ترتعش .

 

الثاني

إن الفارسيَّة لم تكن حجة يوم كان الفُرْس سُنَّة ، وإنَّما عادت حجة يوم تشيَّع قسم من الفُرْس ، ودليل ذلك أنَّك ترى الطبقة الأولى والثانية من الذين تهجَّموا على الشيعة ، وكالوا لهم التُهَم ، لم يضعوا في قائمتهم تُهمة الفارسية ، وبوسعك الرجوع إلى ما كتبه ابن عبد ربه الأندلسي في ( العقد الفريد ) ، بالفصل الخاص بالشيعة ، وارتجل لهم المثالب والمطاعن فيه ، فإنك لا تجد هذه التُهمة ضمن التهم .

ولو راجعت ما كتبه الشهرستاني في كتابه المِلَل والنحل ، وما ذكره عن الشيعة ، فسوف لا تجد تهمة الفارسية من التهم التي ساقها ، نعم ، ذكر ابن حزم أنَّ هناك أفراداً من الفُرْس شيعة في بعض استطراداته ، حتى جاء المقريزي في القرن التاسع ، فرام أن يصوِّر أن التشيع فارسي .

فالمسألة جاءت متأخرة ، وهكذا المتأخرون عن هذه الطبقة لم ترد في قوائمهم هذه التهمة ، وإنما جاءت من بعد القرن التاسع ، وبدء القرن العاشر ، والغريب أن يكون بعض فرسان هذه الحملة من الفرس أنفسهم ، أرادوا أن يظهروا أنفسهم بأنّهم أحرص على العروبة من العرب أنفسهم ، ولا نستبعد أن لهؤلاء أهدافاً خبيثةً من وراء ذلك .

 

الثالث

قوة استدلال الشيعة بأن الخلافة بالنص وليست بالشورى ، وذلك لأن الشورى لا سَند لها من الكتاب والسنة ، وإنما هي مجرد اجتهاد من المسلمين ، الذين ظَنُّوا أن لا نَصَّ هناك ، ثم إن الشيعة يتساءلون أين هي الشورى ، وما هي أركانها ، وشروطها ، وكيفيتها .

وهل تحققت في أيام الخلفاء ، ونُصِّب الخلفاء بموجبها ، أم لا ؟ مع أننا نعلم أنَّ الذين بايعوا الخليفة الأول بالسقيفة اثنان ، هم الخليفة الثاني ، وأبو عبيدة ، وعلى رواية أخرى إنهم أربعة ، كما يروي ذلك الحلبي في سيرته ، والبخاري في باب فضل أبي بكر .

ولذلك ذهب أهل السنة إلى أن الإِمامة تنعقد ببيعة اثنين من أهل الحلِّ والعقد ، فإن هذه النظرية واضح منها أنها تصحيح للموقف يوم السقيفة ، ورفع للتناقض في منهج الشورى نظرياً ، وتطبيقاً .

فإنّه لا عاقل يمكن أن يتصور انتخاب خليفة من قبل اثنين فقط ، وهذان الاثنان يتم تمثيل المسلمين بهما ، وقد صورت البيعةَ خَير تصوير كلمةُ الخليفة الثاني : إن خلافة أبي بكر فَلْتة وقى الله شرَّها ، فإن تعبير الخليفة عنها أنها ( فَلْتة ) يؤكد أنها لم تكن عن منهاج سابق .

ثم يرد تساءل آخر ، هو : هل أن الخليفة الثاني جاء إلى الحكم عن طريق الشورى ، أم عن طريق تعيين الخليفة الأول له ، كما هو واقع الحال ؟

والتساؤل الثالث هو : هل أن الخليفة الثالث جاء الحكم عن طريق الشورى ، أم عن طريق خمسة عيَّنَهم الخليفة الثاني ، ولم يؤيده منهم إلا ثلاثة ؟

إذن ، كل باحث موضوعي لا يمكن أن يستند إلى صدور نظرية الشورى عن الشريعة الإسلامية ، لا نظرياً ، ولا تطبيقياً ، والهدف المرسوم هو دفع نظرية النص والوصاية عن كونها من الإسلام ، وجعلها من مورثات الفُرْس التي نقلوها معهم لما دخلوا إلى التشيُّع .

فإذا قلتَ لهؤلاء : إن الوصاية ثبتت بنصوص قبل دخول الفُرْس للإسلام ، قيل لك : إن هذه الروايات دَسَّها الشيعة في كتب السنة ، فإذا ذكرت لهم عدة طرق للرواية قيل لك إن الوصية التي تذهبون إليها إنما هي في أمور بسيطة بيتية ، وليس لها صِلة بموضوع الخلافة ، وهكذا .

هذه في نظرنا أهم المزاعم التي أدَّت إلى رَمْي التشيُّع بالفارسية ، وهي مزاعم أصبحت يفنِّد بعضها بعضاً ، لوجود الواقع الخارجي الذي يُعيِّن هوية التشيع بصورة مُجسَّدة .

ثم جاء المستشرقون بعد ذلك ، فضربوا على هذا الوتر ، لأهداف كثيرة ، منها : ضرب وحدة المسلمين ، وبعد ذلك تزييف ركائزهم الفكرية ، ولأجل ذلك تجد كتب المستشرقين تؤكد على هذه النقطة ، وترتب عليها آثاراً كثيرة ، وكأنَّ هذا الموضوع مُختصٌّ بالشيعة فقط ، أما السنة من الفرس فهم محروسون من أن يتدسَّسَ إليهم الفكر الفارسي ، حتى ولو كان ثمانون بالمئة من الفُرْس منهم .

