زيارة وتوسّل

زيارة وتوسّل25%

زيارة وتوسّل مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 155

زيارة وتوسّل
  • البداية
  • السابق
  • 155 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 52774 / تحميل: 7660
الحجم الحجم الحجم
زيارة وتوسّل

زيارة وتوسّل

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

فسيبلغني سلامكم وصلاتكم » (١) .

وأخرج عبدالرزاق في ( المصنّف ) نحو هذا عن الحسن بن علي عليهما‌السلام .

وليس في هذا الكلام إنكار لأصل الزيارة، لاسيما بعد أن ثبت أنّهم يفعلونها، وأنّهم مجمعون علىٰ صحّتها وكونها قربة، ولكنه لما رأىٰ الرجل قد جاوز الحد في صنيعه عند القبر، مكرراً ذلك غداة كل يوم كما جاء في صدر الخبر، الأمر الذي يبعُد معه احتمال كونه يصنع ذلك كلَّه بشوق حقيقي خالٍ من التصنُّع، أنكر عليه ذلك، وأراد تعليمه أنَّ السلام يبلغه ولو من بعد، دون الحاجة إلىٰ هذا القدر من التصنُّع المكرَّر يوماً بعد آخر.

ويشهد لهذا أحاديث كثيرة عن أهل البيت عليهم‌السلام ، منها:

- حديث الإمام الباقر عليه‌السلام عن أبيه علي بن الحسين نفسه، أنّه كان يقف علىٰ قبر النبي ويلتزق بالقبر (٢) .

- وأنّ الإمام الصادق عليه‌السلام كان يأتي قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيضع يده عليه. وسيأتي بكامله مع أحاديث أُخرىٰ مماثلة في ( آداب الزيارة ).

- وحديث الإمام الصادق عليه‌السلام : « مرّوا بالمدينة فسلّموا علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قريب، وإن كانت الصلاة تبلغه من بعيد » (٣) .

- وقوله عليه‌السلام : « صلّوا إلىٰ جانب قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كانت صلاة المؤمنين

_________________________________

(١) أخرجه السبكي عن القاضي إسماعيل في كتاب ( فضل الصلاة علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )، شفاء السقام: ٧٩.

(٢) الكافي ٤: ٥٥١ / ٢.

(٣) الكافي ٤: ٥٥٢ / ٥ - كتاب الحج - باب دخول المدينة وزيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٨١

تبلغه أينما كانوا » (١) .

وسيأتي في ( آداب الزيارة ) أن الأئمة عليهم‌السلام وسائر أهل العلم كانوا يعلِّمون الناس سنناً وآداباً خاصةً في الزيارة، ليتمسّك بها الناس، فلا يتجاوزونها.

وشأن الزيارة في ذلك شأن سائر العبادات والقربات المحفوفة بالسنن والآداب.

_________________________________

(١) الكافية ٤: ٥٥٣ / ٧ تهذيب الأحكام ٦: ٧ / ٤.

٨٢

الفصل الرابع

آداب الزيارة وردُّ الشبهات المثارة حولها

آداب الزيارة

كغيرها من الأعمال التي يُتقرّب بها إلىٰ الله تعالىٰ، لابدّ أن تكون للزيارة سنن وآداب، ينبغي التزامها، والعمل بمقتضاها والحذر من مجاوزتها وإغفالها لما قد يجره ذلك عن خروج من السنن أحياناً، ومجاوزة للآداب أحياناً أخرىٰ.

وقد تقدّم في ( زيارة القبور وفضيلتها ) عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه نهىٰ أن يقول الزائر هجراً، أي أن يأتي بالكلام الذي لا يستقيم مع روح الدين الإسلامي ومقاصده.

ولما كانت زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبور الأولياء الصالحين ممّا عمل به المسلمون منذ الصدر الأول، واستمروا عليه، فقد وجد الأئمة عليهم‌السلام وسائر الفقهاء لزاماً تعليم الناس فقه الزيارة وسننها وآدابها، حفاظاً علىٰ صورة الدين الحنيف، وعلىٰ صورة هذه الشعيرة من شعائره، فورد عنهم في هذا أثر كثير، يؤكد

٨٣

بالمرتبة الأولىٰ إجماعهم علىٰ أنّها من سنن هذا الدين، وأنّها من الأعمال التي يتقرّب بها العبد إلىٰ الله تعالىٰ..

ونكتفي هنا بإيراد نماذج منتخبة، تحقق الغرضين معاً، شرعية الزيارة، ثمَّ سننها وآدابها.

١ - في حديث حسن الإسناد عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : « إذا دخلت المدينة فاغتسل قبل أن تدخلها أو حين تدخلها، ثمَّ تأتي قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمَّ تقوم فتسلّم علىٰ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمَّ تقوم عند الاسطوانة المقدمة من جانب القبر الأيمن عند رأس القبر، وأنت مستقبل القبلة، ومنكبك الأيسر إلىٰ جانب القبر، ومنكبك الأيمن مما يلي القبر، فإنّه موضع رأس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتقول: أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، وأشهد أنّك رسول الله، وأشهد أنّك محمد بن عبدالله، وأشهد أنّك قد بلغت رسالات ربّك ونصحت لأمّتك وجاهدت في سبيل الله وعبدت الله مخلصاً حتىٰ أتاك اليقين، بالحكمة والموعظة الحسنة، وأدّيت الذي عليك من الحقّ، وأنّك قد رؤفت بالمؤمنين، وغلظت علىٰ الكافرين، فبلغ الله بك أفضل شرف محلّ المكرّمين.

الحمد لله الذي استنقذنا بك من الشرك والضلالة، اللهم فاجعل صلواتك وصلوات ملائكتك المقرّبين وعبادك الصالحين وأنبيائك المرسلين وأهل السماوات والأرضين ومن سبّح لك يا رب العالمين من الأولين والآخرين علىٰ محمد عبدك ورسولك ونبيك وأمينك ونجيبك وحبيبك وصفيّك وخاصّتك وصفوتك وخيرتك من خلقك، اللهم أعطه

٨٤

الدرجة والوسيلة من الجنّة وابعثه مقاماً محموداً يغبطه به الأولون والآخرون.

اللهم إنّك قلت: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) وإنّي أتيت نبيّك مستغفراً تائباً من ذنوبي، يا رسول الله إنّي أتوجه بك إلىٰ الله ربّي وربّك ليغفر ذنوبي » .

قال: « وإذا كان لك حاجة فاجعل قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلف كتفيك واستقبل القبلة وارفع يديك واسأل حاجتك، فإنّها أحرىٰ أن تُقضىٰ إن شاء الله » (١) .

وفي الحديث ما هو صريح بالتوسل والاستشفاع بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أمّا استدبار القبر الشريف أثناء الدعاء فقد ورد مثله في أحاديث أُخر، كما ورد أيضاً استقباله في الدعاء، مما يدل علىٰ جواز الأمرين، وليس في أيّهما مخالفة لأدب الزيارة أو أدب الدعاء.

٢ - من حديث الإمام موسىٰ بن جعفر، عن أبيه، عن جدّه الباقر عليهم‌السلام ، قال: « كان أبي علي بن الحسين عليهما‌السلام يقف علىٰ قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيسلّم عليه، ويشهد له بالبلاغ، ويدعو بما حضره، ثمَّ يسند ظهره إلىٰ المروة (٢) الخضراء الدقيقة العرض مما يلي القبر، ويلتزق بالقبر، ويسند ظهره إلىٰ القبر ويستقبل القبلة، فيقول: اللهم إليك ألجأت أمري، وإلىٰ قبر محمد عبدك

_________________________________

(١) الكافي ٤: ٥٥٠ - ٥٥١ / ١ - كتاب الحج - باب دخول المدينة وزيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تهذيب الأحكام ٦: ٥ / ١ باب٣.

(٢) المروة: الحجر البراق.

٨٥

ورسولك أسندت ظهري، والقبلة التي رضيت لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استقبلت... » في دعاء طويل (١) .

٣ - عن محمد بن مسعود، قال: رأيت أبا عبدالله عليه‌السلام انتهىٰ إلىٰ قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوضع يده عليه، وقال: « أسأل الله الذي اجتباك واختارك وهداك وهدىٰ بك أن يصلّي عليك » ، ثمَّ قال: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) (٢) .

٤ - عن الإمام الصادق عليه‌السلام : « إذا فرغت من الدعاء عند قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأت المنبر وامسحه بيدك، وخذ برمّانتيه، وهما السفلاوان، وامسح عينيك ووجهك به، فإنّه يقال إنّه شفاء العين. وثمَّ عنده فاحمد الله وأثنِ عليه، وسل حاجتك، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنّة، ومنبري علىٰ ترعة من ترع الجنّة (٣) ، ثمَّ تأتي مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتصلّي فيه ما بدا لك، فإذا دخلت المسجد فصلِّ علىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإذا خرجت فاصنع مثل ذلك، وأكثر من الصلاة في مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (٤) .

