لم يثبت في أحد غير علي عليه السلام

وأما عن الذين ثبتوا يوم أُحد ، فنجد الروايات مختلفة جداً ، وتذكر أرقاماً متعددة من واحد إلى ثلاثين .
والصحيح هو أن علياً «عليه السلام» وحده هو الذي ثبت يوم أحد ، وفر الباقون . ويدل على ذلك :
1 ـ قال القوشجي ، بعد أن ذكر قتل علي «عليه السلام» لأصحاب اللواء : فحمل خالد بن الوليد بأصحابه على النبي «صلى الله عليه وآله» ؛ فضربوه بالسيوف ، والرماح ، والحجر ، حتى غشي عليه ، فانهزم الناس عنه سوى علي «عليه السلام» ، فنظر النبي «صلى الله عليه وآله» بعد إفاقته ، وقال : اكفني هؤلاء ، فهزمهم علي عنه ، وكان أكثر المقتولين منه 1 .
2 ـ وقد قالوا : كان الفتح يوم أحد بصبر علي (رض) 2 .
وقد يقال : إن هذا النص لا يدل على فرارهم ، وإنما هو يدل على عظيم جهاد علي «عليه السلام» وصبره . .
3 ـ عن ابن عباس ، قال : لعلي أربع خصال ، هو أول عربي وعجمي صلى مع النبي «صلى الله عليه وآله» ، وهو الذي كان لواؤه معه في كل زحف ، وهو الذي صبر معه يوم المهراس (أي يوم أُحد) ، انهزم الناس كلهم غيره ، وهو الذي غسله وأدخله قبره 3 .
4 ـ ما سنذكره ـ بعد الحديث عن موقف علي ـ من أن من يذكرونهم : أنهم ثبتوا ؛ لا ريب في فرارهم ، كما تدل عليه النصوص .
وقبل أن نشير إلى هذه الناحية لا بد من إلماحة موجزة إلى ما يمكن أن يقال حول ثبات علي «عليه السلام» في هذا الموقف .

 

انه مني و انا منه

إن قول النبي «صلى الله عليه وآله» عن علي «عليه السلام» : إنه مني وأنا منه ، لا بد أن نتدبر معناه ومغزاه .
وهو قريب من قوله «صلى الله عليه وآله» : حسين مني وأنا من حسين .
ولعل المراد : أن أمير المؤمنين «عليه السلام» هو من شجرة النبي ، وسائر الناس من شجر شتى ، هذه الشجرة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء . وهو «عليه السلام» من طينة رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، لحمه لحمه ، ودمه دمه . وهو من النبي «صلى الله عليه وآله» سلوكاً ، وعقيدة ، ومبدأ ، ونضالاً ، وأدباً ، وخلوصاً ، وصفاء ، الخ . .
كما أن النبي «صلى الله عليه وآله» هو الذي صنع علياً ، وعلمه ، وثقّفه ، وأدّبه . ومن الجهة الأخرى ، فإن النبي «صلى الله عليه وآله» أيضاً من علي ، حيث إن الوجود الحقيقي للنبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» إنما هو بوجود دينه ، ومبدئه ، وفكره ، وعقيدته ، وسلوكه ، ومواقفه ؛ فهذا النبي هو من علي ، وعلي «عليه السلام» هو الذي سوف يبعثه من جديد من خلال إحيائه لمبادئه ، وفضائله ، وآدابه ، وعلومه ، وغير ذلك .
وهكذا كان ؛ فلولا علي «عليه السلام» لم يبق الإسلام ، ولا حفظ الدين .
حتى إننا نجد أحدهم يصلي خلف علي «عليه السلام» مرة ؛ فيقول : إنه ذكره بصلاة رسول الله «صلى الله عليه وآله» 4 .
هذه الصلاة التي لم يبق منها إلا الأذان ، وحتى الأذان فإنهم قد غيروه 4 .
ويلاحظ هنا : أنه «صلى الله عليه وآله» قد قدم قوله : (إنه مني) ، تماماً كما قدم قوله : «حسين مني» ، لأن صناعة النبي «صلى الله عليه وآله» لهم سابقة على إحيائهم لدينه . فثقافة ، وفكر ، ونفسية ، ودين ، وخصائص ، وآداب النبي «صلى الله عليه وآله» ، لسوف يبعثها علي والحسين «عليهما السلام» ؛ وهكذا العكس .
ومن هنا صح للنبي «صلى الله عليه وآله» أن يقول : أنا وأنت يا علي أبوا هذه الأمة 5 .
كما أنه ليس من البعيد أن يكون جبرئيل قد كان يستفيد ويتعلم من النبي «صلى الله عليه وآله» وعلي «عليه السلام» ، ولأجل ذلك قال : وأنا منكما . وقد ناشدهم أمير المؤمنين بهذه القضية بالذات في قضية الشورى 6 ، وذلك يؤكد مغزاها العميق ، ومدلولها الهام .
لا سيف إلا ذو الفقار :
وإن مناداة جبرئيل بـ «لا سيف إلا ذو الفقار الخ . .» لها مغزى عميق أيضاً ، فإنها تأتي تماماً في مقابل ما فعله الذين فروا وجلسوا يتآمرون ـ هل يرسلون ابن أبي لأبي سفيان ليتوسط لهم عنده ؟
أم أن كونهم من قومهم ، وبني عمهم يجعلهم لا شيء عليهم ، أم يرجعون إلى دينهم الأول ؟ ـ كما سيأتي ـ فإن كل ذلك يدل على أن الذي كان سيفه خالصاً لله حقاً هو أمير المؤمنين «عليه السلام» فإنه لا سيف خالصاً لله ، وفي سبيل الله ، إلا سيفه ذو الفقار .
وهذا السيف هو الذي قال عنه أمير المؤمنين «عليه السلام» في رسالته إلى بعض عماله ، يتهدده على تلاعبه بأموال الأمة ، مشيراً إلى هذا : «ولأضربنك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً إلا دخل النار» 7 . لأنه لا يقتل به إلا مستحقها ، ولأجل هذا صار لهذا السيف شرف ومجد ، وتفرد بين سائر السيوف بأنه في يد علي الذي هو نفس النبي «صلى الله عليه وآله» .
كما أن أمير المؤمنين «عليه السلام» هو الذي كان الله ورسوله ، وجهاد في سبيله ، أحب إليه من كل شيء حتى من نفسه ؛ وجراحه الكثيرة جداً شاهد صدق على ذلك .
أما غير علي «عليه السلام» ، فقد كانت نفسه ـ بدرجات متفاوتة طبعاً ـ أحب إليه من الله ورسوله ، وجهاد في سبيله . ولأجل ذلك تخلى عن كل ذلك ، حينما رأى نفسه تلك في خطر . بل لقد هم بعضهم بأن يتخلى حتى عن دينه ، حيث قال : «إرجعوا إلى دينكم الأول»! .
بل نجد البعض يرى : أن عشيرته الكافرة أحب إليه من الله ورسوله ، وجهاد في سبيله ، ومن دينه ؛ فنراه يقول : «نلقي إليهم بأيدينا ، فإنهم قومنا وبنو عمنا» 8 .
ويلاحظ : أن أكثر ذلك الكلام قد كان من المهاجرين على وجه العموم!! . كما أن أولئك كلهم لا فتوة لهم ، ولا رجولة عندهم .
وعلي «عليه السلام» وحده هو الفتى ، لأنه يملك نفسه ، ولا تملكه نفسه ، أما هم ، فإن نفوسهم تملكهم ؛ فتهلكهم .
ولعل مما يشير إلى ما ذكرنا : أننا نجد الله تعالى يؤكد في الآيات النازلة في أحد على أنه قد كان ثمة اتجاه إلى امتحان أصحاب النبي «صلى الله عليه وآله» هؤلاء ، وتمحيصهم . ثم هو يبين لهم مدى ارتباطهم بنبيهم الأعظم «صلى الله عليه وآله» ويبين لهم : أن أمر هذا النبي «صلى الله عليه وآله» لا يهمهم ، بل هو إن مات أو قتل انقلبوا على أعقابهم .
ونحن نكتفي هنا بذكر الآيات التالية :
﴿ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ 9 .

