أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين15%

أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 378

أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين
  • البداية
  • السابق
  • 378 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 165595 / تحميل: 9078
الحجم الحجم الحجم
أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

الفصل العاشر

أم البنين وثورة عاشوراء

١٤١

أم البنين عليها‌السلام

ورحيل الحسين عليه‌السلام عن المدينة

لما دخل الامام الحسين عليه‌السلام على الوليد نعى اليه معاوية فاسترجع الامام.

قال له: لماذا دعوتني؟

قال: دعوتك للبيعة.

فطلب منه الامام تأجيل البيعة قائلاً: إنّ مثلي لا يبايع سراً ولا يجتزىء بها مني سراً، فاذا خرجت إلى الناس ودعوتهم للبيعة دعوتنا معهم كان الأمر واحداً...

لقد أراد الامام أن يعلن رأيه أمام الجماهير في رفضه البيعة ليزيد، وعرف مروان قصده فصاح بالوليد:

ولئن فارقك - يعني الحسين عليه‌السلام - الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، إحبسه فان بايع وإلّا ضربت عنقه.

ووثب أبي الضيم كالأسد فقال للوزغ ابن الوزغ:

يا ابن الزرقاء أأنت تقتلني أم هو؟ كذبت والله ولؤمت (١) .

__________________

(١) تاريخ ابن الاثير ٣ / ٢٦٤.

١٤٢

وأقبل على الوليد فأخبره عن عزمه وتصميمه على رفضه الكامل للبيعة ليزيد قائلاً: أيّها الأمير إنّا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحل الرحمة، بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر، وقاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون، أينا أحقّ بالخلافة والبيعة... (١) .

وبعد ما أعلن الامام رفضه الكامل لبيعة الطاغية يزيد عزم على مغادرة يثرب (٢) .

روى عبد الله بن سنان الكوفي عن أبيه عن جدّه قال: خرجت بكتاب أهل الكوفة إلى الحسين عليه‌السلام ، وهو يومئذٍ بالمدينة، فأتيته فقرأه فعرف معناه فقال: انظرني إلى ثلاثة أيام، فبقيت في المدينة، ثم تبعته إلى أن صار عزمه بالتوجه إلى العراق، فقلت في نفسي: أمضي وأنظر إلى ملك الحجاز كيف يركب؟ وكيف جلالته وشأنه؟

فأتيت إلى باب داره فرأيت الخيل مسرجة والرجال واقفين والحسين عليه‌السلام جالس على كرسي وبنو هاشم حافون به، وهو بينهم كأنه البدر ليلة تمامه وكماله، ورأيت نحواً من أربعين محملاً، وقد زينت المحامل بملابس الحرير والديباج.

قال: فعند ذلك أمر الحسين عليه‌السلام بني هاشم بأن يركبوا محارمهم على المحامل، فبينما أنا انظر وإذا بشاب قد خرج من دار الحسين عليه‌السلام وهو طويل القامة ووجهه كالقمر الطالع، وهو يقول: تنحو يا بني هاشم، وإذا بامرأتين قد خرجتا من الدار وهما تجران أذيالهما على الأرض حياءً من الناس، وقد حفت بهما إماؤها، فتقدم ذلك الشاب إلى محمل من المحامل وجثى على ركبتيه وأخذ بعضديهما وأركبهما المحمل.

فسألت بعض الناس عنهما، فقيل: أما أحدهما فزينب والأخرى أم كلثوم بنتا أمير المؤمنين.

__________________

(١) حياة الامام الحسين ٢ / ٢٥٥.

(٢) السيدة زينب (للقرشي): ١٩١.

١٤٣

فقلت: ومن هذا الشاب؟

فقيل لي: هو قمر بني هاشم العباس ابن أمير المؤمنين.

ثم رأيت بنتين صغيرتين كأنّ الله - تعالى - لم يخلق مثلهما، فجعل واحدة مع زينب والأخرى مع أم كلثوم، فسألت عنهما، فقيل لي: هما سكينة وفاطمة بنتا الحسين عليه‌السلام .

ثم خرج غلام آخر كأنه البدر الطالع ومعه امرأة وقد حفت بها إماؤها، فأركبها ذلك الغلام المحمل، فسألت عنها وعن الغلام، فقيل لي: أما الغلام فهو علي الأكبر ابن الحسين عليه‌السلام والامرأة أمه ليلى زوجة الحسين عليه‌السلام .

ثم خرج غلام وجهه كفلقة القمر ومعه امرأة، فسألت عنها فقيل لي: أما الغلام فهو القاسم بن الحسن المجتبى والامرأة أمه.

ثم خرج شاب آخر وهو يقول: تنحوا عني يا بني هاشم، تنحو عن حرم أبي عبد الله، فتنحى عنه بنو هاشم، وإذا قد خرجت امرأة من الدار وعليها آثار الملوك وهي تمشي على سكينة ووقار، وقد حفت بها إماؤها، فسألت عنها، فقيل لي: أما الشاب فهو زين العابدين ابن الامام وأمّا الامرأة فهي أمه شاه زنان بنت الملك كسرى زوجة الامام، فأتى بها وأركبها على المحمل.

ثم أركبوا بقية الحرم والأطفال على المحامل، فلما تكاملوا نادى الامام عليه‌السلام :

أين أخي؟ أين كبش كتيبتي؟ أين قمر بني هاشم؟

فأجابه العباس: لبيك لبيك يا سيدي.

ففقال له الامام عليه‌السلام : قدّم لي يا أخي جوادي.

فأتى العباس عليه‌السلام بالجواد اليه، وقد حفت به بنو هاشم، فأخذ العباس بركاب الفرس حتى ركب الامام.

ثم ركب بنو هاشم وركب العباس وحمل الراية أمام الامام.

١٤٤

قال: فصاح أهل المدينة صيحة واحة وعلت أصوات بني هاشم بالبكاء والنحيب وقالوا: الوداع.. الوداع، الفراق.. الفراق.

فقال العباس: هذا والله يوم الفراق والملتقي يوم القيامة.

ثم صاروا قاصدين كربلاء مع عياله وجميع أولاده ذكوراً وإناثاً إلا ابنته فاطمة الصغرى، فانها كانت مريضة (١) .

وكأني بأم البنين عليها‌السلام تشهد هذا الموقف الذي تتألم له صم الصخور، وهي تودع ريحانة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وحرمه وابناءها البررة، وتوصي أولادها بأخواتهم وسيدهم ومولاهم الحسين عليه‌السلام ، وتقول لهم: كونوا فداءً لسيدكم وكونوا له عيناً ودرعاً، واجعلوا قلوبكم دروعكم للدفاع عنه وعن حرمه، ولا تقصروا في الذبّ عنه، وبيضوا وجهي عند أمه وأبيه وجده وأخيه وعنده.

حوار بين أم البنين عليها‌السلام وبشير:

قال في «اللهوف»: قال الراوي: ثم انفصلوا من كربلاء طالبين المدينة قال بشير بن حذلم: فلما قربنا منها نزل علي بن الحسين فحط رحله وضرب فسطاطه وأنزل نساءه وقال: يا بشر رحم الله أباك لقد كان شاعراً فهل تقدر على شيء منه؟

فقلت: بلى يا ابن رسول الله، إني لشاعر.

فقال عليه‌السلام : ادخل المدينة وانع أبا عبد الله.

قال بشير: فركبت فرسي وركضت حتى دخلت المدينة، فلما بلغت مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله رفعت صوتي بالبكاء فأنشأت أقول:

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها

قتل الحسين فأدمعي مدرار

الجسم منه بكربلاء مضرج

والرأس منه على القناة يدار

__________________

(١) معالي السبطين ١ / ٢٢١.

١٤٥

قال: ثم قلت: هذا علي بن الحسين عليه‌السلام مع عماته وأخواته قد حلوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم، وأنا رسوله اليكم أعرفكم مكانه.

قال: فما بقيت في المدينة مخدرة ولا محجبة إلّا برزن من خدورهن، مكشوفة شعورهن، مخمشة وجوههن، ضاربات خدودهن، يدعون بالويل والثبور، فلم أر باكياً أكثر من ذلك اليوم، ولا يوماً أمرّ على المسلمين منه (١) .

قال بشير: ورأيت امرأة كبيرة تحمل على عاتقها طفلاً وهي تشق الصفوف نحوي، فلمّا وصلت قالت: يا هذا أخبرني عن سيدي الحسين عليه‌السلام ، فعلمت أنها ذاهلة؛ لأني أنادي «قتل الحسين» وهي تسألني عنه، فسألت عنها، فقيل لي: هذه أم البنين عليها‌السلام ، فأشففت عليها وخفت أن أخبرها بأولادها مرة واحدة.

فقلت لها: عظم الله لك الأجر بولدك عبد الله.

فقالت: ما سألتك عن عبد الله، أخبرني عن الحسين عليه‌السلام .

قال: فقلت لها: عظم الله لك الأجر بولدك عثمان.

فقالت: ما سألتك عن عثمان، أخبرني عن الحسين عليه‌السلام .

قلت لها: عظم الله لك الأجر بولدك جعفر.

قالت: ما سألتك عن جعفر، فانّ ولدي وما أظلته السماء فداءً للحسين عليه‌السلام ، أخبرني عن الحسين عليه‌السلام .

