أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين10%

أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 378

أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين
  • البداية
  • السابق
  • 378 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 165461 / تحميل: 9043
الحجم الحجم الحجم
أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

بل إنّ السبب الأقوى وراء هذه القصة هو موقفهم من الولاية والسعي لطمس آثارها وإطفاء نور الله بأفواههم ويأبى الله إلّا أن يتم نوره.

فقد ورد عن ابن أبي عمير أنّه سأل أبا الحسن عليه‌السلام عن «حي على خير العمل» لم تركت من الأذان؟

فقال: تريد العلة الظاهرة أو الباطنة؟

قلت: أريدهما جميعاً.

فقال: أما العلة الظاهرة فلئلا يدع الناس الجهاد اتكالاً على الصلاة، وأما الباطنة فان «خير العمل» الولاية، فأراد من أمر بترك «حي على خير العمل» عن الأذان أن لا يقع حثّ عليها ودعاء اليها (١) .

هذا؛ مع اتفاق الجميع أنها كانت على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) وأنّ بلالاً نادى بها (٣) .

قال السيد المرتضى: وقد روت العامة أنّ ذلك مما كان يقال في أيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّما أدعي أن ذلك نسخ ورفع، وعلى من ادعى النسخ الدلالة له، وما يجدها (٤) .

وبالرغم من محاولات عمر واتباعه فقد بقي جماعة من الصحابة والتابعين على النداء بها في الأذان والاقامة كعبد الله بن عمر، وقد رواه عنه مالك بن أنس وليث بن سعد ومحمد بن سيرين وعبد الرزاق وابن أبي شيبة بأسانيدهم عن ابن عمر (٥) .

وروى الطبري وغيره بأسانيدهم ذلك عن «سهل بن حنيف» أيضاً.

__________________

(١) البحار ٨١ / ١٤٠ باب ٣٥ ح ٣٤، عن علل الشرائع ٢ / ٥٦، والأحاديث في تفسير «خير العمل» بالولاية وبـ «فاطمة عليها‌السلام » وذريتها وولايتها كثيرة.

(٢) أنظر: سعد السعود: ١٠٠، البحار ٨١ / ١٠٧ ح ٥.

(٣) الانتصار: ٣٩.

(٤) أنظر: السنن الكبرى (لألبيهقي) ٢ / ١٩٧، شرح التجريد (للقوشجي): ٤٨٤.

٦١

وروى التنوخي عن أبي الفرج أنّ الأذان في عصرهم كان ينادى به بـ «حي على خير العمل» (١) .

وروى في البداية والنهاية: أنّ صلاح الدين لما استقرت له دمشق بحذافيرها نهض إلى حلب سرعاً، فنزل على جبل «جوشن»، ثم نودي في أهل حلب بالحضور في ميدان باب العراق، فاجتمعوا، فأشرف عليهم ابن الملك نور الدين، فتودد اليهم وتباكى لديهم وحرضهم على قتال صلاح الدين، وذلك عن إشارة الأمراء المقدمين، فأجابه أهل البلد بوجوب طاعته على كلّ أحد، وشرط عليه الروافض منهم أن يعاد الأذان بـ «حي على خير العمل» وأن يذكر في الأسواق....

فاجيبوا إلى ذلك كلّه فأذّن بالجامع وسائر البلد بـ «حي على خير العمل» (٢) .

وروى الحلبي: أنّ الأذان كان بـ «حي على خير العمل» في زمن آل بويه في أذان الشيعة، فلمّا حكم السلجوقيون ألزموا الشيعة بترك الأذان بـ «حي على خير العمل» وأمروا أن ينادي مؤذنهم في أذان الصبح بعد حي على الفلاح «الصلاة خير من النوم» مرتين... (٣) .

التثويب في الأذان:

اقتدى العامة بعمر فتركوا «حي على خير العمل» ونادوا مكانها بـ «الصلاة خير من النوم».

والتثويب أن يقول في أذان الفجر: «الصلاة خير من النوم» (٤) .

__________________

(١) نشوار المحاضرة ٢ / ١٣٣.

(٢) البداية والنهاية، المجلد ٦ الجزء ١٢ / ٣٠٩ في أحداث سنة (٥٧٠).

(٣) أنظر: البداية والنهاية ٦ / ٧٣ أحداث سنة (٤٤٨).

(٤) سنن الترمذي ١ / ١٢٧ باب ١٤٥ ذيل ح ١٩٨.

٦٢

وقد ورد هذا المعنى في كتب الفقه الشيعي أيضاً، فقد عقد صاحب الوسائل باباً تحت عنوان «باب عدم جواز التثويب في الأذان والاقامة وهو يقول: «الصلاة خير من النوم».

وروى فيه عن معاوية بن وهب قال: سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن التثويب الذي يكون بين الأذان والاقامة؟

فقال: ما نعرفه (١) .

ونقل صاحب «الجواهر» القول بتحريمه عن النهاية والوسيلة والسرائر والبيان والموجز وجامع المقاصد والمسالك ومجمع البرهان... وغيرها.

وحكى الاجماع على ذلك عن السرائر.

والتثويب من «ثاب يثوب» إذا رجع، فهو رجوع إلى الأمر بالمبادرة إلى الصلاة، فانّ المؤذّن إذا قال «حي على الصلاة» فقد دعاهم اليها، فاذا قال بعدها: «الصلاة خير من النوم» فقد رجع إلى كلام معناه المبادرة اليها (٢) ومن ثم سميت الاقامة تثويباً؛ لأنها رجوع إلى فصول الأذان (٣) .

وللتثويب معان أخرى ذكرها الترمذي في سننه، ولكن التثويب في الأذان هو ما ذكرناه (٤) ، واختاره الأكثر منهم الترمذي (٥) .

وقد وقع الخلاف في التثويب وحكمه وقال في المنتهى: التثويب في أذان الغداة

__________________

(١) وسائل الشيعة ٥ / ٤٢٥ باب ٢٢ ح ٦٩٩٤، الفقيه ١ / ١٨٨ ح ٨٩٥، الكافي ١ / ٣٠٣ ح ٦، مستطرفات السرائر: ٩٣ ح ٢.

(٢) فتح الباري ٢ / ٨٥، الحدائق الناضرة ٧ / ٤١٩.

(٣) صحيح مسلم ١ / ٢٩١ (لم أجده).

(٤) شرح البخاري (للكرماني): ٧١٥.

(٥) سنن الترمذي ١ / ١٢٧ باب ١٤٥.

٦٣

وغيرها غير مشرشوع، وهو قول «الصلاة خير من النوم»، ذهب اليه أكثر علمائنا وهو قول الشافعي.. (١) .

ومن العجب أنّ الخليفة نفسه سماه بدعة.

فقد روى صاحب كنز العمال عن ابن جريج قال: أخبرني عمر بن حفص أنّ سعداً [القرظ] أول من قال: «الصلاة خير من النوم» في خلافة عمر فقال عمر: بدعة (٢) .

وكان ابنه لا يصلي في مسجد يثوّب فيه.

فقد روى عن مجاهد أنّه قال: دخلت مع عبد الله بن عمر مسجداً، وقد أذّن فيه، ونحن نريد أن نصلي فيه، فثوّب المؤذن، فخرج عبد الله بن عمر من المسجد وقال: اخرج بنا من عند هذا المبتدع، ولم يصل فيه (٣) .

ولو لاحظنا عشرات الأخبار الواردة في تشريع الأذان نجدها خالية من التثويب من ما رواه سعد القرظ عن أذان بلال (٤) .

وروى مالك بن أنس - إمام الملكية - في الموطأ خبراً في بدو ظهور هذه البدعة فقال: إنّه بلغه أنّ المؤذن جاء إلى عمر بن الخطاب يؤذنه لصلاة الصبح فوجده نائماً فقال: الصلاة خير النوم، فأمره عمر أن يجعلها في نداء الصبح (٥) .

وقد حاول بعض المرتزقة أن يبرروا بدعة عمر، فوضعوا حديثاً عن بلال أنّه كان ينادي بالصبح فيقول «حي على خير العمل»، فأمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يجعل مكانها

__________________

(١) الحدائق الناضرة ٧ / ٤١٨.

(٢) كنز العمال ٨ / ٣٥٧ ح ٢٣٢٥٢.

(٣) سنن الترمذي ١ / ١٢٨ باب ١٤٥.

(٤) أنظر: سنن الدار قطني ١ / ٢٣٦ باب ذكر سعد القرظ.

(٥) الموطأ (لمالك): ٦٩ ح ٨.

٦٤

«الصلاة خير من النوم» وترك «حي على خير العمل» (١) .

والحال؛ أنّ عشرات الأخبار الواردة عن طرق العامة تؤكد أنّ «الصلاة خير من النوم» لم تكن على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال البيهقي: «قال الشيخ: وهذه اللفظة لم تثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما علّم بلالاً وأبا محذورة، ونحن نكره الزيادة وبالله التوفيق» (٢) .

ولو تتبعنا كتب الحديث والفقه والتاريخ عند أهل السنة لوجدنا تناقضاً مذهلاً واختلافاً مدهشاً في تحديد العبارة بعد قول «حي على الفلاح» في الأذان، بعد الاقرار من الجميع أنها كانت على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله «حي على خير العمل» وكذا في عهد أبي بكر وصدراً من أيام عمر، وإنّما حذفها الأخير خوفاً من توجه العامة إلى الصلاة وتركهم العبادة، واستبدلها بـ «الصلاة خير من النوم» لئلا يكون مكانها فارغاً مثيراً، وحينئذٍ انبرى الانتهازيون والنفعيون من المرتزقة فوضعوا الأحاديث المتناقضة لعلهم ينسبوا بدعة عمر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فتخرج عن دائرة الابتداع إلى دائرة المشروعية، كما هو صنيعهم مع بدعه الأخرى.