وخلاصة الأمر : أننا نجد هؤلاء يفرون هنا ، ولا يثبت إلا علي «عليه السلام» ، ويتركون النبي «صلى الله عليه وآله» عرضة للشدائد والبلايا ، وعلي «عليه السلام» وحده هو الذي يثبت ، ويدفع عن هذا الرسول «صلى الله عليه وآله» ، ويرد عنه ، تماماً كما كان «عليه السلام» في بدر يحارب ، ثم يرجع ليتفقد الرسول «صلى الله عليه وآله» كما تقدم .
والدليل على أنهم قد أهمتهم أنفسهم ، ولم يهتموا بحفظ نفس الرسول : أننا نجدهم ـ بعد سنوات ـ لا يعنيهم موت الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» في قليل ولا كثير ، حتى لقد أخرج ابن سعد ، عن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع ، قال : جاء علي بن أبي طالب يوماً متقنعاً متحازناً ، فقال له أبو بكر : أراك متحازناً .
فقال علي : إنه عناني ما لم يعنك!! .
قال أبو بكر : اسمعوا ما يقول ، أنشدكم الله ، أترون أحداً كان أحزن على رسول الله «صلى الله عليه وآله» مني ؟! 10 .
فإن علياً لم يكن يراهم محزونين على النبي «صلى الله عليه وآله» ، ولا مهتمين بأمره ، ولا حتى حين وفاته ، بل لم يكن يعنيهم أمره أصلاً ، حتى اضطر أبو بكر إلى هذا الاستشهاد لإنقاذ موقفه . ولا بد أن يكون قد استشهد من هم على رأيه ، وعلى مثل موقفه ، من المقربين إليه .
بل نجد النبي «صلى الله عليه وآله» نفسه يلمح للصحابة : أن غيرهم يحبه أكثر منهم .
فقد روي أنه قال : إن قوماً يأتون من بعدي ، يود أحدهم أن يفتدي رؤيتي بأهله وماله 11 .
بل إننا نجده «صلى الله عليه وآله» يفضل الذين يأتون بعده ولم يروه على أصحابه ، كما يظهر من عدد من الروايات 12 .

 

الفارون في أحد

ومما يدل على أنه لم يثبت غير علي «عليه السلام» : أن من تحاول بعض الروايات التأكيد على ثباتهم لا ريب في فرارهم ، فيلاحظ التعمد والإصرار على ثبات طلحة ، وسعد بن أبي وقاص ، وغيرهما . ونكتفي هنا بذكر عبارة الشيخ الطوسي رحمه الله ، حيث قال :
«ذكر البلخي : أن الذين بقوا مع النبي «صلى الله عليه وآله» يوم أحد ، فلم ينهزموا ثلاثة عشر رجلاً ، خمسة من المهاجرين : علي «عليه السلام» ، وأبو بكر ، وطلحة ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، والباقون من الأنصار . فعلي وطلحة لا خلاف فيهما ، والباقون فيهم خلاف» 13 .
وفي نص آخر : «أفرد النبي «صلى الله عليه وآله» في تسعة ، سبعة من الأنصار ورجلين من قريش» .
ثم ذكر أن السبعة من الأنصار قد قتلوا أيضاً 14 .
ورغم ذلك كله نقول : لا ينبغي الريب في أن علياً «عليه السلام» وحده هو الذي ثبت وفر الباقون جميعاً ؛ حتى طلحة وغيره . ولبيان ذلك ، نقول :

 

فرار سعد

إن مما يدل على فرار سعد :
1 ـ ما تقدم من أنه لم يثبت سوى علي «عليه السلام» .
2 ـ عن السدي : لم يقف إلا طلحة ، وسهل بن حنيف 15 .
ولعل عدم ذكر علي «عليه السلام» بسبب أن ثباته إجماعي ، لم يرتب فيه أحد .
3 ـ وعند الواقدي : أنه لم يثبت سوى ثمانية ، وعدهم ، وليس فيهم سعد . أما الباقون ففروا والرسول يدعوهم في أخراهم 16 .
4 ـ ويعد الإسكافي ، وابن عباس ، وغيرهما من ثبت يوم أحد ، وليس فيهم سعد 17 .
5 ـ وسلمة بن كهيل يقول : لم يثبت غير اثنين ، علي ، وأبو دجانة 18 .
6 ـ عن سعد ، قال : لما جال الناس عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» تلك الجولة تنحيت ، فقلت : أذود عن نفسي ، فإما أن أستشهد ، وإما أن أنجو .
إلى أن قال : فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : أين كنت اليوم يا سعد ؟!
فقلت : حيث رأيت 19 .