قلت لها: عظم الله لك الأجر بولدك أبي الفضل العباس.

قال بشير: لقد رأيتها وقد وضعت يديها على خاصرتها وسقط الطفل من على عاتقها وقالت: لقد والله قطعت نياط قلبي، أخبرني عن الحسين.

قال: فقلت لها: عظم الله لك الأجر بمصاب مولانا أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام .

__________________

(١) معالي السبطين ٢ / ٢٠٣.

١٤٦

ما أعظم موقفها عليها‌السلام وأعظم مصابها برزية الامام، مما يكشف عن مدى إيمانها ورسوخ اعتقادها وولاءها الوثيق وحبها الذي يوصف للحسين عليه‌السلام ، ولطالما كانت تقول: ليت أولادي جميعاً قتلوا وعاد أبو عبد الله الحسين عليه‌السلام سالماً.

إنّ شدة حبها للحسين يكشف عن علو مرتبتها في الايمان وقوة معرفتها بمقام الامامة بحيث تستسهل شهادة أولادها الأربعة - وهم لا نظير لهم أبداً - في سبيل الدفاع عن إمام زمانها (١) .

قال السيد محمد كاظم الكفائي:

أم على أشبالها أربع

جاءت لبشر وبه تستعين

وتحمل الطفل على كتفها

تستهدي فيه خبر القادمين

ملهوفة مما بها من أسى

ترى بذاك الجمع شيئاً دفين

فقال يا أم ارجعي للخبا

وابكي بنيك قتلوا أجمعين

فما انئنت وما بكت أمهم

وخاب منه ظنه باليقين

كأنهم الطود وما زلزلت

وحق أن تجري لهم دمع عين

فقال يا أم البنين اعلمي

بأن عباساً قتيلاً طعين

قالت طعنت القلب مني فقل

النفس والدنيا وكل البنين

نمضي جميعاً كلنا للفنا

نكون قرباناً فدىً للحسين

فقال يا أم البنين البسي

ثوب حداد الحزن لا تنزعين (٢)

لقاء أم البنين عليها‌السلام مع زينب الكبرى عليها‌السلام :

كانت أم البنين عليها‌السلام من النساء الفاضلات العارفات بحقّ أهل البيت عليهم‌السلام مخلصة

__________________

(١) أنظر: تنقيح المقال ٣ / ٧٠.

(٢) أم البنين للسيد الكفائي: ٨٢.

١٤٧

في ولائهم ممحضة في مودتهم، ولها عندهم الجاء الوجيه والمحل الرفيع، وقد زادتها زينب الكبرى بعد وصولها المدينة تعزيها بأولادها الأربعة كما كانت تزورها أيام العيد (١) .

ويقال: لمّا دخل بشير إلى المدينة ناعياً الحسين عليه‌السلام وخرج الرجال والنساء وخرجت من جملتهن أم البنين، فلما سمعت بقتل الحسين عليه‌السلام خرّت مغشياً عليها، وحبى عائلة الحسين عليه‌السلام إلى المنازل، فقالت زينب عليها‌السلام : لا أريد أحداً يدخل عليّ في هذا اليوم إلّا من فقدت لها عزيزاً في كربلاء، وجلست في منزلها وجعلت فضة على الباب.

فلما أفاقت أم البنين عليها‌السلام من غشيتها سألت عن الحوراء زينب وعن العائلة فأخبروها بذلك، فبينما هنّ في البكاء والعويل وإذا بالباب تطرق.

فقالت فضة: من بالباب فانّ سيدتي زينب لا تريد أحداً يدخل عليها إلّا من فقدت لها عزيزاً في كربلاء.

فقالت: قولي لسيدتك زينب إنّي شريكتها في هذا العزاء وأريد أن أدخل عليها لأساعدها فاني مثلها في المصاب.

فلما أخبرت فضة زينب قالت: سليها من هي التي تكون مثلي في المصاب، ثم قالت: إن صدق ظني فانها أم البنين عليها‌السلام .

فرجعت فضة وقالت لها: تقول سيدتي من أنت التي مثلها في المصاب؟

قالت: إني الثاكلة أم المصيبة العظمى.

قالت: أوضحي لي؟

قالت: الحزينة صاحبة الفاجعة الكبرى.

قالت: أوضحي لي من تكونين؟

__________________

(١) العباس عليه‌السلام (للمقرم): ٧٢.

١٤٨

قالت: أو ما عرفتني، إنّي أم البنين عليها‌السلام .

فقالت فضة: لقد صدقت سيدتي في ظنها وإنّك - والله - كما تقولين، أم المصيبة العظمى والفاجعة الكبرى، ثم فتحت لها الباب.

فلمّا دخلت استقبلتها زينب واعتنقتها وبكت وقالت: عظم الله لك الأجر في أولادك الأربعة.

قالت: وأنت عظم الله لك الأجر في الحسين عليه‌السلام وفيهم، وبكت وبكى من كان حاضراً (١) .

أم البنين تندب أبناءها:

روى أحمد بن عيسى عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام مسنداً قال: إنّ زيد بن رقاد الجهني وحكيم بن الطفيل الطائي، قتلا العباس بن علي.

وقال أبو الفرج الاصفهاني: وكانت أم البنين عليها‌السلام أم هؤلاء الأربعة الاخوة القتلى تخرج إلى البقيع فتندب بنيها أشجى ندبة وأحرها فيجتمع الناس اليها يسمعون منها، فكان مروان يجيء فيمن يجيء لذلك فلا يزال يسمع ندبتها ويبكي (٢) (٣) .

__________________

(١) مولد العباس لمحمد علي الناصري: ٤٤.

(٢) لقد كانت ندبة أم البنين عليها‌السلام مشجية «صم الصخور لهولها تتألم» ولكن ذلك لا يعني أبداً أن يرقّ قلب الوزغ ابن الوزغ مروان ابن الحكم، فقد يستفاد من قول أبي الفرج أن ندبة أم البنين كانت محرقة للقلوب بحيث تأثر بها مروان على قساوته إلّا أن هذا مما لا يمكن تصويره في حق هذا اللعين، وهو الذي حارب أهل البيت عليهم‌السلام ولم يفتر عن حربهم لحظة من عمره المشؤوم، وهو الذي ألّب عليهم وحرض وكاد لهم أحياءً وأمواتاً، وهو المتشفي بقتل الحسين عليه‌السلام وقد أظهر الفرح والشماته بقوله لما نظر إلى رأس الحسين عليه‌السلام :

يا حبذا بردك في اليدين

ولونك الأحمر في الخدين

كأنه بات بعسجدين

شفيت نفسي من دم الحسين

(٣) مقاتل الطالبيين: ٩٠ ذيل ترجمة العباس عليه‌السلام .

١٤٩

وقال العلامة السماوي في «إبصار العين»: وقد كانت تخرج إلى البقيع كلّ يوم ترثيه وتحمل ولده عبيد الله فيجتمع لسماع رثائها أهل المدينة، وفيهم مروان بن الحكم، فيبكون لشجى الندبة، وكان من قولها عليها‌السلام :

يا من رأى العباس كر

على جماهير النقد

ووراه من أبناء حيدر

كل ليث ذي لبد

انبئت أن ابني أصيب

برأسه مقطوع يد

ولي على شبلي أما

ل برأسه ضرب العمد

ولو كان سيفك في يد

يك لما دنا منه أحد

وقولها عليها‌السلام :

لا تدعوني ويك أم البنين

تذكريني بليوث العرين

كانت بنون لي ادعى بهم

واليوم أصبحت ولا من بنين

أربعة مثل نسور الربى

قد واصلوا الموت بقطع الوتين

تنازع الخرصان أشلائهم

فكلهم أمسى صريعاً طعين

يا ليت شعري أكما أخبروا

بان عباساً قطيع اليمين (١)

أم البنين تحيي ذكرى عاشوراء:

كانت أم البنين من النساء الفاضلات العارفات بزمانها والعارفات بحقّ أهل البيت عليهم‌السلام ، كما كانت فصيحة لسنة ورعة، وكانت ممن حمى حريم الحسين، وأقامة العزاء عليه لتشارك في حفظ ثورته والوفاء لدمه الذي سكن الخلد، وتشكل حلقة مهمة في امتداد الثورة، وتكون صوتاً للحنجرة المقدسة التي قطعت.

وقد اتخذت من أسلوب الندبة والنياحة سبيلاً للنداء بمظلومية الحسين

__________________

(١) إبصار العين: ٣١ - ٣٢.

١٥٠

وآل البيت عليهم‌السلام فكانت - كما مر قبل قليل - تحمل عبيد الله بن العباس وتخرج إلى البقيع تقيم المآتم على قتيل العبرات، وتندب أولادها أشجى ندبة، وتتمنى لو كان الحسين حياً وتموت هي وأولادها ومن على الأرض فداءً له، وكانت تتوخى من وراء ذلك:

١ - إقامة المآتم على سيد الشهداء وريحانة الرسول وتعظيم شعائر الله.

٢ - تعلن للملأ عن شجاعة الحسين وأولادها ومظلوميتهم وتفخر بهم على التاريخ.

٣ - تشرح أحداث كربلاء وما وقع فيها من ظلامات لآل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وفجائع يخجل منها كل مخلوق، وتصيغ ذلك بأسلوب الندبة العاطفي، وتعلن بذلك عن اعتراضها على الوضع القائم وحكومة الطاغوت.

