صراط الحق الجزء ١

صراط الحق0%

صراط الحق مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 296

صراط الحق

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمّد آصف المحسني
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: الصفحات: 296
المشاهدات: 124869
تحميل: 6548

توضيحات:

الجزء 1
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 296 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124869 / تحميل: 6548
الحجم الحجم الحجم
صراط الحق

صراط الحق الجزء 1

مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

علم الكلام

صراط الحق

في المعارف الإسلامية والأُصول الاعتقادية

بقلم: محمّد آصف المحسني

الجزء الأوّل

١

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

٣

٤

هذه طبعة ثالثة لهذا الكتاب، قام بها الخيّر الموفّق السيد يعقوب - أيّده الله تعالى لخدمة الدين وأهله - صاحب مكتبة ذوي القربى.

بإجازتي، وأرائي الجزء الأوّل بعد طبعة ووجدته جيداً مرغوباً فيه، وأصلحت بعض أخطائه المطبعية الباقية وغيّرت بعض مطالبه زيادةً ونقصاً، بمقدار قليل.

أسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبّل منه ومني أَوّلاً، ثمّ أسأله أن يجعله نافعاً لأهل العلم طلاّب الحقيقة.

المؤلّف المحتاج إلى رحمة ربّه وغفرانه  

أفغانستان - كابل        

شعبان المعظّم سنة 1427 هـ. ق  

الشهر السادس سنة 85 / 13 هـ. ش

٥

الإهداء

أهدي كتابي هذا إلى ساحة خاتم الأوصياء، وقائم الأولياء، ولي العصر، وناموس الدهر، الحجّة ابن الحسن - عجّل الله تعالى فرجه الشريف وجعلنا من أعوانه - قائلاً لحضرته الكريمة متضرّعاً ومتواضعاً:

( يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ ) بمحض فضلك ( وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ) بقبولها واجعلها ذريعةً إلى انتفاع روّاد العلم وهواة الحق ( إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ) .

٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الملهم عباده الحمد، وفاطرهم على معرفة ربوبيته، الدال على وجوده بخلقه، وبحدوث خلقه على أزليته، وباشتباههم أن لا شبه له، المستشهد بآياته على قدرته وعلمه وحكمته، الممتنع من الصفات ذاته، ومن الأبصار رؤيته، ومن الأوهام الإحاطة به، لا أمد لكونه، ولا غاية لبقائه.

والصلاة والسلام على سيدنا وسيد العالمين محمد خاتم المرسلين، وعلى آله الأئمة المعصومين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

المطالب الحاضرة في هذا الكتاب، هي غاية ما وصل إليها فكري من طريق البرهان العقلي والاستدلال النقلي، على ضوء الإنصاف، ونمط الاعتدال، من غير حماية فئة، أو التعصّب على طائفة، بل ركنت إلى ما قادني إليه الدليل حينما رفضت التقليد، فإنّ (الحق لا يُعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله).

فإن أصبت الواقع فالله أشكر ولا أفتخر، وإن أخطأته فإيّاه استغفر وإليه اعتذر.

لكن الرجاء من دائم فضله أن يتقبّل هذا العمل مني، وينفع به المسترشدين، ويهدي به الضالين، إنّه قريب مجيب، وإنّه أرحم الراحمين.

٧

٨

مدخل

الفائدة الأُولى: في تعريف علم الكلام، وموضوعه، وغرضه وغيرها

الفائدة الثانية: في وضع الكلام

الفائدة الثالثة: في بيان الأدلّة

الفائدة الرابعة: في وجوب النظر

الفائدة الخامسة: في جواز التقليد بشرط

الفائدة السادسة: حول الجاهل القاصر في المعارف الاعتقادية

الفائدة السابعة: في الأمر المولوي والإرشادي

الفائدة الثامنة: في تقسيم المفهوم

الفائدة التاسعة: في خواص واجب الوجود

الفائدة العاشرة: في خواص الممكن

الفائدة الحادية عشرة: في امتناع الدور والتسلسل

٩

مدخل

لا بدّ لنا من تقديم فوائد جليلة هامّة أمام المقاصد؛ لِما بينهما من تمام الارتباط وكمال الاتّصال.

