أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين10%

أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 378

أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين
  • البداية
  • السابق
  • 378 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 165947 / تحميل: 9128
الحجم الحجم الحجم
أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وقال حفيده الفضل بن محمد بن الفضل بن الحسن بن عبيد الله بن العباس عليه‌السلام :

إني لأذكر للعباس موقفه

بكربلاء وهام القوم تختطف

يحمي الحسين ويحميه على ظمأ

ولا يولي ولا يثني فيختلف

ولا أرى مشهداً يوماً كمشهده

مع الحسين عليه الفضل والشرف

أكرم به مشهداً بانت فضيلته

وما أضاع له أفعاله خلف (١)

لقد ضاق صدري:

ولما رأى أبو الفضل عليه‌السلام وحدة أخيه وقتل أصحابه وأهل بيته الذين باعوا نفوسهم لله انبرى اليه يطلب الرخصة منه ليلاقي مصيره المشرق، فلم يسمح له الامام عليه‌السلام . وقال له بصوت حزين النبرات: «أنت صاحب لوائي».

لقد كان الامام عليه‌السلام يشعر بالقوة والحماية مادام أبو الفضل، فهو كقوة ضاربة إلى جانبه، يذبّ عنه، ويرد عنه كيد المعتدين، وألحّ عليه أبو الفضل قائلاً: «لقد ضدق صدري من هؤلاء المنافقين وأريد أن آخذ ثاري منهم..».

لقد ضاق صدره وسئم من الحياة حينما رأى النجوم المشرقة من أخوته وأبناء عمومته صرعى مجزرين على رمضاء كربلاء، فتحرّق شوقاً للأخذ بثأرهم والالتحاق بهم.

وطلب الامام منه أن يسعى لتحصيل الماء إلى الأطفال الذين صرعهم العطش، فانبرى الشهم النبيل نحو أولئك الممسوخين الذين خلت قلوبهم من الرحمة والرأفة، فجعل يعظهم ويحذّرهم من عذاب الله ونقمته، ووجّه خطابه اليهم قائلاً: «.. هذا الحسين بن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد قتلتم أصحابه وأهل بيته وهؤلاء عياله

__________________

(١) إبصار العين: ٣١.

١٠١

وأولاده عطاشى فاسقوهم من الماء، قد أحرق الظمأ قلوبهم، وهو مع ذلك يقول: دعوني أذهب إلى الروم أو الهند وأخلّي لكم الحجاز والعراق...».

وساد صمت رهيب على قوات ابن سعد، ووجم كثيرون وودّوا لوتسيخ بهم الأرض، وبكى جماعة، واعتزل آخرون، فانبرى اليه الرجس الخبيث شمر بن ذي الجوشن فردّ عليه قائلاً: يا ابن أبي تراب لو كان وجه الأرض كلّه ماءً وهو تحت أدينا لما سقيناكم منه قطرة إلّا أن تدخلوا في بيعة يزيد....

لقد بلغت الخسة ولؤم العنصر وخبث السريرة بهؤلاء الأرجاس مستوى ماله من قرار....

ورجع أبو الفضل إلى أخيه فأخبره بعتو القوم وطغيانهم، وسمع فخر عدنان صراخ الأطفال والصبية وهم يستغيثون وينادون: العطش.. العطش (١) .

وروي أنّه دخل الخيمة التي وضعوا فيها القِرَب فرأى الأطفال قد كشفوا صدورهم ووضعوها على القِرَب الخالية لعل نداوتها تبرد غليلهم وتطفىء لهيب ظمأهم وتخفف عنهم، فقال لهم أبو الفضل: اصبروا يا نور عيني سأسقيكم الماء، فحمل رمحه وشهر سيفه وأخذ معه القربة، واندفع ببسالة لاغاثتهم، فركب فرسه واقتحم الفرات.

أهل البيت يمنعون الماء:

إذا كانت الشريعة المطهرة حثت على السقاية ذلك الحث المتأكد، فانما تلت على الناس أسطراً نورية مما جبلوا عليه، وعرفت الأُمة بأن الدين يطابق تلك النفسيات البشرية والغرائز الطبيعية، وأرشدتهم إلى ما يكون من الثواب المترتب

__________________

(١) العباس رائد الكرامة: ٢٢١ - ٢٢٢.

١٠٢

على سقي الماء في الدار الآخرة؛ ليكونوا على يقين من أنّ عملهم هذا موافق لرضوان الله وزلفى للمولى سبحانه يستتبع الأجر الجزيل، وليس هو طبيعي محض، وهذا ما جاء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته المعصومين عليهم‌السلام من فضل بذل الماء في محل الحاجة اليه وعدمها سواء كان المحتاج اليه حيواناً أو بشراً مؤمناً كان أو كافراً.

ففي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أفضل الأعمال عند الله إبراد الكبد الحرى من بهيمة وغيرها (١) .

وقال الصادق عليه‌السلام : من سقى الماء في موضع يوجد فيه الماء كان كمن اعتتق رقبة، ومن سقى الماء في موضع لا يوجد في الماء كان كمن أحيى نفساً، ومن أحياها فكأنما أحيى الناس أجمعين (٢) .

وقد دلت هذه الآثار على فائدة السقي بما هو حياة العالم ونظام الوجود، ومن هنا كان الناس فيه شرع سواء كالكلاء والنار، فلا يختص اللطف الالهي بطائفة دون طائفة.

وقد كشف الامام الصادق عليه‌السلام السر في جواب من قال له ما طعم الماء؟

فقال عليه‌السلام : طعم الحياة (٣) .

ولما كانت السقاية أشرف شيء في الشريعة المطهرة، وكانت لها تلك الأهمية والمكانة من النفوس كان أجداد الحسين عليه‌السلام سادة السقاة، وقد أذعنت قريش لقصي بسقاية الحاج فكان يطرح الزبيب في الماء ويسقيهم الماء المحلّى كما كان يسقيهم اللبن (٤) .

وكان ينقل الماء إلى مكة من آبار خارجها ثم حفر ب ئراً إسمها «العجول» في

__________________

(١) دار السلام ٣ / ١٦٢.

(٢) مكارم الأخلاق: ٨٥ فصل ٧ الباب الاول.

(٣) تهذيب الكامل ١ / ٢٩٩.

(٤) السيرة الحلبية ١ / ١٥.

١٠٣

الموضع الذي كانت دار «أم هاني» فيه. وهي أول سقاية حفرت بمكة، وكانت العرب إذا استقوا منها ارتجزوا:

نروي على العجول ثم ننطلق

إنّ قصياً قد وفى وقد صدق

ثم حفر قصي بئراً سماها «سجلة» وقال فيها (١) :

أنا قصي وحفرت سجلة

تروي الحجيج زغلة فزغلة

وكان هاشم - أيام الموسم - يجعل حياضاً من ادم في موضع زمزم لسقاية الحاج ويحمل الماء إلى منى لسقايتهم وهو يومئذٍ قليل (٢) .

ثم إنّه حفر بئراً سماها «البندر» وقال: إنّها بلاغ للناس فلا يمنع منها أحداً (٣) .

وأما عبد المطلب فقد قام بما كان آباؤه يفعلونه من سقاية الحاج، وزاد على ذلك، أنّه لما حفر زمزم وكثر ماؤها أباحها للناس، فتركوا الآبار التي كانت خارج مكة لمكانها من المسجد الحرام، وفضلها على من سواها لأنها بئر إسماعيل (٤) .

وزاد عبد المطلب في سقاية الحاج بالماء أن طرح الزبيب فيه، وكان يحلب الابل فيضع اللبن مع العسل في حوض من أدم عند زمزم لسقاية الحاج (٥) .

ثم قام أبو طالب مقامه بسقي الحاج وكان يجعل عند رأس كلّ جادة حوضاً فيه الماء ليسقي منه الحاج، وأكثر من حمل الماء أيام الموسم، ووفره في المشاعر فقيل له: «ساقي الحجيج».

أما أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام فقد حوى أكثر مما حواه والده الكريم

__________________

(١) الروض الانف ١ / ١٠١.

(٢) شرح النهج ٣ / ٤٥٧.

(٣) الروض الانف ١ / ١٠١.

(٤) سيرة ابن معلان بهامش السيرة الحلبية ١ / ٢٦.

(٥) السيرة الدحلانية ١ / ٢٦.

١٠٤

من هذه المكرمة، وكم له من موارد للسقاية لا يستطيع أحد على مثلها، وذلك يوم بدر، وقد أجهد المسلمين العطش، وأحجموا عن امتثال أمر الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله في طلب الماء فرقاً من قريش؛ لكن نهضت بأبي الريحانتين غيرته الشماء، وثار به كرمه المتدفق، فلبّى دعاء الرسول وانحدر نحو القليب وجاء باملاء حتى أروى المسلمين (١) .

ولا ينس يوم صفين وقد شاهد من عدوه ما تندى منه جبهة كلّ غيور، فان معاوية لما نزل بجيشه على الفرات منع أهل العراق من الماء حتى كضّهم الظمأ، فأنفذ اليه أمير المؤمنين عليه‌السلام صعصعة بن صوحان وشبث بن ربعي يسألانه أن لا يمنع الماء الذي أباحه الله - تعالى - لجميع الخلوقات، وكلّهم فيه شرع سواء، فأبى معاوية إلّا التردد في الغواية والجهل، فعندها قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ارووا السيوف من الدماء ترووا من الماء (٢) .

