أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين15%

أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 378

أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين
  • البداية
  • السابق
  • 378 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 165764 / تحميل: 9099
الحجم الحجم الحجم
أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

ومن ثم أعتق النبيب صلى‌الله‌عليه‌وآله من كان في سهمه إكراماً لمرضعته «حليمة السعدية» التي كانت من «هوازن» وردّ عليهم أموالهم، تبعه على ذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وفعل بعض الصحابة ما فعله النبي ووصيه، ثم تبعهم المسلمون جميعاً.

فلما رأى رجال هوازن هذا الوفاء والعفو والمرؤة والخلق السامي في المسلمين دخلوا الاسلام أفواجاً، واستأذنوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في العودة، فأذن لهم صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وكان فيهم «مالك بن عوف» قائدهم المقدام، وزعيمهم الشجاع، فأسلم وصار ذا صيت في جهاده من أجل رفع راية الدين الحنيف (١) .

كانت أُم البنين عليها‌السلام من نساء هذه القبيلة، حيث نشأت في بيت عرف رجاله بالشجاعة والكرم والسخاء، وكان لهم حظ وافر في العلم والمعرفة.

* * *

__________________

(١) انظر غزوة حنين: قصص الراوندي ٣٥٠ الفصل ١٠، تفسير القمي ١ / ٢٨٥ وما بعدها غزوة حنين، البحار ٢١ / ١٤٩، باب ٢٨.

٢١

(٢) أسرتها

هي فاطمة (١) بنت حزام (٢) بن خالد بن ربيعة بن وحيد بن كعب بن عامر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن.

وأمها: ثمامة (٣) من آل سهل بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب.

١ - وأمها: عمرة بنت الطفيل فارس قرزل ابن مالك الأجزم رئيس هوزان بن جعفر بن كلاب.

٢ - وأمها: كبشة بنت عروة الرحال ابن عتبة جعفر بن كلاب.

٣ - وأمها: أم الخشف بنت أبي معاوية فارس الهوازن ابن عبادة بن عقيل بن كلاب بن ربيعة بن عار بن صعصعة.

٤ - وأمها: فاطمة (٤) بنت جعفر بن كلاب.

٥ - وأمها: عاتكة بنت عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب جدة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٥) .

__________________

(١) في تاريخ الخميس ٢ / ٣١٧ «وايس» بدل «فاطمة».

(٢) في الاصابة ١ / ٣٧ والمعارف لابن قتيبة: ٩٢: «حرام» بالراء المهملة.

(٣) في عمدة الطالب: «ليلى».

(٤) في الأغاني: «خالدة».

(٥) قال في عمدة الطالب ٣٥٧: «وأمها فاطمة بنت عبد شمس بن عبد مناف».

٢٢

٦ - وأمها: آمنة بنت وهب بن عمير بن نصر بن قعين بن الحرث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة.

٧ - وأمها: بنت جحدر بن ضبيعة الأغر ابن قيس بن ثعلبة بن عكاية بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن ربيعة بن نزار، جدّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

٨ - وأمها: بنت مالك بن قيس بن ثعلبة.

٩ - وأمها: بنت ذي الرأسين وهو خشيش بن أبي عاصم بن سمح بن فزارة (١) .

١٠ - وأمها: بنت عمرو بن صرمة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن نفيض بن الربت بن غطفان (٢) .

هذا ما ذكره أبو الفرج في «المقاتل» من جدات أم البنين عليها‌السلام ، ومنه عرفنا آباءها وأخوالها، ويعرفنا التاريخ أنهم فرسان العرب في الجاهلية، ولهم الذكريات المجيدة في المغازي بالفروسية والبسالة مع الزعامة والسؤدد، حتى أذعن لهم الملوك، وهم الذين عناهم عقيل بن أبي طالب بقوله: «ليس في العرب أشجع من آبائها ولا أفرس» (٣) .

أبو البراء عامر بن مالك:

فانّ من قومها أبا براء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب جدّ ثمامة والدة أم البنين، وهو الجد الثاني لأم البنين، قيل له: «ملاعب الأسنة» لفروسيته وشجاعته، لقبه بذلك حسان لمارآه يقاتل الفرسان وحده وقد أحاطوا به قال: ما هذا إلّا ملاعب الأسنة.

__________________

(١) في قاموس اللغة: «خشين بن لاي» وفي تاج العروس: «لابى بن عصيم».

(٢) أنظر: مقاتل الطالبيين: ٨٧ ترجمة عبد الله بن علي عليه‌السلام .

(٣) العباس عليه‌السلام للسيد المقرم: ١٢٧.

٢٣

وقيل: إن أوس بن حجر قال فيه (١) :

يلاعب أطراف الأسنة عامر

فراح له حظ الكتائب أجمع

وهو الذي استعانه ابن أخيه عامر بن الطفيل على منافرة علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص لما تفاخرا على أن يسوق كلّ منهما مائة ناقة تكون لمن يحكم له، ووضع كل منهما رهناً من أبنائهم على يد رجل من بني الوحيد - فسمي الضمين إلى اليوم، وهو الكفيل -.

ولما استعانه عامر دفع اليه نعليه وقال له: استعن بهما في منافرتك فاني قد ربعت بهما أربعين مرابعاً.

والمرباع ما يأخذه الرئيس من ربع الغنيمة دون أصحابه خالصاً لنفسه وذلك عندما كانوا يغزون في الجاهلية (٢) .

وهذا النعلان من مختصات الرئيس التي يخرج بها في الأيام الخاصة، وإلّا فلا مزية لهما حتى يستعين بهما على المنافرة.

عامر بن الطفيل:

ومنهم: عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب، وهو أخو عمرة، الجدة الأولى لأم البنين.

كان عامر أسود أهل زمانه، وأشهر فرسان العرب بأساً ونجدة، وأبعدها اسماً، حتى بلغ أن قيصر إذا قدم عليه قادم من العرب قال: ما بينك وبين عامر بن الطفيل؟ فان ذكر نسباً عظم عنده وأرفده وإلّا أعرض عنه.

__________________

(١) رسالة ابن زيدون بهامش الصفدي على لامية المعجم ١ / ١٣٠.

(٢) أنظر: قصة المنافرة مفصلة: الأغاني ١٦ / ٢٨٣ وما بعدها.

٢٤

وفد عليه علقمة بن علاثة فانتسب له، فقال له قيصر: أنت ابن عم عامر بن الطفيل؟ فغضب علقمة.

ثم إنّه دخل على ملك الروم، فقال له: انتسب، فانتسب له، فقال الملك: أنت ابن عم عامر بن الطفيل، فغضب وخرج عنه (١) .

عروة الرحال:

ومنهم: عروة الرحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب، والد كبشة، الجدة الثانية لأم البنين عليها‌السلام .

كان وافداً على الملوك، ولد قدر عندهم، ومن هنا سمي الرحال، وهو الذي أجاز لطيمة النعمان التي كان يبعث بها كل عام إلى «سوق عكاظ»، فقتله البراض بن قيس الكناني واستاق العير، وبسببه هاجت «حرب الفجار» بين حي «خندف» و «قيس» (٢) .

الطفيل فارس قرزل:

ومنهم: الطفيل فارس قرزل، وهو والد عمرة، الجدة الأولى لأم البنين.

كان معروفاً بالشجاعة والفروسية، وهو أخو ملاعب الأسنة، وربيعة، وعبيدة، ومعاوية بنو جعفر بن كلاب.

يقال لأمهم: «أم البنين» وإياها عنى لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب لما وفد بنو جعفر على النعمان بن المنذر، وكان سميره الربيع بن زياد العبسي، فتهموه بالسعي عليهم، فلما غدوا على النعمان كان معهم لبيد، وهو أصغرهم،

__________________

(١) سمط اللئالي ٢ / ٨٩٠، مجمع الأمثال ٢ / ٢٣.

(٢) بلوغ الأرب ١ / ١٤٢.

٢٥

فرأوا النعمان يأكل مع الربيع فقال لبيد:

يا واهب الخير الجزيل من سعه

نحن بنو أم البنين الأربعه

ونحن خير عامر بن صعصعه

المطعمون الجفتة المدعدعه

الضاربون الهام وسط الخيضعه

اليك جاوزنا بلاداً مسبعه

تخبر عن هذا خبيراً فاسمعه

مهلاً أبت اللعن لا تأكل معه

إنّ استه من برص ملمعه

وأنّه يولج فيها أصبعه (١)

يولجها حتى يواري أشجعه

كأنما يطلب شيئاً ضيعه (٢)

فلم ينكر عليه النعمان ولا أحد من العرب؛ لأنّ لهم شرفاً لا يدافع؛ ولذلك طرد النعمان الربيع عن مسامرته وقال له:

شرد برحلك عني حيث شئت ولا

تكثر علي ودع عنك الأباطيلا

قد قيل ذلك إن حقاً وإن كذباً

فما اعتذارك في شيء إذا قيلا (٣)

إلى هنا تعرّفنا على قبيلة أم البنين عليها‌السلام وشخصيات أسرتها، فلننظر الآن كيف تزوج أمير المؤمنين عليه‌السلام هذه المرأة العظيمة؟

* * *

__________________

(١) إلى هنا من شواهدا المغني للسيوطي: ٦٨.

(٢) الزيادة من جمهرة الأمثال للعسكري ٢ / ١١٨ رقم ١٣٦٢ «قولهم: قد قيل ذلك إن حقاً وإن كذبا».

(٣) العباس للمقرم: ١٢٥ - ١٣١.

