أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين15%

أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 378

أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين
  • البداية
  • السابق
  • 378 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 165741 / تحميل: 9088
الحجم الحجم الحجم
أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

الفصل العاشر

أم البنين وثورة عاشوراء

١٤١

أم البنين عليها‌السلام

ورحيل الحسين عليه‌السلام عن المدينة

لما دخل الامام الحسين عليه‌السلام على الوليد نعى اليه معاوية فاسترجع الامام.

قال له: لماذا دعوتني؟

قال: دعوتك للبيعة.

فطلب منه الامام تأجيل البيعة قائلاً: إنّ مثلي لا يبايع سراً ولا يجتزىء بها مني سراً، فاذا خرجت إلى الناس ودعوتهم للبيعة دعوتنا معهم كان الأمر واحداً...

لقد أراد الامام أن يعلن رأيه أمام الجماهير في رفضه البيعة ليزيد، وعرف مروان قصده فصاح بالوليد:

ولئن فارقك - يعني الحسين عليه‌السلام - الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، إحبسه فان بايع وإلّا ضربت عنقه.

ووثب أبي الضيم كالأسد فقال للوزغ ابن الوزغ:

يا ابن الزرقاء أأنت تقتلني أم هو؟ كذبت والله ولؤمت (١) .

__________________

(١) تاريخ ابن الاثير ٣ / ٢٦٤.

١٤٢

وأقبل على الوليد فأخبره عن عزمه وتصميمه على رفضه الكامل للبيعة ليزيد قائلاً: أيّها الأمير إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحل الرحمة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر، وقاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون، أينا أحقّ بالخلافة والبيعة... (١) .

وبعد ما أعلن الامام رفضه الكامل لبيعة الطاغية يزيد عزم على مغادرة يثرب (٢) .

روى عبد الله بن سنان الكوفي عن أبيه عن جدّه قال: خرجت بكتاب أهل الكوفة إلى الحسين عليه‌السلام ، وهو يومئذٍ بالمدينة، فأتيته فقرأه فعرف معناه فقال: انظرني إلى ثلاثة أيام، فبقيت في المدينة، ثم تبعته إلى أن صار عزمه بالتوجه إلى العراق، فقلت في نفسي: أمضي وأنظر إلى ملك الحجاز كيف يركب؟ وكيف جلالته وشأنه؟

فأتيت إلى باب داره فرأيت الخيل مسرجة والرجال واقفين والحسين عليه‌السلام جالس على كرسي وبنو هاشم حافون به، وهو بينهم كأنه البدر ليلة تمامه وكماله، ورأيت نحواً من أربعين محملاً، وقد زينت المحامل بملابس الحرير والديباج.

قال: فعند ذلك أمر الحسين عليه‌السلام بني هاشم بأن يركبوا محارمهم على المحامل، فبينما أنا انظر وإذا بشاب قد خرج من دار الحسين عليه‌السلام وهو طويل القامة ووجهه كالقمر الطالع، وهو يقول: تنحو يا بني هاشم، وإذا بامرأتين قد خرجتا من الدار وهما تجران أذيالهما على الأرض حياءً من الناس، وقد حفت بهما إماؤها، فتقدم ذلك الشاب إلى محمل من المحامل وجثى على ركبتيه وأخذ بعضديهما وأركبهما المحمل.

فسألت بعض الناس عنهما، فقيل: أما أحدهما فزينب والأخرى أم كلثوم بنتا أمير المؤمنين.

__________________

(١) حياة الامام الحسين ٢ / ٢٥٥.

(٢) السيدة زينب (للقرشي): ١٩١.

١٤٣

فقلت: ومن هذا الشاب؟

فقيل لي: هو قمر بني هاشم العباس ابن أمير المؤمنين.

ثم رأيت بنتين صغيرتين كأنّ الله - تعالى - لم يخلق مثلهما، فجعل واحدة مع زينب والأخرى مع أم كلثوم، فسألت عنهما، فقيل لي: هما سكينة وفاطمة بنتا الحسين عليه‌السلام .

ثم خرج غلام آخر كأنه البدر الطالع ومعه امرأة وقد حفت بها إماؤها، فأركبها ذلك الغلام المحمل، فسألت عنها وعن الغلام، فقيل لي: أما الغلام فهو علي الأكبر ابن الحسين عليه‌السلام والامرأة أمه ليلى زوجة الحسين عليه‌السلام .

ثم خرج غلام وجهه كفلقة القمر ومعه امرأة، فسألت عنها فقيل لي: أما الغلام فهو القاسم بن الحسن المجتبى والامرأة أمه.

ثم خرج شاب آخر وهو يقول: تنحوا عني يا بني هاشم، تنحو عن حرم أبي عبد الله، فتنحى عنه بنو هاشم، وإذا قد خرجت امرأة من الدار وعليها آثار الملوك وهي تمشي على سكينة ووقار، وقد حفت بها إماؤها، فسألت عنها، فقيل لي: أما الشاب فهو زين العابدين ابن الامام وأمّا الامرأة فهي أمه شاه زنان بنت الملك كسرى زوجة الامام، فأتى بها وأركبها على المحمل.

ثم أركبوا بقية الحرم والأطفال على المحامل، فلما تكاملوا نادى الامام عليه‌السلام :

أين أخي؟ أين كبش كتيبتي؟ أين قمر بني هاشم؟

فأجابه العباس: لبيك لبيك يا سيدي.

ففقال له الامام عليه‌السلام : قدّم لي يا أخي جوادي.

فأتى العباس عليه‌السلام بالجواد اليه، وقد حفت به بنو هاشم، فأخذ العباس بركاب الفرس حتى ركب الامام.

ثم ركب بنو هاشم وركب العباس وحمل الراية أمام الامام.

١٤٤

قال: فصاح أهل المدينة صيحة واحة وعلت أصوات بني هاشم بالبكاء والنحيب وقالوا: الوداع.. الوداع، الفراق.. الفراق.

فقال العباس: هذا والله يوم الفراق والملتقي يوم القيامة.

ثم صاروا قاصدين كربلاء مع عياله وجميع أولاده ذكوراً وإناثاً إلا ابنته فاطمة الصغرى، فانها كانت مريضة (١) .

وكأني بأم البنين عليها‌السلام تشهد هذا الموقف الذي تتألم له صم الصخور، وهي تودع ريحانة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحرمه وابناءها البررة، وتوصي أولادها بأخواتهم وسيدهم ومولاهم الحسين عليه‌السلام ، وتقول لهم: كونوا فداءً لسيدكم وكونوا له عيناً ودرعاً، واجعلوا قلوبكم دروعكم للدفاع عنه وعن حرمه، ولا تقصروا في الذبّ عنه، وبيضوا وجهي عند أمه وأبيه وجده وأخيه وعنده.

حوار بين أم البنين عليها‌السلام وبشير:

قال في «اللهوف»: قال الراوي: ثم انفصلوا من كربلاء طالبين المدينة قال بشير بن حذلم: فلما قربنا منها نزل علي بن الحسين فحط رحله وضرب فسطاطه وأنزل نساءه وقال: يا بشر رحم الله أباك لقد كان شاعراً فهل تقدر على شيء منه؟

فقلت: بلى يا ابن رسول الله، إني لشاعر.

فقال عليه‌السلام : ادخل المدينة وانع أبا عبد الله.

قال بشير: فركبت فرسي وركضت حتى دخلت المدينة، فلما بلغت مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رفعت صوتي بالبكاء فأنشأت أقول:

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها

قتل الحسين فأدمعي مدرار

الجسم منه بكربلاء مضرج

والرأس منه على القناة يدار

__________________

(١) معالي السبطين ١ / ٢٢١.

١٤٥

قال: ثم قلت: هذا علي بن الحسين عليه‌السلام مع عماته وأخواته قد حلوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم، وأنا رسوله اليكم أعرفكم مكانه.

قال: فما بقيت في المدينة مخدرة ولا محجبة إلّا برزن من خدورهن، مكشوفة شعورهن، مخمشة وجوههن، ضاربات خدودهن، يدعون بالويل والثبور، فلم أر باكياً أكثر من ذلك اليوم، ولا يوماً أمرّ على المسلمين منه (١) .

قال بشير: ورأيت امرأة كبيرة تحمل على عاتقها طفلاً وهي تشق الصفوف نحوي، فلمّا وصلت قالت: يا هذا أخبرني عن سيدي الحسين عليه‌السلام ، فعلمت أنها ذاهلة؛ لأني أنادي «قتل الحسين» وهي تسألني عنه، فسألت عنها، فقيل لي: هذه أم البنين عليها‌السلام ، فأشففت عليها وخفت أن أخبرها بأولادها مرة واحدة.

فقلت لها: عظم الله لك الأجر بولدك عبد الله.

فقالت: ما سألتك عن عبد الله، أخبرني عن الحسين عليه‌السلام .

قال: فقلت لها: عظم الله لك الأجر بولدك عثمان.