ثم أمر أصحابه أن يحملوا على أهل الشم، فحمل الأشتر في سبعة عشر ألفاً والأشتر يقول:

ميعدنا اليوم بياض الصبح

هل يصلح الزاد بغير ملح

فلمّا أجلوهم أهل العراق عن الفرات ونزلوا عليه وملكوه أبي صاحب النفسية المقدسة التي لا تعدوها أي مأثرة أن يسير على نهج عدوه حتى أباح الماء لأعدائه، ونادى بذلك في أصحابه (٣) ، ولم يدعه كرم النفس أن يرتكب ما هو من سياسة الحرب من التضييق على العدو بأي صورة.

__________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ١ / ٤٠٦.

(٢) نهج البلاغة ١ / ١٠٩.

(٣) مناقب ابن شهر آوب ١ / ٦١٩.

١٠٥

وقد لا تجد مندوحة في تفضيل موقف الحسين عليه‌السلام على غيره في السقاية يوم سقى الحر وأصحابه في «شراف» وهو عالم بحراجة الموقف، ونفاذ الماء بسقي كتيبة فيها ألف رجل مع خيولهم، ووخامة المستقبل، وأنّ الماء غداً دونه تسيل النفوس وتشق المرائر؛ لكن العنصر النبوي والآصرة العلوية لم يتركا صاحبهما إلّا أن يجوز الفضل.

وأما أبو الفضل العباس بن أمير المؤمنين عليه‌السلام فلا يوازيه أحد في أمر السقاية يوم ناطح جبلاً من الحديد ببأسه الشديد حتى اخترق الصفوف، وزعزع هاتيك الألوف، ولم يبال بشيء إلّا إغاثة شخصية الرسالة المنتشرة في تلك الأمثال القدسية من الذرية الطاهرة، ولم يكتف بهذه الفضيلة حتى أبت نفسيته الكريمة أن يلتذ بشيء من الماء قبل أن يلتذ به أخوه الامام وصبيته الأزكياء.

ومن أجل مجيئه بالماء إلى عيال أخيه وصحبه في كربلاء سمي «السقاء».

في كربلاء لك عصبة تشكوا الظمأ

من فيض كفك تستمد رواؤها

وأراك يا ساقي عطاشى كربلاء

وأبوك ساقي الحوض تُمنع ماءها (١)

هذه جملة من موارد السقاية الصادرة من شرفاء سادة متبوئين على منصات المجد والخطر متكئين على أرائك العز والمنعمة، وما كانت تدعهم دماثة أخلاقهم وطهارة أعراقهم أن يكونوا أخلوا من هذه المكرمة، وقد افتخر بذلك عبد مناف على غيرهم.

وعلى العكس عنهم تجد أعداءهم معاوية وذريته الأرجاس فقد حرموا الماء على آل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويالها من فاجعة.. أن تشرب الذئاب والوحوش الماء وتذبل شفاه آل الرسول من الظمأ؟! ياله من ظلم أن يعطش الأسد، وسيفه بيده ويبكي أطفال الحسين عليه‌السلام ويستغيثون.

__________________

(١) العباس (للمقرم): ١٦٥.

١٠٦

أو تشتكي العطش الفواطم عنده

وبصدر صعدته الفرات المفعم

ولو استقى نهر المجرة لارتقى

وطويل ذابله اليها سلم

لو سدّ ذو القرنين دون وروده

نسفته همته بما هو أعظم

يا رب.. يا حكم ويا عدل.. لقد سلب الله الرحمة والانسانية من قلوب أولئك المسوخ فداسوا القيم وتنركوا للحسين عليه‌السلام ....

وحالوا بينه وبين الماء، وناده عبد الله بن حصين الأزدي: يا حسين ألا تنظر إلى الماء كأنه ككبد السماء والله لا تذوق منه قطرة حتى تموت عطشاً أنت وأصحابك.

ونادى عمرو بن الحجاج: يا حسين هذا الفرات تلغ فيه كلاب السواد وخنازيرهم، فوالله لا تذوق منه قطرة.

والغريب أن هذا اللعين كان ممن كاتب الحسين عليه‌السلام ودعاه للقدوم إلى الكوفة!!

وقال زرعة بن أبان بن دارم: حولوا بينه وبين الماء، ورماه بسهم فأثبته في حنكه فقال عليه‌السلام : اللهم أقتله عطشاً ولا تغفر له أبداً (١) .

وهكذا منعوا الحسين وأهله وأصحابه عن الماء، وفي اليوم السابع اشتد الحصار على سيد الشهداء ومن معه، وسدّ عنهم باب الورود، ونفد ما عندهم من الماء، فعاد كلّ واحد يعالج لهب العطش، وبطبع الحال كان العيال بين أنة وحنة، وتضور ونشيج، ومتطلب للماء إلى متحرّ له بما يبلّ غلّته، وكلّ ذلك بعين الحسين عليه‌السلام والغيارى من آه والأكارم من صحبه، وما عسى أن يجدوا لهم شيئاً وبينهم وبين الماء رماح مشرع وسيوف مرهفة لكن «ساقي العطاشى» لم يتطامن على تحمل تلك الحالة، فراح يستقي لهم وقدم يمينه ويساره ورجليه وكلّ روحه في سبيل إغاثتهم.

وروي أنّ أهل البيت عليهم‌السلام صارعوا العطش - صغاراً وكباراً - ثلاثة أيام بلياليها (٢) .

__________________

(١) مثير الاحزان: ٧٠، نفس المهموم: ٣٣١.

(٢) مرأة الزمان في تواريخ الاعيان: ٨٩.

١٠٧

نهر العلقمي:

يتفرع نهر العلقمي من شط الفرات ويمرّ بمشهد أبي الفضل العباس عليه‌السلام باتجاه قبر الحسين عليه‌السلام ثم يشق طريقه إلى قبر الشهيد الحر الرياحي عليه‌السلام .

وفي معجم متن اللغة: من معاني علقمة: «النبق» وهو السدر فيستفاد من هذا ومما سنرويه أنّ ضفاف العلقمي كان مزروعاً بأشجار السدر، وأنّ هناك سدرة كانت عند قبر الحسين عليه‌السلام .

روى الشيخ الطوسي في الأمالي مسنداً عن يحيى بن المغيرة الرازي قال:

كنت عند جرير بن عبد الحميد إذ جاءه رجل من أهل العراق فسأله جرير عن خبر الناس فقال: تركت الرشيد وقد كرب قبر الحسين عليه‌السلام وأمر أن تقطع السدرة التي فيه فقطعت.

قال: فرفع جرير يديه فقال: الله أكبر جاءنا فيه حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: لعن الله قاطع السدرة - ثلاثاً - فلم نقف على معناه حتى الآن؛ لأن القصد بقطعه تغيير مصرع الحسين عليه‌السلام حتى لا يقف الناس على قبره (١) .

وفي مدينة المعاجز: روى عن رجل أسدي قال: كنت زارعاً على نهر العلقمي بعد ارتحال عسكر بني أمية فرأيت عجائباً لا أقدر أن أحكي إلّا بعضاً منها:... إذا هبت الريح تمر عليّ نفحات كنفحات المسك والعنبر وأرى نجوماً تنزل من السماء وتصعد مثلها من الأرض، ورأيت عند غياب الشمس أسداً هائل المنظر يتخطى القتلى حتى وقف على جسد جللته الأنوار، فكان يمرغ وجهه وجسده بدمه، وله صوت عال، ورأيت شموعاً معلقة، وأصواتاً عالية وبكاءاً وعويلاً، ولا أرى أحداً (٢) .

__________________

(١) الأمالي (لألطوسي): ٣٢٥ المجلس ١١ ح ٩٨.

(٢) العباس (لألمقرم): ٣١٣، عن مدينة المعاجز: ٢٦٣ باب ١٢٧.

١٠٨

وحكي في «الكبريت الأحمر» عن السيد محمد الدين محمد المعروف بمجدي من معاصري الشيخ البهائي في كتابه «زينة المجالس» المؤلف سنة (١٠٠٤):

أنّ الوزير السعيد ابن العلقمي لما بلغه خطاب الصادق عليه‌السلام للنهر «إلى الآن تجري وقد حرم جدّي منك» أمر بسدّ النهر وتخريبه، ومن أجله حصل خراب الكوفة، لأنّ ضياعها كانت تسقى منه (١) .

قال عبد الباقي العمري:

بعداً لشطك يا فرات فمر لا

تحلو فانك لا هني ولا مري

أيسوغ لي منك الورود وعنك قد

صدر الامام سليل ساقي الكوثر

وقال الشيخ محسن أبو الحب الحائري رحمه‌الله :

إذا كان ساقي الحوض في الحشر حيدر

فساقي عطاشى كربلاء أبو الفضل

على أنّ ساقي الناس في الحشر قلبه

مريع وهذا بالظمأ قلبه يغلي

وقفت على ماء الفرات ولم أزل

أقول له والقول يحسنه مثلي

علامك تجري لا جريت لوارد

وأدركت يوماً بعض عارك بالغسل

أما نشفت أكباد آل محمد

لهيباً ولا ابتلت بعل ولا نهل

من الحق أن تذوي غصونك ذبلاً

أسى وحياءً من شفاههم الذبل

فقال استمع للقول إن كنت سامعاً

وكن قابلاً عذري ولا تكثرن عذلي

ألا أن ذا دمعي الذي أنت ناظر

غداة جعلت النوح بعدهم شغلي

برغمي أرى مائي يلذ سواهم

به وهم صرعى على عطش حولي

جزى الله عنهم في المواساة عمهم

أبا الفضل خيراً لو شهدت أبا الفضل

لقد كان سيفاً صاغه بيمينه

علي فلم يحتج شباه إلى الصقل

اذا عدّ أبناء النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله

رأه أخاهم من رأه بلا فضل

__________________

(١) مقتل العباس (للمقرم): ٣١٥، عن الكبريت الاحمر ٢ / ١١٢.

