أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين15%

أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 378

أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين
  • البداية
  • السابق
  • 378 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 165357 / تحميل: 9001
الحجم الحجم الحجم
أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
العربية

١

٢

٣

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المترجم

منذ أن خلق الله - تبارك وتعالى - آدم عليه‌السلام وحواء كانت ثمة فوارق بينهما حيث خلق الله كل لغايته وهو الذي خلق كل شيء فقدر وهدى....

ومنذ أن هبط آدم عليه‌السلام وحواء وكان ثالثهم على الأرض إبليس - لعنه الله - وأخذ ذرية النبي وزوجه تتكاثر على الأرض سعى إبليس ليفسد بينهم، ويزين لهم، ويقلب لهم المفاهيم، ويريهم المصلحة مفسدة والمفسدة مصلحة، وابناء آدم وبنات حواء منهم من تبع إبليس عالماً عامداً، ومنهم من غرته أمانيه فانزلق في صراط الجحيم، وراح يهوى إلى الحضيض، ويلتهب كلّ يوم في لظى الأمنيات من جديد، ويغمس رأسه في ألوان الشهوات يتلذذ بها، ويأبى أن ينيط الغشاوة عن عينه لئلا تذوب أحلامه التي قد يتصورها برداً يطفى عنه سعير الشهوات.

هكذا انحدر خط الضلال وهو يجرف كلّ ما يجد في طريقه، ويحاول جرجت المتفلّتين من خط الهدى، وصار تلاميذ إبليس يتفوقون على استاذهم أحياناً ( فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ) حيث أخذوا ينظرون لسقوطهم ويعرضونه في زي الأصالة والضرورة والتجدد والتطور ومماشاة عامل الزمن والانسجام مع الجغرافيا، وصار حرام عادة وسنة اجتماعية يستسيغها الطبع المريض، تماماً كما

٥

يستسيغ المعتاد الافيون، فارتفعت الصرخات تنادي كلّ يوم بجديد، تحت شعار جديد، وفي إطار جديد، تحفه الزخارف والمؤثرات بما يناسب ذلك العصر.

وكانت المرأة منذ اليوم الأول لحركة الضلال سلاحاً وضحية، ولطالما انخدعت بالكلمات التي تناغي فيها المواقع التي صورها لها المضللون أنها نقاط ضعف وإنها بؤرة حقارة وأنها... فوثبت لتخلق المستحيل في الفعال، وتقف أمام التحدي بكل ما أمكن وما لم يمكن! لتثبيت للآخرين أنها كما صورها المضللون... تستحق الذات لتستجيب لللذات، وتخالف الطبيعة والفطرة التلي فطرها الله عليها لتقول: أنا كما أنتم... ثم ماذا؟

إنها نسيت أنّ الله خلقها وزوّدها بما تحتاج، وشرع لها من الدين أحكاماً وقوانين، ووضع لها مناهج كاملة لإعدادها وتربيتها وحفظ مصالحها ورعاية شؤونها ورقيها وبناء كيانها.

ويمكننا مشاهدة المرأة الحرة الكريمة السعيدة من خلال نتاج التربية الإسلامية الرائعة التي قدمها لنا المجتمع في صدر الإسلام من نساء رباهن الوحي وتأدبن بآداب النبوة.

كما أنّ ثمو نموذج منحط عاصر عهد الرسول، بل وعاش في بيت الوحي ومختلف الملائكة إلّا أنّه ظل يصغي بوجوده إلى الشيطان ويأبي الانفعال بمواعظ النبي الكريم، ولقد ضرب الله مثلاً لكلتا الطائفتين.

فهذه خديجة بنت خويلد أُم المؤمنين الأولى - صلوات الله عليها - تعيش مع النبي وتبقى ذكرى حلوة تنهمر لها دموع سيد الكائنات كلما ذكرت عنده فيقول: خديجة ومن مثل خديجة؟! وهكذا دخلت قلب أشرف خلق الله....

إنها عاشت الرسالة تجسيداً.. قولاً وفعلاً وروحاً ومعنى، وفي لحظات عمرها الأخيرة، وهي تشد الرحال إلى المليك المقتدر، إلى حيث قصرها الذي وعدها الله

٦

من قصب لا لغوب فيه ولا نصب، يدخل عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ويقول لها: بلغي شريكتك مريم ابنة عمران عني السلام: فتتبسم في وجه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتقول: بالرفاء يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وكذلك أُم البنين عليها‌السلام حيث كانت تقدّم أبناء الصديقة فاطمة الزهراء عليها‌السلام على أبنائها وهي التي علمتهم أن لا سواء بينكم وبين الحسن والحسين وزينب، فموتوا دونهم، ولا تقولوا أن أبانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ... وقدمتهم بكلّ سخاء لتنال بذلك رضا الله ورضا نبيه، وتكون مبيضة الوجه غداً يوم القيامة بين يدي فاطمة الزهراء عليها‌السلام ....

فليس للغيرة موضع في حياة هؤلاء النسوة؛ لأنهن يقطعن رحلة العمر في ظلال الشريعة التي أرادها لهن الله - جلّ وعلا - وقد حرم عليهن الغيرة وقال على لسان نبيه والأئمة الطاهرين أنّ «غيرة الرجل إيمان» و «غيرة المرأة كفر» وأنذ الغيرة في المرأة من الحسد... الحسد.. الذي أخرجها من الجنة من قبل وهبط بها وبزوجها إلى دار الابتلاء والامتحان والسعي والكد والكدح في سبيل تأمين العيش في الدنيا وفي الآخرة أمان.

بخلاف الانموذج الآخر حيث عاشت تقول في كلّ مرة: «ما غرت من امرأة كما غرت من خديجة» ولطالما كانت تصايح «فاطمة عليها‌السلام » لإنها كانت ابنة من يحبها زوجها؛ أو لأن فيها شبهاً من أُمها، وكان النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله يتذكر بها أيام أُمها، ولطالما تنقّصت من «خديجة» أمام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ووصفتها بأنها عجوز، وحاولت أن تلصق بها ما لربما تحسبه يهوّن من شأنها، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يدافع عنها ويقابلها بما لا ترتاح له، فيقول لها: «صدقتني حيث كذبني الناس، وآوتني حيث طردني الناس، وأعطتني حيث منعني الناس، ورزقني الله منها الولد وجعلكن عقيماً».

وحاربت أبناء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونصبت لهم العداء وقالت: «لا تدخلوا بيتي من لا أحب» تقصد بذلك ريحانة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن قال في حقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

٧

إني أحبه وأحبّ من يحبه وأبغض من يبغضه، وقال: إنه سلم لمن سالمه وحرب لمن حاربه وعدم لمن عاداه.

وهتكت ستر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخرجت تحارب إمام زمانها لتستريح من لهيب الغيرة الذي كان يصهر كيانها وهي ترى علياً أمير المؤمنين عليه‌السلام زوج الصديقة المحبوبة، والمقدّم على غيره حيث يناجيه زوجها من دونها ومن دون غيرها... ومن ثم جرتها الغيرة المشؤومة للتشكيك في عدالة سيد المرسلين وأعدل الخلق أجمعين حيث تخرج - ليلة النصف من شعبان - لتبحث عنه في سواد الليل البهيم وتظن - والعياذ بالله - أنه تركها في ليلتها وخرج إلى بعض نساءه، فتجده صلى‌الله‌عليه‌وآله ساجداً في مسجده الشريف.