وهو صريح بجواز التبرّك بمنبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٥ - نصّ زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ( الفقه علىٰ المذاهب الأربعة ).

وردت عن أعلام المذاهب الأربعة نصوص عديدة في زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

_________________________________

(١) الكافي ٤: ٥٥١ / ٢.

(٢) الكافي ٤: ٥٥٢ / ٤.

(٣) الترعة: الباب الصغير.

(٤) الكافي ٤: ٥٥٣ / ١، باب المنبر والروضة، تهذيب الأحكام ٦: ٧ / ٥.

٨٦

إختار منها صاحب كتاب ( الفقه علىٰ المذاهب الأربعة ) نصّاً موجزاً نسبياً، يتلوه الزائر عند قبر المصطفىٰ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو:

« السلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته، أشهد أنّك رسول الله، فقد بلّغت الرسالة وأدّيت الأمانة، ونصحت الأمّة، وجاهدت في أمر الله حتىٰ قبض الله روحك حميداً محموداً، فجزاك عن صغيرنا وكبيرنا خير الجزاء، وصلّىٰ عليك أفضل الصلاة وأزكاها، وأتمّ التحية وأنماها، اللهم اجعل نبيّنا يوم القيامة أقرب النبيين إليك، واسقنا من كأسه، وارزقنا من شفاعته، واجعلنا من رفقائه يوم القيامة، اللهم لا تجعل هذا آخر العهد بقبر نبيّنا عليه‌السلام ، وارزقنا العود إليه يا ذا الجلال والإكرام » (١) .

وفي الفقرة الأخيرة ما يدلّ علىٰ استحبابهم القصد لزيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، غير مقرون بقصد آخر « اللهم لا تجعل هذا آخر العهد بقبر نبيّنا عليه‌السلام ، وارزقنا العود إليه ».

استقبال القبر واستدبار القبلة

تقدّم في حديثي الإمامين زين العابدين والصادق عليهما‌السلام استحباب استقبال القبلة وجعل القبر الشريف وراء الكتف حال الدعاء عنده، وقد أشرنا هناك إلىٰ ورود ما يدعو إلىٰ استقبال القبر الشريف حال الدعاء والاستشفاع، وعندها تكون القبلة وراء كتف الزائر. ومما ورد في هذا:

١ - عن أبي حنيفة، قال: جاء أيوب السختياني، فدنا من قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاستدبر القبلة، وأقبل بوجهه إلىٰ القبر، فبكىٰ بكاءً غير متباكٍ (٢) .

_________________________________

(١) الفقه علىٰ المذاهب الأربعة ١: ٧١٣.

(٢) شفاء السقام: ٧٤، عن مسند أبي حنيفة، لأبي القاسم طلحة بن محمد بن جعفر.

٨٧

٢ - مالك بن أنس: في مناظرة مالك بن أنس وأبي جعفر المنصور في المسجد النبوي الشريف، قال أبو جعفر لمالك: يا أبا عبدالله، أستقبل القبلة وأدعو، أم استقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

قال مالك: ولِمَ تصرف وجهك عنه، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه‌السلام إلىٰ الله تعالىٰ يوم القيامة؟! بل استقبله، واستشفع به فيشفّعه الله تعالىٰ (١) .

٣ - مذهب الشافعي وأبي حنيفة، والمنقول عن ابن عمر: استقبال القبر واستدبار القبلة.

قال الخفاجي في ( نسيم الرياض ): استقبال وجهه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستدبار القبلة مذهب الشافعي والجمهور، ونُقل عن أبي حنيفة. وقال ابن الهمام: ما نُقل عن أبي حنيفة أنّه يستقبل القبلة مردود بما روي عن ابن عمر: أنّ من السنّة أن يستقبل القبر المكرّم ويجعل ظهره للقبلة. قال: وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة (٢) .

وقد تقدمت رواية أبي حنيفة عن أيوب السختياني بما يوافقه.

٤ - إبراهيم الحربي (٣) : قال في مناسكه: تولّي ظهرك القبلة وتستقبل وسط القبر، وتقول: السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته (٤) .

في آداب زيارة مراقد الأئمة عليهم‌السلام :

إنّ من تمام الوفاء بالعهد لهم عليهم‌السلام زيارة قبورهم.. رغبةً في زيارتهم،

_________________________________

(١) شفاء السقام: ٦٩، ويأتي بتمامه في ( التوسل ).

(٢) نسيم الرياض في شرح الشفا ٣: ٥١٧، الغدير ٥: ١٩٩.

(٣) من كبار الحفّاظ وأهل الفقه والزهد، سمع من أحمد بن حنبل وطبقته، وكان جلساؤه يفضلونه علىٰ أحمد بن حنبل، مولده سنة ١٩٨، ووفاته سنة ٢٨٥ هـ، سير أعلام النبلاء: ٣: ٣٥٦ - ٣٧٢.

(٤) شفاء السقام: ٧٠.

٨٨

وتصديقاً لما رغبوا فيه، كما ورد عن الإمام الرضا عليه‌السلام في ما تقدّم، من أجل ذلك، وحفظاً لسنن الشريعة وآدابها، لا نجد واحداً منهم عليهم‌السلام إلّا وقد ورد في آداب زيارته وما يقال عنده ما فيه غنىً لقاصديهم، تعليماً وتأديباً، وما في حفظه براءة من كلّ محدَثٍ مبتَدع من الأمور التي قد تصدر هنا أو هناك عن بعض زوار القبور، لجهالة أو لغفلة، وفيه البراءة أيضاً من كل ما لا يليق بمقاماتهم الشريفة.. ولكون هذه الآداب والتعاليم متشابهة، نكتفي بذكر القليل منها:

١ - في زيارة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام : « إذا أردت زيارة قبر أمير المؤمنين عليه‌السلام فتوضّأ واغتسل وامشِ علىٰ هنيئتك، وقل: الحمد لله الذي أكرمني بمعرفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن فرض طاعته، رحمةً منه وتطوّلاً عليَّ بالإيمان..

الحمد لله الذي سيّرني في بلاده، وحملني علىٰ دوابه، وطوىٰ لي البعيد ودفع عني المكروه حتىٰ أدخلني حرم أخي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... الحمد لله الذي جعلني من زوّار قبر وصي رسول الله، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله، أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله جاء بالحق من عنده، وأشهد أنّ علياً عبد الله وأخو رسوله.

ثمَّ تدنو من القبر وتقول: السلام من الله والتسليم علىٰ محمد أمين الله... » ثمَّ ذكر تسليماً يعدِّد فيه خلال وخصال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحميدة، ثمَّ التسليم علىٰ أمير المؤمنين بنحو ذلك ويكثر من الصلوات عليهما وعلىٰ آلهما، في ذكر طويل (١) .

_________________________________

(١) تهذيب الأحكام ٦: ٢٥.

٨٩

غير انّ هناك نصّاً آخر مختصراً جامعاً لزيارته عليه‌السلام روي عن الإمامين الصادق والكاظم عليهما‌السلام ، جاء فيه:

« تقول عند قبر أمير المؤمنين عليه‌السلام : السلام عليك يا ولي الله، أنت أول مظلوم، وأول من غُصِبَ حقّه، صبرت واحتسبت حتىٰ أتاك اليقين.. وأشهد أنّك قد لقيت الله وأنت شهيد.. عذَّب الله قاتلك بأنواع العذاب وجدد عليه العذاب.. جئتك عارفاً بحقّك، مستبصراً بشأنك، معادياً لأعدائك ومن ظلمك، ألقىٰ علىٰ ذلك ربّي إن شاء الله، يا ولي الله إنّ لي ذنوباً كثيرةً فاشفع لي إلىٰ ربّك عزّوجلّ، فإنّ لك عند الله مقاماً محموداً، وأنّ لك عند الله جاهاً وشفاعةً، وقال تعالىٰ: ( وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) » (١) .

فالاغتسال قبل الدخول، ثمَّ الدخول بوقار واحترام وتواضع، والوقوف أولاً عن بعد وأداء السلام اللائق بعد تقديم الحمد لله تعالىٰ والثناء عليه بما هو أهله، ثمَّ الدنو من القبر، وتجديد السلام بأليق الألفاظ وأجمعها لخصاله، ثمَّ الإستشفاع به إلىٰ الله تعالىٰ علىٰ هذا النحو المذكور، وما يدور في مضمونه، تلك هي صورة الزيارة التي نقرأها في تراث أهل البيت عليهم‌السلام ، مع ما ورد من جواز مس القبر تبركاً به.