١٠٩

ولم أر ضام (١) حوله الماء قبله

ولم يرو منه وهو ذو مهجة تغلي

وما خطبه إلّا الوفاء وقل ما

يرى هكذا خلاً وفياً مع الخل

يميناً بيمنا القطيعة التي

تسمى شمالاً وهي جامعة الشمل

بصبرك دون ابن النبي بكربلاء

على الهول أمر لا يحيط به عقلي

ووافاك لا يدري أفقدك راعه

أم العرش غالته المقادير بالثل

أخي كنت لي درعاً ونصلاً كلاهما

فقدت فلا درعي لدي ولا نصلي

وقال السيد جعفر الحلي في رثاء العباس عليه‌السلام

وهوى بجنب العلقمي وليته

للشاربين به يداف العلقم

وقال السيد عبد الهادي الطعان:

جرعت أعداءك يوم الوغى

في حد ماضيك من العلقم

وقد بذلت النفس دون الحمى

مجاهداً يا بطل العلقمي (٢)

العباس عليه‌السلام في الميدان:

روى في «رياض المصائب» و «مهيج الأحزان» وغيرها:

«فلما أجاز الحسين عليه‌السلام أخاه العباس للبراز، برز كالجبل العظيم، وقلبه كالطود الجسيم؛ لأنه كان فارساً هماماً، وبطلاً ضرغاماً، وكان جسوراً على الطعن والضرب في ميدان الكفاح والحرب».

وروى في إكسير العبادات: «.. فسمع الحسين عليه‌السلام الأطفال وهم ينادون: العطش.. العطش.

__________________

(١) كذا ورد في ديوان الشاعر أبي الحب.

(٢) بطل العلقمي ٣ / ٣٨٣.

١١٠

فلما سمع العباس ذلك رمق بطرفه إلى السماء وقال: إلهي وسيدي أريد أن أعتد بعدتي وأملأ لهؤلاء الأطفال قربة من الماء، فركب فرسه وأخذ رمحه والقربة في كفه وقصد الفرات.

وفي بعض مقاتل أصحابنا: انّه لما نادى الحسين عليه‌السلام : أما من ذابّ يذبّ عن حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » خرج اليه أخوه العباس، وقبّل بين عينيه وودعه وسار إلى الشريعة، وإذا دونها عشرة آلاف فارس مدرعة، فلم يهوّلوه، فصاحت به الرجال من كل جانب ومكان: من أنت؟

فقال: أنا العباس بن علي بن أبي طالب....

ودخل المشرعة وهمّ أن يشرب فذكر عطش أخيه الحسين فلم يشرب، وحط القربة عن عاتقه واستقبل القوم يضربهم بسيفه كأنه النار في الأخطار وهو يقول:

أنا الذي أعرف عند الزمجرة

بابن علي المسمى حيدرة

فاثبتوا اليوم لنا يا كفرة

لعترة الحمد وآل البقرة (١)

تذكر وصية أبيه فلم يشرب:

في «معالي السبطين» عن كتاب «عدّة الشهور»:

لما كانت ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان وأشرف علي عليه‌السلام على الموت أخذ العباس وضمه إلى صدره الشريف وقال: ولدي وستقر عيني بك في يوم القيامة، ولدي إذا كان يوم عاشوراء ودخلت المشرعة إياك أن تشرب الماء وأخوك الحسين عليه‌السلام عطشان (٢) .

أجل؛ لقد وصل العباس إلى المشرعة، وأقحم الماء فرسه، وملأ كفه بالماء،

__________________

(١) إكسير العبادات: ٣٣٥ المجلس ١٠.

(٢) معالي السبطين ١ / ٤٥٤ المجلس ٢١.

١١١

واستروح كبده الملتهب رائحة الماء وأحسّ ببرده إلا أنّه تذكر وصية أبيه، وثار فيه الوفاء الذي ما بارحه آناً من حياته المباركة، فرمى الماء من كفه وقال: والله لا أشربه وأخي الحسين عليه‌السلام ويعاله وأطفاله عطاشى، لا كان ذلك أبداً، وأنشأ يقول:

يا نفس من بعد الحسين هوني

وبعده لا كنت أن تكوني

هذا الحسين وارد المنون

وتشربين بارد المعين

هيهات ما هذا فعال ديني

ولا فعال صادق اليقين (١)

ولنعم ما قيل:

بذلت أيا عباس نفساً نفيسة

لنصر حسين عز بالجد عن مثل

أبيت التذاذ الماء قبل التذاذه

فحسن فعال المرء فرع عن الأصل

فأنت أخو السبطين في يوم مفخر

وفي يوم بذل المال أنت أبو الفضل

العباس عليه‌السلام يجندل المارد:

وكان في عسكر عمر بن سعد رجل يقال له «المارد بن صديف التغلبي» فلما نظر إلى ما فعله العباس من قتل الأبطال، خرق أطماره ولطم على وجهه، ثم قال لأصحابه: لا بارك الله فيكم؛ أما والله لو أخذ كلّ واحد منكم ملأ كفّه تراباً لطمرتموه، ولكنكم تظهرون النصيحة وأنتم تحت الفضيحة.

ثم نادى بأعلى صوته: أقسم على من كان في رقبته بيعة للأمير يزيد، وكان تحت الطاعة إلّا اعتزل عن الحرب وأمسك عن النزال فأنا لهذا الغلام!! الذي قد أباد

__________________

(١) معالي السبطين ١ / ٤٤٦ المجلس ٢٠.

١١٢

الرجال، وقتل الأبطال، وأروى الشجعان وأفناهم بالحسام والسنان، ثم من بعده أقتل أخاه الحسين عليه‌السلام ومن بقى من أصحابه معه.

فقال له الشمر: إذ قد ضمنت أنّك تكون كفو الناس أجمع ارجع معي إلى الأمير عمر بن سعدو أطلعه على أنك تأتيه بالقوم أجمعين إذا كان بك غنىً عنا.

فقال له المارد: يا شمر! أما والله ما فيكم خير لأنفسكم فكيف تعيرون غيركم؟!

فقال له شمر: ها نحن نرجع إلى رأيك وأمرك وننظر فعالك معه.

ثم قال الشمر للناس: اعتزلوا الحرب حتى ننظر ما يكون منهما.

فأقبل المارد بن صديف، وأفرغ عليه درعين ضيقي الزرد، وجعل على رأسه بيضة، وركب فرساً أشقر أعلى ما يكون من الخيل، وأخذ بيده رمحاً طويلاً، فبرز إلى العباس بن علي عليه‌السلام فالتفت العباس فرآه وهو طالب له يرعد ويبرق، فعلم أنّه فارس القوم، فثبت له حتى إذا قاربه صاح به المارد:

يا غلام!!! ارحم نفسك واغمد حسامك وأظهر للناس استسلامك، فالسلامة أولى من الندامة، فكم من طالب أمرم حيل بينه وبين ما طلبه وغافصه أجله، واعلم أنّه لم يحاربك في هذا اليوم رجل أشدّ قوة مني، وقد نزع الله الرحمة عليك من قلبي، وقد نصحت إن قبلت النصيحة، ثم أنشأ يقول:

إني نصحت إن قبلت نصيحتي

حذراً عليك من الحسام القاطع

ولقد رحمتك إذ رأيتك يافعاً

ولعل مثلي لا يقاس بيافع

اعط القياد تعش بخير معيشة

أولا فدونك من عذاب واقع

قال: فلمّا سمع العباس كلامه وما أتى به من نظامه قال له: ما أراك أتيت إلّا بجميل، ولا نطقت إلّا بتفضيل، غير أني أرى حيلك في مناخ تذروه الرياح، أو في الصخرة الأطمس لا بقتله الأنفس، وكلامك كالسراب يلوح، فاذا قصد صار أرضاً بوراً، والذي أصلته أن استسلم اليك فذاك بعيد الوصول، صعب الحصول، وأنا

١١٣

- يا عدو الله وعدوّ رسوله - فمعوّد للقاء الأبطال، والصبر على البلاء في النزال، ومكافحة الفرسان، وبالله المستعان، فمن كملت هذه فيه فلا يخاف ممن برز اليه، ويلك؛ أليس لي اتصال برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنا غصن متصل بشجرته، وتحفة من نور جوهره، ومن كان من هذه الشجرة فلا يدخل تحت الذمام، ولا يخاف من ضرب الحسام، فأنا ابن علي لا أعجز من مبارزة الأقران، وما أشركت بالله لمحة بصر، ولا خالفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما أمر، وأنا منهوالورقة من الشجرة، وعلى الأصول تثبيت الفروع، فاصرف عنك ما أملته، فما أنا ممن يأس على الحياة ولا يجزع من الوفاة، فخذ في الجد واصرف عنك الهزل، فكم من صبي صغير خير من شيخ كبير عند الله تعالى، ثم أنشأ يقول:

صبراً على جور الزمان القاطع

ومنية ما أن لها من دافع

لا تجزعن فكل شيء هالك

حاشا لمثلي أن يكون بجازع

فلئن رماني الدهر منه بأسهم

وتفرق من بعد شمل جامع

فكم لنا من وقعة شابت لها

قمم الأصاغر من ضراب قاطع

قال: فلما سمع المارد كلام العباس وما أتى به من شعره لم يعط صبراً دون أن خفق عليه بالحملة، وبادره بالطعنة، وهو يظن أنّ أمره هيّن، وقد وصل اليه، وقد مكّنه العباسم ن نفسه، حتى إذا وصل اليه السنان قبض العباس الرمح وجذبه اليه، فكاد يقلع المارد من سرجه، فخلّا له الرمح وردّ يده إلى سيفه، وقد تخلله الخجل عندما ملك منه رمحه.