 

فرار طلحة

ويدل على فراره :
1 ـ جميع ما تقدم في أنه لم يثبت سوى علي «عليه السلام» .
2 ـ ويدل على ذلك أيضاً قول سلمة بن كهيل المتقدم .
3 ـ إنتهى أنس بن النضر إلى عمر بن الخطاب ، وطلحة بن عبيد الله ، في رجال من المهاجرين والأنصار ، وقد ألقوا بأيديهم ، فقال : ما يحبسكم ؟
قالوا : قتل رسول الله .
فقال : فما تصنعون بالحياة بعده ؟! قوموا ، فموتوا على مثل ما مات عليه رسول الله «صلى الله عليه وآله» .
ثم استقبل القوم ، فقاتل حتى قتل 20 .
ويروي السدي : أنه خاف هو وعثمان أن يدال عليهم اليهود والنصارى ، فاستأذنا رسول الله «صلى الله عليه وآله» بالخروج إلى الشام ليأخذ أحدهما العهد لنفسه من اليهود ، ويأخذه الآخر من النصارى ، فرفض «صلى الله عليه وآله» طلبهما 21 .

 

فرار أبي بكر

ويدل على فراره :
1 ـ جميع ما تقدم في ثبات أمير المؤمنين «عليه السلام» . وما تقدم في فرار سعد ، ما عدا الحديث الأخير المختص بسعد .
2 ـ عن عائشة : كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد بكى ، ثم قال : ذاك كان يوم طلحة .
ثم أنشأ يحدث ، قال : كنت أول من فاء يوم أحد ؛ فرأيت رجلاً يقاتل مع رسول الله «صلى الله عليه وآله» ؛ فقلت : كن طلحة ، حيث فاتني ما فاتني ، يكون رجلاً من قومي 22 .
وحسب نص آخر ، عن عائشة ، عن أبيها : لما جال الناس عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» يوم أحد كنت أول من فاء إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، فبصرت به من بعد ، فإذا برجل قد اعتنقني من خلفي مثل الطير ، يريد رسول الله «صلى الله عليه وآله» ؛ فإذا هو أبو عبيدة .
قال الحاكم : صحيح الإسناد 23 .
ولكن ما أراده أبو بكر لم يصل إليه ، فإن طلحة كان قد فر أيضاً كما فر هو ، ولكنه فاء إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» قبله .
ثم إننا لا نستطيع أن نوافق أبا بكر على هذه الروح القبلية التي كانت تستبد به ، وتهيمن على فكره وعقله وروحه ، حتى في هذه اللحظات الحرجة والخطيرة ، حيث يتمنى أن يكون رجلاً من قومه!! .
3 ـ قال الأمير أسامة بن منقذ : لما دون عمر الدواوين ، جاء طلحة بنفر من بني تميم يستفرض لهم . وجاء أنصاري بغلام مصفر سقيم ، فسأل عنه عمر ؛ فأخبر أنه البراء بن أنس بن النضر ، ففرض له في أربعة آلاف ، وفرض لأصحاب طلحة في ستمائة ؛ فاعترض طلحة .
فأجابه عمر : «إني رأيت أبا هذا جاء يوم أحد ، وأنا وأبو بكر قد تحدثنا : أن رسول الله قتل ؛ فقال : يا أبا بكر ، ويا عمر ، ما لي أراكما جالسين ؟!
إن كان رسول الله قتل ؛ فإن الله حي لا يموت الخ . .» 24 .
4 ـ قال زيد بن وهب لابن مسعود : وأين كان أبو بكر وعمر ؟
قال : كانا ممن تنحى 25 .
5 ـ قال المظفر رحمه الله ما معناه : إنه كيف يتصور ثبات أبي بكر في ذلك اليوم الهائل ، وحومة الحرب الطاحنة التي لم يسلم فيها حتى النبي «صلى الله عليه وآله» ، فضلاً عن علي «عليه السلام» كيف يتصور ثباته في ظروف كهذه ، وما أصاب وما أصيب ، وكيف يسلم ، وهو قد ثبت ليدفع عن النبي «صلى الله عليه وآله» السيوف ، والرماح والحجارة ؟
ولا سيما مع ما يزعمه أولياؤه من أنه قرين النبي «صلى الله عليه وآله» في طلب قريش له ، حتى بذلوا في قتله ما بذلوه في قتل النبي «صلى الله عليه وآله» ثم أتراهم ينعون إصبع طلحة ، ولا ينعون جراحة أبي بكر ؟! 26 .
6 ـ روى مسلم : أن رسول الله قد أفرد في أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش 27 .
قال الشيخ المظفر : «إن أحد الرجلين علي ، والآخر ليس أبا بكر ؛ إذ لا رواية ، ولا قائل في ثباته ، وفرار سعد أو طلحة» 28 .
هذا وقد ذكر في سحِّ السحابة : أن الأنصار قد قتلوا جميعاً واحداً بعد واحد 29 .
ولكن رواية أخرى تقول : إنهم سبعة من الأنصار ، ورجل من قريش ، وستأتي الرواية حين الحديث عن عدم ثبات أحد من المهاجرين سوى علي «عليه السلام» .
7 ـ ويرد الإسكافي على الجاحظ بقوله : أما ثباته يوم أحد ؛ فأكثر المؤرخين وأرباب السير ينكرونه 30 .
8 ـ لقد رووا بسند صحيح ، عن ابن عباس ؛ في قوله : ﴿ ... وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ... ﴾ 31 : أبو بكر وعمر 32 .
قال الرازي : «وعندي فيه إشكال ؛ لأن الذين أمر الله رسوله بمشاورتهم ، هم الذين أمره بالعفو عنهم ، ويستغفر لهم ، وهم المنهزمون ؛ فهب أن عمر كان من المنهزمين ؛ فدخل تحت الآية ، إلا أن أبا بكر ما كان منهم ؛ فكيف يدخل تحت هذه الآية» 33 .
وأجابه المظفر بقوله : «إن الإشكال موقوف على تقدير ثبات أبي بكر ، وهو خلاف الحقيقة . هذا ، والآية ظاهرة في الأمر بمشاورتهم للتأليف ، كما يظهر من كثير من أخبارهم ، ومثله الأمر بالعفو عنهم ، والاستغفار لهم» 28 .