٢٦

الفصل الرابع

إلتآم الجوهرتين

٢٧

الزواج

بعد أن توفيت ريحانة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيدة نساء العالمين البتول، شهيدة في سبيل الله ودفاعاً عن الولاية والامامة، وكان مصاب بضعة المصطفى قد هدّ ركنه عليه‌السلام - دعى أمير المؤمنين عليه‌السلام أخاه عقيلا - وكان نسابة عالماً بأنساب العرب وأخبارهم وقال له:

انظر لي إمرأة قد ولدتها الفحولة من العرب، من ذوي البيوت والنسب والحسب والشجاعة؛ لكي أصيب منها ولداً يكون شجاعاً وعضداً، ينصر ولدي هذا، وأشار إلى الحسين عليه‌السلام يواسيه في طف كربلاء (١) .

وذلك مراد أمير المؤمنين عليه‌السلام من البناء على إمرأة ولدتها الفحولة من العرب، فان الآباء لابد وأن تعرق في البنين ذاتياتها وأوصافها. فاذا كان المولود ذكراً بانت فيه هذه الخصال الكريمة، وإن كانت أنثى بانت في أولادها. وإلى هذا أشار صاحب الشريعة الحقة بقوله: «الخال أحد الضجيعين فتخيروا لنطفكم».

وقد ظهرت في أبي الفضل الشجاعتان:

__________________

(١) أنظر: بطل العلقمي للمظفر ١ / ٩٧ - ٩٨، تنقيح المقال للمامقاني ٢ / ١٢٨.

٢٨

١ - الهاشمية: التي هي الأربى والأرقى من ناحية أبيه سيد الوصيين وأمير المؤمنين عليه‌السلام .

٢ - العامرية: من ناحية أمه أم البنين (١) .

وعلى هذا رضى الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام بهذا الخيار وبعث أخاه عقيلاً ليخطب له أم البنين عليها‌السلام من أبيها.

مهمة عقيل عليه‌السلام :

كان عقيل عليه‌السلام أخو الامام علي عليه‌السلام نسابة معروفاً، وله في علم الأنساب باع طويل.

وكان - يومها - للشاعر والقصاص والنسابة وصاحب السيف والكاهن والعراف موقع خاص؛ لندرتهم وشدّة الحاجة لتخصصاتهم، وكان الناس يرجعون اليهم وينفذون قولهم، ويكنون لهم احتراماً خاصاً، وهم قليلون معدودون في الغالب، فمثلاً اشتهر أمير المؤمنين عليه‌السلام بضربات سيفه، واشتهر امرؤ القيس بشعره وقصائده، واشتهر عقيل عليه‌السلام بخبرته وحفظه في الأنساب ومعرفته بالعرب وأيامها وقبائلها.

لذا دعاه أمير المؤمنين ذات يوم وقال له:

اختر لي إمرأة ولدتها الفحول من العرب، من ذوي البيوت والحسب والنسب؛ لتلد لي غلاماً شجاعاً فارساً رشيداً.

فقلّب عقيل قبائل العرب ظهراً لبطن، وفكر قدّراً، وفحص ونقّر، وجاس ديار أنساب العرب ودرس أخلاقهم وطباعهم حتى اختار له «فاطمة»، والتي سميت فيما بعد بأم البنين عليها‌السلام ، فعرضها على الامام أمير المؤمنين ذاكراً صفاتها وخصال أهلها وقبيلتها، فأمره الامام عليه‌السلام أن يخطبها من أهلها.

__________________

(١) العباس للمقرم: ١٢٧.

٢٩

الخطبة:

مضى عقيل بن أبي طالب عليهما‌السلام في مهمته بأمر أخيه أمير المؤمنين عليه‌السلام حتى ورد بيت حزام بن خالد ضيفاً على فراش كرامته، وكان خارج المدينة...

فقال له عقيل: جئتك بالشرف الشامخ والمجد الباذخ.

فقال حزام: وما هو يابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

قال: جئتك خاطباً.

قال: من لمن؟

قال عقيل: أخطب ابنتك الحرة فاطمة إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام علي بن أبي طالبل بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف.

فلما سمع حزام هشّ وبشّ ثم قال: بخ بخ بهذا النسب الشريف والحسب المنيف، لنا الشرف الرفيع والمجد المنيع بمصاهرة ابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبطل الاسلام وقاسم الجنة والنار، ولكن - يا عقيل - أنت جدّ عليم ببيت سيدي ومولاي، إنه مهبط وحي، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، وأنّ مثل أمير المؤمنين عليه‌السلام حسنة، حتى تكون صالحة لشأنه العالي ومقامه السامي، وإنّ ابنتنا من أهل القرى والبادية، وأهل البادية غير أهل المدينة، ولعلها غير صالحة لأمير المؤمنين عليه‌السلام .

فقال عقيل: يا حزام إنّ أخي يعلم بكلّ ما قلته، وأنّه يرغب في التزويج بها.

فقال حزام: إذاً تمهّل حتى أسأل عنها أمها - ثمامة بنت سهل - هل تصلح لأمير المؤمنين عليه‌السلام أم لا؟ فانّ النساء أعلم ببناتهن من الرجال في الأخلاق والآداب.

الرؤية الصادق:

قام حزام من محلّه وجاء ليسأل، فلما قرب من المنزل واذا هو يرى فاطمة

٣٠

جالسة بين يدي أمها، وهي تمشط رأسها، وفاطمة تقول: يا أماه إنّي رأيت في منامي رؤيا البارحة.

فقالت لها أمها: خير رأيت - يا بنية - قصيها عليّ.

فوقف حزام في مكانه بحيث يسمع الصوت ولا يراه أحد.

فقالت فاطةم لأمها: إني رأيت فيما يرى النائم؛ كأني جالسة في روضة ذات أشجار مثمرة وأنهار جارية، وكانت السماء صاحية، والقمر مشرقاً، والنجوم ساطعة، وأنا أفكر في عظمة خلق الله، من سماء مرفوعة بغير عمد، وقمر منير، وكواكب زاهرة، فبينما كنت في هذا التفكير ونحوه، وإذا أرى كأنّ القمر قد انقض من كبد السماء ووقع في حجري، وهو يتلألأ نوراً يغشي الأبصار، فعجبت من ذلك، واذا بثلاثة نجوم زواهر قد وقعوا أيضاً في حجري، وقد أغشى نورهم بصري، فتحيرت في أمري مما رأيت، واذا بهاتف قد هتف بي، أسمع منه الصوت ولا أرى الشخص، وهو يقول:

بشراك فاطمة بالسادة الغرر

ثلاثة أنجم والزاهر القمر

أبوهم سيد في الخلق قاطبة

بعد الرسول كذا قد جاء في الخبر

فلما سمعت ذلك ذهلت وانتبهت فزعة مرعوبة، هذه رؤياي يا أماه فما تأويلها؟!

فقالت لها أمها: يا بنية؛ إن صدقت رؤياك، فانك تتزوجين برجل جليل القدر، رفيع الشأن، عظيم المنزلة عند الله، مطاع في عشيرته، وترزقين منه أربعة أولاد، يكون أولهم وجهه كأنّه القمر، وثلاثة كالنجوم الزواهر.

فلما سمع حزام ذلك أقبل عليهما وهو مبتسم ويقول:

هذا عقيل بن أبي طالب جاء يخطب ابنتك للامام علي عليه‌السلام وقد استمهلته حتى أسألك عن ابنتك؛ هل تجدين فيها كفاءة بأن تكون زوجة لأمير المؤمنين عليه‌السلام ؟

٣١

واعلمي أن بيته بيت الوحي والنبوة، والعلم والآداب والحكمة، فان تجديها أهلاً لأن تكون خادمة في هذا البيت وإلّا فلا.

فقالت زوجته ذات القلب المفعم بالولاء للامامة:

يا حزام إنّي - والله - ربيتها وأحسنت تربيتها، وأرجو الله العلي القدير أن يسعد جدّها، وأن تكون صالحة لخدمة سيدي ومولاي أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فزوجها به (١) .

فأقبل حزام على ابنته يهنئها ويشركها في فرحته:

يهنيك فاطمة بالفارس البطل

نعم القرين أمير المؤمنين علي عليه‌السلام

من للأنام إمام حجة وولي

للمؤمنين أمير والغدير جلي

من لي بزوج كعلي عليه‌السلام ؟

لمّا سمعت أم البنين عليها‌السلام أنها خطبت لأمير المؤمنين غمرها السرور وطار قلبها بالفرح والحبور، وتناثر عرق الحياء على محياها كاللؤلؤ على صفيحة النور، واختارت السكوت فلم تحرك لسانها، وجنانها يتدفق بالكلمات تعبيراً عن فرحتها بهذا الزواج السعيد....

أجل؛ كيف لا تفرح ولا تغمرها السعادة؟! وهي ترى الحياء في عيني علي عليه‌السلام وسلطان الاسلام في يديه، والاستقامة والعدالة في خطواته، ونور الهداية المحمدية في قلبه؟!... وإنّ في هذه الزيجة المباركة فخراً عميماً، وشرفاً عظيماً، وسعادة لم تخيب، لها ولأهلها وعشيرتها جميعاً.

لقد أقسمت أم البنين عليها‌السلام أنها ستكون كالأم الرؤوم للحسنين عليهما‌السلام ، فدخلت إلى بيت العصمة تحمل معها عالماً من المحبة والمودة والحنان.

* * *

__________________

(١) أنظر: مولد العباس محمد علي الناصري: ٣٥ وما بعدها.

٣٢

هكذا كانت أُم البنين:

وهكذا خطبها عقيل، ثم أجرى النكاح وكالة عن أخيه أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فاستعدت أم البنين فاطمة بنت حزام للرحيل إلى بيت الإمام عليه‌السلام .