٤ - تفضح الحكام الظلمة الذين تسلطوا على مقدرات الأمة وحاولوا تضليل الناس، وقلب الحقائق على مرّ التاريخ، فكانت أم البنين عليها‌السلام تبين الحق والحقيقة من خلال ذلك.

٥ - تحرض الناس ضد بني أمية وأذنابهم وتطالب بدماء الأحراء من آل البيت عليهم‌السلام .

٦ - وكانت تخرج إلى البقيع - مع أن قبر العباس وأخوته في كربلاء - ليجتمع الناس هناك ويتذكرون مظالم الحسن وريحانة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الصديقة الطاهرة وتعيد لهم ذكرياتهم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هناك وتذكرهم بمواقف المسلمين في صدر الاسلام في الذبّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد ضمتهم الآن هذه المقبرة المقدسة.

٧ - وكانت تحمل معها عبيد الله بن العباس - حفيدها - باعتباره كان موجوداً في يوم الطف فهو شاهد عيان ودليل وبرهان حي يروي لهم ولمن سيأتي من الأجيال ويجتمع له أترابه والكبار والصغار....

١٥١

لقد ساهمت أم البنين عليها‌السلام في إبلاغ خطاب عاشوراء إلى المجتمع المعاصر لها وأبلغت مسامع الايام ليتردد صوتها إلى جانب صوت أم المصائب زينب عليها‌السلام حينما وقفت كالطود الشامخ لا تحركه العواصف لتحمي ثورة الحسين عليه‌السلام ، وتحفظ الحق ورسالة التوحيد على طول خط التاريخ.

* * *

١٥٢

الفصل

الحادي عشر

التوسل بأم البنين عليها‌السلام

١٥٣

التوسل بأم البنين عليها‌السلام

من سنن الله الجارية في أوليائه ( وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ) (١) إكرامهم باظهار ما لهم من الكرامة عليه والزلفى منه، وذلك غير ما ادخره لهم من المثوبات الجزيلة في الآجلة، تقديراً لعملهم واصحاراً بحقيقة أمرهم ومبلغ نفوسهم من القوة وحثاً للملأ على اقتفاء آثارهم في الطاعة، ومهما كان العبد يخفى الصالحات من أعماله فالمولى سبحانه يراغم ذلك الاخفاء باشهار فضله، كما يقتضيه لطفه الشامل ورحمته الواسعة وبرّه المتواصل، وأنّه جلت آلاؤه يظهر الجميل من أفعال العباد ويزوي القبيح رأفة منه وحناناً عليهم.

ومن هذا الباب ما نجده على مشاهد المقربين وقباب المستشهدين في سبيل الله من آثار العظمة وآيات الجلال من إنجاح المتوسل بهم اليه - تعالى شأنه - وإجابة الدعوات تحت قبابهم المقدسة، وإزالة المثلات ببركاتهم، وتتأكد الحالة إذا كان المشهد لأحد المنتسبين للبيت النبوي؛ لأنه جلت حكمته ذرأ العالمين لأجلهم؛ ولان يعرفوا مكانتهم فيحتذوا أمثالهم في الأحاكم والأخلاق، فكان من المحتم في باب لطفه وكرمه - عظمت نعمه - أن يصحر الناس بفضلهم الظاهر.

__________________

(١) سورة فاطر: ٤٣.

١٥٤

ومن المنتسبين إلى ذلك البيت الطاهر الذي أذن الله أن يرفع فيه اسمه «أم البنين عليها‌السلام »، فانها في الطليعة من أولئك الذين بذلوا في الله ما عزّ لديهم وهان حتى اتصلت النوبة إلى أولادها وفلذة كبدها، بل أذهبت نفسها في زفراتها الحارة على الحسين وآله عليهم‌السلام ، فكان ذلك كلّه نصب عينه - تعالى ذكره - فأجرى الله سنته الجارية في الصديقين فيها بأجلى مظاهرها؛ ولذلك تجد المؤمنين في أصقاع الأرض يتوسلون بها إلى الله، ويستشفعون بها في حاجاتهم في آناء الليل وأطراف النهار، ويجعلونها باباً من أبواب رحمة الله، فيطرقه أرباب الحوائج من عاف يستمنحه بره، إلى حمى أمنه، إلى أنواع من أهل المقاصد المتنوعة، فينكفأ فلج الفؤاد بنجح طلبيته، قرير العين بكفاية أمره، إلى منتجز باعطاء سؤله، كلّ هذا ليس على الله بعزيز، ولا من المقربين من عباده ببعيد.

توسلوا بأمي أم البنين عليها‌السلام :

يقول المؤلف: حدّث العالم الفقيه آية الله الحاج السيد محمد الحسيني الشيرازي قدس‌سره في تاريخ ٢٧ ذي الحجة الحرام سنة (١٤١٦) ضمن حديثه عن عظمة شخصية أبي الفضل العباس عليه‌السلام :

رأى أحد العلماء في عالم المكاشفة قمر بني هاشم أبا الفضل العباس عليه‌السلام وقال له: سيدي إن لي حاجة فبمن أتوسل حتى تقضي حاجتي؟

فأجابه عليه‌السلام : توسل بأمي أم البنين عليها‌السلام .

ونحن نذكر هنا بعض الختومات وآداب التوسل بتلك السيدة المباركة من المجربات التي رويت عن بعض الأساطين:

١٥٥

١ - إهداء الصلوات:

قال المرحوم آية الله الحاج السيد محمود الحسيني الشاهرودي المتوفي في ١٧ شعبان (٣٩٤ هـ):

إني أصلّي على محمد وآل محمد مائة مرة وأهديها إلى أم البنين عليها‌السلام فتقضي حاجتي.

٢ - نذر الاطعام:

أن ينذر لأم البنين عليها‌السلام ويطعم الفقراء باسم أبي الفضل العباس عليه‌السلام ، وهو من المجربات في قضاء الحوائج.

٣ - ختم سورة «يس»:

قراءة سورة «يس» عشرة مرات في أربع أسابيع كالتالي، وهو مؤثر إن شاء الله تعالى:

يقرأها في ليلة الجمعة من الأسبوع الأول ثلاث مرات، وفي ليلة الجمعة من الأسبوع الثاني يقرأ ثلاث، وفي ليلة الجمعة من الأسبوع الثالث يقرأ ثلاث أيضاً، وفي ليلة الجمعة الأخيرة في الأسبوع الرابع يقرأها مرة واحدة ويهديها لأم البنين عليها‌السلام نيابة عن أبي الفضل العباس عليه‌السلام ، فانه ستقضى حاجته إن شاء الله على أتم وجه.

٤ - تجهيز من يزور كربلاء نيابة عن أم البنين عليها‌السلام :

حدثني الحاج الشيخ محمود الخليلي في شوال المكرم سنة (١٤١٨ هـ) في منزل آية الله السيد شهاب الدين المرعشي النجفي قدس‌سره قال:

إنّ آية الله الحاج السيد محمد الروحاني قدس‌سره كان يتوسل في المهمات والمشاكل المعضلة بأم البنين عليها‌السلام ، وكان توسّله بتلك المخدرة المجللة أن ينذر لله أن

١٥٦

يقضي حاجته ويكشف كربته على أن يبعث إلى كربلاء من يزور هناك نيابة عن أم البنين عليها‌السلام ، ويتحمّل كافة مصروفات سفره.

وأتذكر جيداً أني حظيت في سنة (١٣٨٣ هـ) بشرف زيارة كربلاء نيابة عن السيدة أم البنين من قبل السيد قدس‌سره فدفع لي مبلغ «نصف دينار» ما يعادل عشرة دراهم، وكانت الأجرة يومها ذهاباً وإياباً تتراوح بين ثلاثة أو أربعة دراهم.

قال أيضاً: ابتلي آية الله الروحاني ذات مرة بألم شديد في سنّه، وكن ألماً مبرحاً لا يطاق، فراجع طبيبه الدكتور الطريحي فلم يجده، فلما اشتد الألم اشتداداً مروعاً نذر لله إن نجّاه من هذا الألم أن يستأجر من يزور كربلاء نيابة عن أم البنين عليها‌السلام في ليلة الجمعة القادمة، فلم تمض لحظات حتى سكن الألم وكأن لم يكن شيئاً، وفي عصر اليوم التالي عاد الالم مجدداً فقال السيد: يبدو أن الطبيب قد حضر، فراجعه فوجده في مطبه، فقلع سنه وارتاح من بلائه، كلّ ذلك ببركة أم البنين عليها‌السلام .

وأضاف الشيخ الخليلي: إنّي علّمت هذا التوسل بهذه الطريقة لكثير من ذوي الحاجات فكان نافعاً في قضاء حوائجهم وكشف كربهم.

٥ - إهداء الصلوات للمعصومين وقراءة دعاء التوسل:

ختم مذكور في كتاب «مجموعة علم جعفر» ووقته بعد صلاة الفجر أو بعد صلاة العشاء، والأفضل أن يشرع به في أول الشهر وهو كالتالي:

في اليوم الأول: ألف مرة «اللهم صلّ على محمد وآل محمد وعجل فرجهم» ويهديخا إلى خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وفي اليوم الثاني: أيضاً ألف مرة على النحو المذكور لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام .

١٥٧

وفي اليوم الثالث: لسيدة النساء فاطمة الزهراء عليها‌السلام .

وفي اليوم الرابع: للامام المجتبى ريحانة الرسول الحسن المظلوم عليه‌السلام .

وهكذا على عدد المعصومين عليهم‌السلام حتى يصل إلى صاحب الأمر والزمان - أرواح العالمين له الفداء -.

وفي اليوم الخامس عشر: أيضاً ألف مرة على النحو المذكور لأبي الفضل العباس عليه‌السلام .

وفي اليوم السادس عشر: لأم البنين عليها‌السلام

وفي اليوم السابع عشر: لزينب الكبرى عليها‌السلام .

وفي اليوم الأخير: بعد أن ينتهي من الصلوات يقرأ الدعاء المعروف المذكور في مفاتيح الجنان وأوله «اللهم إني أسألك وأتوجه اليك بنبيك نبي الرحمة...».

قال في الكتاب المذكور: نقل لي من أثق به أنّ جماعة التزموا هذا الختم وأدوه جماعة، فلمّا انتهوا منه تشرفوا بزيارة العباس عليه‌السلام فقال لهم: «حاجتكم مقضية».

أقسم الرجل المذكور أيماناً مغلظة قائلاً: كنّا جماعة وقد قضى الله حوائجنا جميعاً والحمد لله (١) .

٦ - قراءة الفاتحة لام البنين عليها‌السلام :

مما اشتهر بين الناس سيما من يعرف منهم مقام أم البنين عليها‌السلام ومنزلتها أنّه إذا فقد حاجة وضاعت منه وأراد أن يبحث عنها فانّه يقرأ سورة الفاتحة ويصلي على محمد وآل محمد ويهديها لأم البنين عليها‌السلام ، فانّه يجد ضالته باذن الله، وقد جرب ذلك مراراً.

__________________

(١) استفدنا ذلك من مذكرات السيد مرتضى المجتهدي السيستاني.

١٥٨

٧ - إهداء ختمة قرآن لأم البنين عليها‌السلام :

بعث الحاج الشيخ محمد علي إسلامي رسالة إلى «انتشارات مكتب الحسين عليه السالم» بتاريخ ذي الحجة الحرام (١٤١٩ هـ) وقال فيها:

«.. إنّي المدعو «محمد علي بن أحمد الاسلامي» حدثت لي معضلة لا يمكن حلّها عادة، وكانت متعلقة بعدة دوائر رسمية، وقد سدّت جميع الأبواب في وجهي، ولم أجد أي حيلة أو سبيل لحلّها، فتوسلت بالسيدة أم البنين عليها‌السلام وقلت لها: سيدتي أُم البنين.. إنّ لك عند الله جاهاً عريضاً وأنا سأختم القرآن الكريم وأهدي ثوابه لروحك المقدسة وفي المقابل توسلي أنت إلى الله في حلّ مشكلتي.

أجل؛ هكذا نذرت وشرعت في تلاوة القرآن الكريم وقبل إتمام الختمة تيسر أُموري كلّها وقضيت حاجتي، فكنت إذا راجعت أي دائرة من الدوائر وجدت السبيل مفتوحة والأُمور ميسرة والوجوه طلقة، وكأن لم يكن شيئاً مذكوراً.

هكذا هي هذه الأُسرة الجليلة شفيعتنا في الدنيا والآخرة.

٨ - إهداء زيارة عاشوراء لأم البنين عليها‌السلام :

السيد محمد حسين جعفر زاده عقيد متقاعد يسكن في منطقة «عظيمية» في كرج من ضواحي طهران العاصمة.. أرسل رسالة إلى «مكتب الحسين عليه‌السلام » ذكر فيها كرامة لقمر العشيرة أبي الفضل العباس عليه‌السلام وضمّنها توسلين بأُم البنين عليها‌السلام فقال:

١ - قضيت ثلاثين سنة من عمري في خدمة الجيش في الجمهورية الإسلامية، ومن ثم أحلت على التقاعد، فقدمت لي دعوة من «منظمة الاعلام الاسلامي» أولاً، ومن ثُمَّ من إحدى المراكز الناشطة في المدينة «كرج» لأقوم بتدريس فن قراءة المراثي وإقامة العزاء «ما يسمى عند الناس بالرادود» فقبلت الدعوة وشرعت بالتدريس على بركة الله، وقد كتبت - لحد الآن - أربعة كتب في هذا الفن وقدمتها لخدام المنبر الحسيني.

١٥٩

وفي ذات يوم - وكان اليوم جمعة - كنت مشغولاً بالتدريس وقت الحصر إذ دخل أحد التلاميذ ذاهلاً فاستأذن وقال: إنّ أبي الآن يعالج الموت، وقد تركته في سكراته محتضراً ووجهته إلى القبلة، وجئت لأعتذر اليك عن التأخير وأعود اليه.

فقلت له: اسمع مني سأروي لك حديثاً عن سيدتي فاطمة الزهراء عليها‌السلام فانها قالت: سألت أبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أي ساعة أفضل لاستجابة الدعاء؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : عند الغروب يوم الجمعة.

فنحن ندعو ولكن الأفضل أن تنذر أنت أيضاً نذراً قال: إنّي الآن في حالة من الاضطراب وتشتت البال بحيث لا أدري ماذا أفعل وماذا أنذر، أرجوا أن تنصحني وتعلمني وترشدني إلى ما أفعل؟

فقلت له: إنذر الآن أن تقرأ زيارة عاشوراء عشرة مرات وتهديها لأم البنين عليها‌السلام بقصد شفاء والدك.

فقال: أفعل، ورجع إلى البيت مسرعاً، فلمّا دخل البيت بلغ به العجب غايته، إذ رأى أباه واقفاً في ساحة الدار مشتغلاً بالوضوء والاستعداد لصلاة المغرب، فسأل عن ذلك، فأخبروه أنّه منذ نصف ساعة تقريباً انقطعت عنه الحمى فجأة وأخذ يتماثل إلى الشفاء وبدأت أعراض المرض تزول منه حتى قام قائماً على قدميه.

قال العقيد جعفر زاده:

وها هو ذا الأب حفظه الله يشتغل بالقرب منا يزاول عمله سالماً غانماً.

٢ - في يوم ٢٢ رمضان سنة ١٤٢٠ قالت لي زوجتي: إنّ تحت ابطي غدة بحجم «بيضة»، وبقيت على هذه الحال إلى أن انتهى الشهر الكريم، فراجعنا الطبيب الجراح فأخذ نموذجاً من الغدة وأرسلها إلى ال مختبر لتجرى عليها زراعة وتحليل لتشخيصها، إلّا أنّه لوّح لنا في كلامه إلى أنّها غدة خبيثة، وكانت نظرات العاملين في المختبر تحكى ذلك أيضاً. فتوجهت إلى الأئمة الأطهار وتوسلت بهم

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

( فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ )

فلم يخلصه أصدقاؤه ، ولا الذين كانوا يحملون أمتعته ولا أمواله ولا أي أحد من عذاب الله ، ومضى قارون وأمواله ومن معه في قعر الأرض!

أمّا آخر آية ـ محل البحث ـ فتحكى عن التبدل العجيب لأولئك الذين كانوا يتفرجون على استعراض قارون بالأمس ويقولون : يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون ، وما شابه ذلك!. وإذا هم اليوم يقولون : واها له ، فإنّ الرزق بيد الله( وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ ) .

لقد ثبت عندنا اليوم أن ليس لأحد شيء من عنده! فكلّ ما هو موجود فمن الله ، فلا عطاؤه دليل على رضاه عن العبد ، ولا منعه دليل على تفاهة عبده عنده!.

فالله تعالى يمتحن بهذه الأموال والثروة عباده أفرادا وأقواما ، ويكشف سريرتهم ونيّاتهم.

ثمّ أخذوا يفكرون في ما لو أجيب دعاؤهم الذي كانوا يصرون عليه ، وأعطاهم الله هذا المال ، ثمّ هووا كما هوى قارون ، فما ذا يكون قد نفعهم المال؟

لذلك شكروا الله على هذه النعمة وقالوا :( لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ ) .

فالآن نرى الحقيقة بأعيننا ، وعاقبة الغرور والغفلة ونهاية الكفر والشهوة!. ونعرف أن أمثال هذه الحياة المثيرة للقلوب بمظاهرها الخداعة ، ما أوحشها! وما أسوأ عاقبتها!.

ويتّضح من الجملة الأخيرة في هذه القصّة ـ ضمنا ـ أنّ قارون المغرور مات كافرا غير مؤمن ، بالرغم من أنّه كان يعدّ عارفا بالتوراة قارئا لها ، وعالما من بني إسرائيل ومن أقارب موسى.

* * *

٣٠١

بحوث

١ ـ نماذج قارونية بالأمس واليوم!

قصّة قارون ـ هذا الثري المغرور ـ التي ذكرها القرآن في سبع آيات بينات ـ بأسلوب جذّاب ـ تكشف الحجب عن حقاق كثيرة في حياة الناس!