فقالت: ما سألتك عن عثمان، أخبرني عن الحسين عليه‌السلام .

قلت لها: عظم الله لك الأجر بولدك جعفر.

قالت: ما سألتك عن جعفر، فانّ ولدي وما أظلته السماء فداءً للحسين عليه‌السلام ، أخبرني عن الحسين عليه‌السلام .

قلت لها: عظم الله لك الأجر بولدك أبي الفضل العباس.

قال بشير: لقد رأيتها وقد وضعت يديها على خاصرتها وسقط الطفل من على عاتقها وقالت: لقد والله قطعت نياط قلبي، أخبرني عن الحسين.

قال: فقلت لها: عظم الله لك الأجر بمصاب مولانا أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام .

__________________

(١) معالي السبطين ٢ / ٢٠٣.

١٤٦

ما أعظم موقفها عليها‌السلام وأعظم مصابها برزية الامام، مما يكشف عن مدى إيمانها ورسوخ اعتقادها وولاءها الوثيق وحبها الذي يوصف للحسين عليه‌السلام ، ولطالما كانت تقول: ليت أولادي جميعاً قتلوا وعاد أبو عبد الله الحسين عليه‌السلام سالماً.

إنّ شدة حبها للحسين يكشف عن علو مرتبتها في الايمان وقوة معرفتها بمقام الامامة بحيث تستسهل شهادة أولادها الأربعة - وهم لا نظير لهم أبداً - في سبيل الدفاع عن إمام زمانها (١) .

قال السيد محمد كاظم الكفائي:

أم على أشبالها أربع

جاءت لبشر وبه تستعين

وتحمل الطفل على كتفها

تستهدي فيه خبر القادمين

ملهوفة مما بها من أسى

ترى بذاك الجمع شيئاً دفين

فقال يا أم ارجعي للخبا

وابكي بنيك قتلوا أجمعين

فما انئنت وما بكت أمهم

وخاب منه ظنه باليقين

كأنهم الطود وما زلزلت

وحق أن تجري لهم دمع عين

فقال يا أم البنين اعلمي

بأن عباساً قتيلاً طعين

قالت طعنت القلب مني فقل

النفس والدنيا وكل البنين

نمضي جميعاً كلنا للفنا

نكون قرباناً فدىً للحسين

فقال يا أم البنين البسي

ثوب حداد الحزن لا تنزعين (٢)

لقاء أم البنين عليها‌السلام مع زينب الكبرى عليها‌السلام :

كانت أم البنين عليها‌السلام من النساء الفاضلات العارفات بحقّ أهل البيت عليهم‌السلام مخلصة

__________________

(١) أنظر: تنقيح المقال ٣ / ٧٠.

(٢) أم البنين للسيد الكفائي: ٨٢.

١٤٧

في ولائهم ممحضة في مودتهم، ولها عندهم الجاء الوجيه والمحل الرفيع، وقد زادتها زينب الكبرى بعد وصولها المدينة تعزيها بأولادها الأربعة كما كانت تزورها أيام العيد (١) .

ويقال: لمّا دخل بشير إلى المدينة ناعياً الحسين عليه‌السلام وخرج الرجال والنساء وخرجت من جملتهن أم البنين، فلما سمعت بقتل الحسين عليه‌السلام خرّت مغشياً عليها، وحبى عائلة الحسين عليه‌السلام إلى المنازل، فقالت زينب عليها‌السلام : لا أريد أحداً يدخل عليّ في هذا اليوم إلّا من فقدت لها عزيزاً في كربلاء، وجلست في منزلها وجعلت فضة على الباب.

فلما أفاقت أم البنين عليها‌السلام من غشيتها سألت عن الحوراء زينب وعن العائلة فأخبروها بذلك، فبينما هنّ في البكاء والعويل وإذا بالباب تطرق.

فقالت فضة: من بالباب فانّ سيدتي زينب لا تريد أحداً يدخل عليها إلّا من فقدت لها عزيزاً في كربلاء.

فقالت: قولي لسيدتك زينب إنّي شريكتها في هذا العزاء وأريد أن أدخل عليها لأساعدها فاني مثلها في المصاب.

فلما أخبرت فضة زينب قالت: سليها من هي التي تكون مثلي في المصاب، ثم قالت: إن صدق ظني فانها أم البنين عليها‌السلام .

فرجعت فضة وقالت لها: تقول سيدتي من أنت التي مثلها في المصاب؟

قالت: إني الثاكلة أم المصيبة العظمى.

قالت: أوضحي لي؟

قالت: الحزينة صاحبة الفاجعة الكبرى.

قالت: أوضحي لي من تكونين؟

__________________

(١) العباس عليه‌السلام (للمقرم): ٧٢.

١٤٨

قالت: أو ما عرفتني، إنّي أم البنين عليها‌السلام .

فقالت فضة: لقد صدقت سيدتي في ظنها وإنّك - والله - كما تقولين، أم المصيبة العظمى والفاجعة الكبرى، ثم فتحت لها الباب.

فلمّا دخلت استقبلتها زينب واعتنقتها وبكت وقالت: عظم الله لك الأجر في أولادك الأربعة.

قالت: وأنت عظم الله لك الأجر في الحسين عليه‌السلام وفيهم، وبكت وبكى من كان حاضراً (١) .

أم البنين تندب أبناءها:

روى أحمد بن عيسى عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام مسنداً قال: إنّ زيد بن رقاد الجهني وحكيم بن الطفيل الطائي، قتلا العباس بن علي.

وقال أبو الفرج الاصفهاني: وكانت أم البنين عليها‌السلام أم هؤلاء الأربعة الاخوة القتلى تخرج إلى البقيع فتندب بنيها أشجى ندبة وأحرها فيجتمع الناس اليها يسمعون منها، فكان مروان يجيء فيمن يجيء لذلك فلا يزال يسمع ندبتها ويبكي (٢) (٣) .

__________________

(١) مولد العباس لمحمد علي الناصري: ٤٤.

(٢) لقد كانت ندبة أم البنين عليها‌السلام مشجية «صم الصخور لهولها تتألم» ولكن ذلك لا يعني أبداً أن يرقّ قلب الوزغ ابن الوزغ مروان ابن الحكم، فقد يستفاد من قول أبي الفرج أن ندبة أم البنين كانت محرقة للقلوب بحيث تأثر بها مروان على قساوته إلّا أن هذا مما لا يمكن تصويره في حق هذا اللعين، وهو الذي حارب أهل البيت عليهم‌السلام ولم يفتر عن حربهم لحظة من عمره المشؤوم، وهو الذي ألّب عليهم وحرض وكاد لهم أحياءً وأمواتاً، وهو المتشفي بقتل الحسين عليه‌السلام وقد أظهر الفرح والشماته بقوله لما نظر إلى رأس الحسين عليه‌السلام :

يا حبذا بردك في اليدين

ولونك الأحمر في الخدين

كأنه بات بعسجدين

شفيت نفسي من دم الحسين

(٣) مقاتل الطالبيين: ٩٠ ذيل ترجمة العباس عليه‌السلام .

١٤٩

وقال العلامة السماوي في «إبصار العين»: وقد كانت تخرج إلى البقيع كلّ يوم ترثيه وتحمل ولده عبيد الله فيجتمع لسماع رثائها أهل المدينة، وفيهم مروان بن الحكم، فيبكون لشجى الندبة، وكان من قولها عليها‌السلام :

يا من رأى العباس كر

على جماهير النقد

ووراه من أبناء حيدر

كل ليث ذي لبد

انبئت أن ابني أصيب

برأسه مقطوع يد

ولي على شبلي أما

ل برأسه ضرب العمد

ولو كان سيفك في يد

يك لما دنا منه أحد

وقولها عليها‌السلام :

لا تدعوني ويك أم البنين

تذكريني بليوث العرين

كانت بنون لي ادعى بهم

واليوم أصبحت ولا من بنين

أربعة مثل نسور الربى

قد واصلوا الموت بقطع الوتين

تنازع الخرصان أشلائهم

فكلهم أمسى صريعاً طعين

يا ليت شعري أكما أخبروا

بان عباساً قطيع اليمين (١)

أم البنين تحيي ذكرى عاشوراء:

كانت أم البنين من النساء الفاضلات العارفات بزمانها والعارفات بحقّ أهل البيت عليهم‌السلام ، كما كانت فصيحة لسنة ورعة، وكانت ممن حمى حريم الحسين، وأقامة العزاء عليه لتشارك في حفظ ثورته والوفاء لدمه الذي سكن الخلد، وتشكل حلقة مهمة في امتداد الثورة، وتكون صوتاً للحنجرة المقدسة التي قطعت.

وقد اتخذت من أسلوب الندبة والنياحة سبيلاً للنداء بمظلومية الحسين

__________________

(١) إبصار العين: ٣١ - ٣٢.

