التحدي مصنع الحضارة

ربما يسأل سائل : لماذا أُوتينا السمع والبصر وسائر الحواس ؟ وهنا يأتي الجواب مباشرة : لكي نكيّف حياتنا مع الطبيعة المحيطة بنا ؛ فلولا البصر لتعثّر الإنسان في كل يوم ألف عثرة وعثرة ، ولسقط في كل حفرة ، وارتطم بكل جدار ، ولولا السمع لما استطاع الإنسان أن يفهم ما يريده الآخرون منه ، وأما حاسة الذوق فمن خلالها نتذوق الأشياء ، ونميز بين ما هو لذيذ وغيره ، وبين الضار والنافع . وكذلك الحال بالنسبة إلى الخلايا الحسيّة في الجلد ؛ فهي التي تشعرنا بالبرد والحر ،ولولاها لمات الإنسان لأنه في هذه الحالة سوف لا يشعر بهما ، وبالتالي فإنه سوف لا يبادر إلى التوقّي منهما .

 

عدم التكيف يعني الانقراض‏

إن هذه الحواس التي منحها اللَّه تعالى إيّانا إنما هي من أجل أقلمة وتكييف أنفسنا مع الطبيعة من حولنا ، وفي حالة عدم‏ استخدام الإنسان وتجاهله لهذه الحواس فإن حاله سيكون سواء مع الجماد . فالإنسان الذي يمتلك عينين بصيرتين ثم‏يمشي ولا ينظر إلى سبيله ، فعند سقوطه في حفرة فإنه سيكون أشدّ عمىً من أي أعمى ، وكذلك الذي أوتي السمع ثم‏يتجاهل الخطر الآتي بالصوت والسماع فإنه أكثر صمماً من الأصم . وهكذا الحال عندما يسمع ما فيه خير وهدىً له ثم‏يسدّ أذنيه فإن حاله سيكون كحال أي جماد أو نبات ، بل هو أكثر ضلالاً وبعداً عن الهدى من الأصمّ . فكلّما كانت قابلية التكيف ، والقدرة على التأقلم لدى الإنسان مع الطبيعة والحياة أكثر ، كلّما استطاع هذا الإنسان أن يحفظ نفسه ، ويقيها الأخطار ، ويدفع عنها المشاكل والصعاب .
ومن هذه الحقيقة الموضوعية تنبثق الحضارات ، وتنطلق في مسيرها نحو التقدم لدى جماعة من الناس ، بينما ينهار آخرون ويضمحلّون أمام الأخطار ، وبكلمة بسيطة فإن حضارة الإنسان إنما هي وليدة قابليته وقدرته على التكيف مع ‏الظروف المحيطة به .

 

مثال من التاريخ‏

ولنضرب مثلاً على ذلك من واقع التاريخ ؛ ففي الهلال الخصيب ( بلاد الرافدين والشام‏ ) كان الإنسان يعتمد في زراعته على الديم ؛ أي الأمطار . فالأرض خصبة ، ومياه الأمطار متوفّرة ، ولكن وبمرور الزمن حدثت تغيرات‏جوية سببت موسمية الأمطار ، وانحسار كمياتها ، فلم يكن أمام المزارع في هذه الأرض سوى طريقين ، عليه أن يختار أحدهما ؛ إما أن يجلس في بيته ويستسلم لخطر الجفاف الذي يهدد حياته ، وإما أن يستمرّ في ممارسة الزراعة ، ويتحدى‏بذلك الأخطار الطبيعية . ولكن ابن هذه الأرض اختار السبيل الثاني ، فراح يعتمد طريقة الإرواء ، وتنظيم قنوات‏المياه ، ولعلّ الحضارة الأولى التي أقيمت في الكرة الأرضية كانت في هذه المنطقة كما يستشف من المعلومات والآثار والاكتشافات التاريخية ، فإنسان بلاد الرافدين استطاع بهذا الأسلوب أن يتحدى أخطار الطبيعة ، ويبني الحضارة والوجود الإنساني .

 

مثال من الحاضر

واليوم تواجه بعض بلدان أفريقيا مشكلة تهدد الوجود الإنساني فيها ، ألا وهي مشكلة الجفاف أو ما يسمى ‏بـ ( التصحّر ) ؛ فقد غدت هذه الظاهرة شبحاً لا يقّل خطراً عن الآفات الزراعية التي تقضي على المحاصيل‏والنباتات ، فقد راح هذا الأخطبوط يزحف نحو الأراضي والمقاطعات الزراعية ، حيث تشير الإحصائيات إلى أن‏عشرات الكيلو مترات المربّعة من الأراضي الخصبة تتعرّض للجفاف سنوياً .