ثمَّ يحسن بعد ذلك أداء الوداع لصاحب القبر المزور قبل الخروج، كما يودّع لو كان حياً، وفيه من حسن الأدب ما لا يخفىٰ، ومما يقال فيه بعد تجديد السلام والعهد بالولاء: « اللهم إنّي أسألك أن تصلّي علىٰ محمّدٍ وآل محمّدٍ، ولا تجعله

_________________________________

(١) تهذيب الأحكام ٦: ٢٨.

٩٠

آخر العهد من زيارته، فإن جعلته فاحشرني مع هؤلاء الميامين الأئمة » (١) .

٢ - وهكذا ورد أيضاً مع كل زيارة، فبعد أداء الزيارة للاِمام الحسن عليه‌السلام : « تقف عند قبره كوقوفك عليه عند الزيارة، وتقول: السلام عليك يا ابن رسول الله، السلام عليك يا مولاي ورحمة الله وبركاته، استودعك الله وأسترعيك، وأقرأ عليك السلام، آمنّا بالله وبالرسول وبما جئت به ودللت عليه، اللهم اكتبنا مع الشاهدين.. ثمَّ تسأل الله حاجتك وأن لا يجعله آخر العهد منك » (٢) .

٣ - وفي زيارة قبر الإمام الحسين سيد الشهداء عليه‌السلام ورد التأكيد أوّلاً علىٰ الاغتسال بماء الفرات، ثمَّ تراعىٰ الخطوات الآنفة، مع ملاحظة ما يخصّه عليه‌السلام من وقائع وأحداث: « إذا أتيت قبر الحسين عليه‌السلام فائت الفرات واغتسل بحيال قبره، وتوجّه إليه وعليك السكينة والوقار حتىٰ تدخل إلىٰ القبر، من الجانب الشرقي، وقل حين تدخله: السلام علىٰ ملائكة الله المنزلين » ويكرر السلام علىٰ ملائكة الله ببعض خصالهم « فإذا استقبلت قبر الحسين عليه‌السلام ، فقل: السلام علىٰ رسول الله » ويستغرق في السلام والصلاة عليه، ثمَّ علىٰ أمير المؤمنين عليه‌السلام ، ثمَّ الإمام الحسن عليه‌السلام ، ثمَّ الإمام الحسين عليه‌السلام ، ثمَّ سائر الأئمة « ثمَّ تأتي قبر الحسين فتقول: « السلام عليك يا ابن رسول الله » ويستغرق في التسليم عليه بأجمل خصاله، وكل خصاله جميلة، ويؤكد الولاء له، والبراءة من أعدائه « ثمَّ اجلس عند رأسه وقل: صلّىٰ الله عليك،

_________________________________

(١) تهذيب الأحكام ٦: ٣٠.

(٢) تهذيب الأحكام ٦: ٤١.

٩١

أشهد أنّك عبدالله وأمينه، بلّغت ناصحاً وأدّيت أميناً، وقُتلت صدّيقاً، ومضيت علىٰ يقين، ولم تؤثر عمىً علىٰ هدىٰ، لم تَمِلْ من حقٍّ إلىٰ باطل.. أشهد أنّك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، واتّبعت الرسول وتلوت الكتاب حق تلاوته، ودعوت إلىٰ سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة... » « ثمَّ تحوّل عند رجليه وتخيّر من الدعاء، وتدعو لنفسك » .

« ثمَّ تحوّل عند رأس علي بن الحسين » وتسلّم عليه بما يليق بشأنه « ثمَّ تأتي قبور الشهداء وتسلّم عليهم » « ثمَّ ترجع إلىٰ القبر - قبر الحسين عليه‌السلام - ... وإذا أردت أن تودعه فقل: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، أستودعك الله وأقرأ عليك السلام.. اللهم لا تجعله آخر العهد منّا ومنه » ثمَّ يدعو له بالدرجة العالية الرفيعة (١) .

وعلىٰ هذا النحو سار أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام في تعليم المسلمين سنن الزيارة وآدابها بعد أن كانوا قد علّموهم فضيلتها، ورغَّبوهم فيها، وحثّوهم عليها.

فحريٌّ بنا التزام هذه السنن والآداب، والحذر من مجاوزتها وفقاً لذوقٍ خاصٍّ او استحسانٍ عقلي، فكثيراً ما ينزلق الذوق الخاص والاستحسان بصاحبه إلىٰ ما لا أصل له في الشريعة، وأحياناً إلىٰ ما يتناقض مع سنن الشريعة وآدابها، ولنا في ما ثبت عنهم عليهم‌السلام كفاية في نيل فضيلة الزيارة وشرفها، فلو كانوا يرون في غير ذلك فضلاً لذكروه، وكفى بهذا حجَّةً للمتمسِّك بالسنن، وكفىٰ به زاجراً للخارج عنها.

_________________________________

(١) انظر: الكافي ٤: ٥٧٢ - ٥٧٥، من حديث الإمام الصادق عليه‌السلام .

٩٢

شبهات حول الزيارة

لم يناقش أحد في مشروعية الزيارة، بل الاتفاق حاصل علىٰ استحبابها وكونها قربة، لما ثبت فيها من النص والسيرة والأثر، وإن ناقش بعضهم في النص، فإنه لم ينكر أصل الزيارة ومشروعيتها، وإنَّما وقع من بعضهم التمسك بشبهات داحضة تتصل ببعض الشؤون المتعلقة بالزيارة، وتنحصر هذه الشبهات في ثلاثة:

الشبهة الأولىٰ: حرمة شدِّ الرحال إلىٰ غير المساجد الثلاثة:

لقد ثبت في الفصول الثلاثة المتقدمة أن زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد موته في نفسها مستحبة، وأنها من القربات:

أولاً: لأنّها داخلة في عموم زيارة القبور التي حثت عليها السنة النبوية المطهّرة.

ثانياً: لما ورد فيها علىٰ نحو الخصوص من تأكيد الفضيلة والاستحباب.

فكيف إذا ما توقفت الزيارة علىٰ السفر؟

وهل يجوز السفر من مكان بعيد بقصد زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمرتبة الأولىٰ؟

ليس يخفىٰ أن بين الفعل وبين المقدمة التي يتوقف عليها الفعل ملازمة عقلية، فلا يمكن أن يتحقق الحج ما لم يتم السفر إلىٰ ديار الحج.

وفي الأحكام الواجبة يذهب أكثر الفقهاء إلىٰ أن مقدمتها واجبة أيضاً، وهو

٩٣

المراد بالقاعدة الفقهية المشهورة: « ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب » (١) . أما الذين لا يرون إفراد المقدمة بحكم، فلأنهم ذهبوا إلىٰ أنه بين المقدمة وذي المقدمة ملازمة عقلية محضة لا تستدعي جعل أمر مولوي (٢) .

والملازمة العقلية ثابتة بين المندوب وملازمه، من هنا ذهب أكثر الفقهاء إلىٰ أن المقدمة التي يتوقف عليها الحكم المستحب هي مستحبة أيضاً، تبعاً للقول بأن المتلازمين تلازم العلّة والمعلول يجب أن يأخذا حكماً متماثلاً.. وأدنىٰ ما يقال إن الملازم للمندوب لابد أن يكون مباحاً، فلايمكن أن يكون محرماً أو مكروهاً وهو شرط لازم لإتيان المستحب.

ولما كانت زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستحبة في نفسها، وقد توقفت علىٰ السفر إلىٰ حيث مرقده الشريف، فلابد أن يكون السفر بقصد الزيارة مباحاً، إن لم يكن مستحباً هو الآخر.

ومن ناحية ثانية: فإن النصوص الواردة في الزيارة تثبت أن السفر بقصد الزيارة قربة، أيضاً، ذلك:

١ - لأنّ النص علىٰ الزيارة يتضمن السفر أيضاً، إذ الزيارة تستدعي الانتقال إلىٰ مكان المزور؛ قريباً كان أو بعيداً، فالزيارة إذ كانت تعني الحضور عند المزور فقد استدعت الانتقال إلىٰ المكان الذي هو فيه، وهو السفر، وإذا كانت الزيارة تعني الانتقال إلىٰ المزور بقصد الحضور عنده؛ فالسفر بهذا القصد هو المنصوص عليه إذن في كل ما تقدم من الأحاديث الحاثة علىٰ الزيارة.

_________________________________

(١) راجع: شرح القواعد الفقهية / أحمد الزرقا: ٤٨٦، والقواعد الفقهية / علي أحمد الندوي: ٣٤٥.

(٢) الأصول العامة للفقه المقارن / محمد تقي الحكيم: ٦٧.