فيما نرى أُم البنين عليها‌السلام تزف أولادها الأربعة إلى أعراس المنية وهي تعلم أنهم سيسبحون كالأقمار في غدير الدماء، وتودّع الحسين عليه‌السلام وزينب عليها‌السلام الذين قدمتهما على نفسها وأولادها امتثالاً لأمر الله، وتتعامل مع الحسين باعتباره الإمام المفروض عليها طاعته، ومع أنها سرحت قلبها معهم وبقيت ترفرف بروحها على ساحة المعركة وتتسقط أخبارهم من القدمين، ويا ليتها كانت حاضرة فترى مفاخرهم وبطولاتهم فيهون عليها الخطب، ولربما كان أهون عليها من تحمل الفراق... وتحمل معاناة الانتظار ومناشدة الركبان.

لقد خرجت عائشة بعد وفاة النبي وهتكت حرمته وخالفت أمر ربه وكابرت صريح القرآن، وقعدت أُم البنين عليها‌السلام عن الخروج مع الإمام المعصوم عليه‌السلام لأنها أصغت بإذن المؤمن المطيع لقوله تعالى: ( وقرن في بيوتكنّ ) وهي تعتقد أنّ الله أمرها من خلال هذه الآية باعتبارها زوجة سيد الوصيين بما أمر به نساء سيد المرسلين، ولعل هذا هو السبب أو جزء السبب من وراء بقاءها في المدينة وصبرها على مضض وتركها الخروج مع الركب الحسيني....

٨

إنها لم تخرج بجسدها إلى كربلاء إلّا أنها أخرجت أفلاذ كبدها واقترن اسمها من خلال موقف أبناءها بقضية الطف، وصار اسمها مقروناً باسم الحسين وثورته، ومن اقترن اسمه باسم الحسين عليه‌السلام بأي شكل من الأشكال ولأي سبب من الأسباب كتب له الخلود حتى أنك لا تكاد تسمع لباقي نساء أمير المؤمنين عليه‌السلام ذكر إلّا في ظلال ذكر أُم البنين عليها‌السلام ....

* * *

وليس ثمة «صدفة» تتحكم في الكون والحياة، فكلّ شيء عنده بمقدار، وقد ورد في الحديث - كما في الخصال - أنّ الأسماء تنزل من السماء، فلا شك أنّ لهذه السيدة العظيمة خصيصة خصها الله بها حتى اختار لها هذا الاسم المبارك وجعلها تشارك الصديقة في اسمها، قال الكجوري في الخصائص الفاطمية:

«الحمد لله الذي جعل اسم فاطمة في كلّ بيت من بيوت هذه الأُمة سبباً للبركة ونزول الرحمة، وستبعث الفواطم - غداً يوم القيامة - من التراب رافعات الرؤوس فخراً ومباهاة، لأنهن أُمهات السيد المختار صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيمات فاطمة الزهراء عليها‌السلام فيقلن فاطمة أفضل منّا، ونحن أفضل من باقي النساء لشبه اسمنا باسمها، وفي هذا الاشتراك الاسمي مزية فوق مزايا ورتبة فوق الرتب... فإذا نودي يوم القيامة «فاطمة» قام ما لا يحصى عدداً من النساء، ولما كان الاسم الشريف «فاطمة» يتضمن معنى الشفاعة، فكيف ترضى السيدة أن تحترق المرأة وهي في عصمتها وسمّيتها، فتكرم لاسمها وتنال الشفاعة وتنجو من أهوال المحشر...».

لقد جعل الله سميت فاطمة الزهراء وأُم أشباب أمير المؤمنين عليه‌السلام باباً من أبواب رحمته، ما قصدها أحد إلّا ونال قصده، وما توجه بها إلى الله - عزّ وجل - متوجه إلّا أعطى سؤله، ومن شاء فليتوسل إلى الله بها ليعلم صدق ذلك.

٩

وما ذاك على الله بعزيز فإن الله - تعالى - خلق الخلق من أجل محمد وآل محمد «صلوات الله عليهم أجمعين» وقد ذابت هذه المخدرة المكرمة في ولائها لهم، وتمسكت بهداهم، وأقتدت بآثارهم حتى صارت من أولياء الله المقربين عنده وعندهم، فارتفعت إلى أعلى عليين من خلال سبيل الكمال الذي رسمه الله لها ولجميه خلقه، فكانت أُم البين عليها‌السلام من السابقين في هذا الميدان حتى صارت اذا جاء عريض عند أهل البيت عليهم‌السلام وعند بارئهم.

وبالرغم من أنها كانت ولا زالت من أبواب الله، وأنها كانت ولا زالت من أبرز أعلام نساء التاريخ، إلّا أنّ من المؤسف له، فإن التاريخ لم يعطها حقها - كما هو شأنه مع الأبرار - فإنك لا تكاد تعثر في المصادر عن شيء فيه تفصيل عن حياة هذه الكريمة عن تاريخ ولادتها... طفولتها... شبابها... كم هو عمرها يوم دخلت بيت أمير المؤمنين عليه‌السلام ... تفاصيل حياتها مع زوجها ومع أبناء رسول الله... فإنها لا شك كانت زوجة مثالية رغم أنها لم تكن معصومة كفاطمة عليها‌السلام ، ولا ريب أنها كانت من أبرز مصاديق «عمال الله في الأرض» وفق روايات أهل البيت عليهم‌السلام وأدبياتهم الخاصة بالحياة الزوجية... فكيف عاشت مع أمير المؤمنين عليه‌السلام ؟!

وهكذا تفاصيل حياتها مع أبنائها - كأُم - ربت أفضل نموذج يمكن أن يقدمه القرآن والعترة الطاهرة من الذرية الصالحة... وكيف عاشت بعد أمير المؤمنين عليه‌السلام وبعد واقعة الطف؟!

تغافل المؤرخون والرواة عن متابعة تفاصيل حياة امرأة تعد لوحدها «أمة» و «مدرسة» متكاملة للأجيال، وخاضوا في جزئيات حياة حفنة من السفلة والأوغاد... ولعل من جملة الأسباب الكامنة وراء ذلك:

أنها كانت زوجة أمير المؤمنين عليه‌السلام ... عاشت في كنفه وفي ظل بيت ضم من قبلها فاطمة عليها‌السلام ومن ثم ضم الحسن والحسين وزينب، ومن غمرته أنوار الشمس تضاءل شعاعه مهما كان نيّراً...

١٠

وأنها كانت من المخدرات المستورات ولا يمكن للراوي والمؤرخ أن يخرق خدرها ويتصيد أخبارها، فكيف يروى لنا التاريخ قصة محجوبة لا تصل العيون إلى ظلها وأشباح شخصها؟!

أضف إلى أنها لم تكن من بنات الطواغيت الذين يطبل لهم المؤرخ المتملق أو الراوي المتزلّف، ودخلت بيت أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي ظلمه التاريخ في كلّ تفاصيل حياته وبكلّ ما يمت إليه بصلة من قريب أو بعيد «وقد أخفى العدو فضائله حنقاً وحسداً وأخفاها محبه خوفاً وخرج من بين ذين وذين ما طبق الخافقين»، وأُم البنين عليها‌السلام وأبناؤها مفردة من المفردات المنسوبة لأمير المؤمنين عليه‌السلام .

ولهذا حاول المؤلف أن يستوعب حياة هذه المحجوبة المستورة بالرغم من العوائق والعراقيل وندرة النصوص، فكان كتابه من بين ما رأيت مما كتب في أُم البنين عليها‌السلام أكثر شمولية وسعة واستيعاباً، ولربما كان هذا سبب حدى بالمؤلف للاستطراد أحياناً والجنوح بعيداً عن الموضوع الذي ألّف الكتاب لأجله.

ولما كان هذا اللون من الاستطراد بعيد عن ذوق القارئ العربي من جهة وشرود بذهنه عن الموضوع بالكلية اضطررنا إلى حذفه وحذف المكرر من المطالب والقصص التي تكررت دون مبرر.

ولربما استبدلنا بعض القصص والروايات في مواضع محدودة بغيرها مما هو أنسب وأوثق وأجمل.