«حي على خير العمل» تهزم الطواغيت:

ومن القصص النادرة المرتبطة بـ «حي على خير العمل» بنحو ما: ما رواه أبو الفرج في «مقاتل الطالبين» من أنّ «حي على خير العمل» كانت شعار الثورة المتفق عليه بين أنصار الحسين بن علي صاحب فخ.

فلما أراد الخروج اتجه إلى مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما أذن المؤذن لصلاة الصبح

__________________

(١) سنن البيهقي ٢ / ١٩٨.

(٢) سنن البيهقي ٢ / ١٩٨، وأنظر سنن الترمذي ١ / ١٢٧، كنز العمال ٨ / ٣٥٥ - ٣٥٧، موطأ مالك: ٦٩، سنن الدار قطني ١ / ٢٣٦.

٦٥

دخلوا المسجد ثم نادوا «أحد.. أحد» وصعد عبد الله بن الحسن الأفطس المنارة التي عند رأس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عند موضع الجنائز فقال للمؤذن: أذن بـ «حي على خير العمل» فلما نظر إلى اسيف في يده أذن بها وسمعه «العمري» - والي المدينة - فأحس بالشر ودهش وصاح: اغلقوا البغلة - أي الباب - وأطعموني حبتي ماء.

قال علي بن ابراهيم في حديثه: فولده إلى الآن بالمدينة يعرفون ببني حبتي ماء (١) .

الشهادة الثالثة:

الشهادة الثالثة في الأذان هي أن يقال «أشهد أنّ علياً ولي الله» أي الشهادة بالولاية لأمير المؤمنين عليه‌السلام بعد الشهادة بالتوحيد والشهادة بالنبوة للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومن الشائع اليوم أن ترفع هذه ال شهادة في الأذان والاقامة في جميع المناطق التي يقطنها الشيعة.

ويمكن استشفاف التاريخ لمعرفة أنّ هذه الشهادة رفعت في الأذان منذ عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد أقرها النبي وأمضاها.

روى الشيخ المراغي المصري في كتاب «السلافة في أمر الخلافة»:

إنّ سلمان الفارسي ذكر في الأذان والاقامة الشهادة بالولاية لعلي بعد الشهادة بالرسالة في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فدخل رجل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يا رسول الله سمعت أمراً لم أسمع قبل ذلك؟!

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما هو؟

فقال: سلمان قد يشهد في أذانه بعد الشهادة بالرسالة الشهادة بالولاية لعلي؟

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : سمعتم خيراً.

__________________

(١) مقاتل الطالبين: ٣٧٥.

٦٦

وروى هو أيضاً في نفس الكتاب المذكور: إنّ رجلاً دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: يا رسول الله؛ إنّ أبا ذر يذكر في الأذان بعد الشهادة بالرسالة الشهادة بالولاية لعلي ويقول: «أشهد أنّ علياً ولي الله».

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : كذلك، أو نسيتم قولي في غدير خم «من كنت مولاه فعلي مولاه» فمن ينكث فانما ينكث على نفسه (١) .

ومن هنا نعلم أنّ الشهادة الثالثة لها جذور عريقة وممتدة إلى عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويستفاد من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إمضاؤها، فهي اذن من سننه صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنّ السنة هي قول المعصوم أو فعله أو إمضاؤه.

أضف إلى ذلك أنّ سلمان وأبا ذر ليسا ممن يقدما على عمل دون استئذان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله - سيما إذا كان العمل عبادياً - وهما بالمنزلة التي لا تخفى على أحد حيث قال النبي في سلمان «سلمان منا أهل البيت» (٢) .

وقال في أبي ذر: «ما أظلت الخضراء ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر» (٣) .

أما في العهد الأموي والعباسي فان الشيعة كانوا في شدّة وتحت ضغوط لا ترحم، فلم يتسنى لهم أن يعلنوا شعارهم - الشهادة الثالثة - بأي حال من الأحوال، ولو كان فيهم من يتفوه بها فانما يقدم على ذلك ضمن ظروف التقية المشدّدة، في ثنايا الخفاء الذي لا يتعدى جدران التستر والحيطة، بل كان الأمر في ذينك العهدين على العكس تماماً حيث كان سبّ أمير المؤمنين عليه‌السلام فرماناً ظالماً أصدره معاوية وعممه في جميع الاصقاع؛ ليكون سنة أموية في الأذان والقنوت

__________________

(١) جواهر الولاية: ٣٧٩، الشهادة الثالثة: ٣٢٣.

(٢) فيض الغدير ٤ / ١٠٦.

(٣) سنن الترمذي ٥ / ٣٣٤ ح ٣٨٩٠.

٦٧

وخطبة الجمعة، وكان المرتزقة يتزلفون بذلك للنظام الحاكم إلى عهد عمر بن عبد العزيز حيث رفع السبّ رسمياً، ولقي في ذلك تصلّباً وعنتاً من أشياع الأمويين، فاضطر إلى استخدام القوة أحياناً كما حدث في إصفهان يومذاك.

فلما رأى الشيعة عناد خصومهم وتعنتهم رفعوا الشهادة الثالثة كشعار لهم في الأذان والاقامة، فصدحت بها مآذنهم ومنائرهم في كلّ يوم خمس مرات، فامتزجت هذه السنة الحسنة الموروثة من عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أمثال سلمان وأبي ذر بالثقافة الشيعية، وصارت جزءً من شعائرهم التي توارثتها الأيدي كابراً عن كابراً ضمن السيرة العلمائية المقدسة الممتدة.

وبالرغم من معارضة جملة من المتحذلقين فانّ الشيعة استمروا على ذلك ولم يروا فيها أي إشكال شرعي، ولم يجدوا أي ردع من الشارع يمنعنهم عنها، بل الأمر بالعكس تماماً؛ لأنّ الشهادة الثالثة «أشهد أنّ علياً ولي الله» إنّما هي مفاد ما قاله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حجة الوداع في حديث «غدير خم» المتواتر عند الفريقين «من كنت مولاه فهذا علي مولاه».

إضافة إلى الحثّ والتأكيد الصريح الوارد عن الأئمة المعصومين حيث أمروا بالحاق الشهادة بالتوحيد والشهادة بالنبوة بالشهدة بولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام :

١ - فقد روى الطبرسي في الاحتجاج في حديث قاسم بن معاوية عن الصادق عليه‌السلام - في حديث -: فاذا قال أحدكم: لا إله إلّا الله محمد رسول الله، فليقل: «علي أمير المؤمنين».

قال المجلسي: فيدلّ على استحباب ذلك عموماً والأذان من تلك المواضع (١) .

٢ - وعن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث:.. من أراد أن يتمسك بالعروة

__________________

(١) البحار ٨١ / ١١٢، الاحتجاج (للطبرسي) ١ / ١٥٨.

٦٨

الوثقى فليقل: «لا اله الا الله محمد رسول الله علي ولي الله» (١) .

أضف إلى هاتين الروايتين الروايات الكثيرة التي تؤكد على عدم إمكان التفكيف بين الشهادة بالولاية والشهادة بالرسالة وأنّهما متلازمان تمام التلازم، نذكر طائفة منها على سبيل المثال:

٣ - روى ال كليني في الكافي مسنداً عن سنان بن طريف عن أبي عبد الله يقول:

قال: إنا أول أهل بيت نوّه الله بأسمائنا، إنّه لما خلق السماوات والأرض أمر منادياً فنادى: «أشهد أن لا إله إلّا الله» - ثلاثاً - «أشهد أنّ محمداً رسول الله» - ثلاثاً - «أشهد أنّ علياً أمير المؤمنين حقاً» - ثلاثاً - (٢) .

٤ - عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لما خلق الله آدم ونفخ فيه من روحه عطس آدم وقال: الحمد لله، فأوحى الله - تعالى - اليه؛ حمدتني عبدي - وعزتي وجلالي - لو لا عبدان أريد أن أخلقهما في دار الدنيا ما خلقتك.

قال: إلهي فيكونان مني؟

قال: نعم يا آدم؛ ارفع رأسك وانظر. فرفع رأسه فاذا مكتوب على العرش: «لا إله إلّا الله، محمد رسول الله نبي الرحمة، وعلي ولي الله مقيم الحجة، من عرف حقّ علي عليه‌السلام زكى وطاب وطهر، ومن أنكر حقّه كفر وخاب، أقسمت بعزتي أن أدخل الجنة من أطاعه وإن عصاني وأقسم بعزتي أن أدخل النار من عصاه وإن أطاعني» (٢) .

٥ - سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن لواء الحمد فقال:

... مكتوب فيه ثلاثة أسطر الأول: بسم الله الرحمن الرحيم.

__________________

(١) إحقاق الحق ٤ / ١٢٩.

(٢) الكافي ١ / ٤٤١ باب مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ح ٨.

(٣) مائة منقبة: ٨٣ المنقبة الخمسون، كشف اليقين: ٧ الفصل الاول، الفضائل: ١٥٢، إرشاد القلوب ٢ / ٢١٠، بحار الانوار ٢٧ / ١٠ باب ١٠ ح ٢٢.

٦٩

الثاني: الحمد لله ربّ العالمين.

الثالث: لا الله إلّا الله محمد رسول الله علي ولي الله... (١) .

٦ - عن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث طويل:... لما أسري بي إلى السماء قال لي جبرئيل: قد أمرت الجنة والنار أن تعرض عليك، فرأيت الجنة وما فيها من النعيم، ورأيت النار وما فيها من العذاب....

