سور القرآن مناظرة ثم برهان ثم ثبات

عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «مَنْ قَرَأَ {قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ} وَ{قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} فِي فَرِيضَةٍ مِنَ الْفَرَائِضِ غَفَرَ اللهُ لَهُ وَلِوَالِدَيْهِ وَمَا وَلَدَ وَإِنْ كَانَ شَقِيّاً مُحِيَ مِنْ دِيوَانِ الأَشْقِيَاءِ وَأُثْبِتَ فِي دِيوَانِ السّعَدَاءِ وَأَحْيَاهُ اللهُ سَعِيداً وَأَمَاتَهُ شَهِيداً وَبَعَثَهُ شَهِيداً».(ثواب الأعمال وعقابها:١٢٧. تفسير جوامع الجامع:٣/٦٨١)

 

سبب نزول سورة الكافرون

نزلت هذه السورة في نفر من قريش منهم الحارث ابن قيس السهمي والعاص بن وائل والوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب بن أسد وأمية ابن خلف، قالوا: هلم يا محمد فاتبع ديننا ونتبع دينك، ونشركك في أمرنا كله، تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فإن كان الذي جئت به خيراً مما بأيدينا كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه، وإن كان الذي بأيدينا خيراً مما في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه، فقال: «معاذ الله أن أشرك به غيره»، قالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدقك ونعبد إلهك، فقال: «حتى أنظر ما يأتي من عند ربي»، فنزل: {قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ * لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ * وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ * لَكُمْ دينُكُمْ وَلِيَ دينِ}[الكافرون:١-٦]، فعدل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقام على رؤوسهم ثم قرأ عليهم حتى فرغ من السورة.(بحار الأنوار للمجلسي:٩/١٧٢)

 

الخطاب القرآني

قال تعالى: {قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُون}.[الكافرون:١]

الخطاب موجه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن توجه للكافرين، وهم المنكرون لله ورسوله وأوامره ونواهيه.

و(آل) في (الكافرون) آل عهدية، ذلك أنّ الكافرين هنا هم خصوص الذين علم الله أنّهم لا يؤمنون، كما سيتضح في الآيات القادمة في قوله تعالى: {وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ}.[الكافرون:٥]

 

الرفض القاطع

قال تعالى: {لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُون‏}.[الكافرون:٢]

عندما تدخل (لا) على المضارع تفيد النفي للاستقبال؛ فالله يوحي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول للكافرين: إنّني لن أعبد الأصنام التي تعبدونها في المستقبل، كما تُمنّون أنفسكم أن يحصل.

 

كذبة قريش

قال تعالى: {وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُد}.[الكافرون:٣]

أي أنّكم لن تعبدوا ربي في المستقبل.

وهذا إخبار غيبي بعدم هدايتهم، وكذبهم في مدعاهم.

وقد استخدم اسم الموصول (ما) المستخدم عادةً لغير العاقل في الإشارة إلى المعبود عز وجل بدل (مَن) المستخدم للعاقل للمطابقة مع قوله: (ما تعبدون)، فهو في مقام المقابلة، والمقابلة تقتضي التساوي.

فهو ليس في مقام إثبات أحقية دينه على دينهم، بل هو في مقام رد مساومتهم في التصالح على التناوب في عبادة الله تعالى وعبادة الأصنام.

القول الشامل للماضي والحال

قال تعالى: {وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّم‏}.[الكافرون:٤]

هنا يعجب الله عز وجل على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم كيف يرتجون منه أن يعبد الأصنام في المستقبل وهو لم يُعهَد منه عبادتها أبداً، لا في الماضي قبل نبوّته، ولا في الحاضر بعد نبوّته.

فالنفي هنا مختلف عن النفي في {لا أعبد ما تعبدون}، فهنا هو للماضي والحال، حيث دخل على الجملة الاسمية المحتوية على المشتق (اسم الفاعل) والمشتق يُستَخدَم لمن تلبس بالوصف في الماضي أو الحاضر.

أما في الآية الأولى فدخل النفي على المضارع، وسبق وأشرنا أن (لا) النافية إذا دلت على المضارع أفادت النفي للاستقبال.

مجلة الوارث - العدد 102إفادة الماضي والحال

قال تعالى: {وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُد}.[الكافرون:٥]

النفي هنا مطابق لسابقه في إفادة الماضي والحال.

أي: وأنتم كيف تُرتجى هدايتكم وعبادتكم لله في المستقبل وأنتم لم تعبدوه قبل الإسلام اقتداءً بالرسالات السابقة، ولا الآن بعد مجيء الإسلام.

فليس هناك تكرار في السورة الكريمة، ذلك أنّ لكل آية معنى يختلف عن الأخرى.

وقد ورد تأويل لتكرار الآية في روايات أهل البيت عليهم السلام فقد روى علي بن إبراهيم القمي في تفسيره المعتبر بسنده عن ابن أبي عمير قال: سأل أبو شاكر (الديصاني الزنديق) أبا جعفر الأحول (مؤمن الطاق) عن قول الله تعالى: {قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ * لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ * وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ}.[الكافرون:١-٥]

فهل يتكلم الحكيم بمثل هذا القول ويكرره مرة بعد مرة؟

فلم يكن عند أبي جعفر الأحول في ذلك جواب.

فدخل المدينة فسأل أبا عبد الله عليه السلام عن ذلك فقال: «كان سبب نزولها وتكرارها أن قريشاً قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله: تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، وتعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة.

فأجابهم الله بمثل ما قالوا فقال فيما قالوا تعبد آلهتنا سنة { قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ * لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ}.

وفيما قالوا نعبد إلهك سنة {وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ}.

وفيما قالوا تعبد آلهتنا سنة {وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ}.

وفيما قالوا نعبد إلهك سنة {وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ}.

قال: فرجع أبو جعفر الأحوال إلى أبي شاكر فأخبره بذلك، فقال أبو شاكر: هذا ما حمله الإبل من الحجاز (أي أن هذا الجواب ليس منك بل من الإمام الصادق عليه السلام).(تفسير القمي:٢/٤٤٦)

لهم شركهم ولي توحيدي

قال تعالى: {لَكُمْ دينُكُمْ وَلِيَ دين}.[الكافرون:٦]

أي: لكم شرككم فالزموه وستلقون جزاء لزومكم له، وهو النار.

ولي توحيدي وسألزمه، وألقى ثوابه، وهو الجنة.

فأنا بُعثت لأدعوكم إلى النجاة، فإن لم تقبلوا منّي ولم تتّبعوني فلا أقل من أن أنجو منكم، ولا أتأثر بكم.

آداب تلاوة السورة

ورد عن أهل البيت عليهم السلام بعض الآداب في تلاوة هذه السورة منها ما يلي:

١. روى الشيخ الطبرسي في تفسير مجمع البيان عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: «إذا قرأت {قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ} فقل: أيّها الكافرون. وإذا قلت: {لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ} فقل: أعبد الله وحده. وإذا قلت: {وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ} فقل: ربي الله، وديني الإسلام.(مجمع البيان:١٠/٤٦٥)

٢. روى المحدث السيد هاشم البحراني في تفسيره البرهان عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: «إذا قلت {لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ} فقل: ولكنّي أعبد الله مخلصاً له ديني، فإذا فرغت منها، فقل: ديني الإسلام، ثلاث مرات.(تفسير البرهان:٥/٧٨٠)