أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين15%

أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 378

أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين
  • البداية
  • السابق
  • 378 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 166017 / تحميل: 9132
الحجم الحجم الحجم
أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

وفاء

أم البنين عليها‌السلام وابناؤها

أم البنين وشهادة زوجها أمير المؤمنين عليه‌السلام :

كان أمير المؤمنين عليه‌السلام دائم السهر في طاعة الله، أحيى ليالي عمره الشريف بالمناجاة مع خالق البريات... بيد أنّ لسهره ليلة التاسع عشر من شهر رمضان نكهة خاصة، فقد سهر في تلك الليلة فأكثر الخروج والنظر إلى السماء وهو يقول: «والله ما كذبت ولا كذبت وإنّها الليلة التي وعدت بها».

وكأنّ أم البنين عليها‌السلام ترقب الموقف بقلب واجف وجل وتقول لأمير المؤمنين عليه‌السلام : ماذا حدث لك يا أمير المؤمنين، أهذه الليلة من ليالي القدر التي وعدت؟

فيجيبها الامام عليه‌السلام : أوصيك بولدك العباس لا يتركن أخاه الحسين يوم يبقى وحيداً فريداً لا ناصر له ولا معين.

فلما طلع الفجر فقام يخرج فاستقبله الأوز فصحن في وجهه فقال: دعوهن فانهن صوائح تتبعها نوائح، وتعلقت حديدة على الباب في مئزره فشدّ إزاره وهو يقول:

أشدد حياز يمك للموت فان الموت لاقيك

ولا تجزع من الموت إذا حلّ بواديك (١)

__________________

(١) البحار ٤٢ / ٢٣٨.

٨١

فلما وصل إلى المسجد راح يصلي بخشوع وخضوع، واذا بسيف ابن ملجم المرادي المسموم يفرق هامته الشريفة ويرتفع صوت الامام عليه‌السلام : «فزت ورب الكعبة» (١) .

وارتفع صوت جبرئيل بين السماء والارض هاتفاً: «تهدمت والله أركان الهدى وانفصمت العروة الوثقى.. قتل علي المرتضى» (٢) .

وكأنّ أم البنين عليها‌السلام ارتفعت صرختها: يا وارث الأنبياء، ولا سيد الأوصياء، ويا إمام الدين، ويا خير الساجدين، ويا مولى الموحدين... يا علي، يا أمير المؤمنين.

قال الواقدي: قتل علي عليه‌السلام وترك أربع حرائر: أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وليلى التميمية، وأم البنين الكلابية، وأسماء بنت عميس (٣) .

أم البنين عليها‌السلام لم تتزوج بعد أمير المؤمنين عليه‌السلام :

تزوج أمير المؤمنين عليه‌السلام من فاطمة ابنة حزام العامرية إما بعد وفاة الصديقة سيدة النساء، كما يراه بعض المؤرخين (٤) ، أو بعد أن تزوج بأمامة بنت زينب بنت رسول الله، كما يراه البعض الآخر (٥) ، وهذا بعد وفاة الزهراء عليها‌السلام لأنّ الله قد حرم النساء على علي عليه‌السلام ما دامت فاطمة موجودة (٦) .

فولدت أربعة بنين وأنجبت بهم: العباس، وعبد الله، وجعفر، وعثمان.

وعاشت بعده عليه‌السلام مدة طويلة، ولم تتزوج من غيره، كما أن أمامة وأسماء بنت

__________________

(١) البحار ٤٢ / ٢٣٩.

(٢) البحار ٤٢ / ٢٨٢.

(٣) تذكرة الخواص: ١٦٨.

(٤) الطبري ٦ / ٨٩، ابن الاثير ٣ / ١٥٨، أبو الفداء ١ / ١٨١.

(٥) المناقب لابن شهر آشوب ٢ / ١١٧، مطالب السؤول ٦٣، الفصول المهمة ١٤٥، الاصابة ٤ / ٣٦ ترجمة أمامة.

(٦) المناقب لابن شهر آشوب ٢ / ٩٣.

٨٢

عميس وليلى لم يخرجن إلى أحد بعده، وهذه الأربع حرائر توفي عنهم سيد الوصيين (١) .

وقد خطب المغيرة بن نوفل أمامة ثم خطبها أبو الهياج بن أبي سفيان بن الحارث، فامتنعت وروت حديثاً عن علي عليه‌السلام أن أزواج النبي والوصي لا يتزوجن بعده، فلم يتزوجن الحرائر وأمهات الأولاد عملاً بالرواية (٢) .

وكانت أم البنين من النساء الفاضلات العارفات بحق أهل البيت عليهم‌السلام ، مخلصة في ولائهم، ممحضة في مودتهم (٣) ، وقد بقيت وفية لزوجها بعد استشهاده كما كانت وفية له في حياته.

وقد توفى عنها أمير المؤمنين عليه‌السلام وكان أكبر أولادها العباس لم يبلغ الخامسة عشرة من عمره، حيث تلفع هو وأخوته الصغار بغبار اليتم وذاقوا مرارة فقد الأب وهم في مقتبل العمر.

أم البنين عليها‌السلام ورعايتها لسبطي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

قامت السيدة أم البنين برعاية سبطي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانتيه وسيد شباب أهل الجنة الحسن والحسين عليه‌السلام ، وقد وجدا عندها من العطف والحنان ما عوضهما من الخسارة الأليمة التي مُنيا بها بفقد أمها سيدة نساء العالمين، فقد توفيت وعمرها كعمر الزهور، فترك فقدها اللوعة والحزن في نفسيهما.

لقد كانت السيدة أم البنين تكن في نفسها من المودة والحب للحسين والحسين عليهما‌السلام ما لا تكنّه لأولادها اللذين كانوا ملء العين في كمالهم وآدابهم.

__________________

(١) كشف الغمة: ٣٢، الفصول المهمة: ١٤٥، المناقب لابن شهر آشوب ٢ / ٧٦، مطالب السؤول: ٦٣.

(٢) المناقب (لابن شهر آشوب) ٢ / ٧٦.

(٣) العباس (للمقرم): ١٣٢ - ١٣٣.

٨٣

لقد قدّمت أم البنين أبناء رسول الله على أبنائها في الخدمة والرعاية، ولم يعرف التاريخ أنّ شريكة تخلص لأبناء شريكتها وتقدّمهم على أبنائها سوى هذه السيدة الزكية، فقد كانت ترى ذلك واجباً دينياً لأن الله أمر بمودتهما في كتابه الكريم فقال تعالى: ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) (١) وهما وديعتا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانتاه، وقد عرفت أم البنين ذلك فوفت بحقهما وقامت بخدمتهما خير قام (٢) .

روي أنها لما زفت إلى بيت الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام وجدت الامامين الحسن والحسين عليهما‌السلام مريضين، فأخذت تمرضهما وتقوم برعايتهما، وتلاطفهما في القول، وتطيب ليهما الكلام، حتى عوفيا من مرضهما وبرئا من علتهما.

ثم إنّها - على ما قيل - طلبت من الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام أن يعهد إلى أهل بيته بأن لا يدعوها أحد بعد ذلك باسمها «فاطمة»، مخافة أن يتذكر أبناء فاطمة الزهراء عليها‌السلام أمهم فيتجدّد حزنهم ويلكأ جرح مصابهم، فتثار أشجانهم وتعود اليهم ذكرياتهم، فدعاها أمير المؤمنين بـ «أم البنين» (٣) .

* * *

__________________

(١) سورة الشورى: الآية ٢٣.

(٢) العباس رائد الكرامة: ٢٧.

(٣) أنظر: الخصائص العباسية: ٢٥.

٨٤

أبناء أم البنين عليها‌السلام

تزوج أمير المؤمنين عليه‌السلام فاطمة ابنة حزام العامرية، وكانت واحدة من الحرائر الأربع اللواتي توفي عنهن سيد الوصيين، فولدت له أربعة بنين وأنجبت بهم: العباس وعبد الله وجعفر وعثمان... استشهدوا جميعاً بين يدي الحسين عليه‌السلام في كربلاء.

العباس بن أمير المؤمنين:

ولد سنة ست وعشرين من الهجرة وكان يلقّب في زمنه «قمر بني هاشم» ويكنى «أبا الفضل».

روي عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام أنّه قال: كان عمّنا العباس بن علي نافذ البصيرة، صلب الايمان، جاهد مع أبي عبد الله عليه‌السلام وأبلى بلاءً حسناً، ومضى شهيداً.