١٥٠

وآل البيت عليهم‌السلام فكانت - كما مر قبل قليل - تحمل عبيد الله بن العباس وتخرج إلى البقيع تقيم المآتم على قتيل العبرات، وتندب أولادها أشجى ندبة، وتتمنى لو كان الحسين حياً وتموت هي وأولادها ومن على الأرض فداءً له، وكانت تتوخى من وراء ذلك:

١ - إقامة المآتم على سيد الشهداء وريحانة الرسول وتعظيم شعائر الله.

٢ - تعلن للملأ عن شجاعة الحسين وأولادها ومظلوميتهم وتفخر بهم على التاريخ.

٣ - تشرح أحداث كربلاء وما وقع فيها من ظلامات لآل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفجائع يخجل منها كل مخلوق، وتصيغ ذلك بأسلوب الندبة العاطفي، وتعلن بذلك عن اعتراضها على الوضع القائم وحكومة الطاغوت.

٤ - تفضح الحكام الظلمة الذين تسلطوا على مقدرات الأمة وحاولوا تضليل الناس، وقلب الحقائق على مرّ التاريخ، فكانت أم البنين عليها‌السلام تبين الحق والحقيقة من خلال ذلك.

٥ - تحرض الناس ضد بني أمية وأذنابهم وتطالب بدماء الأحراء من آل البيت عليهم‌السلام .

٦ - وكانت تخرج إلى البقيع - مع أن قبر العباس وأخوته في كربلاء - ليجتمع الناس هناك ويتذكرون مظالم الحسن وريحانة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الصديقة الطاهرة وتعيد لهم ذكرياتهم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هناك وتذكرهم بمواقف المسلمين في صدر الاسلام في الذبّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد ضمتهم الآن هذه المقبرة المقدسة.

٧ - وكانت تحمل معها عبيد الله بن العباس - حفيدها - باعتباره كان موجوداً في يوم الطف فهو شاهد عيان ودليل وبرهان حي يروي لهم ولمن سيأتي من الأجيال ويجتمع له أترابه والكبار والصغار....

١٥١

لقد ساهمت أم البنين عليها‌السلام في إبلاغ خطاب عاشوراء إلى المجتمع المعاصر لها وأبلغت مسامع الايام ليتردد صوتها إلى جانب صوت أم المصائب زينب عليها‌السلام حينما وقفت كالطود الشامخ لا تحركه العواصف لتحمي ثورة الحسين عليه‌السلام ، وتحفظ الحق ورسالة التوحيد على طول خط التاريخ.

* * *

١٥٢

الفصل

الحادي عشر

التوسل بأم البنين عليها‌السلام

١٥٣

التوسل بأم البنين عليها‌السلام

من سنن الله الجارية في أوليائه ( وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ) (١) إكرامهم باظهار ما لهم من الكرامة عليه والزلفى منه، وذلك غير ما ادخره لهم من المثوبات الجزيلة في الآجلة، تقديراً لعملهم واصحاراً بحقيقة أمرهم ومبلغ نفوسهم من القوة وحثاً للملأ على اقتفاء آثارهم في الطاعة، ومهما كان العبد يخفى الصالحات من أعماله فالمولى سبحانه يراغم ذلك الاخفاء باشهار فضله، كما يقتضيه لطفه الشامل ورحمته الواسعة وبرّه المتواصل، وأنّه جلت آلاؤه يظهر الجميل من أفعال العباد ويزوي القبيح رأفة منه وحناناً عليهم.

ومن هذا الباب ما نجده على مشاهد المقربين وقباب المستشهدين في سبيل الله من آثار العظمة وآيات الجلال من إنجاح المتوسل بهم اليه - تعالى شأنه - وإجابة الدعوات تحت قبابهم المقدسة، وإزالة المثلات ببركاتهم، وتتأكد الحالة إذا كان المشهد لأحد المنتسبين للبيت النبوي؛ لأنه جلت حكمته ذرأ العالمين لأجلهم؛ ولان يعرفوا مكانتهم فيحتذوا أمثالهم في الأحاكم والأخلاق، فكان من المحتم في باب لطفه وكرمه - عظمت نعمه - أن يصحر الناس بفضلهم الظاهر.

__________________

(١) سورة فاطر: ٤٣.

١٥٤

ومن المنتسبين إلى ذلك البيت الطاهر الذي أذن الله أن يرفع فيه اسمه «أم البنين عليها‌السلام »، فانها في الطليعة من أولئك الذين بذلوا في الله ما عزّ لديهم وهان حتى اتصلت النوبة إلى أولادها وفلذة كبدها، بل أذهبت نفسها في زفراتها الحارة على الحسين وآله عليهم‌السلام ، فكان ذلك كلّه نصب عينه - تعالى ذكره - فأجرى الله سنته الجارية في الصديقين فيها بأجلى مظاهرها؛ ولذلك تجد المؤمنين في أصقاع الأرض يتوسلون بها إلى الله، ويستشفعون بها في حاجاتهم في آناء الليل وأطراف النهار، ويجعلونها باباً من أبواب رحمة الله، فيطرقه أرباب الحوائج من عاف يستمنحه بره، إلى حمى أمنه، إلى أنواع من أهل المقاصد المتنوعة، فينكفأ فلج الفؤاد بنجح طلبيته، قرير العين بكفاية أمره، إلى منتجز باعطاء سؤله، كلّ هذا ليس على الله بعزيز، ولا من المقربين من عباده ببعيد.

توسلوا بأمي أم البنين عليها‌السلام :

يقول المؤلف: حدّث العالم الفقيه آية الله الحاج السيد محمد الحسيني الشيرازي قدس‌سره في تاريخ ٢٧ ذي الحجة الحرام سنة (١٤١٦) ضمن حديثه عن عظمة شخصية أبي الفضل العباس عليه‌السلام :

رأى أحد العلماء في عالم المكاشفة قمر بني هاشم أبا الفضل العباس عليه‌السلام وقال له: سيدي إن لي حاجة فبمن أتوسل حتى تقضي حاجتي؟

فأجابه عليه‌السلام : توسل بأمي أم البنين عليها‌السلام .

ونحن نذكر هنا بعض الختومات وآداب التوسل بتلك السيدة المباركة من المجربات التي رويت عن بعض الأساطين:

١٥٥

١ - إهداء الصلوات:

قال المرحوم آية الله الحاج السيد محمود الحسيني الشاهرودي المتوفي في ١٧ شعبان (٣٩٤ هـ):

إني أصلّي على محمد وآل محمد مائة مرة وأهديها إلى أم البنين عليها‌السلام فتقضي حاجتي.

٢ - نذر الاطعام:

أن ينذر لأم البنين عليها‌السلام ويطعم الفقراء باسم أبي الفضل العباس عليه‌السلام ، وهو من المجربات في قضاء الحوائج.

٣ - ختم سورة «يس»:

قراءة سورة «يس» عشرة مرات في أربع أسابيع كالتالي، وهو مؤثر إن شاء الله تعالى:

يقرأها في ليلة الجمعة من الأسبوع الأول ثلاث مرات، وفي ليلة الجمعة من الأسبوع الثاني يقرأ ثلاث، وفي ليلة الجمعة من الأسبوع الثالث يقرأ ثلاث أيضاً، وفي ليلة الجمعة الأخيرة في الأسبوع الرابع يقرأها مرة واحدة ويهديها لأم البنين عليها‌السلام نيابة عن أبي الفضل العباس عليه‌السلام ، فانه ستقضى حاجته إن شاء الله على أتم وجه.

٤ - تجهيز من يزور كربلاء نيابة عن أم البنين عليها‌السلام :

حدثني الحاج الشيخ محمود الخليلي في شوال المكرم سنة (١٤١٨ هـ) في منزل آية الله السيد شهاب الدين المرعشي النجفي قدس‌سره قال:

إنّ آية الله الحاج السيد محمد الروحاني قدس‌سره كان يتوسل في المهمات والمشاكل المعضلة بأم البنين عليها‌السلام ، وكان توسّله بتلك المخدرة المجللة أن ينذر لله أن

١٥٦

يقضي حاجته ويكشف كربته على أن يبعث إلى كربلاء من يزور هناك نيابة عن أم البنين عليها‌السلام ، ويتحمّل كافة مصروفات سفره.

وأتذكر جيداً أني حظيت في سنة (١٣٨٣ هـ) بشرف زيارة كربلاء نيابة عن السيدة أم البنين من قبل السيد قدس‌سره فدفع لي مبلغ «نصف دينار» ما يعادل عشرة دراهم، وكانت الأجرة يومها ذهاباً وإياباً تتراوح بين ثلاثة أو أربعة دراهم.

قال أيضاً: ابتلي آية الله الروحاني ذات مرة بألم شديد في سنّه، وكن ألماً مبرحاً لا يطاق، فراجع طبيبه الدكتور الطريحي فلم يجده، فلما اشتد الألم اشتداداً مروعاً نذر لله إن نجّاه من هذا الألم أن يستأجر من يزور كربلاء نيابة عن أم البنين عليها‌السلام في ليلة الجمعة القادمة، فلم تمض لحظات حتى سكن الألم وكأن لم يكن شيئاً، وفي عصر اليوم التالي عاد الالم مجدداً فقال السيد: يبدو أن الطبيب قد حضر، فراجعه فوجده في مطبه، فقلع سنه وارتاح من بلائه، كلّ ذلك ببركة أم البنين عليها‌السلام .

