أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين15%

أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 378

أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين
  • البداية
  • السابق
  • 378 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 165791 / تحميل: 9106
الحجم الحجم الحجم
أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

أمّ البنين عليها السلام النّجم الساطع في مدينة النبيّ الأمين

مؤلف:
الناشر: مؤسسة دارِ الكتاب الإسلامي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

وفاء

أم البنين عليها‌السلام وابناؤها

أم البنين وشهادة زوجها أمير المؤمنين عليه‌السلام :

كان أمير المؤمنين عليه‌السلام دائم السهر في طاعة الله، أحيى ليالي عمره الشريف بالمناجاة مع خالق البريات... بيد أنّ لسهره ليلة التاسع عشر من شهر رمضان نكهة خاصة، فقد سهر في تلك الليلة فأكثر الخروج والنظر إلى السماء وهو يقول: «والله ما كذبت ولا كذبت وإنّها الليلة التي وعدت بها».

وكأنّ أم البنين عليها‌السلام ترقب الموقف بقلب واجف وجل وتقول لأمير المؤمنين عليه‌السلام : ماذا حدث لك يا أمير المؤمنين، أهذه الليلة من ليالي القدر التي وعدت؟

فيجيبها الامام عليه‌السلام : أوصيك بولدك العباس لا يتركن أخاه الحسين يوم يبقى وحيداً فريداً لا ناصر له ولا معين.

فلما طلع الفجر فقام يخرج فاستقبله الأوز فصحن في وجهه فقال: دعوهن فانهن صوائح تتبعها نوائح، وتعلقت حديدة على الباب في مئزره فشدّ إزاره وهو يقول:

أشدد حياز يمك للموت فان الموت لاقيك

ولا تجزع من الموت إذا حلّ بواديك (١)

__________________

(١) البحار ٤٢ / ٢٣٨.

٨١

فلما وصل إلى المسجد راح يصلي بخشوع وخضوع، واذا بسيف ابن ملجم المرادي المسموم يفرق هامته الشريفة ويرتفع صوت الامام عليه‌السلام : «فزت ورب الكعبة» (١) .

وارتفع صوت جبرئيل بين السماء والارض هاتفاً: «تهدمت والله أركان الهدى وانفصمت العروة الوثقى.. قتل علي المرتضى» (٢) .

وكأنّ أم البنين عليها‌السلام ارتفعت صرختها: يا وارث الأنبياء، ولا سيد الأوصياء، ويا إمام الدين، ويا خير الساجدين، ويا مولى الموحدين... يا علي، يا أمير المؤمنين.

قال الواقدي: قتل علي عليه‌السلام وترك أربع حرائر: أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وليلى التميمية، وأم البنين الكلابية، وأسماء بنت عميس (٣) .

أم البنين عليها‌السلام لم تتزوج بعد أمير المؤمنين عليه‌السلام :

تزوج أمير المؤمنين عليه‌السلام من فاطمة ابنة حزام العامرية إما بعد وفاة الصديقة سيدة النساء، كما يراه بعض المؤرخين (٤) ، أو بعد أن تزوج بأمامة بنت زينب بنت رسول الله، كما يراه البعض الآخر (٥) ، وهذا بعد وفاة الزهراء عليها‌السلام لأنّ الله قد حرم النساء على علي عليه‌السلام ما دامت فاطمة موجودة (٦) .

فولدت أربعة بنين وأنجبت بهم: العباس، وعبد الله، وجعفر، وعثمان.

وعاشت بعده عليه‌السلام مدة طويلة، ولم تتزوج من غيره، كما أن أمامة وأسماء بنت

__________________

(١) البحار ٤٢ / ٢٣٩.

(٢) البحار ٤٢ / ٢٨٢.

(٣) تذكرة الخواص: ١٦٨.

(٤) الطبري ٦ / ٨٩، ابن الاثير ٣ / ١٥٨، أبو الفداء ١ / ١٨١.

(٥) المناقب لابن شهر آشوب ٢ / ١١٧، مطالب السؤول ٦٣، الفصول المهمة ١٤٥، الاصابة ٤ / ٣٦ ترجمة أمامة.

(٦) المناقب لابن شهر آشوب ٢ / ٩٣.

٨٢

عميس وليلى لم يخرجن إلى أحد بعده، وهذه الأربع حرائر توفي عنهم سيد الوصيين (١) .

وقد خطب المغيرة بن نوفل أمامة ثم خطبها أبو الهياج بن أبي سفيان بن الحارث، فامتنعت وروت حديثاً عن علي عليه‌السلام أن أزواج النبي والوصي لا يتزوجن بعده، فلم يتزوجن الحرائر وأمهات الأولاد عملاً بالرواية (٢) .

وكانت أم البنين من النساء الفاضلات العارفات بحق أهل البيت عليهم‌السلام ، مخلصة في ولائهم، ممحضة في مودتهم (٣) ، وقد بقيت وفية لزوجها بعد استشهاده كما كانت وفية له في حياته.