وأضفنا على الكتاب في عدة مواضع داخل الفصول وأضفنا إليه بعض العناوين والمطالب من قبيل «شريكات أُم البنين عليها‌السلام » وبعض مراثي أُم البنين وغيرها.

وقد استأذنت في ذلك كله المؤلف حفظه الله ورعاه، وهو من المؤلفين المعروفين والموالين لأهل البيت عليهم‌السلام فجزاه الله خيراً عن أُم البنين عليها‌السلام وعن ابنائها المستشهدين بين يدي الحسين وعن زوجها أمير المؤمنين عليه‌السلام .

١١

ولا يفوتني أن أتقدّم بالشكر الجزيل والثناء الجميل لأخي العزيز الفاضل الماجد السيد محمد تقي الهاشمي صاحب «دار الكتاب الاسلامي» على ما قدمه بكل سخاء وما بذله من جهد وعناء ومتابعة في سبيل ترجمة هذا الكتاب وطبعه وتقديمه للقراء.

وأشكر ولدي البار السيد حسن أشرف حفظه الله ووفقه لكلّ خير وأقرّ عينه بزوجه وولده على ما بذله من جهد ومثابرة لصف حروف الكتاب وإخراجه بهذه الحلة الشيقة الجميلة.

فجزاهم الله عن جدّهم أمير المؤمنين عليه‌السلام وعمهم أبي الفضل العباس واخوانه وأُمهم أُم البنين عليها‌السلام .

ونسأل الله الرؤوف الرحيم أن يرزقنا حبّ أُم البنين، وحبّ أبناءها وزوجها أمير المؤمنين وزوجه البتول وذريتهما المعصومين وجدّهم سيد المرسلين، ويرزقنا والبراءة من أعدائهم ويغفر لنا ولوالدينا ومن ولدا ولجميع المؤمنين والمؤمنات ويعجل فرج قائمهم ويجعلنا من جنده وحزبه ألا إن حزب الله هم المفلحون.

سيد علي جمال أشرف

٢٠ / ٧ / ١٤٢٣

١٢

الفصل الأول

الهوية الشخصية

١٣

الهوية الشخصية

اسمها: فاطمة (١) .

كنيتها: أم البنين (٢) .

والأصل في هذه الكنية أنّ العرب تكني بها المرأة التي تلد ثلاثة أولاد فما فوق، وقد يكنى بعضهم ابنته، وهي في الطفولة، بهذه الكنية مجازاً على سبيل التفاؤل لهن بالبنين، كما كانوا يكنونهن بأمثال ذلك «كأم الخير» و «أم الكرام».

وقد تغلب الكنية حتى ينسى الاسم تماماً، كما حدث «لأم أيمن» و «أم سلمة» وكذلك حدث «لأم البنين» (٣) .

أبوها: حزام (٤) .

__________________

(١) عمدة المطالب: ٣٥٦، أعلام النساء لكحالة ٤ / ٤٠ تنقيح المقال ٣ / ٧٠، إبصار العين: ٢٥، أعيان الشيعة ٧ / ٤٢٩، أدب الطف ١ / ٧٢.

(٢) مروج الذهب ٣ / ٦٣، تاريخ الطبري ٣ / ٣٩٣، تاريخ اليعقوبي ٢ / ٢١٣، الفصول المهمة ١٤١ - ١٤٢، السلسلة العلوية: ٨٨، المناقب لابن شهر آشوب ٣ / ٣٠٤، كشف الغمة ١ / ٤٤١.

(٣) أنظر: أم البنين للسيد السويج: ١٢.

(٤) بحار الأنوار ٤٥ / ٣٧، مقاتل الطالبيين: ٨١ وغيرها.

١٤

أمها: ثمامة (١) ، وقيل: ليلى (٢) .

زوجها: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام .

أولادها: الشهداء الأربعة: العباس، عبد الله، جعفر، عثمان.

قبرها: في البقيع - المدينة المنورة.

* * *

__________________

(١) مقاتل الطالبيين: ٨٢، إبصار العين: ٢٥، أدب الطف ١ / ٧٢.

(٢) عمدة الطالب: ٣٥٦.

١٥

الفصل الثاني

ولادتها عليها‌السلام

١٦

ولادتها عليها‌السلام

لم يحدد المؤرخون تاريخ ولادتها عليها‌السلام ، بيد أنّهم ذكروا أن تاريخ ولادة ابنها الأكبر العباس عليه‌السلام كانت في السنة السادسة والعشرين من الهجرة (١) .

__________________

(١) تنقيح المقال ٢ / ١٢٨.

١٧

الفصل الثالث

الانتماء

١٨

(١) الانتماء

ينتهي نسب أُم البنين عليها‌السلام إلى جعفر بن كلاب زعيم هوزان ورئيسها في عصره.

وكانت هوزان تقطن في الطرف الجنوبي من مكة ويمتد نفوذها إلى حدود اليمن، مما جعل قسماً منهم يعيش البداوة وقسماً يعيش الحضرين، إلّا أنّهم اتفقوا جميعاً على عبادة الأوثان.

وكان بينهم وبين سكان مكة عداوات قديمة أدّت إلى نشوب الحرب بينهم مراراً، وقد اشترك في أحدها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعمه أبو طالب عليه‌السلام - ضد هوازن -، وقتل في أخرى «خويلد» والد خديجة عليها‌السلام أم المؤمنين وزوجة النبي الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فلما كان فتح مكة أمر رسول الله أن يطهر المسلمون أطراف مكة من الأصنام، فلمّا سمعت هوازن بذلك أقبلت بكل قبائلها وساقت معها نساءها وأموالها في عشرين ألف، واستعدت للحرب دفاعاً عن أصنامها، وهي تنوي أن تسيطر على مكة وتستريح من قريش، فخرجوا عن بكرة أبيهم.

فلما بلغ خبرهم إلى أهل مكة أصابهم الذعر، واضطربت قريش لمعرفتها بشجاعة هوزان وأقدام أبطالها، وهم يعلمون أنّ سيوف هوزان أخطر من صواعق السماء.

فاجتمع المسلمون جميعاً من أسلم منهم قبل الفتح وبعده، ونبذوا الخلافات،

١٩

ووحّدوا صفوفهم للوقوف أمام سيول هوازن الجارفة، سيما وأنّهم سمعوا أنّ هوازن أقبلت بقضها وقضيضها، ورجالها ونساءها وأموالها، فهي إذن عازمة على الموت أو الدخول إلى مكة فاتحة منتصرة.

فخرج المسلمون وقريش - وكانوا زهاء ألفي رجل - حتى إذا بلغوا «حنين»، وهو وادي يقع بين الطائف ومكة، باغتتهم هوازن، حيث كان القوم قد كمنوا في شعاب الوادي ومضائقه، فما راع المسلمون إلّا كتائب الرجال، فانهزموا جميعاً - إلّا عليّاً عليه‌السلام -.

فقتل منهم كثير تحت السنابك والأرجل، وهوازن تشدّد القبضة عليهم وتحاصرهم وترميهم من كل مكان، وليس للمسلمين عليهم سبيل؛ لأنهم في أسفل الوادي والعدو من فوقهم، فسيطر عليهم الرعب، وارتبك الموقف، واضطرب الرجال، ولم يكن همّ أحدهم إلّا النجاة بنفسه.

وهكذا استمرت المعركة لصالح هوازن، ولم يصمد أمامهم إلّا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمير المؤمنين، وثلّة قليلة ممن باعوا أرواحهم، واستصغروا أنفسهم في جنب الله.

وبالرغم من المقاومة المستميتة لهذه العصابة المؤمنة فانّ العدو استمر في التوغل بين صفوف المسلمين، فلم يجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بداً، فنادى برفيع صوته يخاطب المهاجرين والأنصار: إلى أين تفرون؟! لقد نصركم الله في مواطن كثيرة مع قلّة العدد، اذكروا العهد الذي عاهدتم عليه رسول الله، ارجعوا فان الله ناصركم...

