• البداية
  • السابق
  • 86 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 23574 / تحميل: 6014
الحجم الحجم الحجم
أضواء علي التقيّة

أضواء علي التقيّة

مؤلف:
الناشر: دليل ما
العربية

هذا ما عليه أعلام المذاهب في التقيّة عملاً. وذهب إليه علماؤهم الآخرون أيضاً في كلماتهم.

حكى السيوطي عن الحسن أنّه قال: التقيّة جائزة إلى يوم القيامة (1) .

وقال القسطلاني: انها - أي التقيّة - ثابتة إلى يوم القيامة (2) .

وقال الفخر الرازي عند قوله تعالى في سورة المائدة ( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ ) إنّ الآية دلّت على أنّ التقيّة جائزة عند الخوف (3) .

وقال أبو الهذيل العلّاف: إن المكره إذا لم يعرف التعريض والتورية فيما أكره عليه فله أن يكذب ويكون وزر الكذب موضوعاً عنه (4) .

وقال الغزالي: إنّ عصمة دم المسلم واجبة، فمهما كان القصد سفك دم مسلم فالكذب فيه واجب (5) .

وقد عرفت فيما تقدّم أنّ تقيّة ومداراة أئمّة المذاهب الأربعة كانت من المسلمين لا المشركين.

كما وإن كلماتهم الأخيرة في جواز التقيّة مطلقة غير مقيّدة بالمشرك أو ببلد الشرك.

وكيف يممكن تقييد ببلد الشرك، ولا يبقى الشرك إلى يوم القيامة، بل سيظهر الدين الحق على جميع الأديان قبل يوم القيامة بصريح قوله عزّ اسمه:

( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (6) .

__________________

1. الدرّ المنثور: ج 2، ص 16.

2. إرشاد الساري: ج 8، ص 14.

3. التفسير الكبير: ج 11، ص 137.

4. الانتصار للخياط: ج 8، ص 128.

5. احياء العلوم: ج 3، ص 119.

6. سورة التوبة (9)، الآية 33.

٦١

التقية في حكم العقل والفطرة

من ضرورة العقول وبديهيّاتها الحكم بحفظ النفس عن المهالك، والتحذّر عن المخاطر.

ولا شك بحكم العقل بحسنه بل لزومه كرامةً للانسان، وتكريماً لنبي آدم، واحتراماً لذي النفس المحترمة.

بل إن فطرة الإنسان، وغريزة طبيعته مجبولة على حفظ النفس والدفاع عنها، وصيانتها عمّا يضرّها ويُهلكها.

وهذا ما يدركه جميع الناس بجميع فئاتهم وطبقاتهم، وبجميع أديانهم ومذاهبهم.

ولذلك قال النووي: لا مبالات باثبات التقية وجوازها وإنّما تكره عامّة الناس لفظها لكونها من معتقدات الشيعة وإلّا فالعالم مجبول على استعمالها، وبعضهم يسمّيها (مداراة) وبعضهم يسمّيها (مصانعة) وبعضهم يسمّيها (عقلاً معاشيّاً)، ودلّ عليها الشرع (1) .

نعم قد يهون بذل النفس، بل يحسّن العقل الفداء والتضحية إذا كان بذل النفس في سبيل الشرف، وصيانة الحق، وحفظ الدين، واستقامة الاسلام، واستئصال الجور والباطل، كما يدركه العقل ويلمسه جميع ذوي العقول في تضحية شهداء كربلاء وسيّدهم الامام الحسين عليه السلام الذي ضحّى بنفسه ليستنقذ عباد الله من الجهالة وحيرة الضلالة، وليُحيي كتاب الله ودين رسول الله صلى الله عليه وآله، وليأمر بالمعروف وينهي عن المنكر،

__________________

1. شرح الأربعين النووية: ص 36.

٦٢

ويقيم العدل ويمحو الظلم في العباد والبلاد.

وكذلك شهداء مرج عذراء حجر بن عدي الكندي وأصحابه الذين فتك بهم معاوية عداء للدين، وكذلك ميثم التمّار ونظائره الذي شنقهم ابن زياد حقداً على الحق، فانهم حفظوا بشهادتهم الدين، وأقاموا بتفدياتهم الحق وعلّموا الانسان الصمود في احقاق الحق وابطال الباطل، ولم يكن هناك سبيل إلى التقية، وقد مرّ ذكرهم.

والحاصل أنّ العقل يحكم بداهةً بلزوم حفظ النفس بالتقيّة إذا كانت تذهب هدراً عند ترك التقيّة.

فالتقيّة إذاً ممّا قامت عليها الأدلّة القطعيّة، وساندها الدليل الشرعي والبرهان العقلي واستقلّها الفطرة السلمية، والجبلّة الانسانيّة.

كلمةٌ لابدّ منها:

بعد التعرّف على الدراسة المتقدّمة نعرف أنّ علماء الشيعة الأبرار لاحظوا في التقيّة خصوصيّات الموارد، واختلاف المقامات، فأعطوا كلّ مقام حقّه، وحكموا في كلّ موردٍ بما يناسبه من الحكم الشرعي الاتقائي أو الجهادي.

وعلى هذا الصعيد الحكيم لم يقولوا بالتقيّة في كلّ مقام، بل عملوا بالتقيّة في الموارد التي تستوجبها كما لو لزم منها حفظ، كمورد حفظ النفس عن التلف، وحفظ العرض عمّا ينافي الشرك.. ونحو ذلك.

لذلك فاخبار الصلاة معهم واردة مورد وجود الضرر والخوف بتركها.

كما يظهر ذلك في حديثها المشتمل على حصول المذلة في حال ترك مخالطتهم والصلاة معهم، ففي حديث عبد الله بن سنان عن الامام الصادق عليه السلام انه قال: اوصيكم بتقوى الله ولا تحملوا الناس على أكتافهم فتذلّوا، إنّ الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: ( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ) .