فقال لي جبرئيل: اقرأ يا محمد ما على الأبواب، فقرأت ذلك... فعلى أول باب منها مكتوب «لا إله إلّا الله محمد رسول الله علي ولي الله»... (٢) .

٧ - عن زيد الشهيد عن الامام علي بن الحسين: أنّ نقش خاتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا إله إلّا الله محمد رسول الله علي ولي الله» (٣) .

وروى الحافظ أبو محمد ابن أبي الفوارس في «كتاب الأربعين» مثله عن طرق العامة (٤) .

وقد وردت في الشهادة الثالثة في خصوص الأذان والاقامة أحاديث ذكرنا حديثين منها في صدر البحث ونذكر الآن حديثين آخرين، ومما يؤسف له أنّ نص هذين الحديثين لم تصل الينا بأسانيدها وإنّما وصلت إلى العلماء المتقدّمين كالصدوق والطوسي، قال الطوسي في المبسوط:

«فأمّا قول «أشهد أنّ علياً أمير المؤمنين وآل محمد خير البرية» على ما ورد في شواذ الأخبار فليس بمعمول عليه في الأذان. ولو فعله الانسان لم يأثم به» (٥) .

__________________

(١) إحقاق الحق ٧ / ١٣٣، جامع الأخبار: ١٢٦ الفصل ٨٤.

(٢) الفضائل: ١٥٢، بحار الانوار ٨ / ١٤٤ باب ٢٣ ح ٦٧.

(٣) أنظر: الأمالي (للطوسي): ٧٥ المجلس ٤١، البحار ١٦ / ٩١ باب ٦ ح ٢٦، إثبات الهداة ١ / ٢٩٩.

(٤) إحقاق الحق ٤ / ١٤٣.

(٥) البحار ٨١ / ١١١ باب ٣٥.

٧٠

والحديث الشاذ يطلق على الحديث الصحيح الذي يرويه الثقاة بطريق واحد، ولكنه يبتلى بروايات معارضة أخرى (١) ، أو أنّه - كمكا قال المجلسي - كالخبر الصحيح المخالف للمشهور (٢) .

وليت الصدوق والطوسي رضوان الله عليهما رويا الحديث بسنده تاماً كاملاً لنأخذه ونحدد تكليفنا على أساسه مع ملاحظة الأخبار المعارضة، فقد يفتح الله علينا اليوم ما كان مبهماً بالأمس.

الفقهاء:

ذهب مشهور الفقهاء المعاصرين إلى أنّ الشهادة الثالثة ليست جزءاً من الأذان والاقامة، ولا إشكال بالاتيان بها بقصد التبرك والتيمن، وجزم أخرون بأنها جزءاً منها، نذكر بعضهم على سبيل المثال:

١ - الشيخ عبد النبي العراقي رحمه‌الله : حيث كتب تلميذه الفاضل الشيخ محمد حسين آل طاهر رسالة قرر فيها بحثه الخارج في الفقه في مسألة الشهادة الثالثة في الأذان والاقامة، وقد سماها «رسالة الهداية في كون الشهادة بالولاية في الأذان والاقامة جزءاً كسائر الأجزاء» وقد استدل فيها على ما ذهب اليه بعشرة أدلة وقال:

«فالدليل على مشروعية الشهادة بالولاية على نحو الجزئية وزان سائر الأجزاء...».

وقال بعد إتمام استدلاله على هذه المسألة:

«قد انقدح عما ذكرنا من الأدلة استحباب الشهادة بالولاية لعلي باحدى الصيغتين (٣) في الأذان والاقامة، فان مقتضى القاعدة الأولية وجوب الشهادة فيهما

__________________

(١) مقياس الهداية: ٤٥.

(٢) شرح الفقيه ١ / ١٨٢.

(٣) الصيغتان هما: «أشهد أنّ علياً ولي الله» و «أشهد أنّ علياً أمير المؤمنين».

٧١

كما فصلنا، لكن دعوى الشهرة على الخلاف يمنعنا عن القول بالوجوب، فلابد أن نقول بها وأنّها مشروعة فيهما بنحو الجزئية الندبية...» (١) .

٢ - الميرزا إبراهيم الاصطهباناتي النجفي رحمه‌الله : نقل عنه السيد المقرم في رسالته: انّه يعتقد الجزئية واقعاً، ولكن الظروف لم تساعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على إعلام الأمة بها (٢) .

وثمة طائفة أخرى من الفقهاء لم يجزموا كالطائفة الأولى وإن كانوا قد استقربوا أن تكون جزءاً منهما مثل:

١ - العلامة المجلسي (ت ١١١٠) قال رحمه‌الله :

لا يبعد كون الشهدة بالولاية من الأجزاء المستحبة للاذان لشهادة الشيخ والعلامة والشهيد وغيرهم بورود الأخبار بها (٣) .

٢ - المرحوم صاحب «الحدائق» الشيخ يوسف البحراني: حيث نقل عبارة المجلسي وقال: - «ونعم ما قال» (٤) .

٣ - الشيخ محمد حسن النجفي صاحب الجواهر رحمه‌الله : قال في جواهره:

«بل لو لا تسالم الأصحاب لأمكن دعوى الجزئية بناءً على صلاحية العموم لمشروعية الخصوصية، والأمر سهل» (٥) .

وعلّق عليه السيد المقرم فقال: «فصاحب الجواهر رحمه‌الله يقوى في نفسه دعوى جزئية الشهادة بالولاية في الأذان غير أنّ إعراض العملماء عن الجزئية أوقفه عن الفتوى بها، وهذا المعنى فوق القول باستحباب الاتيان بالشهادة» (٦) .

__________________

(١) الشهادة الثالثة: ١٠٥، عن الهداية: ٤٩.

(٢) الشهادة الثالثة: ١٠٤، عن سر الايمان: ٢٦.

(٣) البحار ٨١ / ١١١.

(٤) أنظر: الحدائق ٧ / ٤٠٣.

(٥) الجواهر ٩ / ٨٧.

(٦) عن رسالة سر الايمان: ٤٤.

٧٢

٤ - الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء رحمه‌الله : قال في حاشيته على العروة الوثقى:

«يمكن استفادة كون الشهادة بالولاية والصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أجزاء مستحبة في الأذان والاقامة من العموميات» (١) .

٥ - الشيخ أحمد النراقي رحمه‌الله : قال في مستند الشيعة:

«.. وعلى هذا فلا يبعد القول باستحبابها فيه - أي الأذان -» (٢) .

٦ - السيد محسن الحكيم رحمه‌الله : حيث لم يستبعد وجوبها مع عدم الاعتقاد بعدم جزئيتها قال رحمه‌الله في مستمسك العروة الوثقى:

«كما أنّه لا بأس بالاتيان به بقصد الاستحباب المطلق لما في خبر الاحتجاج... بل ذلك في هذه الأعصار معدود من شعائر الايمان ورمز إلى التشيع فيكون من هذه الجهة راجحاً شرعاً، بل قد يكون واجباً، لكن لا بعنوان الجزئية من الأذان» (٣) .

وذهبت طائفة من الفقهاء إلى استحبابها لا على نحو الجزئية منهم:

١ - العلامة محمد باقر المجلسي (ت ١١١٠) (٤) .

٢ - السيد نعمة الله الجزائري (ت ١١١٢) (٥) .

٣ - السيد علي الطباطبائي صاحب الرياض (ت ١٢٣٠) (٦) .

٤ - الآخوند الملا أحمد فاضل النراقي (ت ١٢٤٤) (٧) .

٥ - حجة الاسلام الشفتي (ت ١٢٦٠).

__________________

(١) عن سر الايمان: ٥٤.

(٢) مستند الشيعة كتاب الصلاة.

(٣) عن المستمسك ٥ / ٥٤٥.

(٤) البحار ٨١ / ١١٨.

(٥) الأنوار النعمانيّة ١ / ١٦٩.

(٦) رياض المسالك كتاب الصلاة.

(٧) مستند الشيعة كتاب الصلاة.

٧٣

٦ - الشيخ مرتضى الأنصاري (ت ١٢٨١).

٧ - الميرزا محمد حسن الشيرازي (ت ١٣١٢).

٨ - السيد إسماعيل الصدر (ت ١٣٣٨).

٩ - السيد محمد كاظم اليزدي صاحب العروة (ت ١٣٣٧).

١٠ - الميرزا محمد تقي الشيرازي (ت ١٣٣٩).

١١ - الملا علي الزنجاني (ت ١٢٩٠) في شرحه على القواعد.

١٢ - الشيخ عبد الله المازندراني (ت ١٣٠٩).

١٣ - الشيخ أحمد كاشف الغطاء (ت ١٣٤٤).

١٤ - السيد حسن الصدر (ت ١٣٥٤) في المسائل المهمة.

١٥ - السيد عبد الحسين شرف الدين (ت ١٣٧٧) في النص والاجتهاد.

١٦ - الشيخ محمد حسن المظفر (ت ١٣٠١) في وجيزة المسائل.

١٧ - آية الله البروجردي (ت ١٣٨١) في المسائل الفقهية.

١٨ - آية الله الخوئي في توضيح المسائل.

وذهبت طائفة منهم إلى أنّه لا بأس بها بقصد القربة المطلقة وإن لم يصرحوا بالاستحباب ومنهم:

١ - الميرزا حسين النائيني في منهاج الصالحين.

٢ - السيد أبو الحسن الاصفهاني في الحاشية على ذخيرة العباد.

٣ - السيد محمد تقي الخونساري في الحاشية على ذخيرة العباد.