ولما دخل بها الامام عليه‌السلام وجدها إمرأة ذات عقل وإيمان وأدب، ورأى فيها ما أسرّه من الحسن والجمال والهيئة والكمال، حيث كانت أم البنين عليها‌السلام من النساء الفاضلات العارفات بحقّ أهل البيت عليهم‌السلام ، كما كانت فصيحة بليغة لسنة ورعة ذات زهد وتقى وعبادة.

وبلغ من عظمها ومعرفتها وتبصرها بمقام أهل البيت عليهم‌السلام أنها لما دخلت على أمير المؤمنين عليه‌السلام وكان الحسنان مريضين أخذت تلاطف القول معهما، وتلقي اليهما من طيب الكلام ما يأخذ بمجامع القلوب، وما برحت على ذلك تحسن السيرة معهما وتخضع لهما كالأم الحنون.

ولا بدع في ذلك فانها ضجيعة شخص الايمان، قد استضاءت بأنواره وربت في روضة أزهاره، واستفادت من معارفه، وتأدبت بآدابه، وتخلقت بأخلاقه (١) .

أم البنين هي تلك المرأة التي كان يريدها علي عليه‌السلام ، إمرأة وقور، تقعد في بيتها وتربي له رجالاً أشاوس، وفرسان أقوياء من أمثال أبي الفضل العباس عليه‌السلام الذي ضرب المثل الأعلى في الشجاعة والمواساة والاقدام والوفاء، وخاض لجج الموت، واقتحم غمرات الحروب، وجال بين صفوف الأعداء في ساحات الوغى منذ بدايات شبابه، وهو لا يهاب الموت، ولا يعبأ بوميض السيوف ورؤوس الحراب الخاطفة كالبرق.. كان قلبه أشدّ من زبر الحديد أمام الأعداء.

* * *

__________________

(١) العباس للمقرم: ١٣٣.

٣٣

الفصل الخامس

صفات النساء الممدوحات

٣٤

صفات

النساء الممدوحات

لقد علّم أمير المؤمنين عليه‌السلام البشرية جمعاً الموازين التي على أساسها تنتخب الزوجة، فلا بأس بالقاء نظرة على جملة من الآداب والأحكام الاسلامية الرائعة في هذا المجال.

هكذا فلتكن المرأة التي تتبع مذهب أهل البيت عليهم‌السلام :

روى المرحوم العلامة الفيض الكاشاني في الوافي عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: كنا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال:

إن خير نسائكم: الولود، الودود، العفيفة، العزيزة في أهلها، الذليلة مع بعلها، المتبرجة (١) مع زوجها، الحصان (٢) على غيره، التي تسمع قوله، وتطيع أمره، وإذا خلا بها بذلت له ما يريد منها، ولم تبذل (٣) كتبذل الرجل (٤) .

__________________

(١) التبرج: اظهار الزينة.

(٢) الحصان: العفيفة.

(٣) التبذل: ترك التصاون.

(٤) الكافي ٥ / ٣٢٤، ج ١، وسائل الشيعة ٢٠ / ٢٩ ح ٢٤٩٤٢ باب ٦.

٣٥

وعن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال:

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : خير نسائكم الخمس،

قيل: وما الخمس؟

قال: الهينة، اللينة، الموايتة، التي إذا غضب زوجها لم تكتحل بغمض حتى يرضى، وإذا غاب عنها زوجها حفظته في غيبته، فتلك عامل من عمال الله، وعامل الله لا يخيب.

إذن فثمة عشر صفات ممدوحة في المرأة:

١ - الولود.

٢ - العفيفة.

٣ - العزيزة في أهلها.

٤ - الذليلة مع بعلها.

٥ - المتبرجة مع زوجها.

٦ - الحصان على غيره.

٧ - التي تسمع قول زوجها.

٨ - التي تطيع أمره.

٩ - التي إذا خلا بها بذلت له ما يريد منها.

١٠ - التي إذا غاب عنها زوجها حفظته.

هذا بالاضافة إلى الصفات الأخرى المذكورة في الحديثين المذكورين وغيرهما من الأحاديث الشريفة (١) .

ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وآله ألا أخبركم بشرار نسائكم؟: الذليلة في أهلها، العزيزة مع بعلها، العقيم، الحقود، التي لا تتورع من القبيح، المتبرجة إذا غاب عنها بعلها، الحصان معه

__________________

(١) انظر للمزيد وسائل الشيعة، جزء: ٢٠.

٣٦

إذا حضر، لا تسمع قوله، ولا تطيع أمره، واذا خلا بها بعلها تمنعت منه (١) كما تمنع الصعبة عند ركوبها، ولا تقبل منه عذراً، ولا تغفر له ذنباً.

وعن الصادق عليه‌السلام قال: أغلب الأعداء للمؤمن زوجة السوء (٢) .

وعنه عليه‌السلام أيضاً قال: كان من دعاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أعوذ بك من إمرأة تشيبني قبل مشيبي (٣) .

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أفضل نساء أمتي أصبحهن وجهاً وأقلهن مهراً (٤) .

وقال عليه‌السلام : اعلموا أن السوداء إذا كانت ولوداً أحبّ إليّ من الحسناء العاقر (٥) .

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد الاسلام أفضل من زوجة مسلمة تسرّه إذا نظر اليها، وتطيعه إذا أمرها، وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله (٦) .

وفي رواية: وامرأة صالحة تعينه على أمر الدنيا والآخرة (٧) .

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : اختاروا لنطفكم فانّ الخال أحد الضجيعين (٨) .

في رواية أخرى: تخيروا لنطفكم فان الابناء يشبهون الأخوال.

وفي المثل المعروف: ابن الحلال أشبه بالخال.

__________________

(١) الكافي ٥ / ٣٢٥ ح ١، الفقيه ٣ / ٢٤٧ ح ١١٧٦، وسائل الشيعة ٢٠ / ٣٣ ح ٢٤٩٥٧ باب ٧.

(٢) الفقيه ٣ / ٢٤٧ ح ١١٧٠، وسائل الشيعة ٢٠ / ٢٥ ح ٢٤٩٣٧ باب ٤.

(٣) الكافي ٥ / ٣٢٦ ح ٣، وسائل الشيعة ٢٠ / ٣٤ ح ٢٤٩٦٠ باب ٧.

(٤) الكافي ٥ / ٣٢٤ ح ٤، التهذيب ٧ / ٤٠٤ ح ١٦١٥، الفقيه ٣ / ٢٤٣ ح ١١٥٦، وسائل الشيعة ٢٠ / ٦ ح ٢٤٩٤٨ باب ٦.

(٥) الفقيه ٣ / ٢٤٨ ح ١١٧٨، وسائل الشيعة ٢٠ / ٥٤ ح ٢٥٠١٧ باب ١٥.

(٦) الكافي ٥ / ٣٢٧ ح ١، التهذيب ٧ / ٢٤٠ ح ١٠٤٧، الفقيه ٣ / ٢٤٦ ح ١١٦٨، المقنعة: ٧٦، وسائل الشيعة ٢٠ / ٤٠ ح ٢٤٩٧٩ باب ٩.

(٧) الكافي ٥ / ٣٢٧ ح ٦، وسائل الشيعة ٢٠ / ٤٢ ح ٢٤٩٨٢ باب ٩.

(٨) الكافي ٥ / ٣٣٢ ح ٢، وسائل الشيعة ٢٠ / ٤٨ ح ٢٤٩٩٩ باب ١٣.

٣٧

وقال تعالى: ( قَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ ) (١) قيل: المراد بالتقديم طلب الولد الصالح والسعي في حصوله (٢) . أي اطلبوا المرأة التقية الصالحة لتلد لكم أولاداً صالحين.

فقد روي: وانظر في أي نصاب تضع ولدك فان العرق دساس (٣) .

والمرأة وعاء ينبغي أن يتلطف الرجل ويدفق في اختياره؛ لئلا تضيع أتعابه وتذهب ذريته أدراج الرياح.

قال الله تعالى: ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ ) (٤) ...

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إياكم وخضراء الدمن (٥) .

إنطلاقاً من هذه الحكم دعا أمير المؤمنين عليه‌السلام أخاه عقيلاً ليختار له امرأة ولدتها الفحولة، من ذوات البيوت المعروفة بالشجاعة والخلق السامي، فكانت النتيجة اختيار زبدة المخدرات، والدرة المصفاة «أمّ البنين» عليها أفضل الصلوات، التي انجبت له قمر بني هاشم واخوته النجباء، الذين طبقت شهرتهم الآفاق، وصاروا قبلة للمجاهدين والأحرار، وبزوا رجال العلم والعرفان، وسبقوا في طريق الخير والحق واليقين (٦) .

أجل؛ لقد صار زواج أمير المؤمنين عليه‌السلام بهذه الخصوصيات مثلاً يحتذى به المسلمون، ودرساً يلقنهم مستوى التدقيق في أمر الزواج، والالتزام بآداب الشريعة

__________________

(١) سورة البقرة: الآية ٢٢٣.

(٢) بحار الأنوار ٧٨ / ٧٤ باب ٤.

(٣) شرح نهج البلاغة ١٢ / ١١٦.

(٤) سورة البقرة: الآية ٢٢٣.

(٥) وسائل الشيعة ٢٠ / ٤٨ ح ٢٥٠٠١ باب ١٤.

(٦) انظر الخصائص العباسية (للكلباسي الاصفهاني): ٨٢.

٣٨

الغراء؛ لينالوا سعادة الدارين وخير الدنيا والدين، ويستفيدوا أولاداً صالحين باعتبارهم ثمار عمر الزوجين، والسرّ في خلودهما وبقاء نسلهما، وامتدادها الطبيعي في النشأتين.