٦٣

ثمّ قال: عودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، واشهدوا لهم وعليهم، وصلّوا معهم في مساجدهم.

ثمّ قال: أيّ شيء أشدّ على قوم يزعمون أنّهم يأتمّون بقوم، فيأمرونهم وينهونهم فلا يقبلون منهم، ويذيعون حديثهم عند عدوّهم، فيأتي عدوّهم إلينا فيقولون لنا: انّ قوماً يقولون ويروون عنكم كذا وكذا، فنحن نقول: إنّا بُراء ممّن يقول هذا، فيقع عليهم البراءة (1) .

وهذا الحديث ظاهر في حصول المذلّة والضرر في ترك المخالطة والصلاة، وهو موضوع التقيّة.

فاذا لم يكن هذا المحذور فلا مجال للتقيّة بحال.

بل وقع النهي عن الصلاة خلفهم كما في حديث اسماعيل الجعفي قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: رجل يحبّ أمير المؤمنين، ولا يتبرّأ من عدوّه، ويقول هو أحبّ إليّ ممّن خالفه؟

قال عليه السلام: هذا مخلّط، وهو عدو، فلا تصلّ وراءه، ولا كرامة إلّا أن تتّقيه (2) .

وعلى الجملة؛ فالتقيّة تدور مدار موضوعها يعني الخوف والضرر وجوداً وعدماً، كما عليه الدليل الشرعي من أئمّتنا المعصومين، سلام الله عليهم أجمعين، وما أفتى به من فقهائنا المعظّمين.

فأجازوا التقيّة عند تحقّق موضوعها ورخّصوا في المداراة مع وجود مجراها، استناداً إلى الأدلّة الشرعيّة من الكتاب والسنّة، واحتجاجاً بما صحّ من البراهين والأدلّة.

لذلك ترى أعلام الشيعة لم يُطلقوا القول بوجوب التقيّة، بل فصّلوا في حكمها بحسب

__________________

1. المحاسن: ج 1، ص 18.

2. التهذيب: ج 3، ص 38.

٦٤

موارها ومجاريها..

ومن ذلك ما قاله شيخ الشيعة المفيد قدس سره: إن التقية جائزة في الدين عند الخوف على النفس، وقد تجوز في حال دون حال للخوف على المال ولضروب من الاستصلاح.

وأقول إنها قد تجب أحياناً وتكون فرضا، وتجوز أحيانا من غير وجوب، وتكون في وقت أفضل من تركها، ويكون تركها أفضل وإن كان فاعلها معذورا ومعفوا عنه متفضلا عليه بترك اللوم عليها.

وأقول، إنها جائزة في الأقوال كلها عند الضرورة، وربما وجبت فيها لضرب من اللطف والاستصلاح، وليس يجوز من الأفعال في قتل المؤمنين ولا فيما يعلم أو يغلب أنه استفساد في الدين (1) .

وقال الشيخ المظفّر قدس سره: وللتقيّة أحكام من حيث وجوبها وعدم وجوبها، بحسب اختلاف مواقع خوف الضرر، مذكورة في أبوابها في كتب العلماء الفقهيّة.

ثمّ قال: وليست هي بواجبة على كلّ حال، بل قد يجوز أو يجب خلافها في بعض الأحوال، كما إذا كان في إظهار الحق والتظاهر به نصرة للدين وخدمة للاسلام، وجهاد في سبيله؛ فانه عند ذلك يُستهان باأموال ولا تعزّ النفوس.

وقد تحرم التقيّة في الأعمال التي تستوجب قتل النفوس المحترمة، أو رواجاً للباطل، أو فساداً في الدين، أو ضرراً بالغاً على المسلمين باضلالهم أو إفشاء الظلم فيهم (2) .

وقال السيّد هبة الدين الشهرستاني: المراد من التقيّة اخفاء أمر ديني لخوف الضرر من إظهاره، والتقيّة بهذا المعنى شعار كلّ ضعيف مسلوب الحريّة.

__________________

1. أوائل المقالات: ص 118.

2. عقائد الاماميّة: ص 87.

٦٥

إلّا أنّ الشيعة قد اشتهرت بالتقيّة أكثر من غيرها لأنّها منيت باستمرار الضغط عليها أكثر من أيّ أُمّة أُخرى، فكانت مسلوبة الحريّة في عهد الدولة الأمويّة كلّه، وفي عهد العباسيّين على طوله، وفي أكثر أيّام الدولة العثمانيّة، ولأجله استشعروا بشعار التقيّة أكثر من أيّ قوم.

ولمّا كانت الشيعة تختلف عن الطوائف المخالفة لها في قسم مهم من الاعتقادات في أُصول الدين، وفي كثير من العمليّات الفقهيّة وتستجلب المخالفة (بالطبع) رقابة وحزازة في النفوس، وقد يجر إلى اضطهاد أقوى الحزبين لاضعفه، أو اخراج الأعزّ منهما الأذلّ، كما يتلوه علينا التاريخ وتصدقه التجارب، لذلك أضحت شيعة الأئمّة من آل البيت [عليهم السلام] تضطرّ في أكثر الأحيان إلى كتمان ما تختصّ به نم عادة، أو عقيدة، أو فتوى، أو كتاب.. أو غير ذلك.

تبتغي بهذا الكتمان صيانة النفس والنفيس والمحافظة على الوداد والاخوة مع سائر اخوانهم المسلمين لئلّا تنشقّ عصا الطاعة ولكيلا يحسّ الكفّار بوجود اختلاف ما في الجامعة الاسلاميّة فيوسّعوا الخلاف بين الأمة المحمّديّة.