١٠

الفائدة الأُولى

في تعريف علم الكلام، وموضوعه، وغرضه وغيرها

قال الفيّاض اللاهيجي في گوهر مراد ما هذا محصّله: إنّ علم الكلام اعتبر على وجهين:

الأَوّل: كلام القدماء، وهو صناعة يقتدر معها على محافظة أوضاع الشريعة، بدلائل مؤلّفة من المقدّمات المسلّمة المشهورة بين المتشرعة، سواء انتهت إلى البديهيات أم لا.

الثاني: كلام المتأخرين، وهو علم بأحوال الموجودات على نهج قوانين الشرع، واحترزوا بالقيد الأخير عن علم الحكمة؛ لعدم اعتبار موافقة الشرع في مفهومها. انتهى.

وقال في المواقف: الكلام علم يقتدر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه.

وعرّفه في الشوارق: بأنّه صناعة نظرية يقتدر بها على إثبات العقائد الدينية.

أقول: التعريف الأَوّل باطل؛ إذ كل علم لا تنتهي مسائله إلى البديهيات، أو إلى ما في حكمها لا يعتنى به.

وأمّا الثاني فسيأتي أنّ القيد المذكور فاسد، فهو تعريف للحكمة دون الكلام.

وأمّا الأخيران فيرد عليهما أنّ مسائل العلم هو نفس العقائد الدينية، وأمّا الصناعة المذكورة فهي من المبادئ التصديقية كما بُيّن في المنطق، ومفاد التعريفين المذكورين هو عكس ذلك.

ثمّ إنّ المراد من الإثبات فيهما، هو الإثبات على الغير دون التحصيل كما صرّح به الجرجاني واللاهيجي، قال الأَوّل في شرح المواقف: العقائد تجب أخذها من الشرع وإن استقل بها العقل، وهو كما ترى؛ ضرورة أنّ جملةً من العقائد ممّا يتوقّف عليه الشرع فيدور هذا، مع أنّ الإثبات على الغير لا يمكن إلاّ بعد التحصيل، ولا موطن له إلاّ علم الكلام.

فالصحيح أن يقال في تعريفه: إنّه مسائل مشتملة على العقائد الدينية الحاصلة من أدلتها اليقينية، وأمّا ما قيل من أنّه علم يبحث فيه عن أحوال المبدأ والمعاد فهو غير متين، فإنّ العلم غير دخيل في مفهوم الكلام، فإنّه مسائل متشتتة جمعها موضوع واحد، أو غرض واحد علم بها عالم أو لا، وتخصيص المعاد بلا مخصّص ظاهر.

وأمّا موضوع هذا العلم ففيه أقوال ثلاثة:

١١

أحدها: ما نُسب إلى المتقدّمين من علماء الكلام، من أنّه الموجود بما هو موجود، لكن من حيث كونه متعلّقاً للمباحث الجارية على قانون الإسلام؛ ليمتاز الكلام عن الفلسفة الإلهية (1) .

ثانيها: ما نُقل عن أكثر المتأخرين من أنّه المعلوم من حيث يتعلّق به إثبات العقائد الدينية (2) . قال في المواقف (3) تعلّقاً قريباً أو بعيداً، والأَوّل مثل مباحث التوحيد وصفات الله وأفعاله، والثاني ما يتوقف عليه هذه الأُمور كمباحث الأُمور العامة والطبيعيات.

وإنّما عدلوا عن لفظ الموجود إلى المعلوم؛ ليدخل في العلم مباحث العدم بناءً على رأي مَن ينكر الوجود الذهني، ومباحث أُمور لا يتوقف أحوالها على وجودها خارجاً كما يقال: النظر الصحيح يفيد العلم أم لا؟ ونحو ذلك. ثالثها: ما نُقل عن بعضهم (4) من أنّه ذات الله سبحانه.

أقول: لا بأس بالقول الأَوّل بناءً على دخول مباحث الأُمور العامة وغيرها في العلم، والتزام الاستطراد فيما لا يرجع إلى أحوال الموجود، غير أنّ ما جعلوه مميّزاً للكلام عن الفلسفة واهٍ جداً، بل لا فرق حينئذٍ بينهما من جهة الموضوع أصلاً.