وأضاف الشيخ الخليلي: إنّي علّمت هذا التوسل بهذه الطريقة لكثير من ذوي الحاجات فكان نافعاً في قضاء حوائجهم وكشف كربهم.

٥ - إهداء الصلوات للمعصومين وقراءة دعاء التوسل:

ختم مذكور في كتاب «مجموعة علم جعفر» ووقته بعد صلاة الفجر أو بعد صلاة العشاء، والأفضل أن يشرع به في أول الشهر وهو كالتالي:

في اليوم الأول: ألف مرة «اللهم صلّ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم» ويهديخا إلى خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وفي اليوم الثاني: أيضاً ألف مرة على النحو المذكور لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام .

١٥٧

وفي اليوم الثالث: لسيدة النساء فاطمة الزهراء عليها‌السلام .

وفي اليوم الرابع: للامام المجتبى ريحانة الرسول الحسن المظلوم عليه‌السلام .

وهكذا على عدد المعصومين عليهم‌السلام حتى يصل إلى صاحب الأمر والزمان - أرواح العالمين له الفداء -.

وفي اليوم الخامس عشر: أيضاً ألف مرة على النحو المذكور لأبي الفضل العباس عليه‌السلام .

وفي اليوم السادس عشر: لأم البنين عليها‌السلام

وفي اليوم السابع عشر: لزينب الكبرى عليها‌السلام .

وفي اليوم الأخير: بعد أن ينتهي من الصلوات يقرأ الدعاء المعروف المذكور في مفاتيح الجنان وأوله «اللهم إني أسألك وأتوجه اليك بنبيك نبي الرحمة...».

قال في الكتاب المذكور: نقل لي من أثق به أنّ جماعة التزموا هذا الختم وأدوه جماعة، فلمّا انتهوا منه تشرفوا بزيارة العباس عليه‌السلام فقال لهم: «حاجتكم مقضية».

أقسم الرجل المذكور أيماناً مغلظة قائلاً: كنّا جماعة وقد قضى الله حوائجنا جميعاً والحمد لله (١) .

٦ - قراءة الفاتحة لام البنين عليها‌السلام :

مما اشتهر بين الناس سيما من يعرف منهم مقام أم البنين عليها‌السلام ومنزلتها أنّه إذا فقد حاجة وضاعت منه وأراد أن يبحث عنها فانّه يقرأ سورة الفاتحة ويصلي على محمد وآل محمد ويهديها لأم البنين عليها‌السلام ، فانّه يجد ضالته باذن الله، وقد جرب ذلك مراراً.

__________________

(١) استفدنا ذلك من مذكرات السيد مرتضى المجتهدي السيستاني.

١٥٨

٧ - إهداء ختمة قرآن لأم البنين عليها‌السلام :

بعث الحاج الشيخ محمد علي إسلامي رسالة إلى «انتشارات مكتب الحسين عليه السالم» بتاريخ ذي الحجة الحرام (١٤١٩ هـ) وقال فيها:

«.. إنّي المدعو «محمد علي بن أحمد الاسلامي» حدثت لي معضلة لا يمكن حلّها عادة، وكانت متعلقة بعدة دوائر رسمية، وقد سدّت جميع الأبواب في وجهي، ولم أجد أي حيلة أو سبيل لحلّها، فتوسلت بالسيدة أم البنين عليها‌السلام وقلت لها: سيدتي أُم البنين.. إنّ لك عند الله جاهاً عريضاً وأنا سأختم القرآن الكريم وأهدي ثوابه لروحك المقدسة وفي المقابل توسلي أنت إلى الله في حلّ مشكلتي.

أجل؛ هكذا نذرت وشرعت في تلاوة القرآن الكريم وقبل إتمام الختمة تيسر أُموري كلّها وقضيت حاجتي، فكنت إذا راجعت أي دائرة من الدوائر وجدت السبيل مفتوحة والأُمور ميسرة والوجوه طلقة، وكأن لم يكن شيئاً مذكوراً.

هكذا هي هذه الأُسرة الجليلة شفيعتنا في الدنيا والآخرة.

٨ - إهداء زيارة عاشوراء لأم البنين عليها‌السلام :

السيد محمد حسين جعفر زاده عقيد متقاعد يسكن في منطقة «عظيمية» في كرج من ضواحي طهران العاصمة.. أرسل رسالة إلى «مكتب الحسين عليه‌السلام » ذكر فيها كرامة لقمر العشيرة أبي الفضل العباس عليه‌السلام وضمّنها توسلين بأُم البنين عليها‌السلام فقال:

١ - قضيت ثلاثين سنة من عمري في خدمة الجيش في الجمهورية الإسلامية، ومن ثم أحلت على التقاعد، فقدمت لي دعوة من «منظمة الاعلام الاسلامي» أولاً، ومن ثُمَّ من إحدى المراكز الناشطة في المدينة «كرج» لأقوم بتدريس فن قراءة المراثي وإقامة العزاء «ما يسمى عند الناس بالرادود» فقبلت الدعوة وشرعت بالتدريس على بركة الله، وقد كتبت - لحد الآن - أربعة كتب في هذا الفن وقدمتها لخدام المنبر الحسيني.

١٥٩

وفي ذات يوم - وكان اليوم جمعة - كنت مشغولاً بالتدريس وقت الحصر إذ دخل أحد التلاميذ ذاهلاً فاستأذن وقال: إنّ أبي الآن يعالج الموت، وقد تركته في سكراته محتضراً ووجهته إلى القبلة، وجئت لأعتذر اليك عن التأخير وأعود اليه.

فقلت له: اسمع مني سأروي لك حديثاً عن سيدتي فاطمة الزهراء عليها‌السلام فانها قالت: سألت أبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أي ساعة أفضل لاستجابة الدعاء؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : عند الغروب يوم الجمعة.

فنحن ندعو ولكن الأفضل أن تنذر أنت أيضاً نذراً قال: إنّي الآن في حالة من الاضطراب وتشتت البال بحيث لا أدري ماذا أفعل وماذا أنذر، أرجوا أن تنصحني وتعلمني وترشدني إلى ما أفعل؟

فقلت له: إنذر الآن أن تقرأ زيارة عاشوراء عشرة مرات وتهديها لأم البنين عليها‌السلام بقصد شفاء والدك.

فقال: أفعل، ورجع إلى البيت مسرعاً، فلمّا دخل البيت بلغ به العجب غايته، إذ رأى أباه واقفاً في ساحة الدار مشتغلاً بالوضوء والاستعداد لصلاة المغرب، فسأل عن ذلك، فأخبروه أنّه منذ نصف ساعة تقريباً انقطعت عنه الحمى فجأة وأخذ يتماثل إلى الشفاء وبدأت أعراض المرض تزول منه حتى قام قائماً على قدميه.

قال العقيد جعفر زاده:

وها هو ذا الأب حفظه الله يشتغل بالقرب منا يزاول عمله سالماً غانماً.

٢ - في يوم ٢٢ رمضان سنة ١٤٢٠ قالت لي زوجتي: إنّ تحت ابطي غدة بحجم «بيضة»، وبقيت على هذه الحال إلى أن انتهى الشهر الكريم، فراجعنا الطبيب الجراح فأخذ نموذجاً من الغدة وأرسلها إلى ال مختبر لتجرى عليها زراعة وتحليل لتشخيصها، إلّا أنّه لوّح لنا في كلامه إلى أنّها غدة خبيثة، وكانت نظرات العاملين في المختبر تحكى ذلك أيضاً. فتوجهت إلى الأئمة الأطهار وتوسلت بهم

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

المقالة هم جمهور النصارى من الملكانية واليعقوبية، والنسطورية والمقصود أنّه أحد الثلاثة: الأب والإبن وروح القدس أي أنّه ينطبق على كل واحد من الثلاثة وهذا لازم قولهم: إنّ الأب إله، والإبن إله، والروح إله، وهو ثلاثة وهو واحد، ويمثّلون لذلك بقولهم: إنّ زيد بن عمرو إنسان فهناك اُمور ثلاثة هي زيد، وابن عمرو والإنسان، وهناك أمر واحد وهو المنعوت بهذه النعوت.

ويلاحط عليه: أنّ هذه الكثرة إن كانت حقيقية غير اعتبارية أوجبت الكثرة في المنعوت حقيقة، وإنّ المنعوت إن كان واحداً حقيقة أوجب ذلك أن تكون الكثرة إعتباريّة غير حقيقيّة، فالجمع بين هذه الكثرة العددية والوحدة العددية كما في المثال بحسب الحقيقة ممّا يستنكف العقل عن تعقله.

