صراط الحق الجزء ١

صراط الحق0%

صراط الحق مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 296

صراط الحق

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: محمّد آصف المحسني
الناشر: ذوي القربى
تصنيف: الصفحات: 296
المشاهدات: 124962
تحميل: 6549

توضيحات:

الجزء 1
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 296 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 124962 / تحميل: 6549
الحجم الحجم الحجم
صراط الحق

صراط الحق الجزء 1

مؤلف:
الناشر: ذوي القربى
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بيضةً، لا تصغر الأرض ولا تكبر البيضة؟ فقال عيسى - على نبينا وآله وعليه السلام -: ويلك، إنّ الله لا يوصف بعجز، ومَن أقدر ممّن يلطف الأرض ويعظم البيضة!.

ورواية ابن أُذينة عنه عليه‌السلام قال: (قيل: لأمير المؤمنين عليه‌السلام : هل يقدر ربّك أن يُدخِل الدنيا في بيضة، من غير أن تصغر الدنيا أو تكبر البيضة؟ قال: إنّ الله تبارك، وتعالى لا يُنسب إلى العجز، والذي سألتني لا يكون).

ورواية أبان بن عثمان المشتملة على جواب أمير المؤمنين لرجل، بمثل ما أجاب به عيسى عليه‌السلام في مرسلة ابن أبي عمير المتقدّمة.

وأمّا رواية البزنطي - قال: جاء رجل إلى الرضا عليه‌السلام فقال هل يقدر ربّك أن يجعل السماوات والأرض وما بينهما في بيضة؟ قال: (نعم وفي أصغر من البيضة، وقد جعلها في عينك، وهي أقل من البيضة؛ لأنّك إذا فتحتها عاينت السماء والأرض وما بينهما، ولو شاء لأعماك عنها) - فالجواب مبني على إفحام السائل وإسكاته، فإنّه لم يكن طالباً لواقع الأمر وحقيقة الحال، وإنّما سأله تعنّتاً ولجاجاً كما يظهر من قوله عليه السلام: (ولو شاء لأعماك)، فإنّ هذا الخطاب لا يليق بغير المعاند اللجوج.

ويمكن أن يقال بمثله في رواية هشام بن الحكم أيضاً، وأنّ السائل من هشام بن الحكم كان لجوجاً، أو أنّ الجواب منزّل على قصور فهمه. فلاحظ (1) .

فجواب الصادق عليه‌السلام في هذه الرواية، وجواب الرضا في رواية البزنطي، ليسا لبيان الواقع، وإلاّ لقالا بالعدم كما في الروايات المتقدمة، ومن العجيب ما يظهر من المحدّث الجزائري من الالتزام بمفادها وبنائه على مقدورية ذلك، قال: فسبحان مَن هو قادر على أن يدخل الدنيا في بيضة، من غير ترقيق الدنيا ولا تعظيم البيضة (2) ، وكذا ابن الحزم الأندلسي قال: وهو تعالى قادر على نفسه كما هو عالمٌ بها (3) ، وكلا القولين ضعيف جداً باطل قطعاً.

المطلب الثالث:

إنّ الفاضل الطريحي نقل عن العلاّمة الحلي قدّس سرهما، في حاشيته على شرح الباب الحادي عشر (4) : أنّه حكي عن السيد المرتضى والشيخ الطوسي رحمهما الله، أنّهما ممّن نفى قدرة الباري وقالا: إنّه خلاف الحقّ.

____________________

(1) البحار 4 / 140.                                  (2) الأنوار النعمانية 1 / 208.

(3) الفصل 2 / 128.                                  (4) شرح الباب الحادي عشر / 13.

١٤١

أقول: ما أدري هل هذه الجملة المطبوعة من الطريحي أم لا؟ نقلها العلاّمة أم لا؟ قال بها العلَمان المذكوران أم لا؟ نعم ذكر الرجالي الشهير المامقاني رحمه‌الله كلاماً عن البحراني ومن جملته: أنّ الشيخ الطوسي وشيخه أبا عبد الله المفيد قدّس سرهما، يذهبان إلى أنّه تعالى لا يقدر على عين مقدور العبد، كما هو مذهب أبي على الجبائي المعتزلي، نقل ذلك العلاّمة في بعض كتبه الكلامية وغيره (1) . انتهى.

أقول: وعليه فيمكن أن يكون المراد من نفي القدرة المذكور في عبارة الطريحي المتقدّمة هو ذلك، أي نفيها عن عين مقدور العبد، وإلاّ فهو مقطوع الكذب، فإنّا نقطع أنّ ذلك لم يخطر ببالهما فضلاً عن اعتقادهما به.

وأمّا الكلام الأخير المحكي عن الشيخين، من إنكار قدرته تعالى على عين مقدور العبد فله وجه صحيح، كما ذكرنا في ذيل كلام الجبائي وقلنا: إنّ عين فعل العبد غير ممكن الصدور عن الله تعالى بلا واسطة العبد، وإلاّ لم يكن الفعل فعل العبد بل فعل الربّ، وما هو غير ممكن غير مقدور، كما مرّ فلاحظ.

ويحتمل قريباً أنّ مراد الشيخ والسيّد - على تقدير صدور هذا الكلام منهما - هو نفيها عن غير الممكنات، وهذا الاحتمال قريب جداً.

____________________

(1) تنقيح المقال (المدخل) / 208.

١٤٢

الفصل الثاني

في علمه تعالى

الجهة الأُولى: في إثبات أصل علمه

الجهة الثانية: في بيان عموم علمه

الجهة الثالثة: في إبطال الآراء المنحرفة

الجهة الرابعة: في بيان العلم الإجمالي

الجهة الخامسة: في العلم التفصيلي

الجهة السادسة: حول البداء

الجهة السابعة: في علمه وقدرته

الجهة الثامنة: جملة من الآيات في العلم الحادث له

١٤٣

الفصل الثاني

في علمه تعالى

واستيفاء المرام فيه من بيان جهات:

الجهة الأُولى: في إثبات أصل علمه تعالى

ونستخدم له وجوهاً من الدلائل:

الأَوّل: إنّ العلم له ممكن وما أمكن في حقه واجب له كما تقدّم.

الثاني: إنّ العلم الإمكاني موجود ولابدّ من استناده إلى العلم الواجب؛ بداهة عدم حصول العلم من غير العلم، فإذا كان ما بالغير هو العلم، فلابدّ وأن يكون ما به الغير أيضاً هو العلم، ومعلوم أنّ العلم الواجب ليس إلاّ للذات الواجبة.

الثالث: إنّ الممكنات مستندة إليه حدوثاً وبقاءً كما مرّ، ومن الضروري أنّ المفيض المختار لا يكون إلاّ عالماً بفعله وفيضه ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (1) .

الرابع: إنّا ندرك أنّ جملةً من الأشياء الموجودة على كمال الإتقان والإحكام، ففاعلها عالم؛ بداهة عدم صدور هذه المحكمات العجيبة عن الجاهل، وهذا الوجه قوي جداً، فإنّ الصغرى حسية والكبرى ضرورية، فإنّا نذعن - بأوّل التفات - بأنّ الجاهل البَدوي لا يتمكّن من التدريس في الجوامع العلمية، وأنّ البِناء العالي لا يتكوّن من التُرب المثارة بالأهوية.

فالواجب الصانع لمّا فعل أفعالاً محكمة متقنة، نذعن إذعاناً اضطرارياً بأنّه عالم.