هذه القصّة النّيرة توضح هذه الحقيقة ، وهي أن غرور الثروة ونشوتها قد ينجر بهما الإنسان ـ أحيانا ـ إلى أنواع الجنون جنون إظهار الثروة وعرضها ولفت أنظار الآخرين إلى التلذذ من تحقير الفقراء والمساكين.

كما أن هذا الغرور وهذه النشوة والعشق المطلق للفضة والذهب ، قد تكون سببا لأنّ يجرأ الإنسان أحيانا إلى ارتكاب أقبح الذنوب وأخسها ، كالإساءة إلى النّبي ومناهظة الحق والحقيقة واتهام أطهر الأفراد ، واستخدام الثروة لإنفاقها على الفواحش في سبيل الوصول إلى الغرض المطلوب.

أن الغرور والنشوة الناشئين من كثرة الثروة ، لا يسمحان للإنسان أن يسمع نصيحة الآخرين ، ويستجيب لمن يريد له الخير!.

وهؤلاء المغرورون الجهلة يتصورون أنّهم أعلم الناس وأكثرهم اطلاعا ، وفي اعتقادهم أن ثروتهم التي وقعت في أيديهم ، وربّما تقع عن طريق الغصب أحيانا ، هي دليل على عقلهم وذكائهم وأن جميع الناس جهلة كما يظنون ، وأنّهم ـ وحدهم ـ العلماء فحسب!.

ويبلغ بهم الأمر حدّا أن يظهروا قدرتهم أمام الخالق ، وكأنّهم مستقلّون ، ويدّعون أنّ ما وصلهم هو عن طريق ابتكارهم وذكائهم ، واستعدادهم وخلّاقيتهم ومعرفتهم التي لا نظير لها!

ورأينا عاقبة هؤلاء المغرورين المنحرفين ، وكيف ينتهون ، وإذا كان قارون وأتباعه وثروته جميعا قد خسفت بهم الأرض فهووا إلى قعرها ، فإنّ الآخرين يفنون بأشكال مختلفة وأحيانا تبتلع الأرض حتى ثروتهم العظيمة بشكل

٣٠٢

آخر أو يبدّلون ثروتهم الكبيرة بالقصور والبساتين والأراضي الشاسعة ثمّ لا يستفيدون منها أبدا وقد يشترون الأراضي الموات والبائرة ، على أمل تقسيمها صغيرة لتباع كل قطعة بسعر باهض! وهكذا تبتلع الأرض ثروتهم.

أمثال هؤلاء الأفراد من سقيمي العقول حين لا يجدون طريقا لصرف ثروتهم العظيمة يتوجهون إلى القيم الخيالية وينفقون أموالهم على الخزف المتكسّر على أنّه من التراث القديم كالأكواز والأقداح الخزفية ، والطوابع ، والأوراق النقدية المتعلقة بالسنوات القديمة ، ويحافظون عليها في مكان حريز من بيوتهم على أنّها أغلى التحف ، وهي لا تستحق أن توضع إلّا في المزابل لو نظرنا إليها بعين البصيرة والاعتبار!

أولئك الذين يحيون مثل هذه الحياة الناعمة الخيالية قد يتفق أن يرى في مدينتهم أو في مناطقهم ـ وأحيانا في جيرانهم ـ من لا عهد له بالشبع ، ويسهرون لياليهم على الطوى جائعين ، ومن العجيب أنّهم يرون هذه الحالة فلا تهتز لها ضمائرهم ، ولا يتأثر لأجلها وجدانهم!.

كما يتفق لحيواناتهم أن تعيش حياة الرفاه ، وتستفيد من رعاية الأطباء والأدوية الخاصّة! في حين أن أناسا محرومين يعيشون في ظروف صعبة وسيئة إلى جوارهم ، وربّما يرقدون في المستشفى ، ويئنّون ولا من مصرخ لهم ، ولا من علاج لمرضهم!.

جميع هذه البحوث تنطبق أحيانا على بعض الأفراد في مجتمع ما ، وقد تنطبق على دولة معينة قبال دول الدنيا كلها ، أي قد نجد دولة قارونية مستكبرة أمام الدول الضعيفة ، كما نلاحظ في العصر الحاضر في شأن الدول الاستكبارية كأمريكا وكثير من الدول الأوروبية.

لقد هيأ هؤلاء حياة التنعّم والرفاه ـ في أرقى صورها ـ باستثمار أبناء العالم الثّالث والدول الفقيرة العزلاء بحيث أنّهم يرمون فضلات طعامهم في المزابل ،

٣٠٣

ولو قدر أن تجمع بصورة صحيحة ، لأمكن عندئذ تغذية الملايين المحرومة الجائعة من هذه المواد الغذائية الإضافية.

وما نقوله من أن بعض الدول فقيرة هي في الحقيقة ليست دولا فقيرة ، بل هي دول منيت بسرقة خيراتها وأغير عليها وربّما كان لديها أغلى المصادر والمعادن تحت الأرض ، لكن هؤلاء المغيرين ينهبون هذه الخيرات ويتركون أهلها على الأرض السوداء الجرداء.

فهؤلاء القارونيون يشيدون قواعد قصورهم الظالمة على أكواخ المستضعفين المهدّمة وإذا لم يتّحد المستضعفون يدا بيد ليقذفوا بالمستكبرين إلى قعر الأرض كما فعل بقارون ، فإنّ حالة الدنيا ستبقى هكذا.

فأولئك يشربون الخمور ويضحكون منتشين ، وهؤلاء يجلسون على بساط الفقر والحرمان باكين.

٢ ـ من أين جاء قارون بهذه الثروة العريضة؟

الطريف أنّنا نقرأ في الآيتين (٢٣) و (٢٤) من سورة المؤمن ما نستفيد منه بوضوح أنّ رسالة موسىعليه‌السلام كانت من البداية لمبارزة ثلاثة أشخاص! «فرعون» ، ووزيره «هامان» ، و «قارون» الثري المغرور.( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ ) .

ونستفيد من النصّ القرآني المتقدم أن قارون كان من جماعة فرعون ، وكان على خطه ؛ كما أنّنا نقرأ في التواريخ أنّه كان ممثلا لفرعون في بني إسرائيل من جهة(١) ، وأنّه كان أمين الصندوق عند فرعون ، والمسؤول على خزائنه من جهة أخرى(٢) .

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٥ ، ص ١٣ ، وتفسر مجمع البيان ، ج ٧ ، ص ٢٦٦ ـ ذيل الآية محل البحث

(٢) مجمع البيان ، ج ٨ ، ص ٥٢٠ ذيل الآية ٢٤ من سورة المؤمن.

٣٠٤

ومن هنا تتّضح هويّة قارون فإنّ فرعون من أجل إذلال بني إسرائيل وسلب أموالهم اختار رجلا منافقا منهم ، وأودعه أزمّة أمورهم ، ليستثمر أموالهم لخدمة نظامه الجبار ، وليجعلهم حفاة عراة ، ويكتسب من هذه الطريقة ثروة ضخمة منهم!.

والقرائن تشير إلى أنّ مقدارا من هذه الثروة العظيمة وكنوز الأموال بقيت بعد هلاك فرعون عند قارون ، ولم يطلع موسىعليه‌السلام ـ إلى تلك الفترة ـ على مكان الأموال لينفقها على اتباعه الفقراء.

وعلى كل حال ، فسواء كانت هذه الثروة قد حصل عليها قارون في عصر فرعون ، أو حصل عليها عن طريق الإغارة على خزائنه بعد هلاكه ، أو كما يقول البعض قد حصل عليها عن طريق علم الكيمياء أو التجارة أو معرفته بأصول استثمار أموال المستضعفين.

مهما يكن الأمر فإنّ قارون آمن بموسى بعد انتصار موسى على فرعون ، وبدّل وجهه بسرعة ، وأصبح من قرّاء التوراة وعلماء بني إسرائيل في حين أنّ من البعيد أن تدخل ذرة من الإيمان في مثل قلب هذا المنافق!.

وأخيرا فحين أراد موسىعليه‌السلام أن يأخذ من قارون زكاة المال ، خدع به الناس ، وعرفنا كيف كانت عاقبته.

٣ ـ موقف الإسلام من الثّروة!

لا ينبغي أن نستنبط من المسائل التي ذكرناها آنفا أنّ الإسلام يقف من الثروة موقفا سلبيا ، وأنّه يخالف خط الثراء ، ولا ينبغي أن نتصور أنّ الإسلام يريد حياة الفقر والفقراء ، ويعدّ حياة الفقر من الكلمات المعنوية!.

بل على العكس من ذلك ، فإنّ الإسلام يعد الثروة عاملا مهمّا نحو الآخرة! وقد عبّر القرآن عن المال بالخير في الآية (١٨٠) من سورة البقرة( إِنْ تَرَكَ

٣٠٥

خَيْراً ) أي مالا.

ونقرأ في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام في هذا الصدد «نعم العون الدنيا على طلب الآخرة»(١) .

بل حتى الآيات ـ محل البحث ـ التي تذم قارون أشدّ الذم ، لأنّه اغتر بالمال ، هي شاهد بليغ على هذا الموضوع غاية ما في الأمر أنّ الإسلام يقبل بالثروة التي بواسطتها تبتغى الدار الآخرة ، كما قال علماء بني إسرائيل لقارون( وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ) .

والإسلام يرضى بالثروة التي نرى فيها «أحسن كما أحسن الله إليك» ولكن للجميع!.