وقد توفى عنها أمير المؤمنين عليه‌السلام وكان أكبر أولادها العباس لم يبلغ الخامسة عشرة من عمره، حيث تلفع هو وأخوته الصغار بغبار اليتم وذاقوا مرارة فقد الأب وهم في مقتبل العمر.

أم البنين عليها‌السلام ورعايتها لسبطي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

قامت السيدة أم البنين برعاية سبطي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانتيه وسيد شباب أهل الجنة الحسن والحسين عليه‌السلام ، وقد وجدا عندها من العطف والحنان ما عوضهما من الخسارة الأليمة التي مُنيا بها بفقد أمها سيدة نساء العالمين، فقد توفيت وعمرها كعمر الزهور، فترك فقدها اللوعة والحزن في نفسيهما.

لقد كانت السيدة أم البنين تكن في نفسها من المودة والحب للحسين والحسين عليهما‌السلام ما لا تكنّه لأولادها اللذين كانوا ملء العين في كمالهم وآدابهم.

__________________

(١) كشف الغمة: ٣٢، الفصول المهمة: ١٤٥، المناقب لابن شهر آشوب ٢ / ٧٦، مطالب السؤول: ٦٣.

(٢) المناقب (لابن شهر آشوب) ٢ / ٧٦.

(٣) العباس (للمقرم): ١٣٢ - ١٣٣.

٨٣

لقد قدّمت أم البنين أبناء رسول الله على أبنائها في الخدمة والرعاية، ولم يعرف التاريخ أنّ شريكة تخلص لأبناء شريكتها وتقدّمهم على أبنائها سوى هذه السيدة الزكية، فقد كانت ترى ذلك واجباً دينياً لأن الله أمر بمودتهما في كتابه الكريم فقال تعالى: ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) (١) وهما وديعتا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانتاه، وقد عرفت أم البنين ذلك فوفت بحقهما وقامت بخدمتهما خير قام (٢) .

روي أنها لما زفت إلى بيت الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام وجدت الامامين الحسن والحسين عليهما‌السلام مريضين، فأخذت تمرضهما وتقوم برعايتهما، وتلاطفهما في القول، وتطيب ليهما الكلام، حتى عوفيا من مرضهما وبرئا من علتهما.

ثم إنّها - على ما قيل - طلبت من الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام أن يعهد إلى أهل بيته بأن لا يدعوها أحد بعد ذلك باسمها «فاطمة»، مخافة أن يتذكر أبناء فاطمة الزهراء عليها‌السلام أمهم فيتجدّد حزنهم ويلكأ جرح مصابهم، فتثار أشجانهم وتعود اليهم ذكرياتهم، فدعاها أمير المؤمنين بـ «أم البنين» (٣) .

* * *

__________________

(١) سورة الشورى: الآية ٢٣.

(٢) العباس رائد الكرامة: ٢٧.

(٣) أنظر: الخصائص العباسية: ٢٥.

٨٤

أبناء أم البنين عليها‌السلام

تزوج أمير المؤمنين عليه‌السلام فاطمة ابنة حزام العامرية، وكانت واحدة من الحرائر الأربع اللواتي توفي عنهن سيد الوصيين، فولدت له أربعة بنين وأنجبت بهم: العباس وعبد الله وجعفر وعثمان... استشهدوا جميعاً بين يدي الحسين عليه‌السلام في كربلاء.

العباس بن أمير المؤمنين:

ولد سنة ست وعشرين من الهجرة وكان يلقّب في زمنه «قمر بني هاشم» ويكنى «أبا الفضل».

روي عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام أنّه قال: كان عمّنا العباس بن علي نافذ البصيرة، صلب الايمان، جاهد مع أبي عبد الله عليه‌السلام وأبلى بلاءً حسناً، ومضى شهيداً.

وروي عن علي بن الحسين أنّه نظر يوماً إلى عبيد الله بن العباس بن علي عليه‌السلام فاستعبر ثم قال: ما من يوم أشدّ على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من يوم «أحد» قتل فيه عمّه حمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأسد رسوله، وبعده يوم «مؤتة» قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبي طالب، ولا يوم كيوم الحسين عليه‌السلام إزدلف اليه ثلاثون ألف رجل

٨٥

يزعمون أنّهم من هذه الأمة كلّ يتقرّب إلى الله - عزّ وجل - بدمه، وهو يذكّرهم بالله فلا يتّعظون، حتى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً.

ثم قال: رحم الله العباس فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه، حتى قطعت يداه، فأبدله الله - عزّ وجل - منهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة كما جعل لجعفر بن ابي طالب عليه‌السلام ، وإنّ للعباس عند الله - تبارك وتعالى - منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة.