وهم ودفع

نوقش في البرهان الثالث بصدور الفعل القليل عن النائم والغافل، مع أنّهما قادرين عند المعتزلة وكثير من الأشاعرة؛ إذ لو جاز ذلك لجاز صدور الكثير أيضاً، فإنّ حكم الشيء حكم مثله، ومن الظاهر أنّهما غير عالمينِ، فالإيجاد لا يدل على العلم.

أقول: ويتوجه عليه:

أوّلاً: إنّ معنى المختار مَن له الفعل والترك، ويرجّح أحدهما على الآخر، ومن الظاهر أنّ

____________________

(1) الملك 67 / 14.

١٤٤

النائم والساهي ليسا بهذا الشأن، وليس لهما ترجيح لأحد الطرفين على الآخر، بل يصدر الفعل عنهما بلا رَوية.

وثانياً: منع عدم الفرق بين الفعل القليل والكثير، فإنّ القليل وإن كان ممكن الصدور من الفاعل غير العالم، لكن الكثير غير ممكن بالضرورة، ولا أظنّ أن يعدّ هذا سرّاً على عاقل، وأمّا ما ذكره المدقّق اللاهيجي (1) - من منع استدعاء صدور الفعل الاختياري العلم بالمقصود، مستنداً فيه إلى صدوره عن الحيوانات العجم مع خلوها عن العلم، وقال: وادّعاء الضرورة فيه لا يخلو عن إشكال؛ لمكان فعل النائم والساهي، ولا فرق بين القليل والكثير في ذلك؛ إذ لو امتنع صدور الكثير بلا علم، امتنع صدور الواحد؛ لامتناع تحقّق المشروط بدون تحقّق الشرط. انتهى - فهو ليس إلاّ وسوسة علمية لا طائل تحتها، فإنّ إنكاره علم الحيوانات بلا دليل، بل هي تعلم ما يصدر عنها بعلم خاصّ أودعه الله في نفوسها، ومنع الضرورة غير مسموع، وليس مجرّد الفعل دالاً على العلم حتى يمنع من صدور القليل بلا علم، بل المشرط به هو الفعل الكثير، وهما - أي القليل والكثير - كما يختلفان في جملة من الأحكام، فليكونا كذلك في المقام، وبالجملة هذا تشكيك في قبال الضرورة.

ثمّ إنّ الفاضل المقداد (2) لم يعتمد في إثبات الكبرى على الضرورة، بل برهن عليها بأنّ فعل المختار تابع لقصده، ويستحيل قصد شيء من دون العلم به.

أقول: القصد إمّا أن يراد به الصفة النفسانية فهي محال عليه تعالى، أو تعلّل أفعاله بالأغراض فالبيان مصادرة؛ ضرورة توقّف هذا على علمه كما يأتي في محلّه إن شاء الله، أو الإرادة فالدليل عين المدّعى؛ لأنّها عنده هي علمه بالأنفع، وهل الكلام إلاّ فيه؟ فالصحيح ما ذكرنا من دعوى الضرورة عليها كما هو الظاهر من جماعة.

ونوقش في البرهان الرابع، بما يصدر عن الحيوانات العجم من الأفعال المحكمة والمتقنة، ولا سيما بعد ما أثبتته العلوم الحديثة، وبالأخصّ ما تفعله النحل والنمل والعنكبوت وأمثالها.

أقول: وجوابه ما تقدّم من إثبات العلم لها دائماً، أو بإلهام منه تعالى حين صدور هذه الأفعال، قال الله تعالى: ( وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ... ) (3) وقال أيضاً حاكياً عن نملة: ( يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ

____________________

(1) الشوارق 2 / 222.

(2) شرح الباب الحادي عشر / 14.

(3) النحل 16 / 68.

١٤٥

سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) (1) . فقد حذّرت قومها من عدم شعور الإنسان، والهدهد علّم سليمان وأخبره عن ملكة اليمن، وبالجملة: الكتاب والسُنة والعلم الحديث تدلّ على علم الحيوانات وشعورها، فالبرهان غير منتقض.

بقي شيء يجب بيانه، وهو أنّ التفتازاني ذكر في محكي كلامه (2) ، أنّ المحقّقين من المتكلّمين على أنّ طريقة القدرة والاختيار، أوكد وأوثق من طريقة الإتقان والأحكام؛ لأنّ عليها سؤالاً صعباً، وهو أنّه لِمَ لا يجوز أن يوجب الباري تعالى موجوداً يستند إليه تلك الأفعال المتقنة المحكمة، ويكون له العلم والقدرة؟ ودفعه بأنّ إيجاد مثل ذلك الموجود وإيجاد العلم والقدرة فيه، يكون أيضاً فعلاً محكماً بل أحكم فيكون فاعله عالماً، لا يتم إلاّ ببيان أنّه قادر مختار؛ إذ الإيجاب بالذات من غير قصد لا يدلّ على العلم، فيرجع طريق الإتقان إلى طريق القدرة، مع أنّه كافٍ في إثبات المطلوب. انتهى.

قلت: صدور الممكن العالم الفاعل لهذه المتقنات المحكمات من العلة الموجبة العديمة الشعور غير معقول، فإنّه يرجع إلى صدور العلم عن الجاهل كما يدّعيه الماديون، وقد نبّهنا سابقاً على استحالته بالضرورة العقلية، فهذه الشبهة سخيفة جداً، بل هذا البرهان أوثق وأوكد، وإن كانت طريقة الاختيار أعمّ مدلولاً.

الخامس: إنّ الجهل نقص، والنقص عليه محال.

أقول: إن فرضنا الكبرى ضرورية أو فطرية أي متسالمة عند جميع العقلاء، كما قد يظهر ذلك من بعضهم فهو، وإلاّ فالمدّعى أسهل إثباتاً من الكبرى، وسيأتي بحثها إن شاء الله.

السادس: إخباره عن المغيّبات الآتية كما في الكتاب العزيز، وكذا إخبار أنبيائه وأوليائه بها، فإنّه يدل على علمه دلالةً واضحة.

السابع: إنّ الله عالم بذاته، فإنّه خلق العالمينَ بذواتهم، فهو أيضاً عالم بذاته؛ لأنّ معطي الكمال لا يكون فاقده، أو أنّه مجرّد، وكل مجرّد عاقل بذاته، وذاته عين العلّة لكل شيء، وقد تقرّر أنّ العلم بالعلّة - أي بجميع جهاتها واعتباراتها اللازمة لها، وإن شئت فقل: أي بالجهة المقتضية للمسبّب سواء كانت عين ذات العلة أو زائدةً، ولا شك أنّها عين حيثية ترتّب المسبّب على السبب؛ إذ التخلّف عن السبب التام محال - عين العلم بالمعلول، كما صرّح به السبزواري (3) ، أو يقتضي العلم به، أو يستلزمه كما في تعابير الآخرين.

____________________

(1) النمل 27 / 18.

(2) الشوارق 2 / 222.

(3) شرح المنظومة / 159.

١٤٦

أقول: قد أشرنا غير مرّة أنّ فاعليته تعالى لأجل الأغراض الزائدة على ذاته تعالى، وإلاّ كان فعله لغواً، فعلمه بذاته لا يدلّ على علمه بغيره، فافهم جيداً.

نعم علمه بذاته وبتلك المصالح يدلّ على علمه بمعاليله، إلاّ أنّ الكلام في علمه بهذه المصالح المذكورة فالبيان مصادرة. وبالجملة هذه القاعدة لو تمّت لاختصت بالعلل الموجبة التي تأثيرها بمجرّد ذواتها، فتدبّر.

الثامن: إنّ الضرورة الدينية، واتّفاق أهل المِلل والنِحل، والقرآن المجيد، والسُنة المتواترة، كلها تدلّ على علمه تعالى.