لهذه الغايات النزيهة كانت الشيعة تستعمل التقيّة، وتحافظ على وفاتها في الظواهر مع الطوائف الاخرى، متّبعة في ذلك سيرة الأئمّة من آل محمّد عليهم السلام وأحكامهم الصارمة (1) .

بل الدليل الشرعي المبيح للتقيّة بنفسه جعل للتقيّة مواضع لا تستقيم في غيرها كما تلاحظه في مثل:

1 - حديث مسعدة بنب صدقة عن الامام الصادق عليه السلام انه قال: «للتقيّة مواضع، من أزالها عن مواضعها لم تستقم له».

وتفسير ما يُتّقى؛ مثل أن يكون قوم سوءٍ ظاهر حكمهم وفعلهم على غير حكم الحق

__________________

1. مجلة المرشد: ج 3، ص 254.

٦٦

وفعله فكلّ شيء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقيّة ممّا لا يؤدّي إلى الفساد في الدين فانه جائز (1) .

2 - حديث الطبرسي عن الامام العسكري عليه السلام: أنّ الامام الرضا عليه السلام جفا جماعة من الشيعة وحجبهم، فقالوا: يابن رسول الله! ما هذا الجفاء العظيم والاستخفاف بعد الحجاب الصعب؟

قال لدعواكم أنكم شيعة أمير المؤمنين عليه السلام وأنتم في أكثر أعمالكم مخالفون ومقصرون في كثير من الفرائض، وتتهاونون بعظيم حقوق إخوانكم في الله، وتتقون حيث لا تجب التقية، وتتركون التقية حيث لابدّ من التقيّة (2) ممّا يظهر أنّه تحرم التقيّة في موارد يلزم منها مهانة الدين وشريعة سيّد المرسلين ويكون إعلاء الدين في ترك التقية الى حدّ يستلزم تعريض النفس للفداء.

كما تلاحظها عملاً وقولاً في ما يلي من سادات الدين سلام الله عليهم أجمعين في واقعة الطف التي ميّزت الحق عن الباطل، ورسمت درساً تربويّاً لمحو الظلم والطغيان والفساد والعصيان في مدرسة عاشوراء الخالدة على مرّ الزمان وتطاول الأيّام. وإن كان لا يُقاس بعاشوراء الحسين عليه السلام شيءٌ أبداً.

آثر فيها سيّد الشهداء عليه السلام أن يضحى بنفسه الغالية وبأهل بيته الكرام وأصحابه الأوفياء، فترك التقيّة وآثر القتل والشهادة على أن يبايع أبناء البغايا والطلقاء، فاختار السموّ ونادى بـ: «هيهات منّا الذلّة»، فأبقى بجهاده الدين، وأقام شريعة جدّه سيّد المرسلين سلام الله عليهم أجمعين.

كما قد ترك التقيّة لكشف الحقيقة سيّد الشيعة الطيّبين وأمير المؤمنين علي بن أبي

__________________

1. وسائل الشيعة: ج 11، ص 469، ب 25، ح 6.

2. الوسائل: ج 11، ص 470، ب 25، ح 9.

٦٧

طالب عليه السلام بعد بيانه غضب الأعداء لمقامه، وظلم الأعداء لحقّه بصراحة بيّنة ووضوح تام، أمام الجماعة الظالمة بلا تقيّة ولا مداراة.

وقد نقل تصريحاته التابعي الجليل سليم بن قيس الهلالي في كتابه الشريف وإليك النصّ الكامل المفصّل الذي ينبغي ملاحظته من كلامه:

قال سليم بن قيسٍ: فلم يبق يومئذٍ من شيعة عليّ عليه السلام أحدٌ إلّا تهلّل وجهه وفرح بمقالته، إذ شرح أمير المؤمنين عليه السّلام الأمر وباح به، وكشف الغطاء، وترك التّقيّة، ولم يبق أحدٌ من القرّاء ممّن كان يشكُّ في الماضين وكيفُّ عنهم ويدع البراءة منهم ورعاً وتأثُّماً إلّا استيقن واستبصر وحسن وترك الشّكّ والوقوف،.

ولم يبق أحدٌ حوله أتى بيعته على وجه ما بويع عثمان والماضون قبله إلّا رئي ذلك في وجهه، وضاق به أمره، وكره مقالته، ثمّ إنّهم استبصر عامّتهم وذهب شكّهم.

قال أبانٌ، عن سليم: فما شهدت يوماً قطُّ على رءوس العامّة أقرّ لأعيننا من ذلك اليوم لمّا كشف للنّاس من الغطاء، وأظهر فيه من الحقّ، وشرح فيه من الأمر، وألقى فيه التّقيّة والكتمان، وكثرت الشّيعة بعد ذلك المجلس مذ ذلك اليوم، وتكلّموا...

وقد كانوا أقلّ أهل عسكره، وصار النّاس يقاتاتلون معه على علمٍ بمكانه من الله ورسوله، وصارت الشّيعة بعد ذلك المجلس أجلّ النّاس وأعظمهم (1) .

وهذا أصح تبيان، وأملح بيان، بأنّ الشيعة تبعاً لسادتهم وأئمّتهم عليهم السلام لا تعمل بالتقيّة في كلّ مقام، بل ان لتقيتهم مواردها المعلومة ومقاماتها الحكيمة.

وأمّا اذا توقّف احقاق الحلق وابطال الباطل على عدم التقيّة وكشف الحق والحقيقة فانك لا ترى من عملهم ولا من كلامهم أثراً من التقيّة، ولا وميضاً من مداراة..

__________________

1. كتاب سلين بن قيس الهلالي: ج 2، ص 670.

