مسألة في الأجسام وحدوثها
وأول منظور فيه الأجسام ، لأن تقدير قدمها يسقط حكم التكاليف المكتسبة ، وتقدير حدوثها يعينها ، وطريق العلم بحدوثها مبني على مقدمة ضرورية ونتيجة مكتسبة :
فالمقدمة : حدوث ما لم يسبق الحوادث .
والنتيجة : إثبات الجسم بهذه الصفة .
وتفتقر إلى إثبات أغيار للجسم ، وأنها محدثة ، وأن الجسم غير سابق لها .
وطريق إثباتها : حصول العلم بصحة تنقله في الجهات وهو على ما هو عليه ، ووجوب اختصاصه ببعضها .
إذ لو وجب الأول لم يزل متنقلا ولاستغنى عن ناقل ، ولو جاز الثاني في حال الاختصاص لم تكن جهة أولى به من جهة ، فلا بد له من مقتض .
ولا يجوز أن يكون جنسه ولا وجوده ، لصحة خروجه عن الجهة مع كونه جنسا وموجودا .
ولا يجوز أن يكون عدم معنى ، لأن المعدوم لا يخصص ولا يؤثر .
ولا يجوز أن يكون صفة بالفاعل ، لأنها الحدوث أو وقوعه على وجه ، وذلك يقتضي حدوث الجسم ، لحاجته في الوجود إلى جهة ، ووجوب تقدم الفاعل لفعله ، وهذا غاية المطلوب .
ولأن كونها بالفاعل يوجب اختصاصها بحال الحدوث ، ولمن أحدث موصوفها ، وتعلق به جميع صفاتها ، إذ من المحال أن يحصل الحدوث لمن لا يقدر على الحادث ولا على جميع صفاته ، أو يحصل كيفية الحدوث في حال البقاء كفعلي وفعل غيري .
واختصاص الجسم بالجهة لمن لا يقدر على ذاته ولا على جميع صفاته وفي حال بقائه كحدوثه يحيل كون ذلك بالفاعل .
فثبت أن المقتضي لهذا الحكم أمر غير الجسم .
وانتقال الجسم عن الجهة إلى غيرها يقتضي بطلان ما كان أوجب اختصاصه بالأولى ، وتجدد ما خصصه بالثانية ، لاستحالة الكمون والانتقال على الأعراض .
وتجدد الشئ عن عدم حقيقة في حدوثه وعدمه بعد الوجود يحيل قدمه ، لوجوب وجود القديم ، وما ليس بقديم محدث .
وكون الجسم متحيزا يوجب حاجته إلى جهة قد بينا استناد اختصاصه بها إلى معنى ، فلو جاز خلوه منه لخلا منها ، وذلك محال ، لكونه متحيزا .
فثبت أن وجوده مضمن لوجود الحوادث ، وقد علمنا ضرورة حدوث ما له هذا الحكم ، فوجب إلحاق هذا التفصيل بتلك الجملة .
طريقة أخرى
معلوم أن للأجسام أحكاما هي عليها ، مدركه وغير مدركة :
فالمدركة : الألوان ، والطعوم ، والأراييح ، والحرارة ، والبرودة ، والآلام المبتداة .
وغير المدركة : الرطوبة ، واليبوسة والشهوة ، والنفور والحياة ، والقدرة ، والعلوم الضرورية التي هي من كمال العقل .
وطريق إثبات الجميع أغيارا للجسم طريق إثبات الأكوان ، وقد بيناه .
ويدل في المدركات خاصة : أن الإدراك يتعلق بأخص صفات المدرك ، وأخص صفات ذاته ، على ما وضح برهانه في غير موضع .
فلا يخلو أن يتعلق الإدراك بذات الجسم ، أو بصفة له نفسية ، أو بالفاعل ، أو بذات غير الجسم أوجبت حكم المدرك له .
ولو كان متعلقا بذات الجسم لاستمر حكمه باستمرار بقاء الجسم ، والمعلوم خلاف ذلك ، ولوجب أن لا يختلف الحكم في الإدراك ولا يتغاير العلم الحاصل عنده ، لكون ذات الجسم واحدة متماثلة الجنس ، وفي اختلاف ما يتعلق به الإدراك وتغاير الحكم عنده في التعلق دليل على تعلقه بغير الجسم ، ولأن الإدراك يتعلق ببعض هذه المدركات ، ويبطل حكمه لبطلانها بضد ، يحصل للمدرك حكم بإدراك الضد الثاني يخالف حكم المدرك المنتفي عنه ، والجسم باق على ما هو عليه في كلا الحالين ، فبطل تعلق الإدراك به .
