حكمة ديكارت الخالدة "انا افكر اذا انا موجود" (2ـ2)

ما دعاني إلى تذكر هذه المقولة الديكارتية، هو أنني وجدت أنها تعد واحدة من أقوى المقولات الفكرية معنى وفلسفة في مواجهة ظاهرة التطرف والتعصب التي باتت تمثل اخطر ظاهرة تجتاح المجتمعات العربية والإسلامية، وتنشر معها الخراب والدمار، وترتد بنا إلى ما يماثل القرون الوسطى المظلمة في أوروبا بل وأشد من ذلك، فهي الظاهرة التي ينبغي أن ينصرف لها الجهد بأنواعه كافة، الفكري والديني والفلسفي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والتربوي واللغوي والمعلوماتي، في سبيل تقويض أركان هذه الظاهرة المرعبة، وتفتيت بنيتها، وتحطيم أسسها ومرتكزاتها.
وفي هذا النطاق، يمكن الإشارة إلى العناصر والأبعاد الآتية:
أولا: إن مقولة ديكارت جاءت لكي تنبه الإنسان إلى العلاقة مع الفكر وبأعلى الدرجات، وتحويل هذه العلاقة إلى علاقة فعل ووجود، وبصورة يظهر فيها الإنسان ويرى نفسه أنه يفكر، ويمكن له المجاهرة والإعلان اللساني بالقول: (أنا أفكر)، وليس من السهل الوصول إلى هذه الدرجة، والإرتقاء إليها، والثبات عليها.
وما أجمل الإنسان أن يقول عن نفسه أنا أفكر، ويتنبه إلى ذاته بهذا المستوى من التبصر، وبهذه الصفة التفكرية، ولكن ما قلة الناس الذين يسلكون هذا الدرب، وأقل من هؤلاء من يرى نفسه أنه يفكر.
ومشكلة الذين يفجرون أنفسهم في هذا الزمان، ويبحثون عن إفناء الذات، وعبر أبشع الطرق، أنهم أناس لا يتفكرون، وليس بينهم من يقول عن نفسه (أنا أفكر)، ولو تنبه أحدهم لحظة إلى ذاته واستمع لنداء فكره، أو قال مع نفسه أنا أفكر لما أقدم على عمل هو أشبه بالعبث، وينتهي بصاحبه إلى العدم، وليس له مصير إلا الفناء.
وذلك لأن من يتفكر يمكن له أن يتبصر، ومن يتبصر لا يقدم على عمل عاقبته العدم والفناء، ولأن من يتفكر يمكن له أن يرفع عن نفسه حالة العماء، ومن يرفع عن نفسه حالة العماء لا يرمي ذاته في التهلكة.
ثانيا: إن التفكر هو فعل مستمر لا يتوقف ولا ينتهي، وليست له خاتمة إلا خاتمة الإنسان نفسه، فعبارة (أنا أفكر) هي إيذان عن اللحظة التي يتنبه فيها الإنسان إلى ذاته، ويرى نفسه في مرآة الفكر، ومن ثم فهي اللحظة التي ينشط فيها فعل التفكر عند الإنسان، ويظل فعلا مستمرا نابعا من نداء داخلي لا يتوقف، يخاطب فيه الإنسان نفسه دوما قائلا: (أنا أفكر).
ومع استمرارية فعل التفكر يصبح الإنسان متنبها دائما إلى ذاته، ومتبصرا لعواقب أعماله، وبهذا التفكر والتنبه والتبصر يمتنع الإنسان من أن يرمي نفسه في التهلكة، ومن الإقدام على عمل فيه من القبح والتوحش كحال الذين يفجرون أنفسهم بالأحزمة الناسفة، أو بالسيارات المفخخة أو غيرها من الأعمال الانتحارية القبيحة والشنيعة.
ثالثا: حينما يصل الإنسان إلى مرحلة يرى نفسه ويخاطبها قائلا: (أنا أفكر)، فهذا يعني أنه وضع نفسه تحت قيادة فكره، وأصبح الفكر قائده وموجهه ورسوله الداخلي، والنور الذي يبصر به، وليس هناك قائد ومرشد أبصر للإنسان من الفكر الصافي.