بيان ذلك: أنّ مسائل الكلام إمّا ما يتوقّف عليه إثبات الشريعة، مثل مباحث إثبات الصانع، وعلمه وقدرته، وامتناع القبح عليه، وإثبات النبوّة ونحوها، وإمّا ما لا تتوقّف عليه فإنّه يستلزم الدور، وأمّا القسم الثاني فإن كان ممّا يدركه العقل ويستقل ويستنكف عنه، بل هو مجبول على اتّباعه فطرةً، فإن وُجد هنا ظاهر نقلي منافٍ لهذا الحكم العقلي، فلا ريب في لزوم تأويله، كما هو المتداول في الكلام والتفسير وغيرهما؛ وسرّ ذلك أنّ الشريعة أُسست من قبل المحيط بجميع الواقعيات، فلا تضاد العقل في أحكامه الصادقة، فنعلم أنّ الإرادة الجدّية من هذا الظاهر غير موافقة للإرادة الاستعمالية البتة.

وإن شئت فقل: إنّ حجّية النقل بالعقل وطرح الأصل لأجل الفرع غير معقول؛ فإنّه ينجر إلى سقوط الفرع وهذا خلف. وأمّا معارضة النقل القطعي مع حكم العقل الجزمي، فهذا غير ممكن ثبوتاً كي نبحث عنه إثباتاً، ولا يُظن بعاقل أن يدعي ذلك في مورد.

وإن لم يكن ممّا يدركه العقل، فإن ثبت بدليل قطعي من الشرع فنعتقد به؛ ضرورة حكم العقل بلزوم تصديق المعصوم عن الكذب والسهو، فهو مثل المستقلاّت العقلية في القبول إلاّ أنّه

____________________

(1) الشوارق 1 / 7.

(2) المصدر نفسه / 10.

(3) المواقف 1 / 26.

(4) لاحظ نفس المصدرين.

١٢

إدراك إجمالي للعقل، بمعنى أنّ العقل يصدّقه وإن لم يحط بوجهه تفصيلاً.

ثمّ إنّ الصحيح هو صحّة حصول القطع من الأدلة النقلية، كما هو واقع وجداناً، فإنكاره - كما عن المعتزلة وجمهور الأشاعرة (1) - لا يستحقّ الجواب، بل لا يُظن بهم أيضاً الالتزام به، كما لا يخفى على الناظر في مسائل العلوم الشرعية، وإن لم يثبت بدليل قطعي بل بدليل ظني، فإن كان الظن المذكور حاصلاً من غير الطرق المنصوبة شرعاً، فهو لا يغني من الحق شيئاً فلا عِبرة به، وإن كان من الطرق الشرعية، فإن كان المورد ممّا اعتبر الشارع العلم في صحة الاعتقاد به، فلا يعتنى بالظن المذكور، وإلاّ فالأظهر - خلافاً لِما نُسب إلى المشهور - هو حجية الظن المذكور، وجواز الاعتقاد بمتعلّقه، كما يأتي في آخر الفائدة الثالثة. وهذا الذي ذكرناه ممّا لا يمكن الشك فيه لمسلم، متكلماً كان أو حكيماً، فأين فائدة هذا القيد؟ وما هو الفارق بين العلمين؟ على أنّ القيد المذكور ممّا لا دخل له في عروض العوارض على الموجود فلا يصح أخذه في الموضوع، وإلاّ فتصبح العوارض المذكورة أعراضاً غريبة له، وإذا لم يصح ذلك فلا يكون وجهاً للامتياز، فإنّه عندهم بتمايز الموضوعات، والحيثية المذكورة راجعة إلى البحث دون الموضوع كما عرفت. والصحيح أنّ الفرق بين العِلمينِ من ناحية الغرض؛ حيث إنّ المتكلم يبحث لأجل معرفة العقائد الدينية، والفلسفي لأجل معرفة حقائق الأشياء عقلاً؛ ولذا عُنونت في الكلام مسائل اعتقادية غير مذكورة في الفلسفة؛ لعدم إدراك العقل لها تفصيلاً، ولعلّه واضح.