ولمثل هذا يبطل تعقله بصفة له نفسية .
وتعلق الإدراك بأخص صفات المدرك يحيل كون هذه المدركات صفة بالفاعل ، ولأن صفات الفاعل هي الحدوث ، أو وقوعه على وجه ، وهذه الصفات متجددة في حال بقاء الجسم ، ولأن حصول العلم بها متغايرة منفصلة من العلم بذات الجسم يحيل كونها صفات بالفاعل .
فثبت تعلق الإدراك بذات غيره ، وهي محدثة لتجددها للجسم بعد عدم ، وبطلانها عن وجود ، لأن تضادها يمنع من كمونها ، واستحالة قيامها بأنفسها بجيل الانتقال عليها .
ولو كانت صفات بالفاعل مع استحالة ذلك لصح الاستدلال بتجددها بعد عدم ، وانتفائها عن وجود ، إذ ذلك دليل على حدوثها ، وإذا ثبت حدوثها – ذوات كانت أو صفات – اقتضى ذلك حاجتها إلى محدث قديم لنفسه ذات صفات نفسية تستحيل على الأجسام على ما بينته ، وذلك يقتضي حدوث الأجسام من حيث كان قدمها يقتضي مماثلتها للقديم سبحانه في جميع الصفات المعلوم استحالتها عليه ، وما ليس بقديم من الموجودات محدث .
طريقة أخرى
لو كان المتحيز موجودا لم يزل لوجب اختصاصه في تلك الحال بجهة لما هو عليه في ذاته ، أو لمقتض قديم ، إذ إسناد ذلك إلى مقتض يحدث أو بالفاعل لا يتقدر ولو كان كذلك لاستحال خروج كل متحيز عن جهته ، لاستحالة العدم على القديم ، وخروج الموصوف عن صفته النفسية وهو موجود .
وفي علمنا بصحة خروج كل متحيز عن جهته ، ووجوب ذلك في المنتقل منها ، وتباين المتجاورين ، وتجاور المتباينين دليل على أنه لم يختص الجهة لنفسه ولا لمقتض قديم ، ولأنه لو اختص الجهة لنفسه مع تماثل المتحيزات لوجب كون جميعها في جهة واحدة ، للاشتراك في صفة النفس ، وذلك محال .
وكذلك الحكم لو اختصها لمقتض قديم ، لأن القديم قديم لنفسه ، والاشتراك في صفة النفس يقتضي الاشتراك في مقتضاها ، وذلك يوجب اختصاص سائر المتحيزات بجهة واحدة ، لاشتراك الجل في مقتضى التخصص بالجهة ، وذلك محال ، فاستحال له قدم شئ من المتحيزات ، وما ليس بقديم من الموجودات فهو محدث .
وإذا تقرر ذلك ، فالناظر مخير بين الاعتماد في حدوث الأجسام :
على هذه الطريقة الأخيرة ، وبناء جميع المعارف عليها .
وبين الطريقة الأولى في حدوث الأجسام ، لكونها غير خالية من الحوادث .
وبين أن يستدل بحدوث المعاني الخارجة من مقدور المحدث على إثباته تعالى ، وما وجب إثباته تعالى عليه من الصفات النفسية والجائزة ، وحسن أفعاله ، وما يتعلق بذلك من مسائل المعارف ، لخروجها أجمع عن مقدور الجسم كالجسم .
وبين أن يستدل بحدوثها بجل جنس منها بانفراده على إثبات جميع المعارف .
وبين أن يستدل بحدوثها على إثبات محدثها ، وما يختصه تعالى من الصفات المستحيلة على الأجسام على الوجه الذي سلف .
فيعلم بذلك حدوث الأجسام ، إذ كل واحد من هذه الطرق دليل واضح على جملة المعارف .
ومن تأمل ما أوردناه من ذلك علم أنا نهجنا طرقا واضحة في الاستدلال على جملة المعارف ، وسعنا بها المسلك لكل ناظر ، ونبهنا على ما لم نسبق إليه منها ، ولا نضيق عليه الاستدلال تضييق من سلف من العلماء بهذا الشأن – رضي الله عنهم – ومن عاصرناه ، والمنة لله تعالى .