٦٨

كلمةٌ لابدّ منها

كما تلاحظ ذلك في الاحتجاج الصارخ الذي احتجّ به سيّدنا الامام الحسن المجتبى عليه السلام، وصكّ به مسامع الطواغيت معاوية وأذنابه الذي التفّوا حوله، حتّى أخزاهم وسوّد الفضاء عليهم بلا خوف ولا تقيّة، وبكلّ قدرة وقوّة وذلك حين اجتمع عند معاوية عمرو بن عثمان بن عفّان، وعمرو بن العاص، وعتبة بن أبي سفيان، والوليد بن عقبة بن أبي المعيط، والمغيرة بن شعبة.

وقد اجتمعوا على باطل واحد، ووقعوا بالسب في مولى الموحدين وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فتكلّم سيّدنا الامام الحسن عليه السلام بكلّ صراحة، وبمنتهى الشجاعة وبدون أدنى تقية، فقال ما نصّه:

«الحمد لله الّذي هدى أوّلكم بأوّلنا وآخركمم بآخرنا وصلّى الله على سيّدنا محمّدٍ النّبيّ وآله وسلّم».

ثمّ قال: «اسمعوا منّي مقالتي وأعيروني فهمكم.

وبك أبدأُ يا معاوية، ثمّ قال لمعاوية: إنّه لعمر الله - يا أزرق -! ما شتمني غيرك وما هؤلاء شتموني، ولا سبّني غيرك وما هؤلاء سبّوني ولكن شتمتني، وسببتني فحشاً منك وسوء رأيٍ وبغياً وعدواناً وحسداً علينا وعداوةً لمحمّدٍ صلى الله عليه وآله قديماً وحديثاً.

وإنّه والله لو كنت أنا وهؤلاء - يا أزرق - مشاورين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وحولنا المهاجرون والأنصار ما قدروا أن يتكلّموا بمثل ما تكلّموا به ولا استقبلوني بما استقبلوني به.

فاسمعوا منّي أيّها الملأُ المخيّمون المعاونون عليّ، ولا تكتموا حقّاً علمتموه، ولا

٦٩

تصدّقوا بباطلٍ نطقت به، وسأبدأ بك - يا معاوية! - فلا أقول فيك إلّا دون ما فيك.

أنشدكم بالله! هل تعلمون أنّ الرّجل الّي شتمتموه صلّى القبلتين كلتيهما وأنت تراهما جميعاً ضلالةً تبعد اللّات والعزّى، وبايع البيعتين كلتيهما بيعة الرّضوان وبيعة الفتح؟! وأنت - يا معاوية - بالأُولى كافرٌ وبالأُخرى ناكثٌ».

ثمّ قال: «أنشدكم بالله! هل تعلمون أنّما أقول حقّاً إنّه لقيكم مع رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدرٍ ومعه راية النّبيّ صلى الله عليه وآله ومعك - يا معاوية! - راية المشركين تعبد اللّات والعزّى وترى حرب رسول الله صلى الله عليه وآله والمؤمنين فرضاً واجباً، ولقيكم يوم أحدٍ ومعه راية النّبيّ صلى الله عليه وآله ومعك - يا معاوية! - راية المشركين، ولقيكم يوم الأحزاب ومعه راية النّبيّ صلى الله عليه وآله ومعك - يا معاوية! - راية المشركين، وكلّ ذلك يفلج الله حجّته، ويحقّ دعوته، ويصدّق أحدوثته، وينصر رايته، وكلّ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله يرى عنه راضياً في المواطن كلّها ساخطاً عليك.

ثمّ أنشدكم بالله ّ يرى هل تعلمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله حاصر بني قريظة وبني النّضير، ثمّ بعث عمر بن الخطّاب ومعه راية المهاجرين وسعد بن معاذٍ ومعه راية الأنصار.

فأمّا سعد بن معاذٍ؛ فجرح وحمل جريحاً، وأمّا عمر، فرجع وهو يجبّن أصحابه ويجبّنه أصحابه.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لأعطينّ الرّاية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله، كرّار غير فرّار، ثمّ لا يرجع حتّى يفتح الله عليه..

فتعرّض ها أبو بكرٍ وعمر وغيرهما من المهاجرين والأنصار - وعليٌّ يومئذٍ أرمد شديد الرّمد - فدعاه رسول الله صلى الله عليه وآله فتفل في عينيه فبرأ من الرّمد، فأعطاه الرّاية فمضى ولم يثن حتّى فتح الله عليه بمنّه وطوله وانت يومئذٍ بمكّة عدوٌّ لله ولرسوله فهل يستوى بين رجلٍ نصح لله ولرسوله، ورجلٍ عادى الله ورسوله؟!

ثمّ أقسم بالله ما أسلم قلبك بعد، ولكنّ اللّسان خائفٌ فهو يتكلّم بما ليس في القلب.

٧٠

ثمّ أنشدكم بالله! أتعلمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله استخلفه على المدينة في غزوة تبوك ولا سخطه ذلك ولا كرهه.

وتكلّم فيه المنافقون، فقال: لا تخلفني يا رسول الله فإنّي لم أتخلّف عنك في غزوةٍ قطّ.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أنت وصيّي وخليفتي في أهلي بمنزلة هارون من موسى.. ثمّ أخذ بيد عليٍّ عليه السلام ثمّ قال: أيّها النّاس! من تولّاني فقد تولّى الله، ومن تولّى عليّاً فقد تولّاني، ومن أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع عليّاً فقد أطاعني، ومن أحبّني فقد أحبّ الله، ومن أحبّ عليّاً فقد أحبّني».