٩٤

٢ - ولأنّ السفر بقصد الزيارة هو ظاهر الطلب وموضع الحث في بعض النصوص:

- كما في قوله تعالىٰ: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) فمجيؤهم إلىٰ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو متعلِّق التوبة والرحمة، فلم يطلب منهم الاستغفار وحده، بل طلب أولاً مجيئهم إلىٰ الرسول ثمَّ الاستغفار بحضرته ليستغفر لهم هو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا أمر صريح بالسفر إلىٰ الرسول، وقد رأينا الاتفاق علىٰ أن مشروعيته ثابتة بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما كانت ثابتة في حياته.

- وكما في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من جاءني زائراً لا تُعْمِلُهُ حاجة إلّا زيارتي » فإنّه صريح في السفر بقصد زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا يشترك معها قصد آخر.

- وهكذا كلُّ حديثٍ يقول فيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من زارني - أو - من زار قبري » فإنّه عامٌّ يدخل فيه القريب والبعيد.

هذه المقدمة كافية لوحدها في إثبات بطلان ما تمسك به البعض في تحريم السفر بقصد الزيارة، إضافةً إلىٰ ما تنطوي عليه شبهتهم من تهافت واضح..

وهي شبهة قائمة علىٰ فهم حرفي خاطئ لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا تشدّ الرحال إلّا إلىٰ ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصىٰ » .

فقال هؤلاء: هذا يعني أنّ السفر إلىٰ غير هذه الأماكن الثلاثة حرام! وأنّ السفر بأي قصد غير قصد هذه الاَماكن الثلاثة تعظيماً، والصلاة فيها حرام!!

قال بهذا نفر من المفرطين في السطحية في فهم النص، فلما انتصر له ابن تيمية

٩٥

أصبح هو مذهب دعاة السلفية حتىٰ اليوم.. (١) .

وهذه الشبهة مردودة؛ أولاً: بما تقدم في الفصول السابقة. و ثانياً: بالمقدمة الآنفة الذكر. و ثالثاً: بالحديث الذي تمسكوا به نفسه.

فالحديث يقول: « لا تشدّ الرحال إلّا إلىٰ ثلاثة مساجد » .

والاستثناء هنا يعود إما إلىٰ المساجد، فيكون المعنىٰ: لا يجوز شدّ الرحال لشيء من المساجد تعظيماً لها، إلّا المساجد الثلاثة المذكورة في الحديث.. وهذا هو الراجح، لأنه لا يتعارض مع أوامر الشريعة، أو حثها علىٰ شدّ الرحال إلىٰ أماكن كثيرة وبمقاصد كثيرة، كما لا يتعارض مع واقع السيرة النبوية الشريفة وسيرة المسلمين، كما سيأتي.

أو أنه استثناء من شدّ الرحال، فيكون المعنىٰ: لا يجوز شدّ الرحال إلىٰ شيء من الأماكن إلّا المساجد الثلاثة.. وهذا هو الذي تمسك به أصحاب هذه الشبهة.

وليس لهذا الكلام معنى إلّا أن يراد به قصد مكان من الأماكن تعظيماً له بذاته، ولذلك جعلوا النذر بالسفر إلىٰ مسجد غير المساجد الثلاثة ليس ملزماً..

وعلىٰ هذا المعنى سوف يخرج كل سفر إلىٰ أي مكان من الاَماكن، لا بقصد تعظيمه بذاته، بل لخصوصية فيه، من حكم النهي.. فشدّ الرحال إلىٰ مكان ما لغرض طلب العلم، ليس هو تعظيماً للمكان المقصود بذاته.. وشدّ الرحال إلىٰ مواقع الجهاد أو لحماية الثغور أو لصلة الرحم ونحو ذلك، ليس فيه شيء من تعظيم الأماكن المقصودة، فليست هذه الأماكن هي علّة السفر لعظمة شأنها، وإنَّما هي غاية السفر لخصوصيات فيها.

_________________________________

(١) انظر: كتاب الزيارة / ابن تيمية: ١٨ - ٢١، المسألة الثانية.

٩٦

وهكذا يقال في شأن الزيارة، فلم يكن موقع القبر هو علّة السفر، وإنّما علّة السفر هو من فيه، فهو بهذا خارج أيضاً عن حكم النهي.

ولا يمكن قبول أي تفسير آخر للحديث يحرّم السفر إلىٰ أي مكان غير المساجد الثلاثة بأي قصد كان، فالسفر في طلب العلم قد يرقىٰ إلىٰ الوجوب الكفائي أحياناً، وكم شدّ الرحال تابعون كبار في طلب حديث واحد عند رجل في مكان ناءٍ.. والهجرة قد تجب أحياناً، كما كان في الهجرة من مكة إلىٰ المدينة، ولقد هاجرت أسرة ابن تيمية نفسه من حرّان إلىٰ دمشق فراراً بحياتهم من المغول.. وهكذا القول مع الجهاد وسدّ الثغور وصلة الرحم، وإسداء النصح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من المقاصد التي حثت عليها الشريعة.

وهذا ما يفسّر ورود الحديث بصيغة أُخرىٰ ليس فيها نهي ولا تخصيص، فقد جاء في رواية معمر عن الزهري: « تشد الرحال إلىٰ ثلاثة مساجد » أخرجه مسلم (١) .

وقد قال بعض العلماء: الصحيح إباحة السفر لزيارة القبور والمشاهد، وجواز القصر فيه (٢) ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأتي قباء ماشياً وراكباً، وكان يزور القبور، وقال: « زوروها تذكّركم الآخرة » . وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا تُشدّ الرحال إلّا إلىٰ ثلاثة مساجد » فيحمل علىٰ نفي الفضيلة، لا علىٰ التحريم، وليست الفضيلة شرطاً في إباحة القصر، ولا يضرّ انتفاؤها (٣) .

_________________________________

(١) صحيح مسلم - كتاب الحج - باب لا تشد الرحال إلّا إلىٰ ثلاثة مساجد.

(٢) اي قصر الصلاة، إذ لا يجوز القصر في الاَسفار المحرمة.

(٣) المغني / ابن قدامة ٢: ١٠٣.

٩٧

والمراد بنفي الفضيلة هو أن المساجد الأخرىٰ متساوية في الفضل، فلا معنىٰ لتفضيل بعضها علىٰ بعض.

وقال الغزالي في آداب السفر: القسم الثاني أن يسافر لأجل العبادة، إما لجهاد، أو حج.. ويدخل في جملته زيارة قبور الأنبياء عليهم‌السلام وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والاَولياء، وكل من يُتبَرّك بمشاهدته في حياته يُتبرك بزيارته بعد وفاته. ويجوز شد الرحال لهذا الغرض، ولا يمنع من هذا قوله عليه‌السلام : « لا تُشدّ الرحال إلّا إلىٰ ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصىٰ » لأن ذلك في المساجد، فإنها متماثلة بعد هذه المساجد، وإلّا فلا فرق بين زيارة قبور الأنبياء والأولياء والعلماء في أصل الفضل، وإن كان يتفاوت في الدرجات تفاوتاً عظيماً بحسب اختلاف درجاتهم عند الله تعالىٰ.

قال: أما البقاع فلا معنىٰ لزيارتها سوىٰ المساجد الثلاثة، وسوىٰ الثغور للرباط بها، فالحديث ظاهر في أنه لا تشدّ الرحال لطلب بركة البقاع إلّا إلىٰ المساجد الثلاثة (١) .

ثمَّ تمسّك أصحاب هذه الشبهة بأنّ السلام والدعاء يصل الموتىٰ من بعد، فلم يبقَ في الزيارة إلّا قصد الأماكن، وهو منهي عنه في الحديث.

وهذا مردود؛

أولاً: بأن الزائر لا يقصد البقعة بذاتها، وإنَّما يقصد زيارة مَنْ فيها.

وثانياً: هو مردود أيضاً بفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد كان يخرج إلىٰ البقيع مراراً، كما تقدم في حديث عائشة، ويخرج إلىٰ قبور الشهداء خارج المدينة، ليسلّم عليهم

_________________________________

(١) إحياء علوم الدين ٢: ٣٩٨ - كتاب آداب السفر - ط دار الوعي بحلب.

٩٨

ويدعو لهم، وقد كان يكفيه ذلك من مكانه لو كان الأمر كما يقولون، فلِمَ كان يخرج إلىٰ القبور ويقف عندها، ويأمر أصحابه بزيارتها؟

هذا وقد وضع أصحاب هذه الشبهة فتاوىٰ مختلفة، كشف عنها السبكي وكشف زورها (١) .

الشبهة الثانية: إنّ السفر بقصد الزيارة بدعة!

وهي مترتِّبة علىٰ الشبهة الأولى..

