• البداية
  • السابق
  • 86 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 26262 / تحميل: 7258
الحجم الحجم الحجم
أضواء علي التقيّة

أضواء علي التقيّة

مؤلف:
الناشر: دليل ما
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الذكور!! فإذن أنتم أسباطه وأبناء بنته ، لا أولاده وذرّيّته!!

قلت : ما كنت أحسبك معاندا أو لجوجا ، وإلاّ لما قمت مقام المجيب على سؤالكم ، ولما قبلت الحوار معكم!

الحافظ : لا يا صاحبي! لا يلتبس الأمر عليك ، فإنّا لا نريد المراء واللّجاج وإنّما نريد أن نعرف الحقيقة ، فإنّي وكثير من العلماء نظرنا في الموضوع ما بيّنته لكم ، فإنّا نرى أنّ عقب الإنسان ونسله إنّما هو من الأولاد الذكور لا البنات ، وذلك كما يقول الشاعر في هذا المجال :

بنونا بنو أبنائنا ، وبناتنا

بنوهنّ أبناء الرجال الأباعد

فإن كان عندكم دليل على خلافه يدلّ على أنّ أولاد بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولاده وذرّيّته فبيّنوه لنا حتّى نعرفه ، وربّما نقتنع به فنكون لكم من الشاكرين.

قلت : إنّ الدلائل من كتاب الله (عزّ وجلّ) والروايات المعتبرة لدى الفريقين على ذلك قويّة جدّا.

الحافظ : أرجو منكم أن تبيّنوها حتّى نستفيد بذلك.

قلت : إنّي وفي أثناء كلامكم تذكرت مناظرة حول الموضوع ، جرت بين الخليفة العبّاسي هارون ، وبين : الإمام أبي إبراهيم موسى بن جعفر الكاظمعليه‌السلام ، فقد أجابهعليه‌السلام بجواب كاف وشاف اقتنع به هارون وصدّقه.

الحافظ : كيف كانت تلك المناظرة أرجو أن تبيّنوها لنا؟

قلت : قد نقل هذه المناظرة علماؤنا الأعلام في كتبهم المعتبرة ، منهم : ثقة عصره ، ووحيد دهره ، الشيخ الصدوق في كتابه القيّم : «عيون أخبار الرضا»(١) .

__________________

(١) عيون أخبار الرضا : ج ١ ص ٨٤ ح ٩.

٢١

ومنهم : علاّمة زمانه ، وبحّاثة قرنه ، الشيخ الطبرسي في كتابه الثمين : «الاحتجاج» وأنا أنقلها لكم من كتاب «الاحتجاج»(١) وهو كتاب علمي قيّم ، يضم بين دفّتيه أضخم تراث علمي وأدبي لا بدّ لأمثالك أيّها الحافظ من مطالعته ، حتّى ينكشف لكم الكثير من الحقائق العلمية والوقائع التاريخية الخافية عليكم.

أولاد البتولعليها‌السلام ذرية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

روى العلاّمة الطبرسي أبو منصور أحمد بن علي في الجزء الثاني من كتابه : «الاحتجاج» رواية مفصّلة وطويلة تحت عنوان : «أجوبة الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام لأسئلة هارون» وآخر سؤال وجواب ، كان حول الموضوع الذي يدور الآن بيننا ، وإليكم الحديث بتصرّف :

هارون : لقد جوّزتم للعامّة والخاصة أن ينسبوكم إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقولوا لكم : يا أولاد رسول الله ، وأنتم بنو عليّ ، وإنّما ينسب المرء إلى أبيه ، وفاطمة إنّما هي وعاء ، والنبيّ جدّكم من قبل أمّكم؟؟!

الإمامعليه‌السلام : لو أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نشر فخطب إليك كريمتك ، هل كنت تجيبه؟!

هارون : سبحان الله! ولم لا أجيبه ، وأفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك.

الإمامعليه‌السلام : لكنّه لا يخطب إليّ ، ولا أزوّجه.

هارون : ولم؟! الإمامعليه‌السلام : لأنّه ولدني ولم يلدك.

__________________

(١) الاحتجاج : ج ٢ المناظرة رقم ٢٧١ ص ٣٣٥.

٢٢

هارون : أحسنت!!

ولكن كيف قلتم : إنّا ذرّيّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنبيّ لم يعقّب؟! وإنّما العقب للذّكر لا للأنثى ، وأنتم ولد بنت النبي ، ولا يكون ولدها عقبا لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !!

الإمامعليه‌السلام : أسألك بحقّ القرابة والقبر ومن فيه إلاّ أعفيتني عن هذه المسألة.

هارون : لا أو تخبرني بحجّتكم فيه يا ولد علي! وأنت يا موسى يعسوبهم وإمام زمانهم ، كذا أنهي لي ، ولست أعفيك في كلّ ما أسألك عنه ، حتّى تأتيني فيه بحجّة من كتاب الله ، وأنتم معشر ولد عليّ تدّعون : أنّه لا يسقط عنكم منه شيء ، ألف ولا واو ، إلاّ تأويله عندكم واحتججتم بقوله (عزّ وجلّ) :( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ) (١) وقد استغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم!!

الإمامعليه‌السلام : تأذن لي في الجواب؟

هارون : هات.

الإمامعليه‌السلام : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم :( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ) (٢) فمن أبو عيسىعليه‌السلام ؟!

هارون : ليس لعيسى أب!

الإمامعليه‌السلام : فالله (عزّ وجلّ) ألحقه بذراري الأنبياء عن طريق أمّه مريمعليها‌السلام وكذلك ألحقنا بذراري النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل أمّنا فاطمةعليها‌السلام

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية ٣٨.

(٢) سورة الأنعام ، الآية ٨٤ و ٨٥.

٢٣

هل أزيدك؟

هارون : هات.

الإمامعليه‌السلام : قال الله تعالى :( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ ) (١) ولم يدّع أحد أنّه أدخله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت الكساء [و] عند مباهلة النصارى ، إلاّ عليّ بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسينعليه‌السلام ، واتّفق المسلمون : أنّ مصداق :( أَبْناءَنا ) في الآية الكريمة : الحسن والحسين عليهما السّلام ، و( نِساءَنا ) : فاطمة الزهراءعليها‌السلام ( وَأَنْفُسَنا ) : عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

هارون : أحسنت يا موسى! ارفع إلينا حوائجك.

الإمامعليه‌السلام : ائذن لي أن أرجع إلى حرم جدّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأكون عند عيالي.

هارون : ننظر إن شاء الله(٢) .

الاستدلال بكتب العامة ورواياتهم

هناك دلائل كثيرة جاءت في نفس الموضوع تدلّ على ما ذكرناه ،

__________________

(١) سورة آل عمران ، الآية ٦١.

(٢) لكن ما زال الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام بعيدا عن حرم جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مفارقا لأهله وعياله ، ينقل من سجن الى سجن ، مكبّلا بالقيد والحديد وفي ظلم المطامير حتّى قضى بدسّ هارون السمّ إليه مسموما شهيدا صلوات الله وسلامه عليه. «المترجم».

٢٤

وقد سجّلها علماؤكم ونقلها حفّاظكم ورواتكم.

منهم : الإمام الرازي في الجزء الرابع من «تفسيره الكبير»(١) وفي الصفحة [١٢٤] من المسألة الخامسة قال في تفسير هذه الآية من سورة الأنعام : إنّ الآية تدلّ على أنّ الحسن والحسين [عليهما السّلام] ذرّيّة رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) لأنّ الله جعل في هذه الآية عيسى من ذرّيّة إبراهيم ولم يكن لعيسى أب ، وإنّما انتسابه إليه من جهة الامّ ، وكذلك الحسن والحسين [عليهما السّلام] فإنّهما من جهة الامّ ذرّيّة رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم).

كما إنّ [الإمام] الباقر [عليه‌السلام ] استدل للحجّاج الثقفي بهذه الآية لإثبات أنّهم ذرّيّة رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) أيضا(٢) :

ومنهم : ابن أبي الحديد في : «شرح نهج البلاغة» ، وأبو بكر الرازي في تفسيره استدلّ على أنّ الحسن والحسين عليهما السّلام أولاد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جهة أمّهم فاطمةعليها‌السلام بآية المباهلة وبكلمة :( أَبْناءَنا ) كما نسب الله تعالى في كتابه الكريم عيسى إلى إبراهيم من جهة أمّه مريمعليها‌السلام .

ومنهم : الخطيب الخوارزمي ، فقد روى في «المناقب» والمير السيّد علي الهمداني الشافعي في كتابه «مودّة القربى» والإمام أحمد بن حنبل

__________________

(١) التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي : المجلد السابع ج ١٣ ، ص ٦٦.

(٢) المروي في كتاب الاحتجاج : ج ٢ ص ١٧٥ المناظرة ٢٠٤ أن الإمام الباقرعليه‌السلام استدل بهذه الآية في حديثه مع أبي الجارود ، فراجع.

٢٥

وهو من فحول علمائكم في مسنده ، وسليمان الحنفي البلخي في «ينابيع المودّة»(١) بتفاوت يسير : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ـ وهو يشير إلى الحسن والحسين عليهما السّلام ـ : «ابناي هذان ريحانتاي من الدنيا ، ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا».

ومنهم : محمد بن يوسف الشافعي ، المعروف بالعلاّمة الكنجي ، ذكر في كتابه «كفاية الطالب» فصلا بعد الأبواب المائة بعنوان : «فصل : في بيان أنّ ذرّيّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من صلب عليّ [عليه‌السلام ]» جاء فيه بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله (عزّ وجلّ) جعل ذرّيّة كلّ نبي في صلبه ، وإنّ الله (عزّ وجلّ) جعل ذرّيّتي في صلب عليّ بن أبي طالب»(٢) .

ورواه ابن حجر المكي في صواعقه المحرقة : ص ٧٤ و ٩٤ عن الطبراني ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري ؛ كما ورواه أيضا الخطيب الخوارزمي في «المناقب» عن ابن عبّاس.