أقول: النبوة موقوفة على علمه ثبوتاً وإثباتاً، فالتمسّك بهذا الوجه دوري.

لا يقال: القرآن لكونه معجزاً ليس من كلام البشر، بل هو من كلام الله سبحانه، فإذا ثبت وجوده تعالى يخبر هو عن علمه، فلا يلزم الدور...

حينئذٍ قلت: المحقَّق هو أنّ القرآن بمجموعه وتمامه، ليس من إنشاء البشر، وأمّا أنّ جميعه ليس منهم فهو غير ثابت عقلاً؛ إذ لا شك في إمكان المماثلة ببعض الآيات، وحينئذٍ يحتمل أنّ الآيات الدالة على علمه تعالى صادرة عن الذي جاء بالقرآن، فما لم يثبت نبوّته وعصمته لم يتمّ حجّية القرآن، فالتمسك بالنقل في إثبات أصل علمه وقدرته غير صحيح.

وما قيل (1) من أنّه إذا ثبت صدق الرسل بالمعجزات، حصل العلم بكلّ ما أخبروا به، وإن لم يخطر بالبال كون المرسِل عالماً، ففيه: أنّ دلالة المعجزة على صدق الرسل، تتوقّف لا محالة على أن يكون المرسِل عالماً قادراً، فإنّ طلب المعجزة ليس إلاّ طلب تصديق المرسِل من المرسَل، فلابدّ من كونه عالماً بالطلب وقادراً على التصديق.

الجهة الثانية: في بيان عموم علمه

وهو إن فسّرناه بتعلّق علمه بكلّ شيء موجود أو كان موجوداً، فدليله ما تقدّم من الوجه الثالث، فإنّه يدلّ على أنّه تعالى عالم بجميع مخلوقاته، سواء كانت ذواتاً، أو معاني، أو غير ذلك، فهو عالم بالموجودات وبالمحالات التي يعلمها العلماء، فإنّ الصور المرتسمة في أذهان العلماء مخلوقة لله تعالى، فهو عالم بها بطريق أَولى، بل يمكن الاستدلال عليه بالوجه الأَوّل والخامس والسابع أيضاً كما لا يخفى.

وهنا وجه آخر دالّ على المراد ذَكَره غير واحد، وهو أنّ الموجب للعلم هو ذاته تعالى، والمقتضي للمعلومية هو ذات الممكن، ونسبة ذاته تعالى إلى جميع الممكنات نسبة متساوية،

____________________

(1) الشوارق 2 / 222 نقله عن بعضهم.

١٤٧

فإذا علم بعضها فقد علم الجميع، وإلاّ لزم الترجيح بلا مرجّح وهو باطل.

أقول: الظاهر أنّ الدليل تامّ لا بأس به، غير أنّه يجب أن يقال في تقريبه: إنّه قد ثبت له العلم في الجملة، بدل قولهم: الموجب للعلم هو ذاته، فإنّه ناظر إلى زيادة الصفات على ذاته تعالى، وهي باطلة عندنا، وما ذكرنا يشمل كلا المذهبين.

قال الله تعالى: ( وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (1) وقال: ( عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) (2) وقال: ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) (3) ... وإلى غير ذلك من الآيات الشريفة، وعن نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (4) : (يَعْلَمُ عَجِيجَ الْوُحُوشِ فِي الْفَلَوَاتِ، وَمَعَاصِيَ الْعِبَادِ فِي الْخَلَوَاتِ، وَاخْتِلافَ النِّينَانِ فِي الْبِحَارِ الْغَامِرَاتِ، وَتَلاطُمَ الْمَاءِ بِالرِّيَاحِ الْعَاصِفَاتِ). ومِثله كثير.

وإن فسّرناه بأنّه تعالى عالم من الأزل، بجميع الأشياء والأحوال والتقادير إلى الأبد، فهذا هو البحث الغامض المعضل، الذي لا نظير له في الصعوبة في علم الكلام، والإنصاف أنّ إثبات هذه المسألة عقلاً مشكل جداً، ولم أرَ له أثراً في كتب الكلام أصلاً، وكيفما كان فهنا أمران:

الأَوّل: إنّ الله عالم بجميع الأشياء من الأزل، وعلمه كذاته أزلي، كما اتّفق عليه الفلاسفة والمتكلّمون سوى قوم شاذّ ونفر قليل منهما، وهذا هو الثابت من الديانة الإسلامية ثبوتاً قطعياً.

الأمر الثاني: إنّ العلم إمّا صفة حقيقية ذات إضافة، أو صفة إضافية محضة فلا يمكن إلاّ بمتعلّق، وإن شئت فقل: إنّه إمّا نفس انكشاف الواقع أو ما يستلزمه، وعلى كل تقدير لابدّ له من معلوم، فإذا قلنا: إنّه تعالى عالم بجميع الأشياء أزلاً، لابدّ أن نلتزم بوجود جميع الأشياء خارجاً أو ذهناً في الأزل، مع أنّه لا يلتزم به أحد، فإنّ العالَم أو حوادثه غير موجودة في الأزل، والواجب تعالى لا ذهن له حتى تنطبع فيه الصور، هذا مع أنّ صورة الشيء لا تتولّد إلاّ من إدراك الشيء ولو بوجه، وهو هاهنا (أي في القِدم) أَوّل الكلام، فإذن لا يتعقلّ معنى أنّه تعالى عالم بالأشياء أزلاً، فظهر أنّ الجمع بين الأمرين صعب أو غير ممكن عقلاً؛ فلذا اختلفت الأنظار، وتشتّت الأفكار، وكثرت الأقوال، ومع ذلك لم تنجلِ المسألة ولم تنحل المشكلة، بل ازدادت مصاعبها.

وأحسن ما قيل في المقام بحيث يمكن أن يعوّل عليه في المقال مسلكان:

____________________

(1) النساء 4 / 176.                                  (2) سبأ 34 / 3.

(3) ق 50 / 16.                                       (4) البحار 4 / 92.

١٤٨

المسلك الأَوّل: ما ذكره أرسطو في أثولوجيا (1) ، من أنّ الأشياء عند الباري جلّ ذكره كاملة تامّة، زمانيةً كانت أو غير زمانية، وهي عنده كانت أَوّلاً كما تكون عنده أخيراً، وقال: الأشياء هناك دائمة لا تتغيّر بل على حال واحد... إلخ.

أقول: وتوضيح ذلك: أنّ نسبة جميع الأزمنة إليه تعالى كانت واحدة، كما أنّ نسبة جميع الأمكنة إليه تكون واحدة، بمعنى أنّ أعيان الموجودات الزمانية - قديمة أو حادثة حاضرة عنده تعالى دفعةً واحدة، بلا اختلاف في القبلية، والمعية، والبعدية والمضي، والحال، والاستقبال؛ لكونه تعالى بريئاً عن الوقوع في شيء من الأزمنة، كبراءته عن الوقوع في شيء من الأمكنة، بل هو محيط بقاطبة الزمانيات والمكانيات إحاطةً واحدة، وإنّما ذلك الاختلاف لها بقياس بعضها إلى بعض وفيما بينها، لا بالقياس إلى الحضور عنده تعالى والمعية عنه.

وقد نسبه اللاهيجي في شوارقه إلى ظنّ جماعة منهم الدواني في بعض رسائله، وصاحب القبسات، بل نسبه المجلسي (2) إلى محقّقي الحكماء، بل نقله بعض عن جميع الحكماء، ومثّلوا ذلك بخيط مختلف الأجزاء بالسود والبيض، فإنّه إذا نظر إليه الإنسان مثلاً يلاحظ مجموع تلك الأجزاء المختلفة الألوان دفعةً واحدة، ويرى الجزء الأسود في موضعه والأبيض في موضعه، كليهما معاً وفي آن واحد، بخلاف الحيوان الضيّق الحدقة كالنملة، فإنّه يرى كل جزء يوصل إليه في آن وصوله إليه، ولا يرى الجزء الذي بعده أو قبله في هذا الآن، بل في آن هو بعد ذلك الآن أو قبله.