 

فرار عمر

ويدل على فراره :
1 ـ ما تقدم في ثبات أمير المؤمنين فقط .
2 ـ ما تقدم في فرار طلحة ، وما جرى بينهم وبين أنس بن النضر .
3 ـ ما تقدم في فرار أبي بكر ، في حديث فرض عمر لابن أنس بن النضر .
وكذلك ما ذكره ابن مسعود . ثم ما قاله المظفر . ثم ما قاله مسلم ، وعلق عليه المظفر . ثم ما ذكره ابن عباس ، وعلق عليه الرازي ، وأجابه المظفر .
4 ـ ما تقدم في فرار سعد .
5 ـ عن كليب قال : خطبنا عمر ، فكان يقرأ على المنبر آل عمران ، ويقول : إنها أُحُدِية .
ثم قال : تفرقنا عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» يوم أحد ؛ فصعدت الجبل ، فسمعت يهودياً يقول : قتل محمد .
فقلت : لا أسمع أحداً يقول : قتل محمد ، إلا ضربت عنقه . فنظرت ، فإذا رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، والناس يتراجعون إليه ، فنزلت : «وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل» 34 .
وفي نص آخر : لما كان يوم أحد هزمناهم 35 ، ففررت حتى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني : أنزو كأنني أروى 36 .
وفي لفظ الواقدي : إن عمر كان يحدث ، فيقول : لما صاح الشيطان : قتل محمد ، قلت : أرقى الجبل كأنني أروية 37 .
ونحن هنا لا ندري من أين جاء ذلك اليهودي الملعون ، الذي نقل عنه عمر قوله : قتل محمد!! مع أنه «صلى الله عليه وآله» قد رفض مشاركة اليهود في هذه الحرب ، كما رفض ذلك في غيرها . كما أننا لا ندري كيف نفسر تهديد عمر لهذا اليهودي بالقتل ، مع أنه هو نفسه قد فر عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، وأسلمه لأعدائه ، فأين كانت حماسة عمر عنه في الدفاع عن النبي «صلى الله عليه وآله» ضد المشركين ؟! ولم لم يقتل أحداً منهم ؟ ولا حتى طيلة السنوات العشر ، في عشرات الغزوات والسرايا التي اشترك فيها ؟! . إن ذلك لعجيب حقاً ، وأي عجيب!! .
6 ـ قال المعتزلي : قال الواقدي : لما صاح إبليس : إن محمداً قد قتل ، تفرق الناس .
إلى أن قال : وممن فر عمر وعثمان 38 .
لكن يلاحظ : أن اسم عمر قد حذف من المطبوع من مغازي الواقدي ، وأثبته المعلق في هامش الصفحة على أنه قد ورد في بعض نسخ المغازي دون بعض 39 .
فليراجع ذلك بدقة ، فقد تعودنا منهم مثل هذا الشيء الكثير!!
7 ـ وبعد أن ذكر الواقدي اعتراض عمر على رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، في قضية الحديبية ، قال عن النبي «صلى الله عليه وآله» :
«ثم أقبل على عمر ، فقال : أنسيتم يوم أحد ؛ إذ تصعدون ولا تلوون على أحد ، وأنا أدعوكم في أخراكم» ؟! 40 .
8 ـ ما سيأتي من عدم قتل خالد لعمر ، حينما كان عمر منهزماً .
9 ـ وجاءته امرأة أيام خلافته ، تطلب برداً من بُردَ كانت بين يديه ، وجاءت معها بنت له ، فأعطى المرأة ، ورد ابنته .
فقيل له في ذلك ، فقال : إن أب هذه ثبت يوم أحد ، وأب هذه فر يوم أحد ، ولم يثبت 41 .
10 ـ وقد اعترف عمر برعبه من علي «عليه السلام» حينما تبع الفارين وهو يقول لهم : شاهت الوجوه ، وقطت ، وبطت ، ولطت ، إلى أين تفرون ؟ إلى النار ؟
ويقول : بايعتم ثم نكثتم ؟ فوالله لأنتم أولى بالقتل ممن أقتل الخ . . 42 .
وقد اعترف الجاحظ بفرار عمر في عثمانيته أيضاً فراجع 43 .
11 ـ وعلى كل حال ، فإن فرار عمر من الزحف يوم أحد ، وحنين ، وخيبر ، معروف ، ويعده العلماء من جملة المطاعن عليه ؛ لأن الفرار من الزحف من جملة الكبائر الموبقة ، ولم يستطع المعتزلي أن يجيب على ذلك ، بل اعترف به ، واكتفى بالقول : «وأما الفرار من الزحف ، فإنه لم يفر إلا متحيزاً إلى فئة ، وقد استثنى الله تعالى ذلك ؛ فخرج به عن الإثم» 44 .
ولكن قد فات المعتزلي : أن ما جرى يوم أحد ، لا يمكن الاعتذار عنه بما ذكر ، لعدم وجود فئة لهم إلا الرسول «صلى الله عليه وآله» نفسه ، وقد تركوه ، وفروا عنه ، ولأن الله تعالى قد ذمهم على هذا الفرار ، وعلله بأن الشيطان قد استزلهم ببعض ما كسبوا ، ثم عفا عنهم ، ولو كان لا إثم في هذا الفرار ؛ فلا حاجة إلى هذا العفو .
هذا ، وقد حقق العـلامة الطباطبائي «رحمه الله» : أن المراد بالعفو هنا معنى عام ، يشمل العفو عن المنافقين أيضاً ، فراجع 45 .
وقد كان ثمة حاجة إلى التسامح في هذا الفرار ، لأنه الأول من نوعه ، ويأتي في وقت يواجه الإسلام فيه أعظم الأخطار داخلياً وخارجياً ، مع عدم وجود إمكانات كافية لمواجهتها ، ومواجهة آثار مؤاخذتهم بما اقترفوا . واستمع أخيراً إلى ترقيع الرازي الذي يقول : ومن المنهزمين عمر ، إلا أنه لم يكن في أوائل المنهزمين ولم يُبعِد ، بل ثبت على الجبل إلى أن صعد النبي «صلى الله عليه وآله» 46 . بارك الله في هذا الثبات ، لكن لا في ساحة المعركة ، بل فوق الجبل (!!) .
ثم إننا لا ندري ما الفرق بين أن يكون المنهزم في أول الناس أو في وسطهم ، أو في آخرهم ؟!
وما الفرق بين أن يُبعِد في هزيمته وبين أن لا يُبعِد!! .

