فرض الراي ‬على الاخرين ‬غير مشروع

لو كان الاعتقاد بحقانية الرأي، ‬والإخلاص للفكرة، ‬مبرراً ‬مقبولاً ‬للفرض على الآخرين، ‬وممارسة الوصاية الفكرية، ‬لما حظر الله تعالى ذلك على رسله وأنبيائه. ‬فهم ‬يحملون رسالة الله للناس، ‬وهي ‬حق لا ريب فيه، ‬ولا ‬يمكن أن ‬يزايد عليهم أحد في ‬الإخلاص للحق والاجتهاد في ‬نصرته، ‬ولكن الله تعالى لم ‬يأذن لهم بفرض دعوتهم على الناس قسراً، ‬ولم ‬يسمح لأحد من أنبيائه ورسله أن ‬يمارس الوصاية والهيمنة على اتجاهات الناس واختياراتهم.‬

حيث ‬ينص القرآن الكريم على أن وظيفة رسل الله تنحصر في ‬حدود إبلاغ ‬الرسالة، ‬لا فرضها بالقوة، ‬يقول تعالى:﴿ ... فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ 1.‬
وحين ‬يرفض الناس دعوة الحق، ‬فإن الرسول ‬يتركهم وشأنهم، ‬وليس مكلفاً ‬بإجبارهم أو الضغط عليهم، ‬يقول تعالى: ﴿ ... وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ 2.‬
وقد تكررت هذه العبارة في ‬آيات القرآن الكريم ثلاث عشرة مرة، ‬كقوله تعالى: ﴿ ... فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ 3، ‬وقوله تعالى: ﴿ ... وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ 4.‬
وتنص آيات أخرى في ‬القرآن الكريم على أنه لا ‬يحق للنبي ‬أن ‬يمارس أي ‬وصاية أو هيمنة على أفكار الناس وآرائهم، ‬يقول تعالى:﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ﴾ 5.‬
والخطاب لرسول الله محمد ‬أفضل الأنبياء والرسل، ‬والذي ‬بعثه الله تعالى بأكمل الأديان وخاتمها، ‬بأن وظيفته الإلهية هي ‬الدعوة والتذكير، ‬وليس له حق السيطرة والهيمنة على من لا ‬يقبل دعوته.‬
وفي ‬مورد آخر ‬يخاطب الله تعالى نبيه محمداً ‬والذي ‬كان ‬يؤلمه رفض المشركين لدعوته واتهاماتهم الباطلة له، ‬يقول تعالى:‬ ﴿ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ﴾ 6.‬
فالنبي ‬ليس جباراً ‬يمارس الهيمنة والفرض على الناس.‬
وهو ليس مكلفاً ‬بالوصاية والرقابة عليهم ‬يقول تعالى: ﴿ ... وَمَنْ تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ﴾ 7.‬
وإذا كان الأنبياء المرسلون من قبل الله تعالى، ‬وهم ‬يحملون الحق الذي ‬لا ريب فيه، ‬لا ‬يجوز لهم ممارسة الفرض والوصاية على أفكار الناس، ‬ترى هل ‬يحق لأي ‬جهة أخرى اقتراف هذه الممارسة باسم الربّ ‬وباسم الدين؟

 