وقد ارتضاه اللاهيجي في كتابه المسمّى بـ (گوهر مراد) (3) وقال: إنّ هذا التحقيق منقول من الحكماء السالفين، وإنّ المحقّق الطوسي قدّس سره قرّره في شرح رسالة العلم بأتمّ الوجوه، وذكره غيره من المحقّقين أيضاً، وجعل تصحيح العلم الحضوري في الواجب معلّقاً على هذا التحقيق، وقال: إنّا بيّنا هذا المعنى في حواشي إلهيات التجريد، بحيث لم يبقَ للتأمّل فيه مجال. هذا ولكن المذكور في شوارقه عدم ارتضائه ذلك.

وأمّا نسبته إلى المحقّق الطوسي فهي في محلها، كما يظهر من عبارته المحكية في الشوارق (4) .

وممّن اختار هذا الطريق، المحدّث الكاشاني في كتابه الوافي (5) ، فإنّه ذكر في باب نفي

____________________

(1) نقله العلاّمة المجلسي قدّس سره في بحار الأنوار 14 / 59.

(2) البحار 4 / 72.

(3) گوهر مراد / 195.

(4) الشوارق، أواخر المجلد الثاني.

(5) الوافي 1 / 77.

١٤٩

الزمان والمكان والكيف عنه كلاماً طويلاً نذكر شطراً منه، قال: إنّ المخلوقات، وإن لم تكن موجودةً في الأزل لا نفسها وبقياس بعضها إلى بعض، على أن يكون الأزل ظرفاً لوجوداتها كذلك، إلاّ أنّه موجودة في الأزل لله سبحانه وجوداً جمعياً وحدانياً غير متغيّر، بمعنى أنّ وجوداتها اللايزالية الحادثة ثابتة لله سبحانه في الأزل كذلك، وهذا كما أنّ الموجودات الذهنية موجودة في الخارج إذا قيّدت قيامها بالذهن، وإذا أطلقت من هذا القيد فلا وجود لها إلاّ في الذهن، فالأزل يتّسع القديم والحادث والأزمنة وما فيها وما خرج عنها... إلخ.

فهو وإن لم يصرّح هنا بأنّ هذا هو طريق تعلّق علمه بالأشياء أزلاً، لكنّه سلّم وأصرّ على أنّ نسبة الأزمنة إليه كالأمكنة واحدة، وإنّما الاختلاف بالقياس إلى الحوادث نفسها، فيسهل استنتاج المطلوب منه، بل صرّح به في موضع آخر من ذلك الكتاب (1) .

أقول: قياس الأزمنة على الأمكنة، واضح الفساد ولائح الفرقان، فإنّ الأُولى غير قارّة لا يمكن وجودها بجميع أفرادها دفعةً واحدة، وإن قايسناها إلى مَن هو خارج عن سجن المكان والزمان، فإنّ القصور راجع إلى الزمان نفسه لا إلى غيره حتى يفرّق بين الزماني وغيره، وهذا بخلاف الأمكنة فإنّها غير تدريجية الحصول بل هي من الأُمور القارّة، وكذا الخيط المختلف الألوان، وبالجملة: هذا الوجه وإن كان له صورة في بدء النظر، ويرتضيه العقل والنقل من نتيجته على تقدير تماميته، لكنّه ضعيف الأساس عند التأمل، بل لم أجد دليلاً عليه في كلمات مَن ذكره غير ذكر المثال المذكور.

المسلك الثاني: ما سلكه صاحب الأسفار ومَن تبعه، وقد نسبه في أسفاره إلى طريقة قدماء الحكماء، وهو أنّ الواجب تعالى هو المبدأ الفيّاض لجميع الحقائق والماهيات، فيجب أن يكون ذاته تعالى مع بساطته وأحديته كلّ الأشياء، وقال: نحن قد أقمنا البرهان على أنّ البسيط الحقيقي من الوجود، يجب أن يكون كلّ الأشياء، فإذن لمّا كان وجوده تعالى وجود كلّ الأشياء، فمَن عقل ذلك الوجود عقل جميع الأشياء، وذلك الوجود هو بعينه عقل لذاته وعاقل، فواجب الوجود عاقل لذاته بذاته، فعقله لذاته عقل لجميع ما سواه، وعقله لذاته مقدّم على وجود جميع ما سواه، فعقله لجميع ما سواه سابق على جميع ما سواه، فثبت أنّ علمه تعالى بجميع الأشياء حاصل في مرتبة ذاته بذاته قبل وجود ما عداه، سواء كانت صوراً عقلية قائمة بذاته، أو خارجة منفصلة عنها، فهذا هو العلم الكمالي التفصيلي بوجه، والإجمالي بوجه؛ وذلك لأنّ المعلومات على كثرتها وتفصيلها بحسب المعنى، موجودة بوجود واحد بسيط، ففي هذا المشهد الإلهي والمجلي الأَوّلي ينكشف ويتجلّى الكلّ من حيث لا كثرة فيها، فهو الكلّ في وحدة.

____________________

(1) الوافي 1 / 98.

١٥٠

ثمّ قال بعد كلام طويل: فإن قلت فإذا ثبت كون الأشياء كلّها معقولةً له تعالى - كما هي عليها - بعقل واحد بسيط فما الحاجة في علمه تعالى إلى إثبات الصور العقلية الزائدة مقارنةً كانت أو مباينة؟ وأيضاً إذا كان ذاته تعالى بحيث ينكشف له الحقائق المتخالفة في وجودها الخارجي، فما الحجّة على إثبات العقل من طريق أحدية المبدأ الأعلى؟ إذ مبناه على أنّه واحد من كل وجه بلا اختلاف حيثية، وأنتم أثبتم في ذاته معاني كثيرة.

قلت: أمّا إثبات الصور فهو لازم من تعقّله لذاته المستلزم لتعقّل ما هو معلوله القريب، ومَن تعقّل معلوله تعقّل معلول معلوله الثالث، وهكذا الرابع والخامس إلى الآخر المعلولات على الترتيب العلّي والمعلولي؛ فإنّ ذاته لمّا كان علّةً للأشياء بحسب وجودها، والعلم بالعلّة يستلزم العلم بمعلولها على الوجه الذي هو معلولها، فتعقّلها من هذه الجهة لابدّ أن يكون على ترتيب صدورها واحداً بعد واحد، وهذا غير تعقّلها على وجه لا يكون هو بحسبه معلولة.

وأمّا وجوب كون المعلول الأَوّل واحداً لا متعدّداً وبسيطاً لا مركّباً، مع كون المبدأ الأعلى مصداقاً ومظهراً لماهيّات الممكنات كلها، فذلك؛ لأجل أنّ تكثّر العنوانات لا يقدح في أحدية ذات الموضوع؛ فإنّ الحيثيات المختلفة التي توجب كثرة في الذات، هي الحيثيات التي اختلافها بحسب الوجود، لا التي تعدّدها واختلافها بحسب الآثار.

فمثال الأَوّل كالاختلاف في القوّة والفعل، والتقدّم والتأخّر، والعلّية والمعلولية، والتحريك والتحرّك.

ومثال القسم الثاني كالعلم والقدرة، وكالعاقلية والمعقولية، وكالوجود والتشخّص وغيرها. انتهى كلامه.