بيد أنّ الناس لربما أعرضو عن تعاليم أئمة المؤمنين، وأقدموا على ما يريدون من منطلق الجهل لا الدين، فيتسامحون في أمر الزواج ويتساهلون، فينطلقون - في قضايا الزواج - بدوافع الشهوة، وينظرون إلى الجمال والمال، ويغفلون عن بقاء النسل، وامتداد الآباء في الأبناء، وتقديم الأولاد الصالحين للمجتمع البشري ليكونوا لهم ذخراً في العالمين.

فلو أنّ فلاحاً أراد أن يزرع الشعير لبذل جهده، وأنفذ ما في وسعه في تطهير الأرض وإعدادها، واختيار البذرة وطريقة بذرها وسقيها ورعايتها؛ كي تعطيه النتيجة المطلوبة، وتحقق له الغاية المرغوبة، ولكن - وللاسف الشديد - قد يغفل الانسان بالكامل عن الظروف التي يريد أن ينثر فيها بذور الانسان الذي جعله الله العلة الغائية للموجودات، وخلق من أجله الكون والمخلوقات، والمرأة حرث كما سماها القرآن حيث قال تعالى:

( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) (١) .

فالمرأة حرث الرجل ومزرعته، ينثر فيها بذر الانسانية، فلا ينبغي له التهاون في أمرها: غير أنّ من المؤسف أن تجد من لا يهتم بطهارة المحل، وقد يقيض الله له امرأة عفيفة طاهرة فينصرف عنها الرجل - والعياذ بالله - ويتورط بالارجاس والخبائث وتسريح النظر في غير ما أحل الله.

__________________

(١) سورة البقرة: الآية ٢٢٣.

٣٩

تأثير الظروف على الجنين:

وقد لا يهتم بالظروف التي ينثر فيها بذره من زمان أو مكان أو غيرها، والحال أنّ كل هذه الظروف لها أثر فعال على النطفة ونشؤها وحياة المتولد منها.

فلربما كان الجماع في بعض الأوقات ينتج نطفة يتولد منها شقي يبغض الدين وأهله، كما لو جامع أهله وهي حائض، فقد ورد أن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال عن ابن ملجم (قاتله): إنّ أمه حملت به وهي حائض.

ولربما أدى الجماع في بعض الأوقات إلى خروج الولد ناقصاً، أو سيء الخلق، أو شقي، أو قاسي القلب، كما لو جامع أهله ليلة عيد الأضحى أو ليلة النصف من شعبان.

ولربما كان الجماع في بعض الأوقات أو الحالات سبباً لخروج الولد أعمى القلب بخيل اليد، كما لو جامع أهله وهي حامل وهو على غير وضوء.

فقد ورد عنهم عليهم‌السلام : «إذا حملت امرأتك فلا تجامعها إلّا وأنت على وضوء فانه إن قضي بينكما ولد يكون أعمى القلب بخيل اليد..» (١) .

لأنّ نطفة المؤمن محترمة، فلا ينبغي له أن يقارب زوجته إلا بعد الطهارة، تماماً كما ينبغي له الوضوء إذا أراد دخول المسجد و «المؤمن أعظم حرمة من الكعبة» (٢) .

وروي عنهم عليهم‌السلام : لا تجامع امرأتك في وجه الشمس وتلألوئها إلّا أن ترجي ستراً فيستركما، فانه إن قضي بينكما ولد لا يزال في بؤس وفقر حتى يموت.

__________________

(١) المصدر نفسه.

(٢) الخصال ١ / ٢٧ باب المؤمن أعظم حرمة من الكعبة ح ٩٥ وما بعده، مشكاة الأنوار: ٨٣ الفصل الرابع ١٩٣ في آداب المعاشرة.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

الشيعة مِن هذه العقائد التي ذكرها كالتناسخ والحلول والتشبيه، فإنّ الواقع يُكذِّبه، وهذه كُتُبُ الشيعة تملأ المَكتَبات، فليذكر لنا أين آرائهم بالتناسخ، اللهمّ إلاّ أن يكون كلامه عن أُمّةٍ بائدة كانت تقولُ بذلك قبل هذا. نعم، الشيعة تقول بغَيبَة المهدي عن المعرفة، بمعنى أنّه يُرى، ولا يُعرَف، فهو موجود بين الناس ولكن لا يعرفونه، وهو يُدلي برأيه أحياناً مع بعض الآراء، وقد استفادوا ذلك مِن جُملة مِن الأخبار التي أوردها عُلماءُ المُسلِمينَ مِن السُنّة والشيعة كالترمذي وابن ماجة وأبي داود وابن حَجَر وغيرهم، ويكفيك الفصل الذي كتبه ابن حَجَر في الصواعق فراجعه، وسَنَشرَح ذلك فيها يأتي مِن فُصول هذا الكتاب، كما يعتقد الشيعة بالبِداء، مستفيدين ذلك مِن الكتاب والسُنّة:

فالكتاب كقوله تعالى: ( يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) الرعد: 39.

وأمّا السُنّة: فَمِثل ما رواه البُخاري في الصحيح عن النبيّ (ص) (أنّ ثلاثة مِن بني إسرائيل: أبرص، وأعمى، وأقرع، بدا لله أن يبتليهم فبعث إليهم مَلَكاً...) (1) .

وكما روى الصدوق في كتابه إكمال الدين وإتمام النعمة بإسناده عن الإِمام الصادق (ع): (مَن زَعَمَ أنّ الله عَزّ وجل يبدو له في شيءٍ يعلمه أمس فابرؤا منه) (2) .

والبِداء عند الشيعة: بمعنى الإِظهار، لا بمعنى أنّ الله يعلم بعدَ جَهلٍ، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، أي أنّ عِلمَ الله تعالى تَعلق بوقوع أمر في الخارج، ولكن بشرط موقوفيته على عدم تعلُّق مشيئة الله تعالى بخلافه. وهذا هو مورد البِداء، ومحلُّ البِداء مِن أقسام القضاء الإِلهي.

ونظراً لأهميّة موضوع البِداء، وما ثار حوله مِن نزاع بين المُسلِمينَ، فإنّي أُحيل

____________________

(1) صحيح البُخاري: 4/146 باب: ما ذُكِر عن بني إسرائيل.

(2) البيان للخوئي: ص390.

١٠١

القارئ إلى فَصلٍ مُهمٍّ مُمتِع كَتَبَهُ الإِمام الخوئي في كتابه البيان، مُقدّمة تفسير القرآن (1) .

أمّا موضوع الرجعة عندهم فهو مُجرَّد فَهْمٍ مِن كتاب الله تعالى لبعض الآيات، ولمَضمون تلك الآيات، ذلك بالإضافة إلى روايات كثيرة تَدعَم تلك المضامين. وهي - أعني الرجعة - ليست مِن ضروريات الإِسلام عندهم. وبِوِسع القارئ الرجوع إلى قوله تعالى: ( وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً ) النحل: 83.

وقوله تعالى: ( وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ) الكهف: 47.

فقد ورد في كثير مِن التفاسير عند الجمع بين الآيتين ما يُفيد أنّ هُناك حَشْراً قَبل الحَشرِ الأكبر، وفيه روايات عن أهل البيت، وقد عَقَدَ الشيخ الصدوق في كتابه الاعتقادات فصلاً عن الرَجعة، ذكر فيه دلالة الآيات والأحاديث على ذلك، وقال في آخره مستدلاًّ بقوله تعالى:

( وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) النحل: 38.

ثمّ يقول بعد هذه الآية مُباشَرة:

( لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) والتبيين إنّما يكون في الدنيا لا في الآخرة.

فالآية واردة في الرَجعة - كما فَهِمَ مِنها الصدوق - إلى أن يقول الصدوق، مُنبِّهاً إلى أنّ البعض قد يَفهمُ مِن عقيدة الشيعة القول بالتَناسُخ، فيقول في ذلك:

والقول بالتَناسُخ باطل، ومَن دانَ بالتَناسُخ فهو كافر؛ لأنّ في التناسخ إبطالُ الجنّةِ والنار. انتهى كلامه (2) .

فالمسألة في الرجعة إذاً لا تعدو فَهْماً مِن كتاب الله تعالى بإمكان وقوعِ رجعةٍ في فَترَة مُعيَّنةٍ، وكُلّ ذلك لا يَستَوجِب هذه الجلبة والضَوضاء في كُتُبِ السُنّة، وكم

____________________

(1) البيان للخوئي: ص385 فصاعداً.

(2) الشيعة والرجعة للطبسي: 2/248.

١٠٢

مِن آراء لأهل السُنّة سَنَمرُّ إن شاء الله على بعضها، وهي قد تستوجب ضجَّة، ولكنَّ كَتّاب الشيعة يعالجونها مِن زاوية عِلميَّة بدون تهريج، ويحترمون فَهْمَ كلّ كاتب ما دام له منشأ انتزاع مِن نصٍّ مِن القرآن أو السُنّة.