قال ابن تيمية، موهماً كعادته، أنه ينقل عن أهل العلم إجماعهم، ( قالوا: ولأن السفر إلىٰ زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة، لم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين، ولا أمر بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا استحب ذلك أحد من أئمة المسلمين، فمن اعتقد ذلك عبادة وفعله فهو مخالف للسنّة ولإجماع المسلمين ).

ثمَّ أسند قوله هذا إلىٰ ابن بطة وحده في ( الإبانة الصغرىٰ ).

وسيسوقه هذا القول إلىٰ التكذيب بكل الأحاديث التي وردت في زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد صنع ذلك، فقال: ( ليس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زيارة قبره ولا قبر الخليل حديثاً ثابتاً أصلاً ) (٢) وقال أيضاً: ( والأحاديث الكثيرة المروية في زيارة قبره كلها ضعيفة، بل موضوعة، ولم يرو الأئمة ولا أصحاب السنن المتبعة كسنن أبي داوود والنسائي ونحوهما فيها شيئاً ) (٣) .

_________________________________

(١) راجع شفاء السقام: ١٢٦ - ١٢٧.

(٢) كتاب الزيارة: ١٢ - ١٣ - المسألة الأولى.

(٣) كتاب الزيارة: ٣٨ - المسألة الرابعة.

٩٩

وفيه:

١ - إنّ الأحاديث التي مرّ ذكرها في زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها الصحيح، وفيها الحسن، وفيها الضعيف، وحتى القسم الأخير منها لم يقع في إسانيدها من هو متهم بالكذب والوضع، فكيف يقال انّها كلها موضوعة؟!

٢ - لقد عاد ابن تيمية نفسه إلىٰ كتب السنن المتبعة، ولابدّ له أن يعود فهي مبثوثة بين أيدي الناس، وليعترف أن الحديث في زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أخرجه الدارقطني وابن ماجة! (١) وفيه ردّ لقوله الأول.

٣ - ومن كلام ابن تيمية نفسه في كتاب آخر له نأتي علىٰ نقيض ما اعتمده هنا، ينفيه ويثبت ضدّه، فهو حين كان في معرض الحديث عن موضع رأس الحسين عليه‌السلام وتخطئة من يذهب إلىٰ أنه دفن في عسقلان أو القاهرة، قال: ( فإذا كانت تلك البقع لم يكن الناس ينتابونها ولا يقصدونها، وإنَّما كانوا ينتابون كربلاء لأن البدن هناك، كان دليلاً علىٰ أن الناس في ما مضىٰ لم يكونوا يعتقدون أن الرأس في شيء من هذه البقاع ). ثمَّ قال: ( ولكن الذي اعتقدوه هو وجود البدن في كربلاء، حتىٰ كانوا ينتابونه في زمن أحمد وغيره، حتىٰ أنّ في مسائله (٢) : ( مسائل في ما يُفعل عند قبره ) - أي قبر الحسين عليه‌السلام - ذكرها أبو بكر الخلال في جامعه الكبير في زيارة المشاهد ) (٣) .

٤ - في اعتماد ابن تيمية علىٰ ابن بَطّة مسألتان:

_________________________________

(١) كتاب الزيارة: ١٩ - المسألة الثانية.

(٢) يعني مسائل أحمد بن حنبل.

(٣) رأس الحسين / ابن تيمية: ٢٠٦ مطبوع مع استشهاد الحسين للطبري.

١٠٠

الأولىٰ: ان لابن بَطّة كتابه المعروف بـ ( الإبانة الكبرىٰ ) وقد أثبت فيه خلاف ما نقله عنه ابن تيمية في حق قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نقله عنه السبكي (1) .

والثانية: إن ابن بَطّة وإن كان قد وصفوه بالصلاح غير أنّهم وصفوه أيضاً بالضعف والاضطراب الكثير. قال الذهبي: لابن بَطّة مع فضله أوهام وغلط.. وقال: قال عبيدالله الأزهري: ابن بطة ضعيف، وعندي عنه ( معجم البغوي ) ولا أُخرج عنه في الصحيح شيئاً.

ونقل الخطيب البغدادي عن الأزهري قوله في ابن بطة: ضعيف، ضعيف، ضعيف، ليس بحجة (2) .

ثمَّ ان ابن تيمية لم يذكر أحداً من الذين قال عنهم أنهم « قالوا » غير ابن بطة هذا!!

ومن ناحية أُخرىٰ فقد بقي لابن تيمية والقائلين بقوله في الموضوع حجتان:

الأولىٰ في غاية الطرافة؛ إذ يقول: إنّ النبي ليلة الإسراء لم يذهب لزيارة قبر إبراهيم الخليل!!

فهل في هذا ما يحتجّ به علىٰ نفي مشروعية الزيارة؟ وهل كل شيء لم يفعله النبي في رحلة الاسراء لم يعد مشروعاً؟ فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رحلته تلك لم يدعُ أحداً إلىٰ عبادة الله تعالى! ولا كسر صنماً! ولا وصل رحماً، ولا عاد مريضاً، ولا دخل مسجداً!! فعل يحتج بذلك ذو منطق؟ لقد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شغله، في ما هو فوق ذلك كلّه، في رحلة قاده فيها جبرئيل إلىٰ حيث قاده، ثمَّ عاد به إلىٰ مضجعه ولمّا يبرد بعد.

_________________________________

(1) شفاء السقام: 146.

(2) سير أعلام النبلاء 16: 529 - 533، تاريخ بغداد 10: 371 - 375.

١٠١

انّها واحدة من أساليب التهويل والاستحواذ علىٰ السامع والقارئ من المقلّدين خاصّة.

والثانية داحضة هي الأخرىٰ؛ وهي تمسكه بالحديث « لا تجعلوا قبري عيداً » وقد اعتمد فيه الرواية المنسوبة إلىٰ الحسن بن الإمام الحسن عليه‌السلام ، وقد رأىٰ رجلاً عند قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعو له ويصلّي عليه، فقال له: لا تفعل فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: « لا تتخذوا بيتي عيداً، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً، وصلّوا عليّ حيث ما كنتم فإنّ صلاتكم تبلغني » .

وعن هذا الخبر قال الذهبي: مرسل (1) .

وتقدّم مثله عن الإمام علي بن الحسين عليهما‌السلام ، وفي إسناده رجل مجهول، وقد تقدم الحديث فيه.

وحديث « لا تجعلوا قبري عيداً » أخرجه أبو داود في سننه (2) ، وفي إسناده عبدالله بن نافع الصائغ المخزومي، قدح فيه غير واحد من أهل الجرح والتعديل:

قال فيه أحمد بن حنبل: لم يكن صاحب حديث، كان ضعيفاً فيه، ولم يكن في الحديث بذاك.

وقال البخاري: في حفظه شيء، وقال أيضاً: يُعرف حفظه ويُنكر. ومثله قال أبو حاتم الرازي، وزاد: هو ليّن، ليس بالحافظ.

ووثقه يحيىٰ بن معين.. وقال أبو زرعة: لا بأس به.. ومثله قال النسائي.

وقال ابن عدي: روىٰ عن مالك غرائب. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: كان

_________________________________

(1) سير أعلام النبلاء 4: 484 ترجمة الحسن بن الحسن السبط عليه‌السلام .

(2) سنن أبي داود 1: 453 / 2042.

١٠٢

صحيح الكتاب، وإذا حدّث من حفظه ربّما أخطأ.. وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالحافظ عندهم.. (1) وهكذا اختلفوا فيه اختلافاً كثيراً، يظهر منه أن الغالب عليه الضعف والخطأ في الحفظ، لكنه لم يتهم بوضع وكذب.

والنتيجة أنّ هذا الحديث لم يرد بطريق صحيح، فلا معنىٰ لاحتجاج ابن تيمية به وهو يرد أحاديث الزيارة بدعوىٰ أنها لم ترد بطرق صحيحة.

وعند قبول الحديث لكون رواته غير متهمين بالوضع، مع أنه ورد في أكثر من طريق وان اختلف اللفظ يسيراً، فلا يصح تفسيره منفرداً عن الأحاديث الأخرى المتعلقة بموضوع زيارة قبره الشريف وزيارة سائر القبور، فالإجتزاء سيؤدي إلىٰ تشويه الحقيقة، وظهورها بمظاهر متعددة، والحكم الموضوعي يقتضي النظر والتدبر في ما يتعلق بموضوع البحث من حديث وأثر للخروج بالتصور الجامع للموضوع وأبعاده، عندئذٍ لا يصح تفسير « العيد » هنا بمطلق الوفود او اجتماع الناس عند القبر لقصدهم زيارته، مع وجود الأحاديث التي تحث علىٰ الزيارة، وتأييد ذلك بالأثر الثابت.. وقد تقدم الجمع بين بعض هذه الأحاديث والآثار عند مناقشة الخبر الوارد عن الإمام علي بن الحسين عليهما‌السلام بهذا الشأن.