أقول: هذه النظرية وإن كان مبنيّة على أصالة الوجود ووحدته، إلاّ أنّ العمدة في طريقها هي القاعدة القائلة، بأنّ بسيط الحقيقة كلّ الأشياء، كما صرّح به نفسه؛ وحيث إنّ القاعدة المذكورة عندنا ضعيفة الأركان منهدمة الأساس، فقد سقط هذا المسلك أيضاً بلا كلام.

وأمّا بيان بطلان القاعدة، فستلاحظه في المقصد الثالث إن شاء الله بأوضح كلام وأوثق برهان.

ثمّ إنّا لو أغمضنا النظر عن هذه الناحية، وفرضنا المقدمات صحيحةً لَما ترتّبت عليها هذه النتيجة؛ وذلك لأنّ اندكاك الأشياء فيه تعالى ليس بنحو التعيين والتمييز، وإلاّ للزم الكثرة فيه، كما صرّح هو به أيضاً، بل بنحو حذف حدودها وتشخّصاتها، ومن الواضح أنّ العلم بمثل هذا الوجود الجمعي الفاقد للميزات، لا يستلزم العلم بالأشياء تفصيلاً، كما تخيّله المستدل، بل لا يُستشمّ منه رائحة التفصيل، فإنّه علم إجمالي تعلّق بأُصول الموجودات، تعلّقاً في غاية الإجمال،

١٥١

وشدّة الإبهام، ونهاية الإهمال، كما اعترف به اللاهيجي أيضاً حيث قال: بعد ما اختار هذا المسلك وبيّنه تحت عنوان (تكميل عرشي): وهذا هو المراد من كون ذاته تعالى علماً إجمالياً بالأشياء، وعقلاً بسيطاً لها على ما حصّلناه من كلام الشيخ... إلى أن قال: فبالاضطرار لزم القول بالعقل التفصيلي المحقّق بحصول صور المهيات في العاقل، متميّزةً بعضها عن بعض، وعن الوجود في علمه تعالى بالأشياء، وهذا العِلمان هما المشار إليهما بالكلّ الأَوّل والكلّ الثاني في كلام الفارابي في الفصوص (1) ... إلخ فهذا المسلك أيضاً غير مفيد.

هداية

بعد ما بطل هذان المسلكان ولم يتمّا، فلا تتمنّ الوصول إلى الواقع عن بقيّة المسالك الدائرة في بيان علمه بالأشياء أزلاً، وكيفية تعلّقه بها: (چون نديدند حقيقت ره افسانه زدند)، فالذي ينبغي أن يقال في هذا المقام: إنّا قد برهنّا سابقاً على أنّ فعل الفاعل المختار مسبوق بالعلم بالضرورة، فإذن نعلم أنّ الذي خلق هذه الكائنات المختلفة المتعدّدة المتكثرة عالم قطعاً، وإمّا خلق ما خلق عن علم سابق على خلقته بالضرورة العقلية، فقد ثبت أنّه تعالى كان عالماً قبل فعله وخلقه بما يفعله ويخلقه، ولو بلحظة ثبوتاً بتّياً ضرورياً عقلاً، بحيث لا يمسّه شك، فإذا أمكن العلم قبل المعلوم ولو بلحظة فقد أمكن قبله ولو بملايين السنين؛ بداهة عدم تأثير قصر المدّة وطولها في الحكم العقلي من الإمكان والامتناع؛ لأنّ الشيء إن كان ممكناً فهو ممكن أزلاً وأبداً، وإن كان ممتنعاً فهو ممتنع كذلك، ولا يعقل انقلاب الجهات الثلاث عقلاً واتّفاقاً، فإذن نستيقن أنّ العلم بالأشياء قبل كونها ولو بقليل ثابت، وبكثير ممكن، وقد دريت أنّ ما أمكن في حقّه، ولم يمتنع عليه، فهو واجب له، فنستنتج أنّه تعالى عالم بجميع الأشياء تفصيلاً في الأزل.

ولك أن تحصّل النتيجة المذكورة من دون توسيط قاعدة الملازمة المزبورة، بأن تقول: حيث إنّه تعالى فاعل مختار، فهو عالم بفعله قبل فعله كما مرّ، وحينئذٍ نسأل عن حين حدوث هذا العلم؟ وأنّه في أي جزء من الزمان أو غيره حدث؟ فأي جزء اختير فيه حدوث علمه فهو ترجيح بلا مرجّح، بل ترجّح بلا مرجّح، وهو ضروري الاستحالة؛ أو يقال: إنّ العلم عين ذاته كما يأتي برهانه في المقصد الرابع، فلا يمكن القول بحدوثه فيما لا يزال، بل وجب الإذعان بثبوته فيما لم يزل.

وحاصل هذه الطرق الثلاثة - أي قاعدة الملازمة، وحديث الترجّح بلا مرجّح، وقانون العينية - أنّ جميع ما يصدر عن الخلاّق الحكيم المختار، وما سيصدر عنه تعالى إلى الأبد فهو

____________________

(1) الشوارق 2 / 251.

١٥٢

معلوم ومنكشف له تعالى من الأزل.

وأمّا كيفية هذا العلم ونحو تعلّقه بالأشياء فهي خارجة عن طاقة البشر؛ وذلك لأنّ الممكن محدود والواجب غير محدود، وهيهات أن يحيط المحدود بمَن هو خارج عن الحد والتناهي اتّفاقاً وبرهاناً، كما سندلّل عليه في المقصد الثالث إن شاء الله، فالممكن لا يدرك حقيقة الواجب الوجود باتّفاق الفلاسفة والمتكلّمين (1) ، وبدلالة العقل وهداية الشرع، والمفروض أنّ علمه عين ذاته، فلا يمكن لنا الوصول إلى كيفية تعلّقه بالأشياء، فالذي يمكن للعقل هو الإذعان بأنّه تعالى عالم بالأشياء أزلاً بطريق ذكرنا، وأمّا أنّه كيف علم الأشياء مع أنّه لا وجود لها؟ فهو أمر خارج عن وِسعنا؛ لأنّا ما أُوتينا من العلم إلاّ قليلاً، ( لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ) .

نعم كلّ دون صفاته تعبير اللغات، وضلّ هنالك تصاريف الصفات، وحار في ملكوته عميقات مذاهب التفكير، وانقطع دون الرسوخ في علمه جوامع التفسير.

ثمّ إنّ هذا الدليل لا يثبت لنا تعلّق علمه بالممكنات التي لا تقع إلى الأبد كما في قوله تعالى: ( وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ) (2) ، ولا بالملازمات الواقعية كما في قوله تعالى: ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ) (3) ، ولا بامتناع الممتنعات التي لم يعلم غيره، وأمّا ما علمه غيره فهو يعلمه؛ لأنّه الخالق للصور المذكورة في مشعر غيره، وليس عدم إثبات تعلّق علمه تعالى بهذه الموارد الثلاثة من قصور طريقنا وحده، بل المسلكان المتقدّمان أيضاً لا يثبتانه أيضاً كما هو ظاهر، بل ما اخترعوه من العلم التفصيلي حضورياً كان - كما عليه الإشراقيون - أو حصولياً - كما عليه المشّاؤون - أيضاً لا يشمل هذه الموارد، فلابدّ لإثبات ذلك من التماس قاعدة الملازمة ابتداءً، أو الاعتماد على دلالة الشرع وحدها.