وعلى الجملة: لابدّ من انتهاء جميع المباحث الكلامية إلى البديهيات والقطعيات وإلاّ لا اعتبار بها، ومن هنا ينقدح أنّ طعن صاحب الشوارق (2) على هذا العلم بقوله: إنّ الاعتماد على الدلائل الكلامية من حيث هي كلامية غير مجدٍ في تحصيل العقائد الدينية، بل جدواها إنّما هو حفظ العقائد إجمالاً على العقول القاصرة - الغير القادرة على البلوغ إلى درجة اليقين التفصيلي، والتحقيق التحصيلي - غير وارد، بل هذا منه ومن غيره إفراط في القول، وزلة جمع من الكلاميين في عدة من المسائل لا تضرّ بالعلم نفسه، كما أنّ أغلاط قوم من الفلاسفة لا تُحسب على الفلسفة كما لا يخفى.

وأمّا القول الثاني فهو يساوق إنكار الموضوع من أصله؛ ضرورة أنّ المعلوم عنوان انتزاعي لا تأصّل له خارجاً، كيف ولا يعقل الجامع التأصلي بين الوجود والعدم، إلاّ أن يلتزم بتعدّد العلم المذكور حسب تعدّد الموضوعات كالوجود والعدم والحال؟ وهو كما ترى، مع أنّه يدخل في

____________________

(1) شرح المواقف 1 / 209.

(2) الشوارق 1 / 8.

١٣

هذا العلم بعض العلوم الأُخر أيضاً حسب هذا التعريف؛ لتعلّق العقائد بها ولو بعيداً، هذا مع أنّ الحيثية المذكورة - وهي المعلومية - لا ترتبط بعروض العوارض على موضوعاتها، فلا تكون راجعةً إلى الموضوع أصلاً. فالصحيح هو القول الثالث وإن كان القوم أبطلوه - كما في الشوارق - لوجهين:

الأَوّل: أنّه قد يُبحث فيه عن غير الأعراض الذاتية لذاته تعالى، كمباحث الجواهر والأعراض وغيرها، ولا يصح دخولها في المبادئ فإنّها غير مبيّنة في نفسها، فلابدّ من كونها مبيّنةً في علم آخر يكون هو أعلى من الكلام، وهو باطل اتّفاقاً. أقول: وفيه ما لا يخفى فلا مانع من إدراجها في المبادئ.

الثاني - وهو العمدة -: أنّ البحث عن وجود الموضوع خارج عن مسائل العلم، فإنّها مشتملة على إثبات العوارض الذاتية للموضوع، وإثبات شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له، فلابدّ وأن يكون وجود الموضوع بنحو (كان التامة) مفروغاً منه في كل علم؛ ليتمركز البحث عن أحواله وأطواره، وبناءً عليه لا يجوز جعل ذاته تعالى موضوعاً لعلم الكلام؛ لأنّ إثباته غير بيّن في نفسه، فلابدّ من تبيينه في علم آخر، أو في مبادئ هذا العلم، مع أنّه من أهم مقاصد الكلام.

أقول: قد ذكرنا في تعليقتنا على كفاية الأُصول أنّ ما قالوه - من أنّ موضوع كلّ علم ما يُبحث فيه عن عوارضه الذاتية - ممّا لا دليل عليه، وعليه فنقول: إنّ موضوع كلّ علم ما يُبحث عنه وعن أحواله، وهذا التحديد لا يخرج عن الاستحسان العقلائي، الذي هو السرّ في تشعّب العلوم وتعنون المسائل بعنوان ما، وحينئذٍ يصحّ جعل واجب الوجود موضوعاً لعلم الكلام، فإنّ البحث فيه حوله وحول صفاته وأفعاله، فيكون البحث عن إثبات وجوده أيضاً من مسائل العلم، وإن كان بالنسبة إلى بقية المسائل من المبادئ، ولا غرو في أن تكون القضية الواحدة من المسائل باعتبار نفسها ومن المبادئ باعتبار غيرها، بل هو واقع في العلوم. هذا مع إمكان دعوى بداهة هذه القضية وكونها بيّنةً في نفسها، فإنّ اختلاف الماديين في الصفات دون أصل المبدأ كما يأتي.

وأمّا غرضه فهو عرفان الحقائق الدينية والأُصول الاعتقادية كما يظهر من الكلمات المتقدّمة. وأمّا إرشاد المسترشدين، وإلزام المعاندين، وحفظ قواعد الدين من شُبه المبطلين، فهي من الفوائد والآثار، وليست من الأغراض كما لا يخفى.