وأعود بعد ذلك للشهرستاني، فهو عندما يُعدِّد الأئمّة يقول: إنّ الشيعة ساقوا الإِمامة بعد موسى بن جعفر، فقالوا: والإِمام بعده عليّ بن موسى الرضا، ومشهده بطوس، ثمّ بعده محمّد التقي، وهو بمقابر قريش، ثمّ بعده عليّ بن محمّد النقي، وهو مشهده بِقُم، وبعده الحسن العسكري الزكي، وبعده ابنه محمّد القائم المنتظر، هذا هو طريق الإثني عشريّة (1) ، وكلّ الباحثين يعلمون أنّ الشيعة لا يقولون أنّ ابن محمّد النقي مَدفون بِقُم؛ لأنّه مدفون بسامراء، ويزوره الى الآن الناس، والمدفونة بِقُم شقيقة الإِمام الرضا، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

2 - ابن حَزَم الأندَلُسي:

هذا النموذج الثاني الذي أُقدِّمُه، وهو مِن الّذين سَلَّطوا السنتهم على المُسلِمينَ، إنّه عليّ بن أحمد بن حَزَم الأندَلُسي الفارسي، وهو مِن موالي يزيد بن معاوية، وحَسْبه بذلك شَرفاً، وأوّل مَن دخل الأندلس مِن أجداده جَدّهُ خَلَف. وكان ابن حَزَم في أول أمره شافعيّاً، ثُمّ انتقل إلى الظاهريّة، وله كُتُب كثيرة مِنها: الفصل في المِلَل والنِحَل، والمُحَلّى، وغيرهما. ولهذا الرجل قدرة عجيبة على الافتعال والاختلاق، وله جُرأة في التَهجُّم على الناس، تَكشِفُ عن عَدَمِ ورع، وعدم التزام بالصدق، وسأذكر قبل ذكر أقواله آراء قومه فيه، وتقييمهم له:

فقد قال فيه أبو العبّاس بن العريف: إنّ لسان ابن حزم وسيف الحجاج شقيقان. وقال مؤرِّخ الأندلس أبو مروان بن حيّان فيما كَتَبَه عنه في فَصلٍ طويل منه قوله: ومما يزيد في بُغضِ الناس له، حُبُّه لبني أُميّة ماضيهم وباقيهم، واعتقاده بِصحَّة إمامتهم حتّى نُسِبَ إلى النَصْبِ.

وقال ابن العماد الحنبلي: كان ابن حَزَم كثيرَ الوقوع في العلماء والمتقدمين، لا

____________________

(1) المِلَل والنِحَل، فصل الشيعة.

١٠٣

يكاد يَسلَم أحَد مِن لسانه؛ فَنَفِرت منه القلوب.

ويقول عنه مُصطفى البرلسي البولاقي: أمّا ابن حزم فالعلماء لا يُقيمون له وزناً، كما نَقلَه عنهم المُحقِّقون كالتاج السبكي وغيره؛ لأنّه وأصحابه ظاهريّة محضة، تكاد عُقولَهم أن تكون مُسِخَت، ومَن وَصَلَ إلى أن يقول: إن بال الشخص في الماء تنجس، أو في إناء، ثمّ صبه في الماء لم يَتنجُس. كيف يُقامُ له وزن، ويُعدُّ في العقلاء فَضلاً عن العُلماء، ولابنِ حَزَم هذا وأضرابه مِن أمثال هذه الخُرافات الشيء الذي لا ينحصر، ومَن تأمَّل كَذِبَهُ على العلماء - ولا سيّما إمام أهل السُنّة أبو الحسن الأشعري - عَلِمَ أنّ الأولى به وبأمثاله أن يكونوا في حَيّزِ الإِهمال، وعَدَمِ رفعِ رأسٍ لشيءٍ صدر منه. راجع فيما كتبناه عن ابن حَزَم المراجع أدناه فقد أفاضت في ترجمتِه، وشرح حاله (1) .

وبعد شهادة هؤلاءِ الأعلام التي هي في الواقع رمز لمُحصّلة الآراء عن ابن حزم عند العلماء، فإنّي لا أستكثِرُ عليه أن يقول في آخر الفصل الذي كتبه عن الشيعة: والقوم - يعني الشيعة - بالجملة ذووا أديان فاسدة، وعُقول مدخولة، وعديموا حياء نعوذ بالله مِن الضلال (2) .

فإذا كان هذا وأمثاله كالشهرستاني هُم الّذين يَكتُبون عن عقائد وفقه وسلوك الفِرَقِ الإسلاميّة، فهل يمكن للأجيال أن تَثِقَ بتاريخها، وسيرة أسلافهم؟. والأنكى مِن ذلك أنّ الّذين ينتقدون الشهرستاني وابن حزم وأمثالهما فإنّهم إنّما يحملون عليهم إذا وخزوهم أو شتموهم، أمّا إذا شَتَمَ الشهرستاني وابن حَزَم غيرهم كالشيعة مثلاً، فهو صادق، وتُؤخَذُ أقواله، ولا تُثيرُ حساسيّة.

____________________

(1) شَذَرات الذهب: 3/299، والسيف اليماني للبرلسي - رسالة صغيرة مع عدَّة رسائل -، ووفيّات الأعيان: 1/369، ولسان الميزان: 4/199 فصاعداً.

(2) الفصل في المِلَل والنِحَل: 4/181.

١٠٤

مِثالٌ ثَالِثٌ

وَسَتَرِدُ علينا أمثلةً لذلك، ولكنّي أستعجل لك مثلاً واحداً مِنها يعيش في القرن العشرين في عصر الذرَّة، وتحت أروِقَة جامعةٍ حديثة، وهو محمّد حسن هيتو، مُحقق كتاب المنخول للغزالي، فإنّ هذا الرجل عندما يَمرُّ ببعض المواقف الحَدّيّة للغزالي مِن بعض المذاهب الإسلاميّة كالإِمام مالك، والإِمام أحمد بن حنبل، والإِمام أبي حنيفة، فيذكر بعض آرائهم ناقداً لها حيناً، ومستهجناً حيناً آخر، مثلاً يذكر الغزالي عن أبي حنيفة رأيه في أقلِّ الصلاة وهي: وضوء بالنبيذ في أوَّلها، وحَدَثٌ في آخرها للخروج مِنها، وبين ذلك نَقْرُ كَنَقرِ الغُراب، واكتفاء مِن القراءة بكلمة (مُدْهَامَّتَانِ) بالُلغة الفارسيّة إلى آخر ما ذكره عن أقلِّ الصلاة في رأي أبي حَنيفة، وكما ذكر رأيَ مالِك بجواز قَتلِ ثُلُثِ الناسِ إذا كان ذلك يؤدّي إلى صلاح الثُلُثَين الباقيين، وهكذا آراء بعضُ الأئمّة التي ذكرها.

إننا في مثل هذا نرى محمّد حسن هيتو يقع في ورطة، فلا يَدري أينفي ذلك، وفيه تكذيب للغزالي، أم يُثبت ذلك، وفيه طَعنٌ على أئمَّة المذاهب؟، فتراه مَرَّة يقول: إنّ هذه الأقوال نتيجة لمرحلة مرَّ بها الغزالي، وتَخلَّص مِنها بعد ذلك، ومرَّة يقول: إنّ الغزالي فَردٌ مِن مدرسةٍ تؤيِّد أهل الحديث، وتطعن في أهل الرأي، وإنّ ذلك تَعصُّبٌ أقلع عنه الغزالي بعد ذلك، كما هو واضح في مؤلّفاته التي صدرت بعد ذلك كالمُستصفى، المتأخِّر عن المنخول، وعلى أنّ هذا الاعتذار لا يَحلُّ المشكلة التي هي كون الغزالي إمّا صادقاً، وإمّا كاذباً.

إنّ الذي يعنينا هُنا أنّ هيتو إذا مَرّ الغزالي بالرافضة وشتمهم، لا نجده يُعلِّل ذلك الشتم بِعصبيّة أو غيرها، كأنّ الشيعة يستأهلون الشتم بدون نزاع، وكأنّ الحُرصَ على وحدة المُسلِمينَ ليس مِن موارده هذا المورد، هذا إذا كان الشيعة مسلمين في نظر هؤلاءِ، وإلاّ فالمسألة سالبة بانتفاء الموضوع، كما يقول عُلَماءُ المنطق، وعلى كلٍّ أُلفِت النَظَر إلى ما كتبه هيتو عن الغزالي (1) .

والله المُستعان على ما يَصفون.

____________________

(1) المنخول للغزالي: ص354، و488.

١٠٥

وعوداً على بدء نقول: إنّ ما قدّمناه من شواهد وأمثلة كافٍ في تحديد موقع السُنّة من الفُرس، وتحديد مَكان التَشَيُّعِ من العُروبة لِمَن يَعتبر هذا سُبة وذلك فَضيلة، أمّا المُسلم الذي شعاره شعار القرآن، فإنّ المُسلمين عِنده أكفّاء بأموالهم ودمائهم وأعراضهم وأنسابهم، وإذا كانت هُناك آثار مُتولّدة مِن وحدة العِرق والدم، فإنّها سواء عند الفارسي الشيعي والفارسي السُنّي، ولا يُمكن التَفرقة بين الشيء ونفسه، وإلى هنا نكون قد أعطينا صورة عن الهُويّة العرقيّة التَشَيُّعِ والتَسنُّن، وبوسع طالب المزيد أن يَتَّخذ مِن هذه الدراسة مَنهجاً، وينحو هذا النحو في التَوسُّع بالدراسة المُختصَّة بهذا الموضوع.