وهنا طريق آخر يمكن أن يفضي بنا إلى المطلوب، وهو ما تقدّم من عدم اقتضاء الممكن للوجود والعدم، واستواء ماهيّته بالنسبة إليهما وفقر وجوده، فهو محتاج في عدمه إلى غيره، كما يحتاج إليه في وجوده، ومن هذا ينقدح أنّ الله المختار عالم بالأشياء الممكنة، سواء وقعت في الخارج أم لم تقع، فإنّه هو الذي اختار عدمها على وجودها، ولم يرد طرف وجودها في أَوّل ظروف إمكانها.

وبالجملة: عدم الأشياء مستند إلى عدم إرادته تعالى لوجوداتها، وإرادة إيجادها تابعة لعلمه بالمصلحة، فيكون عدم إرادته من جهة علمه بعدم المصلحة، فهو عالم بكل شيء أزلاً.

____________________

(1) وما نُسب إلى القوم الثاني أو جمع منهم - من إمكان معرفة ذاته - غير ثابت.

(2) الأنعام 62 / 28.

(3) الأنبياء 21 / 22.

١٥٣

وهذا الدليل أخصر وأعم، أمّا الأخصرية فهي ظاهرة (1) ، وأمّا الأعميّة؛ فلشموله الممكنات غير الواقعة في دار الوجود أصلاً فتأمّل فيه.

هذا كله من ناحية حكم العقل، وأمّا من جهة الشرع فإليك نبذة ممّا ورد منه في الكتاب والسُنة:

أمّا الكتاب العزيز ففيه آيات بيّنات:

فمنها قوله تعالى: ( عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) (2) بناءً على تفسير الغيب بما لم يكن كما في الرواية، لا بما هو الموجود الحاضر، الغايب عن مشاعرنا.

ومنها قوله: ( إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ) (3) .

ومنها قوله: ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ) (4).

ومنها قوله: ( وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ) (5).

ومنها قوله: ( وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ) (6) .

ومنها قوله: ( غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ) (7) ومثلها غيرها.

وأمّا الروايات فنُقل بعضها المذكور في الكافي، وتوحيد الصدوق رحمه‌الله ، وقد نقلها المجلسي رحمه‌الله أيضاً.

1 - صحيحة محمد بن مسلم عن الباقر عليه‌السلام قال: سمعته يقول: (كان الله ولا شيء غيره، ولم يزل عالماً بما يكون، فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعد كونه).

2 - رواية الحسين بن بشّار عن الرضا عليه‌السلام قال: سألته أيعلم الله الشيء الذي لم يكن، أن لو كان كيف يكون، أو لا يعلم إلاّ ما يكون؟ فقال: إنّ الله تعالى هو العالِم بالأشياء قبل كون الأشياء، قال عزّ وجل: ( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) (8) وقال لأهل النار: ( وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا

____________________

(1) هذا بناءً على إمكان أزلية الممكن، وأمّا بناءً على عدمه فالدليل يحتاج إلى أحد الطرق الثلاثة المتقدمة كما لا يخفى.

(2) الأنعام 6 / 73.

(3) لقمان 31 / 34.

(4) الأنبياء 21 / 22.

(5) الأنعام 6 / 28.

(6) الأنفال 8 / 23.

(7) الروم 30 / 3.

(8) الجاثية 45 / 29.

١٥٤

نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) (1) فقد علم الله عزّ وجل أنّه لو ردّهم لعادوا لِما نهوا عنه، وقال للملائكة لما قالوا: ( أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) (2) فلم يزل الله عزّ وجل علمه سابقاً للأشياء قديماً قبل أن يخلقها، فتبارك ربّنا وتعالى علوّاً كبيراً،خلق الأشياء وعلمه بها سابق لها كما شاء، كذلك لم يزل ربّنا عليماً سميعاً بصيراً (3) .

3 - رواية فتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن عليه‌السلام ، قال: قلت له: يعلم القديم الشيء الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون؟ قال: (ويحك أنّ مسألتك لصعبة أَما سمعت الله يقول: ( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ) (4) وقوله: ( وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ) (5) وقال يحكي قول أهل النار ( ارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ) (6) وقال: ( وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ ) (7) فقد علم الشيء الذي لم يكن أن لو كان كيف كان يكون...) إلخ.

4 - رواية ابن حازم عن الصادق عليه‌السلام ، قال: قلت له: أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، أليس كان في علم الله؟ قال: (بلى قبل أن يخلق السماوات والأرض).

5 - روايته الأخرى عنه عليه‌السلام ، قال: سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله عزّ وجل؟ قال: (لا، بل كان في علمه قبل أن يُنشئ السماوات والأرض).

6 - رواية صفوان بن مسكان، قال: سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الله تعالى: أَكان يعلم المكان قبل أن يخلق المكان، أم علمه عندما خلقه وبعد ما خلقه؟ فقال: (تعالى الله، بل لم يزل عالماً بالمكان قبل تكوينه، كعلمه به بعدما كوّنه، وكذلك علمه بجميع الأشياء كعلمه بالمكان).

7 - رواية الهروي عن الرضا، قال عليه‌السلام في جواب المأمون السائل عن قوله تعالى: ( لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) (8) : (إنّه عزّ وجل خلق خلقه ليبلوهم بتكليف طاعته وعبادته، لا على سبيل الامتحان والتجربة؛ لأنّه لم يزل عليماً بكل شيء).

8 - رواية فضيل بن سكرة، حيث قال أبو جعفر عليه‌السلام في جواب مَن سأله عن علمه بذاته قبل

____________________

(1) الأنعام 6 / 28.

(2) البقرة 2 / 30.

(3) لاحظ البحار 4 / 78.

(4) الأنبياء 21 / 22.

(5) المؤمنون 23 / 91.

(6) فاطر 35 / 37.

(7) الأنعام 6 / 28.

(8) هود 11 / 7.

١٥٥

خلقه: (ما زال الله عالماً تبارك وتعالى ذِكره).

9 - مكاتبة أيوب بن نوح، أنّه كتب إلى أبي الحسن عليه‌السلام يسأله عن الله عزّ وجل: أكان يعلم الأشياء قبل أن يخلق الأشياء وكونها، أو لم يعلم ذلك حتى خلقها وأراد خلقها وتكوينها، فعلم ما خلق عندما خلق وما كوّن عندما كوّن؟ فوقع بخطه عليه‌السلام : (لم يزل الله عالماً بالأشياء قبل أن يخلق الأشياء، كعلمه بالأشياء بعد ما خلق الأشياء).

10 - رواية ابن حازم قال: سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : هل يكون اليوم شيء لم يكن في علم الله بالأمس؟ قال: (لا، مَن قال هذا فأخزاه الله. قلت: أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة أليس في علم الله؟ قال: بلى قبل أن يخلق الخلق).

11 - رواية أبي هشام الجعفري المروية عن الخرائج حيث قال أبو محمد عليه‌السلام : (تعالى الجبّار الحاكم العالم بالأشياء قبل كونها).

12 - ما رواه الشيخ الطوسي قدّس سره في كتاب الغيبة، عن سعد عن عيسى عن البزنطي، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال: (قال: علي بن الحسين، وعلي بن أبي طالب قبله، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد عليهم‌السلام : كيف لنا بالحديث مع هذه الآية ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (1) فأمّا مَن قال بأنّ الله لا يعلم الشيء إلاّ بعد كونه، فقد كفر وخرج عن التوحيد).

13 - رواية أبي بصير وسماعة عن الصادق عليه‌السلام ، كما عن إكمال الدين، قال: (مَن زعم أنّ الله عزّ وجل يبدو له في شيء لم يعلمه أمس، فابرؤوا منه).