قال: فشرع العباس الرمح للمارد فصاح به: يا عدو الله؛ إنّني أرجوا من الله - تعالى - أن أقتلك برمحك، فجال المارد على العباس وقحم عليه، فبادره العباس وطعن جواده في خاصرته، فشبّ به الجواد فاذا المارد على الأرض، ولم يكن لللعين طاقة على قتال العباس راجلاً؛ لأنه كان عظيم الجثة ثقيل الخطوة،

١١٤

فاضطربت الصفوف وتصايحت الألوف وناداه الشمر: لا بأس عليك، ثم قال لأصحابه: ويلكم ادركوا صاحبكم قبل أن يقتل.

قال: فخرج اليه غلام له بحجرة (فرس) يقال له «الطاوية»، فلما نظر اليه المارد فرح بها وكف خجله وصاح: يا غلام عجّل بالطاوية قبل حلول الداهية، فأسرع بها الغلام اليه، فكان العباس أسبق من عدو الله اليها، فوثب وثبات مسرعات وصل بها إلى الغلام، فطعنه بالرمح في صدره فأخرجه من ظهره، واحتوى على الحجرة فركبها، وعطف على عدو الله، فلما رآه تغيّر وجهه وحار في أمره، فأيقن بالهلاك، ثم نادي بأعلى صوته: يا قوم أغلب على جوادي واقتل برمحي!! يالها من سبّة ومعيرة.

قال: فحمل الشمر فاتبعه سنان بن أنس وخولي بن يزيد الأصبحي وأحمد بن مالك وبشر بن سوط وجملة من الجيش فنفضوا الأعنة، وقدموا الأسنة، وجرّدوا السيوف، وتصايحت الرجال، ومالت نحو العباس، فناداه أخوه الحسين عليه‌السلام : ما انتظارك يا أخي بعد - والله - فقد غدر القوم بك.

قال: ونظر العباس إلى سرعة الخيل ومجيئهم كالسيل فعطف عليه برمحه فناده المارد: يا بن علي عليه‌السلام رفقاً بأسيرك يكون لك شاكراً.

فقال له العباس: ويلك أبمثلي يلقى اليه الخدع والمحال. ما أصنع بأسير وقد قرب المسير.

ثم طعنه في نحره، وذبحه من الأذن إلى الأذن، فانجدل صريعاً يخور في دمه، ووصلت الخيل والرجال إلى العباس فعطف عليهم، وهو على ظهر «الطاوية»، وكانت الخيل تزيد عن خمسمائة فارس، فلم يكن إلّا ساعة حتى قتل منهم ثمانين رجلاً، وأشرف الباقون على الهرب، فعندها حمل عمر بن سعد وزحفت في أثره الأعلام ومالت اليه الخيل، فصاح به أخوه الحسين عليه‌السلام : يا أخي استند إليّ لأدفع

١١٥

عنك وتدفع، فجعل العباس يقاتل وهو متأخر، وقد أدركته الخيل والرماح كآجام القصب، وصار يضرب فيهم يميناً وشمالاً إلى أن وصل إلى أخيه الحسين عليه السالم، فصاح به الشمر «لعنة الله»: يابن علي؛ إن كنت قد رجّلت المارد عن «الطاوية» وقتلته فهي والله التي كانت لأخيك الحسن عليه‌السلام يوم «ساباط المدائن».

فلما وصل العباس إلى أخيه الحسين عليه‌السلام ذكر له ما قاله الشمر من خبر «الطاوية» فنظر الحسين عليه‌السلام وقال: هذه والله الطاوية التي كانت لملك الري وانه لما قتل أبي علي بن أبيط الب وهبها لأخي الحسن عليه‌السلام وصارت الطاوية تلوذ بمولانا الحسين عليه‌السلام ... (١) .

الشهادة:

اتجه أبو الفضل العباس عليه‌السلام نحو المخيم بعدما ملأ القربة وهي عنده أثمن من حياته، والتحم مع أعداء الله وأنذال البشرية التحاماً رهيباً، فقد أحاطوا به من كلّ جانب - وهي أربعة آلاف - ليمنعوه من إيصال الماء إلى عطاشى آل النبي، ورموه بالنبال، فلم ترعه كثرتهم وأخذ يطرد أولئك الجماهير وحده، ولواء الحمد يرف على رأسه، وأشاع فيهم القتل والدمار وهو يرتجز:

لا أرهب الموت إذ الموت زقا

حتى أورى في المصاليت لقى

نفسي لسبط المصطفى الطهر وقا

إني أنا العباس أغدو بالسقا

ولا أخاف الشر يوم الملتقى

وانهزمت الجيوش من بين يديه يطاردها الفزع والرعب، فقد ذكرّهم ببطولات أبيه فاتح خيبر ومحطم فلول الشرك، ولم يشعر القوم أهو العباس يجدّل الأبطال أم أنّ الوصي يزأر في الميدان، فلم تثبت له الرجال إلّا أنّ وضراً خبيثاً من الجبناء

__________________

(١) إكسير العبادات: ٣٣٥ المجلس العاشر.

١١٦

كمن له من وراء نخلة - وهو زيد بن الرقاد الجهني وعاونه حكيم بن الطفيل السنبسي - ولم يستقبله بوجهه، فضربه على يمينه ضربة غادرة فبراها.

لقد قطع تلك اليد الكريمة التي كانت تفيض برّاً وكرماً على المحرومين والفقراء، والتي طالما دافع بها عن حقوق المظلومين والمضطهدين.

ولم يعن بها سبع القنطرة وراح يرتجز:

والله إن قطعتمو يميني

إني أحامي أبداً عن ديني

وعن إمام صادق اليقين

نجل النبي ص الطاهر الأمين

ودلل بهذا الرجز على الأهداف العظيمة والمثل الكريمة التي جاهد من أجلها، فهو إنّما يجاهد دفاعاً عن الاسلام ودفاعاً عن إمام المسلمين وسيد شباب أهل الجنة.

ولم يبعد العباس قليلاً حتى كمن له من وراء نخلة رجس من أرجاس البشرية، وهو الحكيم بن الطفيل الطائي، فضربه على يساره فبراها فقال عليه‌السلام :

يا نفس لا تخشي من الكفار

وأبشري برحمة الجبار

مع النبي السيد المختار

قد قطعوا ببغيهم يساري

فأصلهم يا ربّ حرّ النار

فحمل القربة بأسنانه وجعل يركض ليوصل الماء إلى عطاشى أهل البيت عليهم‌السلام .

قال القاضي أبو حنيفة النعمان المتوفى سنة (٣٦٣): وقطعوا يديه ورجليه حنقاً عليه ولما أبلى فيهم وقتل منهم فلذلك سمي السقاء (١) .

ولربما كان قطع رجلي العباس عليه‌السلام ليمنعوه عن إيصال الماء؛ لأنه عليه‌السلام ترك فرسه وسارع يركض برجليه، إضافة إلى حنقهم لعنهم الله.

فعند ذلك أمنوا سطوته وتكاثروا عليه، وأتته السهام كالمطر، فأصاب القربة

__________________

(١) شرح الاخبار ٣ / ١٩٣ في ذكر من قتل مع الحسين عليه‌السلام .

١١٧

سهم وأريق ماؤها، وسهم أصاب صدره، وسهم أصاب عينه، ووقف البطل حزيناً، فقد كان إراقة الماء عنده أشدّ عليه من قطع يديه، وشدّ عليه رجس خبيث وضربه بعمود من حديد على رأسه الشريف ففلق هامته.

وهوى بجنب العلقمي فليته

للشاربين به يداف العلقم

وهوى إلى الأرض (١) وهو يؤدي تحيته ووداعه الأخير إلى أخيه قائلاً: «عليك مني السلام أبا عبد الله...».

فانقض عليه أبو عبد الله كالصقر فرآه مقطوع اليمين واليسار، موضوخ الجبين، مشكوك العين بسهم، مرتثاً بالجراحة، فوقف علهي منحنياً، وجلس عند رأسه يبكي، وهو يلفظ شظاياً قلبه الذي مزقته الكوارث، وقال: «الآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي وشمت بي عدوي».