 

فرار الزبير

وبعد هذا فلا نرى حاجة لإثبات فرار الزبير في أحد ، بعد أن عرفنا أنه لم يثبت سوى أمير المؤمنين «عليه السلام» . أو علي وأبو دجانة ، وغير ذلك من نصوص تقدمت مع مصادرها . وإن كان ثمة محاولات لإظهار الزبير على أنه فارس الإسلام ، ورجل الحرب الذي لا يبارى ولا يجارى ، حتى إننا لنجد عمر بن الخطاب يعتبره يعدل ألف فارس .
وعند مصعب الزبيري!! : أنه أشجع الفرسان ، وعلي أشجع الرجالة . بل ويدعون : أنه قد افتتح إفريقية وحده 47 .
مع أن مما لا شك فيه : أن إفريقية قد فتحت على عهد عثمان في سنة سبع أو ثمان وعشرين على يد عبد الله بن سعد بن أبي سرح!! 48 .
ونحن نعرف : أن الهدف هو إيجاد شخصيات بديلة ، أو في قبال الإمام علي «عليه السلام» الذي هو أشجع البشر بعد ابن عمه محمد «صلى الله عليه وآله» . ولكن الله يأبى إلا أن يتم نوره ، ويرد كيد الخائنين للحقيقة والتاريخ .

 

فرار عثمان

وأما عثمان ، فلا يختلف في فراره في أحد اثنان . وهو موضع إجماع المؤرخين ، وكان يعير به . وقد رجع بعد ثلاثة أيام ، فقال له رسول الله «صلى الله عليه وآله» : لقد ذهبتم فيها عريضة!! 49 .
وعن ابن عباس وغيره : إن آية : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ... ﴾ 50 نزلت بعثمان 51 .
بل في بعض النصوص : أن طلحة أراد أن يتنصّر ، وعثمان أراد أن يتهود 52 .

 

لم يثبت من المهاجرين سوى علي عليه السلام

يقول حسان بن ثابت عن الأنصار ، مشيراً إلى فرار المهاجرين :
سـماهم الله أنصاراً لنصـرهم *** دين الهدى ، وعوان الحرب يسـتعر
وجاهدوا في سبيل الله و اعترفوا *** للنائبات فمـا خـافوا ولا ضجروا
و النـاس إلب علينا ثم ليس لنا *** إلا السيوف وأطراف القــنا وزر
ولا يهـرّ جناب الحرب مجلسنا *** ونحن حين تـلظى نارها سـعـر
و كم رددنـا ببدر دونما طلبوا *** أهـل النفاق وفينا أنـزل الظـفر
ونحن جندك يوم النعف من أحد *** إذ حـزبت بطراً أشيـاعها مـضر
فما ونينا و ما خمنا ، وما خبروا *** منا عثاراً وجل الـقوم قد عثـروا 53
وأخيراً فقد تقدم : أن أبا بكر ، وسعداً ، وعمر ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير كلهم من المهاجرين .
وهناك نص يقول : إنه لم يثبت أحد من المهاجرين إلا رجل واحد ، وسبعة من الأنصار قتلوا كلهم . ولا ريب في أن هذا المهاجري هو علي «عليه السلام» ، للإجماع .
والنص هو : أخرج الإمام أحمد ، عن أنس : أن المشركين لما رهقوا النبي «صلى الله عليه وآله» يوم أحد ـ وهو في سبعة من الأنصار ، ورجل من قريش ـ قال : من يردهم عنا ، وهو رفيقي في الجنة ؟
فجاء رجل من الأنصار ؛ فقاتل حتى قتل .
فلما رهقوه أيضاً قال : من يردهم عنا ، وهو رفيقي في الجنة ؟ . .
فأجابه أنصاري آخر ، وهكذا ، حتى قتل السبعة .
فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : ما أنصفنا أصحابنا 54 .

 

سر الاختلاف في من ثبت

وبعد ، فإننا يمكن أن نفهم : أن رجعة المسلمين إلى المعركة بعد هزيمتهم لم تكن دفعة واحدة ، وإنما رجع الأول فرأى علياً ، ثم يرجع آخر ؛ فيرى علياً وأبا دجانة مثلاً ، ثم يرجع آخر فيرى خمسة ، وهكذا ؛ فكل منهم ينقل ما رآه . حتى وصل العدد لدى بعض الناقلين إلى ثلاثين .
كما أن ما يؤثر عن بعض الصحابة من مواقف نضالية ؛ لعله قد كان بعد عودتهم إلى ساحة القتال .

 

ثبات أبي دجانة

ولعل ذكر أبي دجانة في بعض الأخبار ، مرجعه ذلك . وإلا ، فإننا نجد ابن مسعود ينكر ثباته ، فقد قال : انهزم الناس إلا علي وحده . وثاب إلى النبي «صلى الله عليه وآله» نفر ، وكان أولهم : عاصم بن ثابت ، وأبو دجانة 55 .
ولكن يعكر على هذه الرواية : أنه قد جاء في المطبوع من كتاب الإرشاد للمفيد : أن أبا دجانة قد ثبت هو وسهل بن حنيف ، كانا قائمين على رأسه ، بيد كل واحد منهما سيف ليذب عنه 56 .
وثاب إليه من أصحابه المنهزمين أربعة عشر رجلاً 57 .
ونحن لا نستبعد : أن يكون أبو دجانة قد ثبت ، ولكن لا كثبات علي «عليه السلام» . وإنما حارب أولاً بسيفه ، ثم لما فر المسلمون صار يقي النبي «صلى الله عليه وآله» بنفسه ، ويترّس عليه 58 ، كما تقدم عن سلمة بن كهيل أيضاً ؛ حيث كان علي «عليه السلام» يصد الكتائب ، ويجندل الأبطال ، حتى نزل في حقه :
لا سيـف إلا ذو الفقار *** ولا فتـى إلا علـي
أو أن أول عائد إليه «صلى الله عليه وآله» هو عاصم بن ثابت كما تقدم ، فصار هو وسهل بن حنيف يذبان عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى أن كثر المسلمون .
وبعد عودة المسلمين من فرارهم أعطاه «صلى الله عليه وآله» السيف بحقه ، ومنعه عمر ، والزبير ، وأبا بكر ، عقاباً لهم ، وتقديراً واهتماماً في عودة أبي دجانة إلى ساحة الحرب ، ومجال الطعن والضرب معززاً ومكرماً .
إلا أن يقال : إن أبا بكر وعمر لم يعودا إلى الحرب بعد فرارهما أصلا ، فلا بد أن يكون عرض السيف على أبي دجانة وعليهم قد كان في المواجهة الأولى .