ولأجل ذلك التجأ دعاة النصارى في الآونة الأخيرة إلى القول بأنّ مسألة التثليث من المسائل المأثورة من مذاهب الأسلاف وهي لا تخضع للموازين العلميّة(١) .

وقد ردّ الذكر الحكيم على ذلك بقوله:( وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إلّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ) ببيان أنّ الله سبحانه لا يقبل بذاته المتعالية، الكثرة بوجه من الوجوه، فهو تعالى ذاته واحد وإذا اتّصف بصفاته الكريمة وأسمائه الحسنى لم يزد ذلك على ذاته الواحدة شيئاً، ولا الصفة إذا اُضيفت إليها أورثت كثرة وتعدّداً، فهو تعالى أحديّ الذات لا ينقسم لا في خارج ولا في وهم ولا في عقل.

ويستفاد من قوله:( وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) بحكم الإتيان بلفظ ( منهم ) المشعرة بالتبعيض ـ، أنّ هناك طائفة لا يعتقدون بالتثليث ولا يقولون في المسيح إلّا إنّه عبد الله ورسوله كما عليه مسيحيّة الحبشة بعضهم أو جلّهم.

__________________

(١) الميزان: ج ٤ ص ٧٠.

٢٤١

مشكلة الجمع بين التوحيد والتثليث:

إنّ المسيحيّين يعتبرون أنفسهم موّحدين وإنّهم من المقتفين أثر التوحيد الذي جاءت به جميع الشرائع السماوية، ومن جانب آخر يعتقدون بالتثليث اعتقاداً جازماً، وهذان لا يجتمعان إلّا أن يكون أحد الوصفين حقيقيّاً والآخر مجازيّاً ولكنّهم ياللأسف يقولون بكونهما معاً حقيقيين، ولأجل ذلك أصبحت عندهم: ١ = ٣ وهو محال ببداهة العقل.

والقرآن الكريم ينسب التثليث إلى أقوام آخرين كانوا قبل المسيح والمسيحيّة وهؤلاء إنّما اتّبعوا اُولئك، ولعلّ الثالوث الهندي هو الأصل حيث يعتقدون بأنّ الإله الواحد له مظاهر ثلاثة: « برهما »: « الموجد »، و « فيشفو »: « الحافظ »، و « سيفا »: « المميت » فقد دان بتلك العقيدة المسيحيّون بعد رفع المسيح آماداً متطاولة، ولـمـّا جاء المتأخّرون منهم ورأوا أنّ الوحدة الحقيقية لا تخضع للكثرة كذلك حاولوا أن يصحّحوه بوجهين:

الأوّل: تفكيك المسائل الدينية عن المسائل العلميّة وأنّ الدين فوق العلم وأن مسألة ١ = ٣ وإن كانت باطلة حسب القوانين الرياضية المسلّمة ولكن الدين قبلها ونحن نعتقد بها. ولكنّه عذر أقبح من ذنب فكيف نعتنق ديناً يتصادم مع أوضح الواضحات وأبده البديهيّات.

الثاني: إنّ المعادلة الرياضية السابقة ليست باطلة وذلك لوجود نظائرها في الخارج، فإنّ الشمس بها جرم ولها نور ولها حرارة ومع ذلك فهي شيء واحد.

وهذا الإستدلال يكشف عن جهل مطبق بحقيقة الوحدة المعتبرة في حقه سبحانه فإنّ المقصود منها في حقّه هو الوحدة الحقيقية التي لا كثرة فيها لا خارجاً ولا ذهناً ولا وهماً وأين هو من وحدة الشمس التي هي وحدة إعتبارية لا حقيقية حيث تتركّب من جرم ونور وحرارة وكل منها ينقسم إلى انقسامات.

وعلى كلّ تقدير فماذا يريدون من قولهم ( إنّه إِله واحد ) وفي الوقت نفسه

٢٤٢

ثلاثة، فهل يريدون أنّ هناك أفراداً متميّزة ومتشخّصة من الإله الصادق هو عليهم صدق الكلي على الأفراد ؟

أو يريدون أنّ هناك فرداً واحداً ذا أجزاء وليس لكل واحد منها إستقلال ولا تشخّص وإنّما يتشكّل الإله من تلك الأجزاء ؟

فالفرض الأوّل يستلزم تعدّد الإله تعدّداً حقيقيّاً وهو لا يجتمع مع التوحيد بحال من الحالات.

والفرض الثاني لا يخلو إمّا أن يكون كل واحد من هذه الأجزاء واجبة الوجود أو ممكنة، فعلى الأوّل يلزم منه كثرة الإله ( واجب الوجود ) وهم يدّعون الفرار منه.

وعلى الثاني يلزم أن يكون واجب الوجود محتاجاً في تحقّقه وتشخّصه إلى أجزاء ممكنة وهو كما ترى.

ولأجل ذلك نرى أنّ الذكر الحكيم ينادي ببطلان التثليث بأيّ نحو يمكن أنّ يتصوّر بقوله:( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إلّا الحَقَّ إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللهِ وَكِيلاً ) ( النساء / ١٧١ ).

إنّ الآية تركّز على أنّ نسبة الإلوهيّة إلى المسيح من آثار الغلوّ في حقّه فلو تنزّه القوم عن هذا التمادي الفكريّ المفرط لوقفوا على سمة المثالية فيه ونفوا عنه مقام الإلوهية.

والآية تصف المسيح بالصّفات الخمس:

١ ـ عيسى بن مريم ٢ ـ رسول الله ٣ ـ كلمته ٤ ـ ألقاها إلى مريم ٥ ـ روح منه. إنّ بعض هذه الصفات المسلّمة في حق المسيح تشهد بعبوديّته وتنفي الوهيّته وإليك مزيد من التوضيح حولها:

٢٤٣

١ ـ عيسى بن مريم: وقد ورد في الذكر الحكيم ذكره عشر مرّات وبنوّته لمريم التي لا تنفك عن كونه جنيناً رضيعاً في المهد صبيّاً يافعاً و لدليل واضح على بشريّته.

٢ ـ رسول الله: ومعناه مبعوثه ومرسله وليس نفسه.

٣ ـ كلمة الله: وقد أطلق القرآن لفظ الكلمة على المسيح كما أطلقه على جميع الموجودات الإمكانية وقال:( قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ) ( الكهف / ١٠٩ ).

وأمّا إطلاق الكلمة على الموجودات الإمكانية لأجل وجود التشابه بين الكلمة والموجود الإمكاني فإنّ الكلمة تكشف عمّا يقوم في ذهن المتكلّم من المعاني فهكذا الموجودات الإمكانية عامّة، وخلقة المسيح على وجه الإعجاز خاصّة تكشف هي الاُخرى عن علم وقدرة وسيعين وكمال لا متناه يكمن في ذاته سبحانه ولأجل ذلك يعد القرآن المسيح وجميع العوالم الإمكانية كلمات الله سبحانه.

٤ ـ ألقاها إلى مريم: إنّ الإلقاء إلى رحم الاُم آية كونه مخلوقاً وقد ذكر تفصيله في سورة مريم، الآية ١٦ إلى ٣٦ واختتمها بقوله:( ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ) ( مريم / ٣٤ ).

٥ ـ وروح منه: إنّ هذا التعبير ربّما وقع دليلاً على تطرّف فكرة الاُلوهيّة في حق المسيح وهم يتخيّلون أنّ ( منه ) تبعيضية ولكنّها إبتدائية مثل قوله سبحانه:( وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ) ( الجاثية / ١٣ ) والمعنى أنّ السموات وما في الأرض جميعاً ناشئ منه وحاصل من عنده، ومبتدأ منه، فذوات الأشياء تبتدئ منه بإيجاده لها من غير مثال سابق وكذلك خواصّها وآثارها. قال تعالى:( اللهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) ( الروم / ١١ ).

أضف إلى ذلك أنّ ذلك التعبير لا يفوق في حقّ آدم حيث قال:( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ) ( الحجر / ٢٩ ).

٢٤٤

فقد وصف آدمعليه‌السلام بلفظة « من روحي » ولم يقل أحد بأنّه جزء من الإله.

ثمّ إنّه سبحانه ختم تلك الصفات بقوله:( فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ ) .

سمات العبودية في المسيح:

إنّ الذكر الحكيم يستدل على عبوديته بوجوه ثلاثة:

١ ـ كيفيّة خلق المسيح واُمّه.

٢ ـ طبيعة عيشهما في المجتمع.

٣ ـ تصريح المسيح بعبوديّته.

هذه هي الوجوه التي يستدلّ بها القرآن الكريم على عبوديّته، أمّا الأوّل فقد بسط الذكر الحكيم في تناولها في سورة مريم كما مرّ وهذه الآيات تلقي الضوء على كيفيّة خلقه إلى أن توّج بالرسالة، فيقول سبحانه:

( فَأَجَاءَهَا المَخَاضُ إِلَىٰ جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا ) إلى أن يقول:( ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ) .

