مقارنة الإسلام بباقي الأديان

جاء الكتاب الكريم بنص عام أعلن فيه أن لا محاباة أمام العدل الإلهي لأمة دون أمة، بل الجميع سواء أمام سنته الثابتة، فقال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ…}. (النساء/123)

فليس لأحد بعد هذا أني دعى أن حوادث النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتت على عكس السنن الإلهية في كل أمة، وليس لنا أن نمتنع عن دراسة تلك الحوادث دراسة اجتماعية بسرد محللها مع الإشارة إلى مكانها من علم العمران البشري.

امتازت حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقيامه بأربع حوادث عظيمة:

1) نشر ديناً جديداً.

2) تكوينه دولة جديدة.

3) تأليفه من قبائل العرب أمة.

4) سن قانوناً أخضع له تلك الأمة بحذافيرها.

هذه هي الحوادث التي تمت على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس منها واحدة لا تحتاج قيامها ونضجها إلى قرون عديدة. فالمسيحية لم تصل إلى درجة تستطيع معها حماية نفسها إلاّ بعد ثلاثة قرون من مجيء عيسى عليه السلام. وتكوين الدول الجديدة وإن كان قد عهد في تاريخ مثل محمد علي باشا ونابليون وغيرهما إلا أن الفارق بين أمثال هذه الحوادث وحادثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تلك حصلت في أمم قائمة على الملكية من قبل عهد المتغلبين عليها، فخضوعها لقائم جديد متغلب ليس فيه مناقضة لطبيعتها ولا مخالفة لسنتها، ولكن قيام دولة في أمة عربية كانت بالأمس رئاستها متوزعة بين أفراد كثيرين أكثرهم متنافرون متشاكسون، مما لم ير نظيره في تاريخ الاجتماع الإنساني.

ثم إن تأليفه أمة من قبائل متخالفة في الوجهة في سنين معدودة أمر لم يعهد له نظير، لأنه يحتاج لقرون عديدة وهيئات اجتماعية جمة.

ثم إن سنه لقانون علم جامع لمصالح تلك الأمة في مدة ثلاث وعشرين سنة، وقيام تلك الأمة على ذلك القانون بالفعل بدون نزاع ولا تلاح، وصلاحية ذلك القانون لإقامة أودها ومظاهرة نهضتها، أمر لا يوجد ما يقاس عليه في العالم كله.
هذه الحوادث وحدها تنطق بأن القائم بها كلها لابد أن يكون واحداً من أولئك الذين يبعثهم الله على رأس كل طور من أطوار البشر ليسوق الأمم إلى الأمام درجات مقدرة.

ويجعل بنا قبل درس تلك الحوادث أن نورد ترجمة مقدمة كتبها الباحث الفرنسي (جولا لابور) في فهرسته التي رتبها للقرآن الكريم المطبوع باللغة الفرنسية ليتبين للقارئ حال العالم كله على وجه الاجمال قبيل البعثة المحمدية، قال:

(لأجل أن يفه الإنسان تمام الفهم أي دعوة من الدعوات، يلزمه أولاً الإلمام بحال الداعي في ذاته، ولأجل أن يقدر قدر دعوته يجب عليه أن يدرك الجهة البشرية التي وجه همته للتأثير فيها، هذا هو الغرض من هذه النبذة الوجيزة التي خصصناها للمشرع العربي، مؤسسة ما يمكن تسميته بالجامعة الإسلامية).

(حوالي ميلاد محمد صلى الله عليه وآله وسلم في القرن السادس الميلادي كان جو العالم الأجنبي متلبداً بسحب الاضطرابات الوحشية في كل جهة، وكان اعتماد الناس على وسائل الشر أكثر من اعتمادهم على وسائل الخير، وكان أجمع الرؤساء للثقة والطاعة أشدهم صيحة في إصلاء نيران الحروب والمعارك. ولم يكن يأخذ بعواطف القلوب ولا يؤثر فيها تأثيراً حاداً – وإن كان وقتياً – إلا شيء واحد وهو الغنيمة وسلب الأمم والشعوبة والمدائن والأعيان ورجال الحروب وفقراء الفلاحين وبسطاء المتسولين. ولولا شعاع ضئيل من الحكمة كان يتألف في بعض صوامع السكينة، وبعض الجراثيم الفلسفية التي كانت بمعزل عن أعاصير تلك المشاغب، وانتقلت من روح إلى روح أخرى بواسطة بعض أصحاب الجسارة من دعاة الرقي في المستقبل، لكانت البربرية أسرعت في خطاها مقودة بغطرسة زعماء البهيمية واستحالت إلى وحشية محضة.