من ‬يحاسب الناس؟

ليس هناك جهة مخولة بمحاسبة الناس على أديانهم ومعتقداتهم في ‬الدنيا، ‬فحساب الخلق على الله تعالى ‬يوم القيام.‬
ففي ‬الآيات الأخيرة من سورة الغاشية، ‬وبعد حصر مهمة الرسول في ‬التذكير، ‬وأنه لا ‬يحق له الهيمنة والسيطرة على الناس ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ﴾ 5، ‬يقول تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾ 8.‬
ورغم أن بعض المفسرين اعتبر الاستثناء ﴿ إِلَّا مَنْ تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ ﴾ 9‬ متصلاً ‬بما قبله، ‬فيكون المعنى ‬لسْتَ ‬عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ‬إِلا مَن تَوَلى وَكَفَرَ ‬أن لك السيطرة على من تولى وكفر بمجاهدته ومقاتلته، ‬لكن الرأي ‬الذي ‬يتبناه مفسرون آخرون هو أن الاستثناء منفصل، ‬لا ربط له بما قبله بل بما بعده. ‬وهذا الرأي ‬هو ما ‬يتناسب مع سياق هذه الآيات، ‬ومفاد الآيات الأخرى.‬
وكما تقرر في ‬أبحاث المحققين والباحثين في ‬السيرة النبوية الشريفة، ‬فإن حروب رسول الله ‬كانت دفاعية، ‬ولم تكن لفرض الإسلام على الآخرين بقوة السيف، ‬ولذلك كان ‬يقبل منهم الجزية والبقاء على أديانهم في ‬ظل الحكم الإسلامي. ‬وتؤكد آيات أخرى في ‬القرآن الكريم على أن الله تعالى وحده هو الذي ‬يتولى حساب العباد على أديانهم ومعتقداتهم، ‬وليس الأنبياء ولا أي ‬أحد آخر منها قوله تعالى: ﴿ ... فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ﴾ 10، ‬وقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ ... ﴾ 11.‬
وفي ‬سياق آخر، ‬حين تتحدث آيات من القرآن الكريم عن تعدد الديانات واختلاف المعتقدات بين بني ‬البشر، ‬فإنها تحيل مهمة الحسم والفصل النهائي ‬بين أتباع الديانات إلى خالق البشر ‬يوم القيامة، ‬وكأن مفهوم هذه الآيات: ‬أن الحياة الدنيا هي ‬دار تعايش وتعامل بين بني ‬البشر على اختلاف أديانهم وآرائهم، ‬وليس من حق أحد منهم أن ‬ينهي ‬ويلغي ‬وجود الآخر، ‬فذلك من اختصاص الخالق وحده.‬
يقول تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ 12.‬
فهل هناك رؤية أجلى من هذه الرؤية؟ وهل هناك موقف تجاه حرية الاختيار العقدي ‬في ‬الدنيا أوضح من هذا الموقف؟
وجاء التأكيد على هذه الحقيقة في ‬موارد أخرى كقوله تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ 13. ‬وضمير هو في ‬قوله ﴿ ... هُوَ يَفْصِلُ ... ﴾ 13 ‬ضمير فصل، ‬لقصر الفصل عليه تعالى دون ‬غيره.‬
وتعالج آيات أخرى في ‬القرآن الكريم موضوع النزاعات الدينية بدعوة الناس إلى تجاوزها وتجميدها، ‬حتى لا تكون سبباً ‬للاحتراب والنزاع، ‬وأن الله تعالى سيقضي ‬في ‬هذه الاختلافات ‬يوم القيامة، ‬وسيعلم الجميع حكمه وقضاءه في ‬خلافاتهم الدينية.‬
يقول تعالى: ﴿ ... لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ 14.‬
جاء في ‬تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: ‬فاستبقوا الخيرات وهي ‬الأحكام والتكاليف، ‬ولا تنشغلوا بأمر هذه الاختلافات التي ‬بينكم وبين ‬غيركم فإن مرجعكم جميعا إلى ربكم تعالى فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون، ‬ويحكم بينكم حكماً ‬فصلاً، ‬ويقضي ‬قضاءً ‬عدلا. ‬وقد ورد ذات التعبير في ‬الآية ٤٦١ ‬من سورة الأنعام: ﴿ ... ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ 1516.

_____________

    1. القران الكريم: سورة النحل (16)، الآية: 35، الصفحة: 271.
    2. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 20، الصفحة: 52.
    3. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 92، الصفحة: 123.
    4. القران الكريم: سورة النور (24)، الآية: 54، الصفحة: 357.
    5. a. b. القران الكريم: سورة الغاشية (88)، الآية: 21 و 22، الصفحة: 592.
    6. القران الكريم: سورة ق (50)، الآية: 45، الصفحة: 520.
    7. القران الكريم: سورة النساء (4)، الآية: 80، الصفحة: 91.
    8. القران الكريم: سورة الغاشية (88)، الآيات: 23 - 26، الصفحة: 592.
    9. القران الكريم: سورة الغاشية (88)، الآية: 23، الصفحة: 592.
    10. القران الكريم: سورة الرعد (13)، الآية: 40، الصفحة: 254.
    11. القران الكريم: سورة المؤمنون (23)، الآية: 117، الصفحة: 349.
    12. القران الكريم: سورة الحج (22)، الآية: 17، الصفحة: 334.
    13. a. b. القران الكريم: سورة السجدة (32)، الآية: 25، الصفحة: 417.
    14. القران الكريم: سورة المائدة (5)، الآية: 48، الصفحة: 116.
    15. القران الكريم: سورة الأنعام (6)، الآية: 164، الصفحة: 150.
    16. نقلا عن الموقع الرسمي لسماحة الشيخ حسن الصفار حفظه الله.