وأنشأ يقول:

تعديتم يا شرّ قوم ببغيكم

وخالفتموا دين النبي ص

أما كان خير الرسل أوصاكم بنا

أما نحن من نسل النبي المسدد

أما كانت الزهراء امي ويلكم

أما كان من خير البرية والدي

لعنتم وأخزيتم بما قد جنيتم

فسوف تلاقوا حرّ نار توقد

وجعل إمام الهدى يطيل النظر إلى أخيه وقد انهارت قواه، وانهد ركنه، وتبددت جميع آماله، وودّ أنّ الموت قد وافاه قبله:

__________________

(١) قال السيد المقرم رحمه‌الله في هامش كتابه مقتل الحسين عليه‌السلام ٢٦٨: وسمعت العالم الفاضل الشيخ كاظم سبتي رحمه‌الله يقول: أتاني بعض العلماء الثقات وقال: أنا رسول العباس عليه‌السلام اليك رأيته في المنام يعتب عليك ويقول: لم يذكر مصيبتي شيخ كاظم سبتي فقلت له: يا سيدي ما زلت اسمعه يذكر مصائبك فقال عليه‌السلام قل له: يذكر هذه المصيبة وهي: ان الفارس اذا سقط من فرسه يتلقى الارض بيديه فاذا كانت السهام في صدره ويداه مقطوعتان بماذا يتلقى الارض؟!

١١٨

وبان الانكسار في جبينه

فاندكت الجبال من حنينه

وكيف لا وهو جمال بهجته

وفي محياه سرور مهجته

كافل أهله وساقي صبيته

وحامل اللوا بمعالي همته (١)

ورجع الحسين عليه‌السلام إلى المخيم وحده:

وفي الدمعة الساكبة: إنّ من كثرة الجراحات الواردة على العباس عليه‌السلام لم يقدر الحسين عليه‌السلام أن يحمله إلى محمل الشهداء، فترك جسده في محل قتله ورجع باكياً حزيناً إلى الخيام (٢) .

قال السيد المقرم رحمه‌الله في مقتل الحسين عليه‌السلام (٣) : وتركه في مكانه لسر مكنون أظهرته الأيام، وهو أن يدفن في موضعه منحازاً عن الشهداء؛ ليكون له مشهد يقصد بالحوائج والزيارات، وبقعة يزدلف اليها الناس وتتزلف إلى المولى سبحانه تحت قبته التي ضاهت السماء رفعة وسناء، فتظهر هنالك الكرامات الباهرة، وتعرف الأمة مكانته السامية ومنزلته عند الله تعالى، فتؤدي ما وجب عليهم من الحب المتأكد، والزيارات المتواصلة، ويكون عليه‌السلام حلقة الوصل فيما بينهم وبين الله - تعالى - فشاء حجة الوقت أبو عبد الله كما شاء المهيمن - سبحانه - أن تكون منزلة أبي الفضل الظاهرية شبيهة بالمنزلة المعنوية الأخروية، فكان كما شاءا وأحبا.

ثم قام الحسين عليه‌السلام وحمل على القوم، فجعل يضرب فيهم يميناً وشمالاً فيفرون من بين يديه كما تفرّ المعزى إذا شدّ فيها الذئب، وهو يقول: أين تفرون وقد قتلتم أخي؟! أن تفرون وقد فتتم عضدي؟! ثم عاد إلى موقفه منفرداً (٤) .

__________________

(١) من ارجوزة آية الله الشيخ محمد حسين الاصفهاني قدس‌سره .

(٢) الدمعة الساكبة ٤ / ٣٢٤.

(٣) مقتل الحسين: ٢٧٠.

(٤) إبصار العين: ٣٠.

١١٩

ورجع الحسين إلى المخيم منكسراً حزيناً باكياً يكفكف دموعه بكمه، وقد تدافعت الرجال على مخيمه، فنادى:

أما من مغيث يغيثنا؟!

أما من مجير يجيرنا؟!

أما من طالب حث ينصرنا؟!

أما من خائف من النار فيذب عنا؟

فأتته سكينة وسألته عن عمها فأخبرها بقتله.

وسمعته زينب فصاحت: وا أخاه وا عباساه وا ضيعتنا بعدك!

وبكين النسوة وبكى الحسين معهن وقال عليه‌السلام : وا ضيعتنا بعدك.

فمشى لمصرعه الحسين وطرفه

بين الخيام وبينه متقسم

الفاه محجوب الجمال كأنه

بدر بمنحطم الوشيج ملثم

فأكب منحنياً عليه ودمعه

صبغ البسيط كأنّما هو عندم

قد رأم يلثمه فلم ير موضعاً

لم يدمه عض السلاح فيلثم

نادى وقد ملأ البوادي صيحة

صم الصخور لهولها يتألم

أأخي يهنيك النعيم ولم أخل

ترضى بأن أرزى وأنت منعم

أأخي من يحمي بنات محمد

إذ صرن يسترحمن من لا يرحم

ما خلت بعدك أن تشل سواعدي

وتكف باصرتي وظهري يقصم

لسواك يلطم بالأكف وهذه

بيض الظبى لك في جبيني تلطم

ما بين مصرعك الفظيع ومصرعي

إلا كما أدعوك قبل وتنعم

هذا حسامك من يذل به العداء

ولواك هذا من به يتقدم

هونت يا ابن أبي مصارع فتيتي

والجرح يسكنه الذي هو آلم

١٢٠

مشهد الكفين:

لم يفتأ شيعة أهل البيت عليهم‌السلام كما أنهم يقتصون آثارهم في معارفهم وتعاليمهم يتبركون بتعيين كلّ ما يتعلق بهم من مشهد أو معبد أو مقام، فيتبعونها بالحفاوة والتبجيل، ويرون ذلك من متممات الولاء ولوازم الاتباع والمشايعة.

وهو كما يرون لأنه أما مشهد يزار أو معبد يقصد للعبادة أو محل مسرة فيسرهم ذلك أو موقف مأساة فيستاؤون لهم، وهذا هو التشيع المحض والاقتداء الصحيح.

ومن ذلك ما نشاهده في كربلاء المقدسة من المقام لكفي أبي الفضل اللذين تناقلتهما الألسن، وأخذ حديثهما الخلق عن السلف، والسيرة المستمرة بين الامامية كافية في القطع بثبوت المقامين، ولولا هما لانتقض الأمر في كثير من المشاهد والمعابد والمقامات.

يعد مقام الكف اليمنى في جهة الشمال الشرقي على حدّ محلة باب بغداد ومحلة باب الخان قريباً من باب الصحن المطهر الواقعة في الجهة الشرقية، وعلى جدار المقام شباك صغير، وعلى جبهته بيتان بالفارسية لم يكتب اسم ناظمهما ولا تاريخ البناء ولا موضع الشباك.

والبيتان:

اُفتاد دست راست خدايا زپيكرم

بر دامن حسين برسان دست ديگرم

دست چپم بجاست اگر نيسه دست راست

اما هزار حيف كه يك دست بي صداست

ويقع مقام الكف اليسرى في السوق الصغير القريب من الباب الصغير للصحن الواقعة في الجنوب الشرقي، ويعرف بسوق باب العباس الصغير، وعلى الجدار شباك، وكتب بالقاشاني عليه: هذا نظم الشيخ محمد المعروف بالسراج:

١٢١

سل إذا ما شئت واسمع واعلم

ثم خذ مني جواب المفهم

إنّ في هذا المقام انقطعت

يسرة العباس بحر الكرم

ها هنا يا صاح طاحت بعدما

طاحت اليمنى بجنب العلقمي

اجر دمع العين وابكيه أساً

حق أن يبكى بدمع عن دم (1)

قال شاعر أهل البيت عليهم‌السلام المرحوم السيد جعفر الحلي:

حامي الظعينة أين منه ربيعة

أم أين من عليا أبيه مكدّم

في كفه اليسرى السقاء يقلّه

وبكفه اليمنى الحسام المخذم

حسمت يديه المرهفات وانه

وحسامه من حدّهن لأحسم

فغدا يهمّ بأن يصول فلم يطق

كالليث إذا أظفاره تتقلّم

أمن الردى من كان يحذر بطشه

أمن البغات إذا أصيب القشعم

وقال حفيده الفضل بن محمد بن الفضل بن الحسن بن عبيد الله بن العباس عليه‌السلام :

إني لأذكر للعباس موقفه

بكربلاء وهام القوم يختطف

يحمي الحسين ويحميه على ظمأ

ولا يولي ولا يثني فيختلف

ولا أرى مشهداً يوماً كمشهده

مع الحسين عليه الفضل والشرف

أكرم به مشهداً بانت فضيلته

وما أضاع له أفعاله خلف

وقال أيضاً:

أحق الناس أن يبكى عليه

فتى أبكى الحسين بكربلاء

أخوه وابن والده علي

أبو الفضل المضرج بالدماء

ومن واساه لا يثنيه شيء

وجادله على عطش بماء (2)

__________________

(1) العباس (للمقرم): 335.

(2) شرح الاخبار (للقاضي نعمان) 3 / 193.

١٢٢

وقال الكميت الاسدي:

وأبو الفضل إنّ ذكرهم الحلو

شفاء النفوس من أسقام

قتل الأدعياء اذ قتلوه

أكرم الشاربين صوب الغمام (1)

* * *

__________________

(1) ابصار العين: 31.

١٢٣

الفصل التاسع

اخوة العباس عليهم‌السلام

١٢٤

ابو الفضل العباس يتكلّم

روي في بعض كتب المقاتل: أنّ العباس عليه‌السلام قال لاخوته يوم العاشر: اشتروا الجنة اليوم وذبّوا عن سيدنا وإمامنا.

وقال أيضاً: تقدّموا حتى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله... تقدموا بنفسي أنتم فحاموا عن سيدكم حتى تموتوا دونه. فاقدموا على عسكر بن سعد إقدام الشجعان، واملأوا صدورهم ووجوههم بالضرب والرمي والطعان... لا تقصروا في نصرة إمامكم وافدوه بأرواحكم، ولا تقولوا نحن أبناء أب واحد، فانّه إمامنا وسيدنا وحجة الله على من فوق الثرى، أمه فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، وهو قرة عين النبي الأمين.