وأمّا شرف هذا العلم فهو غني عن البيان، فإنّه في غاية السمو ونهاية العلو،

١٤

أَوَ ليس من ثمراته سعادة الإنسان الأبدية وخلوصه عن العذاب الدائمي؟! ولعمري إنّ إطالة الكلام هنا لغو فإنّ العيان بنفسه يغني عن البيان، فكيف إذا وافقه البرهان والقرآن؟!

وأمّا وجه تسميته بالكلام فهو؛ إمّا لأنّه بإزاء المنطق للفلاسفة، أو لأنّ أبوابه عنونت أَوّلاً في كتب القدماء بـ (الكلام في كذا) فسُمّي العلم به، أو لأنّه يورث القدرة على الكلام في الأُصول الشرعية، أو لأنّ مسألة الكلام - أعني قِدم القرآن وحدوثه - أشهر أجزاء هذا العلم، حتى آلَ الأمر فيه إلى التضارب والتقاتل (1) ، أو لتكلّم أربابه في صفات الله وأفعاله. والأخيران أقرب من غيرهما.

____________________

(1) ففي التمدّن الإسلامي 2 / 107: ضرب المعتصم العباسي أحمد بن حنبل على عدم إقراره بخلق القرآن ضرباً عظيماً، حتى غاب عقله وقطع جلده وحبس مقيّداً.

١٥

الفائدة الثانية

في وضع الكلام

لما توفّي النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقع الخلاف بين أصحابه في الخلافة والإمامة، وما تمكّنوا من حفظ توحيد الكلمة كما كانوا عليه في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ إنّ حزب أبي بكر - الخليفة الأَوّل - وإن غلبوا في ذلك الوقت على أخذ السلطة التنفيذية، وعزل مخالفيهم عن تدبّر الأُمور، إلاّ أنّ النزاع لم يرتفع به، بل أصبح من أهم العوامل المؤثّرة في شؤون المجتمع الإسلامي، فهو الأساس لتشعّب المسلمين إلى فرقتين: الشيعة وغيرها، وهو البذر لحروب الجمل والصفين والنهروان وكربلاء وغيرها، وهو المحور للاختلاف في القوة التشريعية، فتشتّت المذاهب والآراء في الأُصول والفروع.

وممّا وسّع هذا الاختلاف خروج طاغية الشام على أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد قتل عثمان، فإنّه بغى واستكبر فصار من المفسدين، ومن سوء الاتّفاق أنّه علا أمره، واستولى على ما أراد، فأتاح الأمر لمَن بعده من آل أمية، الذين هم شر قبائل العرب (1) ، وأنّهم أبغض الأحياء أو الناس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (2) ، فآلَ الأمر إلى انعزال عترة النبي من السلطة التعليمية والإرشادية أيضاً، بعدما افتقدوا السلطة التنفيذية والإجرائية. والناس على دين ملوكهم. فقام أُناس - لا صلاحية لهم - في المجامع الدينية العلمية، وتصدّوا لتدريس الأُصول وتطبيق الفروع، وكلّما دخلت أُمّة لعنت أُختها، وكأنّ القرآن ينظر إليهم حيث يقول: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ) (3) . وبما أنّه لم يكن لهم ميزان علمي، ولا أصل موضوعي، ولا قانون كلي، تكثّرث آراؤهم وتباينت أنظارهم، فاتّسعت الخوارج، وتولّدت المرجئة، وتكوّنت المعتزلة، وقامت الجبرية (4) ، وظهرت الأشعرية وهكذا.

____________________

(1) قال ابن حجر في تطهير الجنان واللسان / 30: إنّه حديث حسن.

(2) وفي نفس المصدر: قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين.

(3) القصص 28 / 41.

(4) قُتل رئيسهم جهم بن صفوان في آخر مُلك بني أُميّة كما في الملل والنحل.

١٦

كل ذلك؛ لعدم مرجع لائق ديني يلم شَعث المسلمين، ويدير الحوزة العلمية.