ولهذا أيضاً أورد بعض العلماء تفاسير أُخرىٰ للمراد بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا تجعلوا قبري عيداً » ..

- أن يكون المراد الحث علىٰ كثرة زيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن لا يهمل حتىٰ لا يزار إلّا في بعض الأوقات، كالعيد الذي لا يأتي في العام إلّا مرّتين.. ويؤيده ما جاء في الحديث نفسه: « ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً » أي لا تتركوا الصلاة في بيوتكم

_________________________________

(1) تهذيب التهذيب 6: 46 - 48 / 99.

١٠٣

حتىٰ تجعلوها كالقبور التي لا يصلّىٰ فيها.

- أو أن يكون المراد لا تتخذوا له وقتاً مخصوصاً لا تكون الزيارة إلّا فيه، كما هو الحال في بعض المشاهد التي جعل الناس يوماً معيناً لزيارتها، وزيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس فيها يوم بعينه، بل أي يوم كان.

- أو أن يكون المراد أن لا يجعل كالعيد في العكوف عليه والاجتماع وغير ذلك مما يُعمل في الأعياد، بل لا يؤتىٰ إلّا للزيارة والسلام والدعاء ثمَّ ينصرف عنه (1) .

- أو أن الحديث في غير ذلك، إذ إنّ الذي جاء في حديث الحسن المثنّىٰ: « لا تجعلوا بيتي عيداً » ولم يذكر القبر، والقرينة علىٰ ذلك ما جاء بعده « ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً » (2) .

ولأجل التناقض بين ما يفهم من حديث الحسن المثنىٰ وهو الفهم الذي اعتمده المنكرون للزيارة، وبين ما ورد في الزيارة من الحديث والأثر، علّق الذهبي علىٰ حديث الحسن السابق الذكر قائلاً:

ما استدلّ حَسَنٌ في فتواه بطائل من الدلالة، فمن وقف عند الجمرة المقدّسة ذليلاً، مُسَلِّماً مصلياً علىٰ نبيه، فيا طوبىٰ له، فقد أحسن الزيارة، وأجمل في التذلّل والحب، وقد أتىٰ بعبادة زائدة علىٰ من صلّىٰ عليه في أرضه أو في صلاته، إذ الزائر له أجر الزيارة وأجر الصلاة عليه، والمصلّي عليه في سائر البلاد له أجر الصلاة فقط، فمن صلّىٰ عليه واحدة صلىٰ الله عليه عشراً، ولكنّ من زاره - صلوات الله عليه

_________________________________

(1) راجع شفاء السقام: 80.

(2) هامش المحقق في / شفاء السقام: 187 - الطبعة المحققة.

١٠٤

- وأساء أدب الزيارة، أو سجد للقبر، أو فعل ما لا يُشرع، فهذا فعل حسناً وسيئاً، فيُعَلَّم برفق، والله غفور رحيم.

فوالله ما يحصل الانزعاج لمسلم والصياح وتقبيل الجدران وكثرة البكاء إلّا وهو محب لله ولرسوله، فحبّه المعيار الفارق بين أهل الجنّة وأهل النار.

فزيارة قبره من أفضل القُرَب، وشدّ الرحال إلىٰ قبور الأنبياء والاَولياء، لئن سلّمنا أنّه غير مأذون فيه لعموم قوله صلوات الله عليه: « لا تُشد الرحال إلّا إلىٰ ثلاثة مساجد » فشدّ الرحال إلىٰ نبيّنا مستلزم لشدّ الرحل إلىٰ مسجده، وذلك مشروع بلا نزاع، إذ لا وصول إلىٰ حجرته إلّا بعد الدخول إلىٰ مسجده، فليبدأ بتحية المسجد، ثمَّ بتحية صاحب المسجد، رزقنا الله ذلك وإيّاكم، آمين (1) .

الشبهة الثالثة: إنّ الزيارة تفضي إلىٰ الشرك

قد يجاوز بعض الجهلاء الحد حين يغلبه الوجد، ولا فقه له ولا علم، فيسجد للقبر، وهذا أمر منكر لا يقرّه أحد بأي عذر، والواجب تعليم الجاهل وزجره عن هذا ونظائره من الأفعال التي لا تستقيم مع الشرع، ولا مع أدب الزيارة، ولهذا ونظائره أوجب الله تعالىٰ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأوجب علىٰ العالم أن يظهر علمه، وإلّا لعنه الله وأبعده عن ساحة رضاه.

أما ابن تيمية فقد جعل هذا ذريعة إلىٰ تحريم الذهاب إلىٰ قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقصد الزيارة حتىٰ من قرب، قائلاً: إن من أصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد، كما قال طائفة من السلف في قوله تعالىٰ: ( وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا

_________________________________

(1) سير أعلام النبلاء 4: 484 - 485 ترجمة الحسن المثنىٰ.

١٠٥

سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ) قالوا: هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قوم نوح، فلمّا ماتوا عكفوا علىٰ قبورهم ثمَّ صوّروا علىٰ صورهم تماثيل، ثمَّ طال عليهم الأمد فعبدوها... قال: وقد ثبت عنه في الصحيح أنّه قال: « إنّ من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنّي أنهاكم عن ذلك » . واحتجّ أيضاً بحديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لعن الله اليهود والنصارىٰ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » .

وعلىٰ هذا قال: كان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلّموا عليه وأرادوا الدعاء، دعوا مستقبلي القبلة ولم يستقبلوا القبر (1) .

وهذا ممّا لا يحتجُّ به ذو معرفة، فهل كان علىٰ الله تعالىٰ أن لا يبعث نبياً، سدّاً للذرائع، إذا كانت أمة سالفة قد عبدت نبيّها وألَّهته؟! أم عليه تعالىٰ إذا بعث نبيّاً ألّا يُميته؟! وإذا أماته أن يرفعه إلىٰ السماء لئلّا يُدفن بين أمّته فيتخذون قبره مسجداً؟!

لقد بيّنت الشريعة التوحيد وحدوده، والشرك وحدوده، وحتىٰ الشرك الأصغر، ليجتنبه الناس ولا يخلطون بعباداتهم، وطاعاتهم وأعمالهم ومعتقداتهم شيئاً ممّا يدخل تحت عنوان الشرك، ليبقىٰ الواجب واجباً، والمندوب مندوباً، والمباح مباحاً، كلٌّ علىٰ صورته المشروعة، وما يظهر من بدع في طريق الناس وأساليبهم يردّ عليهم، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :« مَن أدخل في أمرنا ما ليس منه فهو ردّ » .

وقد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المؤمنين بزيارة قبور إخوانهم، فهل يعني أنه أباح لهم إقامة الأوثان عليها والسجود لها؟

_________________________________

(1) مجموع فتاوىٰ ابن تيمية 27: 184 - 192، ونحوه في / زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور: 29 - 30.

١٠٦

لقد أمرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها بعد أن علَّمهم آدابها وسننها، ونهاهم عن المحرم فيها، وهذا هو الأصل في الزيارة في غيرها.

ولقد كان النصارىٰ حتىٰ قبل ظهور نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشركون بالله في صلواتهم فيجعلونه ثالث ثلاثة، تعالىٰ الله عن ذلك علواً كبيراً، فهل من واجب الموحِّد فيهم أن ينهاهم عن الصلاة لما خالطها من شرك!! أم الواجب عليه تبيين حدودها وآدابها ونفي كل ما خالطها من بدع وضلالات؟ أم كان علىٰ خاتم الأنبياء أن يحرِّم الصلاة سدّاً للذرائع؟!

هذا مما لا يقوله عاقل.. غير أن عادة ابن تيمية التهويل في الأمور، وإغراء الناس بالإيهام والمغالطة والتلبيس، وقد يسوق هذا إلىٰ الكذب والافتراء، وكثيراً ما وقع فيهما!! وها هو الآن يرتكبهما في قوله: ( كان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلّموا عليه وأرادوا الدعاء دعوا مستقبلي القبلة ولم يستقبلوا القبر ). وافترىٰ علىٰ مالك بن أنس وكذّب فيه المالكية كلّهم، ومذهبم قائم علىٰ هذا، وقد نقلوه عن إمامهم مالك بأسانيدهم العالية عن أوثق أصحابه وأكثرهم معرفة به.. وحتىٰ لو صح مدّعاه، ولا يصح، فإنّما هو عليه، لا له، ففيه شهادة بزيارتهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والدعاء عنده، ولا يضرّ في ذلك استقبال القبر عند الدعاء او استدباره واستقبال القبلة. وقد قدمنا علىٰ الهيئتين كثيراً من أثر السلف.