فتقدموا جميعاً، فصاروا أمام الحسين عليه‌السلام يتقون بوجوههم ونحورهم، فلما رآهم الحسين عليه‌السلام بكى وقال: جزاكم الله ربّ العالمين (1) .

* * *

__________________

(1) عن محن الابرار: 279.

١٢٥

أبناء علي عليه‌السلام

يتقدّمون إلى الشهادة

تقدّم الأصحاب يوم العاشر من المحرم، وأدوا ما عليهم في الذبّ عن إمامهم، وعن حرم الله وحرم نبيهم، فصعدوا الواحد تلو الآخر إلى جنان الخلد، ومن ثم جاء دور أهل البيت عليهم‌السلام ، وكان أول شهيد من بني هاشم علي الأكبر عليه‌السلام كما ورد في زيارت الناحية:

« السلام على أول قتيل من خير نسل سليل من سلالة إبراهيم الخليل » (1) .

ثم تقدّموا الواحد تلو الآخر يستأذنون الامام ويتقدمون إلى الجنان حتى قضوا جميعاً، وبقي الحسين عليه‌السلام وحيداً غريباً مستغيثاً.

التفت العباس إلى اخوته وقال: تقدّموا أمامي لأحتسبكم فكان أول من تقدّم منهم:

__________________

(1) البحار 45 / 65 باب 37.

١٢٦

1 - عبد الله بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام

ولد بعد أخيه العباس بنحو ثمان سنين، وأمه فاطمة أم البنين، وبقي مع أبيه ست سنين، ومع أخيه الحسن ست عشرة سنة، ومع أخيه الحسين خمساً وعشرين سنة، وذلك مدة عمره، ولم يعقب (1) .

قال أهل السير: إنّه لما قتل أصحاب الحسين عليه‌السلام وجملة من أهل بيته دعا العباس اخوته الأكبر فالأكبر وقال لهم: تقدّموا، فأول من دعاه عبد الله أخوه لأبيه وأمه فقال: تقدّم يا أخي حتى أراك قتيلاً وأحتسبك، فانه لا ولد لك، فتقدّم بين يديه وجعل يضرب بسيفه قدماً ويجول فيهم وهو يقول:

أنا ابن ذي النجدة والافضال

ذاك علي الخير ذو الأفعال

سيف رسول الله ذو النكال

في كلّ يوم ظاهر الأهوال

فقاتل قتالاً شديداً، فاختلف هو وهاني بن ثبيت الحضرمي ضربتين فقتله هانىء «لعنه الله».

__________________

(1) وهو معروف عند جمهور العلماء ذكره ابن قتيبة في المعارف والشبلنجي في نور الابصار، والمحب الطبري في ذخائر العقبى والرياض النضرة، وابن الصباغ في الفصول المهمة والكنجي الشافعي في كفاية الطالب والمسعودي في التاريخ والشيخ المفيد في الارشاد وآخرون يطول تعدادهم.

١٢٧

وكذلك ذكر المجلسي في البحار وملا عبد الله في مقتل العوالم والخوارزمي في مقتله وآخرون.

وجاء في الزيارة المروية عن الامام صاحب الزمان «عجل الله فرجه» التي رواها السيد ابن طاووس في كتاب «الاقبال» والمجلسي في «البحار» وفيها يقول عليه‌السلام :

«السلام على عبد الله بن أمير المؤمنين مبلي البلاء، والمنادي بالولاء في عرصة كربلاء، والمضروب مقبلاً ومدبراً، لعن الله قاتله هانىء بن ثبيت الحضرمي».

وفي هذه الفقرة شهادة من الامام صاحب الأمر «عجل الله فرجه» لعبد الله بثلاثة من الفضائل:

الأولى: أنّه أعلن بولاء الحسين عليه‌السلام بين الصفوف ونادى بالولاية في عرصة كربلاء.

الثانية: أنّه كان له بلاء محمود أكثر من غيره في دفاعه ومحاماته عن أخيه الحسين عليه‌السلام ، وقد أدى ما عليه دفاعاً عن دينه وإمامه، وإلّا لما كان لذكر «مبلي البلاء» محل.

الثالثة: ثباته في ذلك الموقف الرهيب والمعترك الهائل العصيب حيث وقف هدفاً للسلاح في وسط الحومة حتى أصيب مقبلاً ومدبراً، يريد أنّه أحيط به من كلّ جانب، واكتنفه الأعداء من كلّ جهة، وكان هو كاراً عليهم الكرة بعد الكرة، فيقبل على جماعة فيهزمهم ويعود إلى أخرى فيطردهم، ولم يقتل محاطاً به إلّا الحسين عليه‌السلام والعباس وعلي بن الحسين الأكبر عليه‌السلام ومسلم بن عقيل قتل الكوفة وعبد الله بن علي شقيق العباس عليه‌السلام .

وقد تضمنت هذه الفقرة أنّه ضرب مقبلاً ومدبراً، ومن المعلوم أن العسكر لا يتكاتف ويحمي بعضه بعضاً على كثرته إلّا لشدة بأس البطل المهاجم له، والشجاع المنازل له، الذي تعجز عن مواجهته الأبطال، وهذه غاية الشجاعة ونهاية البطولة.

١٢٨

ولا غرو أن كان آية نم آيات البطولة والفروسية والاقدام، فأبوه أمير المؤمنين عليه‌السلام سيد أبطال العالم الذي كانت الملوك ترسم صورته على سيوفها كما فعل ذلك «سليمان القانوني» ملك الأتراك العثمانيين، فقد كان له سيف عليه صورة علي بن أبي طالب، وقد هتف به رضوان خازن الجنان وجبرئيل سفير وحي الرحمن في بدر وأحد «لا سيف إلّا ذوالفقار ولا فتى إلّا علي»، واخوته الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية والعباس، والعمومة بنو هاشم أفرس العرب، وهل تعد أمة من الأمم مثل أبي طالب وحمزة وجعفر الطيار في أمثالهم، والخؤلة بنوا عامر، وفيهم مثل فارس الضحيا، وفارس قرزل، وفارس العصا، وفارس شحمه، وملاعب الأسنة، ومدرك الثار، والرحال في أمثالهم، فهو معم مخول معرق الشجاعة.

قد أنجبت أم البنين فديتها

فرسان حرب أصبحوا مثالا

أسداً ضراغمة بمعمة الوغى

سم العداة أماجداً أبطالا

لا تعجبين لبأسهم وثباتهم

في موقف لو فيه رضوى ززالا

الليث حيدرة وفاطم لبوة

ولدا لوقعة كربلا أشبالا

نفسي الفدا لو اردين ظماً

بحر المنية طاميا أجالا (1)

وورد أيضاً في زيارته:

السلام عليك يا عبد الله بن علي بن أبي طالب ورحمة الله وبركاته، فانك الغرة الوضحة، واللمعة اللائحة، ضاعف الله رضاه عنك، وأحسن لك ثواب ما بذلته منك، فلقد واسيت أخاك وبذلك مهجتك في رضا ربّك (2) .

* * *

__________________

(1) بطل العلقمي 3 / 499.

(2) بحار الأنوار 98 / 245 باب 35.

١٢٩

2 - جعفر بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام

أبو عبد الله، جعفر الأكبر، شقيق العباس عليه‌السلام ، أحد الشهداء مع الحسين عليه‌السلام .

كان يلقب بجعفر الأكبر، ويكنى بأبي عبد الله، أمه أم البنين الكلابية.

قال أبو الفرج الاصفهاني في «مقاتل الطابيين»: وجعفر بن علي بن أبي طالب أمه أم البنين.. قتل وهو ابن (19) سنة.

وقال أبو مخنف في حديث الضحاك المشرقي: إنّ العباس بن علي قدّم أخاه جعفراً بين يديه؛ لأنه لم يكن له ولد،... فشدّ عليه هاني بن ثبيت الحضرمي الذي قتل أخاه.

وقال نصر بن مزاحم عن أبي جعفر محمد بن علي عليهما‌السلام : إنّ خولي بن يزيد الأصبحي «لعنه الله» قتل جعفر بن علي عليه‌السلام .

قال في ناسخ التاريخ: جعفر الأكبر، ويكنى أبا عبد الله، وأمه أم البنين أم العباس، وعمر (23) سنة.. (1) وعند أبي الفرج الاصفهاني أنّ عمره (19) سنة.

وقال السماوي في «إبصار العين»: ولد بعد أخيه عثمان بنحو سنتين، وأمه

__________________

(1) ناسخ التاريخ 5 / 306.

١٣٠

فاطمة أم البنين، وبقي مع أبيه نحو سنتين، ومع أخيه الحسن نحو اثنتي عشرة سنة، ومع أخيه الحسين عليه‌السلام نحو إحدى وعشرين سنة، وذلك مدة عمره (1) .

وقال المظفر في «بطل العلقمي»: وما أعرف عمن أخذ السماوي تقدير عمره بـ (21) سنة وتقسيمه على إمامة أبيه وأخويه (2) .

وذكر صاحب «الدر النظيم»: إنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام سماه باسم أخيه جعفر الطيار لأن أمير المؤمنين عليه‌السلام كان شديدي المحبة له.