١٠٦

الفَصلُ السَادِس

أسبابُ رَمي التَشَيُّع بالفارسية

1 - لِلإِجابّةِ على هذا السؤالِ نَقُولُ:

إنّه لا خُصوصيّة لهذه التُهمة بالفارسيّة، وإنّما هي صورة مِن صور رَمي التَشَيُّعِ بكلِّ ما هو مكروه، ولمّا كانت العلاقات بين الفُرس والعرب قد ساءت بَعدَ أن امتدَّ نُفوذ الفُرس في دولة الإِسلام - كما أشرنا إليه سابقاً - شاء أعداء الشيعة أن يَرموهم بالفارسية؛ ليُضيفوا إلى قوائم التهريج قائمة أُخرى، هذا مِن جانب، ومِن جانب آخر لمّا كان الشيعة مُنذ فَترة تَكوينهم مِن المعارضين للحُكُم؛ لأنّهم يرون أنّ الخلافة بالنصِّ، وليست بالشورى، وأنّها لعليٍّ (ع) ووُلدِهِ، وإنّما تَنازَل عنها وسكت حرصاً على مَصلحة المُسلِمينَ، وتَضحية بالمهمِّ في سبيل الأهم، وقد حَفَظ ذلك بيضة الإِسلام، وأنّ عقيدتهم هذه جرّت عليهم المُلاحقة، خصوصاً أيّام معاوية، وما تلاها إلى العُصور المتأخِّرة، وللإِمعان بالتنكيل بهم وإبعادهم عن الساحة حَشَّدت لهم السُلُطات كلّ ما تَملُك مِن وسائل التحطيم، المادّي مِنها والمعنوي، فاعتَبَرَتهُم خوارج عن جسم الأُمّة، ونَسبت إليهم مِن الآراء ما هو بعيد عن روحِ الإِسلام، وصَوَّرتهم بأنّهم دُعاة فوضى، ولاحقتهم بكلِّ صُنوف الملاحقة، وكان مِن ذلك أنّها استغلّت الشُعور المُلتهب ضِدَّ الفُرس منذ أيّام الاحتكاك بين العَرَب والفُرس، فَرمتهم بأنّهم وَرَثةُ الفُرسِ، وحَمَلَة عقائدهم، فأضافتها إلى قائمة التُهم التي أصبحت لا تُعدُّ ولا تُحصى، وأخذ كلّ خَلَفٍ يُضيفُ إلى القائمة التي وضعها السَلَف، بدون تَحرُّج، ولا رادع مِن مَسؤوليّة أو ضمير، وأين المسؤوليّة والسيف

١٠٧

والقَلم والحُكم والأموال بِيَدِ خُصُوم الشيعة، وانتهى الأمرُ إلى أن تَنفجر العبقريّات بألوان الاختلاق، وأصبح كلّ حاملِ سلاحٍ لا يَعرِف مدى مَضَائِهِ يُجرِّبهُ بِجِسم الشيعة، وكلّ مَن لا يَعرفُ نفسه يَتحسّس بُطولتَها بالسُبابِ والتَهجُّم على الشيعة، وبالاختصار أصبحَ الشيعةُ مُختبراً لِمُمارسة البطولات مِن كلّ حاملِ سلاح حتّى ولو كان سيفه مَثلوماً، ويده تَرتَعِش.

2 - السَبَبُ الثاني في رمي التَشَيُّعِ بالفارسيَّة:

هو ما ألمَحتُ إليه سابقاً مِن أنّ الفارسيّة ما كانت سُبّةً يوم كان الفُرس سُنّة، وإنّما عادت سُبّة يوم تَشيَّع قِسم مِن الفُرس، ودليل ذلك: أنّك ترى الطبقة الأولى والثانية مِن الّذين تَهجَّموا على الشيعة، وكالوا لهُم التُهم لم يضعوا في قائمتهم تُهمَة الفارسيّة.

وبِوسعِك الرُجوع إلى ما كَتَبَه ابن عَبد رَبّه الأندلسي في العقد الفريد بالفصل الخاص بالشيعة، وارتَجَل لَهُم المثالب والمطاعن فيه، فإنّك لا تَجِدُ هذه التُهمة ضِمن التُهم (1) ، وكذلك لو راجعت ما كَتَبه الشهرستاني في مِلَلِه ونِحَلِه، وما ذَكره عن الشيعة، فسوفَ لا تَجِدُ تُهمة الفارسيّة مِن التُهَم التي ساقها (2) .

وأمّا شيخُ أهل السُبْاب، وصاحب اللِسان الذي ما عَرَفَ الوَرَع، فإنّه برغم ما صالَ به وجال، وبرغمِ ما أملاه عليه الهوى، فإنّه لم يَذكر للشيعة هذه التُهمَة (3) .

نعم، ذَكَر ابن حَزَم أنّ هناك أفراداً مِن الفُرس شيعة في بعض استطراداته حتّى جاء المقريزي في القَرن التاسع، فرام أن يُصوِّر أنّ التَشَيُّع فارسي، فالمسألة جاءت مُتأخِّرة (4) ، وهكذا المتأخرون عن هذه الطبقة لم ترد في قوائمهم هذه التُهمة، وإنّما جاءت مِن بعد القَرن التاسع وبدء القرن العاشر، والغريب أن يكون بعض فُرسان هذه الحَملة مِن الفُرس أنفسهم أرادوا أن يُظهروا أنفسهم بأنّهم أحرص

____________________

(1) العُقد الفريد: 2/404 فَصاعداً.

(2) المِلَل والنِحَل، هامش الفَصل: 1/195.

(3) الفصل في المِلَل والنِحَل: 4/179.

(4) دراساتٌ في الفِرَق والعقائد: ص25.

١٠٨

على العُروبة مِن العَرَب أنفسَهم، ورَحِمَ الله مَن يقول:

رِفقاً بِنِسبَة عَمرو حينَ تَنسِبُهُ

فإنّه عَربيّ مِن قوارير

ولا أستبعد أنّ له هَدفاً خبيثاً مِن وراء ذلك، وبذلك كانوا أساتِذَةً للمُستشرقين كما سيأتي:

3 - السَبَبُ الثالِثِ في رَمي الشيعَةِ بِالفارِسِيَّة:

يكمن في قُوّة استدلال الشيعة بأنّ الخلافة بالنصِّ، وليست بالشورى، لأنّ القائلين بالشورى يَستدلّون بقوله تعالى: ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) الشورى: 38، وبقوله تعالى: ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) آل عمران: 159. مع أنّ الآيتين أجنبيتان عن الموضوع؛ لأنّ قوله تعالى ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ) مَدحٌ للأنصار، الذين كانوا قَبلَ الإِسلام إذا أرادوا عَمَلَ شيءٍ تشاوروا فيما بينهم، ولم يَستبدّوا بآرائهم، وأما قوله تعالى: ( وَشَاوِرْهُمْ ) إلخ، فإنّه أراد تطييب قُلوبِهم، وإشعارهم بأنّهم أهلٌ للمُشاورة؛ ليرفع مِن معنوياتهم، فكان النبيّ (ص) يُشاورهم في أُمور الحَرب، وبعض الأُمور الدُنيويّة، وبوسع القارئ الرُجوع إلى التفاسير المُحترمة مثل: تَفاسير الفَخر الرازي، والكَشّاف للزمخشري، ومَجمَع البيان للطبرسي وغيرهم، فإنّ كلّ هؤلاءِ نَصّوا على ما ذكرته وقالوا: إنّ مشاورة النبيّ (ص) للمُسلمين فيما لم يرد فيه نصٌّ، وذلك عِند تَفسيرهم للآيتين المذكورتين.

فالآيتان لم تَنزِلا في تشريع مَنهَج لاختيار الإِمام عن طريق الشورى، وإنّما أراد بَعضُ الباحثين أن يستفيد مِن الآيتين ما يلي:

بما أنّ الخلافة سَكَتَ عنها النبيّ، ولم يِنُصَّ على أحَدٍ، وبما أنّ القرآن يَمدح الشورى بالأُمور المُهمّة، فَنرجع فيه إلى مَنهَج الشورى (1) .

أمّا الشيعة، فَقَد رَفضوا هذا، وذهبوا إلى:

أولاً: أنّ النبيّ كان إذا أراد الذهاب في سَفَر لا يترك المدينة بدون خَليفة

____________________

(1) انظر فجر الإِسلام: ص234.

١٠٩

عليها، ولو كان سفره ليوم واحد، فكيف يَترُك أُمور الناس مِن بعده بدون راعٍ؟!.

وثانياً: مِن الثابت أنّ الشريعة الإسلاميّة تفرض الوصيّة على المُسلِم حتّى في بَعض الميراث البسيط، وفي ذلك يقول القرآن الكريم في سورة البقرة، الآية: 180: ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ ) ، فكيف يترك هذا الأمر المُهم بدون أن يوصي به؟! والحال أنّ استقرار الأُمّة مُتوقف على ذلك، وبدون ذلك يؤول الأمر إلى التنازُع.

ثالثاً: تظافرت الأدلَّة مِن الكتاب والسُنّة على أنّ الإِمامة بجعلٍ مِن الله، ومِن ذلك قوله تعالى: ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) الأنبياء: 73.

وقوله تعالى: ( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً ) القصص: 5.

وقوله تعالى: ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ) السجدة: 24.

هذه بعض الآيات التي يُستَدَل مِنها على أنّ الإِمامة بجعلٍ مِن الله تعالى.

بالإِضافة إلى نُصوص النبيّ على الإِمام مِن بعده، ومِن ذلك موقفه يوم الغدير، عندما نَزل عليه قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) المائدة: 70، فَجَمع النبيّ الناس، وخطَبَ خُطبته المعروفة، وقال في آخر خُطبَته: ( ألستُ أولى بِكُم مِن أنفسكم؟ ) قالوا: بلى، قال: (اللهمّ فاشهد، وأنت يا جبرئيل فاشهد) وكررها ثلاثاً، ثمّ أخذ بيدِ علىِّ بن أبي طالب، فَرَفعها؛ حتّى بَانَ بياضُ إبطيهِما للناس، وقال: (مَن كُنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللهمَّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه، وانصُر مّن نصره، واخذُل مَن خَذلَه، والعن مَن نَصَبَ له العداوة والبغضاء) إلى آخر الواقعة.

وقد روى هذا الموضوع مائة وعشرون صحابيّاً، وأربعة وثمانون تابعيّاً، وكان عَدد طبقات رواته مِن أئمة الحديث يتجاوز ثلثمائة وستّين راوياً، وقد أَلَّفَ في هذا

١١٠

الموضوع مِن الشيعة والسُنّة ستٌّ وعشرون مُؤلِّفاً، وقد غَطَّوا كُلّ جوانب الموضوع، وأشبعوه بحثاً وتمحيصاً، فراجع (1) .