وروي عن علي بن الحسين أنّه نظر يوماً إلى عبيد الله بن العباس بن علي عليه‌السلام فاستعبر ثم قال: ما من يوم أشدّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من يوم «أحد» قتل فيه عمّه حمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأسد رسوله، وبعده يوم «مؤتة» قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبي طالب، ولا يوم كيوم الحسين عليه‌السلام إزدلف اليه ثلاثون ألف رجل

٨٥

يزعمون أنّهم من هذه الأمة كلّ يتقرّب إلى الله - عزّ وجل - بدمه، وهو يذكّرهم بالله فلا يتّعظون، حتى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً.

ثم قال: رحم الله العباس فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه، حتى قطعت يداه، فأبدله الله - عزّ وجل - منهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة كما جعل لجعفر بن ابي طالب عليه‌السلام ، وإنّ للعباس عند الله - تبارك وتعالى - منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة.

قال السيد المرقم رحمه‌الله : لقد كان من عطف المولى - سبحانه وتعالى - على وليه المقدس، سلالة الخلافة الكبرى، سيد الأوصياء، أن جمع فيه صفات الجلالة من بأس وشجاعة وإباء ونجدة، وخلال الجمال من سؤدد وكرم ودماثة في الخلق وعطف على الضعيف، كلّ ذلك من البهبجة في المنظر ووضاءة في المحيا، من ثغر باسم، ووجه طلق، تتموج عليه أمواه الحسن، ويطفح عليه رواء الجمال، وعلى أسرة جبهته أنوار الايمان، كما كانت تعبق م أعراقه فوائح المجد متأرجة من طيب العنصر، ولما تطابق فيه الجمالان الصوري والمعنوي قيل: له «قمر بني هاشم» (١) حيث كان يشوء بجماله في دنياه، كالقمر الفائق بنوره أشعة النجوم، وهذا هو حديث الرواة:

«كان العباس وسيماً، جميلاً، يركب الفرس المطهم ورجلاه يخطان في الأرض ويقال له: قمر بني هاشم» (٢) .

قال مؤلف «تذكرة الشهداء»: يكفى هذا الأبيّ العظيم شرفاً أنّه ابن أسد الله، وأخو قرطا عرش الله، وما أعظم فضله ومعرفته حتى كني بأبي الفضل، وليس ذاك لأنّه كان له ولد اسمه الفضل فحسب، بل لأنّه نال مراتب العلم والمعرفة والفضل.

__________________

(١) كان يقال لعبد مناف قمر البطحاء ولعبد الله والد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قمر الحرم.

(٢) مقاتل الطالبين ترجمة العباس بن علي عليه‌السلام .

٨٦

وما أسخاه وما أعظمه حيث أعرض عن الدنيا وزخرفها، ونسى الأهل والولد، وسعى إلى الشهادة جاهداً صابراً محتسباً، وبذل كلّ غالٍ ونفيس في سبيل الدفاع عن حريم إمامه وأخيه الحسين عليه‌السلام و «كمال الجود بذل الموجود» (١) .

أمير المؤمنين عليه‌السلام يقبّل يدي العباس عليه‌السلام :

كان الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام يرعى ولده العباس في طفولته، وكان يوسعه تقبيلاً.

يقول المؤرخون: إنّه أجلسه في حجره فشمر عن ساعديه فجعل الامام يقبلها، وهو غارق في البكاء، فبهرت أم البنين، وراحت تقول للامام: ما يبكيك؟

فأجابها الامام بصوت خافت حزين النبرات: «نظرت إلى هذين الكفين وتذكرت ما يجري عليهما...».

وسارعت أم البنين بلهفة قائلة: وماذا يجري عليهما؟

فأجابها الامام بنبرات مليئة بالأسى والحزن قائلاً: إنهما يقطعان من الزند....

وكانت هذه الكلمات كالصاعقة على أم البنين، فقد ذاب قلبها، وسارعت وهي مذهولة قائلة لماذا يقطعان؟

وأخبرها الامام عليه‌السلام بأنهما إنّما يقطعان في نصرة الاسلام والذبّ عن أخيه حامي شريعة الله، ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأجهشت أم البنين في البكاء، وشاركها من كان معها من النساء لوعتها وحزنها.

وخلدت أم البنين إلى الصبر، وحمدت الله - تعالى - في أن يكون ولدها فداءً لسبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانته (٢) .

فبشر سيد الأوصياء بمكانة ولدها العزيز عند الله - جلّ شأنه - وما حباه عن يديه

__________________

(١) تذكرة الشهداء: ٢٤٣.

(٢) العباس رائد الكرامة والفداء (لباقر شريف القرشي): ٣٧، قمر بني هاشم للمقرم: ١٩.

٨٧

بجناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة، كما جعل ذلك لجعفر بن أبي طالب، فقامت تحمل بشرى الأبد والسعادة الخالدة (١) .

تعويذ أم البنين له:

لقد كان أبو الفضل العباس آية بارعة في الجمال، وقد لقّب بقمر بني هاشم لروعة بهائه وجمال طلعته، وكان متكامل الجسم، قد بدت عليه آثار البطولة والشجاعة، ووصفه الرواة بأنه كان وسيماً جميلاً، يركب الفرس المطهم ورجلاه يخطان في الأرض.

وكان حبّه قد استوعب قلب أمه الحنون الزكية، فكان عندها أعزّ من الحياة، وكانت تخاف عليه وتخشى من أعين الحساد من أن تصيبه بأذى أو مكروه، وكانت تعوّذه بالله وتقول هذه الأبيات:

أعيذه بالواحد

من عين كلّ حاسد

قائمهم والقاعد

مسلمهم والجاحد

صادرهم والوارد

مولدهم والوالد (٢)

وكان من شدّة حبّ أبيه له أن قبلّ يديه تعبيراً عن مستوى عواطفه ومقدار ما إحتله الولد من قلب والده، تماماً كما كان يفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع الصديقة الطاهرة بضعته، حيث كان يقبّل يدها ويقوم لها ويجلسها مجلسه.

كنيته:

كنّى سيدنا العباس «أبي الفضل» وروى: إنّما كنّي بذلك لأن له ولداً اسمه الفضل.

__________________

(١) قمر بني هاشم (للمقرم): ٢٠.

(٢) العباس رائد الكرامة (للقرشي): ٣٦، عن المنمق في أخبار قريش: ٤٣٧.

٨٨

ويقول في ذلك بعض من رثاه:

أبا الفضل يا من أسس الفضل والابا

أبي الفضل إلّا أن تكون له أبا

وطابقت هذه الكنية حقيقة ذاته العظيمة، فلو لم يكن له ولد يسمّى بهذا الاسم، فهو - حقاً - أبو الفضل ومصدره الفياض، فقد أفاض في حياته ببره وعطائه على القاصدين لنبله وجوده، وبعد شهادته كان موئلاً وملجأً لكلّ ملهوف، فما استجار به أحد بنية صادقة إلّا كشف الله ما ألم به من المحن والبلوى.

ومن كناه أيضاً: «أبو القاسم» وكنّي بذلك لأن له ولداً اسمه «القاسم»، ذكر بعض ال مؤرخين أنّه استشهد معه يوم الطف، قدّمه العباس قرباناً لدين الله وفداءً لريحانة رسول الله (١) .

وأبى إلّا أن يكون قد واسى الحسين أخاه في كلّ شيء حتى في الفجيعة بولده وفلذة كبده.

العباس عليه‌السلام مع أبيه:

كان أمير المؤمنين عليه‌السلام معلم البشرية ومربّيها؛ سيما المجتمع الاسلامي الذي ساقه عليه‌السلام إلى ذرى الانسانية الشماء.

وقد قدم عليه‌السلام دروس الشهامة والفضيلة والكمال لمحبيه وشيعته، وخصّ بذلك أيضاً أبناءه عليه‌السلام ، وقد ربّى ولده أبا الفضل العباس عليه‌السلام - وكان غايته من زواجه بأم البنين عليها‌السلام - أحسن تربية، فأفاض عليه مكونات نفسه العظيمة العامرة بالايمان والمثل العليا، وأفاض عليه آداب الاسلام وعلوم القرآن والحديث والفضائل الاخلاقية، ولم يمنعه أي فيض من فيوضاته، فعلمه الزراعة والفروسية والرماية والمجالدة بالسيف، وشركه في حروبه الثلاثة - الجمل وصفين والنهروان - فعلّمه

__________________

(١) انظر العباس رائد الكرامة.

٨٩

على تجربة الحرب وخوض ساحات الوغى والمنون، حتى طار صيته في الآفاق، وصار العباس وشجاعته مثلاً تسير به الركبان، ويتحدّث به العرب في أنديتهم.

وفي الساعات الأخيرة من حياته الشريفة أخذ أمير المؤمنين عليه‌السلام يد العباس عليه‌السلام ووضعها في يد أخيه الحسين عليه‌السلام وأوصاهم بوصاياه المهمة.