والإسلام يوافق على ثروة يتحقق فيه القول «لا تنس نصيبك من الدنيا» ويمدحها.

وأخيرا فإنّ الإسلام لا يطلب ثروة ينبغي بها الفساد في الأرض وتنسى بها القيم الإنسانية وتكون نتيجتها الابتلاء بمسابقة جنون التكاثر ، أو أن ينفصل الإنسان عن ذاته ويحتقر الآخرين ، وربّما تجرّه إلى مواجهة الأنبياء كما فعل قارون في مواجهته لموسىعليه‌السلام !.

يريد الإسلام الثروة لتكون وسيلة لملء الفراغ الاقتصادي ، وأن يستفيد منها الجميع ، ولتكون ضمادا لجراح المحرومين ، وللوصول بها إلى إشباع الحاجات الاجتماعية وحلّ مشاكل المستضعفين

فالعلاقة بين هذه الثروة وهذه الأهداف المقدّسة ليست علاقة دنيوية ، أو ارتباطا بالدنيا ، بل هي علاقة أخروية.

كما نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أن أحد أصحابه جاءه شاكيا أمره ، وقال : والله إنّا لنطلي الدنيا ونحبّ أن نؤتاها. فقالعليه‌السلام : «تحبّ أن تصنع بها

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٢ ، ص ١٧ ، الحديث ٥ من الباب ١٦ من أبواب مقدمات التجارة.

٣٠٦

ما ذا؟»

قال : أعود بها على نفسي وعيالي ، وأصل بها وأتصدق بها وأحج وأعتمر فقال الامام الصادقعليه‌السلام : «ليس هذا طلب الدنيا ، هذا طلب الآخرة»(١) .

ومن هنا يتّضح فساد عقيدة طائفتين في هذا المجال :

طائفة من المسلمين ، أو بتعبير أدق : ممن يتظاهرون بالإسلام ، وبعيدون عن تعاليمه ، فيعرّفون الإسلام على أنّه محام عن المستكبرين.

وطائفة من الأعداء المغرضين الذين يريدون أن يمسخوا وجه الإسلام الأصيل ، ويجعلوه معاديا للثروة ، وأنّه يقف الى جانب الفقراء فحسب.

وأساسا فإنّ أمّة فقيرة لا تستطيع أن تعيش وحدها مرفوعة الرأس حرّة كريمة!.

فالفقر وسيلة للارتباط بالاجنبي والتبعية

والفقر أساس الخزي في الدنيا والآخرة!

والفقر يدعو الإنسان إلى الإثم والخطيئة.

كما نقرأ في حديث للإمام الصادق في هذا الصدد «غنى يحجزك عن الظلم ، خير من فقر يحملك على الإثم»(٢) .

إنّ على المجتمعات الإسلامية أن تسعى ـ مهما استطاعت ـ نحو التقدم لتكون غنيّة غير محتاجة ، ولتبلغ مرحلة الاكتفاء الذاتي ، وأن تقف على أقدامها وأن لا تضحّي باستقلالها وعزّتها وشرفها من أجل الفقر المذلّ الموجب للتبعية وتعلم أن منهج الإسلام الأصيل هو هذا لا غير.

* * *

__________________

(١) «وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ١٩ الحديث الثّالث الباب السابع من أبواب مقدمات التجارة.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ١٧ ، الحديث السابع الباب السادس من أبواب مقدمات التجارة.

٣٠٧

الآيتان

( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤) )

التّفسير

نتيجة حبّ التسلط والفساد في الأرض :

بعد البيان المثير لما حدث لثري مستكبر ومتسلط ، وهو قارون ، تبدأ الآية الأولى من هذا المقطع ببيان استنتاج كلي لهذا الواقع وهذا الحدث ، إذ تقول الآية( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً ) .

أجل ، فهم غير مستكبرين ولا مفسدين في الأرض وليس هذا فحسب ، بل قلوبهم مطهّرة من هذه المسائل ، وأرواحهم منزهة من هذه الأوساخ! فلا يريدون ذلك ولا يرغبون فيه.

وفي الحقيقة إنّ ما يكون سببا لحرمان الإنسان من مواهب الدار الآخرة ، هو هذان الأمران : «الرغبة في العلو» أيّ الاستكبار و «الفساد في الأرض» وهما

٣٠٨

الذنوب لأنّ كل ما نهى الله عنه فهو على خلاف نظام خلق الإنسان وتكامل وجوده حتما ، فارتكاب ما نهى الله عنه يدمر نظام حياة الإنسان ، لذا فهو أساس الفساد في الأرض! حتى مسألة الاستعلاء ـ بنفسها ـ هي أيضا واحدة من مصاديق الفساد في الأرض ، إلّا أن أهميته القصوى دعت إلى أن يذكر بالخصوص من بين جميع المصاديق للفساد في الأرض!.

وقد رأينا في قصّة «قارون» وشرح حاله أنّ السبب الأساس في شقوته وهلاكه هو العلوّ و «الاستكبار».

ونجد في الرّوايات الإسلامية اهتماما بهذه المسألة حتى أنّنا نقرأ حديثا عن الإمام أمير المؤمنين علىعليه‌السلام يقول : «إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها»(١) .

(وهذا أيضا فرع صغير من الاستعلاء).

ومن الطريف أنّ صاحب «تفسير الكشاف» يعلق بعد ذكر هذا الحديث فيقول : بعض الطامعين ينسبون «العلوّ» في الآية محل البحث لفرعون بمقتضى قوله :( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ ) ،(٢) والفساد لقارون بمقتضى قوله :( تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ ) ،(٣) ويدعون بأن من لم يكن كمثل فرعون وقارون فهو من أهل الجنّة والدار الآخرة ، وعلى هذا فهم يبعدون فرعون وقارون وأمثالهما من الجنّة فحسب ، ويرون الباقين من أهل الجنّة ، إلّا أنّهم لم يلاحظوا ذيل الآية( وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) بدقة ـ كما لاحظها الإمام عليعليه‌السلام (٤) .

وما ينبغي إضافته على هذا الكلام هو أن هؤلاء الجماعة أخطئوا حتى في معرفة قارون وفرعون لأنّ فرعون كان عاليا في الأرض وكان من المفسدين

__________________

(١) تفسير جوامع الجامع ، ذيل الآية محل البحث.

(٢) سورة القصص ، الآية ٤.

(٣) سورة القصص ، الآية ٧٧.

(٤) تفسير الفخر الرازي ، ذيل الآية محل البحث.

٣٠٩

( إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) ،(١) وقارون أيضا كان مفسدا وكان عاليا بمقتضى قوله :( فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ) .(٢)

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه كان يسير في الأسواق أيام خلافته الظاهرية ، فيرشد التائهين إلى الطريق ويساعد الضعفاء ، وكان يمرّ على الباعة والكسبة ويتلوا الآية الكريمة( تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً ) . ثمّ يضيف سلام الله عليه : «نزلت هذه الآية في أهل العدل والتواضع من الولاة وأهل القدرة من الناس»(٣) .

ومعنى هذا الكلام ، أنّه كما لم يجعل الخلافة والحكومة وسيلة للاستعلاء ، فلا ينبغي أن تجعلوا أموالكم وقدرتكم وسيلة للتسلط على الآخرين ، فأنّ العاقبة لأولئك الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا وكما يقول القرآن في نهاية الآية( وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) .

و «العاقبة» بمفهومها الواسع هي النتيجة الصالحة ، وهي الانتصار في هذه الدنيا ، والجنّة ونعيمها في الدار الأخرى وقد رأينا أنّ قارون وأتباعه إلى أين وصلوا وأيّة عاقبة تحمّلوا! مع أنّهم كانوا مقتدرين ولكن حيث كانوا غير متقين فقد ابتلوا بأسوأ العاقبة والمصير!.

ونختم كلامنا في شأن هذه الآية بحديث للإمام الصادقعليه‌السلام وهو أنّ الإمام الصادق حين تلا هذه الآية أجهش بالبكاء وقال : «ذهبت والله الأماني عند هذه الآية»(٤) .

وبعد ذكر هذه الحقيقة الواقعية ، وهي أن الدار الآخرة ليست لمن يحب

__________________

(١) سورة القصص ، الآية ٤.

(٢) سورة القصص ، الآية ٧٩.

(٣) نقل هذه الرواية زاذان عن أمير المؤمنين «مجمع البيان (ذيل الآية محل البحث)».

(٤) تفسير علي بن إبراهيم ذيل الآية محل البحث.

٣١٠

السلطة والمستكبرين ، بل هي للمتقين المتواضعين وطلبة الحق ، تأتي الآية الثّانية لتبيّن قانونا كليا وهو مزيج بين العدالة والتفضل ، ولتذكر ثواب الإحسان فتقول :( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ) .

وهذه هي مرحلة التفضل ، أي أنّ الله سبحانه لا يحاسب الناس كما يحاسب الإنسان نظيره بعين ضيّقة ، فإذا أراد الإنسان أن يعطي أجر صاحبه فإنّه يسعى أن يعطيه بمقدار عمله ، إلّا أنّ الله قد يضاعف الحسنة بعشر أمثالها وقد يضاعفها بمئات الأمثال وربّما بالآلاف ، إلّا أن أقلّ ما يتفضل الله به على العبد أن يجازيه عشرة أضعاف حسناته ، حيث يقول القرآن في الآية (١٦٠) من سورة الأنعام :( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) .