٤ - آية الله القمي في الحاشية على ذخيرة العباد.

٥ - آية الله الگلپايگاني في توضيح المسائل.

وعبّر بعضهم باتيانها بقصد امتثال العمومات منهم:

المحقّق الهمداني، والمرحوم آية الله الشاهرودي.

٧٤

ومنهم من عبر بالاتيان بها باعتبار رجحانها في نفسها مثل:

الآخوند الخراساني، والشيخ عبد الكريم الحائري.

ومنهم من ذهب إلى أنّها مكملة للشهادتين كالسيد بحر العلوم في المنظومة، وآية الله الميلاني في الحاشية على العروة.

وقال السيد أبو الحسن القزويني: الشهادة الثالثة ليست جزءاً من الأذان، وتذكر فيه بقصد إظهار الولاية والايمان.

وقال العلامة الشيخ محمد صالح الحائري المازندراني: تذكر بقصد الاجابة للأمر بالولاية وقبول الشهادتين وصحة الأعمال (١) .

وقال الميرزا باقر الزنجاني: على الشباب اتباع سلفهم الصالح والالتزام بهذا الشعار وعدم تركه؛ لأنّ الفقهاء أفتوا باستحبابه، وليس لأحد أن يشكل على ذلك (٢) .

وذكر آية الله المرعشي النجفي (ت ١٤١١) في حاشيته على العروة أنّها من أوضح شعائر الشيعة.

يبقى شيء وهو:

ما هي العبارة التي تنبغي أن تقال في الشهادة الثالثة؟

فقد ورد في الحديث تعبيران:

أحدهما: أشهد أنّ علياً ولي الله.

والآخر: أشهد أنّ علياً أمير المؤمنين.

__________________

(بجـ) هداية الأنام: ٩١.

(١) ذخيرة العباد: ٧٧.

(٢) شرح رسالة الحقوق ٢ / ١٢٦.

٧٥

وكلّ واحد منهما مجزىء للعمل بالعمومات، ويمثل الشعار الايماني المعبر عن الاعتقاد الولائي، غير أنّ بعض الفقهاء ذهبوا إلى التعبير بـ «أشعد أنّ علياً أمير المؤمنين ولي الله» جمعاً بين الأحاديث، وجزماً بحصول الامتثال بكلا الأميرن، منهم: المرحوم حجة الاسلام الشفتي في تحفة الأبرار، والمرحوم الملا محمد بار فروشي في شعار الاسلام.

* * *

٧٦

انكشاف قبر

الامام امير المؤمنين

توفي الامام أمير المؤمنين في السنة الأربعين للهجرة النبوية، فانطلق روحه الفاتح إلى عالم الملكوت، وتحرر من هذه الدنيا التي كانت تضيق به، فنقل الامامان السبطان الجسد الطاهر الزكي إلى ربوة بظهر الكوفة يقال لها «النجف» ودفنوه هناك سراً.

لقد شيدت أركان الاسلام بساعد أمير المؤمنين حيث قصم بسيفه ظهر الكفر، وجدع أنف الشرك وعبد ة الأصنام، وضحى بكلّ ما أتاه الله لتنتشر تعاليم الاسلام في الجزيرة العربية، بل في العالم أجمع، بيد أنّ حثالة المجتمع ممن اشتدّ عوده وقوي وجوده زمن الجاهلية الجهلاء بقيت تكن الحقد، وتملأ صدورها بالضغينة، وكيف لا؟! وقد قتل بالأمس صناديدهم وطردهم اليوم عن مراكز القوة والثراء، وكان يخشى من هؤلاء أن تمتد أحقادهم على الامام الطاهر الطهر إلى ما بعد الوفاة فيتجاسرون على مرقده الزكي المقدس؛ ولهذا كان الدفن سرياً للغاية.

وبقي المرقد المقدس في الخفاء زهاء (١٥٠ عاماً) لا يعرفه إلّا الأئمة الأبرار وخواص شيعتهم، فيتحينون الفرص للتزود من تلك التربية المعطاء، فيزورونها تحت جنح التقية بعيداً عن عيون الظالمين، بل والناس أجمعين.

٧٧

وهكذا تصرمت السنين ومرت الأيام حتى انقضى عصر الأمويين والمروانيين الذين امتطوا صهوة الملك حيناً من الدهر وغرتهم الأماني، فجالوا في زخارف الزمن الغدّار، فلما طفح بهم الكيل وانقضت مدتهم اكتسح ميادينهم بنو العباس، فخلوا الصهوة والأمنيات، وسلّموها لخلفهم بالحسرات، فكان الخلف شراً من السلف، ففعلوا الأفاعيل، وارتكبوا الجرائم والجنايات، وعجّ بهم الكون لما أنزلوه من الظلم الفادح ببني عمهم «بني هاشم» فقد لا يبالغ إن قيل أنّهم بيضوا وجوه بني أمية مع ملاحظة الظروف المحيطة بالقبيلين.

فقد طارد العباسيون ذرية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولاحقوهم تحت كلّ حجر ومدر، ولم يسلم من جورهم «سيد» من السادات وشريف من الشرفاء، فوضعوهم في الاصطوانات، وبنو عليهم قصورهم، وكان من أشدهم «هارون الرشيد» الذي تسلّط بالجور والطغيان حتى امتدت يده الأثيمة إلى الامام البار الأمين موسى بن جعفر عليه‌السلام ، فعذبه في سجونه، ثم سقاه السم في نهاية المطاف، فاستشهد الامام المعذّب في قعر السجون، وانتقل إلى جوار أجداده الطاهرين.

ومع كلّ جوره وحنقه على أهل البيت عليهم‌السلام وعداوته لهم إلّا أنّه صار سبباً لانكشاف قبر أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وقد يكون العدو سبب خير أحياناً:

روى المجلسي عن الخرائج قال: ومن معجزاته صلوات الله عليه أنّه قال: رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يمسح الغبار عن وجهي وهو يقول: يا علي.. لا عليك.. لا عليك.. قد قضيت ما عليك، فما مكث إلّا ثلاثاً حتى ضرب وقال الحسن والحسين عليهما‌السلام : إذا متّ فاحملاني إلى «الغري» من نجف الكوفة، واحملا آخر سريري فالملائكة يحملون أوله، وأمرهما أن يدفناه هناك ويعفيا قبره، لما يعلمه من دولة بني أمية بعده.

٧٨

وقال: ستريان صخرة بيضاء تلمحع نوراً، فاحتفرا، فوجدا ساجة مكتوباً عليها: مما ادخرها نوح لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فدفناه فيه وعفيا أثره.

ولم يزل قبره مخفياً حتى خرج هارون الرشيد يوماً يصيد، وأرسل الصقور والكلاب على الظباء بجانب الغريين، فجادلتها ساعة، ثم لجأت الظباء إلى الأكمة، فرجع الكلاب والصقور عنها، فسقطت في ناحية ثم هبطت الظباء من الأكمة، فهبطت الصقور والكلاب ترجع اليها، فتراجعت الظباء إلى الأكمة، فانصرفت عنها الصقور والكلاب، ففعلن ذلك ثلاثاً.

فتعجب هارون وسأل شيخاً من بني أسد: ما هذه الأكمة؟

فقال: لي الأمان؟

قال: نعم.

قال: فيها قبر الامام علي بن أبي طالب عليه‌السلام فتوضأ هارون وصلّى ودعا (١) .

* * *

__________________

(١) البحار ٤٢ / ٢٢٤ باب ١٢٧ ح ٣٣.

٧٩

الفصل الثامن

على ضفاف الوفاء

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

أمّا ما هو المقصود من «أزواج» هنا ، فللمفسّرين أقوال كثيرة.

ما هو مسلّم به أنّ «أزواج» جمع «زوج» عادة ، تطلق على الذكر والأنثى من أي نوع ، سواء كان ذلك في عالم الحيوان أو في غيره ، ثمّ شمل المعنى كلّ إثنين يقترنان مع بعضهما البعض أو حتّى إذا تضادّا ، حتّى الغرفتين المتشابهتين في البيت يقال لهما زوج ، ودفّتي الباب وهكذا ، فالمتصوّر أنّ لكلّ مخلوق زوج.

على كلّ حال فليس من المستبعد أن يكون المعنى المقصود هنا هو المعنى الخاصّ ، أي جنس المذكر والمؤنث ، والقرآن الكريم يخبر من خلال هذه الآية عن وجود ظاهرة الزوجية في جميع عوالم النبات والإنسان والموجودات الاخرى التي لم يطّلع عليها البشر.

هذه الموجودات يمكن أن تكون النباتات التي لم تحدّد سعة دائرة الزوجية فيها حتّى الآن. أو إشارة إلى الحيوانات التي تعيش في أعماق البحار ، وهذه الحقيقة لم تعرف سابقا ، وما عرف منها في العصر الحاضر إلّا جانب يسير.

أو أنّها إشارة إلى موجودات اخرى تقطن كواكب اخرى في هذا الكون المترامي. أو موجودات حيّة لا ترى بالعين المجرّدة ، وإن كان العلماء في وقتنا الحاضر يشيرون إلى أنّ ليس في تلك الموجودات الحيّة ذكر وأنثى ، ولكن عالم هذه الموجودات الحيّة غامض ومعقّد إلى درجة أنّ العلم البشري حتّى الآن لم يلج كلّ غوامضها ومكنوناتها.

وحتّى وجود الزوجية في عالم النبات ـ كما قلنا ـ لم يكن معلوما منها في عصر نزول القرآن سوى بعض الحالات المحدودة كما في النخل وأمثاله ، وقد كشف القرآن الكريم الستار عن ذلك كلّه ، وقد ثبت أخيرا من البحوث العلمية أنّ الزوجية قضيّة عامّة وشاملة في عالم النبات.