العباس عليه‌السلام مع أخيه الحسين عليه‌السلام :

لما استشهد أمير المؤمنين عليه‌السلام انتقلت ودائع الامامة إلى ولده الحسن عليه‌السلام ، السبط الأكبر للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتلقّد شيعته وأهل بيته، بل والمسلمون جميعاً قلادة الاطاعة لإمام زمانهم عليه‌السلام .

وكان العباس عليه‌السلام واقفاً إلى جنب أخيه في الحربين مع معاوية، ثابت القدم، راسخ الايمان، مما أكسبه تجارب عظيمة، وخبرة كبيرة في جفاء القوم وخيانة رؤوسهم وقادتهم.

فلما اتخذ الامام عليه‌السلام قرار «الصلح» مع معاوية - بناءً على المصلحة وعملاً بالأمر الالهي - أطاعه العباس عليه‌السلام في ذلك وسلّم لأمر إمامه، ومضت عشرة سنوات في الهدوء الظاهر، والصمت المخيم على الموقف التزاماً بالصلح، وإطاعة للامام حتى استشهد الامام المجتبى عليه‌السلام .

فتمادى الأمويون بالشر، وظهرت خفايا نفوسهم المنطوية على الحقد والعداء لآل البيت، فقد مانعت عائشة ووقف مروان بكلّ صلف ودناءة ليحولوا دون أن يدفن سبط النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانته عند جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأوعزوا إلى عملائهم برمي جنازة الامام، فرموها بقسيّهم وسهامهم، وكادت الحرب أن تقع بين الهاشميين والأمويين، وأسرع أبو الفضل العباس إلى مناجرة الأمويين وتمزيقهم، ومدّ يده القوية إلى سيفه البتار، فمنعه أخوه الامام الحسين عليه‌السلام من القيام بأي عمل إمتثالاً لوصية أخيه حيث

٩٠

أوصاه بأن «لا يهراق في أمره ملء محجمة من دم»... ولو لا ذاك لانقض أبو الفضل على الحكام وأعوانهم وعائشة ومردتها.

وكان العباس يومها في الرابعة والعشرين من عمره، وهو يتمتع بكل هذه الهيبة والشجاعة والاقدام.

قاسماً بصارمه الصقيل وإنني

في غير صاعقة السما لا أقسم

لو لا القضا لمحا الوجود بسيفه

والله يقضي ما يشاء ويحكم

أبو الفضل مع أخيه الحسين عليه‌السلام :

بقي أبو الفضل العباس خلال فترة «الصلاح» مع معاوية ملتزماً بالمعاهدة إطاعة لامامه وامتثالاً لتكليفه، وكان طيلة فترة حياته مع أخيه حاضراً جاهزاً مطيعاً ممتثلاً لامام زمانه، ولم يؤثر عنه أنّه خاطبه ولا مرة واحدة بـ «أخي»، وإنّما كان يخاطبه بـ «مولاي» و «سيدي»، ولم يؤثر عنه أنّه عبّس وجهه إلا في وجوه الأعداء وكان ينقض كالصقر إذا ما سمع أمراً صادراً من إمامه الحسين عليه‌السلام ، فينفذه فوراً، وكان وفياً له حتى بعد شهادته.

فقد روي: أنّ ملكة الهند توسلت في حاجة لها بأبي الفضل العباس عليه‌السلام ونذرت إن قضى الله لها حاجتها أن تطلي منائر الروضة العباسية المباركة بالذهب، فقضى الله لها حاجتها ببركة أبي الفضل العباس عليه‌السلام ، فعزمت على أداء نذرها والوفاء بوعدها، فشدّت الرحال وتوجهت نحو المشاهد المشرفة والأعتاب المقدسة، وأخذت معها ذهباً كثيراً، واصطحبت معها مهندسين ماهرين بارعين.

فلما وصلت الملكة بموكبها إلى كربلاء المقدسة وعزمت على الشروع بتذهيب المنائر - إذ قد تمّ إعداد كلّ شيء من قبل - واستعد المهندسون والعمال لمباشرة أعمالهم في الصباح الباكر، وإذا بسادن الروضة العباسية المباركة يرى في نفس

٩١

الليلة - التي كان من المقرر أن يباشروا العمل في صبيحتها - في ما يرى النائم أبا الفضل العباس عليه‌السلام وهو يقول له - بما معناه -: إنّي لا أرضى بتذهيب منائر روضتي، فان منائر روضة سيدي الامام الحسين عليه‌السلام مذهّبة، ولا بد أن يكون ثمة فرق بين روضة العبد وروضة سيده.

وفي الصباح الباكر أقبل سادن الروضة العباسية المباركة وأخبرهم بما قاله أبو الفضل العباس عليه‌السلام وأدى رسالته اليهم، فكفوا عن العمل، وانفقوا الذهب الذي جاءت به الملكة على الفقراء والمعوزين بحساب أبي الفضل العباس (١) .

ويستفاد من هذه القصة أمران:

الأول: إنّ أدب أبي الفضل العباس عليه‌السلام ووفائه لأخيه الحسين عليه‌السلام لم يكن مقصوراً على أيام حياته، بل بقي كذلك حتى بعد شهادته، علماً لأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.

والثاني: إنّ الفقراء والمعوزين كانوا من الكثرة بمكان في ذلك الزمان، وقد شملتهم أفضال أبي الفضل العباس عليه‌السلام .

شجاعة أبي الفضل العباس عليه‌السلام :

الشجاعة من أسمى صفات الرجولة، وهي صفة الاعتدال التي يحدّها الجبن والتهور، فالشجاع لا يخاف ولا يتهور فيتعدى على حقوق الآخرين ويتجاوز حدودهم، والشجاع لا يقهر الآخرين تهوراً وظلماً، وكل عمل دني غير إنساني يصدر من أحد إنّما يكون منشاه الجبن أو التهور؛ لأن الشجاعة بمعناها الصحيح حدّ وسط، وملكة نفسانية أكدت عليها التعاليم والآداب الدينية، وهي منحة إلهية تنم عن قوة الشخصية وصلابتها وتماسكها أمام الأحداث، فلا تفاض على كلّ أحد، بل لا بد

__________________

(١) انظر الخصائص العباسية: ٢٢٩ في وفاء العباس عليه‌السلام .

٩٢

أن يكون أهلاً لها، تماماً كشجاعة أمير المؤمنين عليه‌السلام الربانية التي صرع بها عمرو ابن ودّ، وقلع بها باب خيبر، فلما سئل عنها قال: «بقوة رحمانية لا بقوة جسمانية».

وقد ورث أبو الفضل هذه الصفة الكريمة من أبيه الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي هو أشجع إنسان في دنيا الوجود (١) .

وقد علمه الامام عليه‌السلام وأدبه بآدابه وأفاض عليه من ذاته، ولم يكن العباس عليه‌السلام قد ورث الشجاعة وتعلمها من أبيه فحسب، وإنّما كان بطلاً ضرغاماً له مؤهلاته الجسدية أيضاً حيث كان ذا بسطة في الجسم، معروفاً بالقوة والبسالة، فكان شجاعاً ظاهراً وباطناً.

وهكذا هم بنو هاشم كبيرهم وصغيرهم، فكيف بأبي الفضل العباس الذي كان علماً في البطولات، لم يخالج قلبه خوف ولا رعب في الحروب التي خاضها مع أبيه، بل لقن الأعداء درساً جعلهم يعرفون سيفه بين السيوف، وهو لمّا يزل شاباً، كما أبدى من الشجاعة يوم الطف ما صار مضرب المثل على امتداد التاريخ، حيث برز أمام تلك القوى التي ملأت البيداء، فجبّن الشجعان، وأرعب قلوب عامة الجيش، فزلزلت الأرض تحت أقدامهم وخيّم عليهم الموت (٢) .

عبست وجوه القوم

والعباس فيهم ضاحك متبسم

قلب اليمين على الشمال

وغاص في الأوساط يحصد للرؤوس ويحطم

بطل تورث من أبيه شجاعة

فيها أنوف بني الضلالة ترغم

__________________

(١) كما ورث هذه الصفة من أخواله الذين تميزوا بهذه الظاهرة وعرفوا بين سائر الأحياء العربية (أنظر العباس رائد الكرامة: ٥٥).

(٢) انظر العباس رائد الكرامة: ٥٥.

٩٣

فروسية أبي الفضل العباس عليه‌السلام :

كان عبد المطلب من زعماء مكة قبل الاسلام، وكان في زمانه رجل يقال له «سيف بن ذي يزن» وكان من ملوك اليمن، فجمع عبد المطلب رؤساء قريش وقال: يا قوم إنّكم تحتاجون أن تخرجوا معي نحو «سيف بن ذي يزن» لتهنئته في ولايته...

فلما ذهبوا اليه استقبلهم بحفاوة وأكرم مثواهم وجعلهم في دار الضيافة.