وبالرَغم مِن وُفرَة مصادر هذا النصِّ، ودلالته الواضحة، فإنّك لا تَعدم مَن يؤوِّل هذا النصّ تأويلاً سخيفاً، أو مَن يَقول: إنّ حديث الغدير لم يَرد إلاّ في كُتُب الشيعة، كما يقول أحمد شَلَبي في مؤلَّفاته، وقد تسمع مَن يقول: إنّ الشيعة دسّوا هذه الروايات في كُتُب السُنّة، وأمثال ذلك مِن تافه الكلام، الذي هو أشبه بخُرافات العجائز، وعلى العُموم إنّ مَوضوع الإِمامة كُتِبَت فيه عشرات الكُتُب، وهو ليس مِن صُلبِ موضوعي، وإنّما فَرَضَتْهُ المُناسبة استطراداً، وقد اتَّضح مِن هذا: أنّ الشيعة يستندون إلى النصِّ في مسألة الإِمامة، دون نَظريّة الشورى؛ وذلك لأنّ الشورى لا سَنَدَ لها مِن الكتاب والسُنّة في نَظَرهم، وإنّما هي مُجرَّد اجتهاد مِن المُسلِمينَ الّذين ظَنّوا أن لا نصَّ هناك، ثمّ إنّ الشيعة يتساءلون، أين هي الشورى؟، وما هي أركانُها، وشروطها، وكيفيَّتها؟، وهل تحقَّقت في أيّام الخُلفاء، ونَصَبَ الخُلفاء بموجبها أم لا؟. مع أنّنا نَعلم أنّ الّذين بايعوا الخليفة الأوّل بالسقيفة اثنان، هم: الخليفة الثاني، وأبو عُبيدة، وعلى روايةٍ أُخرى إنّهم أربعة، كما يروي ذلكَ الحَلَبيّ في سيرته، والبُخاري في باب فَضل أبي بكر، ولذلك ذهب أهل السُنّة إلى أنّ الإِمامة تَنعقد بَبَيعة أثنين مِن أهل الحَلِّ والعَقد، فإنّ هذه النظريّة واضح مِنها أنّها تَصحيح للموقف يوم السقيفة، ورَفْعٌ للتناقض في مَنهج الشورى نَظَرياً وتَطبيقاً، فإنّه لا عاقل يمكنُ أن يَتصوَّر انتخاب خَليفة مِن قَبَل اثنين فقط، وهذان الاثنان يتمُّ تمثيل المُسلِمينَ بهما، وللتأكد مِن عدد المُبايعين، ونظريَّة عَدد أهل الحلِّ والعقد، راجع المصادر التالية (2) .

ولقد صَوَّرتٍ البيعةَ خيرَ تَصويرٍ صادق كلمة الخليفة الثاني: إنّ خلافة أبي

____________________

(1) الجزء الأوّل مِن كتاب الغدير للأميني، والإصابة لابن حَجَر في ترجمة الإِمام علي (ع)، والاستيعاب لابن عبد البر في ترجمة الإِمام عليّ، وأعيان الشيعة: ج3، وتفسير كلٌّ مِن الرازي، والدرّ المنثور للسيوطي، عند تفسير الآية المَذكورة، وتفسير مَجمَع البيان كذلك.

(2) السيرة الحَلبيّة: 3/358، وصحيح البُخاري باب: فضل أبو بكر، والغدير للأميني: 7/141.

١١١

بكرٍ فَلَْتةٌ وقى الله شرّها، فإنّ تعبير الخليفة عنها أنّها فَلْتَة، يؤكِّد أنّها لم تَكن عن مِنهاج سابق (1) .

لقد بايعَ الاثنان، ثمّ بعد ذلكَ تمَّت البيعة كما رسمها المؤرِّخون، ولم تَتَعدَّ بعض أرباض المدينة، فهل كانت شورى تَتَقوَّم باثنين، أو حتّى بالمدينة كُلَّها مع أنّ مفاد قوله تعالى ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى ) ، يتناول المُسلِمينَ كافَّة، وإذا كانت لا تتناول المُسلِمينَ كافَّة، فلا تنهض بالدليليّة، كما هو واضح، وأروع مِن ذلك كُلّه، أن ترى فَقيهاً مِن فُقهاء أهل السُنّة يقول: إنّ مَعنى الشورى يتحقق ولو ببيعة رَجل واحد، وهو ابن العربي المالكي، وذلك في تفسيره لمعنى الشورى.

ثمّ يرد تسأول آخر هو: هل أنّ الخليفة الثاني جاء إلى الحُكم عن طريق الشورى، أم عن طريق تعيين الخليفة الأوّل له كما هو واقع الحال؟ (2) .

ويتساءلون ثالثاً: هل أنّ الخليفة الثالث جاء الحُكم عن طريق الشورى، أم عن طريق خمسة عَيّنَهُم الخليفة الثاني؟، ولَم يؤيّده مِنهم إلا ثلاثة (3) .

إنّ كلّ باحث موضوعيٍّ لا يمكن أن يَستَند إلى صدور نظريّة الشورى عن الشريعة الإسلاميّة، لا نظريّاً ولا تطبيقيّاّ.

والآن لِنَرجِع للأمر الثالث فنقول: إنّ نَظريّة الشورى لمّا كانت غير ناهضة، بينما نظريّة التعيين تقف على أرض صلبة، أراد البعض أن يبعد هذه النظريّة عن إطارها الإِسلامي، فافترض أنّها نَظريّة كان يذهب إليها الفُرس، ويرون أنّ مُلوكهم حَكموا بالحقِّ الإِلهي، وحيث أنّ الحُسين صاهر الفُرس، فتزوج بِنت يَزدَجُرد، انتقل إليه هذا الحقُّ الإِلهي، وقد سَبق استعراض هذا المعنى في أوّل الكتاب.

فالهدف إذاً: دفع نَظريّة النصِّ والوصاية عن كونها مِن الإِسلام، وجعلها مِن مورثات الفُرس التي نقلوها معهم لمّا دخلوا إلى التَشَيُّع. فإذا قلتَ لهؤلاء: إنّ الوصاية ثبتت بنصوص قبل دُخول الفُرس للإِسلام. قيل لك: إنّ هذه الروايات دَسّها الشيعة في كُتُبِ السُنّة. فإذا ذكرت لهم عدَّة طُرُق للرواية، قيل لك: إنّ الوصيّة

____________________

(1) انظر تاريخ الطبري: 3/330 و301.

(2) تاريخ الطبري: 4/54.

(3) الطبري: 5/35.

١١٢

التي تذهبون إليها إنّما هي في أُمور بسيطة بيتيّة، وليس لها صِلة بموضوع الخلافة وهكذا. هذه في نَظري أهمَّ الأسباب التي رُميَ التَشَيُّع بالفارسيّة مِن أجلها، وهو زَعم أصبح يُفنّد نَفسه بنفسه؛ لوجود الواقع الخارجي الذي يُعيّن هُويَّة التَشَيُّع بصورة مُجسّدةَ، جاء المستشرقون بعد ذلك فضربوا على هذا الوتر، ومَعَهُم تلاميذهم يرقصون على أنغامهم.

إنّ أهداف كثير مِن المستشرقين لا تخفى؛ لأنّها تستهدف صيد عصفورين بِحَجَرٍ، فإنّ الهدف الأساسي ضَرب وحدة المُسلِمينَ، وبعد ذلك تزييف ركائزهم الفِكريّة؛ لأجل ذلك تجد كُتُب المستشرقين تُؤكِّد على هذه النُقطة، وتَرتَّب عليها آثاراً كثيرة، وكأنّ هذا الموضوع مُختصٌّ بالشيعة فقط، أمّا السُنّة الفُرس، فَهُم محروسون مِن أن يتدسس إليهم الفكرُ الفارسي، حتّى ولو كان ثمانون بالمئة مِن الفُرس مِنهم.

ولستُ أنفي أن تكون هُناك أسباب أُخرى لرمي التَشيُّع بالفارسيّة، قد يكون منِها أحياناً بَعظ الاستنتاجات المُخطِئة، أو سوء الفَهم الذي يعتبر كلّ التقاء بين نظريّتين هو تأثير وتأثر، وقد يكون صُدفة، إنّ مجرّد التقاء نَظريّة للشيعة مع نَظريّة للفرس لا يُشكّل مُبرّراً بِحالٍ مِن الأحوال لاعتبار الفِكر الفارسي مَصدر العقائد الشيعيّة؛ لوضوح أنّ الفِكرَ الديني في العقائد والأحكام مَصدَره الكتاب والسُنّة، في حين أنّ نظريّات الفُرس هي نظريّات وضعيّة، لا تَستَند إلى الشريعة واحدة أو مُتعدِّدة حتّى يُقال: إنّ هؤلاءِ أخذوا مِن هؤلاءِ.

كيفَ صارَ الفُرسُ شيعةً

إذا حاولنا مَسحَ الأبعاد التاريخيّة البيئيّة للفُرس، نجدُ أنّ مَن تَشيَّع منِهم يُقسَّمون أقساماً:

القِسمُ الأوّل:

وهو القِسمُ الذي تَشيَّع بِعمليّة انتقاء واختيار عن طريق الصحابة الّذين رافقوا عمليّات الفتح، ونَقلوا مَعهم عقائدهم وفِكرهم الشيعي، وقد ساعد على

١١٣

ذلك أنّ اعتناقَ التَشيُّع آنذاك لا يُسبِّب لهُم ضرراً؛ لأنّ العِلميّة كانت شيئاً طبيعيّاً، وبَعدهُم عن مواطن الإِحتكاك؛ ولأنّ الفكر كان ضمن نِطاق الأُمور العقائديّة، ولا يَتَجسّد في فعاليّات سياسيّة، ومِن أبرز مواطن التَشيُّع في هذا القِسم خُراسان، ثمّ قُم بعد ذلك.