وقد حكي (1) أنّه لمّا قيل لابن أبي العوجاء تلميذ الحسن البصري (21 - 110هـ): لِمَ تركت مذهب صاحبك - الحسن - ودخلت فيما لا أصل له (أي الزندقة)؟ أجاب: إنّ صاحبي كان مخلِطاً، كان يقول طوراً بالعدل وطوراً بالجبر، وما أعلمه أعتقد مذهباً دام عليه... فإذا كان هذا حال الحسن - وهو من دعائم هذه الطريقة وأساطين هذه المدرسة - فما حال غيره؟!

وقد قيل في حقّه أيضاً (2) : إنّه كان يلقى الناس بما يهوون، ويتصنّع للرئاسة، وكان رئيس القدرية، وكان يبغض علياً، ويُنقل حبّه له أيضاً، فإذا كان المصدر للمعارف الدينية أمثاله فما ظنّك بالمتعلّمين والمقلّدين؟

ولذا اخترع واصل بن عطاء (80 - 131 هـ) مذهب الاعتزال؛ حينما ألقى مسألةً بسيطة على أُستاذه - الحسن هذا - فعجز عن إقناعه، وقد علا أمر المعتزلة في المسائل الكلامية، فإنّ مطالبهم أقرب إلى الأحكام العقلية في الجملة، وربّما استفادوا من الفلسفة اليونانية لتصحيح مبانيهم، وللفلسفة المذكورة تأثير كبير في علم الكلام وتشتّت آراء المتكلمين.

وأمّا مخالفو المعتزلة فلم يكن لهم القوة في الكلام، حتى خالف علي بن إسماعيل أبو الحسن الأشعري (260 أو 270 - 330 على قول) في مسألة - نذكرها مع جوابها في موطنها المناسب من هذا الكتاب - أُستاذه المعتزلي محمد بن عبد الوهاب المعروف بأبي علي الجبائي (235 - 303 هـ)، فرجع عن مذهبه حينما لم يفهما حلّ المسألة، فتاب الأشعري من القول بخلق القرآن، والعدل، وعدم رؤية الله بالأبصار، ونحوها ممّا عليه أُستاذه (3) ! وسعى في تدوين تلفيقات سلفه حتى سُمّي المذهب باسمه، وله أقوال عجيبة ربّما تصادم الضرورة كما تقف عليها في هذا الكتاب.

قال معين الدين الأيجي الشافعي (4) ، واعلم أنّه - أي الأشعري - قد يرعوي إلى عقيدة جديدة بمجرّد اقتباس قياس لا أساس له، مع أنّه منافٍ لصرائح القرآن وصحاح الأحاديث... إلخ.

وهكذا خلفَ من بعدهم خلف أضاعوا الحق، واتّبعوا الميول والأهواء، وابتعدوا عن السفينة المنجية المحمدية، إلاّ القليل ممّن استقاموا على الطريقة الوسطى، فالتزموا العترة الهادية عن بكرة أبيهم، فانقادوا في كلّ عصر لإمامه من أئمة آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأخذوا عنهم الأُصول والفروع.

____________________

(1) بحار الأنوار 3 / 33.

(2) رجال المامقاني 1 / 270.

(3) لاحظ فهرست ابن النديم / 271.

(4) إحقاق الحق 1 / 100.

١٧

ونبغ منهم في كلّ عصر رجال أفذاذ وأعلام هداة، وأَوّل مدرسة تخرّج فيها هؤلاء الجهابذة الإسلاميون، هي مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام (1) ، وهذا كتاب نهج البلاغة بين يديك وهو يدلّك على حقيقة الحال، ففيه أسرار التوحيد، وخفايا التنزيه، ومزايا المعارف الاعتقادية، وكليات القوانين الاجتماعية، والسنن الأخلاقية، والرسوم السياسية وغيرها.

ثمّ اتّسعت هذه المدرسة واشتهرت في عصر الإمامين العظيمين: الباقر والصادق عليهما‌السلام حتى عدّوا المتدرّسين فيها إلى أربعة آلاف، وقد تخرّج فيها الأكابر المتبحّرون والعلماء الكاملون، أمثال هشام بن الحكم، ومؤمن الطاق، ويونس وزرارة، وكثير من أقرانهم، فتحمّلوا من علوم آل نبيهم، وروّجوا ما تنوّر به المجامع العلمية الإسلامية والعالمية.