قال أهل السير: لما قتل أخو العباس لأبيه وأمه وعبد الله وعثمان دعا جعفراً فقال له: تقدم إلى الحرب حتى أراك قتيلاً كأخويك فاحتسبك كما احتسبتهما فانه لا ولد لكم، فتقدم وشدّ على الأعداء يضرب فيهم بسيفه وهو يقول:

إني أنا جعفر ذو المعالي

ابن علي الخير ذي النوال

ذاك الوصي ذو الندى والوالي

حسبي بعمى شرفاً وخالي

فشدّ عليه خولي بن يزيد الأصبحي فأصاب شقيقته أو عينيه فقتله.

وقال أبو مخنف: بل شدّ عليه هانيء بن ثبيت الحضرمي الذي قتل أخاه فقتله.

قال الامام المنتظر «عجل الله فرجه» في زيارة الناحية:

السلام على جعفر بن أمير المؤمنين، الصابر بنفسه محتسباً، والنائي عن الأوطان مغترباً، المستسلم للقتال، المستقدم للنزال، المكثور بالرجال، لعن الله قاتله هانىء بن ثبيت الحضرمي.

ويظهر من عبارات الامام - أرواحنا فداه - من الفضائل لجعفر بن أمير المؤمنين ما يميزه عمن سواه من الشهداء، فقوله عليه‌السلام ، وبأي معنى أخذ الصبر سواء كان الصبر على مكابدة الأهوال ومكافحة الأبطال، ففي ذلك غاية المدح بالفروسية.

__________________

(1) إبصار العين: 35.

(2) أنظر: بطل العلقمي 3 / 511.

١٣١

وإن كان الصبر على محبته لإمامه الحسين عليه‌السلام وموالاته له وثباته وعزمه أن يفديه بنفسه ويقيد بمهجته ففي ذلك غاية المدح من الوجهتين: البصيرة والمعرفة بحق الامام المفترض الطاعة، وهذا دليل العلم والفقاهة، ومن حب المواسات له بالنفس التأسي به في يجميع الحالات، فهذا دليل على أنّه في غاية الكمال ونهاية الأدب.

وإن أريد بالصبر الصبر على معاناة الأمور الشاقة من الجوع والعطش لأنهم حصروا في فلاة جرداء قاحلة، وبادية قفراء قاحلة، قد ملك عليهم الأعداء شريعة الفرات، وقطعوا عليهم طريق الميرة، وصدوا القوافل التي تحمل الأقوات اليهم، فعطشوا وجاعوا، وفي تخصيص جعفر بالصبر على هذا لا يخفى ما فيه من مزيد الفضل، والاشارة إلى ما فيه من الايثار والتضحية والتحمل والمعاناة.

وأما قوله عليه‌السلام : «النائي عن الأوطان» مع أنّ كلّ من كان مع الحسين عليه‌السلام كان نائياً عن الاوطان وجميعهم قد اغتربوا، فما معنى تخصيص جعفر؟!

فالظاهر - والله العالم - أنّه إنّما خصّ بذلك لأنّه كان بعد شاب صغير لم يذق طعم الغربة ولم يجربها من قبل، سيما أنّه كان صاحب نضارة ورونق جميل، قد تربى في الحضارة، لم يقوى على لفحات السموم ومعاناة شعل الهجير، لأنه أصغر اخوته، ومن المعلوم أن صغير الأولاد يكون في الموضع الأتم من الشفقة في نظر الأم الشفيقة، فانّها تبره كثيراً وتتعاهده بالنظافة والتعطير وترجيل الشعر ولذيذ المطعم وشهي المشرب، فاذا كان نائياً عن الأوطان - والحال هذه - فانه يلاقي عنتاً، ويجابه شدة شديدة، ويعاني صعوبة صعبة، ومشقة شاقة، سيما من فقد بر الوالدة المشفقة وعطفها وحدبها عليه والطافها.

ومن هنا يعرف أنّ ولد أمير المؤمنين عليه‌السلام أشجع العرب، لأنهم ما شاهدوا حروباً، ولا خاضوا المعارك، ولا وقفوا في صف قبال الأعداء، سوى الحسنين عليهما‌السلام وابن الحنفية والعباس عليه‌السلام ، وهم جميعاً شباب في ريعان الشبيبة ونضرة الصبا، بين

١٣٢

من أدرك البلوغ وبين من تجاوزه بيسير، وقد شبوا ونشأ في أحضان المدينة حتى إذا كشفت حرب كربلاء عن ساقها، وبرزت كالحة عابسة شوهاء المنظر كريهة المخبر، شمروا السواعد، وشحذوا المرهفات القواطع، وساقوا تلك الأبطال المحنكة والفرسان المجربة سوق الأغنام، وفرت أمامهم كاليعافير أو الحمر المستنفرة، وطاروا بين أيديهم طيران القطا والنعام المشرد، وتفرقوا تفرق الجراد المنتشر، ولو لا غلبة الأقدار ما كثرتهم تلك الجماهير، ولا غلبتهم كثرة الجموع، وقد علم حملة التاريخ والأثر وعلماء الأخبار والسير أنهم أفنوا جماهير أهل الكوفة، وقد تركوا في كلّ حي من أحيائها نائحة وفي كلّ بيت من بيوتها صارخة:

آل علي يوم طف كربلا

قد تركوا في كل دار نائحة

من دخل الكوفة لم يسمع بها

في سائر الاحياء إلّا صائحة

قد خلد التاريخ للحشر لهم

أعمال مجد وفعالاً صالحة

فيا لها فادحة خالدة

قد أنست الشيعة كل فادحة

أولئك الشبان المنعمون من أهل البيت النبوي أظهروا البسالة والشجاعة ما أدهش الأبطال المجربة والشجعان الخبراء بفن البطولة.

وبقية الفقرة تصف ثبات جعفر الأكبر في ساحات الوغى وغبار المعمعة، وتذكر أنهم ما قتلوه إلّا تكاثروا عليه واحتوشوه من كلّ مكان، والكثرة مهما كانت فان لها الغلبة وفي المثل الشعبي «الكثرة تأخذ البصرة».

حكى جعفر في كربلا بأس جعفر

كما قد حكى بالضرب والده القرما

وأدى حقوق المجد والفخر من حكى

بأفعاله الغر الأب القرم والعما (1)

__________________

(1) بطل العلقمي: 514.

١٣٣

3 - عثمان بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام

أمه أم البنين عليها‌السلام .

روي عن عبيد الله بن الحسن وعبد الله بن عباس انه قتل وهو ابن (21) سنة.

وقال السماوي في «إبصار العين»: ولد بعد أخيه عبد الله بنحو سنتين، وأمه فاطمة أم البنين، وبقي مع أبيه نحو أربع سنين، ومع أخيه الحسن نحو أربع عشرة سنة، ومع أخيه الحسين عليه‌السلام ثلاثاً وعشرين سنة، وذلك مدة عمره.

وروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال: إنّما سميته عثمان بعثمان بن مضعون أخي.

وعثمان بن مضعون بن حبيب بن وهيب بن حذاقة بن جمح القرشي الجمحي..

أسلم بعد ثلاثة عشر رجلاً، وهاجر الهجرتين، وشهد بدراً، وكان أول رجل مات بالمدينة سنة اثنتين من الهجرة، وكان ممن حرّم على نفسه الخمر في الجاهلية، وممن أراد الاختصاء في الاسلام فنهاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: عليك بالصيام فانه مجفرة - أي قاطع للجماع -.

ولما مات جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى بيته وقال: رحمك الله أبا السائب، ثم انحنى عليه فقبله، ثم صلّى عليه ودفنه في بقيع الغرقد، ووضع حجراً على قبره وجعل يزوره.

١٣٤

ثم لما مات إبراهيم عليه‌السلام ولده بعده قال: إلحق - يا بني - بفرطنا عثمان ابن مضعون.

ولما ماتت زينب ابنته عليها‌السلام قال: إلحقي بسلفنا الخير عثمان بن مضعون.

وإنّما استطردنا في ذكر عثمان شيئاً ما إمتثالاً للمولى أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي سمّى ولده باسمه، ونعود إلى عثمان ابن أمير المؤمنين عليه‌السلام .

قال أهل السير: لما قتل عبد الله بن علي دعا العباس عثمان وقال له: تقدّم يا أخي، كما قال لعبد الله، فتقدم إلى الحرب يضرب بسيفه ويقول:

إني أنا عثمان ذو المفاخر

شيخي علي ذو الفعال الطاهر

فرماه خولي بن يزيد الأصبحي بسهم فأوهطه (1) حتى سقط لجنبه، فجاءه رجل من بني أبان بن درارم فقتله وحتز رأسه (2) .

قال الامام المنتظر - عجل الله تعالى فرجه - في زيارة الناحية:

السلام على عثمان بن أمير المؤمنين سمّي عثمان بم مضعون، لعن الله راميه بالسهم خولي بن يزيد الأصبحي الأيادي والاباني الدارمي .

وجاء في زيارته أيضاً:

السلام عليك يا عثمان بن علي بن أبي طالب ورحمة الله وبركاته، فما أجل قدرك، وأطيب ذكرك، وأبين أثرك، وأشهر خيرك، وأعلى مدحك، وأعظم مجدك ... (3) .

واللائح من هذه الفقرات أن عثمان عليه‌السلام كان عالماً عارفاً فقيهاً خلوقاً بحيث استحق هذه الصفات النادرة والمدائح التي لا يستحقها إلّا من كان جديراً بها.