أمّا الحدّ الأكثر من ثواب الله وجزائه فلا يعلمه إلّا الله ، وقد جاءت الإشارة إلى جانب منه ـ وهو الإنفاق في سبيل الله ـ في الآية ٢٦١ من سورة البقرة إذ يقول سبحانه في هذا الصدد( ... مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ) .

وبالطبع فإنّ مضاعفة الأجر والثواب ليس أمرا اعتباطيا ، بل له ارتباط وثيق بنقاء العمل وميزان الإخلاص وحسن النيّة وصفاء القلب ، فهذه هي مرحلة التفضل الإلهي في شأن المحسنين.

ثمّ يعقّب القرآن ليذكر جزاء المسيئين فيقول :( وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

وهذه هي مرحلة العدل الإلهي ، لأنّ المسيء لا يجازى إلّا بقدر إساءته ، ولا تضاف على إساءته أية عقوبة!.

الطريف هنا عند ذكر جزاء السيئة أن القرآن يعبر عن الجزاء بالعمل نفسه( إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) أي إن أعمالهم التي هي طبقا لقانون بقاء الموجودات في

٣١١

عالم الوجود ، تبقى ولا تتغير ، وتبرز في يوم القيامة متجسمة دون خفاء ، فهو (يوم البروز) في شكل يناسب العمل ، وهذا الجزاء يرافق المسيئين ويعذبهم!.

* * *

ملاحظات

١ ـ لم تكرر ذكر «السيئة» في هذه الآية مرتين؟

من المحتمل أن يكون ذكر السيئة مرتين في الآية ، لأن الله يريد أن يؤكّد على هذه المسألة ، وهي أن السيئة لا جزاء لها إلّا نفسها.

٢ ـ هل تشمل الحسنة الإيمان والتوحيد؟ فإذا كان كذلك فما معنى هذه الجملة( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ) ؟! وهل هناك خير من الإيمان والتوحيد؟!

وفي الإجابة على هذا السؤال نقول ـ بدون شك وترددّ ـ إن للحسنة معنى واسعا فهي تشمل المناهج الاعتقادية والأقوال والأعمال الخارجية ، وما هو أفضل من الاعتقاد بتوحيد الله فهو رضا الله سبحانه الذي يكون ثوابا للمحسنين ، فنحن نقرأ في الآية (٧٢) من سورة التوبة قوله تعالى :( وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ) !

٣ ـ لم عبّر القرآن عن الحسنة بصيغة الإفراد ، وعن السيئات بصيغة الجمع؟! يعتقد بعض المفسّرين أنّ هذا التعبير عائد إلى كثرة المسيئين وقلة المحسنين(١) .

كما ويحتمل أيضا أن الحسنات تتلخص في حقيقة التوحيد ، وأنّ جميع الحسنات تعود إلى «جذر» واحد وهو توحيد الله ، في حين أن السيئات ترجع إلى الشرك الذي هو مصداق التشتت والتعدد والكثرة.

* * *

__________________

(١) روح المعاني ، الآلوسي ذيل الآية.

٣١٢

الآيات

( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨) )

سبب النّزول

نقل جماعة من المفسّرين ـ سببا لنزول الآية الأولى من الآيات أعلاه عن ابن عباس مضمونه ما يلي :

حين كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله متوجها من مكّة إلى المدينة في سفر الهجرة وبلغ «الجحفة» وهي لا تبعد عن مكّة كثيرا تذكر وطنه «مكّة» هذه البقعة التي هي حرم الله وأمنه وفيها البيت العتيق «الكعبة» التي تعلق بها قلب النّبي وروحه تعلقا لا يقبل الانفكاك ظهرت آثار الشوق على وجه النّبي الكريم مزيجة بالحزن

٣١٣

والتأثر ، فنزل أمين الوحي جبريل على رسول الله وقال : أتشتاق الى بلدك وهو مولدك؟! فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم فقال جبرئيلعليه‌السلام : فإن الله يقول :( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ ) (١) يعني مكّة

ونعلم أنّ هذا الوعد العظيم تحقق أخيرا ، ودخل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بجيشه القوي وقدرته وعظمته الكبيرة مكّة ظافرا ، واستسلمت مكّة والحرم الآمن دون حرب للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فعلى هذا تعدّ الآية آنفة الذكر من الإخبار الإعجازي السابق لوقوعه ، إذ أخبر القرآن عن رجوع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مكّة بصورة قطعيّة ودون أي قيد وشرط ، ولم تطل المدّة حتى تحقق هذا الوعد الإلهي الكبير!.

التّفسير

الوعد بعودة النّبي إلى حرم الله الآمن :

هذه الآيات التي هي آخر الآيات في سورة القصص تخاطب نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله وتبشره بالنصر ، بعد أن جاءت الآيات الأولى لتبيّن قصّة موسى وفرعون وما جرى له مع قومه ، كما أنّ هذه الآيات فيها ارشادات وتعليمات مؤكّدة لرسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قلنا : إنّ الآية الأولى من هذه الآيات طبقا لما هو مشهور بين المفسّرين نزلت في «الجحفة» في مسير النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلى المدينة إذ كان متوجها إلى يثرب لتتحول بوجوده إلى «مدينة الرّسول» وأن يبذر النّواة الأصيلة «لحكومة إسلامية» فيها ويجعلها مقرّا لحكومة إلهية واسعة ، ويحقق فيها أهدافها.

لكن هذا الحنين والشوق والتعلق بمكّة يؤلمه كثيرا ، وليس من اليسير عليه الابتعاد عن حرم الله الآمن.

__________________

(١) راجع تفسير الميزان ، تفسير القرطبي ، ومجمع البيان «التّفسير الكبير» للفخر الرازي ، وتفاسير غيرها.

٣١٤

وهنا يشرق في قلبه الطاهر نور الوحي ، ويبشّره بالعودة إلى وطنه الذي ألفه فيقول :( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ ) .

فلا تكترث ولا تذهب نفسك حسرات ، فالله الذي أعاد موسى إلى أمّه هو الذي أرجعه أيضا إلى وطنه بعد غياب عشر سنوات في مدين ، ليشعل مصباح التوحيد ويقيم حكومة المستضعفين ويقضي على الفراعنة ودولتهم وقوّتهم.

هو الله سبحانه الذي يردك إلى مكّة بكلّ قوّة وقدرة ، ويجعل مصباح التوحيد على يدك مشرقا في هذه الأرض المباركة.

وهو الله الذي أنزل عليك القرآن ، وفرض عليك إبلاغه ، وأوجب عليك أحكامه.

أجل ، إنّ ربّ القرآن وربّ السماء والأرض العظيم ، يسير عليه أن يردّك إلى معادك ووطنك «مكّة».

ثمّ يضيف القرآن في خطابه للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أن يجيب على المخالفين الضالين بما علّمه الله( قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

إنّ طريق الهداية واضح ، وضلالهم بيّن ، وهم يتعبون أنفسهم عبثا ، فالله يعرف ذلك جيدا ، والقلوب التي تعشق الحق تعرف هذه الحقيقة أيضا.

وبالطبع فإنّ التّفسير الواضح للآية كما بيّناه آنفا ، إلّا أن جمعا من المفسّرين لديهم احتمالات أخرى في كلمة «معاد» من قبيل «العودة للحياة بعد الموت» «المحشر» او «الموت». كما فسّروه «بالجنّة» أو مقام «الشفاعة الكبرى» أو «بيت المقدس» الذي عرج النّبي منه أوّل مرة ، وغير هذه المعاني.

إلّا أنّه مع الالتفات إلى محتوى مجموع هذه السورة ـ القصص ـ وما جاء في قصّة موسى وفرعون وبني إسرائيل ، وما سقناه من شأن نزول الآية ، فيبعد تفسير المعاد بغير العودة إلى مكّة كما يبدو!.

أضف إلى ذلك أن المعاد في يوم القيامة لا يختصّ بالنّبي وحده ، والحال أن

٣١٥

الآية تتحدث عن النّبي ـ هنا ـ وتخاطبه وحده. ووجود هذه الآية بعد الآية التي تتحدث عن الثواب والجزاء في يوم القيامة ، لا دلالة فيها على هذا المعنى ، بل على العكس من ذلك ، لأنّ الآية السابقة تتحدث عن الانتصار في الدار الآخرة ، ومن المناسب أن يكون الحديث في هذه الآية عن الانتصار في هذه الدنيا.

أمّا الآية التالية فتتحدث عن نعمة أخرى من نعم الله العظيمة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فتقول :( وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) (١) .

كان كثير من الناس قد سمعوا بالبشارة بظهور الدين الجديد ، ولعل طائفة من أهل الكتاب وغيرهم كانوا ينتظرون أن ينزل عليهم الوحي ويحمّلهم الله هذه المسؤولية ، ولكنّك ـ أيّها النّبي ـ لم تكن تظن أنّه سينزل عليك الوحي( وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ ) إلّا أن الله رآك أجدر بالأمر ، وأن هذا الدين الجديد ينبغي أن ينتشر ويتسع على يدك في هذا العالم الكبير!.