والمذاهب المتقدّمة (2) حيث لم تتمكن من مقاومة هذه المدرسة في ميدان العلم والفضيلة، قابلتها بالظلم والتعدّي والافتراء؛ فلذا نُسب إلى بعض هؤلاء الكاملين القول بالتشبيه، وإلى آخر منهم القول بالتجسّم، وإلى ثالث الاعتقاد بحدوث صفات الله، وهكذا، بل جعل لكل من هؤلاء المنقادين لإمامهم الصادق عليه‌السلام مذهب على حدة! ولم يزل هذا الوضع المشؤوم إلى يومنا هذا، يوم النور والتفكير، فما من كتاب من هؤلاء الجماعة المتقدمة، إلاّ وفيه أباطيل منسوبة إلى الشيعة وهم براء منها، وكم وقع عليهم الظلم والعدوان:

وكان ما كان ممّا لست أذكرُه فظنْ خيراً ولا تسألْ عن الخبرِ

والله الهادي... وقد تحصّل ممّا سطّر - إن لم تغلب العصبية على العاقلة - أنّ الأقدمين في علم الكلام وغيره من العلوم الشرعية هم الإمامية؛ لأنّهم أَوّل مَن شرعوا في التأليف والتدوين، فما في جملة من الكلمات من نسبة المسائل إلى المعتزلة أو الأشاعرة، ثمّ نسبة المتابعة والموافقة إلى الإمامية؛ إمّا جهل أو عناد، بل كثيراً ما يُهمل نقل أقوالهم لجهات غير خفية على الخبير. ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الحاكمين.

____________________

(1) قال ابن النديم في الفهرست / 263: أَوّل مَن تكلم في مذهب الإمامة علي بن إسماعيل بن ميثم التمّار، وميثم من أجلّة أصحاب علي (رضي الله تعالى عنه) ولعلي من الكتب كتاب الإمامة، كتاب الاستحقاق.

أقول: قد سبق علياً غيره، فلاحظ مقدمة وسائل الشيعة المطبوعة حديثاً؛ حتى تعلم أنّ الشيعة ابتدؤوا بتدوين الكتب من بدو ظهورهم.

(2) قال الشهرستاني في أوائل مِلله ونحله: أمّا رونق علم الكلام فابتداؤه من الخلفاء العباسية هارون وغيره، وانتهاؤه من الصاحب بن عبّاد وجماعة من الديالمة. وقيل: أَوّل مَن تكلّم في علم الكلام أبو هاشم ابن محمد بن الحنفية.

١٨

الفائدة الثالثة

في بيان الأدلّة

المسائل اليقينية إمّا ضروريات أو نظريات منتهية إليها قطعاً. والضروريات المذكورة ست:

منها: الأوّليات: وهي ما لا يتوقف إدراكه على شيء زائد من تصوّر طرفيه، وإن كان هذا التصوّر كسبياً، كقولنا: الممكن محتاج، وتُسمّى بالبديهيات أيضاً.

ومنها: الحسّيات: وهي ما يحكم العقل به بواسطة إحدى الحواس، فإن كانت ظاهرةً تسمّى المشاهدات، وإن كانت باطنةً - وهي الحس المشترك (بنطاسيا) والخيال، والواهمة، والحافظة - تسمّى الوجدانيات (1) ، وفيها يدخل ما تدركه النفس لا بتوسّط الآلات، مثل شعورنا بذاتنا وبصفاتنا النفسية، كالخوف، والسرور، والحزن، والجزع، والشبع ونظائرها.

قال المحقّق اللاهيجي في بحث أعراض الشوارق: ويدخل في المشاهدات الباطنية: الوهميات التي جعلها بعضهم قسماً سابعاً، وذلك ما يحكم به الوهم في المحسوسات فيصدّقه العقل في ذلك، نحو كلّ جسم فهو في جهة، ولا يكون جسم واحد في مكانين، فإنّ العقل يصدّق الوهم في أحكامه على المحسوسات لا على المجرّدات والمعقولات، كحكمه بأنّ كلّ موجود في جهة أو مكان... إلخ.