ثم نظر إلى الناس ببعض وجهه فأضاء كأنّه القمر، ثم نادى: أين ما عاهدتم عليه الله؟ فاسمع أولهم وآخرهم، فلم يسمعها رجل إلّا رمى بنفسه إلى الأرض، فانحدروا حتى لحقوا العدو، وامتلأت قلوبهم بالأمل لوعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الصادق المصدق، حيث وعدهم بالنصر، واستعادوا رباطة جأشهم، والتأمت صفوفهم حتى طردوا من المضيق، ونقلوا المعركة إلى «أوطاس»، وهناك أنزل الله عليهم النصر فغلبوا عدوهم وأسروهم وغنموا أموالهم.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

الفصل الخامس:

خطة المتوكل لإبادة أهل البيت (ع) وشيعتهم

كان المتوكل يبغض أسلافه لحبهم علياً (ع)

قال ابن الأثير في الكامل « 7 / 56 »: « وقيل إن المتوكل كان يبغض من تقدمه من الخلفاء: المأمون، والمعتصم، والواثق، في محبة علي وأهل بيته!

وإنما كان ينادمه ويجالسه جماعة قد اشتهروا بالنصب والبغض لعلي، منهم علي بن الجهم الشاعر الشامي من بني شامة بن لؤي، وعمر بن فرج الرخجي، وأبوالسمط من ولد مروان بن أبي حفصة من موالي بني أمية، وعبد الله بن محمد بن داود الهاشمي المعروف بابن أترجة.

وكانوا يخوفونه من العلويين، ويشيرون عليه بإبعادهم والإعراض عنهم، والإساءة إليهم. ثم حسنوا له الوقيعة في أسلافهم الذين يعتقد الناس علو منزلتهم في الدين، ولم يبرحوا به حتى ظهر منه ما كان، فغطت هذه السيئة جميع حسناته، وكان من أحسن الناس سيرة، ومنع الناس من القول بخلق القرآن، إلى غير ذلك من المحاسن ».

وهذا وغيره يدل على أن سياسة المتوكل في بغض أهل البيت (ع) لم تكن عابرة، بل كانت عن عمد وإصرار، وتخطيط!

١٠١

أرسل المتوكل الرُّخَّجِي المتوحش والياً على الحجاز!

قال أبوالفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبيين / 395: « واستعمل على المدينة ومكة عمر بن الفرج الرخجي، فمنع آل أبي طالب من التعرض لمسألة الناس، ومنع الناس من البِرِّ بهم، وكان لا يبلغه أن أحداً أبرَّ أحداً منهم بشئ وإن قلَّ، إلا أنهكه عقوبةً وأثقله غُرْماً! حتى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلين فيه واحدة بعد واحدة، ثم يرقعنه ويجلسن على مغازلهن عواري حواسر!

إلى أن قتل المتوكل، فعطف المنتصر عليهم وأحسن إليهم، ووجه بمال فرقه فيهم، وكان يؤثرمخالفة أبيه في جميع أحواله، ومضادة مذهبه ».

أقول: لاحظ الإنحطاط الذي وصل اليه عمر الرخجي غلام المتوكل، حيث حبس آل الرسول (ص) في المدينة، ومنع من يحتاج منهم الى الطعام والشر ـ اب أن يطلب مساعدة أحد، ثم كان يعاقب من يساعده بعقاب شديد وغرامة كبيرة!

وهو بذلك يتعمد إفقارهم وإذلالهم ليموتوا جوعاً!

وقد دفع ذلك عدداً منهم الى الثورة في هذا البلد وذاك، لأن المسلمين يثقون بهم ولا يثقون بالعباسيين، ومنهم من يبذل نصرته ودمه للعلويين.

ومعنى: كان القميص بين عدد من العلويات أنه قد يوجد مجموعة نساء في بيت، ليس عندهن ثياب وافية للصلاة بعددهن، فيتبادلن الثوب للصلاة فتصلي فيه واحدة بعد الأخرى، ثم يجلسن للعمل بثيابهن غير الساترة!

١٠٢

قال البيومي في الإمامة وأهل البيت « 3 / 193 »: « وهكذا شرَّع من يسمونه أمير المؤمنين المتوكل على الله، أن تقبع العلويات الطاهرات في بيوتهن عاريات، يتبادلن القميص المرقع عند الصلاة، وأن تختال الفاجرات العاهرات بالحلي وحلل الديباج، بين الإماء والعبيد ».

اضطهد المتوكل الشيعة في مصر

في البيان للمقريزي « 1 / 39 »: « ظلت مصر ملجأً آمناَ لآل علي بن أبي طالب إلى أن جاء زمن المتوكل العباسي، وكان يبغض العلويين، فأمر واليه في مصر بإخراج آل علي بن أبي طالب منها، فأخرجوا من الفسطاط إلى العراق في عام 236، ثم نقلوا إلى المدينة في العام نفسه، واستتر من كان بمصر على رأي العلوية ».

وقال البلاذري في أنساب الأشراف: 3 / 137، ونحوه الطبري: 6 / 416: « كان إدريس بن عبد الله بن حسن في وقعة فخ مع الحسين بن علي، فهرب في خلافة الهادي إلى مصر، وعلى بريدها يومئذ واضح مولى صالح بن منصور، الذي يعرف بالمسكين، وكان واضح يتشيع، فحمله على البريد إلى المغرب ».

وفي المواعظ للمقريزي « 4 / 159 »: « ورد كتاب المتوكل على الله إلى مصر يأمر فيه بإخراج آل أبي طالب من مصر إلى العراق، فأخرجهم إسحاق بن يحيى الختلي أمير مصر، وفرق فيهم الأموال ليتجملوا بها، وأعطى كل رجل ثلاثين ديناراً، والمرأة خمسة عشر ديناراً، فخرجوا لعشر خلون من رجب سنة ست وثلاثين ومائتين، وقدموا العراق فأخرجوا إلى المدينة في شوال منها، واستتر من كان

١٠٣

بمصر على رأي العلوية، حتى أن يزيد بن عبد الله أمير مصر ضرب رجلاً من الجند في شئ وجب عليه، فأقسم عليه بحق الحسن والحسين إلا عفا عنه، فزاده ثلاثين درة « ضربة » ورفع ذلك صاحب البريد إلى المتوكل، فورد الكتاب على يزيد بضرب ذلك الجندي مائة سوط، فضربها، وحمل بعد ذلك إلى العراق في شوال سنة ثلاث وأربعين ومائتين!

وتتبع يزيد الروافض فحملهم إلى العراق، ودل في شعبان على رجل يقال له محمد بن علي بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أنه بويع له، فأحرق الموضع الذي كان به وأخذه فأقر على جمع من الناس بايعوه، فضرب بعضهم بالسياط، وأخرج العلوي هو وجمع من آل أبي طالب، إلى العراق في شهر رمضان. ومات المتوكل في شوال ».

وفي النجوم الزاهرة « 2 / 309 »: « يزيد بن عبد الله بن دينار « والي مصرسنة 242 » تتبع الروافض بمصر وأبادهم، وعاقبهم، وامتحنهم، وقمع أكابرهم، وحمل منهم جماعة إلى العراق على أقبح وجه. ثم التفت إلى العلويين فجرت عليهم منه شدائد من الضيق عليهم، وأخرجهم من مصر ».

واضطهد والي مصر محمد بن الفَرَج

في تاريخ اليعقوبي « 2 / 485 »: « وسخط على عمر بن فرج الرخجي وعلى أخيه محمد، وكان محمد بن فرج عامل مصر إذ ذاك، فوجه كتاباً في حمله، وقبضت

١٠٤

أموالهما، وكان ذلك في سنة 233، وكان عمر محبوساً ببغداد، ومحمد محبوساً بسر من رأى، فأقاما سنتين ».