 

نظرة في شعر حسان المتقدم

وأمام تصريحات المؤرخين الكثيرة جداً ، والمقطوع بصحتها وتواترها ، لا يسعنا قبول قول حسان المتقدم ، الذي يقول فيه : إن الأنصار قد ثبتوا ، وينسب الفرار إلى خصوص المهاجرين .
إلا أن يكون مراده : أن المهاجرين أو أكثرهم لم يرجعوا إلى ساحة القتال ، واستمروا فوق الجبل ، والذين ثابوا إلى الحرب هم خصوص الأنصار .
ولعل كرَّة العدو عليهم قد ضعضعتهم ، فانهزموا ، ثم لما علموا بحياة الرسول «صلى الله عليه وآله» كروا على عدوهم من دون أن يصعدوا الجبل ، ولعل هذا هو الأقرب والأظهر .

 

تأويلات سقيمة للفرار

ويقول البعض هنا ما ملخصه : إن فرقة استمروا في الهزيمة حتى المدينة ، فما رجعوا حتى انقضى القتال .
وفرقة صاروا حيارى حينما سمعوا بقتل النبي «صلى الله عليه وآله» ؛ فصار همّ الواحد منهم : أن يذب عن نفسه ، ويستمر في القتال إلى أن يقتل .
وفرقة بقيت مع النبي «صلى الله عليه وآله» ، ثم تراجعت إليهم الفرقة الثانية شيئاً فشيئاً لما عرفوا أنه حي .
وما ورد في الاختلاف في العدد ، فمحمول على تعدد المواطن في القصة ؛ فقولهم : (فروا) أي بعضهم ، أو أطلق ذلك باعتبار تفرقهم 59 .
ونحن لا نريد أن نطيل في الرد على ذلك ؛ فإن ما تقدم مما دل على أنه لم يثبت إلا فلان ، أو فلان وفلان ، وأن هذا قد فر ، وذاك كذلك ، وهكذا ، يدفعه . وإلا لكان الفرار منحصراً في الثلاثة بعثمان وصاحبيه .
كما أنه لو صح ما ذكره فلا يبقى لعتاب الله لهم جميعاً بقوله : ﴿ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ ... ﴾ 60 معنى ولا فائدة .

 

لماذا كانت الهزيمة ؟!

1 ـ إن من الواضح : أن السبب الأول لما لحق بالنبي «صلى الله عليه وآله» وللهزيمة التي لحقت بالمسلمين ، وما جرى عليهم من النكبات ، والقتل الذريع ، حتى لقد قتل منهم سبعون ، وجُرحت أعداد هائلة ـ أيضاً ـ هو : أنهم عصوا ، وتنازعوا ، ففشلوا .
قال تعالى : ﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم ... ﴾ 61 62 ﴿ ... بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ... ﴾ 61 .
وتصريح القرآن بأنهم قد عصوا وتنازعوا من بعد ما كان النصر منهم قاب قوسين أو أدنى ، يكذب ما يدَّعيه البعض : من أنهم قد تخيلوا انتهاء أمد أمر النبي «صلى الله عليه وآله» ، وإن هذا اجتهاد منهم 63 .
فإنه لو كان اجتهاداً لما كان معصية ، مع أن القرآن يصرح بالمعصية . والقول بأن المراد بالمعصية : المخالفة مطلقاً ، ولو عن اجتهاد ؛ خلاف ظاهر كلمة : (عصيتم) . فالنصر كان معهم ، وحليفهم حتى تنازع الرماة ، لأن بعضهم كان يريد الدنيا ، وبعضهم يريد الآخرة .
أضف إلى ذلك : أن أمر الرسول كان صريحاً لهم في أن لا يتركوا مراكزهم ، حتى يرسل إليهم ، حتى ولو رأوهم مهزومين ، أو حتى لو رأوهم يغنمون ، ولذا قال رفقاؤهم : لا نخالف أمر رسول الله «صلى الله عليه وآله» .
فكيف يصح بعد هذا أن يقال : إنهم تخيلوا انتهاء أمد أمره «صلى الله عليه وآله» ؟! .
وهكذا ، فقد كانت معصية بعض الرماة ، وتنازعهم سبباً في كل ما نال المسلمين من كوارث ونكبات آنئذٍ ، قد أشرنا ولسوف نشير إن شاء الله الى شطر منها .
2 ـ وأيضاً ، فقد كان لاغترارهم بأنفسهم ، وبكثرتهم ، أثر كبير في حلول الهزيمة بهم ، فقد قالوا للنبي «صلى الله عليه وآله» : قد كنت في بدر في ثلاثمئة رجل ؛ فأظفرك الله بهم ، ونحن اليوم بشر كثير ، نتمنى هذا اليوم ، وندعو الله له ، وقد ساقه الله إلى ساحتنا هذه 64 .
وقد أشار الله تعالى في سورة آل عمران إلى هذا التمني للموت . فراجع الآيات 65 .
وواضح : أن الاغترار بالكثرة يُفقد العناصر المشاركة شعور الاعتماد على النفس ، ويجعلهم يعيشون روح التواكل ، واللامسؤولية .
3 ـ ثم إن الله تعالى ما زال يؤيد المسلمين بنصره ، حتى عصوا الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» ، طمعاً في الدنيا ، وإيثاراً لها على الآخرة . فكان لا بد في هذه الحالة من إعادة التمحيص لهم ، وابتلائهم ؛ ليرجعوا إلى الله تعالى ، وليميز الله المؤمن من المنافق ؛ وليزداد الذين آمنوا إيماناً ؛ لأن الإنسان ربما يغفل عن حقيقة العنايات الإلهية ، والإمدادات الغيبية ، حين يرى الانتصارات تتوالى ، فينسب ذلك إلى قدرته الشخصية .
ولأجل ذلك نجد : أنهم حين غُلبوا شكوا في هذا الأمر ، وقالوا : ﴿ ... هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ ... ﴾ 66 ؟
فجاءهم الجواب القاطع : ﴿ ... قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ... ﴾ 66 .
نعم ، لا بد إذاً من إعادتهم إلى الله تعالى ، وتعريفهم بحقيقة إمكاناتهم ، وقدراتهم . ولسوف نعود عن قريب لبحث هذه النقطة إن شاء الله تعالى .
ومن جهة ثانية ، فقد تقدم في غزوة بدر كلام هام للعلامة الطباطبائي «رحمه الله» ، وفيه مقارنة بين بدر وأحد وغيرها ، وبيان لسر الانتصار أولاً ، ثم ما ظهر من أمارات الضعف أخيراً ، فليراجع .
4 ـ وإن الانضباطية ـ خصوصاً حين يكون القائد حكيماً ، فكيف إذا كان نبياً ـ هي أساس النجاح . ولربما تكون مخالفة أفراد معدودين سبباً في دمار جيش بكامله ، كما كان الحال في قضية أحد .
5 ـ كما أن عناية الله تعالى بهم ، وتسديده لهم ، لا يعني إلغاء جميع الأسباب الطبيعية كلية ، كما لا يعني أن هذه العناية ، وذلك الإمداد مطلق غير مشروط ؛ بل هو مشروط قطعاً بالسعي من قبلهم نحو الهدف الأسمى ، والبذل والتضحيات التي تؤهلهم لأن يكونوا موضعاً لعنايات الله وألطافه ، ﴿ ... إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ 67 . أو على الأقل لا بد لاستمرار هذه العناية الإلهية من حفظ الحد الأدنى من الارتباط بالقيادة ، وتنفيذ أوامرها . وإلا لم يكن لهذه المواقف والحرب أثرها النفسي ، والاجتماعي ، والتربوي المطلوب .
6 ـ قد ظهر مما تقدم : أن الذين تركوا مراكزهم قد ظنوا ـ أو ظن بعضهم ـ : أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» سيغُلّ ، أي يخونهم ، فلا يقسم لهم .
وهذا يدل : على أن من بين هؤلاء من لم يكن على درجة حسنة من المعرفة والوعي ، ولربما الإيمان أيضاً . ولو كان كذلك ، فلا أقل من أن أخلاقياته وروحياته ، بما في ذلك الإعراض عن الدنيا والإيثار ، لم تكن بالمستوى المطلوب ، إن لم نقل : إنه منافق يظهر الإيمان لأجل مصالح يراها ، ويبطن الكفر .
ولعل الآية تشير إلى ظنهم السيء هذا ، وتقرعهم عليه بأنه : ﴿ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ... ﴾ 68 69 .