ولو تمّسك الخصم على عدم بشريته بأنّه ولد من غير أب فهو محجوج بخلقة آدم فقد خلق من غير اُمٍّ ووالد، قال سبحانه:( إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( آل عمران / ٥٩ ).

وأمّا الثاني فيلمح إليه ما ورد بأنّ المسيح واُمّه كانا يعيشان شأنهما كشأن سائر بني آدم ولا يحيدان عنها قيد شعرة، قال سبحانه:( مَّا المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ

٢٤٥

الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ) ( المائدة / ٧٥ ) فمن الممتنع أن يكون آكل الطعام إله العالمين.

وأمّا الثالث فيشير إليه قوله سبحانه:( لَّن يَسْتَنكِفَ المَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا للهِ وَلا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ) ( النساء / ١٧٢ ).

وليس بوسع إنسان أن ينكر عبادة المسيح وهي آية وجود المعبود له وهناك كلمة قيّمة للإمام الطاهر عليّ بن موسى الرضا في مناظرته مع الجاثليق، قال الإمام: يا نصراني والله إنّا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمّد وما ننقم على عيسى شيئاً إلّا ضعفه وقلّة صيامه وصلاته.

قال الجاثليق: أفسدت والله علمك وضعفت أمرك وما كنت أظن إلّا أنّك أعلم أهل الإسلام.

قال الرضا: وكيف ذلك ؟

قال الجاثليق: من قولك إنّ عيسى كان ضعيفاً قليل الصيام والصلاة وما أفطر عيسى يوم قطّ وما نام بليل قطّ وما زال صائم الدهر قائم الليل.

قال الرضا: فلمن كان يصوم ويصلّي ؟

فخرس الجاثليق وانقطع(١) الحديث.

إنّ الذكر الحكيم يصرّح بأنّ المسيح سوف يعترف يوم البعث بعبوديته على رؤوس الأشهاد وانّه لم يأمر قطّ الناس بعبادة نفسه:

( وَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ) ( المائدة / ١١٦ ).

__________________

(١) الاحتجاج: ج ٢ ص ٢٠٣ و ٢٠٤.

٢٤٦

وقال عزّ اسمه حاكياً عنه:( مَا قُلْتُ لَهُمْ إلّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ( المائدة / ١١٧ ).

ج ـ المسيح ابن الله:

قد طرأت أزمة حادّة على خط التوحيد من قبل المشركين واليهود والنّصارى بزعم وجود الابن أو البنت لله سبحانه، فتارة جعلوا بينه وبين الجِنَّة نسباً، واُخرى اتّهموه بأنّه اتّخذ من الملائكة إناثاً، وثالثة نسبوا إليه الولد بصورة مطلقة، وقد جاء الجميع في الذكر الحكيم مشفوعاً بالردّ والنقض:

١ ـ الجن:( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَبًا ) ( الصافّات / ١٥٨ ).

وأمّا ما هذا النسب، فيحتمل أن يكون المراد نسب البنوّة والاُبوّة ولأجل ذلك كان جماعة من العرب يعبدون الجن، كما ورد في قوله سبحانه:( قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الجِنَّ ) ( سبأ / ٤١ ).

٢ ـ الملائكة:( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ المَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا ) ( الإسراء / ٤٠ ) ولأجل ذلك كان جماعة أيضاً من العرب تعبد الملائكة، وبما أنّهم كانوا يتخيّلون الملائكة على أنّهم خلقوا بصور جذّابة جميلة خالوا إنّهم اُناثاً قال سبحانه:( وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا ) ( الزخرف / ١٩ ).

٣ ـ المسيح: وقد اشتهر النصارى بأنّهم جعلوا « المسيح » إبناً لله تعالى، وهذه الفكرة الخاطئة وإن لم تكن منحصرة فيهم، بل كان لليهود أيضاً مثل تلك الفكرة في حقّ « عزير » لكن النصارى أكثر، اشتهاراً بهذه النسبة، غير نافين عن أنفسهم هذا العار، واليهود يؤوّلون الفكرة بأنّه ولد فخري لا حقيقي.

والقرآن الكريم يندّد بتلك الفكرة في غير واحد من الآيات مشيراً إلى براهين

٢٤٧

عقلية محتاجة إلى التوضيح، وإليك نقل الآيات مع توضيح مضامينها:

١ ـ البقرة / ١١٦ ـ ١١٧:

( وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ *بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) .

تريك هذه الآية كيف أنّهم نسبوا إلى الله ولداً من غير فرق بين أن يكون الناسب يهوديّاً أو مسيحيّاً، ولكنّ الآيتين تتضمّنان ردّاً لهذه النسبة، يستفاد من الإمعان في الجمل التالية:

١ ـ سبحانه. ٢ ـ بل له ما في السموات والأرض كل له قانتون.

٣ ـ بديع السموات والأرض. ٤ ـ وإذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون.

وإليك شرح هذه الجمل التي يعد كل واحد منها بمثابة ردّ ونقض للفكرة الخاطئة المصرّحة بالبنوّة لله عزّ وجلّ.

أ ـ « سبحانه »: وهذه الكلمة تفيد تنزيه الله سبحانه من كل نقص وعيب وشائنة، ولأجل ذلك يأتي هذا اللفظ في آية اُخرى بعد بيان تلك النسبة الخاطئة، قال تعالى:( قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) ( يونس / ٦٨ ).

واللفظة تفيد أنّ اتّخاذ الولد نقص وعيب على الله تعالى، يجب تنزيهه عنه، وذلك لأنّ اتّخاذ الولد إمّا لغاية إشباع الغريزة الجنسية أو لأجل الإستعانة من الولد أيّام الهرم والكهولة، أو لأجل إبقاء النسل وإدامته التي تعد نوع بسط وجود للشخصية، والكل غير لائق بساحته سبحانه.

ويمكن أن يكون اللفظ مشيراً إلى أمر آخر وهو أنّ اتّخاذ الابن فرع التوالد والتناسل وهو من شؤون الموجودات المادية حيث ينتقل جزءً من الأب إلى رحم الاُم فتتّحد نطفة الأب مع البويضة في رحم الاُمّ فتخصّبها فينتج عن ذلك نشأة الجنين والله سبحانه أعلى وأجل وأنبل عن أن يكون جسماً أو جسمانيّاً.

٢٤٨

ب ـ( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) :

إنّ هذه الجملة مشعرة ببرهان دامغ وهو أنّ كل ما في الكون قانت لله وخاضع لسلطته ومسخّر ومقهور له ومن هذا شأنه لا يتصوّر أن يكون له ولد وذلك لأنّ الولد يكون مماثلاً للوالد، فكما هو واجب الوجود يكون الولد مشاطراً له في ذلك، وما هو كذلك لا يمكن أن يكون مقهوراً ومسخّراً لموجود من الموجودات.

ج ـ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) :

أي انّه سبحانه خالق مبدع لهما وما فيهما والمراد من الإبداع هو خلقهما بلا مثال سابق ولا مادّة متقدّمة، فيكون المجموع مسبوقاً بالعدم، وما هو كذلك كيف يمكن أن يكون ولداً لله سبحانه ؟ لما عرفت من أنّ الولد يماثل الوالد في الالوهيّة ووجوب الوجود، وهو لا يجتمع مع كون السموات والأرض وما فيهما مخلوقاً حادثاً مسبوقاً بالعدم.

د ـ( وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) :

وهذه الآية تفيد أنّ سنّة الله تبارك وتعالى في الإيجاد والإنشاء والخلق، وأنّه لو أراد إيجاد شيء فإنّه يوجد بلا تريّث أو تلبّث، ولكنّ الولد إنّما يتكوّن من إلتقاء النطفتين في رحم الاُم ثمّ يتكامل تدريجيّاً على إمتداد أمد بعيد وهذا لا يجتمع مع ما مرّ ذكره في السنّة الحكيمة.

ثمّ إنّ العلّامة الطباطبائي جعل الجمل الثلاث مشيرة إلى برهانين ( لا إلى ثلاثة براهين كما أوضحناه ) فقال:

إنّ قوله:( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ) يشتمل على برهانين ينفي كلّ منهما الولادة وتحقّق الولد منه سبحانه، فإنّ اتّخاذ الولد هو أن يجزي موجود طبيعي، بعض أجزاء وجوده ويفصله عن نفسه فيصيّره بتربية تدريجية فرداً من نوعه مماثلاً لنفسه، وهو سبحانه منزّه عن المثل بل كل شيء ممّا في السموات والأرض مملوك له قائم الذات به قانت ذليل عنده ذلّة وجودية فكيف يكون شيء من الأشياء ولداً له

٢٤٩

مماثلاً نوعيّاً بالنسبة إليه ؟ وهو سبحانه بديع السموات والأرض، إنّما يخلق ما يخلق على غير مثال سابق فلا يشبه شيء من خلقه خلقاً سابقاً ولا يشبه فعله فعل غيره في التقليد والتشبيه ولا في التدريج والتوّصل بالأسباب إذا قضى أمراً فإنّما يقول له كن فيكون من غير مثال سابق ولا تدريج، فكيف يمكن أن ينسب إليه اتّخاذ الولد ؟ وتحقّقه يحتاج إلى تربية وتدريج فقوله:( لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) برهان تام، وقوله:( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) برهان آخر تام(١) .