وقال الطبري « 7 / 347 »: « فدفع إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فحبس عنده وكتب في قبض ضياعه وأمواله وأصيب له بالأهواز أربعون ألف دينار، ولأخيه محمد بن فرج مائة ألف دينار وخمسون ألف دينار، وحمل من داره من المتاع ستة عشر بعيراً فرشاً، ومن الجوهر قيمة أربعين ألف دينار ».

أقول: كان محمد بن الفرج (رحمه الله) عالماً تقياً مؤلفاً، ويظهر أن سبب قبوله ولاية مصر أن المتوكل جعل ولايتها لابنه المنتصر فولاه عليها.

ولا بد أن يكون محمد استأذن الإمام الهادي (ع) لأنه ملتزم بطاعته، ومكانته عنده جليلة، وقد أرسل اليه ينبهه الى الإستعداد لغضب المتوكل!

ففي الكافي « 1 / 500 » عن النوفلي قال: « قال لي محمد بن الفرج: إن أبا الحسن (ع) كتب إليه: يا محمد أجمع أمرك وخذ حذرك. قال: فأنا في جمع أمري لست أدري ما كتب إلي حتى ورد عليَّ رسولٌ حملني من مصر مقيداً، وضَرَبَ على كل ما أملك « صادره »! وكنت في السجن ثمان سنين.

ثم ورد عليَّ منه (ع) في السجن كتاب فيه: يا محمد لا تنزل في ناحية الجانب الغربي. فقرأت الكتاب فقلت: يكتب إليَّ بهذا وأنا في السجن، إن هذا لعجب! فما مكثت أن خُلِّيَ عني، والحمد لله ».

١٠٥

وفي الإرشاد « 2 / 304 »: « وروى أحمد بن عيسى قال: أخبرني أبويعقوب قال: رأيت محمد بن الفرج قبل موته بالعسكر في عشية من العشايا، وقد استقبل أبا الحسن (ع) فنظر إليه نظراً شافياً، فاعتل محمد بن الفرج من الغد، فدخلت عليه عائداً بعد أيام من علته، فحدثني أن أبا الحسن (ع) قد أنفذ إليه بثوب وأرانيه مدرجاً تحت رأسه، قال: فكُفِّنَ فيه والله ».

أقول: ترجمنا لمحمد رضي الله عنه في سيرة الجواد (ع) وكان من كبار أصحاب الأئمة (ع). وأخوه عمر من أشد النواصب، وعلاقتهما مع ذلك جيدة!

واضطهد المتوكل قاضي قضاة مصر

روت مصادر التاريخ أن المتوكل أمر بإهانة قاضي قضاة مصر: أبي بكر محمد بن أبي الليث، بحجة أنه أكل أموال الناس، والسبب أمر آخر!

ففي تاريخ الخلفاء للسيوطي « 1 / 253 »: « وفي سنة سبع وثلاثين بعث إلى نائب مصر أن يحلق لحية قاضي القضاة بمصر أبي بكر محمد بن أبي الليث، وأن يضربه ويطوف به على حمار! ففعل ونعمَ ما فعل، فإنه كان ظالماً من رؤوس الجهمية، وولي القضاء بدله الحارث بن مسكين من أصحاب مالك وبعد تمنُّع، وأهان القاضي المعزول بضربه كل يوم عشرين سوطاً ليرد المظالم إلى أهلها ».

لكن الظاهر خلافاً للسيوطي أن سبب عزله أنه حكم لخصم وكيل أم المتوكل، وحكم بوراثة أبناء البنات، فنقم عليه المتوكل، لأنه يجب أن يحكم دائماً لوكلاء الخليفة ومن يتعلق به! ويجب أن يحكم بوراثة العم والعصبة، لأن العباسيين

١٠٦

يعتبرون الحكم بوراثة أبناء البنات حكماً بوراثة الحسن والحسين (ع) لخلافة النبي (ص) دون عمه العباس، ولذلك يحكمون بوراثة العشيرة!

قال ابن حجر في كتابه: رفع الإصر عن قضاة مصر « 1 / 121 »: « خوصم إلى الحارث في دار من دور السيدة أم الخليفة فحكم على وكيلها، فأخرج الدار من يده ودفعها للخصم، فكتب بذلك الوكيل إلى العراق، فجاء كتاب الفضل بن مروان إلى أمير مصر ينكر على الحارث ذلك ويقول في كتابه: إن الحارث لم يزل معروفاً بالإنحراف عن السلطان والمباعدة لأسبابه، فتُكلمه أن مقام وكلاء جهة أمير المؤمنين في ضياعها ودورها ومستغلاتها بمصر، مقامُ من يحوطها.

ويأمرُ برد الدار التي كانت في أيديهم لهم، كما كانت قبل حكمه فيها، وترك النظر في شئ مما في أيدي وكلائها بما يوهن أمرهم!

وتأمره بالتقدم إلى الحارث، بعدم التعرض إلى النظر في شئ يتعلق بأمير المؤمنين وبمنعه من ذلك إن حاوله. وكتب في ربيع الآخر سنة أربعين ومائتين.

ولم يزل الحارث على طريقته حتى حكم في دار الفيل، وهي دار أبي عثيم مولى مسلمة بن مخلد، وكان تحبيسها في سنة ثلاث وتسعين. وأصل ذلك أن جماعة من قضاة مصر منهم توبة والفضل بن فضالة والعمري وهارون الزهري أخرجوا وتاجاً مولى أبي عثيم من الحبس « الوقف » لأن صاحب الحبس لم يسمه في كتاب تحبيسه. ثم آل الاستحقاق إلى محمد بن ناصح مولى أبي عثيم، وإلى عزة بنت عمرو بن رافع مولى ابن عثيم، فتوفيت عزة وتركت ولدها إبراهيم بن عبد

١٠٧

الصمد المعروف بابن السائح، فخاصمهم فيها فأخرجهم الزهري، وحكم بإخراج بني البنات من العقب.

فلما ولي محمد بن أبي الليث فسخ حكم الزهري ودفع نصيبها إلى بني السائح. فلما ولي الحارث بن مسكين فسخ حكم ابن أبي الليث، وأخرج بني السائح فخرج إسحاق بن إبراهيم بن عبد الصمد بن السائح، إلى العراق فتظلم من الحارث ورفع قصته إلى المتوكل، فأمر بإحضار الفقهاء فحضروا، واتفقوا على تخطئة الحارث في الحكم المذكور، وتناولوه بألسنتهم!

وكان الفقهاء الذين نظروا في قضية الحارث على رأي الكوفيين، وحكم الحارث إنما هوعلى رأي المدنيين، وبلغ ذلك الحارث ما جرى هناك من ذكره، فخشي من العزل، فبادر بكتاب إلى العراق يستعفي، فصادف وصول كتابه عقب أمر المتوكل بعزله، فكتب إليه جعفر بن عبد الواحد الهاشمي قاضي العراق: إن كتابك وصل باستعفائكم فأنهيت كتابك إلى أمير المؤمنين وأنك تستعفي مما تقلدته من القضاء، فأمر أيده الله بإجابتك إلى ذلك وإعفائك إسعافاً لك فيما سألت، وتفضلاً بما أدى إلى موافقة فراقك في العمل بحسب ذلك موفقاً. وكتب المتوكل إلى أمير مصر يزيد بن عبد الله بن الأغلب بالنظر في قضية ابن السائح، فجمع أهل البلد من الفقهاء والشيوخ، وكان ورود الكتاب عليه بالصرف في يوم الجمعة لسبع بقين من شهر ربيع الآخر سنة خمس وأربعين ومائتين ».