قلت(٣) : ورواه الطبراني في معجمه الكبير في ترجمة الحسن ، ثمّ قال :

فإن قيل : لا اتّصال لذرّيّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعليّ [عليه‌السلام ] إلاّ من جهة فاطمة [عليها‌السلام ] وأولاد البنات لا تكون ذرّيّة ، لقول الشاعر :

__________________

(١) ينابيع المودة : الباب ٥٤ ص ١٩٣ وفيه : عن الترمذي عن ابن عمر قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «ان الحسن والحسين هما ريحانتاي من الدنيا»

(٢) كفاية الطالب : ص ٣٧٩.

(٣) والقائل هو الكنجي الشافعي تعقيبا لما رواه.

٢٦

بنونا بنو أبنائنا ، وبناتنا

بنوهنّ أبناء الرجال الأباعد

قلت : في التنزيل حجّة واضحة تشهد بصحّة هذه الدعوى وهو قوله (عزّ وجلّ)(١) :( وَوَهَبْنا لَهُ ) [أي : إبراهيم]( إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ ) ـ إلى أن قال : ـ( وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى ) فعدّ عيسى [عليه‌السلام ] من جملة الذرّيّة الّذين نسبهم إلى نوح [عليه‌السلام ] وهو ابن بنت لا اتّصال له إلاّ من جهة أمّه مريم.

وفي هذا دليل مؤكّد على أنّ أولاد فاطمة [عليها‌السلام ] هم ذرّيّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا عقب له إلاّ من جهتها ، وانتسابهم إلى شرف النبوّة ـ وإن كان من جهة الامّ ـ ليس بممنوع ، كانتساب عيسى إلى نوح ، إذ لا فرق.

وروى الحافظ الكنجي الشافعي في آخر هذا الفصل ، بسنده عن عمر بن الخطّاب ، قال : سمعت رسول الله يقول : كلّ بني انثى فإنّ عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة ، فإنّي أنا عصبتهم وأنا أبوهم(٢) .

قال العلاّمة الكنجي : رواه الطبري في ترجمة الحسن.

هذا ، وقد نقله أيضا بتفاوت يسير وزيادة في أوّله ، بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : كلّ حسب ونسب منقطع يوم القيامة ما خلا حسبي ونسبي(٣) .

أقول : ونقله كثير من علمائكم وحفّاظكم ، منهم الحافظ سليمان الحنفي في كتابه : «ينابيع المودّة»(٤) وقد أفرد بابا في الموضوع فرواه عن

__________________

(١) في سورة الأنعام : الآيتين ٨٤ و ٨٥.

(٢) كفاية الطالب : ص ٣٨١.

(٣) كفاية الطالب : ص ٣٨٠.

(٤) ينابيع المودة ، الباب ٥٧ ص ٣١٨.

٢٧

أبي صالح ، والحافظ عبد العزيز بن الأخضر ، وأبي نعيم في معرفة الصحابة ، والدارقطني والطبراني في الأوسط.

ومنهم : الشيخ عبد الله بن محمد الشبراوي في : «الإتحاف بحبّ الأشراف».

ومنهم : جلال الدين السيوطي في : «إحياء الميت بفضائل أهل البيت»(١) .

ومنهم : أبو بكر ابن شهاب الدين في : «رشفة الصادي في بحر فضائل بني النبيّ الهادي» ط. مصر ، الباب الثالث.

ومنهم : ابن حجر الهيثمي في «الصواعق المحرقة» الباب التاسع ، الفصل الثامن ، الحديث السابع والعشرون» قال : أخرج الطبراني عن جابر ، والخطيب عن ابن عبّاس ونقل الحديث.

وروى ابن حجر أيضا في «الصواعق الباب الحادي عشر ، الفصل الأول ، الآية التاسعة ...» : وأخرج أبو الخير الحاكمي ، وصاحب «كنوز المطالب في بني أبي طالب» إنّ عليّا دخل على النبي (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) وعنده العبّاس ، فسلّم فردّ عليه (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) السلام وقام فعانقه وقبّل ما بين عينيه وأجلسه عن يمينه.

فقال له العبّاس : أتحبّه؟

قال (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) : يا عمّ! والله الله أشدّ حبّا له منّي ، إنّ الله (عزّ وجلّ) جعل ذرّيّة كلّ نبيّ في صلبه ، وجعل ذرّيّتي في صلب هذا.

__________________

(١) من الحديث ٢٩ ص ٢٨ الى الحديث ٣٤ ص ٣٢.

٢٨

ورواه العلاّمة الكنجي الشافعي في كتابه : «كفاية الطالب الباب السابع»(١) بسنده عن ابن عبّاس.

وهناك مجموعة كبيرة من الأحاديث الشريفة المعتبرة ، المرويّة في كتبكم ، المقبولة عند علمائكم ، تقول : إنّ النبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) كان يعبّر عن الحسن والحسين عليهما السّلام ، بأنّهما ابناه ، ويعرّفهما لأصحابه ويقول : هذان ابناي

وجاء في تفسير : «الكشّاف» وهو من أهمّ تفاسيركم ، في تفسير آية المباهلة : لا دليل أقوى من هذا على فضل أصحاب الكساء ، وهم : عليّ وفاطمة والحسنان ، لأنّها لمّا نزلت ، دعاهم النبي (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) فاحتضن الحسين وأخذ بيد الحسن ومشت فاطمة خلفه وعليّ خلفهما ، فعلم : إنّهم المراد من الآية ، وإنّ أولاد فاطمة وذرّيّتهم يسمّون أبناءه وينسبون إليه (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) نسبة صحيحة نافعة في الدنيا والآخرة(٢) .

وكذلك الشيخ أبو بكر الرازي في «التفسير الكبير» في ذيل آية المباهلة ، وفي تفسير كلمة :( أَبْناءَنا ) له كلام طويل وتحقيق جليل ، أثبت فيه أنّ الحسن والحسين هم ابنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذرّيّته ، فراجع(٣) .

__________________

(١) كفاية الطالب : الباب السابع ، ص ٧٩.

(٢) الكشاف : ج ١ ص ٣٦٨.

(٣) حول آية المباهلة والحسنينعليهما‌السلام :لقد أجمع المفسّرون على أنّ( أَبْناءَنا ) في آية المباهلة إشارة إلى الحسن

٢٩

__________________

والحسين عليهما السّلام ، وأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخرجهما معه يوم المباهلة مجيبا أمر الله (عزّ وجلّ) ، وقد أجمع عليه المحدّثون والمؤرّخون من المسلمين.

وإليك بعض المدارك والمصادر في هذا الباب :

١ ـ الحافظ مسلم بن الحجّاج ، في صحيحه ، ج ٧ ص ١٢٠ ، ط. محمد علي صبيح ـ مصر.

٢ ـ الإمام أحمد بن حنبل ، في مسنده ، ج ١ ص ١٨٥ ، ط. مصر.

٣ ـ العلاّمة الطبري ، في تفسيره ، ج ٣ ص ١٩٢ ، ط. الميمنية ـ مصر.

٤ ـ العلاّمة أبو بكر الجصّاص ـ المتوفّى سنة ٢٧٠ ه‍ ـ في كتاب «أحكام القرآن» ج ٢ ص ١٦ ، قال فيه : إنّ رواة السير ونقلة الاثر لم يختلفوا في أنّ النبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) أخذ بيد الحسن والحسين وعليّ وفاطمة رضي الله عنهم ودعا النصارى الّذين حاجّوه إلى المباهلة إلى آخره.

٥ ـ الحاكم ، في «المستدرك» ج ٣ ص ١٥٠ ، ط حيدرآباد الدكن.

٦ ـ العلاّمة الثعلبي ، في تفسيره في ذيل آية المباهلة.

٧ ـ الحافظ أبو نعيم ، في كتاب «دلائل النبوّة» ص ٢٩٧ ، ط. حيدرآباد.

٨ ـ العلاّمة الواحدي النيسابوري ، في كتاب : «أسباب النزول» ص ٧٤ ، ط. مصر.

٩ ـ العلاّمة ابن المغازلي في كتابه مناقب علي بن أبي طالب (ع).

١٠ ـ العلاّمة البغوي ، في كتابه «معالم التنزيل» ج ١ ص ٣٠٢.

وفي كتابه «مصابيح السنّة» ج ٢ ص ٢٠٤ ، ط المطبعة الخيرية.

١١ ـ العلاّمة الزمخشري ، في تفسير : «الكشّاف» ج ١ ص ١٩٣ ، ط. مصطفى محمد.

١٢ ـ العلاّمة أبو بكر ابن العربي ، في كتاب «أحكام القرآن» ج ١ ص ١١٥ ، ط.

مطبعة السعادة بمصر.

٣٠

__________________

١٣ ـ العلاّمة الفخر الرازي ، في «التفسير الكبير» ج ٨ ص ٨٥ ، ط. البهية بمصر.

١٤ ـ العلاّمة المبارك ابن الأثير ، في «جامع الاصول» ج ٩ ص ٤٧٠ ، ط. المطبعة المحمدية بمصر.

١٥ ـ الحافظ شمس الدين الذهبي ، في تلخيصه المطبوع في ذيل مستدرك الحاكم ، ج ٣ ص ١٥٠ ، ط. حيدرآباد.

١٦ ـ الشيخ محمد بن طلحة الشافعي ، في «مطالب السئول».

١٧ ـ العلاّمة الجزري ، في كتاب «أسد الغابة» ج ٤ ص ٢٥ ، ط. الاول بمصر.

١٨ ـ العلاّمة سبط ابن الجوزي ، في «التذكرة» ص ١٧ ، ط. النجف.

١٩ ـ العلاّمة القرطبي ، في كتاب «الجامع لاحكام القرآن» ج ٣ ص ١٠٤ ، ط.

مصر ، سنة ١٩٣٦.