ويغض ابن تيمية الطرف عن كل ما لا يوافق هواه من أثر السلف.. وحين يختلف من السلف اثنان يتمسك هو بمذهب المروانية منهم ويهجر من خالفه، ولو كان من أشرف الصحابة، وأكثرهم علماً..

فلقد وقع النزاع في شيء من هذا عند القبر الشريف بين مروان بن الحكم وبين

١٠٧

أبي أيوب الأنصاري:

أقبل مروان بن الحكم، فإذا رجل ملتزم القبر، فأخذ مروان برقبته، ثمَّ قال: هل تدري ما تصنع؟

فأقبل عليه، فإذا هو أبو أيوب الأنصاري رضي‌الله‌عنه ، فقال: نعم، إنّي لم آتِ الحَجَر، إنّما جئت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمَّ قال: سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: « لا تبكوا علىٰ الدين إذا وليه أهله، ولكن ابكوا علىٰ الدين إذا وليه غير أهله » !

أخرجه أحمد في مسنده، وصحَّحه الحاكم والذهبي (1) .

نعم، صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

لا تبكوا علىٰ الدين إذا وليه أهله..

ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله..

     

ومن غريب اختلاقات ابن تيمية هنا قوله: فهم دفنوه في حجرة عائشة خلاف ما اعتادوه من الدفن في الصحراء، لئلّا يصلّي أحد عند قبره ويتخذه مسجداً، فيُتَّخذ قبره وثناً!

وهذا تهويل وافتراء، فما كان شيء من هذا يدور في خلد أحدهم وإنَّما دفنوه هناك لقولهم إن الأنبياء يُدفنون حيث قبضوا، بل رفعوا القول إلىٰ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه؛ قال المؤرخون: لمّا توفِّي النبيُّ اختلفوا في موضع دفنه؛ فقال قائل: في البقيع، فقد كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكثر الاستغفار لهم.. وقال قائل: عند منبره.. وقال قائل: في مصلّاه.. فجاء أبو بكر فقال: إنّ عندي من هذا خبراً وعلماً، سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

_________________________________

(1) مسند أحمد 5: 423، والمستدرك 4: 560 / 8571.

١٠٨

يقول: « ما قُبض نبيٌّ إلّا دُفِن حيث تُوفِّي » (1) .

هذه رواية ابن إسحاق والواقدي، أمّا في رواية أبان بن عثمان الأحمر فإنّ قائل ذلك هو عليٌّ عليه‌السلام ؛ قال أبان: وخاض المسلمون في موضع دفنه، فقال عليٌّ عليه‌السلام : « إنّ الله سبحانه لم يقبض نبيّاً في مكان إلّا وارتضاه لرمسه فيه، وإنّي دافنه في حجرته التي قُبض فيها » فرضي المسلمون بذلك (2) .

وأياً كان القائل، فإنّ ما ذكره ابن تيمية لم يكن ليخطر ببال أحدهم علىٰ الاطلاق، ناهيك عمّا تنطوي عليه كلمته من تصوّر الإجماع أو ما هو قريب به!!

تلك هي شبهاتهم، لا تقوم إلّا علىٰ الذوق الخاص الذي لا يستقيم مع منطقٍ متجرِّدٍ، ولا يسنده دليل..

_________________________________

(1) انظر: السيرة النبوية / ابن هشام 4: 256، السيرة النبوية / الذهبي 2: 481، والنص منه.

(2) إعلام الورىٰ / الطبرسي 1: 27.

١٠٩

١١٠

١١١

١١٢

مدخل:

التوسُّل لغةً واصطلاحاً

توسَّل إلىٰ الله بوسيلةٍ: إذا تقرّب إليه بعمل.

ووَسَّل فلانٌ إلىٰ الله وسيلةً: إذا عمل عملاً تقرّب به إليه.

وتوسّل إليه بكذا: تقرّب إليه بحرمةِ آصرةٍ تُعطفه عليه.

والوسيلة: القُربة.. والدرجة.. والمنزلة عند الملك.

وفي حديث الآذان: « اللهم آتِ محمداً الوسيلة » هي في الأصل ما يُتَوصَّلُ به إلىٰ الشيء ويُتَقَرّب به، والمراد به في الحديث: القرب من الله تعالىٰ، وقيل: هي الشفاعة يوم القيامة. وقيل: هي منزلة من منازل الجنّة. هكذا قال ابن منظور (1) .

وقال الراغب: الوسيلة: التوصّل إلىٰ الشيء برغبة، وهي أخصّ من الوصيلة بتضمّنها لمعنىٰ الرغبة، قال تعالىٰ: ( وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) .

وحقيقة الوسيلة إلىٰ الله تعالىٰ - كما قال الراغب - مراعاة سبيله بالعلم والعبادة، وتحرّي مكارم الشريعة، وهي كالقربة (2) .

وقد ورد لفظ « الوسيلة » في القرآن الكريم في موضعين:

الأول: في قوله تعالىٰ: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (3) .

_________________________________

(1) لسان العرب ( وسل ).

(2) معجم مفردات ألفاظ القرآن ( وسل ): 560 - 561.

(3) سورة المائدة: 5 / 35.

١١٣

قال أهل التفسير: أي اطلبوا إليه القربة بالطاعات، فكأنّه قال: تقرّبوا إليه بما يرضيه من الطاعات (1) .

قال الرازي: الوسيلة، فعيلة، من وَسَل إليه إذا تقّرب إليه. قال لبيد الشاعر:

أرىٰ الناسَ لا يدرون ما قدَّ أمرهم

ألا كل ذي لبٍّ إلىٰ الله واسِلُ

أي متوسل. فالوسيلة هي التي يُتَوسَّل بها إلىٰ المقصود (2) .

واستنتج السيد الطباطبائي ممّا تقدَّم في معنىٰ الوسيلة أنّها ليست إلّا توصلاً واتصالاً معنوياً بما يوصل بين العبد وربّه ويربط هذا بذاك، ولا رابط يربط العبد بربّه إلّا ذلّة العبودية، فالوسيلة هي التحقق بحقيقة العبودية وتوجيه وجه المسكنة والفقر إلىٰ جنابه تعالىٰ، فهذه هي الوسيلة الرابطة، وأمّا العلم والعمل فإنّما هما من لوزامها وأدواتها كما هو ظاهر، إلّا أن يطلق العلم والعمل علىٰ نفس هذه الحالة.

وفي الترابط بين المفردات الثلاثة:« تقوىٰ الله » و« ابتغاء الوسيلة » و« الجهاد في سبيله » الواردة في الآية عرض السيد الطباطبائي صورةً رائعة متماسكة، خلاصتها أنّ الأمر بابتغاء الوسيلة بعد الأمر بالتقوىٰ، ثمَّ الأمر بالجهاد في سبيل الله بعد الأمر بابتغاء الوسيلة، هو من قبيل ذكر الخاص بعد العام اهتماماً بشأنه (3) .

فابتغاء الوسيلة إذن وهو التماس ما يقرّب العبد إلىٰ ربّه، أخص من التقوىٰ العامة في اجتناب المعاصي والعمل بالطاعات.

_________________________________

(1) مجمع البيان 3: 293.

(2) تفسير الرازي 6: 225 - 226.

(3) الميزان 5: 328.

١١٤

والموضع الثاني: في قوله تعالىٰ: ( أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ) (1) .

والآية هنا في معرض الردِّ علىٰ أقوام يعبدون الملائكة، أو يؤلهون المسيح وعزيراً عليهما‌السلام ، فقالت الآية انّ أولئك الذين تدعونهم من ملائكة وأنبياء إنّما هم في أنفسهم يبتغون إلىٰ ربِّهم الوسيلة ويرجون رحمته ويخافون عذابه (2) .

والوسيلة هنا لم تخرج عن معناها الأول، فهي التوصل والتقرّب. وربّما استعملت بمعنىٰ ما به التوصّل والتقرّب، ولعلّه الأنسب بالسياق (3) .

ومن كل ما تقدّم يُعلَم أنّ التوسُّل إنّما هو اتخاذ الوسيلة المقصود، ومعه يكون الأنسب في معنى الوسيلة أنّها ما يتم به التوصّل والتقرّب.

هذا هو التوسُّل في معناه اللغوي الجامع.

أمّا التوسُّل إلىٰ الله تعالىٰ في معناه الاصطلاحي، فهو أن يتقرّب العبد إلىٰ الله تعالىٰ بشيء يكون وسيلة لاستجابة الدعاء ونيل المطلوب (4) . وهو ما جاء به قوله تعالىٰ: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ) فهم بعد استغفارهم يتّخذون من استغفار الرسول لهم وسيلة لنيل توبة الله عليهم ورحمته إيّاهم. وهذا توسُّل بدعاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته.

_________________________________

(1) سورة الإسراء: 17 / 57.

(2) انظر تفسير الرازي 10: 233 - 234، والميزان 13: 128.