وفي ذات يوم دعا عبد المطلب لوحده، واختلى به وقال لخدمه: تباعدوا عنا، فلم يبق في المجلس غير الملك وعبد المطلب وثالثهم ربّ العزة - تبارك وتعالى -.

فقال له الملك: يا أبا الحارث، إنّ من آرائي أو أفوض اليك علماً كنت كتمته عن غيرك أريد أن أضعه عندك، فانك موضع ذلك، وأريد أن تطويه وتكتمه إلى أن يظهره الله - تعالى -.

فقال عبد المطلب: السمع والطاعة للملك وكذا الظن بك.

فقال الملك: اعلم يا أبا الحارث إن بأرضكم غلاماً حسن الوجه والبدن جميل القد والقامة، بين كتفيه شامة، المبعوث من تهامة، أنبت الله - تعالى - على رأسه شجرة النبوة، وظللته الغمامة، صاحب الشفاعة يوم القيامة، مكتوب بخاتم النبوة على كتفيه سطران: «لا اله الا الله» والثاني «محمد رسول الله» والله - تعالى - أمات أمه وأباه، وتكون تربيته على جدّه وعمه، وإني وجدت في كتب بني إسرائيل صفته، أبين وأشرح من القمر بين الكواكب، وإني أراك جدّه.

فقال عبد المطلب: أنا جده أيها الملك.

فقال الملك: مرحباً بك وسهلاً يا أبا الحارث.

ثم قال له الملك: أشهدك على نفسي - يا أبا الحارث - إني مؤمن به وبما يأتي به من عند ربّه، ثم تأوّه «سيف» ثلاث مرات بأن يراه، فكان ينصره....

٩٤

ثم إنّ الملك أمر لكل واحد منهم ببدرة بيض، فحمل كلّ واحد منهم على دابة وبغل، وأمر لكلّ واحد منهم بجارية وغلام وثياب فاخرة، ولعبد المطلب بضعفي ما وهب لهم.

ثم دعا الملك بفرسه «العقاب» وبغلته «الشهباء» وناقته «العضباء» وقال: يا أبا الحارث؛ إنّ الذي أسلمه اليك أمانة في عنقك تحفظها إلى أن تسلمها إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقال له: إعلم أني ما طلبت على ظهر هذه الفرس شيئاً إلا وجدته، وما قصدني عدو وأنا راكب عليها إلّا نجاني الله - تعالى - منه، وأما البغلة فاني كنت أقطع بها الدكداك والجبال لحسن سيرها، ولا أنزل عنها ليلي ونهاري، فأمره أن يتحفظ ويجعلها لي تذكرة، وبلغه عني التحية الكثيرة.

فقال عبد المطلب: السمع والطاعة.

ثم ودعوه وخرجوا نحو الحرم حتى دخلوا مكة....

ثم إنّ عبد المطلب لما رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نزل عن مركوبة وعانقه وقبّل ما بين عينيه وقال له: إنّ هذا الفرس والبغلة والناقة أهداها اليك «سيف بن ذي يزن» ويقرأ عليك التحية الطبية.

ثم أمر أن يحمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على الفرس، فلمّا استوى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على ظهر الفرس انتشط وصهل صهيلاً شديداً فرحاً برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ونسب هذا الفرس (١) أنّه: عقاب بن ينزوب بن قابل بن بطال بن زاد الراكب بن الكفاح بن الجنح بن موج بن ميمون بن ريح... (٢) .

فكان عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله العقاب والمرتجز وذو الجناح، وكانت من جياد الخيل

__________________

(١) كانت الخيل العربية ولا زالت ذات أنسابه عريقة وأصيلة بحيث يحتفظ بشجرتها عند أصحابها عادة.

(٢) البحار ١٥ / ١٥٠ - ١٥١ والقصة مفصلة طويلة.

٩٥

المدربة على الحروب، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّما ركبها عادت قوية شابة بقوة الله وإعجاز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فلما توفي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انتقلت إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ومن ثم إلى السبطين عليهما‌السلام ومن ثم صار العقاب إلى أبي الفضل العباس، والمرتجز إلى علي الأكبر عليه‌السلام ، وذو الجناح إلى أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام .

وكان أبو الفضل العباس اذا ركب العقاب واقتحم الميدان أشرف على الجيش لطول قامته وارتفاع هامته.

الأمان:

قال أبو مخنف: لما كتب ابن زياد كتابه إلى عمر بن سعد بالتعجيل لحرب الحسين عليه‌السلام ، وقبضه شمر بن ذي الجوشن قام هو وعبد الله بن أبي المحل بن حزام الكلابي.

فقال عبد الله: أصلح الله الأمير؛ إنّ بني أختنا أم البنين: العباس وعبد الله وجعفر وعثمان مع الحسين عليه‌السلام ، فان رأيت أن تكتب لهم أماناً فعلت.

قال ابن زياد: نعم - ونعمة عين - فأمر كاتبه فكتب لهم أماناً...

فبعث به عبد الله بن أبي المحل مع مولى له يقال له «كزمان» (١) .

ولما قدم عليهم «كزمان» مولى عبد الله بن أبي المحل دعاهم فقال: هذا أمان بعث به خالكم.

فقال له الفتية: أقرأ خالنا السلام وقل له: أن لا حاجة لنا في أمانكم، أمان الله خير من أمان ابن سمية (٢) .

__________________

(١) مقتل أبي مخنف: ١٨٦ (مع الترجمة الفارسية).

(٢) مقتل أبي مخنف: ١٨٨.

٩٦

وفي اللهوف: وصاح شمر بأعلى صوته: أين بنو أختنا؟ أين العباس واخوته؟

فأعرضوا عنه فقال الحسين عليه‌السلام : أجيبوه ولو كان فاسقاً.

قالوا: ما شأنك وما تريد؟

قال: يا بني أختي أنتم آمنون لا تقتلوا أنفسكم مع الحسين والزموا طاعة أمير... يزيد.

فقال العباس: لعنك الله ولعن أمانك، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له، وتأمرنا أن ندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء (١) .

عشية اليوم التاسع:

وفي عشية اليوم التاسع من المحرم نادى عمر بن سعد: يا خيل الله اركبي وبالجنة أبشري، فركب الناس حتى زحف نحوهم بعد العصر، والحسين عليه‌السلام جالس أمام بيته محتبياً بسيفه، إذ خفق برأسه على ركبتيه، فسمعت أخته الضجة، فدنت من أخيها فقالت: يا أخي أما تسمع الأصوات قد اقتربت، فرفع الحسين عليه‌السلام رأسه فقال: إنّي رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الساعة في المنام فقال لي: إنّك تروح الينا، فلطمت أخته وجهها ونادت بالويل.

فقال لها الحسين عليه‌السلام : ليس لك الويل يا أخيه اسكتي رحمك الله.

ثم قال له العباس بن علي عليه‌السلام : يا أخي أتاك القوم.

فنهض ثم قال: يا عباس - اركب بنفسي أنت يا أخي - حتى تلقاهم وتقول لهم: مالكم وما بدالكم وتسألهم عما جاء بهم، فأتاهم العباس في نحو من عشرين فارساً، فيهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر.

فقال لهم العباس: ما بدالكم وما تريدون؟

__________________

(١) ابن نما: ٢٨، مقتل الحسين عليه‌السلام (للمقرم): ٢٠٩.

٩٧

قالوا: قد جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم.

فقال: فلا تعجلوا حتى ارجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم.

فوقفوا وقالوا: ألقه فاعلمه ثم القنا بما يقول لك.

فانصرف العباس راجعاً يركض إلى الحسين عليه‌السلام يخبره الخبر، ووقف أصحابه يخاطبون القوم ويعظونهم ويكفونهم عن قتال الحسين عليه‌السلام ، فجاء العباس إلى الحسين عليه‌السلام فأخبره بما قال القوم فقال عليه‌السلام : ارجع اليهم، فان استطعت أن تؤخرهم إلى غدوة، وتدفعهم عنا العشية لعلنا نصلّي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أنّي قد كنت أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار.

فمضى العباس إلى القوم، ورجع العباس واستمهلهم العشية، فتوقف ابن سعد وسأل من الناس، فقال عمرو بن الحجاج: سبحان الله لو كانوا من الديلم وسألوك هذا لكان ينبغي لك أن تجيبهم اليه.

فبعث عمر بن سعد إلى الحسين عليه‌السلام يقول: إنّا قد أجلناكم إلى غد فان استسلمتم سرحناكم إلى أميرنا عبيد الله بن زياد وإن أبيتم فلسنا تاريكيكم... (١) .

حارس خيام الحسين عليه‌السلام :

في معالي السبطين عن فخر المخدرات زينب عليها‌السلام قالت: لما كانت عاشوراء من المحرم خرجت من خيمتي لأتفقد أخي الحسين عليه‌السلام وأنصاره، وقد أفرد له خيمة، فوجدته جالساً وحده يناجي ربّه ويتلوا القرآن، فقلت في نفسي: أفي مثل هذه الليلة يترك أخي وحده، والله لأمضين أخوتي وبني عمومتي وأعاتبهم بذلك.