٢٠ ـ العلاّمة البيضاوي ، في تفسيره ، ج ٢ ص ٢٢ ، ط. مصطفى محمد بمصر.

٢١ ـ العلاّمة محبّ الدين الطبري ، في «ذخائر العقبى» ص ٢٥ ، ط. مصر سنة ١٣٥٦.

وفي كتابه الآخر «الرياض النضرة» ص ١٨٨ ، ط. الخانجي بمصر.

٢٢ ـ العلاّمة النسفي ، في تفسيره ، ج ١ ، ص ١٣٦ ، ط. عيسى الحلبي بمصر.

٢٣ ـ العلاّمة المهايمي ، في : «تبصير الرحمن وتيسير المنان» ج ١ ص ١١٤ ، ط.

مطبعة بولاق بمصر.

٢٤ ـ الخطيب الشربيني ، في تفسيره «السراج المنير» ج ١ ص ١٨٢ ، ط. مصر.

٢٥ ـ العلاّمة النيسابوري ، في تفسيره ، ج ٣ ص ٢٠٦ ، بهامش تفسير الطبري ، ط.

الميمنية بمصر.

٢٦ ـ العلاّمة الخازن ، في تفسيره ، ج ١ ص ٣٠٢ ، ط. مصر.

٣١

__________________

٢٧ ـ العلاّمة أبو حيّان الأندلسي ، في كتابه «البحر المحيط» ج ٢ ص ٤٧٩ ، ط ، مطبعة السعادة بمصر.

٢٨ ـ الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي ، في تفسيره ، ج ١ ص ٣٧٠ ، ط. مصطفى محمد بمصر.

وفي كتابه «البداية والنهاية» ج ٥ ص ٥٢ ، ط. مصر.

٢٩ ـ أحمد بن حجر العسقلاني ، في «الإصابة» ج ٢ ص ٥٠٣ ، ط. مصطفى محمد بمصر.

٣٠ ـ العلاّمة معين الدين الكاشفي ، في كتاب «معارج النبوّة» ج ١ ص ٣١٥ ، ط. لكنهو.

٣١ ـ ابن الصبّاغ المالكي ، في «الفصول المهمّة» ص ١٠٨ ، ط النجف.

٣٢ ـ جلال الدين السيوطي ، في «الدر المنثور» ج ٤ ص ٣٨ ، ط. مصر.

وفي كتابه «تاريخ الخلفاء» ص ١١٥ ، ط. لاهور.

٣٣ ـ ابن حجر الهيتمي ، في كتابه «الصواعق المحرقة» ص ١٩٩ ، ط. المحمدية بمصر.

٣٤ ـ أبو السعود أفندي ، شيخ الإسلام في الدولة العثمانية ، في تفسيره ، ج ٢ ص ١٤٣ ، ط. مصر ، المطبوع بهامش تفسير الرازي.

٣٥ ـ العلاّمة الحلبي ، في كتابه «السيرة المحمدية» ج ٣ ص ٣٥ ، ط. مصر.

٣٦ ـ العلاّمة الشاه عبد الحقّ الدهلوي ، في كتاب «مدارج النبوّة» ص ٥٠٠ ط. بومبي.

٣٧ ـ العلاّمة الشبراوي ، في كتاب «الإتحاف بحبّ الاشراف» ص ٥ ، ط. مصطفى الحلبي.

٣٨ ـ العلاّمة الشوكاني ، في كتاب «فتح القدير» ج ١ ص ٣١٦ ، طبع مصطفى الحلبي بمصر.

٣٩ ـ العلاّمة الآلوسي ، في تفسيره «روح المعاني» ج ٣ ص ١٦٧ ، ط. المنيرية بمصر.

٣٢

ثمّ قلت بعد ذلك : فهل يبقى ـ يا أيّها الحافظ! ـ بعد هذا كلّه ، محلّ للشعر الذي استشهدت به؟! بنونا بنو أبنائنا إلى آخره.

وهل يقوم هذا البيت من الشعر ، مقابل هذه النصوص الصريحة والبراهين الواضحة؟!

فلو اعتقد أحد بعد هذا كلّه ، بمفاد ذلك الشعر الجاهلي ـ الذي قيل في وصفه : إنه كفر من شعر الجاهلية ـ ، لردّه كتاب الله العزيز وحديث رسوله الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمّ اعلم ـ أيّها الحافظ ـ أنّ هذا بعض دلائلنا في صحّة انتسابنا

__________________

٤٠ ـ العلاّمة الطنطاوي ، في تفسيره «الجواهر» ج ٢ ص ١٢٠ ، ط. مصطفى الحلبي بمصر.

٤١ ـ السيّد أبو بكر الحضرمي ، في كتاب «رشفة الصادي» ص ٣٥ ، ط. الإعلامية بمصر.

٤٢ ـ الشيخ محمود الحجازي ، في تفسير «الواضح» ج ٣ ص ٥٨ ، ط مصر.

٤٣ ـ العلاّمة صدّيق حسن خان ، في كتاب : «حسن الاسوة» ص ٣٢ ، ط. الجوائب بالقسطنطنية.

٤٤ ـ العلاّمة أحمد زيني دحلان ، في «السيرة النبوية» المطبوعة بهامش «السيرة الحلبية» ج ٣ ص ٤ ، ط. مصر.

٤٥ ـ السيّد محمد رشيد رضا ، في تفسير «المنار» ج ٣ ص ٣٢١ ، ط. مصر.

٤٦ ـ العلاّمة محمد بن يوسف الكنجي ، في كتابه «كفاية الطالب» الباب الثاني والثلاثين.

٤٧ ـ الحافظ سليمان الحنفي ، في كتابه : «ينابيع المودّة» ج ١ باب الآيات الواردة في فضائل أهل البيت ، الآية التاسعة.

«المترجم»

٣٣

إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعض براهيننا على أنّنا ذرّيّته ونسله ، ولذا يحقّ لنا أن نفتخر بذلك ونقول :

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع

الحافظ : إنّي اقرّ وأعترف بأنّ دلائلكم كانت قاطعة ، وبراهينكم ساطعة ، ولا ينكرها إلاّ الجاهل العنود ؛ كما وأشكركم كثيرا على هذه التوضيحات ، فلقد كشفتم لنا الحقيقة وأزحتم الشبهة عن أذهاننا.

صلاة العشاء

وهنا علا صوت المؤذّن في المسجد وهو يعلن وقت صلاة النساء ، والإخوة من العامّة ـ بخلافنا نحن الشيعة ـ يوجبون التفريق بين صلاتي الظهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء ، وقد يجمعون أحيانا ، وذلك لسبب كالمطر والسفر.

لذا فقد تهيّئوا جميعا للذهاب إلى المسجد ، فقال بعضهم : وبما أنّا نريد الرجوع بعد الصلاة إلى هذا المكان لمتابعة الحديث ، فالأحسن أن تقام جماعة في المسجد وجماعة في هذا المكان بالحاضرين ، حتّى لا يفترق جمعنا ولا يفوت وقتنا ، فهذه فرصة ثمينة يجب أن نغتنمها.

فوافق الجميع على هذا الاقتراح ، وذهب السيّد عبد الحيّ ـ إمام المسجد ـ ليقيم الجماعة فيه بالناس.

وأمّا الآخرون فقد أقاموا صلاة العشاء جماعة في نفس المكان ، واستمرّوا على ذلك في بقية الليالي التالية أيضا.

٣٤

مسألة الجمع أو التفريق بين الصلاتين

ولمّا استقرّ بنا المجلس بعد الصلاة ، خاطبني أحد الحاضرين ، ويدعى النوّاب عبد القيّوم خان ، وكان يعدّ من أعيان العامة وأشرافهم ، وهو رجل مثقّف يحبّ العلم والمعرفة ، فقال لي : في هذه الفرصة المناسبة التي يتناول العلماء فيها الشاي أستأذنكم لأطرح سؤالا خارجا عن الموضوع الّذي كنّا فيه ، ولكنّه كثيرا ما يتردّد على فكري ويختلج في صدري.

قلت : تفضّل واسأل ، فإنّي مستعدّ للاستماع إليك.

النوّاب : كنت أحبّ كثيرا أن ألتقي بأحد علماء الشيعة حتّى أسأله : أنّه لما ذا تسير الشيعة على خلاف السنّة النبوية حين يجمعون بين صلاتي الظهر والعصر ، وكذلك المغرب والعشاء؟!

قلت :

أولا : السادة العلماء ـ وأشرت إلى الحاضرين في المجلس ـ يعلمون أنّ آراء العلماء تختلف في كثير من المسائل الفرعية ، كما أنّ أئمّتكم ـ الأئمّة الأربعة ـ يختلفون في آرائهم الفقهيّة فيما بينهم كثيرا ، فلم يكن إذن الاختلاف بيننا وبينكم في مثل هذه المسألة الفرعية شيئا مستغربا.

ثانيا : إنّ قولك : الشيعة على خلاف السنّة النبوية ، ادّعاء وقول لا دليل عليه ، وذلك لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يجمع حينا ويفرّق اخرى.

النوّاب ـ وهو يتوجّه إلى علماء المجلس ويسألهم ـ : أهكذا كان يصنع رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) يفرّق حينا ويجمع اخرى؟

٣٥

الحافظ : يلتفت إلى النوّاب ويقول في جوابه ـ : كان النبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) يجمع بين الصلاتين في موردين فقط : مورد السفر ، ومورد العذر من مطر وما أشبه ذلك ، لكي لا يشقّ على أمّته.

وأمّا إذا كان في الحضر ، ولم يكن هناك عذر للجمع ، فكان يفرّق ، وأظنّ أنّ السيّد قد التبس عليه حكم السفر والحضر!!

قلت : كلاّ ، ما التبس عليّ ذلك ، بل أنا على يقين من الأمر ، وحتّى أنّه جاء في الروايات الصحيحة عندكم : بأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يجمع بين الصلاتين في الحضر من غير عذر.

الحافظ : ربّما وجدتم ذلك في رواياتكم وتوهّمتم أنّها من رواياتنا!!