 

ترى كيف تُعالج هذه المشكلة ؟

إن بعضاً من بلدان أفريقيا تحدّى هذا الخطر بأن قام بإنشاء غابات اصطناعية يمكنها أن تتصدّى لظاهرة التصحّر وزحف الكثبان الرملية المتحركة نحو المناطق المستغلّة زراعياً ، وقد نجحت في ذلك بالفعل . وفي المقابل نرى أن البعض‏من هذه البلدان ـ وربما بسبب أنظمتها التي لا تهتم بشعوبها ، وتعمل على إبقائها استهلاكية غير إنتاجية ـ يستسلم لمخاطر الجفاف والتصحّر ، الأمر الذي يؤدّي إلى حدوث المجاعات وسوء التغذية .
والمستفاد من هذه الحقائق المعاشية أن اللَّه سبحانه وتعالى منح الإنسان عقلاً ، وزوّده بالحواس ، ويبقى عليه ـ أي على‏الإنسان ـ أن يعرف كيف يستغلّ هذه النعمة في مواجهة وتحدي الأخطار المحدقة به .
وفي هذا المجال يحدثنا التاريخ بأن كائنات تتمتع بالوعي والإحساس كانت تعيش على هذه الأرض قبل هبوط الإنسان عليها ، وقد كانت هذه المخلوقات تشبه البشر ، وتتمتع بالحواس كما هو الحال لدى الإنسان ، ولكن كانت لهم‏ملامح خاصة به ، وكان عيبهم أنهم لم يكونوا قادرين على مقاومة الأخطار ولذلك تعرضوا للانقراض .
والتاريخ العلمي يضرب لنا مثلاً على هذه المخلوقات فيقول : إنهم لم يكونوا يفكرون ببناء بيت ، أو يتوجّهوا نحو الكهوف‏عند نزول المطر ، بل كانوا يحفرون حفراً في الأرض ، ويدخلونها ، وبسبب برودة الجو فيها ، وانعدام وسائل التدفئة فإنهم‏كانوا يموتون فيها ، وبذلك انقرض هذا النوع من الكائنات ، ولعل السبب في انقراض هذه الأحياء وغيرها من‏الحيوانات كالديناصورات يعود إلى ضعف التحدي لديهم . من هذا المجال يقول تاريخ الأحياء : إن الدايناصورات‏ والأنواع المنقرضة الأخرى كانت قوة إبداء ردود الفعل لديها ضعيفة .

 

لا خير فيمن لا يتحدى‏

وهنا نعود لنتحدث عن الإنسان الذي يقول عنه رسول اللَّه‏صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن اللَّه حرم الجنة على كل فاحش بذي ، قليل الحياء ، لا يبالي ما قال ولا ما قيل له ، فإنك إن فتشته لم تجده إلا لغية أو شرك شيطان‏ ) 1 ، فمثل هذا الإنسان لا قيمة له ، لأنه لا يفكر ، ولا يظهر رد فعل إزاء ما يقال فيه ، فلابد لابن آدم من غيرة وهمّة ، وإلا فما هي ميزته ‏عن الحيوان ؟
وفي الحقيقة فإن هذا النموذج من البشر متواجد في كل المجتمعات ، فعندما تُشْتَم مقدساته ويُساء إليها تراه ضعيف‏الإرادة خائر العزيمة ، لا أبالياً ، سرعان ما يتراجع ويستسلم ويدخل في نفق التبريرات .
وإذا ما دققنا النظر فإننا سنلمس حقيقة أن حالة الإنسان النفسية والروحية إذا انعدمت فيها تلك الخصال الحميدة ، وهي الغيرة وروح التحدي ، ومقاومة الأخطار المداهمة ، فلا جدوى بعد ذلك من التضحيات والمزيد من العطاء والدمار . أما إذا توفّرت فيه تلك الخصال ، فإنه ومن خلال مبادرته إلى التحدي سيكون بمقدوره منذ أول مرة أن يبعد العدو ويجنّب نفسه المخاطر دون أن تكون هناك حاجة لأن يبذل المزيد من التضحيات والعطاء .

 