ثمّ قال: «أنشدكم بالله! أتعلمون أنّ رسول الله قال في حجّة الوداع: أيّها النّاس! إنّي قد تركت فيكم ما لم تضلّوا بعده: كتاب الله فأحلّوا حلاله، وحرّموا حرامه، واعملوا بحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وقولوا آمنّا بما أنزل الله من الكتاب، وأحبّوا أهل بيتي وعترتي، ووالوا من والاهم وانصروهم على من عاداهم وإنّهما لم يزالا فيكم حتّى يردا عليّ الحوض يوم القيامة.

ثمّ دعا - وهو على المنبر - عليّاً فاجتذبه بيده، فقال: اللّهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه، اللّهمّ من عادى عليّاً فلا تجعل له في الأرض مقعداً، ولا في السّماء مصعداً، واجعله في أسفل دركٍ من النّار؟

أنشدكم بالله! أتعلمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال له: أنت الذّائد عن حوضي يوم القيامة تذود عنه كما يذود أحدكم الغريبة من وسط إبله؟

أنشدكم بالله! أتعلمون أنّه دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله في مرضى الّذي توفّى فيه فبكى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال عليٌّ: ما يبكيك يا رسول الله؟ فقال: يبكيني أنّي أعلم أنّ لك في قلوب رجالٍ من أٌمّتي ضغائن لا يبدونها حتّى أتولّى عنك.

أنشدكم بالله! أتعلمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله حين حضرته الوفاة واجتمع أهل بيته قال:

٧١

اللّهمّ هؤلاء أهلي وعترتي اللّهمّ وال من والاهم وانصرهم على من عاداهم.

وقال: إنّما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوحٍ من دخل فيها نجا ومن تخلّف عنها غرق؟

أنشدكم بالله! أتعلمون أنّ أصحاب رسول الله قد سلّموا عليه بالولاية في عهد رسول الله وحياته؟ أنشدكم بالله! أتعلمون أنّ عليّاً أوّل من حرّم الشّهوات كلّها على نفسه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فأنزل الله عزّوجلّ: ( أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ ) (1) .

وكان عنده علم المنايا، وعلم القضايا، وفصل الخطاب، ورسوخ العلم، ومنزّل القرآن.

وكان في رهطٍ لا نعلمهم يتمّون عشرةً نبّأهم الله أنّهم به مؤمنون، وأنتم في رهطٍ قريبٍ من عدّة أُولئك لعنوا على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله فأشهد لكم وأشهد عليكم أنّكم لعناء الله على لسان نبيّه صلى الله عليه وآله كلّكم أهل البيت.

وأنشدكم بالله! هل تعلمون أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله بعث إليك لتكتب لبني خزيمة حين أصابهم خالد بن الوليد فانصرف إليك الرّسول فقال: هو يأكل، فأعاد الرّسول إليك ثلاث مرّاتٍ كلّ ذلك ينصرف الرّسول ويقول: هو يأكل، فقال رسول الله: اللّهمّ لا تشبع بطنه، فهي والله في نهمتك، وأكلك إلى يوم القيامة.

ثمّ قال: أنشدكم بالله! هل تعلمون أنّما أقول حقّاً؟! إنّك - يا معاوية! - كنت تسوق بأبيك على جملٍ أحمر ويقوده أخوك هذا القاعد - وهذا يوم الأحزاب - فلعن رسول الله صلى الله عليه وآله الرّاكب والقائد والسّائق، فكان أبوك الرّاكب، وأنت - يا أزرق! - السّائق وأخوك

__________________

1. سورة المائدة: الآيتان 87 - 88.

٧٢

هذا القاعد القائد؟

أنشدكم بالله! هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله لعن أبا سفيان في سبعة مواطن:

أوّلهنّ: حين خرج من مكّة إلى المدينة وأبو سفيان جاء من الشّام، فوقع فيه أبو سفيان فسبّه وأوعده، وهمّ أن يبطش به، ثمّ صرفه الله عزّوجلّ عنه.

والثّاني: يوم العير؛ حيث طردها أبو سفيان ليحرزها من رسول الله.

والثّالث: يوم أحدٍ: يوم قال رسول الله: الله مولانا ولا مولى لكم.. وقال أبو سفيان: لنا العزّى ولا عزّى لكم، فلعنه الله وملائكته ورسوله والمؤمنون أجمعون.

والرّابع: يوم حنينٍ؛ يوم جاء أبو سفيان بجمع قريشٍ وهوازن، وجاء عيينة بغطفان واليهود، فردّهم الله عزّوجلّ بغيظهم لم ينالوا خيراً.

هذا: قول الله عزّوجلّ له في سورتين في كلتيهما يسمّي أبا سفيان وأصحابه كفّاراً.

وأنت يا معاوية يومئذٍ مشرك على رأي أبيك بمكّة وعليٌّ يومئذٍ مع رسول الله صلى الله عليه وآله وعلى رأيه ودينه.

والخامس: قول الله عزّوجلّ: ( وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ) (1) .

وصددت أنت وأبوك ومشركو قريشٍ رسول الله صلى الله عليه وآله، فلعنه الله لعنةً شملته ذرّيّته إلى يوم القيامة.

والسّادس: يوم الأحزاب؛ يوم جاء أبو سفيان بجمع قريشٍ وجاء عيينة بن حصن بن بدرٍ بغطفان، فلعن رسول الله صلى الله عليه وآله القادة والأتباع والسّاقة إلى يوم القيامة.

فقيل: يا رسول الله أما في الأتباع مؤمنٌ؟

فقال: لا تصيب اللّعنة مؤمناً من الأتباع، وأمّا القادة فليس فيهم مؤمنٌ ولا مجيبٌ ولا ناجٍ.

__________________

1. سورة الفتح: الآية 25.

٧٣

والسّابع: يوم التّنيّة؛ يوم شدّ على رسول الله اثنا عشر رجلاً؛ سبعةٌ منهم من بي أميّة، وخمسةٌ من سائر قريشٍ، فلعن الله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وآله من حلّ الثّنيّة غير النّبيّ وسائقه وقائده.