كذلك احتمل أيضا أن تكون قضيّة الزوجية هنا إشارة إلى وجود البروتونات الموجبة والالكترونات السالبة في الذرّة التي تعتبر الأساس في تشكيل كلّ

١٨١

الموجودات في عالم المادّة ولم يكن الإنسان مطّلعا على هذه الحقيقة والزوجية قبل تفجير الذرّة ، ولكن بعد ذلك ثبت علميا وجود الأزواج السالبة والموجبة في نواة الذرّة والالكترونات التي تدور حولها.

البعض اعتبر «الزوجية» هنا إشارة إلى تركيب الأشياء من «مادّة» و «صورة» أو «جوهر» و «عرض» ، والبعض الآخر قالوا : إنّها كناية عن «الأصناف والأنواع المختلفة» للنباتات والبشر والحيوانات وسائر موجودات العالم.

ولكن الواضح أنّه حينما نستطيع حمل هذه الألفاظ على المعنى الحقيقي (جنس المذكّر والمؤنّث) ولا نجد قرينة على خلاف ذلك ، فلا داعي لأن نبحث بعد ذلك عن المعاني الكناية ، وكما لا حظنا فإنّ هناك عدّة تفاسير جميلة للزوجية بالمعنى الحقيقي لها.

وعلى كلّ حال ، فإنّ هذه الآية واحدة من الآيات التي توضّح محدودية علم الإنسان ، وتدلّل على أنّ هناك الكثير من الحقائق الخافية علينا وعن معلوماتنا حتّى الآن.

* * *

١٨٢

الآيات

( وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠) )

التّفسير

هذه الآيات تتحدّث في قسم آخر من آثار عظمة الله في عالم الوجود ، وحلقة اخرى من حلقات التوحيد التي مرّ منها في الآيات السابقة ما يتعلّق بالمعاد وإحياء الأرض الميتة ، ونمو النباتات والأشجار.

تقول الآية الكريمة الاولى( وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ ) .

«نسلخ» من مادّة (سلخ) وتعني في الأصل نزع جلد الحيوان ، والتعبير في الآية تعبير لطيف ، فكأنّ نور النهار لباس أبيض ألبسه جسد الليل ، ينزع عنه إذا حلّ الغروب ليبدو لونه الذاتي ، والتأمّل في هذا التعبير يوضّح هذه الحقيقة ، وهي أنّ الظلام هو الطبيعة الأصل للكرة الأرضية ، وأنّ النور والإضاءة صفة عارضة عليها

١٨٣

تأتيها من مصدر آخر ، فهو كاللباس الذي يرتدى ، وحينما يخلع ذلك الثوب ، يظهر اللون الطبيعي للبدن(١) .

هنا يشير القرآن الكريم إلى ظلمة الليل ، وكأنّه يريد ـ بعد أن تعرّض إلى كيفية إحياء الأرض الميتة كآية من آيات الله في الآيات السابقة ـ أن يعرض نموذجا عن الموت بعد الحياة من خلال مسألة تبديل النور بظلمة الليل.

على كلّ حال ، فعند ما يستغرق الإنسان في ظلمة الليل ، ويتذكّر النور وبركاته ونشاطه ومنبعه يتعرّف ـ بتأمّل يسير ـ على خالق النور والظلام.

الآية التي بعدها تتعرّض إلى النور والإضاءة وتذكر الشمس فتقول :( وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ) (٢) .

هذه الآية تبيّن بوضوح حركة الشمس بشكل مستمر ، أمّا ما هو المقصود من تلك الحركة؟ فللمفسّرين أقوال متعدّدة :

قال بعضهم : إنّ ذلك إشارة إلى حركة الشمس الظاهرية حول الأرض ، تلك الحركة التي ستستمر إلى آخر عمر العالم الذي هو نهاية عمر الشمس ذاتها.

وقال آخرون : إنّه إشارة إلى ميل الشمس في الصيف والشتاء نحو الشمال والجنوب على التوالي ، لأنّنا نعلم بأنّ الشمس تميل عن خطّ اعتدالها في بدء الربيع بطرف الشمال ، لتدخل في مدار (٢٣) درجة شمالا ، وتعود مع بدء الصيف قليلا قليلا حتّى تنتهي إلى خطّ اعتدالها عند بداية الخريف وتستمر على خطّ سيرها ذلك باتّجاه الجنوب حتّى بدء الشتاء ، ومن بدء الشتاء تتحرّك باتّجاه خطّ

__________________

(١) الراغب في «المفردات» يقول : السلخ نزع جلد الحيوان ، يقال سلخته فانسلخ ، وعنه استعير سلخت درعه نزعتها ، وسلخ الشهر وانسلخ ، ولكن بعض المفسّرين يقولون : إنّ ذلك في حالة تعدّي «سلخ» بحرف الجرّ «عن» وإذا تعدّى بالحرف «من» يكون بمعنى الإخراج ، ولكن ليس من دليل واضح في كتب اللغة على هذا التفاوت ـ على ما نعلم ـ وإن كان «لسان العرب» يقول : «انسلخ النهار من الليل خرج منه خروجا» والظاهر أنّ هذا مأخوذ من المعنى الأوّل.

(٢) هذه الجملة لها إعرابان ، فإمّا أن تكون معطوفة على «الليل» والتقدير «وآية لهم الشمس» ، وإمّا أن تكون مبتدأ وخبر ، فالشمس مبتدأ و (تجري) خبر ، وقد اخترنا الإعراب الأوّل.

١٨٤

اعتدالها حتّى تبلغ ذلك عند بدء الربيع. وبديهي أنّ جميع تلك الحركات في الواقع ناجمة عن حركة الأرض حول الشمس وانحرافها عن خطّ مدارها ، وان كانت ظاهرا تبدو وكأنّها حركة الشمس.

وآخرون اعتبروا الآية إشارة إلى حركة الشمس الموضعية بالدوران حول نفسها ، حيث أثبتت دراسات العلماء بشكل قطعي أنّ الشمس تدور حول نفسها(١) .

وآخر وأحدث التفاسير التي ظهرت بخصوص هذه الآية ، هو ما كشفه العلماء أخيرا من حركة الشمس مع منظومتها باتّجاه معيّن ضمن المجرة التي تكون المجموعة الشمسية جزءا منها ، وقيل أنّ حركتها باتّجاه نجم بعيد جدّا أطلقوا عليه اسم «وجا».

كلّ هذه المعاني المشار إليها لا تتضارب فيما بينها ، ويمكن أن تكون جملة «تجري» إشارة إلى جميع تلك المعاني ومعاني اخرى لم يصل العلم إلى كشفها ، وسوف يتمّ كشفها في المستقبل.

وعلى كلّ حال ، فإنّ حركة كوكب الشمس الذي يعادل مليون ومائتي الف مرّة حجم الأرض ، بحركة دقيقة ومنظمة في هذا الفضاء اللامتناهي ، ليس مقدورا لغير الله سبحانه الذي تفوق قدرته كلّ قدرة وبعلمه اللامتناهي ، لذا فإنّ الآية تضيف في آخرها( ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ) .

أمّا آخر ما قيل في تفسير هذه الآية فهو أنّ تعبير الآية يشير إلى نظام السنّة الشمسية الناشئ عن حركة الشمس عبر الأبراج المختلفة ، ذلك النظام الذي يعطي لحياة الإنسان نظاما وبرنامجا معيّنا يؤدّي إلى تنظيم حياته من مختلف النواحي.

لذا فإنّ الآية التالية تتحدّث عن حركة القمر ومنازلة التي تؤدّي إلى تنظيم أيّام

__________________

(١) طبق هذا التّفسير فإنّ (اللام) في «لمستقر لها» بمعنى «في» ويكون التقدير «في مستقر لها».

١٨٥

الشهر ، وذلك لأجل تكميل البحث السابق ، فتقول الآية :( وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) .

المقصود بـ (المنازل) تلك المستويات الثمانية والعشرون التي يطويها القمر قبل الدخول في «المحاق» والظلام المطلق. لأنّ القمر يمكن رؤيته في السماء إلى اليوم الثامن والعشرين ، ولكنّه يكون في ذلك اليوم هلالا ضعيفا مائلا لونه إلى الاصفرار ، ويكون نوره قليلا وشعاعه ضعيفا جدّا ، وفي الليلتين الباقيتين من الثلاثين يوما تنعدم رؤيته تماما ويقال : إنّه في دور (المحاق) ، ذلك إذا كان الشهر ثلاثين يوما ، أمّا إذا كان تسعة وعشرين يوما ، فإنّ نفس هذا الترتيب سيبدأ من الليلة السابعة والعشرين ليدخل بعدها القمر في (المحاق).

تلك المنازل محسوبة بدقّة كاملة ، بحيث أنّ المنجّمين منذ مئات السنين يستطيعون أن يتوقّعوا تلك المنازل ضمن حساباتهم الدقيقة.

هذا النظام العجيب ينظّم حياة الإنسان من جهة ، ومن جهة اخرى فهو تقويم سماوي طبيعي لا يحتاج إلى تعلّم القراءة والكتابة لمتابعته. بحيث أنّ أيّ إنسان يستطيع بقليل من الدقّة والدراية في أوضاع القمر خلال الليالي المختلفة يستطيع بنظرة واحدة أن يحدّد بدقّة أو بشكل تقريبي أيّة ليلة هو فيها.