فأتيت إلى خيمة العباس فسمعت منها همهمة ودمدمة، فوقفت على ظهرها فنظرت فيها فوجدت بني عمومتي وأخوتي وأولاد اخوتي مجتمعين كالحلقة

__________________

(١) الارشاد (للمفيد): ٢٣٠، مقتل الحسين عليه‌السلام (للمقرم): ٢١١.

٩٨

وبينهم العباس ابن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهو جاث على ركبتيه كالأسد على فريسته، فخطب فيهم خطبة ما سمعتها إلّا من الحسين عليه‌السلام ، مشتملة بالحمد والثناء لله والصلاة والسلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثم قال في آخر خطبته: يا اخوتي وبني اخوتي وبني عمومتي إذا كان الصباح فما تقولون؟

فقالوا: الأمر اليك يرجع ونحن لا نتعدى لك قولك.

فقال العباس: إنّ هؤلاء - أعني الأصحاب - قوم غرباء، والحمل الثقيل لا يقوم إلّا بأهله، فاذا كان الصباح فأول من يبرز إلى القتال أنتم، نحن نقدمهم للموت لئلا يقول الناس: قدموا أصحابهم، فلما قتلوا عالجوا الموت بأسيافهم ساعة بعد ساعة.

فقامت بنو هاشم وسلّوا سيوفهم في وجه أخي العباس وقالوا: نحن على ما أنت عليه.

قالت زينب عليها‌السلام : فلما رأيت كثرة اجتماعهم وشدّة عزمهم وإظهار شيمتهم سكن قلبي وفرحت... (١) .

لقد قضى أبو الفضل العباس تلك الليلة في حراسة خيام الحسين عليه‌السلام ، فأطبق بجلاله وشهامته على الأجواء، حيث كانت ومضات سيفه البتار تسلب الليل سكونه، وعجز العدو على كثرتهم تلك الليلة عن القيام بأي حركة، بل سلب العباس النوم من عيونهم، كيف لا وهو شبل أسد الله وربيب علي المرتضى؟!

وهكذا قضى الحسين وأصحابه تلك الليلة بالمناجاة، ما بين قائم وقاعد، وراكع وساجد، ولهم في تلاوت القرآن دوي كدوي النحل، وأخلدن بنات النبي وعقائل الوحي والوصي، ومن معهن من الأطفال والصبية تلك الليلة إلى الاطمئنان والأمان؛ لأن الجميع كانوا في حماية العباس وحراسته.

__________________

(١) معالي السبطين ١ / ٣٤٠.

٩٩

لقاء بين زهير بن القين وأبي الفضل العباس عليه‌السلام :

ولما رجع العباس واخوته إلى الحسين وأعلموه بما أراده الماجن منهم، قام زهير بن القين إلى العباس وحدّثه بحديث.

فقال له: ألا أحدثك بحديث وعيته؟!

قال العباس عليه‌السلام : بلى حدثني به.

قال زهير: اعلم يا أبا الفضل إنّ أباك أمير المؤمنين عليه‌السلام طلب من أخيه عقيل - وكان عارفاً بأنساب العرب وأخبارها - أن يختار له امرأة ولدتها الفحولة من العرب وذوو الشجاعة منهم؛ ليتزوجها فتلد له غلاماً فارساً شجاعاً ينصر الحسين بطف كربلاء، وقد ادخرك أبوك لمثل هذا اليوم فلا تقصر عن نصرة أخيك وحماية أخواتك.

فثارث غيرته الهاشمية وتفجرت همته العلوية، فتمطى في ركابه حتى قطعه وقال: يا زهير تشجعني هذا اليوم، فوالله لأرينك شيئاً ما رأيته (١) .

فجدل أبطالاً ونكس رايات في حالة لم يكن همه القتال ولا منازلة الأبطال، بل كان همه إيصال الماء إلى الأطفال، ولكن لا مردّ للقضاء ولا دافع للأجل المحتوم.

وقع العذاب على جيوش أمية

من باسل هو في الوقائع معلم

ما راعهم إلّا تقحم ضيغم

غيران يعجم لفظه ويدمدم

عبست وجوه القوم خوف الموت

والعباس فيهم ضاحك متبسم

قلب اليمين على الشماء وغاص في

الأوساط يحصد في الرؤوس ويحطم

قسماً بصارمه الصقيل وإنني

في غير صاعقة السما لا أقسم

لو لا القضا لمحا الوجود بسيفه

والله يقضي ما يشاء ويحكم (٢) .

__________________

(١) أنظر: الخصائص العباسية: ٢٤٧، مقتل الحسين (للمقرم): ٧٩٤.

(٢) الخصائص العباسية: ٢٤٩.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

والإدلال به، أمّا السرور به مع التواضع للّه تعالى، والشكر له على توفيقه لطاعتِه، فذلك ممدوحٌ ولا ضيرَ فيه.

مساوئ العجُب:

للعجُب أضرارٌ ومساوئ:

١ - إنّه سببُ الأنانيّة والتكبّر، فمَن أُعجِب بنفسه إزدهاه العُجُب، وتعالى على الناس، وتجبّر عليهم، وذلك يُسبّب مقت الناس وهوانهم له.

٢ - إنّه يعمي صاحبه عن نقائصه ومساوئه، فلا يهتم بتجميل نفسه، وملافاة نقائصه، ممّا يجعله في غمرة الجهل والتخلّف.

٣ - إنّه باعث على استكثار الطاعة، والإدلال بها، وتناسي الذنوب والآثام، وفي ذلك أضرارٌ بليغة، فتناسي الذنوب يُعيق عن التوبة والإنابة إلى اللّه عزّ وجل منها، ويعرّض ذويها لسخطِه وعقابه، واستكثار الطاعة والعبادة يكدّرها بالعُجب والتعامي عن آفاتها، فلا تنال شرف الرضا والقبول من المولى عزّ وجل.

علاج العُجُب:

وحيث كان العُجب والتكبر صنوين من أصل واحد، وإن اختلفا في الاتجاه، فالعجب كما أسلفنا استعظام النفس مجرداً عن التعالي، والتكبر

١٤١

هما معاً، فعلاجهما واحد، وقد أوضحناه في بحث التكبّر.

وجدير بالمعجَب بنفسه، أنْ يدرك أنّ جميع ما يبعثه على الزهو والإعجاب، من صنوف الفضائل والمزايا، إنّما هي نِعَمٌ إلهيّة يُسديها المولى إلى مَن شاء مِن عباده، فهي أحرى بالحمد، وأجدَر بالشكر مِن العُجب والخُيَلاء.

وهي إلى ذلك عُرضةً لصروف الأقدار، وعوادي الدهر، فما للإنسان والعجُب !!

ومِن طريف ما نُقِل عن بعض الصُلَحاء في ملافاة خواطر العجُب:

قيل: إنّ بعضهم خرَج في جُنح الظلام متّجهاً إلى بعض المشاهد المشرّفة، لأداء مراسم العبادة والزيارة، فبينا هو في طريقه إذ فاجأه العجُب بخروجه سَحَرَاً، ومجافاته لذّة الدفء وحلاوة الكَرى مِن أجل العبادة.

فلاح له آنذاك، بائع شلغم فانبرى نحوه، فسأله كم تربح في كسبك وعناء خروجك في هذا الوقت ؟ فأجابه: دِرهَمين أو ثلاث، فرجع إلى نفسه مخاطباً لها علام العجُب ؟ وقيمة إسحاري لا تزيد عن دِرهَمين أو ثلاث.

ونُقِل عن آخر: أنّه عمِل في ليلة القدر أعمالاً جمّةً مِن الصلوات والدعوات والأوراد، استثارت عُجُبه، فراح يُعالِجه بحكمةٍ وسداد: فقال لبعض المتعبّدين: كم تتقاضى على القيام بأعمال هذه الليلة، وهي كيت وكيت. فقال: نصف دينار، فرجع إلى نفسه مؤنّباً لها وموحياً إليها، علام العُجُب وقيمة أعمالي كلّها نصف دينار ؟

١٤٢

اليقين

وهو: الاعتقاد بأُصول الدين وضروراته، اعتقاداً ثابتاً، مطابقاً للواقع، لا تُزَعزِعه الشُبَه، فإنْ لم يُطابق الواقع فهو جهلٌ مركّب.

واليقين هو غرّة الفضائل النفسيّة، وأعزّ المواهب الإلهيّة، ورمز الوعي والكمال، وسبيل السعادة في الدارَين. وقد أولته الشريعة اهتماماً بالغاً ومجّدت ذويه تمجيداً عاطراً، وإليك طرفاً منه:

قال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ الإيمان أفضل من الإسلام، وإنّ اليقين أفضل من الإيمان، وما مِن شيءٍ أعزّ مِن اليقين )(١).