وجلالة القدر وطيب الذكر وبيان الأثر وشهرة الخير وعلو المدح وعظمة المجد

__________________

(1) أوهطه: أضعفه وأثخنه بالجراحة وصرعه صرعة لا يقوم منها.

(2) إبصار العين: 35.

(3) البحار 98 / 245 باب 35.

١٣٥

كلها تناسب العالم الذي قد ذاع صيته وانتشر علمه وأدبه وخلف من وراءه تراثاً ينفع ويؤتي أكله كل حين باذن ربه فيكون له لسان صدق في الآخرين.

تشويه التاريخ:

لقد كان من نفوذ بصيرة العباس أنّه لم تقنعه هاتيك التضحية المشهودة منه والجهاد البالغ حدّه حتى راقه أن يفوز بتجهيز المجاهدين في ذلك المأزق الحرج والدعوة إلى السعادة الخالدة في رضوان الله الأكبر، وأن يحظى بأجور الصابرين على ما يلم به من المصاب بفقد الأحبة، فدعى أخوته من أمه وأبيه، وهم عبد الله وجعفر وعثمان وقال لهم: تقدّموا حتى أراكم نصحتم لله ولرسوله فانه لا ولد لكم (1) فانه أراد بذلك تعريف اخوته حق المقام، وأنّ مثولهم بهذا الموقف لم يكن مصروفاً إلّا إلى جهة واحدة، وهي المفادات والتضحية في سبيل الدين إذ لم يكن لهم أي شائبة أو شاغلة تلهيهم عن القصد الأسنى من عوارض الدنيا من مراقبة أمر الأولاد بعدهم ومن يرأف بهم ويربيهم، فاللازم حينئذ السير إلى الغاية الوحيدة، وهي الموت دون حياة الشريعة المقدسة، فكانوا كما شاء ظنه الحسن بهم حيث لم يألوا جهداً في الذب عن قدس الدين حتى قضوا كراماً متلفعين بدم الشهادة.

ولكن هلمّ واقرأ العجيب الغريب فيما ذكر ابن جرير الطبري في التاريخ (2) قال: وزعموا أنّ العباس بن علي قال لأخوته من أمه وأبيه عبد الله وجعفر وعثمان: يا بني أمي تقدّموا حتى أرثكم فانّه لا ولد لكم، ففعلوا وقتلوا.

وقال أبو الفرج في «مقاتل الطالبين»: قدم أخاه جعفر بين يديه لأنّه لم يكن له ولد ليحوز ميراثه العباس، فشدّ عليه هاني بني ثبيت فقتله.

__________________

(1) إرشاد المفيد: 240.

(2) تاريخ الطبري 6 / 257.

١٣٦

وفي مقتل العباس قال: قدم أخوته لأمه وأبيه فقتلوا جميعاً فحاز مواريثهم، ثم تقدم وقتل، فورثهم وإياه عبيد الله ونازعه في ذلك عمه عمر بن علي فصولح على شيء رضى به.

هذا غاية ما عندهما وقد تفردوا به من بين المؤرخين وأرباب المقاتل، ولا يخفى على من له بصيرة وتأمل بعده عن الصواب، وما أدري كيف خفي عليهما حيازة العباس ميراث أخوته مع وجود أُمهم «أم البنين» وهي من الطبقة المتقدمة على الأخ، ولم يجهل العباس شريعة تربى في خلالها.

على أنّ هذه الكلمة لا تصدر من أدنى الناس سيما في ذلك الموقف الذي يذهل الواقف عن نفسه وماله، فأي شخص كان يدور في خلده ذلك اليوم حيازة المواريث بتحريض ذويه واخوته للقتل، وعلى الأخص يصدر ذلك من رجل يعلم أنّه لا يبقى بعدهم، ولا يتهنأ بمالهم، بل يكون فعله لمحض أن تتمتع به أولاده.

بئست الكلمة القبيحة التي راموا أن يلوثوا بها ساحة ذلكل السيد الكريم، فهل ترغب أنت أن يقال لك: عرضت اخوتك وبني أمك لحومة الوغى لتحوز مواريثهم؟! أم أنّ هذا من الدناءة والخسة فلا ترضاه لنفسك! كما لا يرغب به سوقة الناس وأدناهم؟

فكيف ترضى أيها المصنف ذلك لمن علّم النسا الشهامة وكرم الأخلاق وواسى حجة زمانه بنفسه الزاكية؟

وكيف ينسب هذا لخريج تلك الجامعة العظمى والمدرسة الكبرى، جامعة النبوة ومدرسة الامامة، وتربى بحجر أبيه، وأخذ المعارف منه ومن أخويه الامامين؟!

ولو تأمل جيداً في تقديمه إياهم للقتل لعرفنا كبر نفسه وغاية مفاداته عن أخيه السبط، فلذة كبد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومهجة البتول، فانّ من الواضح البين أنّ غرضه من تقديمهم للقتل:

١٣٧

أولاً: إمّا لأجل أن يشتدّ حزنه ويعظم صبره ويرزاً بهم، ويكون هو المطالب بهم يوم القيامة؛ إذ لا ولد لهم يطالبون بهم.

ثانياً: وإمّا لأجل حصول الاطمئنان والثقة من الفاداة دون الدين أمام سيد الشهداء، ويشهد له ما ذكره الشيخ المفيد في «الارشاد» وابن نما في «مثير الأحزان» من قوله لهم: تقدّموا حتى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله فانه لا ولد لكم».

ولم يقصد بهم المخايل وإنّما رام أبو الفضل أن يتعرف مقدار ولائهم لقتيل العبرة، وهذا منه عليه‌السلام إرفاقاً بهم وحناناً عليهم وأداء حق الاخوة بارشادهم إلى ما هو الأصلح لهم.

ثالثاً: وإمّا أن يكون غرضه الفوز بأجر الشهادة بنفسه والتجهيز للجهاد بتقديم اخوته ليثاب أيضاً بأجر الصابرين ويحوز كلتا السعادتين.

وربما يدل عليه ما ذكره أبو الفرج في مقتل عبد الله من قول العباس له: «تقدم بين يدي حتى أراك قتيلاً واحتسبك» فكان أول من قتل من أخوته.

وذكر أبو حنيفة الدينوري: أنّ العباس قال لأخوته: تقدموا بنفسي أنتم وحاموا عن سيدكم حتى تموتوا دونه، فتقدموا جميعاً وقتلوا.

ولو أراد أبو الفضل من تقديمهم للقتل حيازة مواريثهم - وحاشاه - لم يكن لاحتساب أخيه عبد الله معنى، كما لا معنى لتفديتهم بنفسه الكريمة كما في «الأخبار الطوال».

وهناك مانع آخر من ميراث العباس لهم وحده، حتى لو قلنا - على بعد ومنع - بوفاة أم البنين يوم الطف، فان ولد العباس لم يكن هو الحائز لمواريثهم لوجود الأطراف وعبيد الله بن النهشلية، فانهما يشتركان مع العباس في الميراث، كما يشاركهم سيد شباب أهل الجنة وزينب العقيلة وأم كلثوم ورقية وغيرهم من أولاد أمير المؤمنين عليه‌السلام .

١٣٨

فكيف - والحال هذا - يختص العباس بالميراث وحده.

هذا كله إن قلنا بوفاة أم البنين يوم الطف، ولكن التاريخ يثبت حياتها يومئذٍ وأنّها بقيت بالمدينة وهي التي كانت ترثي أولادها الأربعة.

والذي أظنه أنّ منشأ ذلك التقوّل على ال عباس أنّه أوقفهم السير على قوله لاخوته «لا ولد لكم» من غير روية وتفكير في غرضه ومراده، فحسبوه أنّه يريد الميراث، فنوّه به واحد باجتهاده أو إحتماله، وحسبه الآخرون رواية، فشوّهوا به وجه التاريخ ولم يفهموا المراد، ولا أصابوا شاكلة الغرض، فان غرضه من قوله «لا ولد لكم» تراقبون حاله بعدكم، فأسرعوا في نيل الشهادة والفوز بنعيم الجنان.

على أنّ العلامة الشيخ عبد الحسين الحلي في «النقد النزيه» (1) احتمل تصحيف «أرثكم» من «أزء بكم» أو «أرزأكم» وليس هذا ببعيد.

وأقرب منه احتمال الشيخ الحجة آغا بزرك مؤلف «كتاب الذريعة» تصحيف «أرثكم» من «أرثيكم» فكأنّه عليه‌السلام أراد:

أولاً: أن يفوز بالارشاد إلى ناحية الحق.

وثانياً: تجهيز المجاهدين.

وثالثاً: البكاء عليهم ورثاءهم فانه محبوب للمولى تعالى.

ويشبه قول العباس لأخوته قول عابس بن أبي شبيب الشاكري لشوذب مولى شاكر: يا شوذب ما في نفسك أن تصنع؟

قال: أقاتل معك دون ابن نبي رسول الله حتى أقتل.

فقال: ذلك الظن لك، فتقدم بين يدي أبي عبد الله حتى يحتسبك كما احتسب غيرك من الصحابة، وحتى احتسبك أنا فانه لو كان معي الساعة أحد أنا أولى به

__________________

(1) النقد النزيه 1 / 99.

١٣٩

منك لسرني أن يتقدم بين يدي حتى احتسبه، فانّ هذا يوم ينبغي لنا أن نطلب الأجر فيه بكل ما قدرنا عليه، فانّه لا عمل بعد اليوم وإنما هو الحساب (1) .

* * *

__________________

(1) الطبري 1 / 254.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378