قلت : لا ، ليس كذلك ، فإنّ رواة الشيعة قد أجمعوا على جواز الجمع بين الصلاتين ، لأنّ الروايات في كتبنا صريحة في ذلك ، وإنّما الكلام والنقاش يدور فيما بين رواتكم حول الجمع وعدمه ، فقد نقلت صحاحكم وذكرت مسانيدكم ، أحاديث كثيرة وأخبارا صريحة في هذا الباب.

الحافظ : هل يمكنكم ذكر هذه الروايات والأحاديث وذكر مصادرها لنا؟

قلت : نعم ، هذا مسلم بن الحجّاج ، روى في صحيحه في باب «الجمع بين الصلاتين في الحضر» بسنده عن ابن عبّاس ، أنّه قال : صلّى رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) الظهر والعصر جمعا ، والمغرب والعشاء جمعا ، في غير خوف ولا سفر.

٣٦

وروى أيضا ، بسنده عن ابن عبّاس ، أنّه قال : صلّيت مع النبي (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) ثمانيا جمعا ، وسبعا جمعا(١) .

وروى هذا الخبر بعينه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ج ٢ ص ٢٢١ ، وأضاف إليه حديثا آخر عن ابن عبّاس أيضا ، أنّه قال : صلى رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) في المدينة مقيما غير مسافر ، سبعا وثمانيا.

وروى مسلم في صحيحه أخبارا عديدة في هذا المجال ، إلى أن روى في الحديث رقم ٥٧ ، بسنده عن عبد الله بن شقيق ، قال : خطبنا ابن عبّاس يوما بعد العصر حتّى غربت الشمس وبدت النجوم ، فجعل الناس يقولون : الصلاة ـ الصلاة! فلم يعتن ابن عبّاس بهم ، فصاح في هذه الأثناء رجل من بني تميم ، لا يفتر ولا ينثني : الصلاة الصلاة!

فقال ابن عبّاس : أتعلّمني بالسنّة؟ لا أمّ لك!

ثمّ قال : رأيت رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) جمع بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء.

قال عبد الله بن شقيق : فحاك في صدري من ذلك شيء ، فأتيت أبا هريرة ، فسألته ، فصدّق مقالته.

وروى مسلم في صحيحه الحديث رقم ٥٨ ذلك أيضا بطريق آخر عن عبد الله بن شقيق العقيلي ، قال : قال رجل لابن عبّاس ـ لمّا طالت خطبته ـ : الصلاة! فسكت ، ثمّ قال : الصلاة! فسكت. ثمّ قال :

__________________

(١) يقصد بالثمان : ركعات الظهر والعصر ، وبالسبع : ركعات المغرب والعشاء ، في الحضر. «المترجم».

٣٧

الصلاة! فسكت ، ثمّ قال : لا أمّ لك! أتعلّمنا بالصلاة ، وكنّا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم)؟!

وروى الزرقاني وهو من كبار علمائكم ، في كتابه «شرح موطّأ مالك ج ١ ص ٢٦٣ ، باب الجمع بين الصلاتين» عن النسائي ، عن طريق عمرو بن هرم ، عن ابن الشعثاء ، أنّه قال : إنّ ابن عبّاس كان يجمع بين صلاتي الظهر والعصر ، وصلاتي المغرب والعشاء في البصرة ، وكان يقول : هكذا صلّى رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم).

وروى مسلم في صحيحه ، ومالك في : «الموطّأ» وأحمد بن حنبل في «المسند» والترمذي في صحيحه في «باب الجمع بين الصلاتين» بإسنادهم عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس ، قال : جمع رسول الله (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) بين الظهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء بالمدينة ، من غير خوف ولا مطر ، فقيل لابن عبّاس : ما أراد بذلك؟

قال : أراد أن لا يحرج أحدا من أمّته.

هذه بعض رواياتكم في هذا الموضوع ، وهي أكثر من ذلك بكثير ، ولكن ربّما يقال : إنّ أوضح دليل على جواز الجمع بين الصلاتين من غير عذر ولا سفر ، هو : أنّ علماءكم فتحوا بابا في صحاحهم ومسانيدهم بعنوان : «الجمع بين الصلاتين» وذكروا فيه الروايات التي ترخّص الجمع مطلقا ، فيكون دليلا على جواز الجمع مطلقا ، في السفر والحضر ، مع العذر وبلا عذر.

ولو كان غير ذلك ، لفتحوا بابا مخصوصا للجمع في الحضر ، وبابا مخصوصا للجمع في السفر ، وبما أنّهم لم يفعلوا ذلك ، وإنّما

٣٨

سردوا الروايات في باب واحد ، كان ذلك دليلا على جواز الجمع مطلقا!

الحافظ : ولكنّي لم أجد في صحيح البخاري روايات ولا بابا بهذا العنوان.

قلت :

أوّلا : إنّه إذا روى سائر أصحاب الصحاح ـ غير البخاري ـ من مثل مسلم والترمذي والنسائي وأحمد بن حنبل ، وشرّاح صحيحي مسلم والبخاري ، وغيرهم من كبار علمائكم ، أخبارا وأحاديث في مطلب ما وأقرّوا بصحّتها ، ألا تكون رواية أولئك كافية في إثبات ذلك المطلب ، فيثبت إذن هدفنا ومقصودنا؟!

وثانيا : إنّ البخاري أيضا ذكر هذه الروايات في صحيحه ، ولكن بعنوان آخر ، وذلك في باب «تأخير الظهر إلى العصر» من كتاب مواقيت الصلاة ، وفي باب «ذكر العشاء والعتمة» وباب «وقت المغرب».

أرجو أن تطالعوا هذه الأبواب بدقّة وإمعان حتّى تجدوا أنّ كلّ هذه الأخبار والروايات الدالّة على جواز الجمع بين الصلاتين منقولة هناك أيضا.

الجمع بين الصلاتين عند علماء الفريقين

والحاصل : إنّ نقل هذه الاحاديث من قبل جمهور علماء الفريقين ـ مع الإقرار بصحّتها في صحاحهم ـ دليل على أنّهم أجازوا الجمع ورخّصوه ، وإلاّ لما نقلوا هذه الروايات في صحاحهم.

٣٩

كما أنّ العلاّمة النووي في «شرح صحيح مسلم» والعسقلاني والقسطلاني وزكريّا الأنصاري ، في شروحهم لصحيح البخاري ، وكذلك الزرقاني في «شرح موطّأ مالك» وغير هؤلاء من كبار علمائكم ذكروا هذه الأخبار والروايات ، ثمّ وثّقوها وصحّحوها ، وصرّحوا بأنّها تدلّ على الجواز والرخصة في الجمع بين الصلاتين في الحضر من غير عذر ولا مطر ، وخاصة بعد رواية ابن عبّاس وتقرير صحّتها ، فإنّهم علّقوا عليها بأنّها صريحة في جواز الجمع مطلقا ، وذلك حتّى لا يكون أحد من الأمّة في حرج ومشقّة.

النوّاب ـ وهو يقول متعجبا ـ : كيف يمكن مع وجود هذه الأخبار والروايات المستفيضة والصريحة في جواز الجمع بين الصلاتين ، ثمّ يكون علماؤنا على خلافها حكما وعملا؟!

قلت ـ بديهي ، ومع كامل العذر على الصراحة ـ : إنّ عدم التزام علمائكم بالنصوص الصريحة والروايات الصحيحة لا تنحصر ـ مع كلّ الأسف ـ بهذا الموضوع فقط ، بل هناك حقائق كثيرة نصّ عليها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وصرّح بها في حياته ، ولكنّهم لم يلتزموا بها ، وإنّما تأوّلوها وأخفوا نصّها عن عامة الناس ، وسوف تنكشف لكم بعض هذه الحقائق خلال البحث والنقاش في موضوع الإمامة وغيره إن شاء الله تعالى.

وأمّا هذا الموضوع بالذات ، فإنّ فقهاءكم لم يلتزموا ـ أيضا ـ بالروايات التي وردت فيه مع صراحتها ، وإنّما أوّلوها بتأويلات غير مقبولة عرفا.

٤٠

قال: كنت أتمنّى أن أرزق التّقيّة في ديني، وقضاء حقوق إخواني.

فقال: «أحسنت؛ أعطوه ألفي درهم».

١٦ - قال: وقال رجلٌ للرّضا عليه السلام: سل لي ربّك التّقيّة الحسنة، والمعرفة بحقوق الإخوان، والعمل بما أعرف من ذلك.

فقال الرّضا عليه السلام: «قد أعطاك الله ذلك، لقد سألت أفضل شعار الصالحين ودثارهم».

١٧ - قال: وقيل لمحمّد بن عليٍ عليهما السلام: إنّه ضيّع حقّ أخ مؤمن، وترك التّقيّة فوجّه إليه فتاب».

١٨ - قال: وقيل لعليّ بن محمّدٍ عليهما السلام: من أكمل النّاس؟

قال: «أعملهم بالتّقيّة، وأقضاهم لحقوق إخوانه..».

إلى أن قال: في قوله تعالى: ( وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَـٰنُ الرَّحِيمُ ) .

قال: الرّحيم بعباده المؤمنين من شيعة آل محمّد، وسّع لهم في التّقيّة يجاهرون بإظهار موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه إذا قدروا، ويسرّون بها إذاعجزوا».

١٩ - ثمّ قال [الامام العسكري عليه السلام]: «قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ولو شاء لحرّم عليكم التّقيّة وأمركم بالصّبر على ما ينالكم من أعدائكم عند إظهاركم الحقّ.

ألا فأعظم فرائض الله عليكم بعد فرض موالاتنا ومعاداة أعدائكم استعمال التّقيّة على أنفسكم وأموالكم ومعارفكم، وقضاء حقوق أخوانكم.