وجاء في الأثر ما روي عن الإمام علي (ع) في كلماته القصار قوله: (الفكر يفيد الحكمة، الفكر جلاء العقول، الفكر ينير اللب، الفكر رشد، الفكر إحدى الهدايتين، الفكر يوجب الاعتبار ويؤمن العثار، ما ذل من أحسن الفكر، أصل العقل الفكر وثمرته السلامة، بالفكر تنجلي غياهب الأمور، إذا قدمت الفكر في جميع أفعالك حسنت عواقبك في كل أمر، كل يوم يفيدك عبرا إن أصحبته فكرا).
ومن وضع نفسه تحت قيادة فكره، لا تحت قيادة غرائزه وعواطفه وأهوائه ونفسه الأمارة بالسوء، فإنه لا يرمي نفسه في التهلكة، ولا يقدم على عمل قبيح فيه إفناء الذات، وفيه سفك الدماء، وازهاق الأرواح، وتخريب الممتلكات.
رابعا: من حكمة مقولة ديكارت أنها جاءت بصيغة المخاطب الفرد (أنا أفكر)، ومن يخاطب نفسه بهذا النداء فإنه لا يقبل أن يجمد فكره ويعطله ويندك في فكر الآخرين، وينسحق ولا يرى ذاته، ولا يرضى أن يكون مسيرا وتابعا في فكره، لأنه لا يرى نفسه حينئذ قاصرا وعاجزا وفاقدا للرشد.
فأنا أفكر يعني أن يمتلك الإنسان فكره، ويصبح وصيا على فكره، وسيدا على نفسه، لا أن يملك فكره إلى غيره، ويجعل من غيره وصيا على فكره وسيدا على نفسه، فالتبعية والتقليد لا تصح ولا تجوز في منطق الفكر، ومن يقدم على هذا الاختيار فإنه ينتقص من فكره وعقله وكرامته، لأن فيه شعورا بالدونية، وإحساسا بالقصور، وركونا إلى العجز، وخلودا إلى الكسل.
وقد ذم القرآن الكريم هذه الحالة وصورها لنا بوجهين، الوجه الأول في حالة العجز والقصور، والوجه الثاني في حالة التبعية والإتباع، عن الوجه الأول قال تعالى:﴿ ... صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ 1، وعن الوجه الثاني قال تعالى:﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ 2.
ومشكلة الشباب الذين ألقوا بأيديهم إلى التهلكة، وفجروا أنفسهم انتحارا، أنهم ملكوا فكرهم إلى غيرهم، وسمحوا لأنفسهم بأن يسيطر الآخرون على فكرهم، فأصبحوا مسيرين، لا سلطة لفكرهم على أنفسهم، فأقدموا على ما أقدموا عليه من أعمال شنيعة تعجيلا في إفناء الذات، ورغبة في القتل وسفك الدماء.
خامسا: بين الناس هناك من يحاول أن يثبت وجوده في الحياة من خلال طرق عدة، منها المال والإعلام والسلطة والجاه والوجاهة وغيرها، لكن هناك من يحاول أن يثبت وجوده عن طريق الفكر، وحسب المقولة الديكارتية فإن الإنسان موجود بفكره، متى ما فكر استطاع أن يثبت وجوده، ومن يصل إلى الدرجة التي يستطيع فيها القول: (أنا أفكر)، عند هذه الدرجة يمكن أن يقول: (أنا موجود).
فالإثبات الحقيقي للوجود إنما يحصل عن طريق القدرة الذاتية الخلاقة عند الإنسان، ويتحدد في طريق الفكر الذي يلهم الإنسان الرشد والحكمة والتبصر، وليس عن طريق القدرة الخارجية التي تتغير وتزول كالمال والسلطة والجاه والوجاهة وغيرها.
سادسا: عن طريق الفكر يضمن الإنسان لنفسه وجودا لا يمحى في التاريخ، وجودا يكون ممتدا وعابرا بين الأمكنة والأزمنة، وبين الأمم والمجتمعات، نظير ذلك الوجود الذي اكتسبه أفلاطون وأرسطو في تاريخ الفكر اليوناني القديم، وابن سينا وابن رشد في تاريخ الفكر الإسلامي الوسيط، وديكارت وكانت في تاريخ الفكر الأوروبي الحديث، وهذا هو الوجود الحقيقي الذي يبرهن على حكمة ديكارت الخالدة (أنا أفكر إذا أنا موجود)3.

    1. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 171، الصفحة: 26.
    2. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 170، الصفحة: 26.
    3. الموقع الرسمي للأستاذ زكي الميلاد و نقلا عن صحيفة اليوم، الأحد 4 جمادى الآخرة 1437هـ/ 13 مارس 2016م، العدد 15621.