ففي الليلة الاولى يظهر الهلال الضعيف وطرفاه إلى الأعلى ، ويزداد حجمه ليلة بعد ليلة حتّى الليلة السابعة حيث تكتمل نصف دائرة القمر ، ثمّ تستمر الزيادة حتّى تكتمل الدائرة الكاملة للقمر في الليلة الرابعة عشرة ويسمّى حينئذ «بدرا». ثمّ يبدأ بالتناقص تدريجيا حتّى الليلة الثامنة والعشرين حيث يصبح هلالا باهتا يشير طرفاه إلى الأسفل.

نعم ، فإنّ النظم يشكّل أساس حياة الإنسان ، والنظم بدون التعيين الدقيق للزمن ليس ممكنا ، لذا فإنّ الله سبحانه وتعالى قد وضع لنا هذا التقويم الدقيق للشهور والسنين في كبد السماء.

١٨٦

بعد استعراضنا لأشكال القمر ومنازله يتّضح تماما معنى الجملة التالية( حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ) (١) .

وفي الحقيقة فإنّ الشبه بين العرجون والهلال من جوانب عديدة : من ناحية الشكل الهلالي ، ومن ناحية اللون الأصفر ، والذبول ، وإشارة الأطراف إلى الأسفل ، وكونه في وسط دائرة مظلمة تكون في حالة العرجون منسوبة إلى سعف النخل الأخضر ، وبالنسبة للهلال منسوبة إلى السماء المظلمة.

والوصف بـ (القديم) إشارة إلى كون العرجون عتيقا ، فكلّما مرّ عليه زمن وتقادم أكثر أصبح ضعيفا وذابلا واصفّر لونه وأصبح يشبه الهلال كثيرا قبل دخوله المحاق.

وسبحان الله فقد تضمّن تعبير واحد قصير كلّ تلك الظرافة والجمال؟

الآية الأخيرة من هذه الآيات ، تتحدّث عن ثبات ودوام ذلك النظم في السنين والشهور ، والنهار والليل ، فقد وضع الله سبحانه وتعالى لها نظاما وبرنامجا لا يقع بسببه أدنى اضطراب أو اختلال في وضعها وحركتها ، وبذا ثبت تاريخ البشر وانتظم بشكل كامل ، تقول الآية :( لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) .

من المعلوم أنّ الشمس تطوي في دورانها خلال العام الأبراج الإثني عشر ، في حين أنّ القمر يطوي منازله خلال شهر واحد ، وعليه فحركة القمر أسرع من حركة الشمس في مدارها اثنتي عشرة مرّة ، لذا فإنّ الآية تقول بأنّ الشمس بحركتها لا يمكنها أن تدرك القمر في حركته فتقطع في شهر واحد ما تقطعه في سنة واحدة. وبذا يختلّ النظام السنوي لها.

__________________

(١) «عرجون» كما قال أغلب المفسّرين وأهل اللغة : من الانعراج وهو الاعوجاج والانعطاف ، وعليه فالنون زائدة وهو على وزن فعلون ، ويعتقد آخرون أنّه مأخوذ من «عرجن» فالنون ليست زائدة ، وبمعنى : أصل عنقود الرطب المتّصل بالنخلة ، وتوضيح ذلك أنّ الرطب يظهر على شكل عنقود من النخلة ، وأصل ذلك العنقود يكون على شكل مقوّس أصفر اللون يبقى معلّقا في النخلة ، و «قديم» : بمعنى العتيق الذي مضى زمنه.

١٨٧

كما أنّ الليل لا يتقدّم على النهار ، بحيث يدخل جزء منه في النهار ، فيختلّ النظام الموجود ، بل إنّهما ـ على مدى ملايين السنين ـ ثابتان على مسيرهما دون أدنى تغيير.

يتّضح ممّا قلنا أنّ المقصود من حركة الشمس في هذا البحث ، هي الحركة بحسب حسّنا بها ، والملفت للنظر هنا ، هو أنّ هذا التعبير عن حركة الشمس ظلّ يستعمل حتّى بعد أن ثبت للجميع بأنّ الشمس هي المركز الثابت لحركة الأرض حولها ، فمثلا يقال : إنّ الشمس قد تحوّلت إلى برج الحمل ، أو يقال : وصلت الشمس إلى دائرة نصف النهار ، أو أنّ الشمس بلغت الميل الكامل (الميل الكامل هو بلوغ الشمس إلى أقصى نقطة ارتفاع لها في نصف الكرة الأرضية الشمالي في بداية الصيف أو بالعكس أدنى نقطة انخفاض في بداية الشتاء).

هذه التعبيرات تدلّل دوما على أنّه حتّى بعد أن تمّ الكشف عن دوران الأرض حول الشمس وثبات الأخيرة ظلّت تستخدم ، لأنّ النظر الحسّي يستشعر حركة الشمس وثبات الأرض ، ومن هنا تستعمل هذه التعبيرات ، وعلى هذا أيضا يكون قوله تعالى :( وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) .

كذلك يحتمل أن يكون المقصود من (السباحة) هنا حركة الشمس في فلكها مع المنظومة الشمسية والمجرّة التي نحن فيها ، حيث أنّ الثابت علميا حاليا أنّ المنظومة الشمسية التي نعيش فيها جزء من مجرّة عظيمة هي بدورها في حالة دوران. إذ أنّ «فلك» كما يقول أرباب اللغة بمعنى : بروز واستدارة ثدي البنت ، ثمّ أطلقت على القطعة المدوّرة من الأرض أو الأشياء المدوّرة الاخرى أيضا ، ومنه اطلق على مسير الكواكب الدوراني.

جملة( كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) في إعتقاد الكثير من المفسّرين ، إشارة إلى كلّ من الشمس والقمر والنجوم الاخرى التي تتّخذ لنفسها مسارات ومدارات ، وإن لم يرد ذكر النجوم في الآية ، ولكن بملاحظة ذكر «الليل» واقتران ذكر النجوم مع

١٨٨

القمر والشمس ، لا يستبعد المعنى المذكور ، خاصّة وأنّ «يسبّحون» ورد بصيغة الجمع.

وكذلك يحتمل أن تكون الجملة إشارة إلى كلّ من الشمس والقمر والليل والنهار ، لأنّ كلا من الليل والنهار له مدار خاص ، ويدور حول الأرض بدقّة ، فالظلام يغطّي نصف الكرة الأرضية دوما ، والنور يغطّي النصف الآخر منها ، وهما يتبادلان المواضع خلال أربع وعشرين ساعة ويتمّان دورة كاملة حول الأرض.

«يسبّحون» من مادة «سباحة» وهي كما يقول «الراغب» في المفردات : المرّ السريع في الماء والهواء. واستعير لحركة النجوم في الفلك والتسبيح تنزيه الله تعالى ، وأصله المرّ السريع في عبادة الله!» ولذا فإنّها في الآية إشارة إلى الحركة السريعة للأجرام السماوية ، والآية تشبهها بالموجودات العاقلة المستمرة في دورانها ، وقد ثبت حاليا أنّ الأجرام السماوية تنطلق بسرعة هائلة في الفضاء.

* * *

بحوث

١ ـ حركة الشمس (الدورانية) و (الجريانية)

«الدوران» لغة يطلق على الحركة المغزلية ، في حال أنّ «الجريان» يطلق على الحركة الطولية ، والملفت للنظر أنّ الآيات أعلاه ، نسبت الحركتين إلى الشمس ، فقالت :( وَالشَّمْسُ تَجْرِي ) و( كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) .

كانت المحافل العلمية أيّام نزول الآية متمسّكة بنظرية «بطليموس» التي كانت تقول بأنّ الأجرام السماوية ليس فيها حركة دورانية ، بل إنّ باطن الأفلاك التي تتكوّن من أجسام بلّورية متراكمة على بعضها البعض كتراكم طبقات البصلة وثابتة ، وحركتها تتبع حركة أفلاكها ، وعليه فلم يكن في تلك الأيّام معنى لا لجريان الشمس ولا غيره.

١٨٩

أمّا بعد أن تداعت الاسس التي تقوم عليها فرضية بطليموس في ضوء الاكتشافات الجديدة في القرون الأخيرة ، وتحرّرت الأجرام السماوية من قيد الأفلاك البلورية ، فقد قويت نظرية كون الشمس هي مركز المنظومة الشمسية ، وهي ثابتة وجميع المنظومة الشمسية تدور حولها.

هنا أيضا لم تكن تعبيرات الآيات أعلاه مفهومة فيما يتعلّق بحركة الشمس الطولية والدورانية حتّى أثبت العلم بتطوّره عدّة حركات للشمس في العقود الأخيرة. وهي :

حركة الشمس الموضعية حول نفسها.

حركة الشمس الطولية مع المنظومة الشمسية باتّجاه نقطة محدّدة في السماء.

وحركتها الدورانية مع المجرّة التي تتبعها وبذا ثبتت معجزة علمية اخرى للقرآن.

ولتوضيح هذه المسألة نورد ما ورد في إحدى دوائر المعارف حول حركة الشمس :

للشمس حركة ظاهرية واخرى واقعية ، وتشترك الشمس في الحركة الظاهرية ـ اليومية ـ فهي تشرق من مشرق نصف الكرة الأرضي الذي نعيش فيه ، وتمرّ في طرف الجنوب من نصف النهار ثمّ تغرب من المغرب ، وعبورها من نصف النهار يشخّص الظهر الحقيقي ـ الزوال ـ.