وإن الله يغفر كلّ ذنبٍ بعد ذلك ولا يستقصي وأمّا هذان فقلّ من ينجو منهما إلّا بعد مسّ عذاب شديدٍ، إلّا أن يكون لهم مظالم على النّواصب والكفّار فيكون عقاب هذني على أُولئك الكفّار والنّواصب قصاصاً بما لكم عليه من الحقوق وما لهم إليكم من الظّلم.

فاتّقوا الله ولا تتعرّضوا لمقت الله بترك التّقيّة، والتّقصير في حقوق إخوانكم المؤمنين».

٢٠ - حديث الامام المهدي عليه السلام قال عجّل الله فرجه الشريف: يا ابن المازيار! أبي

٤١

أبو محمّد عهد إليّ أن لا أجاور قوماً غضب الله عليهم ولهم الخزي في الدّنيا والآخرة ولهم عذابٌ أليمٌ.

وأمرني أن لا أسكن من الجبال إلّا وعرها ومن البلاد إلّا عفرها (١) .

والله مولاكم أظهر التّقيّة فوكلها بي (٢) فأنا في التّقيّة إلى يوم يُؤذن لي فأخرج (٣) .

٢١ - حديث الامام الصادق عليه السلام أنه قال: كان فيما أوصى به لقمان ابنه: يا بنيّ: ليكن فيما تتسلّح به على عدوّك وتصرعه المماسحة - أي التلطّف - وإعلان الرضا عنه، ولا تزاوله بالمجنابة فيبدو له ما في نفسك، فيتأهّب لك» (٤) .

٢٢ - حديث الأعمش عن الامام الصادق عليه السلام انه قال: «استعمال التقية في دار التقية واجب، ولا حنث ولا كفارة على من حلف تقيّة، يدفع بذلك ظلماً عن نفسه» (٥) .

٢٣ - حديث الامام الهادي عن آبائه الطاهرين عن الامام الصادق عليهم السلام انه قال: «ليس منّا من لم يلزم التقية، ويصوننا عن سفلة الرعيّة» (٦) .

٢٤ - حديث الامام الصادق عليه السلام انه قال: «عليكم بالتقية، فانه ليس منّا من لم يجعله شعاره ودثاره مع من يأمنه، لتكون سجيته مع من يحذره» (٧) .

٢٥ - حديث الامام الرضا عليه السلام انه قال: «لا دين لمن لا ورع له ولا ايمان لمن لا تقية

__________________

١. أي البلاد الرمليّة، والأعفر هو الرمل الأحمر كما في مجمع البحرين: ص ٢٨٥.

٢. لاحظ بحث حكمة غيبة الامام المهدي عليه السلام والحكم الخمسة التي منها كراهة مجاورة الظالمين والتحفظ على النفس في كتاب الامام المنتظر من ولادته إلى دولته.

٣. المختار: ج ٣، ص ١٢٨.

٤. بحار الأنوار: ج ٧٥، ص ٣٩٣، ب ٨٧، ح ١.

٥. بحار الأنوار: ج ٧٥، ص ٣٩٤، ب ٨٧، ح ١٤.

٦. بحار الأنوار: ج ٧٥، ب ٨٧، ص ٣٩٥، ح ١٤.

٧. بحار الأنوار: ج ٧٥، ب ٨٧، ص ٣٩٥، ح ١٥.

٤٢

له.. ان أكرمكم عند الله عزّوجلّ أعملكم بالتقية قبل خروج قائمنا، فمن تركها قبل خروج قائمنا فليس منّا» (١) .

٢٦ - حديث الامام الصادق عليه السلام انه قال: «يا سفيان! عليك بالتّقيّة فإنّها سنّة إبراهيم الخليل عليه السلام.

وإنّ الله عزّوجلّ قال لموسى وهارون عليهما السلام: ( اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ ) (٢) يقول الله عزّوجلّ كنّياه وقولا له: يا أبا مصعبٍ!،إنّ رسول الله كان إذا أراد سفراً ورّى بغيره.

وقال عليه السلام أمرني ربّي بمداراة النّاس كما أمرني بأداء الفرائض، ولقد أدّبه الله عزّوجلّ بالتّقيّة فقال: ( وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ) (٣) .

يا سفيان! من استعمل التّقيّة في دين الله فقد تسنّم الذّروة العليا من العزّ، إنّ عزّ المؤمن في حفظ لسانه، ومن لم يملك لسانه ندم (٤) .

٢٧ - حديث أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزّوجلّ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا ) قال: «اصبروا على المصائب، وصابروهم على التّقيّة، ورابطوا على من تقتدون به ( وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (٥) ». (٦)

٢٨ - حديث سليمان بن خالد قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: «يا سليمان! إنّكم على دينٍ

__________________

١. بحار الأنوار: ج ٧٥، ب ٨٧، ص ٣٩٥، ح ١٦.

٢. سورة طه: الآية ٤٣ - ٤٤.

٣. سورة فصلت، الآية ٣٤ - ٣٥.

٤. بحار الأنوار: ج ٧٥، ب ٨٧، ص ٣٩٦، ح ١٨.

٥. سورة آل عمران، الآية ٢٠٠.

٦. بحار الأنوار: ج ٧٥، ب ٨٧، ص ٣٩٦، ح ١٩.

٤٣

من كتمه أعزّه الله ومن أذاعه أذلّه الله» (١) .

٢٩ - حديث هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزوجل: ( أُولَـٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا ) (٢) .

٣٠ - حديث حبيب بن بشير قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: «سمعت أبي يقول: لا والله ما على وجه الأرض شيء أحبّ إليّ من التّقيّة. يا حبيب! إنّه من كانت له تقيّة رفعه الله. يا حبيب! من لم تكن له تقيّة وضعه الله. يا حبيب! إن النّاس إنّما هم في هدنةٍ فلو قد كان ذلك كان هذا» (٣) .

٣١ - حديث ثابت مولى آل جرير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: «كظم الغيظ عن العدوّ في دولاتهم تقية حزم لمن أخذ بها، وتحرّز من التعرّض للبلاء في الدّنيا» (٤) .

٣٢ - حديث عبد الله مسكان قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: «إنّي لأحسبك إذا شتم عليّ بين يديك لو تستطيع أن تأكل أنف شاتمه لفعلت».

فقلت: إي والله جعلت فداك إنّي لهكذا وأهل بيتي.

فقال لي: «فلا تفعل، فو الله لربّما سمعت من يشتم عليّاً، وما بيني وبينه إلّا أسطوانةً فأستتر بها، فإذا فرغت من صلاتي، فأمرّ به، فأُسلّم عليه، وأُصافحه» (٥) .

٣٣ - حديث تفسير الامام العسكري عليه السلام: أبو محمّد العسكريّ عليه السلام في تفسيره، في قوله تعالى: ( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ) (٦) قال الصّادق عليه السلام: «قولوا للنّاس كلّهم حسناً

__________________

١. بحار الأنوار: ج ٧٥، ب ٨٧، ص ٣٩٧، ح ٢٥.

٢. سورة القصص، الآية ٥٤.

٣. بحار الأنوار: ج ٧٥، ب ٨٧، ص ٣٩٨، ح ٢٩.

٤. بحار الأنوار: ج ٧٥، ب ٨٧، ص ٣٩٩، ح ٣٨.

٥. بحار الأنوار: ج ٧٥، ب ٨٧، ص ٣٩٩، ح ٣٩.

٦. سورة البقرة، الآية ٨٣.

٤٤

مؤمنهم ومخالفهم.

أمّا المؤمنون فيبسط لهم وجهه.

وأمّا المخالفون؛ فيكلّمهم بالمداراة لاجتذابهم إلى الإيمان فإن استتر من ذلك يكفّ شرورهم عن نفسه وعن إخوانه المؤمنين».

قال الإمام عليه السلام: «إنّ مداراة أعداء الله من أفضل صدقة المرء على نفسه وإخوانه، كان رسول الله صلى الله عليه وآله في منزله إذ استأذن عليه عبد الله بن أبي سلولٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله، بئس أخو العشيرة ائذنوا له..».

فأذنوا له فلمّا دخل أجلسه وبشر في وجهه.

فلمّا خرج قالت عائشة: يا رسول الله! قلت فيه ما قلت، وفعلت به من البشرٍ ما فعلت؟!

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله:

«يا عويش يا حميراء! إنّ شرّ النّاس عند الله يوم القيامة من يكرم اتّقاء شرّه.

وقال أمير المؤمنين عليه السلام:

«إنّا لنبشر في وجوه قومٍ وإنّ قلوبنا لتقليهم، أولئك أعداء الله نتّقيهم على إخواننا وعلى أنفسنا».

وقالت فاطمة عليها السلام:

«بشرٌ في وجه المؤمن يوجب لصاحبه الجنّة، وبشرٌ في وجه المعاند يقي صاحبه عذاب النار».

وقال الحسن بن عليّ عليه السلام:

قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «إنّ الأنبياء إنّما فضّلهم الله على خلقه بشدّة مداراتهم لأعداء دين الله، وحسن تقيّتهم لأجل إخوانهم في الله».

قال الزّهريّ: كان عليّ بن الحسين عليه السلام يقول:

٤٥

«ما عرفت له صديقاً في السّرّ ولا عدوّاً في العلانية؛ لأنّه لا أحد يعرفه بفضائله الباهرة إلّا ولا يجد بدّاً من تعظيمه من شدّة مداراة عليّ بن الحسين عليهما السلام وحسن معاشرته إيّاه، وأخذه من التّقيّة بأحسنها وأجملها، ولا أحد وإن كان بريه المؤدّة في الظّاهر إلّا وهو يحسده في الباطن لتضاعف فضائله على فضائل الخلق».

وقال محمّد بن عليّ عليهما السلام:

«من أطاب الكلام مع موافقيه ليؤنسهم وبسط وجهه لمخالفيه ليأمنهم على نفسه وإخوانه فقد حوى من الخيرات والدّرجات العالية عند الله ما يقادر قدره غيره».

قال بعض المخالفين بحضرة الصّادق عليه السلام لرجلٍ من الشّيعة: ما تقول في العشرة من الصّحابة؟

قال: أقول فيهم الخير الجميل الّذي يحطّ الله به سيّئاتي ويرفع لي درجاتي.