ثمّ أنشدكم بالله! هل تعلمون أنّ أبا سفيان دخل على عثمان حين بويع في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا ابن أخبي! هل علينا من عينٍ؟

فقال: لا.

فقال أبو سفيان: تداولوا الخلافة فتيان بني أميّة، فو الّذي نفس أبي سفيان بيده ما من جنّة ولا نارٍ!!

وأنشدكم بالله! أتعلمون أنّ أبا سفيان أخذ بيد الحسين حين بويع عثمان وقال: يا ابن أخي! اخرج معي إلى بقيعٍ الغرقد، فخرج حتّى إذا توسّط القبور اجترّه فصاح بأعلى صوته:

يا أهل القبور! الّي كنتم تقاتلونا عليه صار بأيدينا وأنتم رميمٌ».

فقال الحسين بن عليّ عليهما السلام: «قبّح الله شيبتك وقبّح وجهك» ثمّ نتر يده وتركه، فلو لا النّعمان بن بشيرٍ أخذ بيده وردّه إلى المدينة لهلك.

فهذا لك - يا معاوية! - فهل تستطيع أن تردّ علينا شيئاً؟

ومن لعنتك - يا معاوية! - أنّ أباك أبا سفيان كان يهمّ أن يسلم فبعث إليه بشعرٍ معروفٍ مرويٍّ في قريشٍ عندهم تنهاه عن الإسلام وتصدّه.

ومنها أنّ عمر بن الخطّاب ولّاك الشّام فخنت به، وولّاك عثمان فتربّصت به ريب المنون، ثمّ أعظم من ذلك أنّك قاتلت عليّاً صلوات الله عليه وآله وقد عرفت سوابقه وفضله وعلمه على أمرٍ هو أولى به منك ومن غيرك عند الله وعند النّاس ولا دنيّة، بل أوطأت النّاس عشوةً، وأرقت دماء خلقٍ من خلق الله بخدعك وكيدك وتمويهك فعل من لا يؤمن بالمعاد ولا يخشى العقاب، فلمّا بلغ الكتاب أجله صرت إلى شرّ مثوىً، وعليٌّ

٧٤

إلى خير منقلبٍ، والله لك بالمرصاد.

فهذا لك - يا معاوية! - خاصّةً وما أمسكت عنه من مساويك وعيوبك فقد كرهت به التّطويل.

وأمّا أنت يا عمرو بن عثمان! فلم تكن حقيقاً لحمقك أن تتبّع هذه الأُمور، فإنّما مثلك مثل البعوضة إذ قالت للنّخلة: استمسكي فإنّي أُريد أن أنزل عنك.

فقالت لها النّخلة: ما شعرت بوقوعك فكيف يشقُّ عليّ نزولك.

وإنّي - والله - ما شعرت أنّك تحسن أن تعادي لي فيشقّ عليّ ذلك.

وإنّي لمجيبك في الّذي قلت: إنّ سبّك عليّاً أبنقصٍ في حسبه أو تباعده من رسول الله صلى الله عليه وآله أو بسوء بلاءٍ في الإسلام، أو بجورٍ في حكمٍ، أو رغبةٍ في الدّنيا، فإن قلت واحدةً منها فقد كذبت.

وأمّا قولك: إنّ لكم فينا تسعة عشر دماً بقتلى مشركي بني أميّة ببدرٍ، فإنّ الله ورسوله قتلهم ولعمري ليقتلنّ من بني هاشمٍ تسعة عشر وثلاثةٌ بعد تسعة عشر ثمّ يقتل من بني أميّة تسعة عشر وتسعة عشر في موطنٍ واحدٍ سوى ما قتل من بني أميّة لا يحصي عددهم إلّا الله.. إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال: إذا بلغ ولد الوزغ ثلاثين رجلاً أخذوا مال الله بينهم دولاً وعباده خولاً، وكتابه دغلاً، فإذا بلغو ثلاثمائةٍ وعشراً حقّت عليهم اللّعنة ولهم، فإذا بلغوا أربعمائةٍ وخمسةً وسبعين كان هلاكهم أسرع من لوك تمرةٍ، فأقبل الحكم بن أبي العاص وهم في ذلك الذّكر والكلام.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: اخفضوا أصواتكم فإنّ الوزغ يسمع.. وذلك حين رآهم رسول الله صلى الله عليه وآله ومن يملك بعده منهم أمر هذه الأمّة يعني في المنام فساءه ذلك وشقّ عليه، فأنزل الله عزّوجلّ في كتابه: ( وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) .

وأنزل أيضاً: ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) فأشهد لكم وأشهد عليكم ما سلطانكم

٧٥

بعد قتل عليّ إلّا ألف شهرٍ الّتي أجّلها الله عزّوجلّ في كتابه.

وأمّا أنت يا عمرو بن العاص! الشّانئ اللّعين الأبتر؛ فإنّما أنت كلبٌ أوّل أمرك، وأمّك لبغيّة.

وإنّك ولدت على فراشٍ مشتركٍ، فتحاكمت فيك رجال قريشٍ، منهم أبو سفيان بن الحربٍ، والوليد بن المغيرة، وعثمان بن الحارث، والنّصر بن الحارث بن كلدة، والعاص بن وائلٍ، كلّهم يزعم أنّك ابنه، فغلبهم عليك من بين قريشٍ ألأمهم حسباً، وأخبثهم منصباً وأعظمهم بغيةً.

ثمّ قمت خطيباً وقلت: أنا شانئ محمّد.. وقال العاص بن وائلٍ: إنّ محمّداً رجلٌ ابتر لا ولد له فلو قد مات انقطع ذكره فأنزل الله تبارك وتعالى: ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ) .