التحدي سبيل الحضارة

إن العامل الذي يغير وجه حياة الإنسان ويرتقي به إلى الحضارة ، هو التحدي والإرادة ، والثقة بالنفس . وفي هذا الإطار يذكر التاريخ أنه في عهد آل عثمان قام وفد تركي بزيارة إلى فينا ، وكان هذا الوفد يتألف من خمسين خبيراً اطلعوا على‏ما يجري هناك من تقدم ، ورأوا بأم أعينهم عظمة ذاك التقدم ، ولكنهم كانوا فاقدين للغيرة والحمية ، فرجعوا إلى بلادهم ‏ميتي الإرادة ، عديمي الثقة بالنفس ، ولم يعملوا على تغيير واقعهم المرير ، واستمروا على ذلك الحال الذي يرثى له ، ولذلك‏استطاع الأوروبيون غزو الإمبراطورية العثمانية المترامية الأطراف ، فتقاسموها فيما بينهم ، وسبّبوا تلك المآسي التي‏مازلنا نعاني من آثارها إلى اليوم .
إن السبب الحقيقي في هزيمتنا لا يعود إلى قوّة الغرب وتقدمه فحسب ، بل ربّما يكون النصيب الأوفر منه عائداً إلينا نحن ؛ فالكل له نصيب في التقصير ، وما نعانيه اليوم ونقاسيه ما هو إلا حصيلة التقاعس وانعدام الإرادة والاهتمام ، فالجميع قد قصّر بحق هذه الأمة المطعونة من كل جانب .
ترى بماذا نختلف عن اليابانيين الذين كانوا هم أيضاً متخلفين وجاهلين بأنواع العلوم والتكنولوجيا ؟ إن السر يكمن في‏أنهم اتصلوا بالغرب ، واطّلعوا على الاكتشافات العلمية التي توصّل إليها ، فأخذوا هذه التكنولوجيا ، والمعرفة العلمية المتقدمة ، حتى أصبحت اليابان اليوم المنافس الأول للبلدان الغربية ، بل وربما فاقتها بالتقدم العلمي والتقني ، إذ استطاع‏اليابانيون أن يصنعوا عقولاً إلكترونية بإمكانها إجراء مائتي مليون عملية حسابية خلال ثانية واحدة .
فيا ترى ماذا ينقصنا نحن الذين نستورد من الغرب حتى إبرة الخياطة ، ولم كل هذا التخلف والانهزام ؟ فاليابانيين لم ‏يصلوا إلى تلك الدرجة من التقدم والحضارة عبر البترول .

 

حاجتنا إلى التحدي و التصدي‏

إن السبب الحقيقي هو الإرادة والتحدي لا غير ، وهذه الصفة هي التي تنفعنا ، وبسبب عدم وجودها فينا ، حشرنا في‏زاوية المتخلّفين . فنحن بحاجة إلى تلك الإرادة ، وذلك التحدي والهمّة والغيرة التي كان أسلافنا يتمتعون بها في العصور السابقة ، وأما أحرى بنا أن نقرأ قول الإمام علي‏ عليه السلام ونستوعبه عندما يقول في خطبته الجهادية المعروفة : ( واغزوهم قبل أن يغزوكم ، فو اللَّه ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا ) 2 .
فكيف يمكن للإنسان أن يركن إلى الجلوس في بيته تاركاً العدو يغزوه ، ويدخل عليه بلاده ، أو ليس هذا العدو سيدخل‏البيت بعد أن يدخل البلاد ؟
إن روح الإسلام هي روح التحدي ، وعلى سبيل المثال ، كان رسول اللَّه‏صلى الله عليه وآله وسلم يأمر السرية بأن تهاجم قافلة قريش‏خلف مكة ، والمسافة آنذاك بين مكة والمدينة كانت شاسعة قياساً بوسائط النقل آنذاك ، ومع ذلك لم يترددوا من تنفيذ هذه المهمة ، فراحوا يداهمون قوافل قريش التجارية ، كخطوة لفرض لحصار الاقتصادي على المشركين ، ومن ثم عادوا إلى المدينة المنورة مع الغنائم!
إن هذا هو إحساس التحدي والعطاء ، والشعور بالمبادرة ، والغيرة ، والنظرة الى المستقبل البعيد . . إن أعداءنا يزعمون‏الآن أن بإمكانهم بدء الهجوم المضاد علينا حسب تحليلهم ونظرتهم إلى أوضاعنا ؛ فالمستكبرون كانوا قد أصيبوا بالهزيمة النفسية بالإضافة إلى الهزيمة السياسية من خلال التراجع أمام المدّ الإسلامي عند انطلاقته ، ولكنهم بدؤوا اليوم‏بوضع حسابات جديدة وفق تصوّر وتحليل تبلورا في أذهانهم .
ونحن علينا أن نتحدى ونقاوم كل هذه الحسابات والمخططات الجديدة من خلال الإمساك بزمام المبادرة ، وعدم ‏الاستلام والضعف والهزيمة وخوار الهمة ، لأن استسلامنا يعني ـ بالتأكيد ـ موتنا ، واندثار قيمنا ومبادئنا وحضارتنا ، وهذه سنة إلهية لا تغيير ولا تبديل فيها 3 .

____________

    1. بحار الأنوار : ‏60 / ‏207 .
    2. نهج البلاغة ، خطبة رقم ‏27 .
    3. كتاب : الحضارة الإسلامية ـ آفاق و تطلعات ، الفصل الثاني : في سلوك الحضاري .