٢ ـ الأنعام / ١٠٠ ـ ١٠٢:

( وَجَعَلُوا للهِ شُرَكَاءَ الجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ ) ( الأنعام / ١٠٠ ).

( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( الأنعام / ١٠١ ).

( ذَٰلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلَٰهَ إلّا هُوَ خَالِقُ كُلَّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) ( الأنعام / ١٠٢ ).

وفي هذه الآيات إشارات إلى بطلان النظرية القائلة بكون الجن شركاء لله سبحانه وخرق بنين وبنات له بغير علم، وإليك بيانها:

أ ـ( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ ) : وقد مرّ توضيح تلك الجملة في القسم الأوّل من الآيات.

ب ـ( بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) : وقد تقدّم معناه أيضاً.

ج ـ( أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ ) : وهذه الجملة تشير إلى أنّ إتّخاذ الإبن يستلزم اتّخاذ الزوجة حتى يقع جزء من الزوج في رحم الزوجة والله

__________________

(١) الميزان: ج ١ ص ٢٦١.

٢٥٠

سبحانه منزّه، عن أن تكون له زوجة.

د ـ( وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ) : فإذا كان هو خالق كل شيء، والكل مخلوق له فلا يتصوّر كون المخلوق ولداً، لأنّ الولد يشاطر الوالد في الطبيعة والنوعيّة فإذا كان سبحانه واجب الوجود لاستغنى عن العلّة والخالق ولترفّع عن حيز الإمكان، والمفروض خلافه.

٣ ـ يونس / ٦٨:

( قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَٰذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) .

وهذه الآية تشتمل على مثل ما اشتملت عليه الآيات السابقة وإليك تفصيل جملها.

أ ـ( سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ) : وقد عرفت أنّ إتّخاذ الولد إمّا لغاية إشباع الغريزة الجنسية أو لاستعانة به في أيّام الكهولة أو لبسط نفوذ الشخصية، والله غني عن الجميع.

ب ـ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ) : وفيه إشارة إلى أنّ كل ما في الكون مقهور ومسخّر فكيف يكون شيء منه ولداً له مع لزوم المماثلة بين الولد والوالد.

ج ـ( إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَٰذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) : وهو إشارة اُخرى إلى أنّه إنّما تبنّوا هذه الفكرة تقليداً بلا علم وبرهان، وقد تقدّم في الآيات السابقة ( بغير علم سبحانه ).

٤ ـ الكهف / ٤ و ٥:

( وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا *مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إلّا كَذِبًا ) .

٢٥١

وفي هذه الآية إكتفاء ببرهان واحد وهو أنّ القوم يتفوّهون بذلك بلا علم لهم ولا لآبائهم.

٥ ـ مريم / ٣٥:

( مَا كَانَ للهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) وفي الآية إشارة إلى برهانين أحدهما قوله( سُبْحَانَهُ ) والثاني( إِذَا قَضَىٰ ) ، وقد مرّ تفسيرهما فلا نعيد.

٦ ـ مريم / ٨٨ ـ ٩٥:

( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا ) .

( لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ) .

( تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَدًّا ) .

( أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدًا ) .

( وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا ) .

( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا ) .

( لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا ) .

( وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ) .

وقد ركّزت الآيات على برهانين:

أحدهما قولهُ:( وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا ) وهذه الجملة واقعة مكان لفظة( سُبْحَانَهُ ) في الآيات السابقة.

وثانيهما: قوله:( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا ) وهو يفيد نفس ما يفيده قوله:( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) في الآيات السابقة والمعنى بعد التطبيق واضح ومحصّله أنّ من في الكون عبد

٢٥٢

مسخّر لله سبحانه، وهو لا يجتمع مع كون واحد منهم ولداً له، لأنّه يقتضي المماثلة والمشاركة في الوجوب والإستغناء عن العلّة مع أنّ المفروض كونه ممكناً.

٧ ـ الأنبياء / ٢٦ و ٢٧:

( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَٰنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ) .

( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) .

فلفظة( سُبْحَانَهُ ) مشيرة إلى أنّ اتّخاذ الولد ملازم للنقص والعيب وهو سبحانه منزّه عنه.

وقوله:( بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ) إشارة إلى ما مرّ من أنّ العبودية لا تجتمع مع البنوّة لأنّ مقتضى البنوّة، المشاركة والمسانخة مع الوالد في الطبيعة، والمفروض وجوب وجود الوالد فيكون الولد واجباً وهو محال.

٨ ـ المؤمنون / ٩١:

( مَا اتَّخَذَ اللهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ ) .

والآية تشير إلى أنّ اتّخاذ الولد ينافي التوحيد والوحدانية لأنّ الولد يجب أن يكون مماثلاً للوالد على نحو ما مرّ ذكره وعندئذ يكون إلهاً مثله، والمفروض أنّه ليس معه إله.

٩ ـ الزمر / ٤:

( لَّوْ أَرَادَ اللهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَّصْطَفَىٰ مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) .

وفي الآية إشارة إلى دحض تلك العقيدة المنحرفة باُمور ثلاثة:

أ ـ( سُبْحَانَهُ ) .

٢٥٣

ب ـ( الْوَاحِدُ ) .

ج ـ( الْقَهَّارُ ) .

أمّا الأوّل: فدلالته على نفي البنوّة مثل الآيات السابقة.

وأمّا الثاني: أعني كونه واحداً، فهو يدلّ على نفي البنوّة لأنّ اتّخاذ الإبن يستلزم المماثلة بين الأب والولد، فيلزم تعدّد الإله وواجب الوجود.

وأمّا الثالث: أعني كونه قهّاراً وغيره مقهوراً عليه فدلالته مثل دلالة قوله:( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا ) وقوله:( بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ) وقوله:( بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ) وذلك لأنّ اتّخاذ الإبن يستلزم أن يكون له مماثل من ذاته لأنّ الولد يماثل الوالد في النوعية والطبيعة فيلزم أن يكون الولد واجب الوجود، والمفروض أنّه مقهور ومسخّر لله سبحانه.

وأنت إذا قارنت هذه الآيات بعضها ببعض لوقفت على أنّ الجميع في المادة والمعنى وكيفيّة الإستدلال مصبوب في قالب واحد بينها كمال الإئتلاف والتناسب، والعبارات الواردة في المقام وإن كانت مختلفة المواضع ولكنّ المؤدّى والمعنى واحد، وتلك الآيات نزلت على النبيّ في ظروف مختلفة وأجواء متباينة والنبيّ لم يزل بين كونه منهمكاً في الحرب وهادئ البال في الصلح والسلم ومع ذلك يتكلّم على نسق واحد مع كونه أمّيّاً لم يقرأ قطّ ولم يكتب. صدق الله العليّ العظيم حيث قال:( وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ) ( النساء / ٨٢ ).

قسمة ضيزي:

ومن عجائب اُمورهم أنّهم اتّخذوا لأنفسهم البنين ونسبوا إلى الله عزّ وجلّ الإناث من الملائكة، قال سبحانه:( أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ المَلائِكَةِ إِنَاثًا ) ( الإسراء / ٤٠ ).

٢٥٤

وقال تعالى:( أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ ) ( الزخرف / ١٦ ).

وقال تعالى:( أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَىٰ *تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ ) ( النجم / ٢١ ـ ٢٢ ).

ثمّ إنّه سبحانه أبطل ادّعاءهم بكون الملائكة إناثاً وقال:( وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ) ( الزخرف / ١٩ ) فكيف يدّعون ما لم يشهدوه ؟!

إلى هنا تمّ حوار القرآن مع اليهود والنّصارى في اتّخاذه سبحانه ولداً من الإنس والجنّ والملائكة، وقوّة البرهان القرآني وإتقانه وتعاضد بعضه بعضاً يدلّ على أنّه وحي إلهي نزل به الروح الأمين على قلبه، وأنّى للإنسان الغارق في الحياة البدائيّة أن يأتي بمثل ذلك لولا كونه مسدّداً بالوحي، مؤيّداً بالمدد الغيبي منه سبحانه.

وإليك بقية المناظرات الواردة في القرآن الكريم.

اليهود ونقض المواثيق والعهود

حطّ النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله رحاله بالمدينة، والتفّ حوله الأوس والخزرج، ففشى أمر الإسلام وشاع خبره وذكره بين الناس والقبائل القاطنة بأطراف المدينة، وكان ذلك بمثابة جرس إنذار لليهود ينبئ عن إقتراب اُفول شوكتهم في المدينة وما والاها بل في شبه الجزيرة العربية برمّتها.