وقالعليه‌السلام : ( إنّ العمل الدائم القليل على اليقين، أفضل عند اللّه مِن العمل الكثير على غير يقين )(٢).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( مِن صحّة يقين المرء المسلم، أنْ لا يُرضي الناس بسخطِ اللّه، ولا يلومَهم على ما لم يأته اللّه، فإنّ الرزق لا يسوقه حِرصُ حريص، ولا يردّه كراهيّة كاره، ولو أنّ أحدَكم فرّ مِن رزقه كما يفرّ مِن الموت، لأدركه رِزقه كما يدركه الموت ).

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٢ ص ٥٧ عن الكافي.

(٢) البحار م ١٥ ج ٢ ص ٦٠ عن الكافي.

١٤٣

ثمّ قال: ( إنّ اللّه بعدلِه وقسطه جعَل الروح والراحة في اليقين والرضا، وجعل الهمّ والحُزن في الشكّ والسخط )(١).

وعنهعليه‌السلام قال: كان أمير المؤمنينعليه‌السلام يقول: ( لا يَجدُ عبدٌ طعمَ الإيمان، حتّى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليُخطئه، وأنّ ما أخطأه لم يَكن ليُصيبه، وأنّ الضارّ النافع هو اللّه تعالى )(٢).

وسُئل الامام الرضاعليه‌السلام عن رجلٍ يقول بالحقّ ويُسرف على نفسه، بشرب الخمر ويأتي الكبائر، وعن رجلٍ دونه في اليقين وهو لا يأتي ما يأتيه، فقالعليه‌السلام : ( أحسنهما يقيناً كالنائم على المحجّة، اذا انتبه ركبَها، والأدوَن الذي يدخله الشكّ كالنائم على غير طريق، لا يدري اذا انتبه أيّهما المحجّة )(٣).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله صلّى بالناس الصبح، فنظر إلى شابٍّ في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه، مصفرّاً لونه، قد نحُف جِسمه، وغارَت عيناه في رأسه، فقال له رسول اللّه: كيف أصبحت يا فلان ؟ قال: أصبحت يا رسول اللّه موقناً، فعجِب رسول اللّه مِن قوله، وقال له: إنّ لكلِّ يقينٍ حقيقة، فما حقيقة يقينك ؟

فقال: إنّ يقيني يا رسول اللّه، هو الذي أحزَنني، وأسهرَ ليلي، وأظمأ هواجري، فعزِفَت نفسي عن الدنيا وما فيها، حتّى كأنّي أنظر إلى

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٥٤ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٥٤ عن الكافي.

(٣) سفينة البحار ج ٢ ص ٧٣٤ عن فقه الرضا.

١٤٤

عرش ربّي، وقد نصب للحساب، وحُشر الخلائق لذلك، وأنا فيهم، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة يتنعّمون في الجنّة ويتعارفون، على الأرائك متّكئون، وكأنّي أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذَّبون، مصطفون، وكأنّ الآن استمع زفير النار يدور في مسامعي.

فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأصحابه: هذا عبدٌ نوّر اللّه قلبَه بالإيمان، ثُمّ قال له: إلزَم ما أنت عليه، فقال الشاب: أدع اللّه لي يا رسول اللّه أنْ أُرزق الشهادةَ معك، فدعا له رسول اللّه فلم يلبث أنْ خرَج في بعض غزَوَات النبيّ فاستُشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر )(١).

خصائص الموقنين:

متى ازدهرت النفس باليقين، واستنارت بشُعاعِه الوهّاج، عكَسَت على ذويها ألواناً مِن الجمال والكمال النفسيَّين، وتسامت بهم إلى أوجٍّ روحيٍّ رفيع، يتألّقون في آفاقه تألُّق الكواكب النيّرة، ويتميّزون عن الناس تميّز الجواهر الفريدة مِن الحصا.

فمَن أبرَز خصائصهم ومزاياهم، أنَك تجدهم دائبين في التحلّي بمكارم الأخلاق، ومحاسن الأفعال، وتجنّب رذائلها ومساوِئها، لا تخدعهم زخارف الحياة، ولا تُلهيهم عن تصعيد كفاءاتهم ومؤهّلاتهم الروحيّة لنيل الدرجات الرفيعة، والسعادة المأمولة في الحياة الاخرويّة، فهم متفانون في طاعة اللّه

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٣٣ عن الكافي.

١٤٥

عزّ وجل، ابتغاء رضوانه، وحسن مثوبته، متوكّلون عليه، في سرّاء الحياة وضرّائها، لا يرجون ولا يخشون أحداً سِواه، ليقينهم بحسن تدبيره وحكمة أفعاله.

لذلك تُستجاب دَعَواتهم، وتظهر الكرامات على أيديهم، وينالون شرف الحظوة والرعاية مِن اللّه عزّ وجل.

درجات الايمان:

ويحسن بي وأنا أتحدّث عن اليقين أنْ أعرض طَرفاً مِن مفاهيم الإيمان ودرجاته، وأنواعه إتماماً للبحث وتنويراً للمؤمنين.

يتفاضل الناس في درجات الإيمان تفاضلاً كبيراً، فمنهم المجلّي السباق في حلَبة الايمان، ومنهم الواهن المتخلف، ومنهم بين هذا وذاك كما صوّرته الرواية الكريمة:

قال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ الايمان عشر درجات، بمنزلة السُلّم، يُصعَد منه مرقاةً بعد مرقاة، فلا يقولنّ صاحب الاثنين لصاحب الواحد لَستَ على شيء، حتّى ينتهي إلى العاشرة، فلا تُسقط مَن هو دونك، فيسقطك مَن هو فوقَك، وإذا رأيت مَن هو أسفل منك بدرجة فارفعه إليك برفق، ولا تحملَنّ عليه ما لا يطيق فتكسِره، فإنّ مَن كسَر مؤمناً فعليه جبْرُه )(١).

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٣٠ عن الكافي.

١٤٦

أنواع الايمان:

ينقسم الايمان الى ثلاثة أنواع: فطريّ، ومستَودَع، وكَسْبي.

١ - فالفطريّ: هو ما كان هِبةً إلهيّة، قد فطر عليه الإنسان، كما في الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام ، فإنّهم المثلُ الأعلى في قوّة الإيمان، وسموّ اليقين، لا تخالجهم الشكوك، ولا تعروهم الوساوس.

٢ - المستودَع: وهو ما كان صوريّاً طافياً على اللسان، سرعان ما تزعزعه الشبَه والوساوِس، كما قال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ العبد يصبح مومناً، ويُمسي كافراً، ويصبح كافراً، ويُمسي مؤمناً، وقوم يعارون الإيمان ثُمّ يلبسونه، وُيسَمَّون المُعارين )(١).

وقالعليه‌السلام : ( إنّ اللّه تعالى جبَل النبييّن على نبوّتهم، فلا يرتدّون أبداً، وجَبَل الأوصياء على وصاياهم فلا يرتدّون أبداً، وجبل بعض المؤمنين على الإيمان فلا يرتدّون أبداً، ومنهم مَن أُعير الإيمان عاريةً، فاذا هو دعا وألحّ في الدعاء مات على الإيمان )(٢).

وهكذا تعقّب الامام الصادقعليه‌السلام على حديثَيه السالفَين بحديثٍ ثالثٍ بجعلِه مِقياساً للتمييز بين الإيمان الثابت من المستودع، فيقول: ( إنّ الحسرة والندامة والويل كلّه لِمَن لم ينتفع بما أبصره، ولم يدرِ ما الأمر الذي هو عليه مقيم، أنفْعٌ له أم ضرّ )، قلت ( الراوي ): فَبِم يُعرَف الناجي مِن هؤلاء جُعِلت فداك ؟

_____________________

(١)، (٢) الوافي ج ٣ ص ٥٠ عن الكافي.

١٤٧

قال: ( مَن كان فعله لقوله موافقاً، فأثبتُ له الشهادةَ بالنجاة، ومن لم يكن فعله لقوله موافقاً، فإنما ذلك مستودع»(١).

٣ - الكَسْبي: وهو الايمان الفطري الطفيف الذي نمّاه صاحبه واستزاد رصيده حتى تكامل وسمى الى مستوى رفيع، وله درجات ومراتب.

وإليك بعض الوصايا والنصائح الباعثة على صيانة الجُزء الفطريّ مِن الإيمان، وتوفير الكسبي منه:

١ - مصاحبة المؤمنين الأخيار، ومجانبة الشقاة والعصاة، فإنّ الصاحب متأثّر بصاحبه ومُكتسِب مِن سلوكه وأخلاقه، كما قال الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( المرء على دين خلِيله، فلينظر أحدُكم مَن يُخالِل ).