وللشمس أيضا حركة ظاهرية اخرى ـ سنوية ـ حول الأرض بحيث أنّها تقترب من المشرق درجة واحدة كلّ يوم ، وفي هذه الحركة تمرّ الشمس مقابل الأبراج مرّة واحدة كلّ عام ، ومدار هذه الحركة يقع على صفحة «دائرة البروج» ولهذه الحركة أهميّة عظمى في علم الفلك ، فظاهرة «الاعتدالين» و «الانقلاب» و «الميل الكلّي» كلّها مرتبطة بهذا العلم ، وعلى أساس ذلك يحسب العام الشمسي.

علاوة على هذه الحركات الظاهرية فإنّ للشمس حركة دورانية في المجرّة ،

١٩٠

فالشمس تنطلق بسرعة دورانية في الفضاء تعادل مليون ومائة وثلاثين ألف كيلومتر في الساعة!! وفي داخل المجرّة فهي ليست ثابتة أيضا ، بل إنّها أيضا تدور بسرعة تقارب إثنين وسبعين الف كيلومتر في الساعة ضمن المجموعة النجمية المسمّاة «الجاثي على ركبتيه»(١) .

وعدم علمنا بتلك الحركة السريعة للشمس هو بعد الأجرام السماوية ، والذي هو المانع من تشخيص تلك الحركة الموضعية أيضا.

دورة الحركة الوضعية للشمس على محورها تستغرق حدود الخمسة وعشرين يوما بلياليها(٢) .

٢ ـ تعبير «تدرك» و «سابق»

إنّ التعبيرات القرآنية استعملت بدقّة متناهية لا يمكن الإحاطة بجميع أبعادها. ففي الآيات أعلاه حينما تتحدّث عن الحركة الظاهرية للقمر والشمس خلال المسيرة الشهرية والسنوية تقول :( لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ ) . إذ أنّ القمر ينهي مسيرته في شهر واحد بينما الشمس في عام كامل.

أمّا حينما تحدّثت عن الليل والنهار قالت :( وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ ) لعدم وجود فاصلة بينهما ولتعاقبهما. فالتعابير غاية في الدقّة.

٣ ـ نظام النور والظلام في حياة البشر :

تعرّضت الآيات أعلاه إلى موضوعين من أهمّ المواضيع المتعلّقة بحياة البشر.

__________________

(١) «الجاثي على ركبتيه» : مجموعة من النجوم التي تتشاكل فيما بينها لترسم صورة شخص جاث على ركبتيه ، ومنه أخذت التسمية.

(٢) أي أنّ الشمس في كلّ خمس وعشرين يوما من أيّامنا تدور دورة واحدة حول نفسها ، وقد شخصت هذه المسألة من مراقبة العلماء للبقع الموجودة على سطح الشمس ، فقد لوحظ أنّها تتبادل مواقعها ثمّ تعود كما كانت خلال هذه المدّة.

١٩١

على أنّهما آيتان من آيات الله وهما مسألة ظلمة الليل ومسألة الشمس ونورها.

قلنا سابقا أنّ النور من ألطف وأكثر موجودات العالم المادّي بركة. وليس لإضاءتنا ومعيشتنا فقط فكلّ حركة ونشاط مرتبط بنور الشمس ، نزول قطرات المطر ، نمو النباتات ، تفتّح البراعم ، نضوج الثمار والفواكه ، خرير الجداول ، تلوين مائدة الطعام بأنواع المواد الغذائية ، وحتّى حركة عجلة المصانع العظيمة ، وتوليد الطاقة الكهربائية ، وأنواع المنتجات الصناعية ، كلّها تعود في أصلها إلى هذا المنبع العظيم للطاقة ، أي نور الشمس.

وخلاصة القول فإنّ جميع الطاقات على سطح الكرة الأرضية ـ عدا الطاقة الناجمة عن تفجير الذرّة ـ جميعها تستمدّ وجودها من نور الشمس ، ولو لا الأخير لخيّم الصمت والموت على كلّ مكان.

ظلمة الليل مع أنّها تذكر بالموت والفناء ، فإنّها تعدّ من الأمور الحياتية الهامّة في حياة البشر ، لأنّها تعدل نور الشمس وتؤثّر عميقا في راحة جسم وروح الإنسان ، والمنع من المخاطر الناجمة عن تسلّط أشعّة الشمس بشكل متواصل ومستمر ، بحيث لو لم يكن الليل عقيب النهار لارتفعت درجة الحرارة على سطح الأرض إلى درجة أنّ الأشياء جميعا تأخذ بالاشتعال والاحتراق ، كذلك في القمر حيث الليالي والأيّام طويلة (كلّ ليلة هناك تعادل حوالي خمسة عشر يوما بلياليها على الأرض ، كذلك الحال بالنسبة للنهار) فحرارة النهار قاتلة ، وبرودة مجمّدة.

وعليه فإنّ كلا من «النور والظلام» آية إلهية عظيمة.

ناهيك عن أنّ النظام المتناهي الدقّة الذي يحكمهما ، أدّى إلى تنظيم تأريخ حياة البشر ، ذلك التأريخ الذي لو لا وجوده لتفتتت الروابط الاجتماعية ، وأصبحت الحياة بالنسبة إلى البشر أشبه بالمستحيل ، وبذا فإنّ كلا من «النور والظلام» آيتان إلهيتان من هذه الناحية أيضا.

والملفت للنظر هنا هو قول القرآن الكريم :( وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ ) . وهذا

١٩٢

التعبير يدلّل على أنّ النهار خلق قبل الليل ، والليل بعده تماما ، فلو أنّ أحدا نظر من خارج الكرة الأرضية فسيرى موجودين أسود وأبيض يدوران بشكل مرتّب حول الأرض ، وفي مثل هذه الحركة الدائرية لا يمكن تصوّر القبل والبعد فيها.

ولكن إذا أخذنا بنظر الإعتبار أنّ الأرض التي نعيش عليها كانت يوما ما جزءا من الشمس ، وفي ذلك الوقت لم يكن سوى النهار ، ولا وجود لليل ، ثمّ بعد أن انفصلت الكرة الأرضية عن الشمس وابتعدت تكون لها ظلّ مخروطي الشكل من الجهة المخالفة للشمس فكأنّ الليل ، الليل الذي أصبحت حركته بعد النهار ، نعم ، لو توجّهنا لكلّ ذلك لاتّضحت دقّة ولطافة هذا التعبير.

وكما قلنا سابقا فليس الشمس والقمر وحدهما يسبحان في هذا الفضاء المترامي ، بل إنّ الليل والنهار أيضا يسبحان حول الكرة الأرضية ، وكلّ منهما له مدار ومسير دائري.

وقد ورد في روايات متعدّدة عن أهل البيتعليهم‌السلام التصريح بأنّ الله سبحانه وتعالى خلق النهار قبل الليل. فعن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال جوابا على سؤال في حديث طويل: «نعم خلق النهار قبل الليل ، والشمس والقمر والأرض قبل السماء»(١) .

وعن الإمام الرضاعليه‌السلام أنّه قال : «فالنهار خلق قبل الليل وفي قوله تعالى :( لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ ) أي قد سبقه النهار»(٢) .

وورد نفس المعنى عن الإمام الباقرعليه‌السلام حين قال : «إنّ اللهعزوجل خلق الشمس قبل القمر ، وخلق النور قبل الظلمة»(٣) .

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٣٨٧ ، ح ٥٥.

(٢) نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٣٨٧ ، ح ٥٣.

(٣) نور الثقلين ، ج ٤ ، ص ٣٨٧ ، ح ٥٤.

١٩٣

الآيات

( وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤) )

التّفسير

حركة السفن في البحار آية إلهيّة :

رغم أنّ بعض المفسّرين أمثال القرطبي اعتبر الآية الاولى من هذه الآيات من أعقد وأصعب آيات هذه السورة ، إلّا أنّه وبتدقيق النظر في هذه الآيات وربطها بالآيات السابقة ، يتّضح أن ليس هناك تعقيد في هذه الآيات ، لأنّ الآيات السابقة تحدّثت عن دلالة قدرة الباريعزوجل في خلق الشمس والقمر والليل والنهار وكذلك الأرض وبركاتها ، وفي هذه الآيات التي أمامنا يتحدّث الباريعزوجل عن البحار وقسم من بركات ونعم ومواهب البحار ، يعني حركة السفن التجارية والسياحية على سطحها.

علاوة على أنّ حركة السفن في خضمّ المحيطات ليست بعيدة في الشبه عن حركة الكواكب السماوية في خضمّ المحيط الفضائي.

١٩٤

لذا فإنّ الآيات الكريمة تقول أوّلا :( وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ) .

الضمير «لهم» لا يعود فقط على مشركي مكّة ، بل على جميع العباد الذين أشارت لهم الآيات السابقة.

«ذرّية» : كما يقول الراغب في مفرداته ، أصلها الصغار من الأولاد ، وإن كان يقع على الصغار والكبار معا عرفا ، ويستعمل للواحد والجمع.

وما تذكره الآية من حمل ذريّاتهم وليس هم ربّما لأنّ الأولاد هم أكثر حاجة لركوب مثل ذلك المركب السريع ، بلحاظ أنّ الكبار أكثر استعدادا للسير على سواحل البحار وطي الطريق من هناك!!

فضلا عن أنّ هذا التعبير أنسب لتحريك عواطفهم.

«مشحون» أي مملوء ، إشارة إلى أنّ السفن لا تحملهم هم فقط ، بل أموالهم وتجارتهم وأمتعتهم وما أهمّهم أيضا.

وما قاله البعض من أن «الفلك» إشارة إلى سفينة نوح ، و «ذريّة» بمعنى الآباء من مادّة «ذرأ» بمعنى خلق ، فيبدو بعيدا ، إلّا إذا كان من قبيل ذكر المصداق البارز.