مع هذا كان هناك ركن من أركان الأرض لم يصب نفحة من هذه الحركة، ولكن لم يكن ذلك لحكمة أهله ورجاحة عقولهم، بل بسبب موقعهم الجغرافي البعيد عن مضطرب الأمم التي كان يقال عنها أنها متدينة، ذلك الركن هو شبه جزيرة العرب التي ما كانت تسمع انفجار أعاصير تلك الفتن الهائلة في أوربا إلا عن بعد، وما كان يعلها ذلك اللغط إلا في غاية الضعف والضؤولة، ولم يكن العرب أحسن استعداداً من غيرهم لقبول أي دين من الأديان ومما يدل على ذلك غرامهم يشرب الراح ويوجد في الشعر ما يدل على أنهم كانوا يفرحون ويجبون به وبلعب الميسر، وكان من عوائدهم أن للرجل أن يتزوج بقدر ما تسمح به وسائله المعيشية: وكان له أن يطلق متى شاء هواه، وكانت الأرملة تعتبر من ضمن ميراث زوجها، ومن هنا نشأت تلك الارتباطات الزوجية بين أولد الزوج ونساء الأب، وقد حرم ذلك الإسلام وعده زواجا ممقوتاً، وكان هناك عادة أفظع من كل أمر وأشد معارضة للطبيعة وهي أد الأهل لبناتهم (أي دفنهم أحياء).

(هذا كله لا يشير على أن العرب لم تكن فيهم أي جرثومة خلقية صالحة يمكن تقويمها وتهذيبها، فقد كانوا يحبون الحرية حباً جماً ويمارسون فضائل الكرم وبذل القرى).

فالتأمل في تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده إلى حين وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدرك فارقاً كبيراً بين الحالتين، بل يرى استحالة من حالة إلى حال لم يعهد لها مثيل في تاريخ البشر في مثل تلك المدة التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهراني قومه.

ماذا يرى؟ يرى قبائل كانت متعادية متباغضة، سيوفها تقطر دما وقلوبها تلتهب حقداً لا يسكن لها جأش ولا يهدأ لها روع، فهي إما طالبة أو مطلوبة، ثم هي مع ذلك لا تدين لغير الوثنية، ولا تعرف شرعة غير شرعة الجاهلية. لا نظام يحفظ جماعتها، ولا كتاب يوجد وحدتها، ولا قانون يحسم تنازعها، ولا رئيس يأخذ بمقادتها، فهي فوضى في العقائد، فوضى في الأخلاق، فوضى في المعاضر.

يراها في سنة (622) على هذه الحالة ثم يعود إليها في سنة (632) أي بعد نحو عشر سنين فيجدها أمة من الدين على التوحيد الخالص ومن الإخلاص على شرعة الفلاسفة الذين قتلوا الميول علماً، ومن الوحدة على مثل حال الجسد الواحد أن أشتكي منه عضو تداعي له سائره بالسهر والحمى، ومن الحكومة على الديمقراطية الخالصة التي ذهب اليونان والرومان والفرس ولم يحققوا منها خيالا على شدة ما بذلوه من الجهود، ومن القانون على دستور ثابت لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن الاجتماع على مثل البنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.
كل هذا ليس بشيء لو كان شكلا متحجراً أو حالا جامدا، ولكنه يرى فوق ذلك اجتماعا متمتعا بروح قوية: روح تبعث على الحركة والنمو الترقي والتكمل، روح من تلك الأرواح التي إذا هبطت على بعض أمم التاريخ جعلتهم خلفاء الله في الأرض.

وكل هذا ليس بشيء بجانب ما يأتي، وهو أن تلك الروح روح جديدة ليست من نوع ما سبقتها، روح رحمة وهوى ونور، روح تعليم وإرشاد وتخليص.

الله أكبر أمة كانت بالأمس ترسب في قيود الجاهلية وتخوض في غمرة الوثنية، وترتطم في أوحال الفوضى والهمجية، تنهض بعد عشر سنين حية بأعلى روح اجتماعية عهدت في الأرض أسحر هذا، أم استحالة على غير مثال حدثت على يد رجل يريد الله أن يكون خاتم رسله إلى خلقه.

قلنا أن تلك الروح أعلى روح ظهرت في العالم وهذا إجمال يعوزه تفصيل، وأين المجال في هذا الورق ذي الحد المحدود، ولكنا نفصل ما أجملناه ولو في كلمتين فنقول:

أولاً كل روح اجتماعية سابقة كانت توهم أهلها بأنهم خير الناس، لا لشيء إلا لكونهم أبناء ذلك الأب وأحفاد ذلك الجد أو سكان تلك البقعة، ولكن الروح الإسلامية حامية بالمساواة المطلقة، فاقنعت ذويها أن الناس كلهم من آدم، وآدم من تراب وإن أكرمكم عند الله أتقاكم وأنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى أو بعمل صالح، فتآخى بنو الإنسان لأول مرة فوق سطح هذه الأرض.

ثانياً: كل روح اجتماعية سابقة كانت توهم ذويها بأنهم السادة الأعلون، وأن غيرهم العبيد الأذلون، وأن بلادهم وأهلهم وأموالهم لم يخلقوا إلا لخدمة شهواتهم ومطامعهم: فكانوا يفتتحون البلاد ويدوخون الأمم، لا لإصلاحها، بل لسلب وجودها، واجتياح ثمراتها، وإذلال قادتها، وهتك أعراضها.