__________________

    1. شرح التجريد ص486 ، ودلائل الصدق ج2 ص357 عنه .
    2. نور الابصار ص87 ، والإرشاد للمفيد ص51 و 52 ، والبحار ج20 ص69 و 86 و 87 و 113 ، والاحتجاج ج1 ص199 و 200 .
    3. مستدرك الحاكم ج3 ص111 ، ومناقب الخوارزمي ص21 و 22 ، وراجع : إرشاد المفيد ص48 ، وتيسير المطالب ص49 .
    4. a. b. راجع مصادر ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب .
    5. راجع كتابنا : دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام ج2 بحث : الحب في التشريع الإسلامي وبحث آخر في نفس الكتاب حول : الوحدة الإسلامية أسسها ومنطلقاتها .
    6. البحار ج2 ص69 ، عن الخصال ج2 ص121 و 124 .
    7. نهج البلاغة ج3 ص74 بشرح عبده الكتاب رقم 41 .
    8. راجع : السيرة النبوية لدحلان (مطبوع بهامش السيرة الحلبية) ج2 ص33 ، وراجع : السيرة الحلبية ج2 ص227 ، والمغازي للواقدي ج1 ص280 ، وراجع : البحار ج20 ص27 وغير ذلك .
    9. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآيات : 140 - 144 ، الصفحة : 67 .
    10. حياة الصحابة ج2 ص84 ، وكنز العمال ج7 ص159 عن ابن سعد .
    11. مجمع الزوائد ج10 ص66 عن البزار ، وحياة الصحابة ج2 ص417 عنه .
    12. مجمع الزوائد ج10 ص66 و 67 عن أبي يعلى والبزار ، وأحمد ، وحياة الصحابة ج2 ص416 و 417 .
    13. التبيان ج3 ص25 .
    14. تفسير القرآن العظيم ج1 ص412 عن أحمد ، وراجع ص415 عن دلائل النبوة للبيهقي بنحو آخر .
    15. تاريخ الطبري ج2 ص201 ، ودلائل الصدق ج3 ص356 عنه .
    16. مغازي الواقدي ج1 وشرح النهج عنه ، ودلائل الصدق ج2 ص356 عن الأول .
    17. راجع شرح النهج ج13 ص293 ، وآخر العثمانية ص239 .
    18. المصدر المتقدم .
    19. مستدرك الحاكم ج3 ص26 ، ودلائل الصدق ج2 ص356 .
    20. تاريخ الطبري ج2 ص199 ، والكامل لابن الأثير ج2 ص156 ، والثقات لابن حبان ج1 ص228 ، والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص68 ، وتاريخ الخميس ج1 ص434 عن ابن اسحاق ، وسيرة ابن هشام ج3 ص88 ، والدر المنثور ج2 ص81 عن ابن جرير ، وقاموس الرجال ج2 ص125 ، ودلائل الصدق ج2 ص356 عن الدر المنثور .
    وراجع : البداية والنهاية ج4 ص34 ، وحياة الصحابة ج1 ص531 عنه . ولكن قد اقتصر في مغازي الواقدي ج1 ص280 ، وشرح النهج للمعتزلي ج14 ص286 على ذكر عمر فقط ، وتفسير القرآن العظيم ج1 ص314 ، وسيرة ابن اسحاق ص330 ، والأغاني ج14 ص19 .
    21. نهج الحق ص306 و 307 ، وتفسير الخازن ج1 ص471 ، وتفسير ابن كثير ج2 ص68 من دون تصريح بالاسم .
    22. منحة المعبود في تهذيب مسند الطيالسي ج2 ص99 ، وطبقات ابن سعد ج3 ص155 ، والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص58 ، وتاريخ الخميس ج1 ص431 ، عن الصفوة ، وابن أبي حاتم ، والبداية والنهاية ج4 ص29 عن الطيالسي ، وكنز العمال ج10 ص268 و 269 عن الطيالسي ، وابن سعد ، وابن السني ، والشاشي ، والبزار ، والدارقطني في الأفراد ، وأبي نعيم في معرفة الصحابة ، والطبراني في الكبير والأوسط ، وابن عساكر ، والضياء في المختارة . وقد صرح في مقدمة الكنز بصحة ما يعزوه لبعض هؤلاء ، وحياة الصحابة ج1 ص272 عن ابن سعد وعن الكنز عمن تقدم بإضافة ابن حبان ، ودلائل الصدق ج2 ص359 عن الكنز أيضاً .
    23. مستدرك الحاكم ج3 ص27 ، وتلخيصه للذهبي بهامش نفس الصفحة ، ودلائل الصدق ج2 ص359 عن المستدرك ، ومجمع الزوائد ج6 ص112 عن البزار .
    24. لباب الآداب ص179 ، وليراجع : حياة محمد لهيكل ص265 .
    25. الإرشاد للشيخ المفيد ص50 ، والبحار ج20 ص84 عنه .
    26. راجع : دلائل الصدق للشيخ المظفر ج2 ص360 .
    27. صحيح مسلم ج5 ص178 في أول غزوة أحد ، ودلائل الصدق ج2 ص359 ، وتاريخ الخميس ج1 ص346 عن سح السحابة .
    28. a. b. دلائل الصدق ج2 ص359 .
    29. تاريخ الخميس ج1 ص436 .
    30. شرح النهج للمعتزلي ج13 ص293 ، وليراجع آخر العثمانية ص339 .
    31. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 159 ، الصفحة : 71 .
    32. مستدرك الحاكم ج3 ص70 ، وتلخيصه للذهبي هامش نفس الصفحة ، وصححاه على شرط الشيخين ، والدر المنثور ج2 ص90 عن الحاكم ، والبيهقي في سننه ، وابن الكلبي ، والتفسير الكبير للرازي ج9 ص67 عن الواحدي في الوسيط عن عمرو بن دينار ، ودلائل الصدق ج2 ص359 عمن تقدم .