14 - رواية هشام بن الحكم، كما في الاحتجاج، سأل الزنديق عن الصادق عليه‌السلام فقال: فلم يزل صانع العالم عالماً بالأحداث التي أحدثها قبل أن يحدثها؟ قال: (لم يزل يعلم فخلق) (2) .

هذه جملة من الأخبار الواردة من أصحاب الحكمة والعصمة، في هذه المسألة ممّا ذكرته لك، ومن المعلوم أنّ مثل هذه الروايات أكثر من ذلك كما يجدها المتتبع، ثمّ إنّ هنا روايات أُخر تدلّ على المطلوب، وإليك فهرسها مجملاً:

الطائفة الأُولى: بعض ما ورد في موضوع البداء، فلاحظ الجزء الرابع من بحار الأنوار وغيرها.

الطائفة الثانية: ما ورد من أنّ علمه عين ذاته، وأنّه علم لا جهل فيه، كما ستقف عليها في المقصد الرابع.

الطائفة الثالثة: ما دلّ على علم الأئمة بالأُمور الآتية، وهي لعلّها بنفسها متواترة كما يأتي.

____________________

(1) الرعد 13 / 39.

(2) البحار 4 / 67.

١٥٦

الطائفة الرابعة: ما ورد في اللوح المحفوظ، وأنّ الله كتب جميع الوقايع فيه أَوّلاً.

الطائفة الخامسة: ما ورد في الشقاوة والسعادة، وما يكتب عند ولوج الروح في الجنين.

فقد ثبت من جميع ذلك ثبوتاً قطعياً بتيّاً، أنّ السُنّة تنطق بعلمه تعالى بالأشياء أزلاً (1) ، ثمّ إنّ من وراء العقل، والقرآن، والسنة، الضرورة المذهبية أو الإسلامية، قال الشيخ المفيد (2) : أقول: إنّ الله عالم بكلّ ما يكون قبل كونه، وأنّه لا حادث إلاّ وقد علمه قبل حدوثه، ولا معلوم وممكن أن يكون معلوماً إلاّ وهو عالم بحقيقته... وبهذا قضت دلائل العقول، والكتاب المسطور، والأخبار المتواترة عن آل الرسول، وهو مذهب جميع الإمامية... ومعنا فيما ذهبنا إليه في هذا الباب جميع المنتسبين إلى التوحيد، سوى الجهم بن صفوان من المجبّرة، وهشام بن عمر القوطي من المعتزلة، فإنّهما كانا يزعمان أنّ العلم لا يتعلّق بالمعدوم، ولا يقع إلاّ على موجود، وأنّ الله تعالى لو علم الأشياء قبل كونها لَما حسن منه الامتحان.

وقال العلاّمة المجلسي: (3) ثمّ اعلم أنّ من ضروريات المذهب كونه تعالى عالماً أزلاً وأبداً، بجميع الأشياء كليّاتها وجزئياتها، من غير تغيّر في علمه تعالى، ثمّ نقل بعض مذاهب الفلاسفة في علمه تعالى، فأعقبه بقوله: وجميع هذه المذاهب الباطلة كفر صريح مخالف لضرورة العقل والدين... إلخ.

فإذن، لا دغدغة في المسألة، فإنّها ممّا توافق عليه العقل والشرع، كما قرّرناه بأوضح التقرير.

الجهة الثالثة: في إبطال الآراء المنحرفة

قد نقلوا الخلاف علمه، أو عمومه من جماعات من الناس، فنذكر أقوالهم ووجه بطلانها تكميلاً للمقام:

____________________

(1) قال بعض مَن في قلبه مرض في مختصر تحفة الاثني عشرية: قالت الشيطانية - وهم أتباع شيطان الطاق -: إنّه تعالى لا يعلم الأشياء قبل كونها، وجماعة من الاثنا عشرية، من متقدّميهم ومتأخّريهم منهم المقداد صاحب كنز العرفان قالوا: إنّ الله لا يعرف الجزئيات قبل وقوعها.

أقول: وقد عرفت مذهب الإمامية بأسرهم في عموم تعلّق علمه بالأشياء أزلاً، ولا قائل من الإمامية بما افتراه أحد، وإنّما هو قول غيرنا من العامّة وغيرهم، فلعنة الله على الكاذبين.

ومؤمن الطاق رجل حاذق، من أجلاّء متكلّمي الإمامية، وأصحاب الصادق عليه‌السلام ، وليس له فِرقة وحزب خاصّ، كما تخيّله هذا القائل تقليداً للشهرستاني وغيرها.

(2) أوائل المقالات / 21.

(3) بحار الأنوار 4 / 87.

١٥٧

الأَوّل: إنّه تعالى لا يعلم نفسه (1) ؛ لأنّ العلم نسبة تقتضي الشيئين المتغايرين بالضرورة، ولا تعقّل في شيء واحد، وتضعّفه عينية العلم مع ذاته تعالى، فهو ليس فيه تعالى بنسبة، هذا مع أنّ العلم صفة لا تقتضي أزيد من عالم ومعلوم، واجتماع هذين العنوانين على شيء واحد ممكن، كما في علمنا بأنفسنا، فمن حيث إنّا نعلم أنفسنا فنحن عالمون، ومن حيث إنّ أنفسنا منكشفة لدينا فنحن معلومون، فكذا في الباري تعالى.

الثاني: إنّه لا يعلم شيئاً أصلاً؛ وإلاّ أمكن أن يعلم نفسه أيضاً، وقد مرّ أنّ إمكان علمه بنفسه ممنوع. نُقل هذا القول عن بعض قدماء الفلاسفة، وقد اتّضح لك فساده.

الثالث: إنّه لا يعلم غيره وإن كان عالماً بذاته؛ وذلك لأنّ العلم بالشيء غير العلم بغير ذلك الشيء، وإلاّ فمَن علم شيئاً علم جميع الأشياء، فلو كان الله عالماً بالأشياء لكانت له علوم متعدّدة، فيتحقّق في ذاته كثرة غير متناهية.

وأجيب عنه بمنع تعدّد العلم بتعدّد المعلومات، فالكثرة في الإضافات والتعلّقات، وأمّا العلم فهو واحد، وهي - أي كثرة الإضافات - غير ممتنعة، لأنّها أُمور اعتبارية لا وجود لها خارجاً.

أقول: إتمام هذا الجواب موقوف على أنّ علم الواجب ليس بحصولي ولا حضوري، وسيأتي أنّ علمه ليس بشيء منهما.

الرابع: إنّه لا يعلم غير المتناهي؛ إذ المعقول متميّز، وغير المتناهي غير متميّز عن غيره، وإلاّ لكان له حد ينفصل به عن غيره، فيكون متناهياً وهو خلف.

وفيه أَوّلاً: إنّ كلّ فرد في نفسه متميّز، فيتعلّق العلم بكل واحد منه.

وثانياً: إنّ التميّز لا يستلزم الحد، فلا مانع من أن يكون ما لا يتناهى متميّزاً.

الخامس: إنّه لا يعلم الجميع، بمعنى سلب إيجاب الجميع لا بمعنى السلب الكلي؛ إذ لو علم كلّ شيء للزم أن يعلم أيضاً علمه به، وأن يعلم علمه بعلمه، فيلزم التسلسل في العلوم.

وأجيب عنه بأنّ (2) العلم عندنا من قبيل الإضافات، وتسلسلها غير باطل.

أقول: علمه تعالى ليس من الإضافات والنِسب بل هو عين ذاته، والمجيب أيضاً قائل بأنّه موجود قديم تبعاً لشيخه الأشعري، فحكمه هنا بإضافة العلم واعتباريته تناقض منه في أُصوله.