وكانت أمّك تمشي إلى عبد قيسٍ لطلب البغية تأتيهم في دورهم ورحالهم وبطون أوديتهم.

ثمّ كنت في كلّ مشهدٍ يشهد رسول الله عدوّه أشدّهم له عداوةً وأشدّهم له تكذيباً، ثمّ كنت فيأصحاب السّفينة الّذين أتوا النّجاشيّ والمهرج الخارج إلى الحبشة في الإشاطة بدم جعفر بن أبي طالبٍ وسائر المهاجرين إلى النّجاشيّ فحاق المكر السّيّئ بك وجعل جدّك الأسفل، وأبطل أمنيّتك، وخيّب سعيك، وأكذب أحدوثتك، وجعل كلمة الّذين كفروا السّفلى وكلمة الله هي العليا.

وأمّا قولك في عثمان، فأنت يا قليل الحياء والدّين - ألهبت عليه ناراً ثمّ هربت إلى فلسطين تتربّص به الدّوائر، فلمّا أتتك خبر قتله حبست نفسك على معاوية فبعته دينك يا خبيث بدنيا غيرك، ولسنا نلومك على بغضنا ولا نعاتبك على حبّنا وأنت عدوٌّ لبني هاشمٍ في الجاهليّة والإسلام، وقد هجوت رسول الله صلى الله عليه وآله بسبعين بيتاً من شعرٍ.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: اللّهمّ إنّي لا أحسن الشّعر ولا ينبغي لي أن أقوله فالعن عمرو بن العاص بكلّ بيتٍ ألف لعنةٍ، ثمّ أنت يا عمرو المؤثر دنيا غيرك على دينك أهديت إلى

٧٦

النّجاشيّ الهدايا ورحلت إليه رحلتك الثّانية ولم تنهك الأولى عن الثّانية كلّ ذلك ترجع معلولاً حسيراً تريد بذلك هلاك جعفرٍ وأصحابه، فلمّا أخطأك ما رجوت وأمّلت أحلت على صاحبك عمارة بن الوليد.

وأمّا أنت يا وليد بن عقبة؛ فوالله ما ألومك أن تبغض عليّاً وقد جلدك في الخمر ثمانين وقتل أباك صبراً بيده يوم بدرٍ، أم كيف تسبّه فقد سمّاه الله: مؤمناً في عشر آياتٍ من القرآن وسمّاك: فاسقاً وهو قول الله عزّوجلّ: ( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ ) (1) وقوله: ( إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) (2) وما أنت وذكر قريشٍ وإنّما أنت ابن عليجٍ من أهل صفّورية يقال له: ذكوان وأمّا زعمك: أنّا قتلنا عثمان، فوالله ما استطاع طلحة والزّبير وعائشة أن يقولوا ذلك لعليّ بن أبي طالب فكيف تقوله أنت ولو سألت أمّك من أبوك إذ تركت ذكوان فألصقتك بعقبة بن أبي معيطٍ اكتسب بذلك عنه نفسها سناءً ورفعةً مع ما أعدّ الله لك ولأبيك وأمّك من العار والخزي في الدّنيا والآخرة وما الله بظلامٍ للعبيد.

ثمّ أنت يا وليد؛ والله أكبر في الميلاد ممّن تدّعي له النّسب، فكيف تسبّ عليّاً ولو اشتغلت بنفسك لبيّنت نسبك إلى أبيك لا إلى من تدّعي له، ولقد قالت لك أمّك يا بنيّ أبوك والله ألأم وأخبث من عقبة.

وأمّا أنت يا عتبة بن أبي سفيان: فوالله ما أنت بحصيفٍ فأجاوبك، ولا عاقلٍ فأعاتبك، وما عندك خيرٌ يرجى ولا شرٌّ يخشى وما كنت ولو سببت عليّاً لأغار به عليك لأنّك عندي لست بكفوٍ لعبد عبد عليّ بن أبي طالب عليه السلام فأردّ عليك وأعاتبك ولكنّ الله عزّوجلّ لك ولأبيك وأمّك وأخيك بالمرصاد، فأنت ذرّيّة آبائك الّذين ذكرهم الله في القرآن

__________________

1. سورة السجدة: الآية 18.

2. سورة الحجرات: الآية 6.

٧٧

فقال: ( عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تَصْلَىٰ نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَىٰ مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ) - إلى قوله - ( مِن جُوعٍ ) (1) .

وأمّا وعيدك إيّاي بقتلي، فهلّا قتلت الّذي وجدته على فراشك مع حليلتك وقد غلبك على فرجها، وشركك في ولدها حتّى ألصق بك ولداً ليس لك، ويلاً لك لو شغلت نفسك بطلب ثأرك منه كنت جديراً وبذلك حريّا إذ تسوّمني القتل وتوعّدني به، ولا ألومك أن تسبّ عليّاً وقد قتل أخاك مبارزةً، واشترك هو وحمزة بن عبد المطّلب في قتل جدّك حتّى أصلاهما الله على أيديهما نار جهنّم وأذاقهما العذاب الأليم، ونفي عمّك بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله.

وأمّا رجائي الخلافة؛ فلعمر الله لئن رجوتها فإنّ لي فيها لملتمساً وما أنت ينظير أخيك ولا خليفة أبيك، لأنّ أخاك أكثر تمرّداً على الله وأشدّ طلباً لإراقة دماء المسلمين وطلب ما ليس له بأهل، يخادع النّاس ويمكرهم ويمكر الله والله خير الماكرين.

وأمّا قولك: إنّ عليّاً كان شرّ قريشٍ لقريشٍ، فوالله ما حقّر مرحوماً، ولا قتل مظلوماً.