١٠٨

أقول: العجب من بعض الرواة كالذهبي والسيوطي، حيث ذموا الحارث بن أبي الليث وجعلوه جهمياً، ظالماً آكلاً أموال الناس، وإنما ذنبه أنه خالف هوى المتوكل في بعض أحكامه، فغضب عليه المتوكل، وقلده الرواة!

قال الذهبي في سيره « 9 / 446 » : « وبعث المتوكل إلى نائبه بمصر فحلق لحية قاضي القضاة محمد بن أبي الليث وضربه، وطوف به على حمار في رمضان وسجن، وكان ظلوماً جهمياً، ثم ولي القضاء الحارث بن مسكين، فكان يضربه كل حين عشرين سوطاً ليؤدي ما وجب عليه، فإنا لله ».

وقال ابن حجر: « فكانوا يحضرون محمد بن أبي الليث كل يوم بين يدي الحارث، فيضربه عشرين سوطاً، ليخرج عما يجب عليه من الحقوق، فأقام على ذلك أياماً ثم أشير عليه بتركه. وقيل له إنه لا ينبغي للقاضي فعل ذلك لقبحه، فصرفه ».

وواصل المتوكل اضطهاد ابن أبي الليث، فصادر أمواله وأموال أقاربه، ولو كانت مهمة لذكروها. وحمله الى بغداد ومات فيها سنة 255 . « تاريخ بغداد « 2 / 291 ».

واضطهد أحد تجار بغداد

وذكر الطبري في تاريخه قصة وجيه في بغداد، قتله المتوكل بتهمة شتم الشيخين، والمرجح أنه كان معارضاً للمتوكل أومحباً لأهل البيت (ع)، فقد كانت قصته بعد غضب أهل بغداد لهدم قبر الحسين (ع) وكتابتهم شتم المتوكل على الجدران، فيظهر أن السلطة دبرت له هذه التهمة، وقتله الخليفة هذه القتلة!

١٠٩

قال الطبري « 7 / 375 »: « وفيها « سنة 241 » ضُرِب عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم، صاحب خان عاصم ببغداد ضرب فيما قيل ألف سوط. وكان السبب في ذلك أنه شهد عند أبي حسان الزيادي قاضي الشرقية عليه، أنه شتم أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة، وسبعة عشر رجلاً، شهاداتهم فيما ذكر مختلفة من هذا النحو، فكتب بذلك صاحب بريد بغداد إلى عبيد الله بن يحيى بن خاقان، فأنهى عبيد الله ذلك إلى المتوكل، فأمر المتوكل أن يكتب إلى محمد بن عبد الله بن طاهر يأمره بضرب عيسى هذا بالسياط، فإذا مات رمى به في دجلة، ولم تدفع جيفته إلى أهله! فكتب عبيد الله إلى الحسن بن عثمان جواب كتابه إليه في عيسى:

بسم الله الرحمن الرحيم، أبقاك الله وحفظك، وأتم نعمته عليك. وصل كتابك في الرجل المسمى عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم صاحب الخانات، وما شهد به الشهود عليه من شتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعنهم وإكفارهم ورميهم بالكبائر، ونسبتهم إلى النفاق وغير ذلك، مما خرج به إلى المعاندة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم. وتثبتك في أمر أولئك الشهود، وما شهدوا به، وما صح عندك من عدالة من عُدِّل منهم، ووضح لك من الأمر فيما شهدوا به، وشرحك ذلك في رقعة درج كتابك، فعرضت على أمير المؤمنين أعزه الله ذلك، فأمر بالكتاب إلى أبي العباس محمد بن عبد الله بن طاهر مولى أمير المؤمنين أبقاه الله، بما قد نفذ إليه مما يشبه ما عنده أبقاه الله من نصرة دين الله وإحياء سنته، والإنتقام ممن ألحد فيه، وأن يضرب الرجل حداً في مجمع الناس

١١٠

حد الشتم، وخمس مائة سوط بعد الحد للأمور العظام التي اجترأ عليها، فإن مات ألقيَ في الماء من غير صلاة، ليكون ذلك ناهياً لكل ملحد في الدين خارج من جماعة المسلمين، وأعلمتك ذلك لتعرفه إن شاء الله تعالى، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. وذكر أن عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم هذا، قد قال بعضهم: إن اسمه أحمد بن محمد بن عاصم، لما ضُرب تُرك في الشمس حتى مات ثم رُمِيَ به في دجلة ».

أقول: آل عاصم عائلة كوفية من بني ضبة، سكن بعضهم في بغداد، وفيهم من أصحاب الأئمة (ع)، وعرف منهم العاصمي وكيل الإمام المهدي (ع).

وقد يكون منهم هذا الشهيد ابن عاصم، الذي قتله المتوكل بافتراء عليه، فقد ترجم علماؤنا لعدة رجال من آل عاصم.

قال الشيخ في الفهرست / 73: « أحمد بن محمد بن عاصم، أبو عبد الله، وهو ابن أخي علي بن عاصم المحدث، ويقال له العاصمي، ثقة في الحديث سالم الجنبة، أصله الكوفة سكن بغداد، وروى عن شيوخ الكوفيين. وله كتب ».

وروى الحاكم في المستدرك « 3 / 394 »: « حدثني أبو عبد الله محمد بن العباس بن محمد بن عاصم بن بلال الضبي الشهيد، ثنا أحمد بن محمد بن علي بن رزين، ثنا علي بن خشرم، ثنا أبو مخلد عطاء بن مسلم، ثنا الأعمش، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: شهدنا صفين مع علي رضي الله عنه ». لكن وصف الشهيد قد يكون لشخص في السند لا يوافق قتله زمن المتوكل. وكذا قول الحاكم في « 3 / 465 »:

١١١

« فحدثنيه أبو عبد الله، محمد بن العباس بن أحمد بن محمد بن عاصم الشهيد، رضي الله عنه ». ولذلك نتوقف فيه.

نجَّى أهل الدينور أنفسهم من شر المتوكل

قال ابن خلكان في وفيات الأعيان « 1 / 351 »: « كان بالدينور « غرب إيران من جهة العراق » شيخ يتشيع ويميل إلى مذهب أهل الإمامة، وكان له أصحاب يجتمعون إليه ويأخذون عنه ويدرسون عنده، يقال له: بشر الجعاب، فرفع صاحب الخبر بالدينور الى المتوكل أن بالدينور رجلاً رافضياً يحضره جماعة من الرافضة ويتدارسون الرفض، ويسبون الصحابة ويشتمون السلف.

فلما وقف المتوكل على كتابه أمر وزيره عبيد الله بن يحيى بالكتاب إلى عامله على الدينور بإشخاص بشر هذا، والفرقة التي تجالسه. فكتب عبيد الله بن يحيى بذلك، فلما وصل إلى العامل كتابه، وكان صديقاً لبشر الجعاب حسن المصافاة له شديد الإشفاق عليه، همَّهُ ذلك وشقَّ عليه، فاستدعى بشراً وأقرأه ما كوتب به في أمره، وأمر أصحابه فقال له بشر: عندي في هذا رأيٌ إن استعملته كنت غير مستبطأ فيما أُمرت به، وكنت بمنجاة مما أنت خائف عليَّ منه.