قال السّائل: الحمد لله على ما أنقذني من بعضك، كنت أظنّك رافضيّا تبغض الصّحابة.

فقال الرّجل: ألا من أبغض واحداً من الصّحابة فعليه لعنة الله.

قال: لعلّك تتأوّل ما تقول فيمن أبغض العشرة؟

فقال: من أبغض العشرة فعليه لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين.

فوثب فقبّل رأسه وقال: اجعلني في حلّ ممّا قذفتك به من الرّفض قبل اليوم.

قال: أنت في حلّ وأنت أخي.. ثمّ انصرف السّائل.

فقال له الصّادق عليه السلام: «جوّدت! لله درّك لقد أعجبت الملائكة من حسن توريتك، وتلفّظك بما خلّصك، ولم تثلم دينك، زادالله في مخالفينا غمّاً إلى غمٍّ وحجب عنهم مراد منتحلي مودّتنا في تقيّتهم».

فقال بعض أصحاب الصّادق عليه السلام: يا ابن رسول الله! ما عقلنا من كلام هذا إلّا موافقته لهذا المتعنّت النّاصب؟

فقال الصّادق عليه السلام: «لئن كنتم لم تفهموا ما عنى فقد فهمناه نحن وقد شكره الله له، إنّ

٤٦

وليّنا الموالي لأوليائنا المعادي لأعدائنا إذا ابتلاه الله بمن يمتحنه من مخالفيه وفّقه لجوابٍ يسلم معه دينه وعرضه، ويعظم الله بالتّقيّة ثوابه.

إنّ صاحبكم هذا قال: من عاب واحداً منهم فعليه لعنة الله، أي من غاب واحداً منهم هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام وقال في الثّانية: من عابهم وشتمهم فعليه لعنة الله، وقد صدق لأنّ من عابهم فقد عاب عليّاً عليه السلام لأنّه أحدهم، فإذا لم يعب عليّاً ولم يذمّه فلم يعبهم، وإنّما عاب بعضهم.

ولقد كان لحزقيل المؤمن مع قوم فرعون الّذين وشوا به إلى فرعون مثل هذه التّورية، كان حزقيل يدعوهم إلى توحيد الله ونبوّة موسى وتفضيل محمّدٍ صلى الله عليه وآله على جميع رسل الله وخلقه، وتفضيل عليّ بن أبي طالب عليه السلام والخيار من الأئمّة على سائر أوصياء النبيّين وإلى البراءة من ربوبيّة فرعون.

فوشى به واشون إلى فرعون، وقالوا: إنّ حزقيل يدعو إلى مخالفتك ويعين أعداءك على مضادّتك.

فقال لهم فرعون: ابن عمّي وخليفتي على ملكي وولي عهدي؟ إن فعل ما قلتم فقد استحقّ العذاب على كفره نعمتي، فإن كنتم عليه كاذبين فقد استحققتم أشدّ العقاب لإيثاركم الدّخول في مساءته.

فجاء بحزقيل وجاء بهم فكاشفوه وقالوا: أنت تجحد ربوبيّة فرعون عن الملك وتكفر نعماءه؟

فقال حزقيل: أيّها الملك هل جرّبت عليّ كذباً قطّ؟

قال: لا.

قال: فسلهم من ربّهم؟

فقالوا: فرعون.

قال: ومن خالقكم؟

٤٧

قالوا: فرعون هذا.

قال: ومن رازقكم، الكافل لمعايشكم، والدّافع عنكم مكارهكم؟

قالوا: فرعون هذا.

قال حزقيل: أيّها الملك فأشهدك وكلّ من حضرك أنّ ربّهم هو ربّي، وخالقهم هو خالقي، ورازقهم هو رازقي، ومصلح معايشهم هو مصلح معايشي، لا ربّ لي ولا خالق ولا رازق غير ربّهم وخالقهم ورازقهم، وأشهدك ومن حضرك أنّ كلّ ربٍّ وخالقٍ ورازقٍ سوى ربّهم وخالقهم ورازقهم فأنا بريٌ منه ومن ربوبيّته وكافرٌ بإلهيّته.

يقول حزقيل هذا وهو يعني أنّ ربّهم هو الله ربّي، ولم يقل إن الّي قالوا إنّ ربّهم هو ربّي، وخفي هذا المعنى على فرعون ومن حضره وتوهّموا أنّه يقول: فرعون ربّي وخالقي ورازقي.

فقال هلم فرعون: يا رجال الشّرّ ويا طلّاب الفساد في ملكي ومريدي الفتنة بيني وبين ابن عمّي وهو عضدي أنتم المستحقّون لعذابي لإرادتكم فساد أمري، وهلاك ابن عمّي والفتّ في عضدي.. ثمّ أمر بالأوتاد فجعل في ساق كلّ واحدٍ منهم وتدٌ وفي صدره وتدٌ، وأمر أصحاب أمشاط الحديد فشقّوا بها لحومهم من أبدانهم، فذلك ما قال الله تعالى ( فَوَقَاهُ اللَّهُ ) يعني حزقيل ( سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا ) (١) لمّا وشوا به إلى فرعون ليهلكوه وهم الّذين وشوا بحزقيل إليه لمّا أوتد فيهم الأوتاد ومشّط عن أبدانهم لحومها بالأمشاط.

قال رجلٌ من خواصّ الشّيعة لموسى بن جعفرٍ عليهما السلام وهو يرتعد بعد ما خلا به: يا ابن رسول الله! ما أخوفني أن يكون فلان ابن فلانٍ ينافقك في إظهاره واعتقاد وصيّتك وإمامتك.

__________________

١. سورة المؤمن، الآية ٤٥.

٤٨

فقال موسى عليه السلام: «وكيف ذاك؟».

قال: لأنّي حضرت معه اليوم في مجلس فلانٍ رجلٍ من كبار أهل بغداد فقال له صاحب المجلس، أنت تزعم أنّ مو سى بن جعفرٍ إمامٌ دون هذا الخليفة القاعد على سريره؟!

قال له صاحبك هذا، ما أقول هذا، بل أزعم أنّ موسى بن جعفرٍ غير إمام وإن لم أكن أعتقد أنّه غير إمامٍ فعليّ وعلى من لم يعتقد ذلك لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين.

قال له صاحب المجلس: جزاك الله خيراً ولعن من وشى بك.

فقال له موسى بن جعفرٍ عليهما السلام: «ليس كما ظننت، ولكنّ صاحبك أفقه منك إنّما قال موسى غير إمامٍ.. أي إنّ الّذي هو غير إمامٍ فموسى غيره فهو إذاً إمامٌ، فإنّما أثبت بقوله هذا إمامتي ونفى إمامة غيري.

يا عبد الله! متى يزول عنك هذا الّذي ظننته بأخيك هذا من النّفاق تب إلى الله».

ففهم الرّجل ما قاله واغتمّ: «وقال يا ابن رسول الله! ما لي مالٌ فأُرضيه به ولكن قد وهبت له شطر عملي كلّه من تعبّدي وصلاتي عليكم أهل البيت، ومن لعنتي لأعدائكم.

قال موسى عليه السلام: «الآن خرجت من النّار».

قال: وكنّا عند أبي الحسن الرّضا عليه السلام فدخل رجلٌ فقال له: يا ابن رسول الله! لقد رأيت اليوم شيئاً عجبت منه.

«قال وما هو؟».

قال رجلٌ كان معنا يظهر لنا أنّه من الموالين لآل محمّدٍ المتبرّين من أعدائهم، فرأيته اليوم وعليه ثيابٌ قد خلعت عليه وهو ذا يطاف به ببغداد وينادي المنادي بين يديه: معاشر النّاس! اسمعوا توبة هذا الرّافضيّ! ثمّ يقولون له قل: فيقول: خير النّاس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله أبا بكرٍ.

فإذا قال ذلك ضجّوا وقالوا: قد تاب وفضّل أبا بكرٍ على عليّ بن أبي طالبٍ عليه السلام.

٤٩

فقال الرّضا عليه السلام: «إذا خلوت فأعد عليّ هذا الحديث». فلمّا خلا أعاد عليه فقال له: «إنّما لم أفسّر لك معنى كلام الرّجل بحضرة هذا الخلق المنكوس كراهة أن ينقل إليهم فيعرفوه ويؤذوه، لم يقل الرّجل خير النّاس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله أبو بكرٍ فيكون قد فضّل أبا بكرٍ على عليّ بن أبي طالبٍ عليه السلام ولكن قال: خير النّاس بعد رسول الله أبا بكرٍ، فجعله نداءً لأبي بكرٍ ليرضى من يمشي بين يديه من بعض هؤلاء الجهلة ليتوارى من شرورهم.

إنّ الله تعالى جعل هذه التّورية ممّا رحم بها شيعتنا ومحبّينا.

وقال رجلٌ لمحمّد بن عليٍّ عليهما السلام: يا ابن رسول الله! ممرت اليوم بالكرخ فقالوا: هذا نديم محمّد بن عليٍّ إمام الرّفضة فاسألوه من خير النّاس بعد رسول الله، فإن قال: عليٌّ، فاقتلوه وإن قال: أبو بكرٍ، فدعوه، فانثال عليّ منهم خلقٌ عظيمٌ وقالوا لي: من خير النّاس بعد رسول الله؟

فقلت مجيباً: أخير النّاس بعد رسول الله أبو بكرٍ وعمر وعثمان، وسكتُّ ولم أذكر عليّاً.

فقال بعضهم: قد زاد علينا نحن نقول ها هنا: وعليٌّ.

فقلت: في هذا نظرٌ لا أقول هذا.

فقالوا بينهم: إنّ هذا أشدّ تعصّباً للسّنّة منّا قد غلظنا عليه، ونجوت بهذا منهم، فهل عليّ - يا ابن رسول الله - في هذا حرجٌ؟ وإنّما أردت أخير النّاس؛ أي أهو خيرٌ؟ استفهاماً لا إخباراً.