٢ - ترك النظر والاستماع إلى كتب الضلال، وأقوال المضلّين، المولَعين بتسميم أفكار الناس وحَرْفِهم عن العقيدة والشريعة الإسلاميّتين، وإفساد قِيم الإيمان ومفاهيمه في نفوسهم.

٣ - ممارسة النظر والتفكّر في مخلوقات اللّه عزّ وجل، وما اتّصفت به مِن جميلِ الصنع، ودقّة النظام، وحكمة التدبير، الباهرة المدهشة:( وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) (٢).

٤ - ومن موجبات الإيمان وتوفير رصيده، جهاد النفس، وترويضها على طاعة اللّه تعالي، وتجنّب معاصيه، لتعمر النفس بمفاهيم الإيمان، وتُشرِق بنوره الوضّاء، فهي كالماء الزلال، لا يزال شفافاً رِقراقاً، ما لم تُكدّره

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٥٠ عن الكافي.

(٢) الذاريات (٢٠ - ٢١ ).

١٤٨

الشوائب فيغدو آنذاك آسِناً قاتِماً لا صفاءَ فيه ولا جمال. ولولا صدَأ الذنوب، وأوضار الآثام التي تنتاب القُلوب والنفوس، فتجهّم جمالها وتخبّئ أنوارها، لاستنار الأكثرون بالإيمان، وتألّقت نفوسُهم بشُعاعِه الوهّاج:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) (١).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إذا أذنَب الرجل خرَج في قلبه نُكته سَوداء، فإنْ تاب انمحت، وإنْ زاد زادت، حتّى تغلّب على قلبه فلا يفلح بعدها أبداً )(٢).

_____________________

(١) الشمس ( ٧ - ١٠ ).

(٢) الوافي ج ٣ ص ١٦٧ عن الكافي.

١٤٩

الصبر

وهو: احتمال المكاره مِن غير جزَع، أو بتعريفٍ آخر هو: قَسر النفس على مقتضيات الشرع والعقل أوامِراً ونَواهياً، وهو دليل رَجاحة العقل، وسِعة الأفق، وسموّ اخلق، وعظمة البطولة والجَلَد، كما هو معراج طاعة اللّه تعالى ورضوانه، وسبَب الظفَر والنجاح، والدرع الواقي من شماتة الأعداء والحسّاد.

وناهيك في شرف الصبر، وجلالة الصابرين، أنّ اللّه عزّ وجل، أشاد بهما، وباركهما في نَيف وسبعين موطناً من كتابه الكريم:

بشّر الصابرين بالرضا والحبّ، فقال تعالى:( وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ) (١).

ووعدهم بالتأييد:( وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (٢) .

وأغدق عليهم ألوان العناية واللطف:( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ*

____________________

(١) آل عمران: ١٤٦.

(٢) الأنفال: ٤٦.

(٣) الزمر: ١٠.

١٥٠

الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (١).

وهكذا تواترت أخبار أهل البيتعليهم‌السلام في تمجيد الصبر والصابرين.

قال الصادقعليه‌السلام :

( الصبرُ مِن الإيمان بمنزلة الرأس مِن الجسَد، فإذا ذهَب الرأس ذهَب الجسَد، وكذلك إذا ذهَب الصبر ذهَب الإيمان )(٢).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( الجنّة محفوفةٌ بالمكاره والصبر، فمَن صبَر على المكاره في الدنيا دخل الجنّة، وجهنّم محفوفةٌ باللذات والشهَوات، فمَن أعطى نفسه لذّتها وشهَوتها دخل النار )(٣).

وقالعليه‌السلام : ( لمّا حضَرت أبي الوفاة ضمّني إلى صدره، وقال: يا بُني، إصبر على الحقّ وإنْ كان مرّاً، تُوفّ أجرك بغير حساب )(٤).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( مَن ابتُليَ مِن المؤمنين ببلاءٍ فصبَر عليه، كان له أجرُ ألف شهيد )(٥).

_____________________

(١) البقرة: ( ١٥٥ - ١٥٧ ).

(٢) الوافي: ( ج ٣ ص ٦٥ عن الكافي ).

(٣) الوافي: ( ج ٣ ص ٦٥ عن الكافي ).

(٤) الوافي: ( ج ٣ ص ٦٥ عن الكافي ).

(٥) الوافي ج ٣ ص ٦٦ عن الكافي ).

١٥١

ورُبَّ قائلٍ يقول: كيف يُعطى الصابر أجرَ ألف شهيد، والشهداء هُم أبطال الصبر على الجهاد والفداء ؟

فالمراد: أنّ الصابر يستحقّ أجر أُولئك الشهداء، وإنْ كانت مكافأتهم وثوابهم على اللّه تعالى أضعافاً مضاعفة عنه.

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( من لم يُنجه الصبر، أهلكه الجزع )(١).

أقسام الصبر

ينقسم الصبر باعتبار ظروفه ومقتضياته أقساماً أهمّها:

(١) الصبر على المكاره والنوائب:

وهو أعظم أقسامه، وأجلّ مصاديقه الدالّة على سموّ النفس، وتفتح الوعي، ورباطة الجأش، ومضاء العزيمة.

فالإنسان عرضةً للمآسي والارزاء، تنتابه قسراً واعتباطاً، وهو لا يملك إزائها حولاً ولا قوّة، وخير ما يفعله المُمتَحَن هو التذرّع بالصبر، فإنّه بلسم القلوب الجريحة، وعزاء النفوس المعذّبة.

ولولاه لانهار الإنسان، وغدا صريع الأحزان والآلام، من أجلّ ذلك حرّضت الآيات والأخبار على التحلّي بالصبر والاعتصام به:

قال تعالى:( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا

_____________________

(١) نهج البلاغة.

١٥٢

لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) (١).

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( إنْ صبَرت جرى عليك القدَر وأنت مأجور، وإنْ جزعت جرى عليك القَدرُ، وأنت مأزور )(٢).

وممّا يجدر ذكره أنّ الصبر الجميل المحمود، هو الصبر على النوائب التي لا يستطيع الإنسان دفعها والتخلّص منها، كفقد عزيز، أو اغتصاب مال، أو اضطهاد عدوّ.

أمّا الاستسلام للنوائب، والصبر عليها مع القدرة على درئها وملافاتها فذلك حُمقٌ يستنكره الإسلام، كالصبر على المرَض وهو قادر على علاجه، وعلى الفقر وهو يستطيع اكتساب الرزق، وعلى هضم الحقوق وهو قادرٌ على استردادها وصيانتها.

ومِن الواضح أنّ ما يجرّد المرء مِن فضيلة الصبر، ويخرجه عن التجلّد، هو الجزَع المُفرِط المؤدّي إلى شقّ الجيوب، ولطم الخدود، والإسراف في الشكوى والتذمّر.

أمّا الآلام النفسيّة، والتنفيس عنها بالبكاء، أو الشكاية مِن متاعب المرض وعنائه فإنّها مِن ضرورات العواطف الحيّة، والمشاعر النبيلة، كما قالصلى‌الله‌عليه‌وآله عند وفاة ابنه ابراهيم: ( تدمع العين، ويَحزَن القلب، ولا نقول ما يُسخِط الربّ ).

_____________________

(١) البقرة ( ١٥٥ - ١٥٧ ).

(٢) نهج البلاغة.

١٥٣

وقد حكت لنا الآثار طرَفاً رائعاً ممتعاً من قصص الصابرين على النوائب، ممّا يبعث على الإعجاب والإكبار، وحُسن التأسّي بأُولئك الأفذاذ.

حُكي أنّ كسرى سخَط على ( بزرجمهر ): فحبَسه في بيتٍ مظلم، وأمَر أنْ يُصفّد بالحديد، فبقيّ أيّاماً على تلك الحال، فأرسل إليه مَن يسأله عن حاله، فإذا هو منشرح الصدر، مطمئنّ النفس، فقالوا له: أنت في هذه الحالة مِن الضيق ونراك ناعم البال. فقال: اصطنعت ستّة أخلاط وعجنتها واستعملتها، فهي التي ابقتني على ما ترون.

قالوا: صِف لنا هذه لعلّنا ننتفع بها عند البلوى، فقال: نعم.

أمّا الخَلط الأوّل: فالثقة باللّه عزّ وجل.

وأمّا الثاني: فكلّ مقدرٍّ كائن.

وأمّا الثالث: فالصبرُ خير ما استعمله الممتَحن.

وأمّا الرابع: فإذا لم أصبر فماذا أصنع، ولا أعين على نفسي بالجزَع.

وأمّا الخامس: فقد يكون أشدّ ممّ أنا فيه.

وأمّا السادس، فمِن ساعة إلى ساعة فرج.

