من يرشد الناس الى مصالحهم الواقعية

لا يخفى ما لمفهوم البيعة تاريخياً ومفهوم الإنتخاب حديثاً من أوجه للشبه في بعض الملاكات والآثار، ولكن من الصعب دمج المفهومين في عنوان واحد، لأنهما لا يرجعان الى وحدة المتعلق في مقام الجعل والتقنين.خصوصاً أن طرق وآليات الوصول اليهما ليستا متحدتين بالتمام، ومناشىء وجودهما، وهو ما يعبر عنه بالأسباب التوليديّة،متغايرة ومختلفة حيثية وخارجاً بحسب التكوين والماهية.لذلك أعتقد أن المقارنة بين البيعة والإنتخاب إن صحت فهي منحصرة في بعض الأشكال والمحمولات الاشتقاقية.
الا أن ما يهمنا بالأمر هو هذا الخلط والتعدي والتوسع بين هذين المفهومين، بغرض المساعدة على تحقيق ما لا تناله يد السياسي الذي يبحث عن كلّ وسيلة تمكّنه من الوصول الى الحكم أو البقاء في بحبوحة السلطة.
أشير هنا الى بعض اللحاظات التي يمكن الإستفادة منها في الإضاءة على بعض جوانب الإشتباه هذا:
اللحاظ الأول: الإسقاط التاريخي الذي يدفع الناس الى إلتباس اصطلاحي ومنهجي والى إضطراب وتشويش فكري وعاطفي لجهة الإطاعة والإتباع والدفاع عمن يتم انتخابه بحيث يبدو هذا الإنتخاب وكأنّه بيعة في عنق المبايِع للمبايَع له لا يحول عنها ولا يزول.وهنا تصرفٌ زائدٌ يخرج المقترع عن حدود وإطار الإنتخاب الى ما هو أبعد من ذلك بكثير.
اللحاظ الثاني: أنّ البيعة أشبه ما تكون بالرق الإجتماعي والسياسي والديني وهي لازمة من جهة المبايع لايستطيع فسخها، وهي تقتضي منه الوفاء والطاعة. في حين أنّ الإنتخاب أشبه بالوكالة تُعطى من الناس الى أشخاصٍ لتبؤ مقام الوظيفة العامة والمسؤولية السياسية أو الإدارية.
اللحاظ الثالث: البيعة تقتضي معرفة المبايع للمبايَع له من حيث صفاته وخصائله وفضائله وكفاءته ومؤهلاته لأنها موجبة للتضحية بالدم والمال وبيع النفس.في حين أنّ الإنتخاب لا يحمل مثل هذا التوسع، وإن اُريد له أن يكون نظير البيعة في إبداء الناس الإستعداد للتضحية بالروح والدم خدمة لأهواء ساسة لا يتوقفون عن المجاهرة بالفسوق والتلاعب بمصالح الناس.
اللحاظ الرابع: إنّ إبراز الولاء القلبي والعاطفي من جهة الناس لمن يسعون لإنتخابه في راهننا، لا يلزم منه ميثاق الطاعة المطلقة وإنما يشتمل على معاني التأييد في حدود تقوية مركز المنتخب، أما تسرية ذلك الى ما يجاوز الإستعمال والمراد والظهور فإنّه يستلزم الخلف والمناقضة.
هذا، وبسبب الترابط الذي يحكم علاقة كلا المفهومين بالنظام السياسي ومن بيده مقاليد السلطة فهناك من سعى لتتأسس القضية على أساس هذا الخلط الذي يجد فيه الواحد كوة للدخول إلى عواطف الناس. وهو أمر خطير في واقع مثل واقعنا، تجتاحه العصبية ومدفوع بالغرائزية في ممارسة العمل السياسي.
بشكل واضح، فإن البيئة التي نعيش فيها على مشارف الاستحقاق الانتخابي بيئة واقعة فريسة العواطف الحادة والرخيصة، يتوسل فيها المرشحون كل وسيلة وكل إغراء في سبيل كسب المزيد من الأصوات، ومن أجل استمالة الجمهور لا إلى الأهداف العقلائية والحقانية، وإلى ما يرشدهم إلى مصالحهم الواقعية والحقيقية. وإنما على ما يقوم على عصبيات الأفراد والجماعة وأهوائهما التي تسوغ التفريق بين أبناء الوطن الواحد.
وما يؤسف له هو انجرار الناس وراء الاغراءات والمؤثرات والدعايات، ما يدّل على عدم تمتع هذه البيئات بالتربية الأخلاقية الرادعة، والحصانة الدينية الكافية التي تمنع استحواذ حواة السياسة على عواطف أكثرية الناس وجعل أصواتهم تشرى وتباع في سوق المال والوعود والدعايات والإغراءات. وما يلاحظه كل إنسان هذه الأيام، هو انعدام الكثير من الشروط والمواصفات الموضوعية والذاتية في المرشح. فنجد من لا يتحلى بالمثالية والمناقبية في الأخلاق، ومن لا يتمتع بالكفاءة والأهلية العلمية والادارية، ومن لا يحوز على الرشد السياسي، هم من يُراد أن يسودوا البلاد ويسوسوها بحيث لا نحتاج إلى إقامة الدليل بعد ذلك على ضياع مصالح المواطنين وعلى انفراط عقد الوحدة وعلى انكشاف الوطن أمام الأعداء.
فعندما تفوض الجماهير أمرها إلى من لا يتمتع بالورع عن ارتكاب الموبقات السياسية، وإلى من لا يتمتع بالحلم الذي به يملك غضبه حين الشدائد والملمّات. وإلى من لا يُحسن الولاية على من يلي من الضعفاء والفقراء، أو من هم من اتباع مللٍ مختلفة كما هو الحال في لبنان. أو إلى من لا يملك عقلاً راجحاً وخبرة قيادية وبصيرة إدارية. فعندئذٍ فلتنتظر الجماهير أوضاعاً كالأوضاع التي عشنها في السنين الماضية الأخيرة حين وليّ على اللبنانيين من لا يُحسن القيادة الا ادعاء، فتورطت البلاد في مشاكل وأزمات وفتنٍ شديدة، وأصبحت فريسة للمؤمرات والدسائس والتدخلات الخارجية.
فكيف يؤتمن على مصير وطن ومقدرات شعب حين لا يكون من يتبوأ مقام المسؤولية أميناً على وحدة الشعب ولا وفياً لمصالحه. لذلك وأمام هذا الاستحقاق وكل استحقاق على الناس أن يبحثوا عن الأشخاص الذين يمثلون القدوة والإخلاص والكفاءة والنزاهة والورع والمعرفة، وكل الشروط التي يجب توافرها فيمن يسعى لممارسة العمل السياسي.
وقد يقول قائل إنّ جميع المرشحين للإنتخابات النيابية ومن يتولون المسؤوليات العامة ومن تولاها سابقاً، جميعهم يتمتعون بالكفايات والمؤهلات المطلوبة. فإذا كان هذا القول صحيحاً فلِمَ تضيع حقوق الناس، ولِمَ فساد الوحدة الوطنية، واضطراب النظام، وتمزق اللبنانيين وتشردهم واختلافهم حتى لا نكاد نعثر على شيء متفق عليه تقتضيه المصلحة العامة1.

__________

    1. المصدر: جريدة السفير: السبت 6 حزيران 2009، العدد 11311 الموافق له 13 جمادى الأخرة 1430 هـ السنة السادسة والثلاثون لسماحة الشيخ عفيف النابلسي حفظه الله.