القِسمُ الثاني:

هُم الّذين تَشيّعوا تَعاطُفاً مع الشيعة الّذين نالهم الإِضطهاد بعد ذلك، وهذا القِسم جَمَعه الإِضطهاد مَعَهُم؛ لأنّه كان مُضطهداً، ومِن هؤلاءِ: الموالي في قِسمٍ كبير منِهم ممَّن كان داخل بُلدان الخلافة، أو الّذين لَحِقَهُم الإِضطهاد داخل إيران، وقد بدأت تصل إليهم أفواجٌ مِن المُهاجرين المُضطهَدين لأجل تَشَيُّعِهم، والذين دفَعَ مِنهم زياد بن أبيه خمسين ألفاً إلى خراسان؛ حتّى يُخلِّص الكوفة مِن العناصر الشيعيّة الصُلبة (1) والإِضطهاد قرابةٌ أحياناً، وكان بَعد ذلك أن تَمازجت أفكارَهم بَعدَ التِقاء مشاعرهم، وصار الفِكر مُتبادلاً بينهم، وساعَد على ذلك استمرارُ الإِضطهاد فَتَراتٍ امتدَّت طويلاً، والعقائدُ كثيراً ما يُرسّخها الإِضطهاد.

القِسمُ الثالِث:

الّذين تَشيّعوا عن طريق اللقاء الثقافي المُعمَّق؛ لأنّ الشيعة اضطرُّوا إلى تَعميق ثقافتهم، وولوج مُختَلَف ميادين المعرفة؛ للدفاع عن وجودهم، والذَود عن عقائدهم بالنظر إلى تَعرُّضهم إلى وضعيّات شَرِسَة، خُصوصاً وأنّ الحُكم ووسائل القوَّة ليست بأيديهم، وكان أن استهوت ثقافتهم قَطّاعاً كبيراً مِن الفُرس، نظراً لِخلفيّتهم الحضاريّة، ونُهوض الحُجّة في نَظَرهم لكثير مِن مُعتقَدات الشيعة التي لم يَدعمها سيفٌ ولا بريقُ مالٍ، ولا طَمَع في حُكم، بل لمُجرَّد الإِقتناع بِصحّة أدلّتهم.

القِسمُُ الرابِع:

هُم الّذين دَخلوا التَشيُّع مع التَيّار الذي صَنَعه الحُكّام، وأعلنوا ضَرورة

____________________

(1) الطبري: 6/126 طبعة 1932.

١١٤

العُدولِ إلى مَذهب الشيعة. وهؤلاء قِلّة لا يُعتدُّ بها، وقد تَظاهرت بذلك؛ لأنّه لا يمكن للعقائد أن تُفرَض فَرضاً، وذلك حينما أعلن خدابنده، ثمّ الصفويّون في بِداية القرن العاشر رَسميّة المَذهب الشيعي، وذلك مِثلما حَدثَ لديار بَكر وربيعة التي كانت شيعيّة أيّام الحمدانيين، ثمّ حوَّلهم الحُكّامُ إلى سُنّة، وكما حَدَثَ لمِصر بعد حُكم الفاطميين، إذ حُوِّلت إلى سُنّيّة أيّام الأيّوبيين، وكما حَدَثَ ذلك لكثير مِن البُلدان.

ولستُ أزعم أنّه لا يوجد مَن قد يكون دَخل التَشيُّع وله أهداف غَيرُ سليمة، وليس ذلك بذنبٍ للتَشيُّع، فكثير مِن اليهود دخلوا الإِسلام، وتظاهروا بذلك، وفي نُفوسهم أهداف خبيثة، ولا نَعتبِر الإِسلام مسؤولاً عن ذلك، كما أنّ هذه الفصيلة التي تَدخل الإِسلام أو التَشيُّع ولها أهداف مَسمومة لا تعدو أصابع اليد، ولا تُشكِّل خَطَراً؛ بدليلِ أنّ جَوهر الإِسلام مَحفوظ رَغم وجود أمثال هؤلاءِ، وليس مِن المنطق في شيءٍ أنَنتَزِع حُكماً عامّاً على مَذهب مِن المذاهب؛ لأنّ بعض الأفراد المُندسّين فيه عُررِفوا بِنَظريّات هدّامة، لا سيّما إذا كانت أُسس المذهب واضحة لا تلتقي مع المُندسّين بِشِكِل مِن الأشكال، فالإِصرار على تحميل مذهب مسؤوليّة فِعلِ فَردٍ مُندسٍّ فيه، عملية إمّا أن تكون مَشوهة وغير نظيفة، وإمّا أن تكون بلهاء لا تتصرَّف بمقاييس.

١١٥

١١٦

البابُ الثالِث

هُويَّة التَشَيُّع العَقائِديّة

وفيهِ فصُول

١١٧

١١٨

الفصل الأوّل

التَوطِئة

قبل الولوج في صُلبِ الموضوع، لا بُدّ مِن الإِشارة إلى نُقاط يتعيَّن البدء بها تَجنُّباً عن الخلط الذي يقعُ فيه كثير مِن الباحثين لسبب أو آخر، وينتهي الأمر إلى التجنّي على الحقائق، وإلى الخلط، وإلى أقوال هي بالهزل أشبه منِها بالجد.

والمؤسف أنّ مِثل هذه الأقوال الهزيلة، بقيت مع التاريخ كأنّها حقائق مُقدَّسة، وكأنّها مُسلّمات لا تقبل النِقاش، يأخذها المتأخّرون مِن المتقدِّمين بدون الرُجوع إلى تَمحيص أو إلى مقاييس، فما أعظم مسؤوليّة هؤلاءِ الّذين رَحلوا وخَلّفوا هذه التَرِكة الموبوءة، وهذا الزاد السُموم الذي ابتُليَ به المسلمون، والله المُستعان على الخلاص مِنه، وهاهُنا نُقاط سنجعلها توطئة لهذا العنوان حتّى إذا دخلناه فعلى بصيرة.

1 - النُقطَةُ الاُولى:

إنّ الشيعة الّذين أكتبُ عنهُم هُنا، وأذكر آراءهم، أو أُدافع عمّا يُنسب لهم هُم الإماميّة الإِثنا عشريّة، الّذين يؤلِّفون الجمهور الشيعي اليوم، والّذين تملأ كُتبُهم مكتبات العالَم، وإن شئت فقُل: الّذين تعيش أفكارهم فعلاً، وتَتجسّد في سُلوك حيّ، وتدوّن آراؤهم فعلاً في الفِقه والعقائد والتاريخ، ولستُ أتكلَّم عمَّن يُسمّى شيعيّاً لُغة، لأنّه ذهب إلى تَفضيل عليٍّ (ع) على غيره، فَعُرِف بالتَشيُّع مِن أجل ذلك، وما عدى ذلك فليس له مضمون عقائدي أو فقهي في أبعاد التَشيُّع، فهُناك

١١٩

مَن سُمّي شيعيّاً وليس له مِن مضمون، إلاّ أنّه يعتقد أنّ عليّاً أفضل مِن غيره، وأنّه حيّ لم يَمت.

انقرض هؤلاءِ الأشخاص مِن الوجود، وهناك مَن يَعدَّهُم فِرقة شيعيّة إلى الآن.

إنّ مثل هذا القول يُضحك ويُبكي، فهو يُضحك؛ لأنّ مِثل هؤلاءِ الأفراد يُسمّون فِرقة، ويُبكي؛ لأنّ المُسلمينَ وصَل بهم الإسفاف إلى حدٍّ جَعلهُم يَلتمسون أمثال هذه الحالات للتهريج بعضهم على بعض. ودعني أضرب لك مثالاً في مثل هذا الموضوع فانتبه له:

فقد ذَكر الرازي في كتابه اعتقادات فِرَق المُسلمينَ: أنّ مِن فِرَق الشيعة، فِرقَة الكامليّة. وقال عنها ما يلي بالحرف الواحد:

وهم يَزعمون أنّ الصحابة كُلّهم كَفَروا إذ فوَّضوا الأمر إلى أبي بكر، وكَفَر عليٌّ حيث لم يُحاب أبا بكر.

إنّ هؤلاءِ الأشخاص الّذين لم يُبيِّن الرازي مَوقعهم، ولا عددهم هُم فِرقة في نَظَرِه، وكلّ مضمونهم الفكري هذه الكلمات الأربعة، ثمّ إنّهم يُكفِّرون الإِمام عليّاً، وهُم مع ذلك شيعة في نَظَر الرازي!

هَل سَمِعتَ بالأكوس عريض اللحية؟ إنّه هؤلاءِ.

هل رأيت هذا التناقض شيعيٌّ يَتَشيَّع لعليٍّ، وهو يُكفِّر عليّاً، هل رأيت الخصومة كيف تُنسي الإِنسان حتّى البدهيّات، وأيُّ إنسان؟! إنّه الرازي، صاحب العَقليّة الكبيرة، ومع ذلك يصل إلى حَدِّ هذا الإِسقاف، اللهمّ إنّا نَعوذ بِكّ مِن الخُذلان. فراجع ما كَتَبه الرازي عن هذه الفِرقة ونظائرها، وقِف بنفسك على هذا التناقُض (1) .

2 - النُقطَةُ الثانية:

إنّ بعض ما يُسمّيه كُتّاب الفِرق بأنّه فِرقة، قد لا يَتجاوز فرداً واحداً له رأي شاذٌّ، وقد لا يَتجاوز عدد أفراد الفِرقَة على أحسن الفُروض عشرة أفراد، وقد يكونون مُنقرضين لا يوجد لهُم أثر إلاّ في مُخيّلة البعض، أو في وُرَيقات مِن كُتُب

____________________

(1) اعتقادات فِرَق المُسلمينَ: ص60.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378