وكانت اليهود في سابق عهدها تفتخر على سائر الاُمم بأنّها تقتفي أثر التوحيد وأنّ لهم كتاباً سماويّاً يجمع بين دفّتيه الأحكام الإلهية، ولكنّ تلك المفخرة أوشكت أن تذهب أدراج الرياح بدعوة النبيّ الأكرم الناس كافّة إلى التوحيد الأصيل ونزول القرآن عليه، فما كانت لهم بعد إذ ذاك ميزة يمتازون بها على العرب.

وكانت اليهود لفرط حبّهم للدنيّا وزبرجها تمكّنوا من السيطرة على مقاليد أزّمة

٢٥٥

إدارة التجارة، وكان وجود الشّقة السحيقة بين الأوس والخزرج، والنزاعات القبلية بينهما، خير معين للإنفراد بإدارة دفّة القوافل التجارية، غير أنّ تلك الأرضية التي فسحت لهم المجال لتسلّم زمام التجارة فيما مضىٰ كادت تنعدم بالاُخوّة الإسلامية التي جاء بها الإسلام، فصار المتصارعان متصافيين متآخيين متآلفين في مقابل اليهود وأطماعهم.

كلّ ذلك صار سبباً لتحفيز اليهود لإثارة الشبهات حول رسالة الرسول الأكرم وبثّ السموم وتشوية معالم الرسالة الجديدة ليضعضعوا أركان الإيمان الفتي في قلوب المؤمنين بالإسلام، وقد غاب عن خلدهم أنّ سنّة الله الحكيمة تتكفّل بنصر رسله. قال سبحانه:

( إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ) ( غافر / ٥١ ).

وإليك نماذج من أسئلتهم وشبهاتهم التي أثاروها حول الرسالة النبويّة:

١ ـ إفشاء علائم النبوّة:

إنّ أوّل خطوة خطوها لأجل إيقاف مدّ الصحوة الدينية والإيمان برسالة النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله هو إصدار مرسوم يقضي بكتمان علائم نبوّته التي وردت في التوراة حتى لا تقع للمسلمين ذريعة يتمسّكون بها ضدّهم في عزوفهم عن قبول الدعوة، وهذا ما يحكي عنه الذكر الحكيم بقوله:

١ ـ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) ( البقرة / ٧٦ ).

وروي عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال: كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتواطئين إذا لقوا المسلمين حدّثوهم بما في التوراة من صفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فنهاهم كبراؤهم عن ذلك وقالوا: لاتخبروهم بما

٢٥٦

في التوراة من صفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فيحاجّوكم به عند ربّكم(١) .

وردّ سبحانه عليهم بقوله:( أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ) ( البقرة / ٧٧ ) فالله سبحانه يحتجّ بكتابهم عليهم سواء تفوّهوا بسمات النبيّ الأكرم المذكورة في التوراة أم لم يتفوّهوا بها على الرّغم من أنّهم كانوا يستفتحون ويستنصرون على الأوس والخزرج برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل مبعثه فلمّا بعثه الله من بين العرب ولم يكن من بني إسرائيل، كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء ابن معرور: يا معشر اليهود اتّقوا الله واسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمّد ونحن أهل الشرك، وتصفونه وتذكرون أنّه مبعوث، فقال سلام بن مثكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنّا نذكر لكم، فأنزل الله تعالى قوله:

( وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) ( البقرة / ٨٩ ).

٢ ـ السؤال عن الروح الأمين:

إنّ نفراً من أحبار اليهود جاءوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا: يا محمداً أخبرنا عن أربع نسألك عنهنّ، فإن فعلت ذلك اتّبعناك وصدّقناك وآمنّا بك، فقال لهم رسول الله: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه لئن أنا أخبرتكم بذلك لتصدّقنّني ؟ قالوا: نعم، قال: فسألوا عمّا بدا لكم وممّا سألوا عنه نوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا: كيف نومك ؟ فقال: تنام عيني وقلبي يقظان. قالوا: فأخبرنا عمّا حرّم إسرائيل على نفسه ؟ قال: حرّم على نفسه لحوم الإبل وألبانها، فصدّقوه في الإجابة عن هذاين السؤالين، ثمّ قالوا له: فأخبرنا عن الروح ،

__________________

(١) مجمع البيان: ج ١ ص ٢٨٦ ( طبع بيروت ).

٢٥٧

قال: أنشدكم بالله وبأيّامه عند بني إسرائيل هل تعلمونه جبرئيل وهو الذي يأتيني ؟ قالوا: أللّهم نعم، ولكنّه يا محمد لنا عدوّ وهو ملك إنّما يأتي بالشدّة وسفك الدماء ولولا ذلك لاتّبعناك، فأنزل الله عزّ وجلّ فيهم:( قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ *مَن كَانَ عَدُوًّا للهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ ) ( البقرة / ٩٧ و ٩٨ )(١) .

وما ذكرنا من شأن النزول يؤيّد ما ذكرناه سابقاً من أنّ المقصود من الروح في قوله سبحانه:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) ( الإسراء / ٨٥ ) هو الروح الأمين لا الروح الإنسانية، وأنّ ما اُثير حولها في التفاسير المختلفة مبني على تفسير الروح بالروح الإنسانية وهو غير صحيح.

وعلى أيّ تقدير فنصب العداء لجبرئيل نصب للعداء له سبحانه، لأنّ جبرئيل مأمور من جانبه ومبلّغ عنه هو وجميع الملائكة:( لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) ( التحريم / ٦ ).

٣ ـ إنكار نبوّة سليمانعليه‌السلام :

إنّ رسول الله لـمّا ذكر سليمان بن داود في المرسلين، قال بعض أحبارهم: ألا تعجبون من محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله يزعم أنّ سليمان بن داود كان نبيّاً، والله ما كان إلّا ساحراً، فأنزل الله تعالى في ذلك:( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) ( البقرة / ١٠٢ )(٢) .

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٥٤٣. مجمع البيان: ج ٢ ص ٣٢٤ ( طبع بيروت ).

(٢) السيرة النبوية: ج ١ ص ٥٤٠. مجمع البيان: ج ٢ ص ٣٣٦ ( طبع بيروت ).

٢٥٨

٤ ـ كتابه إلى يهود خيبر:

كتب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يهود خيبر بكتاب جاء فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله صاحب موسى وأخيه والمصدّق لما جاء به موسى على أنّ الله قد قال لكم يا معشر أهل التوراة، وأنّكم لتجدون ذلك في كتابكم:( مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) .

وإنّي انشدكم بالله، وانشدكم بما أنزل عليكم وانشدكم بالذي أطعم من كان قبلكم من أسباطكم المنّ والسلوى، وانشدكم بالذي أيبس البحر لآبائكم حتى أنجاهم من فرعون وعمله إلّا أخبرتموني: هل تجدون فيما أنزل الله عليكم أن تؤمنوا بمحمّد ؟ فإن كنتم لا تجدوني ذلك في كتابكم فلا كره عليكم( قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ) فادعوكم إلى الله وإلى نبيّه(١) .

٥ ـ إنكار أخذ الميثاق منهم:

إنّ أحد أحبار اليهود قال لرسول الله: يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل الله عليك من آية بيّنة فنتّبعك لها، وقد كانوا ينكرون العهد الذي أخذه الأنبياء عليهم أن يؤمنوا بالنبيّ الاُمّي، فأنزل الله سبحانه في ردّهم:( وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إلّا الْفَاسِقُونَ *أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) ( البقرة / ٩٩ و ١٠٠ ).

__________________

(١) السيرة النبويّة: ج ١ ص ٥٤٤ ـ ٥٤٥.

٢٥٩

ولفظة « كلّما » تفيد التكرّر فيقتضي تكرّر النقض منهم(١) .

٦ ـ الإقتراحات التعجيزيّة:

وقد كان اليهود قد تقدّموا بإقتراحات تعجيزيّة على غرار ما بدر من المشركين فقد سألت العرب محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأتيهم بالله فيروه جهرة، فنزل قوله سبحانه:( أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) ( البقرة / ١٠٨ ).

وقال رافع بن حريملة لرسول الله: يا محمد إن كنت رسولاً من الله كما تقول فقل لله فيكلّمنا حتى نسمع كلامه، فنزل قوله سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) (٢) .

٧ ـ تنازع اليهود والنصارى عند الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

لـمـّا قدم أهل نجران من النصارى على رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أتتهم أحبار اليهود فتنازعوا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال رافع بن حريملة: ما أنتم على شيء، وكفر بعيسىٰ وبالإنجيل، فقال رجل من أهل نجران من النصارىٰ لليهود: ما أنتم على شيء، وجحد نبوّة موسى وكفر بالتوراة، فأنزل الله في ذلك قولهم:

( وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) ( البقرة / ١١٣ ).

__________________

(١) مجمع البيان: ج ١ ص ٣٢٧.

(٢) السيرة النبوية: ج ١ ص ٥٤٩.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378