    33. تفسير الرازي ج9 ص67 .
    34. الدر المنثور ج2 ص80 ، ودلائل الصدق ج2 ص358 ، وكنز العمال ج2 ص242 عن ابن المنذر ، وحياة الصحابة ج3 ص497 عن الكنز ج1 ص238 ، وفتح القدير ج1 ص388 .
    35. لعل الصحيح : هزمنا ففررت . كما يقتضيه سياق الكلام .
    36. الدر المنثور ج2 ص88 عن ابن جرير ، وكنز العمال ج2 ص242 ، ودلائل الصدق ج2 ص358 ، وحياة الصحابة ج3 ص497 ، وكنز العمال ج2 ص242 ، وجامع البيان ج4 ص95 ، والتبيان ج3 ص25 و 26 .
    37. شرح النهج ج15 ص22 .
    38. شرح النهج للمعتزلي ج15 ص24 ، ودلائل الصدق ج2 ص358 ، وراجع : غرائب القرآن (مطبوع بهامش جامع البيان) ج4 ص113 .
    39. راجع : مغازي الواقدي ج1 ص277 .
    40. شرح النهج للمعتزلي ج15 ص24 ، ودلائل الصدق ج2 ص358 ، ومغازي الواقدي ج2 ص609 .
    41. شرح النهج للمعتزلي ج15 ص22 .
    42. البحار ج20 ص53 ، وتفسير القمي ج1 ص114 و 115 .
    43. العثمانية ص169 .
    44. شرح النهج للمعتزلي ج12 ص179 و 180 .
    45. راجع تفسير الميزان ج4 ص51 .
    46. التفسير الكبير ج9 ص51 .
    47. راجع لباب الآداب لأسامة بن منقذ ص173 ـ 175 .
    48. راجع : تاريخ الطبري وفتوح البلدان .
    49. راجع : تفسير المنار ج4 ص191 ، والجامع لأحكام القرآن ج4 ص244 ، وفتح القدير ج1 ص392 ، وتفسير القرآن العظيم ج1 ص414 ، وتفسير التبيان ج3 ص26 ، وتاريخ الأمم والملوك ج2 ص203 ، والإرشاد للشيخ المفيد ص50 ، والبحار ج20 ص84 ، والبداية والنهاية ج4 ص28 ، وشرح النهج للمعتزلي ج15 ص21 عن الواقدي لكن مغازي الواقدي المطبوع لم يصرح بالأسماء بل كنى عنها في ج1 ص277 لكن في الهامش قال : في (نسخة عمر وعثمان) ، والكامل لابن الاثير ج2 ص158 ، والسيرة الحلبية ج2 ص227 ، والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص55 ، والدر المنثور ج2 ص88 و 89 عن ابن جرير وابن المنذر ، وابن اسحاق وراجع : سيرة ابن اسحاق ص332 ، وجامع البيان ج4 ص96 ، وغرائب القرآن (مطبوع بهامش جامع البيان) ج4 ص113 ، والتفسير الكبير للرازي ج9 ص50 و 51 ، وأنساب الاشراف ج1 ص326 . وراجع عن فراره يوم أحد وتخلفه يوم بدر : محاضرات الراغب ج3 ص184 ، ومسند أحمد ج2 ص101 وج1 ص68 ، والصراط المستقيم للبياضي ج1 ص91 .
    50. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 155 ، الصفحة : 70 .
    51. الدر المنثور ج2 ص88 ، وفتح القدير ج1 ص392 ، وراجع : جامع البيان ج4 ص96 .
    52. قاموس الرجال ج5 ص169 .
    53. ديوان حسان بن ثابت ص57 .
    54. البداية والنهاية ج4 ص26 ، وحياة الصحابة ج1 ص533 ، وتقدمت الرواية عن صحيح مسلم ج5 ص178 إلا أن فيه : رجلين من قريش . وكذا في تاريخ الخميس أيضاً .
    55. قاموس الرجال ج5 ص7 . ولكن يبدو أن في الإرشاد تحريفاً ، فراجع ص50 منه ، وقارنها مع ما نقله عنه في البحار ج20 ، وقاموس الرجال .
    56. وفي ربيع الأبرار ص833 و 834 : أن عماراً كان بين يدي النبي «صلى الله عليه وآله» يذب عنه ، والمقداد كان عن يمينه «صلى الله عليه وآله» .
    57. البحار ج20 ص83 ، والإرشاد للمفيد ص50 .
    58. تفسير فرات ص24 و 25 ، والبحار ج20 ص104 و 105 .
    59. راجع : وفاء الوفاء ج1 ص292 ، وتاريخ الخميس ج1 ص430 .
    60. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 153 ، الصفحة : 69 .
    61. a. b. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 152 ، الصفحة : 69 .
    62. الحس : القتل على وجه الاستيصال .
    63. البوطي في : فقه السيرة ص261 .
    64. المغازي للواقدي ج1 ص211 ، وسيرة المصطفى ص396 .
    65. الآيات 143 و 152 و 153 من سورة آل عمران .
    66. a. b. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 154 ، الصفحة : 70 .
    67. القران الكريم : سورة محمد ( 47 ) ، الآية : 7 ، الصفحة : 507 .
    68. القران الكريم : سورة آل عمران ( 3 ) ، الآية : 161 ، الصفحة : 71 .
    69. الصحيح من سيرة النبي الأعظم (صلى الله عليه و آله) ، العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي ، المركز الإسلامي للدراسات ، الطبعة الخامسة ، 2005م . ـ 1425هـ . ق ، الجزء السابع .