قال: وما هو؟ قال: بالدينور شيخ خفاف إسمه بشر، ومن الممكن المتيسر أن تجعل مكان الجعاب الخفاف، وليس بمحفوظ عنده ما نسبت إليه من الحرفة والصناعة، فَسُرَّ العامل بقوله وعمد إلى العين من الجعاب فغير عينها وغير استواء خطها وانبساطه، ووصل الباء بما صارت به فاء، فكان أخبره عن بشر

١١٢

الخفاف أنه أبله في غاية البله والغفلة، وأنه هزأة عند أهل بلده وضحكة! وذلك أن أهل سواد البلد يأخذون منه الخفاف التامة والمقطوعة بنسيئة، ويعدونه بأثمانها عند حصول الغلة، فإذا حصلت وحازوا ما لهم منها ما طلوه بدينه ولَوَوْهُ بحقه، واعتلوا بأنواع الباطل عليه، فإذا انقضى وقت السادر ودنا الشتاء واحتاجوا إلى الخفاف وما جرى مجراها، وافوا بشراً هذا واعتذروا إليه وخدعوه وابتدروا يعدونه الوفاء، ويؤكدون مواعيدهم بالأيمان الكاذبة والمعاهدة الباطلة ويضمنون له أداء الديون الماضية والمستأنفة، فيحسن ظنه بهم وسكونه ويستسلم إليهم، ويستأنف إعطاءهم من الخفاف وغيرها ما يريدونه، فإذا حضرت الغلة أجروه على العادة، وحملوه على ما تقدم من السنة، ثم لا يزالون على هذه الوتيرة من أخذ سلعه في وقت حاجتهم ودفعه عن حقه في إبان غلاتهم، فلا يتنبه من رقدته ولا يفيق من سكرته!

فأنفذ صاحب الخبر كتابه وأشار بتقديم الخفاف أمام القوم، والإقبال عليه بالمخاطبة وتخصيصه بالمسألة، ساكناً إلى أنه من ركاكته وفهاهته بما يضحك الحاضرين، ويحسم الإشتغال بالبحث عن هذه القصة ويتخلص من هذه الثلاثة.

فلما ورد كتاب صاحب الخبر أعلم عبيد الله بن يحيى المتوكل به وبحضور القوم فأمر أن يجَلس ويستحضرهم ويخاطبهم فيما حكي عنهم، وأمر فعلق بينه وبينهم سلبية، ليقف على ما يجري ويسمعه ويشاهده، ففعل ذلك.

١١٣

وجلس عبيد الله واستدعى المحضرين فقُدِّموا إليه يَقْدَمُهم بشر الخفاف، فلما جلسوا أقبل عبيد الله على بشر فقال له: أنت بشر الخفاف؟ فقال: نعم. فسكنت نفوس الحاضرين معه إلى تمام هذه الحيلة وإتمام هذه المدالسة، وجواز هذه المغالطة، فقال له: إنه رفع إلى أمير المؤمنين من أمركم شئ أنكره، فأمر بالكشف عنه وسؤالكم بعد إحضاركم عن حقيقته، فقال له بشر: نحن حاضرون فما الذي تأمرنا به؟ قال: بلغ أمير المؤمنين أنه يجتمع إليك قوم فيخوضون معك في الترفض وشتم الصحابة، فقال بشر: ما أعرف من هذا شيئاً. قال: قد أمرت بامتحانكم والفحص عن مذاهبكم، فقال: ما تقول في السلف؟ فقال: لعن الله السلف. فقال له عبيد الله: ويلك أتدري ما تقول! قال: نعم، لعن الله السلف! فخرج خادم من بين يدي المتوكل فقال لعبيد الله: يقول لك أمير المؤمنين سله الثالثة، فإن أقام على هذا فاضرب عنقه، فقال له: إني سائلك هذه المرة فإن لم تتب وترجع عما قلت أمرت بقتلك، فما تقول الآن في السلف؟ فقال: لعن الله السلف قد خَرَّبَ بيتي وأبطل معيشتي، وأتلف مالي، وأفقرني، وأهلك عيالي!

قال: وكيف؟ قال: أنا رجل أسلف الأَكَرة وأهل الدستان الخفاف والتمسكات على أن يوفوني الثمن مما يحصل من غلاتهم، فأصير إليهم عند حصول الغلة في بيادرهم، فإذا أحرزوا الغلات دفعوني عن حقي، وامتنعوا من توفيتي مالي.

ثم يعودون عند دخول الشتاء فيعتذرون إلي ويحلفون بالله لا يعاودون مطلي وظلمي، فإنهم يؤدون إلي المتقدم والمتأخر من مالي، فأجيبهم إلى ما يلتمسونه

١١٤

وأعطيهم ما يطلبونه، فإذا جاء وقت الغلة عادوا إلى مثل ما كانوا عليه من ظلمي وكسر مالي، فقد اختلَّت حالي، وافتقرت عيالي!

قال: فسمع ضحك عال من وراء السبيبة، وخرج الخادم فقال: إستحلل هؤلاء القوم وخل سبيلهم! فقالوا: يا أمير المؤمنين في حل وسعة، فصرفهم، فلما توسطوا صحن الدار قال بعض الحاضرين: هؤلاء قوم مجانٌّ محتالون، وصاحب الخبر مسقط لا يكتب إلا بما يعلمه ويثق بصحته، وينبغي أن يستقصي الفحص عن هذا والنظر فيه، فأمر بردهم فلما أمروا بالرجوع قال بعض الجماعة التابعة لبعض: ليس هذا من ذلك الذي تقدم، فينبغي أن نتولى الكلام نحن ونسلك طريق الجد والديانة، فرجعوا فأمروا بالجلوس، ثم أقبل عبيد الله على القوم فقال: إن الذي كتب في أمركم ليس ممن تقدم على الكتب بما لا يقبله علماً ويحيط به خبراً، وقد أخذ أمير المؤمنين باستئناف امتحانكم وإنعام التفتيش عن أمركم.

فقالوا: إفعل ما أمرت به، فقال: من خير الناس بعد رسول الله؟ قلنا: علي بن أبي طالب، فقال الخادم بين يديه: قد سمعت ما قالوا، فأخبر أمير المؤمنين به، فمضى ثم عاد فقال: يقول لكم أمير المؤمنين هذا مذهبي. فقلنا: الحمد لله الذي وفق أمير المؤمنين في دينه، ووفقنا لاتباعه وموافقته على مذهبه.

ثم قال لهم: ما تقولون في أبي بكر رضي الله عنه؟ فقالوا رحمة الله على أبي بكر نقول فيه خيراً، قال فما تقولون في عمر؟ قلنا: رحمة الله عليه ولا نحبه. قال: ولمَ؟ قلنا: لأنه أخرج مولانا العباس من الشورى. قال فسمعنا من وراء السبيبة

١١٥

ضحكاً أعلى من الضحك الأول، ثم أتى الخادم فقال لعبيد الله عن المتوكل أتبعهم صلة، فقد لزمتهم في طريقهم مؤونة واصرفهم، فقالوا: نحن في غنى وفي المسلمين من هوأحق بهذه الصلة وإليها أحوج. وانصرفوا ».

أقول: هذا يدل على نهاية نصب المتوكل، بحيث إذا جاءه خبر عن شيخ له جماعة يدرسون عنده ويتبعون مذهب أهل البيت (ع)، يبادر الى البطش بهم!

كان مسجد براثا مركزاً للشيعة قبل بغداد!

ذكرنا في سيرة الإمام الكاظم (ع) أن مسجد براثا أسسه أمير المؤمنين (ع) في عودته من حرب الخوارج سنة 38، وأنه كان مركزاً للشيعة قبل تأسيس بغداد، وكانت الكرخ بلدة فيها شيعة. ثم أسس المنصور بغداد بين براثا والكرخ.

قال في معجم البلدان: 1 / 362: « بُرَاثا: بالثاء المثلثة والقصر: محلةٌ كانت في طرف بغداد في قِبْلة الكرخ وجنوبي باب مُحَوِّل وكان لها جامع مفرد تصلي فيه الشيعة ».