____________________

(1) نُسب هذا القول إلى الدهرية، مع أنّهم ينكرون قدرته وحياته وحكمته وتجرّده أيضاً، فإنّهم يرون أنّ مبدأ العالم أجسام صغار كما تقدّم، فتخصيص نفي العلم به وحده بلا مخصّص، فتأمّل.

(2) ذكره في المواقف وشرحها 3 / 64.

١٥٨

وأمّا هذه الشبهة فيمكن أن يجاب عنها، بأنّ انكشاف العلم بنفسه لا بعلم ثانٍ.

لا يقال: إنّه لو صح ذلك لبطل العلم البسيط وهو خلاف الوجدان.

فإنّه يقال: لا علم لمَن غفل عن علمه حقيقةً، نعم هو عالم بمعنى تمكّنه من حصوله بالالتفات، وبالجملة: مَن كان له علم بشيء فهو ملتفت إليه، فإذا بطل التفاته فقد بطل علمه، ولا معنى لتقسيم العلم إلى البسيط والمركب إذا أُريد بالمقسم الانكشاف الفعلي. فتأمّل فيه.

السادس: إنّه لا يعلم ذاته ولكن يعلم غيره على عكس القول الثالث، والمصرّح في كلام العلاّمة الحلّي (1) والمحدّث المجلسي (2) - على اختلاف جزئي بين الكلاميين - أنّ هذا القول بل القول الأَوّل والثاني والثالث والرابع والخامس من قدماء الفلاسفة.

أقول: فساد هذا الوجه ظاهر.

السابع: إنّه تعالى لا يعلم الجزئيات المتغيّرة بما هي جزئيات متغيّرة، كما عن الفلاسفة أو جمهورهم، وبرهنوا عليه بأنّ علمه تعالى إن بقى على حاله حين تغيّر تلك الجزئيات فيلزم الجهل، وإن تغيّر بتبع تغيرها لزم التغيّر في ذاته، بل لا يعلم الجزئيات المتشكّلة وإن لم تتغيّر، كأجرام الأفلاك الثابتة على أشكالها؛ لأنّ إدراكها إنّما يكون بالآلات الجسمانية، وأمّا الجزئيات الثابتة غير المشكّلة - كذاته تعالى والعقول الكلية - فهي معلومة له تعالى بأشخاصها بلا محذور، كما أنّ الجزئيات المتغيّرة والمتشكّلة أيضاً ممّا يتعلّق به علمه تعالى على نحو كلّي.

وبيانه ما قرّره ابن سينا في محكي الشفاء (3) حيث قال في بحث إلهياته: ولأنّه مبدأ كل وجود فيعقل من ذاته ما هو مبدأ له، وهو مبدأ للموجودات التامة بأعيانها، والموجودات الكائنة الفاسدة بأنواعها أَوّلاً وبتوسط ذلك بأشخاصها، ومن وجه آخر لا يجوز أن يكون عاقلاً لهذه المتغيّرات مع تغيّرها، من حيث هي متغيّرة عقلاً زمانياً مشخّصاً، بل على نحو آخر منه، فإنّه لا يجوز أن يكون تارةً يعقل عقلاً زمانياً أنّها موجودة غير معدومة، وتارةً أنّها معدومة غير موجودة، فيكون لكلّ واحد من الأمرين صورة عقلية على حدة، ولا واحدة من الصورتين يبقى مع الثانية، فيكون واجب الوجود متغيّر الذات، ثمّ الفاسدات إن عقلت بالماهية المجرّدة بما يتبعها ممّا لا يتشخّص، لم يعقل بما هي فاسدة، وإن أدركت بما هي مقارنة لمادة، وعوارض مادة، ووقت، وتشخّص، وتركيب، لم يكن معقولةً بل هي محسوسة أو متخيّلة.

ونحن قد بيّنا في كتب أُخرى أنّ كلّ صورة لمحسوس، وكل صورة خيالية فإنّما يدرك من

____________________

(1) شرح قواعد العقائد / 45.                          (2) البحار 4 / 87.

(3) الشوارق 2 / 252.

١٥٩

حيث هي محسوسة ومتخيّلة بآلة متجزية، وكما أنّ إثبات كثير من الأفاعيل للواجب الوجود نقص له، كذلك إثبات كثير من التعقّلات، بل الواجب الوجود إنّما يعقل كلّ شيء على نحو كلي، ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصي، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماوات والأرض، وهذا من العجائب التي يحوج تصوّرها إلى لطف قريحة.

قال في التعليقات (1) في ضمن كلام له: وأمّا أنّه كيف يكون علمه؟ فهو أن يكون بسبب، أعني أن يكون يعرف الموجودات كلّها على وجه كلّي، وإذا كانت الأشياء كلها واجبةً عنده إلى أقصى الوجود فإنّه يعرفها كلّها؛ إذ كلّها من لوازمه ولوازم لوازمه، وإذا علم أنّه كلّها كان كذا، أعني جزئياً، وكلّما كان كذا كان كذا، أعني جزئياً آخر، يكون هذه الجزئيات مطابقةً لهذا الحكم، يكون قد عرف الجزئيات على الوجه الكلّي، الذي لا يتغيّر الذي يمكن أن يتناول أي جزئي كان، لا هذا المشار إليه.

ثمّ قال: ومثل هذا أنّ منجّماً يعلم أنّ الكواكب (هكذا) الفلاني كان أَوّلاً في الدرجة الفلانية، فصار إلى الدرجة الفلانية، ثمّ بعد كذا ساعة قارن الكوكب الفلاني، ثمّ دخل بعد كذا ساعة في ذلك الكسوف، ثمّ بقي كذا ساعة في ذلك الكسوف، ثمّ فارق الشمس وانجلى، يكون قد عرف كل ذلك بأسبابه، ولا يكون قد عرف أنّ هذا الكوكب في هذه الساعة في الدرجة الفلانية، حتى يكون الساعات التي بعدها مستندة إلى هذه المشار إليها، ويتغيّر علمه بتغيّر الأحوال وبحدودها.

فإذا عرف على الوجه الذي ذكرنا - أعني بالسبب - كان حكمه في اليوم وغداً وأمس حكماً واحداً، والعلم لا يتغيّر، فإنّه صحيح دائماً في هذا الوقت، وفيما قبله، وفيما بعده، أنّ الكوكب الفلاني كذا ساعة يقارن الكوكب الفلاني، فأمّا إن قال: إنّ الكوكب الفلاني في هذا الوقت الفلاني المشار إليه المستفاد علمه من خارج، متقارن لكوكب الفلاني (هكذا)، وغداً مقارناً لكوكب آخر، فإنّه إذا جاء الغد بطل الحكم الوقتي والعلم الوقتي، فإذن الفرق بين العلمينِ ظاهر.

فواجب الوجود علمه على الوجه الكلي علم لا يعزب عنه مثقال ذرة، وهذا الكسوف الشخصي وإن كان معقولاً على الوجه الكلي؛ إذ قد علم بأسبابه، والمعقول منه بحيث يجوز حمله على كسوفات كثيرة، كلّ واحد منها حاله حال هذا الكسوف، فإنّ الأَوّل تعالى يعلم أنّه شخص في الوجود وعلمه محيط بوحدانيته، فإنّه إن لم يعرف وحدانيته لم يعرفه حقّ المعرفة، وكذلك نظام الموجودات عنه، وإن عرفه على وجه كلّي بحيث يكون معقولةً يجوز حمله على كثيرين، فإنّه يعلم أنّه واحد، وعلمه بأنّ هذا الكسوف شخصي، لا يرفع المعقول الكلي والعلم ما

____________________

(1) الشوارق 2 / 254.

١٦٠