وبعض المفسّرين يرون هذه الآية منسجمة مع آيات سابقة كانت تتحدث عن موسىعليه‌السلام ، وتخاطب النّبي ـ أيضا ـ كقوله تعالى :( وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) .

فعلى هذا يكون المقصود بالكتاب هنا هو قصص الأنبياء السابقين إلّا أن هذا التفسير لا منافاة فيه مع التفسير المتقدم! بل يعدّ قسما منه في الواقع!.

ثمّ يضيف القرآن في خطابه للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن طالما كنت في هذه النعمة( فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ ) .

ومن المسلّم به أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن ظهيرا للكافرين أبدا ، إلّا أن الآية جاءت في مقام التأكيد على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبيان المسؤولية للآخرين ، وأن

__________________

(١) قال بعضهم : إن «إلّا» هنا تفيد الاستثناء ، فاضطروا إلى أن يقولوا بحذف كلمة والتقدير لها من عندهم وهو تحكّم إلّا أن البعض الآخر فسّر «إلّا» بمعنى «لكن» وأنّها تفيد الإستدراك ، وهذا الوجه أقرب للنظر!

٣١٦

وظيفتهم أن يتأسوا بالنّبي ولا يكون أيّ منهم ظهيرا للكافرين.

وهذا الموضوع ينسجم تماما مع الموضوع الذي قرأناه في شأن موسىعليه‌السلام ، إذ قال :( رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) وبيّنا معناه في شأن إعانة الظالمين في الآية (١٧) من سورة القصص ، أمّا الآيتان اللتان تختتم بهما سورة القصص ، فهما تأكيد على مسألة التوحيد بتعابير واستدلالات متعددة ـ ومختلفة.

التوحيد الذي هو أساس جميع المسائل الدينية التوحيد الذي هو الأصل وهو الفرع وهو الكلّ وهو الجزء!.

وفي هاتين الآيتين أربعة أوامر من الله لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأربعة صفات لله تعالى ، وبها يكتمل ما ورد في هذه السورة من أبحاث.

يقول أوّلا :( وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ ) وبالرغم من أن النهي موجه إلى الكفار ، إلّا أن مفهوم الآية عدم تسليم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أمام صدّ الكافرين ، وإحباطهم ومؤامراتهم ، وهذا تماما يشبه ما لو قلنا مثلا : لا ينبغي أن يوسوس لك فلان ، فمعناه : لا تستسلم لوسوسته!.

وبهذا الأسلوب يأمر الله النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يقف راسخ القدم عند نزول الآيات ولا يتردد في الأمر ، وأن يزيل الموانع من قارعة الطريق مهما بلغت ، وليسر نحو هدفه مطمئنا ، فإنّ الله حاميه ومعه أبدا.

ويقول ابن عباس : وإن كان المخاطب هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلّا أنّ المراد عموم الناس ، وهو من قبيل المثل العربي المعروف «إيّاك أعني واسمعي يا جارة!».

وبعد هذا الخطاب الذي فيه جنبة نهي ، يأتي الخطاب الثّاني وفيه سمة إثبات فيقول :( وَادْعُ إِلى رَبِّكَ ) فالله الذي خلقك وهو الذي ربّاك ورعاك

والأمر الثالث ، بعد الأمر بتوحيد الله ، هو نفي جميع أنواع الشرك وعبادة الأصنام( وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) فإن طريق التوحيد واضحة بينة ، ومن

٣١٧

ساروا عليها فهم على صراط مستقيم!.

والأمر الرّابع تأكيد آخر على نفي جميع أنواع الشرك ، إذ يقول تعالى :( وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) .

وهذه الأوامر المتتابعة كل واحد منها يؤكّد الآخر ، يوضح أهمية التوحيد في المنهج الإسلامي ، إذ بدونه يكون كل عمل زيفا ووهما.

وبعد هذه الأوامر الأربعة تأتي أوصاف أربعة لله سبحانه ، وهي جميعا تأكيد على التوحيد أيضا.

فالأوّل قوله :( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ) .

والثّاني قوله :( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) .

والوصف الثالث :( لَهُ الْحُكْمُ ) والحاكمية في عالمي التشريع والتكوين.

والرابع : أن معادنا إليه( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) .

والأوصاف الثلاثة الأخيرة يمكن أن تكون دليلا على إثبات التوحيد وترك جميع أنواع عبادة الأصنام ، الذي أشير إليه في الوصف الأول!

لأنّه طالما كنّا هالكين جميعا وهو الباقي.

وطالما كان التدبير لنظام الوجود بيده والحكم له!

وطالما كان معادنا إليه وإليه نرجع! فما عسى أن يكون دور المعبودات غيره ، وأي أحد يستحق العبادة سواه!؟

والمفسّرون الكبار لديهم آراء مختلفة في تفسير جملة( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) تدور حول محور كلمتي «وجه» و «هالك».

لأنّ الوجه يطلق ـ من حيث اللغة ـ على المحيّا أو ما يواجهه الإنسان من الشخص المقابل ، ولكن الوجه حين يطلق على الخالق فإنّه يعني عندئذ ذاته المقدسة!.

وكلمة «هالك» مشتقّة من مادة «هلك» ومعناه الموت والعدم ، فعلى هذا

٣١٨

يكون معنى الجملة المتقدمة فناء جميع الموجودات عدا ذات الخالق المقدسة وهذا الفناء بالنسبة للموجودات الممكنة غير منحصر بفناء هذا العالم وانتهائه ، فالموجودات الآن فانية قبال الذات المقدسة ، وهي تحتاج إلى فيضه لحظة بعد لحظة ، وليس لديها في ذاتها أي شيء ، وكلّ ما لديها فمن الله!

ثمّ بعد هذا كلّه فإنّ موجودات هذا العالم جميعها متغير وفي معرض التبدل ، وحتى طبقا لفلسفة «الحركة الجوهرية» فذاتها هي التغيير بعينه ، ونحن نعرف أن الحركة والتغيير معناهما الفناء والعودة الدائمية ، فكل لحظة تموت موجودات العالم وتحيا!.

فعلى هذا فإنّ الموجودات هالكة وفانية الآن ـ أيضا ـ غير أن الذات التي لا طريق الفناء إليها ولا تهلك ، هي الذات المقدسة!

كما نعلم أنّ الفناء أو العدم يتجلى بصورة واضحة في نهاية هذا العالم ، وكما يقول القرآن :( كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ ) .(١)

ولا يخصّ الفناء ما على الأرض ، بل يشمل حتى أهل السماء( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ) .(٢) فهذا التّفسير منسجم مع ظاهر الآية والآيات الأخرى في القرآن ، غير أن بعض المفسّرين ذكروا تفاسير أخرى غير ما تقدم بيانه ، ومنها :

١ ـ أنّ المقصود من كلمة (وجه) هو العمل الصالح ، ومفهوم هذه الآية يكون حينئذ أن جميع الأعمال تمضي مع الرياح سوى ما يكون خالصا لله.

وقال بعضهم : إنّ المراد بالوجه هو انتساب الأشياء إلى الله ، فيكون مفهوم الآية أنّ كل شيء معدوم ذاتا إلّا من ناحية انتمائه إلى الله!

وقال بعضهم : المراد بالوجه هو الدين ، فيكون مفهوم الآية أن المذاهب كلها

__________________

(١) سورة الرحمن ، الآيتان ٢٦ و ٢٧.

(٢) سورة الزمر ، الآية ٦٨.

٣١٩

باطلة سوى دين الله.

وجملة( لَهُ الْحُكْمُ ) هي كما فسّروها بأنّها الحاكمية التشريعية. وهو تأكيد على التّفسير السابق!.

كما أن جملة( وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) فسّروها بالرجوع إلى الله في أخذ الشريعة عنه! وهذا تأكيد آخر على هذا المعنى(١) .

وهذه التفاسير مع ما بيّناه آنفا لا نجد بينها منافاة في الحقيقة! لأنّنا حين عرفنا أن الشيء الوحيد الذي يبقى في هذا العالم هو الذات المقدسة لله فحسب! فيتّضح أن ما يرتبط بذات الله بنحو من الأنحاء فإنه يستحق البقاء والابدية.

فدين الله الصادر منه أبديّ ، والعمل الصالح الذي له أبديّ والقادة الإلهيّون الذين يرتبطون يتّسمون بالخلود.

والخلاصة ، كل ما هو مرتبط بالله ـ ولو بنحو من الأنحاء ـ فهو غير فان «فلاحظوا بدقّة».

* * *

مسألتان

١ ـ كيف تفنى جميع الأشياء؟!

من جملة الأسئلة التي أثيرت في ذيل الآية ، هو أنّه إذا كان لا بدّ من فناء جميع الأشياء في نهاية العالم ، فلا محيص من أن تتلاشى الأتربة التي تكونت من أبدان الناس ، في حين أن القرآن يصرّح مرارا بأن الله سيجمع هذه الاتربة وينشر الناس منها ، وأن الناس سينشرون في يوم القيامة من قبورهم!.

وطبقا لظاهر الآيات ـ أيضا ـ فإن الجنّة معدّة ، والنّار معدّة ومهيأة من قبل ،

__________________

(١) وردت روايات متعددة في تفسير «نور الثّقلين» في ذيل الآيات فسّرت بعضها الوجه بدين الله ، وبعضها برسل الله وما هو منسوب لله.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378