(3) الميزان 13: 130.

(4) انظر: التوسل / جعفر السبحاني: 18، معاونية التعليم والبحوث الإسلامية، بدون تاريخ ورقم طبعة.

١١٥

ولم ينحصر أُسلوب التوسُّل المأمور به شرعاً، أو الآخر الذي أباحته الشريعة، بهذا اللون بل تعدَّدت أساليبه بتعدُّد الوسائل المعتمدة فيه، كما سيأتي في مبحث أقسام التوسُّل.

ومن هنا يمكن ملاحظة أكثر من مصطلح آخر قد يكون مرادفاً للتوسُّل بهذا المعنىٰ، منها:

1 - الاستشفاع: أو التشفّع، وهو اتخاذ الشفيع إلىٰ الله تعالىٰ لاستجابة الدعاء ونيل القرب والرضا.

وقد كان الاستشفاع بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبدعائه في حياته ثابت في سلوك المسلمين وثقافتهم، كما هو ثابت أيضاً بعد وفاته، والإجماع قائم علىٰ تحقّق شفاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمّته يوم القيامة.

والشفيع بمثابة الوسيلة في الدعاء وطلب القربىٰ.

2 - الاستغاثة: وهي طلب الاِغاثة من المستغاث به، إلىٰ المستغاث والمغيث وهو الله تعالىٰ.

3 - التوجّه: وهو التوجّه إلىٰ الله تعالىٰ بما له وجه عنده.

4 - التجوّه: وهو مثل التوجّه، فهو سؤال الله تعالىٰ بما له وجاهةٌ عنده.

فالوسيلة في التوسُّل، هو الشفيع في الاستشفاع، وهو المستغاث به في الاستغاثة، وهو المتوجَّهُ به في التوجّه، والمتجوّه به في التجوّه. ولا عبرة في اختلاف الألفاظ أو الاختلاف فيها، ما دام المعنىٰ واحداً، وهو سؤال الله تعالىٰ بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بغيره ممّا له عند الله تعالىٰ منزلة مقطوع بها.

١١٦

  الفصل الأول

أقسام التوسُّل

التوسُّل في معناه واحد، لا يمكن تقسيمه من هذا الوجه، غير أنّه من حيث تعيين المتوسَّل به - أي الوسيلة - يتعدّد بتعدّد الوسائل، فليس كل شيء يصلُح أن يكون وسيلةً إلىٰ الله تعالىٰ، وإنّما هناك وسائل أمر الشارع ببعضها وشرّع البعض الآخر علىٰ نحو الإباحة أو الاستحباب.

وأقسام التوسُّل بهذا الاعتبار هي:

1) التوسُّل بالله تعالىٰ:

الله تبارك وتعالى أقرب إلىٰ المرء من نفسه، وأعلم به من نفسه، وأرحم به من كل شيء، فهو (الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ) وهو ( أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) فجاز التوسُّل به تعالىٰ إليه لنيل رضاه، وهو في نهاية اليقين به تعالىٰ والوثوق به والاعتماد عليه.

وقد جاء في دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند النوم: « اللّهم إنّي أعوذ برضاك من

١١٧

سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك » (1) .

وفي هذا الباب يدخل كل دعاء يكون الله جلَّ جلاله هو المخاطب فيه، فقولك: « اللهم اغفر لي ذنبي » ، « اللهم ارحمني » ، « اللهم انّي أسألك رضاك » وغير ذلك إنّما هو توسُّل بالله تعالىٰ لنيل المغفرة، والرحمة، والرضوان.

ومن مفاتح هذا الباب: قوله تعالىٰ: ( وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) (2) .

وقوله تعالىٰ: ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) (3) .

- وممّا يظهر فيه معنىٰ التوسُّل من هذا القسم، الدعاء المأثور: « اللهم إنّي أعوذ بك من زوال نعمتك، ومن تحوّل عافيتك، ومن فجأة عقوبتك، ومن جميع سخطك » (4) .

- وكم هي جلية عظمة هذا القسم من التوسُّل، لما يتميّز به من درجات اليقين بالله والإحساس الأكبر بالقرب منه، كما نلمسه في دعاء الإمام زين العابدين عليه‌السلام : « لا شفيع يشفع لي إليك، ولا خفير يؤمِنني عليك، ولا حصنٌ يحجبني عنك، ولا ملاذ ألجأ إليه منك.. ولا أستشهد علىٰ صيامي نهاراً، ولا أستجير بتهجّدي ليلاً... ولست أتوسَّل إليك بفضل نافلة مع كثير ما أغفلتُ من

_________________________________

(1) خرّجه الحافظ العراقي في ذيل ( إحياء علوم الدين ) عن النسائي في « اليوم والليلة » / 1444 من حديث علي (ع) - الغزالي / إحياء علوم الدين 1: 554.

(2) سورة غافر: 40 / 60.

(3) سورة البقرة: 2 / 186.

(4) صحيح مسلم / 2739 من حديث ابن عمر. كذا خرّجه العراقي في ذيل ( إحياء علوم الدين ) 1: 546.

١١٨

وظائف فروضك... هذا مقام من استحيا لنفسه منك » (1) .

فهو عليه‌السلام يستبعد الشفعاء بينه وبين بارئه الذي إليه مآبه، وينحّي كل وسيلة، رغم إمكان الاستشفاع والتوسل، كما هو واضح في قوله: « ولست أتوسَّل إليك بفضل نافلة مع كثير ما أغفلتُ من وظائف فروضك » فهو لفرط استحيائه من خالقه يستحي أن يقدّم طاعاته وسيلة بين يدي دعائه خشية أن يكون قد فرّط في أداء شيء من وظائف الفروض.

إنّه يجعل الله تعالىٰ هو شفيعه وهو وسيلته إلىٰ القرب منه ونيل رضاه.

- ومن دعائه عليه‌السلام : « وأشبه الأشياء بمشيّتك، وأولىٰ الأمور بك في عظمتك، رحمة من استرحمك، وغوث من استغاث بك » (2) .

- وله عليه‌السلام أيضاً: « وياغوثَ كل مخذول فريد، ويا عضد كل محتاج طريد » (3) .

- وقوله عليه‌السلام أيضاً: « وبك استغاثتي إن كَرِثْتُ » (4) .

- وقوله عليه‌السلام : « واستجير بك اليوم من سخطك، فصلِّ علىٰ محمّدٍ وآله وأجرني » (5) .

- وقوله الذي يحقّق هذه المعاني كلها: « فناديتك يا إلهي مستغيثاً بك، واثقاً بسرعة إجابتك، عالماً أنّه لا يُضطَهَدُ من آوى إلىٰ ظلِّ كنفِك، ولا يفزع من لجأ إلىٰ معقِل انتصارك » (6) .

_________________________________

(1) الصحيفة السجّادية / الدعاء 32.

(2) الصحيفة السجّادية / الدعاء 10.

(3) الصحيفة السجّادية / الدعاء 16.

(4) الصحيفة السجّادية / الدعاء 20.

(5) الصحيفة السجّادية / الدعاء 48.

(6) الصحيفة السجّادية / الدعاء 49.

١١٩

2) التوسُّل بأسماء الله الحسنىٰ وصفاته جلّ جلاله

قال تعالىٰ: ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ) (1) .

وهو أمر صريح بدعاء الله تعالىٰ بأسمائه الحسنىٰ، وغالباً ما يأتي الدعاء بالأسماء الحسنىٰ علىٰ صيغة التوسُّل والاستغاثة، وهو إذ يؤكّد أنّ الدعاء هو توسُّل واستغاثة بالله تعالىٰ إليه ولنيل المطلوب لديه، يضيف أُسلوباً جديداً من أساليب التوسُّل والاستغاثة.. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لله تسعة وتسعون اسماً، من دعا الله بها استجيب له » (2) .

- وقد جاء في دعائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا حيُّ يا قيّوم، برحمتك أستغيث » .

- وفي قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلّم ابنته فاطمة عليها‌السلام أن تقول: « يا حي يا قيّوم، يا بديع السماوات والاَرض، لا إله إلّا أنت، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كلَّه، ولا تكلني إلىٰ نفسي طرفة عين، ولا إلىٰ أحدٍ من خلقك » (3) .

- ومن حديثه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما أصاب عبداً قطّ همٌّ ولا حزن، فقال: اللهم إنّي عبدك وابن عبدك وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدل في قضائك.. أسألك بكل اسم هو لك سمّيت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني وذهاب همّي وغمّي؛ إلّا أذهب الله

_________________________________

(1) سورة الأعراف: 7 / 180.

(2) الشيخ الصدوق / التوحيد: 195 / 9.

(3) أخرجهما ابن تيمية في كتابه زيارة القبور والاستنجاد بالمقبور: 47 - 48.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155