أما الروح الإسلامية فكانت تدفع أهلها للفتح (والفتح كان حاجة كل أمة نامية، سنة الله في الأرض ولن تجد لسنة الله تبديلاً)، ولكنها لا تطلب بفتح بلادهم إذلالاً لهم ولا سلب أموالهم، بل كانت تخيرهم بين الجزية والإسلام والجزية ضريبة خفيفة لا توازي عشر ما كانت تتقاضاه ورؤساؤها منها من قبل ثم كانت تدع لهم عقائدهم وعاداتهم وتحترم شيوخهم وشبابهم وكيانهم، لا تمس من ذلك شيئاً. وهذا الأدب لم يحصل في أمة قبل المسلمين ولم يحصل بعدهم أيضاً.

ثالثاً: الأرواح الاجتماعية السابقة كانت لا تعتبر الأخلاق فيما بين آحادها، فكان يحرم على الرجل منهم أن يغش بني جلدته، ولكنها لا تحرم عليه أن يغش سواهم، بل كانوا يعدون ذلك كياسة وفضيلة! ولكن الروح الإسلامية تحرم الأخلاق الذميمة لذاتها لا بالنسبة لقوم دون قوم آخرين، فمن سرق من مسلم عوقب كمن سرق من غير مسلم، ومن اعتدى على غير مسلم عوقب به كأنه اعتدى على مسلم. وهذا أمر لا يوجد له مثيل ولا في أرقى أمم الأرض إلى اليوم.

دع كل هذا الآن وتأمل في رجل أتى من الأعمال ما يكفي عمل واحد منه لأن يجعل الرجل أعظم عظيم في التاريخ فقد كان مؤسساً لدين جديد ومنشئاً لأمة ومقيما لدولة ومهذبا لشب بأسره وكل عمل من هذه الأعمال لو قام به فرد ولو على نقص في النتيجة عد من كبار رجال التاريخ وأقطاب غطارفة الحوادث.

بأي قوة أسس ذلك الدين الجديد في قوم أشداء متعصبين؟ وكيف لم تثبط همته وقد آذوه ثلاث عشرة سنة؟ وكيف أنشأ أمة من قبائل متعادية متنابذة في عشر سنين؟

ثم كيف تنسى له إنشاء دولة في أمة لا عهد لها بها، وكيف يؤسس تلك الدولة بحيث تصبح بعد قرن دولة العالم كله! ثم كيف أمكنه تهذيب شعب بأسره وأكبر الفلاسفة عجز عن تهذيب طائفة على ما يحب: قالت دائرة معارف لاورس (هذا الانتقال في الأفكار والطبائع الذي أنتج الحياة الاجتماعية في أوربا قد استلزم تعاقب كثير من الأجيال حتى استعد منح الإنسان لقبولها) ومن أعجب العجب أن الذي جاء بكل هذه الأعمال كان متشرعا وقاضيا وقائدا وواعظا وإماماً وخطيبا ورب أسرة، فكان شرعه أعدل الشرائع (للآن) وقضاؤه أقوم الأقضية وقيادته أحسن القيادات إذ كان يخوض الغمرات فيكشفها عن أصحابه وكان وعظه أنقذ وعظ إلى النفوس وإمامته أجدى على من وراءه من العكوف، وخطبه آخذ الخطب بالعقول، وكان في أسرته من العدل والرقة بحيث كان يرتع نعله أو يحلب شأنه ويعين أهله على عملهن.

وبعد فإن هذا النبي صلوات الله عليه وعلى آله أرسل بكثير من الوظائف: من نشر دين، وإقامة دولة، وبناء أمة، وسن قانون، ولكل عمل من هذه الأعمال أخلاق تناسبها، فنشر الدين يقتضي الدعوة والعطف على العصاة والصبر على أذاهم، وبناء الأمة يقتضي تعي الشؤون الاجتماعية لها، وسن القانون يستلزم توحيد وجهة المصالح وإعداد الأمة لاحترامه والوقوف عند حده، وإقامة الدولة يستدعي القوة ووسائل الغلبة، وقد دل التاريخ وحوادث العالم على أن المشترع لا يستطيع أن يكون ملكاً والملك لاي مكن أن يكون مشترعا والداعي إلى الدين لا يحسن أن يكون مشترعاً ولا ملكا لأن كلا من هذه الوظائف له صفات خاصة يتصف بها صاحبها.

فإن كنت تكره أن يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متصفا بصفات مؤسس الدول وتأسيس الدول يقتضي الظهور بمظهر القوة والسلطة فأنا أعجب كيف استطاع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجمع بين متناقضات هذه الحالات كلها.

لا جرم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أكبر رجل اعتلى هامة هذه البسيطة لجمعه كل هذه الوظائف العامة في نفسه، فلا جرم كان قلبه أجمع قلب لهذه الحالات الإنسانية، ومن كان كذلك كان خير الناس كلهم والسلام.