فقال محمّد بن عليّ عليهما السلام: «قد شكّر الله لك بجوابك هذا لهم وكتب لك أجره وأثبته لك في الكتاب الحكيم، وأوجب لك بكلّ حرفٍ من حروف ألفاظك بجوابك هذا لهم ما تعجز عنه أمانيّ المتمنّين، ولا يبلغه آمال الآملين».

قال: وجاء رجلٌ إلى عليّ بن محمّد عليهما السلام فقال: يا ابن رسول الله! بليت اليوم بقومٍ من عوامّ البلد أخذوني وقالوا: أنت لا تقول بإمامة أبي بكر بن أبي قحافة؟ فخفتهم - يا ابن

٥٠

رسول الله! وأردت أن أقول: بلى، أقولها للتّقيّة.

فقال لي بعضهم ووضع يده على فيّ وقال: أنت لا تتكلّم إلّا بمخرقةٍ أجب عمّا أُلقّنك.

قلت: قل.

فقال لي: أتقول إنّ أبا بكر بن أبي قحافة هو الإمام بعد رسول الله إمام حق عدل ولم يكن لعليّ في الإمامة حقٌّ البتّة؟

فقلت: نعم، وأُريد نعماً من الأنعام الإبل والبقر والغنم.

فقال: لا أقنع بهذا حتّى تحلف قل: والله الّذي لا إله إلّا هو الطّالب الغالب المدرك المهلك يعلم من السّرّ ما يعلم من العلانية.

فقلت: نعم، وأُريد نعماً من الأنعام.

فقال: لا أقنع منك إلّا بأن تقول أبو بكر بن أبي قحافة هو الإمام، والله الّذي لا إله إلّا هو.. وساق اليمين.

فقلت: أبو بكر بن أبي قحافة إمامٌ - أي هو إمام من ائتمّ به واتّخذه إماماً - والله الّذي لا إله إلّا هو.. ومضيت في صفات الله فقنعوا بهذا منّي وجزوني خيراً، ونجوت منهم.. فكيف حالي عند الله؟

قال: «خير حالٍ، قد أوجب الله لك مرافقتنا في أعلى علّيّين لحسن يقينك».

قال أبو يعقوب وعليّ: حضرنا عند الحسن بن عليّ - أبي القائم عليهم السلام - فقال له بعض أصحابه: جاءني رجلٌ من إخواننا الشّيعة قد امتحن بجهّال العامّة يمتحنونه في الإمامة، أثخنوني ضرباً، فإذا قلت: نعم.

قالوا لي: قل والله.

قلت فإذا قلت لهم نعم..

٥١

تريد به نعماً من الأنعام الإبل والبقر والغنم، وقلت: فإذا قالوا: قل والله! فقل: والله..

أي وليّي تريد في أمر كذا فإنّهم لا يميّزون وقد سلمت.

فقال لي: فإن حقّقوا عليّ وقالوا: قل والله وبيّن الهاء؟ فقلت: قل: والله برفع الهاء فإنّه لا يكون يميناً إذا لم تخفض فذهب.

ثمّ رجع إليّ فقال: عرضوا عليّ وحلّفوني فقلت كما لقّتني.

فقال له الحسن عليه السلام: أنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «الدّالّ على الخير كفاعله، لقد كتب الله لصاحبك بتقيّة بعدد كلّ من استعمل التّقيّة من شيعتنا وموالينا ومحبّينا حسنةً وبعدد كلّ من ترك التّقيّة منهم حسنةً أدناها حسنةً لو قوبل بها ذنوب مائة سنةٍ لغفرت، ولك بإرشادك إيّاه مثل ما له» (١) .

٣٤ - حديث الشيخ الصدوق عن الامام الصادق عليه السلام أنه قال: «ليس من شيعة عليّ من لا يتّقي» (٢) .

٣٥ - قال فتى للامام الرضا عليه السلام:

سل لي ربّك التّقيّة الحسنة، والمعرفة بحقوق الإخوان، والعمل بما أعرف من ذلك.

فقال الإمام الرضا عليه السلام: «قد أعطاك الله ذلك؛ لقد سألت أفضل شعار الصّالحين ودثارهم» (٣) .

٣٦ - حديث الامام العسكري عليه السلام، عن آبائه الطاهرين عليهم السلام، عن أمير المؤمنين عليه السلام انه قال لليوناني الذي أراه المعجزات الباهرات بعد ما أسلم في جملة ما قال: «وآمرك أن

__________________

١. بحار الأنوار: ج ٧٥، ب ٨٧، ص ٤٠١، نقلاً عن التفسير المنسوب للامام العسكري عليه السلام: ص ١٤٥.

٢. بحار الأنوار: ج ٧٥، ب ٨٧، ص ٤١٢، ح ٦١.

٣. بحار الأنوار: ج ٧٥، ب ٨٧، ص ٤١٦، ح ٦٨.

٥٢

تستعمل التقية في دينك...» (١) .

٣٧ - حديث عبد الحميد بن أبي الدّيلم، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: «إنّ قابيل أتى هبة الله عليه السلام فقال: إنّ أبي قد أعطاك العلم الذي كان عنده، وأنا كنت أكبر منك، وأحقّ به منك، ولكن قتلت ابنه فغضب عليّ، فآثرك بذلك العلم عليّ.

وإنّك والله إن ذكرت شيئاً ممّا عندك من العلم الّذي ورّثك أبوك لتتكبّر به عليّ ولتفتخر عليّ لأقتلنّك كما قتلت أخاك.. فاستخفي هبة الله بما عنده من العلم لتقتضي دولة قابيل.. ولذلك يسعنا في قومنا التّقيّة لأنّ لنا في ولد آدم أُسوةً» (٢) .

٣٨ - حديث أبي بصير عن الامام الصادق عليه السلام أنّه قال: «التّقيّة من دين الله».

قلت: من دين الله؟!

قال: «إي والله من دين الله. ولقد قال يوسف: أيّتها العير إنّكم لسارقون، والله ما كانوا سرقوا شيئاً. ولقد قال إبراهيم: إنّي سقيمٌ، والله ما كان سقيماً» (٣) .

٣٣٩ - حديث درست الواسطي، عن الامام الصادق عليه السلام انه قال: «ما بلغت تقيّة أحدٍ تقيّة أصحاب الكهف، إن كانوا ليشهدون الأعياد، ويشدّون الزّنانير (٤) فأعطاهم الله أجرهم مرّتين» (٥) .

٤٠ - حديث عبد الله بن سنان، عن الامام الصادق عليه السلام أنّه قال: «أمرني ربّي بمداراة النّاس كما أمرني بأداء الفرائض» (٦) .

__________________

١. بحار الأنوار: ج ٧٥، ب ٨٧، ص ٤١٨، ح ٧٣.

٢. بحار الأنوار: ج ٧٥، ب ٨٧، ص ٤١٩، ح ٧٤.

٣. بحار الأنوار: ج ٧٥، ب ٨٧، ص ٤٢٥، ح ٨٣.

٤. الزنانير: جمع زنّار وهو ما يشدّه النصارى على وسطهم.

٥. بحار الأنوار: ج ٧٥، ب ٨٧، ص ٤٢٩، ح ٨٨.

٦. بحار الأنوار: ج ٧٥، ب ٨٧، ص ٤٤٠، ح ١٠٧.

٥٣

وعلى الجملة؛ فإن ملاحظة تظافر الأدلّة الروائيّة من الفريقين على مشروعية التقيّة في البين، بل لزومها عند حفظ النفس المحترمة وأهميتها في الشريعة المكرمة، من حي تأثيرها في حفظ الدين، وبقاء المتدينين، واستمرار الشرع المبين، ولأجل هذه الأهميّة ورد حديث أبي عمرو الأعجمي انه قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: «يا أبا عمرو! إنّ تسعة أعشار الدّين في التّقيّة، ولا دين لمن لا تقيّة له» (١) .

قال العلّامة المجلسي في بيانه لهذا الحديث: كأنّ المعنى أن ثواب التقية في زماننا تسعة أضعاف سائر الأعمال (٢) .

وبتعبير آخر: إنّ ثواب الأعمال المتدينين يُضاعف بعشرة أضعاف العمل، فان من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، وثواب عمل التقية مضاعفٌ تسعة أعشار ذلك الثواب من جهة شدّة التقية وصعوبتها، ومضاضتها والصبر عليها، ومرارة تحملها.

وعليه؛ فليس المعنى أنّ التقيّة تسعة أعشار الدين حتى يستغرب من هذه ال نسبة ويقال بأنّه أين الصلاة والصوم والحج من الدين؟

بل المعنى أن ثواب عمل التقية تسعة أعشار ثواب الأعمال.

لذلك عبّر الامام عليه السلام بأن تسعة أعشار الدين في التقيّة ولم يقل: التقية تسعة أعشار الدين.

__________________

١. أُصول الكافي: ج ٢، ص ٢١٧، ح ٢.

٢. بحار الأنوار: ج ٧٥، ص ٤٢٣.

٥٤

التقية في سيرة الصحابة

بعد سبر أدلّة التقيّة الواضحة وسنة يلزمنا ملاحظة جملة كلمات أعلام العامّة ومنقولاتهم من أن التقيّة بصورة شاملة كانت موجودة في سيرة الصحابة وتصريحاتهم المفيدة لذلك، ومن جملتها:

ما جاء في صحيح البخاري: من قوله: (باب المداراة مع الناس..) ويُذكر عن أبي الدرداء: - إنّا لنكشر (١) في وجوه أقوام، وإنّ قلوبنا لتلعنهم..! (٢) .

ويستفاد خصوصاً بكلمة (إنّا) المفيدة للجمع، وكلمة (نكشر) بصيغة المضارع المفيدة للاستمرار: أنّ هذه التقية كانت لجميع الأصحاب ومستمرة فيهم، وأبو الدرداء ممّن يشار إليه بالبنان من بين الصحابة (٣) .