وأمّا أنت يا مغيرة بن شعبة؛ فإنّك لله عدوٌّ، ولكتابه نابذٌ ولنبيّه مكذّبٌ، وأنت الزّاني وقد وجب عليك الرّجم وشهد عليك العدول البررة الأتقياء، فأخّر رجمك ودفع الحقّ بالباطل والصّدق بالأغاليط (2) وذلك لما أعدّ الله لك من العذاب الأليم والخزي في الحياة الدّنيا ولعذاب الآخرة أخزى وأنت ضربت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله حتّى أدميتها وألقت ما في بطنها، استدلالاً منك لرسول الله صلى الله عليه وآله، ومخالفةً منك لأمره وانتهاكاً لحرمته، وقد قال لها رسول الله صلى الله عليه وآله: أنت سيّدة نساء أهل الجنّة والله مصيّرك إلى النّار وجاعل وبال ما نطقت به عليك فبأيّ الثّلاثة سببت عليّاً أنقصاً من حسبه أم بعداً من رسول الله صلى الله عليه وآله أم سوء.

__________________

1. سورة الغاشية: الآيات 3 - 6.

2. إشارة إلى قضية زنا المغيرة وابطال عمر الحد عليه.

٧٨

بلاءٍ في الإسلام أم جوراً في حكمٍ أم رغبةً في الدّنيا إن قلت بها فقد كذّبت وكذّبك النّاس أتزعم أنّ عليّاً قتل عثمان مظلوماً فعليٌّ والله أتقى وأنقى من لائمه في ذلك ولعمري إن كان عليّاً قتل عثمان مظلوماً فوالله ما أنت من ذلك في شيء، فما نصرته حيّاً، ولا تعصّبت له ميّتاً وما زالت الطّائف دارك تتّبع البغايا وتحيي أمر الجاهليّة وتميت الإسلام حتّى كان في أمس.

وأمّا اعتراضك في بني هاشمٍ وبني أميّة فهو ادّعاؤك إلى معاوية.

وأمّا قولك في شأن الإمارة وقول أصحابك في الملك الّذي ملكتموه، فقد ملك فرعون مصر أربعمائة سنةٍ وموسى وهارون عليهما السلام نبيّان مرسلان يلقيان ما يلقيان وهو ملك الله يعطيه البرّ والفاجر وقال الله عزّوجلّ: ( وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ ) (1) وقال: ( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ) (2) .

ثمّ قام الحسن عليه السلام فنفض ثيابه وهو يقول: «الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات، هم - والله يا معاوية - أنت وأصحابك هؤلاء وشيعتك والطّيّبات للطّيّبين والطّيّبون للطّيّبات أولئك مبرّون ممّا يقولون لهم مغفرةٌ ورزقٌ كريمٌ هم: عليّ بن أبي طالبٍ وأصحابه وشيعته».

ثمّ خرج وهو يقول لمعاوية: «ذق وبال ما كسبت يداك وما جنيت وما قد أعدّ الله لك ولهم من الخزي في الحياة الدّنيا والعذاب الأليم في الآخرة».

فقال معاوية لأصحابه: وأنتم فذوقوا وبال ما قد جنيتم.

فقال له الوليد بن عقبة: والله ما ذقنا إلّا كما ذقت ولا اجترأ إلّا عليك.

__________________

1. سورة الأنبياء (21): الآية 111.

2. سورة الإسراء (17): الآية 16.

٧٩

فقال معاوية: ألم أقل لكم إنّكم لن تنتصفوا من الرّجل فهل أطعتموني أوّل مرّة أو انتصرتم من الرّجل إذ فضحكم، والله ما قام حتّى أظلم عليّ البيت وهممت أن أسطو به فليس فيكم خيرٌ اليوم ولا بعد اليوم.

قال: وسمع مروان بن الحكم بما لقى معاوية وأصحابه المذكورون من ال حسن بن عليّ عليهما السلام فأتاهم فوجدهم عند معاوية في البيت فسألهم: ما الّذي بلغني عن الحسن وزعله؟ قالوا: قد كان ذلك.

فقال لهم مروان: فهلّا أحضرتموني ذلك فو الله لأسبّنّه ولأسبّنّ أباه وأهل البيت سبّاً تغنّي به الإماء والعبيد.

فقال معاوية والقوم: لم يفتك شيءٌ، وهم يعلمون من مروان بذر لسانٍ وفحشٍ.

فقال مروان: فأرسل إليه يا معاوية فأرسل معاوية إلى الحسن بن عليٍ عليه السلامم. فلمّا جاءه الرّسول، قال له الحسن عليه السلام «ما يريد هذا الطّاغية منّي؟ والله لئن أعاد الكلام لأوقرنّ مسامعه ما يبقى عليه وشناره إلى يوم القيامة».

فأقبل الحسن عليه السلام فلمّا أن جاءهم وجدهم بالمجلس على حالتهم الّتي تركهم فيها غير أنّ مروان قد حضر معهم في هذا الوقت فمشى الحسن عليه السلام حتّى جلس على السّرير مع معاوية وعمرو بن العاص.

ثمّ قال الحسن لمعاوية: «لم أرسلت إليّ؟»

قال لست أنا أرسلت إليك ولكن مروان الّذي أرسل إليك.

فقال مروان: أنت يا حسن السّبّاب رجال قريشٍ؟

فقال: وما الّذي أردت؟

فقال: والله لأسبّنّك وأباك وأهل بيتك سبّاً تغنّي به الإماء والعبيد.

فقال الحسن بن عليّ عليه السلام: «أمّا أنت يا مروان فلست أنا سببتك ولا سببت أباك ولكنّ الله عزّوجلّ لعنك ولعن أباك وأهل بيتك وذرّيّتك وما خرج من صلب أبيك إلى يوم

٨٠