فبلغ ماقاله كسرى فأطلقه وأعزّه(١).

وعن الرضا عن أبيه عن أبيهعليهم‌السلام قال: ( إنّ سليمان بن داود قال ذات يوم لأصحابه: إنّ اللّه تبارك وتعالى قد وهَب لي مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ مِن بعدي: سخّر لي الريح، والإنس، والجنّ، والطير، والوحش، وعلّمني منطق الطير، وآتاني مِن كلّ شيء، ومع جميع ما أوتيتُ

_____________________

(١) سفينه البحار ج ٢ ص ٧.

١٥٤

مِن الملك ما تمّ لي سرورٌ يوم إلى الليل، وقد أحبَبت أنْ أدخل قصري في غد، فأصعَد أعلاه، وأنظر إلى ممالِكي، فلا تأذنوا لأحدٍ عليّ لئلاّ يردّ عليّ ما ينغّص عليّ يومي. قالوا: فلمّا كان من الغد أخذ عصاه بيده، وصعد إلى أعلى موضع قصره، ووقَف متّكئاً على عصاه ينظر إلى ممالكه مسروراً بما أُوتي، فرِحاً بما أعطي، اذ نظر إلى شابٍّ حسن الوجه واللباس قد خرَج عليه مِن بعض زوايا قصره، فلمّا بصر به سليمانعليه‌السلام ، قال له: من أدخَلك إلي هذا القصر، وقد أردت أنْ أخلو فيه اليوم، فبإذن مَن دخلت ؟

فقال الشاب: أدخلني هذا القصر ربّه، وبإذنه دخلت.

فقال: ربّه أحقّ به منّي، فمَن أنت ؟

قال: أنا ملَك الموت، قال: وفيما جئت ؟

قال: جئت لأقبض روحك.

قال: إمض لِما أُمِرت به، فهذا يومُ سروري، وأبى اللّه أنْ يكون لي سرور دون لقائه. فقبض ملك الموت روحه وهو متّكئ على عصاه...)(١) .

_____________________

(١) سفينة البحار ج ١ ص ٦١٤ عن عيون أخبار الرضا.

١٥٥

(٢) الصبر على طاعة اللّه والتصبّر عن عصيانه:

مِن الواضح أنّ النفوس مجبولةٌ على الجُموح والشرود مِن النُّظُم الإلزاميّة والضوابط المحدّدة لحُريّتها، وانطلاقها في مسارح الأهواء والشهَوات، وإنْ كانت باعثةً على إصلاحها وإسعادها.

فهي لا تنصاع لتلك النظُم، والضوابط، إلاّ بالإغراء، والتشويق، أو الإنذار والترهيب. وحيث كانت ممارسة طاعة اللّه عزّ وجل، ومجافاة عصيانه، شاقّين على النفس، كان الصبر على الطاعة والتصبّر عن المعصية من أعظم الواجبات، وأجلّ القُرُبات.

وجاءت الآيات الكريمة وأحاديث أهل البيتعليهم‌السلام مشوّقة إلى الأُولى ومحذّرة مِن الثانية بأساليبها الحكيمة البليغة:

قال الصادقعليه‌السلام : ( اصبروا على طاعة اللّه، وتصبّروا عن معصيته، فإنّما الدنيا ساعة، فما مضى فلستَ تجِد له سروراً ولاحزناً، وما لم يأتِ فلست تعرفه، فاصبر على تلك الساعة، فكأنّك قد اغتبطت )(١).

وقالعليه‌السلام : ( إذا كان يوم القيامة، يقوم عُنقٌ مِن الناس، فيأتون باب الجنّة فيضربونه، فيُقال لهم: مَن أنتم ؟ فيقولون: نحن أهل

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٦٣ عن الكافي.

١٥٦

الصبر. فيُقال لهم: على ما صبرتم ؟ فيقولون: كنّا نصبر على طاعة اللّه، ونصبر عن معاصي اللّه، فيقول اللّه تعالى: صدَقوا أدخلوهم الجنّة، وهو قوله تعالى:( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) ( الزمر: ١٠ )(١)

وقالعليه‌السلام :

( الصبر صبران: فالصبر عند المصيبة، حَسَنٌ جميل، وأفضل مِن ذلك الصبر عمّا حرّم اللّه عزّ وجل، ليكون لك حاجزاً )(٢).

(٣) الصبر على النِّعَم:

وهو: ضبط النفس عن مسوّلات البطَر والطُّغيان، وذلك من سِمات عظمة النفس، ورجاحة العقل، وبُعد النظر.

فليس الصبر على مآسي الحياة وأرزائها بأَولى مِن الصبر على مسرّاتها وأشواقها، ومفاتنها، كالجاه العريض، والثراء الضخم، والسلطة النافذة، ونحو ذلك. حيث إنّ إغفال الصبر في الضرّاء يفضي إلى الجزع المدمّر، كما يؤدّي إهماله في السرّاء إلى البطَر والطغيان:( إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ) ( العلق: ٦ - ٧ ) وكلاهما ذميمٌ مقيت.

والمراد بالصبر على النِّعَم هو: رعاية حقوقها، واستغلالها في مجالات

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٦٥ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٦٥ عن الفقيه.

١٥٧

العطف والإحسان المادّية، أو المعنويّة: كرعاية البؤساء، وإغاثة المُضطهدين، والاهتمام بحوائج المؤمنين، والتوقّي مِن مزالق البطَر والتجبّر.

وللصبر أنواعٌ عديدةٌ أٌخرى:

فالصبر في الحرب: شجاعة، وضدّه الجُبْن.

والصبر عن الانتقام: حِلم، وضدّه الغضب.

والصبر عن زخارف الحياة: زُهد، وضدّه الحِرص.

والصبر على كتمان الأسرار: كتمان، وضدّه الإذاعة والنشر.

والصبر على شهوَتَيّ البطن والفرج: عفّة، وضدّه الشرَه.

فاتّضح بهذا أنّ الصبر نظام الفضائل، وقُطبها الثابت، وأساسها المكين.

محاسن الصبر:

نستنتج من العرض السالف أنّ الصبرَ عِماد الفضائل، وقُطب المكارم، ورأس المفاخر.

فهو عصمة الواجد الحزين، يخفّف وَجده، ويلطّف عناءه، ويمدّه بالسكينة والاطمئنان.

وهو ظمانٌ من الجزَع المدمّر، والهلَع الفاضح، ولولاه لانهار المصاب، وغدا فريسة العلل والأمراض، وعرضة لشماتة الأعداء والحسّاد.

وهو بعد هذا وذاك الأمل المرجّى فيما أعدّ اللّه للصابرين، من عظيم المكافآت، وجزيل الأجر والثواب.

١٥٨

كيف تكسب الصبر:

وإليك بعض النصائح الباعثة على كسب الصبر والتحلّي به:

١ - التأمّل في مآثر الصبر، وما يفيء على الصابرين من جميل الخصائص، وجليل العوائد والمنافع في الحياة الدنيا، وجزيل المثوبة والأجر في الآخرة.

٢ - التفكّر في مساوئ الجزَع، وسوء آثاره في حياة الإنسان، وأنّه لا يشفي غليلاً، ولا يردُّ قضاءً، ولا يُبدّل واقعاً، ولاينتج إلاّ بالشقاء والعناء. يقول ( دليل كارنيجي ): ( لقد قرأتُ خلال الأعوام الثمانية الماضية كلّ كتاب، وكلّ مجلّة، وكلّ مقالة عالجت موضوع القلَق، فهل تريد أنْ تعرف أحكَم نصيحة، وأجداها خرجْتُ بها مِن قراءتي الطويلة ؟ إنّها: ( إرض بما ليس منه بدّ ).

٣ - تفهم واقع الحياة، وأنّها مطبوعة على المتاعب والهموم:

طبعت على كدر وأنت تريدها

صفواً مِن الأقذار والأكدار

فليست الحياة دار هناء وارتياح، وإنّما هي: دار اختبار وامتحان للمؤمن، فكما يُرهق طلاّب العلم بالامتحانات إستجلاء لرصيدهم العلمي، كذلك يُمتحن المؤمن إختباراً لأَبعاد إيمانه ومبلغ يقينه.

قال تعالى:( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ

١٥٩

الكاذبين ) ( العنكبوت: ٢ - ٣ ).

٤ - الاعتبار والتأسّي بما عاناه العظماء، والأولياء، من صنوف المآسي والأرزاء، وتجلّدهم فيها وصبرهم عليها، في ذات اللّه، وذلك من محفّزات الجلَد والصمود.

٥ - التسلية والترفيه بما يُخفّف آلام النفس، ويُنَهنِه عن الوجد: كتغير المناخ، وإرتياد المناظر الجميلة، والتسلّي بالقصَص الممتعة، والأحاديث الشهيّة النافعة.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378