٢ - ما في صحيح البخاري أيضاً: بسنده عن أبي هريرة قال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وعاءين، فأمّا أحدهما فبثثته وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم (٤) .

وقال القسطلاني في شرح كلام أبي هريرة هذا ما نصّه: الوعاء الذي لم يبثثه: الأحاديث التي فيها أسامي أمراء السوء وأحوالهم، وزمنهم، ولم يصرّح بهم خوفاً على نفسه.

وهل هذا إلّا التقيّة من أبي هريرة الذي هو مقبول عند العامة (٥) .

٣ - ما في كنز العمال: عن بجالة، قال: قلت لعمران بن الحصين: حدّثني عن أبغض

__________________

١. الكشر: الابتسامة التي تظهر معها الأسنان.

٢. صحيح البخاري: ج ٧، كتاب الأدب، ص ١٣٣، ب ٨٢.

٣. لاحظ حاله في سير أعلام النبلاء: ج ٢، ص ٣٣٥ - ٣٥٣، برقم ٦٨، واسد الغابة: ج ٦، ص ٩٧، والاستيعاب: ج ٤، ص ١٦٤٦.. وغيرها، وهو: عويمر بن زيد بن قيس، ويقال: عويمر بن عامر.. وقيل غير ذلك.

٤. صحيح البخاري: ج ١، ص ٤٨، كتاب العلم، باب حفظ العلم، ح ١٢٠.

٥. إرشاد الساري: ج ١، ص ٢١٢.

٥٥

الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله.

قال: تكتم عليّ حتّى أموت؟!

قال: نعم.

قال: بنو أُميّة، وثقيف، وبنو حنيفة (١) .

٤ - ما في كنز العمال أيضاً: عن نافع أنّ رجلاً سأل ابن عمر عن متعة النساء؟ فقال: هي حرام.

فقال له: ابن عباس يفتى بها، فقال ابن عمر: أفلا تزمزم - أي حرّك شفتيه - بها في زمن عمر، لو أخذ فيها أحدٌ لرجمه (٢) .

٥ - ما رواه ابن أبي الحديد المعتزلي: الحديث الذي يفيد تقيّة ابن عبّاس وابن مسعود، بل تقيّة ومجاملة عمر لأبي بكر حيث أنّ بيعته كانت فلتة وقا الله المسلمين شرّها كما اعترف به، ومع ذلك كان يعاشره بالتعظيم والاطاعة والمجاملة.

قال ابن أبي الحديد في نص حديثه: وروى الهيثم بن عدي - أيضا - عن مجالد بن سعيد، قال: غدوت يوما إلى الشعبي وإنّما أريد أن أسأله عن شيء بلغني عن ابن مسعود أنّه كان يقول.. فأتيته في مسجد حيّه - وفي المسجد قوم ينتظرونه - فخرج، فتقرّبت إليه، وقلت: أصلحك الله كان ابن مسعود يقول: ما كنت محدّثاً قوما حديثا لا يبلغه عقولهم إلّا كان لبعضهم فتنة؟

قال: نعم، قد كان ابن مسعود يقول ذلك. وكان ابن عباس يقوله - أيضا - وكان عند ابن عباس دفائن علم يعطيها أهلها، ويصرفها عن غيرهم..

فبينا نحن كذلك إذ أقبل رجل من الأزد فجلس إلينا فأخذنا في ذكر أبي بكر وعمر،

__________________

١. كنز العمال: ج ١١، كتاب الفتى، ص ٢٧٤، ح ٣١٥٠٠.

٢. كنز العمال: ج ١٦، ص ٥٢١، كتاب المتقدم، ح ٤٥٧٢٣.

٥٦

فضحك الشعبي وقال: لقد كان في صدر عمر ضبّ - أي حقد - على أبي بكر. فقال الأزدي: والله ما رأينا ولا سمعنا برجل قطّ كان أسلس قيادا لرجل ولا أقول بالجميل فيه من عمر في أبي بكر.

فأقبل عليّ الشعبي فقال: هذا ممّا سألت عنه.

ثم أقبل على الرجل فقال: يا أخا الأزد! كيف تصنع بالفلتة التي وقى الله شرّها! أترى عدوّا يقول في عدوّ يريد أن يهدم ما بنى لنفسه في الناس أكثر من قول عمر في أبي بكر؟!

فقال الرجل: سبحان الله يا أبا عمرو! وأنت تقول ذلك.

فقال الشعبي: أنا أقوله، قاله عمر بن الخطاب على رءوس الأشهاد، فلمه أودع، فنهض الرجل مغضبا وهو يهمهم بشيء لم أفهمه (١) .

وهذه الكلمات تكشف بوضوح عن أنّ المداراة والمصانعة والتقية كانت سيرة الصحابة مع من ظاهره الاسلام وفي بلد المسلمين.

فهل بعد هذا تكون التقيّة محرماً، وبالرغم من وجودها في سيرة الصحابة المرضيّة عندهم وكالنجوم لديهم؟!

__________________

١. شرح النهج: ج ٢، ص ٢٩.

٥٧

التقيّة في أقوال وأفعال علماء المذاهب

علماء العامّة ومشايخهم قائلون بالتقيّة وعاملون بها، حتّى أصحاب المذاهب الأربعة الذين هم الأعلامهم في الأحكام، وقدوتهم في المرام، ومن ذلك ما نستعرضه خلال عرض مجمل عن حالات بعض رؤوسهم أو رؤساءهم:

تقيّة أبي حنيفة

قال الزمخشري: كان أبو حنيفة يُفتي سرّاً بوجوب نصرة زيد بن علي رضوان الله عليهما، وحمل المال إليه، والخروج معه على اللص المتغلب المسمّى بـ: الامام والخليفة الدوانيقي.. وأشباهه (١) .

قال الخطيب البغدادي: عن سفيان بن وكيع قال: جاء عمر بن حماد بن أبي حنيفة فجلس إلينا فقال: سمعت أبي - حماد - يقول: بعث ابن أبي ليلى إلى - والدي - أبي حنيفة فسأله عن القرآن؟

فقال: مخلوق.

فقال ابن أبي ليلى: تتوب، وإلّا أقدمت عليك.

قال: فتابعه، فقال: القرآن كلام الله.

قال: فدار به الخلق يخبرهم أنه قد تاب من قوله القرآن مخلوق.

__________________

١. تفسير الكشّاف: ج ١، ص ١٨٤.

٥٨

فقال أبي - حمّاد - فقلت لأبي حنيفة: كيف إلى هذا وتابعته؟

قال: يا بُنيّ! خفت أن يقدّم علييّ، فأعطيته التقيّة (١) .

وهذا تصريح من أبي حنيفة بعمله بالتقية.

تقيّة مالك بن أنس

إنّ مالك بن أنس كان يأتي المسجد، ويشهد الصلاة والجمعة والجنازة، ويعود المرضى، ويقضي الحقوق، ويجلس في المسجد، ثمّ ترك ذلك كلّه، وكان ربّما قيل له في ذلك؟

فيقول: ليس كلّ الناس يقدر أن يتكلّم بعذره (٢) .

وهذا يفيد كتمان عذره تقية.

وقال الذهبي: إنّ مالك بن أنس لم يكن يروي عن جعفر بن محمد حتّى ظهر أمر بني العبّاس (٣) .

وهذا يفيد انّه إمّا كان يتقى من بني أُميّة فيترك الحديث عن الامام الصادق عليه السلام، أو كان يتقى من بني العبّاس فيروي عن الامام الصادق عليه السلام لأنّه كبير بني هاشم الذين منهم بنو العباس.

تقيّة الشافعي

ذكر أبو نعيم: إنّ الشافعي كان من أصحاب عبد الله بن الحسن (٤) وقائلاً بامامته

__________________

١. تاريخ بغداد: ج ١٣، ص ٣٧٩.

٢. وفيات الأعيان: ج ٤، ص ١٣٦.

٣. ميزان الاعتدال: ج ١، ص ٤١٤.

٤. وهو عبد الله بن الحسن المحض الذي تلاحظ حاله في السفينة: ج ٦، ص ٥٤.

٥٩

ومنشداً الشعر في أهل البيت عليهم السلام، وأنّه أسر لذلك وقُدّم الى الرشيد.

فلمّا جاءه سلّم عليه بإمرة المؤمنين تقيةً، ودرأ عن نفسه القتل (١) .

تقيّة أحمد بن حنبل

كتب السيوطي يقول: في محنة الناس زمن المأمون العباسي بقدم القرآن الكريم، أخاف أحمد بن حنبل وآخرين من العلماء، فأجابوه إلى ذلك تقية قال:

كتب المأمون إليه - نائبه - أيضاً في أشخاص سبعة أنفس، وهم: محمد بن سعد كاتب الواقدي، ويحيى بن معين، وأبو خيثمة، وأبو مسلم مستحلى يزيد بن هارون، واسماعيل ابن داود، واسماعيل بن أبي مسعود، وأحمد بن إبراهيم الدورقي، فأشخصوا إليه، فامتحنهم بخلق القرآن فأجابوه، فردّهم من الرقة إلى بغداد.

وسبب طلبهم أنّهم توقفوا أوّلاً، ثمّ أجابوه تقية...

ثمّ قال لأحمد بن حنبل: ما تقول؟

قال: كلام الله.

قال: أمخلوق هو؟

قال: هو كلام الله لا أزيد على هذا (٢) .

__________________

ومن شعر الشافعي في أهل البيت عليهم السلام:

يا راكباً قف بالمحصّب من منى

واهتف بساكن خيفها والناهض

إن كان رفضاً حبُّ آل محمّد

فليشهد الثقلان أني رافضي (أ)

(أ) - بحار الأنوار: ج ٢٣، ص ٢٣٤، الباب ١٣ والصراط المستقيم: ج ١، ص ١٩٠، الفصل الحادي عشر.

١. حلية الأولياء: ج ٩، ص ٨٤.

٢. تاريخ الخلفاء: ص ٣٠٩، الطبعة الثالثة.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86