وفي أمالي الطوسي / 199، عن الإمام الباقر (ص) قال: « إن أمير المؤمنين (ص) لما رجع من وقعة الخوارج اجتاز بالزوراء فقال للناس: إنها الزوراء، فسيروا وجَنِّبوا عنها فإن الخسف أسرع إليها من الوتد في النخالة، فلما أتى موضعاً من أرضها قال: ما هذه الأرض؟ قيل أرض بحرا، فقال: أرض سباخ، جنبوا ويَمِّنوا. فلما أتى يمنة السواد فإذا هو براهب في صومعة له فقال له: يا راهب، أَنْزِلُ هاهنا؟ فقال له الراهب: لا تنزل هذه الأرض بجيشك. قال: ولمَ؟ قال: لأنه لا ينزلها إلا نبي أووصي نبي بجيشه يقاتل في سبيل الله، هكذا نجد في كتبنا.

١١٦

فقال له أمير المؤمنين: فأنا وصي سيد الأنبياء (ص) وسيدُ الأوصياء. فقال له الراهب: فأنت إذن أصلع قريش ووصي محمد؟ قال له أمير المؤمنين: أنا ذلك. فنزل الراهب إليه فقال: خذ عليَّ شرائع الإسلام، إني وجدت في الإنجيل نعتك وأنك تنزل أرض براثا بيت مريم وأرض عيسى (ص)! فقال أمير المؤمنين (ص): قف ولا تخبرنا بشئ ثم أتى موضعاً فقال: إلكزوا هذه، فلكزه برجله (ص) فانبجست عين خرارة، فقال: هذه عين مريم التي انبعثت لها!

ثم قال: إكشفوا هاهنا على سبعة عشر ذراعاً، فكشف فإذا بصخرة بيضاء فقال علي (ص): على هذه وضعت مريم عيسى من عاتقها وصلت هاهنا! فنصب أمير المؤمنين (ص) الصخرة وصلى إليها، وأقام هناك أربعة أيام يتم الصلاة، وجعل الحرم في خيمة من الموضع على دَعْوِة « مسافة قريبة » ثم قال: أرض براثا، هذا بيت مريم (ع) هذا الموضع المقدس صلى فيه الأنبياء (ع) »!

وفي مناقب آل أبي طالب: 2 / 100: « قال أمير المؤمنين: فاجلس يا حُبَاب، قال: وهذه دلالةٌ أخرى، ثم قال: فانزل يا حباب من هذه الصومعة وابن هذا الدير مسجداً، فبنى حباب الدير مسجداً، ولحق أمير المؤمنين (ص) إلى الكوفة، فلم يزل بها مقيماً حتى قتل أمير المؤمنين (ص)، فعاد حباب إلى مسجده ببراثا ».

ومن ذلك اليوم والى عصرنا الحاضر، صار مسجد براثا مركزاً علمياً وعبادياً واجتماعياً للشيعة، ومَعْلَماً من معالم بغداد.

١١٧

وقد شهد في العصور المختلفة حملات وحشية من السلطة، ومن الحنابلة المتطرفين الذين أسس حزبهم المتوكل.

وتقدم أن ابن عقدة (رحمه الله) كان يأتي من الكوفة الى بغداد، فيملي أحاديثه على المسلمين في مسجد براثا. وأن النواصب أتباع المتوكل اعتدوا عليه وحبسوه!

وقد شهدت بغداد ومسجد براثا خاصة أنواعاً من اضطهاد السلطة للشيعة.

قال ابن طاووس في الملاحم والفتن / 260: « قال السليلي مصنف الكتاب: فرأيت مسجد براثا وقد هدمه الحنبليون، وحفروا قبوراً فيه، وأخذوا أقواماً قد حفر لهم قبور فغلبوا أهل البيت ودفنوهم فيه، إرادةَ تعطيل المسجد وتصييره مقبرة، وكان فيه نخل فقطع، وأحرق جذوعه وسقوفه! وذلك في سنة اثنتي عشرة وثلاث مائة , فعطل من سنته الحج، وقد كان خرج سليمان بن الحسن يعني القرمطي في أول هذه السنة، فقطع على الحاج وقتلهم وعطل الحاج، ووقع الثلج ببغداد فاحترق نخلهم من البرد فهلك. فأخبرني مولاي ناقد أن أبا عمرو قاضي بغداد قال له: احترق لي بقرية على ثلاث فراسخ ببغداد يقال لها صرصر مائة ألف نخلة. قال السليلي: فأي شأن أحسن، وأي أمر أوضح من هذا ».

أقول: ما تقدم إنما هو نماذج من ظلم المتوكل للشيعة في البلاد، فتصور!

١١٨

الفصل السادس:

هدم المتوكل قبر الإمام الحسين (ع)

عقدة المتوكل من الإمام الحسين (ع) وزواره

1. في مقاتل الطالبيين / 395: « وكان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب، غليظاً على جماعتهم، مهتماً بأمورهم، شديد الغيظ والحقد عليهم، وسوء الظن والتهمة لهم، واتفق له أن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزيره، يسئ الرأي فيهم، فحسَّن له القبيح في معاملتهم، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله. وكان من ذلك أن كَرَبَ قبر الحسين (ع) وعَفَّى آثاره، ووضع على سائر الطرق مسالح له، لا يجدون أحداً زاره إلا أتوه به، فقتله، أوأنهكه عقوبة!

فحدثني أحمد بن الجعد الوشاء وقد شاهد ذلك، قال: كان السبب في كرب قبر الحسين أن بعض المغنيات كانت تبعث بجواريها إليه قبل الخلافة يغنين له إذا شرب، فلما وليها بعث إلى تلك المغنية فعرف أنها غائبة، وكانت قد زارت قبر الحسين (ع) وبلغها خبره، فأسرعت الرجوع، وبعثت إليه بجارية من جواريها كان يألفها فقال لها: أين كنتم؟

قالت: خرجت مولاتي إلى الحج وأخرجتنا معها وكان ذلك في شعبان، فقال: إلى أين حججتم في شعبان؟ قالت: إلى قبر الحسين. فاستطير غضباً وأمر بمولاتها فحبست، واستصفى أملاكها.

١١٩

وبعث برجل من أصحابه يقال له: الديزج وكان يهودياً فأسلم، إلى قبر الحسين وأمره بكرب قبره ومحوه، وإخراب كل ما حوله، فمضى ذلك وخرب ما حوله وهدم البناء وكرب ما حوله، نحومائتي جريب، فلما بلغ إلى قبره لم يتقدم إليه أحد، فأحضر قوماً من اليهود فكربوه! وأجرى الماء حوله، ووكل به مسالح بين كل مسلحتين ميل، لا يزوره زائر إلا أخذوه ووجهوا به إليه.

فحدثني محمد بن الحسين الأشناني، قال: بَعُدَ عهدي بالزيارة في تلك الأيام خوفاً، ثم عملت على المخاطرة بنفسي فيها، وساعدني رجل من العطارين على ذلك، فخرجنا زائرين نكمن النهار ونسير الليل، حتى أتينا نواحي الغاضرية، وخرجنا منها نصف الليل فسرنا بين مسلحتين وقد ناموا، حتى أتينا القبر فخفي علينا، فجعلنا نشمه ونتحرى جهته حتى أتيناه وقد قلع الصندوق الذي كان حواليه وأحرق، وأجري الماء عليه فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق، فزرناه وأكببنا عليه، فشممنا منه رائحة ما شممت مثلها قط شيئاً من الطيب!

فقلت للعطار الذي كان معي: أي رائحة هذه؟ فقال: لا والله ما شممت مثلها كشئ من العطر، فودعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدة مواضع.

فلما قتل المتوكل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين والشيعة، حتى صرنا إلى القبر فأخرجنا تلك العلامات، وأعدناه إلى ما كان عليه ».

أقول: الأشناني المذكور من أعلام العامة، فهو يدل على التأثير الواسع لهدم قبر الحسين (ع) على السنة أيضاً، وقد كان عمر الأشناني يومها خمس عشرة سنة.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378