على كلّ حال فإنّ حركة السفن والبواخر التي هي من أهمّ وأضخم وسائل الحمل والنقل البشري ، وما يمكنها إنجازه يعادل آلاف الأضعاف لما تستطيعه المركّبات الاخرى ، كلّ ذلك ناجم عن خصائص الماء ووزن الأجسام التي تصنع منها السفن ، والطاقة التي تحرّكها ، سواء كانت الريح أو البخار أو الطاقة النووية.

وكلّ هذه القوى والطاقات التي سخّرها الله للإنسان ، كلّ واحدة منها وكلّها معا آية من آيات الله سبحانه وتعالى.

ولكي لا يتوهّم أنّ المركّب الذي أعطاه الله للإنسان هو السفينة فقط ، تضيف الآية التالية قائلة :( وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ ) .

المراكب التي تسير على الأرض ، أو في الهواء وتحمّل البشر وأثقالهم.

١٩٥

ومع أنّ البعض فسّر هذه الآية بخصوص «الجمل» الذي لقّب بـ «سفينة الصحراء» ، والبعض الآخر ذهب إلى شمولية الآية لجميع الحيوانات ، والبعض فسّرها بالطائرات والسفن الفضائية التي اخترعت في عصرنا الحالي تعبير «خلقنا» يشملها بلحاظ أنّ موادّها ووسائل صنعها خلقت مسبقا) ولكن إطلاق تعبير الآية يعطي مفهوما واسعا يشمل جميع ما ذكر وكثيرا غيره.

في بعض آيات القرآن الكريم ورد مرارا الاقتران بين «الأنعام» و «الفلك» مثل قوله تعالى :( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ ) زخرف ـ ١٢ ، وكذلك قوله تعالى :( وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ) المؤمن ـ ٨٠.

ولكن هذه الآيات أيضا لا تنافي عمومية مفهوم الآية مورد البحث.

الآية التالية ـ لأجل توضيح هذه النعمة العظيمة ـ تتعرّض لذكر الحالة الناشئة من تغيير هذه النعمة فتقول :( وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ ) .

فنصدّر أمرنا لموجة عظيمة فتقلب سفنهم ، أو نأمر دوّامة بحرية واحدة ببلعهم ، أو يتقاذفهم الطوفان بموجة في كلّ اتّجاه بأمرنا ، وإذا أردنا فنستطيع بسلبنا خاصّية الماء ونظام هبوب الريح وهدوء البحر وغير ذلك أن نجعل الاضطراب صفة عامّة تؤدّي إلى تدمير كلّ شيء ، ولكنّنا نحفظ هذا النظام الموجود ليستفيدوا منه. وإذا وقعت بين الحين والحين حوادث من هذا القبيل فإنّ ذلك لينتبهوا إلى أهميّة هذه النعمة الغامرة.

«صريخ» من مادّة «صرخ» بمعنى الصياح. و «ينقذون» من مادّة «نقذ» بمعنى التخليص من ورطة.

وأخيرا تضيف الآية لتكمل الحديث فتقول :( إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ ) .

نعم فهم لا يستطيعون النجاة بأيّة وسيلة إلّا برحمتنا ولطفنا بهم.

«حين» بمعنى «وقت» وهي في الآية أعلاه إشارة إلى نهاية حياة الإنسان وحلول أجله ، وذهب البعض إلى أنّها تعني نهاية العالم بأسره.

١٩٦

نعم ، فالأشخاص الذين ركبوا السفن أيّا كان نوعها وحجمها يدركون عمق معنى هذه الآية ، فإنّ أعظم السفن في العالم تكون كالقشّة حيال الأمواج البحرية الهائلة أو الطوفانات المفجعة للمحيطات ، ولو لا شمول الرحمة الإلهية فلا سبيل إلى نجاة أحد منهم إطلاقا.

يريد الله سبحانه وتعالى بذلك الخيط الرفيع بين الموت والحياة أن يظهر قدرته العظيمة للإنسان ، فلعلّ الضالّين عن سبيل الحقّ يعودون إلى الحقّ ويتوجّهون إلى الله ويسلكون هذا الطريق.

* * *

١٩٧

الآيات

( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) )

التّفسير

الإعراض عن جميع آيات الله :

بعد أن كان الحديث في الآيات السابقة عن الآيات الإلهيّة في عالم الوجود ، تنتقل هذه الآيات لتتحدّث عن ردّ فعل الكفّار المعاندين في مواجهة هذه الآيات الإلهيّة ، وكذلك توضّح دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم وإنذارهم بالعذاب الإلهي الأليم.

يفتتح هذا المقطع بالقول :( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (١) .

__________________

(١) «وإذا قيل لهم ...» جملة شرطية ، وجزاؤها محذوف يستفاد من الآية اللاحقة ، والتقدير : «وإذا قيل لهم اتّقوا أعرضوا عنه».

١٩٨

للمفسّرين أقوال عديدة حول ما هو معنى قوله :( ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ ) و( ما خَلْفَكُمْ ) منها : أنّ المقصود بـ «ما بين أيديكم» العقوبات الدنيوية التي أوردت الآيات السابقة نماذج منها ، والمقصود بـ «ما خلفكم» عقوبات الآخرة ، وكأنّه يراد القول بأنّها خلفهم ولم تأت إليهم وسوف تصل إليهم في يوم ما وتحيط بهم ، والمقصود بـ «التقوى» من هذه العقوبات ، هو عدم إيجاد العوامل التي تؤدّي إلى وقوع هذه العقوبات ، والدليل على ذلك أنّ التعبير بـ «اتّقوا» يرد في القرآن إمّا عند ذكر الله سبحانه وتعالى أو عند ذكر يوم القيامة والعقوبات الإلهيّة ، وهذان الذكران وجهان لحقيقة واحدة ، إذن أنّ الاتّقاء من الله هو اتّقاء من عقوباته.

وذلك دليل على أنّ الآية تشير إلى الاتقاء من عذاب الله ومجازاته في الدنيا وفي الآخرة.

ومن هذه التّفسيرات أيضا عكس ما ورد في التّفسير الأوّل ، وهو أنّ «ما بين أيديكم» تعني عقوبات الآخرة و «ما خلفكم» تعني عذاب الدنيا ، لأنّ الآخرة أمامنا (وهذا التّفسير لا يختلف كثيرا عن الأوّل من حيث النتائج).

وذهب آخرون إلى أنّ المقصود من «بين أيديكم» الذنوب التي ارتكبت سابقا ، فتكون التقوى منها بالتوبة وجبران ما تلف بواسطتها ، و «ما خلفكم» الذنوب التي سترتكب لا حقا.

والبعض يرى بأنّ «بين أيديهم» الذنوب الظاهرة ، و «ما خلفكم» الذنوب الباطنة والخفيّة.

وقال البعض الآخر : «ما بين أيديكم» إشارة إلى أنواع العذاب في الدنيا ، و «ما خلفكم» إشارة إلى الموت (والحال أنّ الموت ليس ممّا يتّقى منه!!).

والبعض ـ كصاحب تفسير «في ظلال القرآن» ـ اعتبر هذين التعبيرين كناية عن إحاطة موجبات الغضب والعذاب الإلهي التي تحيط بالكافر من كلّ جانب.

و «الآلوسي» في «روح المعاني» و «الفخر الرازي» في «التّفسير الكبير» كلّ

١٩٩

منهما ذكر احتمالات متعدّدة ، ذكرنا قسما منها.

و «العلّامة الطباطبائي» في «الميزان» يرى أنّ «ما بين أيديكم» الشرك والمعاصي في الحياة الدنيا ، و «ما خلفكم» العذاب في الآخرة(١) . في حين أنّ ظاهر الآية هو أنّ كلا الإثنين من جنس واحد ، وليس بينهما سوى التفاوت الزمني ، لا أنّ إحداهما إشارة إلى الشرك والذنوب ، والاخرى إشارة إلى العقوبات الواقعة نتيجة ذلك.

على كلّ حال فأحسن تفسير لهذه الجملة هو ما ذكرناه أوّلا ، وآيات القرآن المختلفة شاهد على ذلك أيضا ، وهو أنّ المقصود من «ما بين أيديكم» هو عقوبات الدنيا و «ما خلفكم» عقوبا الآخرة.

الآية التالية تؤكّد نفس المعنى وتشير إلى لجاجة هؤلاء الكفّار وإعراضهم عن آيات الله وتعاليم الأنبياء ، تقول الآية الكريمة :( وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ ) .

فلا الآيات الأنفسية تؤثّر فيهم ، ولا الآفاقية ، ولا التهديد والإنذار ، ولا البشارة والتطمين بالرحمة الإلهيّة ، لا يتقبّلون منطق العقل ولا أمر العواطف والفطرة ، فهم مبتلون بالعمى الكلّي بحيث لا يتمكّنون حتّى من رؤية أقرب الأشياء إليهم ، وحتّى أنّهم لا يفرّقون بين ظلمة الليل وشمس الظهيرة.

ثمّ يشخّص القرآن الكريم أحد الموارد المهمّة لعنادهم وإعراضهم فيقول :( وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

ذلك المنطق الضعيف الذي يتمسّك به الأنانيون والبخلاء في كلّ عصر وزمان ويقولون : إنّ فلانا أصبح فقيرا بسبب عمل ارتكبه وأدّى به إلى الفقر ، مثلما أنّنا أغنياء بسبب عمل عملنا فشملنا لطف الله ورحمته ، وعليه فليس فقره ولا غنانا

__________________

(١) الميزان ، المجلّد ١٧ ، الصفحة ٩٦ ، (ذيل الآيات مورد البحث).

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378