ولسنا ننفي أن تكون هناك أسباب أخرى لرمي التشيُّع بالفارسية قد يكون منها أحياناً بعض الاستنتاجات الخاطئة ، أو سوء الفهم الذي يعتبر كل التقاء بين نظريتين هو تأثير وتأثر ، وقد يكون صدفة .

وإن مجرد التقاء نظرية للشيعة مع نظرية للفُرْس لا يشكل مبرراً بحال من الأحوال ، لاعتبار الفكر الفارسي مصدر العقائد الشيعية ، وذلك لوضوح أن الفكر الديني في العقائد والأحكام مصدره الكتاب والسنة ، في حين أن نظريات الفُرْس هي نظريات وضعية ، لا تستند إلى شريعة واحدة أو متعددة ، حتى يقال إن هؤلاء أخذوا من هؤلاء.

 

كيف صار الفُرس شيعة

إذا حاولنا مسح الأبعاد التاريخية البيئية للفُرْس ، نجد أنَّ من تَشيَّع منهم يُقسَّمون أقساماً ، هي :

 

القسم الأول

وهو القسم الذي تشيع بعملية انتقاء ، واختيار عن طريق الصحابة الذين رافقوا عمليات الفتح ، ونقلوا معهم عقائدهم ، وفكرهم الشيعي ، وقد ساعد على ذلك أن اعتناق التشيع آنذاك لا يسبب لهم ضرراً ، لأن العملية كانت شيئاً طبيعياً ، وبعدهم عن مواطن الاحتكاك .

ولأنّ الفكر كان ضِمن نطاق الأمور العقائدية ، ولا يتجسد في فعَّاليات سياسية ، ومن أبرز مواطن التشيع في هذا القسم ( خراسان ) ، ثم ( قم ) بعد ذلك .

 

القسم الثاني

هُمُ الذين تشيَّعوا تعاطُفاً مع الشيعة ، الذين نالهم الاضطهاد بعد ذلك ، وهذا القسم جمعه الاضطهاد معهم ، لأنه كان مضطهداً ، ومن هؤلاء الموالي في قسم كبير منهم ممَّن كان داخل بلدان الخلافة ، أو الذين لحقهم الاضطهاد داخل ( إيران ) .

وقد بدأت تصل إليهم أفواج من المهجَّرين المضطهدين لأجل تشيعهم ، والذين دفع منهم زياد بن أبيه خمسين ألفاً إلى ( خراسان ) حتى يخلِّص الكوفة من العناصر الشيعية الصلبة .

وكان بعد ذلك أن تمازجت أفكارهم بعد التقاء مشاعرهم ، وصار الفكر متبادلاً بينهم ، وساعد على ذلك استمرار الاضطهاد فترات امتدَّت طويلاً ، والعقائد كثيراً ما يرسخها الاضطهاد .

 

القسم الثالث

الذين تَشيَّعوا عن طريق اللقاء الثقافي المُعمَّق ، لأن الشيعة اضطرُّوا إلى تعميق ثقافتهم ، وَوُلوج مختلف ميادين المعرفة للدفاع عن وجودهم ، والذودِ عن عقائدهم ، بالنظر إلى تعرضهم إلى وضعيَّات شرسة ، خصوصاً وأن الحكم ووسائل القوة ليست بأيديهم .

وكان أن استهوت ثقافتهم قطاعاً كبيراً من الفرس ، نظراً لخلفيَّتهم الحضارية ، ونهوض الحُجَّة في نظرهم ، لكثير من معتقدات الشيعة التي لم يدعمها سيف ، ولا بريق مال ، ولا طمع في حكم ، بل لمجرد الاقتناع بصحة أدلتهم .

 

القسم الرابع

هُمُ الذين دخلوا التشيع مع التيار الذي صنعه الحُكَّام ، وأعلنوا ضرورة العدول إلى مذهب الشيعة ، وهؤلاء قِلَّة يُعتدُّ بها ، وقد تظاهرت بذلك لأنه لا يمكن للعقائد أن تفرض فرضاً ، وذلك حينما أعلن السلطان خُدَا بَنْدَه ، ثم بعد ذلك الصفويُّون ، في بداية القرن العاشر رسميَّةَ المذهب الشيعي ، وذلك مثلما حدث لـ ( ديار بكرٍ ) و( ديار ربيعة ) ، التي كانت شيعية أيام الحمدانيِّين ، ثم حوَّلهم الحُكَّام إلى سُنَّة .

وكما حدث لـ ( مصر ) بعد حكم الفاطميِّين ، إذ حُوِّلت إلى سُنِّية أيام الأيُّوبيِّين ، وكما حدث ذلك لكثير من البلدان ، ولسنا نزعم أنه لا يوجد من قد يكون دخل التشيُّع وله أهداف غير سليمة ، وليس ذلك بذنبٍ للتشيع ، فكثير من اليهود دخلوا الإسلام وتظاهروا بذلك ، وفي نفوسهم أهداف خبيثة ، ولا نعتبر الإسلام مسؤولاً عن ذلك .

كما أن هذه الفصيلة التي تدخل الإسلام أو التشيع ولها أهداف مسمومة لا تعدو أصابع اليد ، ولا تشكل خطراً ، بدليل أن جوهر الإسلام محفوظ ، رغم وجود أمثال هؤلاء ، وليس من المنطق في شيءٍ أن ننتزع حكماً عاماً على مذهب من المذاهب ، لأن بعض الأفراد المندسِّين فيه عُرِفوا بنظريَّات هَدَّامة ، لا سِيَّما إذا كانت أسُسُ المذهب واضحة ، ولا تلتقي مع المندسين بشكل من الأشكال .