ومنها: المتواترات: وهي ما يحكم العقل به لكثرة أخبار المخبرين، بحيث يزول معها الشك والاحتمال بتواطؤ المخبرين على الكذب، ثمّ إنّ إفادة التواتر اليقين موقوف على أمور:

1 - كون المخبر عنه أمراً محسوساً؛ إذ لو كان أمراً حدسياً لَما حصل اليقين منه؛ لاحتمال خطأ الجميع في حدسهم كخطأ الفرد، وهذا بخلاف الحسّيات حيث إنّ وضوحها ينفي هذا الاحتمال، وخالف فيه الفارابي (2) فذكر أنّه لا حجّة أقوى من اجتماع الآراء على شيء واحد، بل هو ظاهر جماعة من المتكلّمين، حيث استدلّوا على إثبات الصانع بإجماع الأنبياء والعقلاء،

____________________

(1) قيل: الفرق بين الوجدان - بكسر الواو - والوجدان - بضمّها -: إنّ الأَوّل يُطلق على القوةّ المدركة، والثاني على إدراكها. وقيل: المتداول إطلاق كلّ منهما على كلّ من المعنيين.

(2) رهبر خرد / 236.

١٩

وعلّلوه بأنّ اتّفاق جمّ غفير من الأذكياء على شيء يوجب اليقين بصحّته؛ إذ من المحال عادةً أن يتّفقوا على أمر غير واقع، بل ذكر العلاّمة المجلسي رحمه‌الله (1)، أنّ ما يُجمع عليه العقلاء لا يكون إلاّ ضرورياً أو قريباً من الضروري، وبه استدلّ على استحالة النقص على الله تعالى.

أقول: حصول العلم يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، لكن الدليل حينئذٍ لا يكون إلزامياً، ولعلّ الغالب هو عدم حصول العلم منه في الحدسيات.

2 - عدم العلم بالمخبر عنه قبل حصول التواتر لاستحالة تحصيل الحاصل.

3 - عدم انتهاء الناقلين في تمام الطبقات والأدوار إلى عدد قليل يجوز تبانيهم على الكذب.

4 - صفاء الذهن بالنسبة إلى المخبر عنه، وعدم الاعتقاد على خلافه، وإلاّ لم يفد العلم. ذكره السيد المرتضى قدّس سره وقَبِله عنه الآخرون، ووجهه واضح.

وأمّا اشتراط الإسلام، والعدالة، واختلاف النسب، وعدم جمعهم في بلد، وتعيين عدد خاصّ من الناقلين، كالخمسة أو العشرين أو الأربعين أو السبعين أو ثلاثمِئة، فغير لازم قطعاً، بل بعضها جزاف.

ثمّ إنّ التواتر على أقسام ثلاثة:

الأَوّل: التواتر اللفظي: وهو اتّفاق الناقلين على ألفاظ الخبر وعباراته، كتواتر ألفاظ القرآن، وحديث المنزلة، وحديث الغدير ونحوها.

الثاني: التواتر المعنوي: وهو تواطؤهم على معنىً واحد وإن اختلفت ألفاظهم، سواء كانت دلالة الألفاظ على المعنى المخبر عنه بالمطابقة، أو بالتضمّن، أو بالالتزام، وهذا مثل ما ورد من الأخبار الحاكية عن شجاعة علي عليه‌السلام .

الثالث: التواتر الإجمالي: وهو نقل الوقائع الكثيرة، فإنّه يحصل العلم بوقوع بعضها عادةً، وإن كان كل واقعة بخصوصه مشكوكاً فيها، وأورد عليه الأُصولي الشهير المحقّق النائيني قدّس سره (2) ، بأنّ الأخبار إذا بلغت من الكثرة ما بلغت، فإن كان بينها جامع يكون الكلّ متّفقاً على نقله فهو راجع إلى التواتر المعنوي، وإلاّ فلا وجه لحصول القطع بصدق واحد منها بعد جواز الكذب على كلّ منها في حدّ نفسه.

ويدفع أَوّلاً: بجريانه في القسمين الأَوّلين أيضاً وهو لا يلتزم به.

وثانياً: أنّه شبهة في مقابل البداهة، أَليس مَن لاحظ كتاب التهذيب مثلاً، يضطر إلى القطع بصدور بعض ما فيه عن الأئمة عليهم‌السلام ؟

____________________

(1) البحار 3 / 231.

(2) أجود التقريرات 2 / 113.

٢٠