قال السيد المرقم رحمه‌الله : لقد كان من عطف المولى - سبحانه وتعالى - على وليه المقدس، سلالة الخلافة الكبرى، سيد الأوصياء، أن جمع فيه صفات الجلالة من بأس وشجاعة وإباء ونجدة، وخلال الجمال من سؤدد وكرم ودماثة في الخلق وعطف على الضعيف، كلّ ذلك من البهبجة في المنظر ووضاءة في المحيا، من ثغر باسم، ووجه طلق، تتموج عليه أمواه الحسن، ويطفح عليه رواء الجمال، وعلى أسرة جبهته أنوار الايمان، كما كانت تعبق م أعراقه فوائح المجد متأرجة من طيب العنصر، ولما تطابق فيه الجمالان الصوري والمعنوي قيل: له «قمر بني هاشم» (١) حيث كان يشوء بجماله في دنياه، كالقمر الفائق بنوره أشعة النجوم، وهذا هو حديث الرواة:

«كان العباس وسيماً، جميلاً، يركب الفرس المطهم ورجلاه يخطان في الأرض ويقال له: قمر بني هاشم» (٢) .

قال مؤلف «تذكرة الشهداء»: يكفى هذا الأبيّ العظيم شرفاً أنّه ابن أسد الله، وأخو قرطا عرش الله، وما أعظم فضله ومعرفته حتى كني بأبي الفضل، وليس ذاك لأنّه كان له ولد اسمه الفضل فحسب، بل لأنّه نال مراتب العلم والمعرفة والفضل.

__________________

(١) كان يقال لعبد مناف قمر البطحاء ولعبد الله والد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قمر الحرم.

(٢) مقاتل الطالبين ترجمة العباس بن علي عليه‌السلام .

٨٦

وما أسخاه وما أعظمه حيث أعرض عن الدنيا وزخرفها، ونسى الأهل والولد، وسعى إلى الشهادة جاهداً صابراً محتسباً، وبذل كلّ غالٍ ونفيس في سبيل الدفاع عن حريم إمامه وأخيه الحسين عليه‌السلام و «كمال الجود بذل الموجود» (١) .

أمير المؤمنين عليه‌السلام يقبّل يدي العباس عليه‌السلام :

كان الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام يرعى ولده العباس في طفولته، وكان يوسعه تقبيلاً.

يقول المؤرخون: إنّه أجلسه في حجره فشمر عن ساعديه فجعل الامام يقبلها، وهو غارق في البكاء، فبهرت أم البنين، وراحت تقول للامام: ما يبكيك؟

فأجابها الامام بصوت خافت حزين النبرات: «نظرت إلى هذين الكفين وتذكرت ما يجري عليهما...».

وسارعت أم البنين بلهفة قائلة: وماذا يجري عليهما؟

فأجابها الامام بنبرات مليئة بالأسى والحزن قائلاً: إنهما يقطعان من الزند....

وكانت هذه الكلمات كالصاعقة على أم البنين، فقد ذاب قلبها، وسارعت وهي مذهولة قائلة لماذا يقطعان؟

وأخبرها الامام عليه‌السلام بأنهما إنّما يقطعان في نصرة الاسلام والذبّ عن أخيه حامي شريعة الله، ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأجهشت أم البنين في البكاء، وشاركها من كان معها من النساء لوعتها وحزنها.

وخلدت أم البنين إلى الصبر، وحمدت الله - تعالى - في أن يكون ولدها فداءً لسبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانته (٢) .

فبشر سيد الأوصياء بمكانة ولدها العزيز عند الله - جلّ شأنه - وما حباه عن يديه

__________________

(١) تذكرة الشهداء: ٢٤٣.

(٢) العباس رائد الكرامة والفداء (لباقر شريف القرشي): ٣٧، قمر بني هاشم للمقرم: ١٩.

٨٧

بجناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة، كما جعل ذلك لجعفر بن أبي طالب، فقامت تحمل بشرى الأبد والسعادة الخالدة (١) .

تعويذ أم البنين له:

لقد كان أبو الفضل العباس آية بارعة في الجمال، وقد لقّب بقمر بني هاشم لروعة بهائه وجمال طلعته، وكان متكامل الجسم، قد بدت عليه آثار البطولة والشجاعة، ووصفه الرواة بأنه كان وسيماً جميلاً، يركب الفرس المطهم ورجلاه يخطان في الأرض.

وكان حبّه قد استوعب قلب أمه الحنون الزكية، فكان عندها أعزّ من الحياة، وكانت تخاف عليه وتخشى من أعين الحساد من أن تصيبه بأذى أو مكروه، وكانت تعوّذه بالله وتقول هذه الأبيات:

أعيذه بالواحد

من عين كلّ حاسد

قائمهم والقاعد

مسلمهم والجاحد

صادرهم والوارد

مولدهم والوالد (٢)

وكان من شدّة حبّ أبيه له أن قبلّ يديه تعبيراً عن مستوى عواطفه ومقدار ما إحتله الولد من قلب والده، تماماً كما كان يفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع الصديقة الطاهرة بضعته، حيث كان يقبّل يدها ويقوم لها ويجلسها مجلسه.

كنيته:

كنّى سيدنا العباس «أبي الفضل» وروى: إنّما كنّي بذلك لأن له ولداً اسمه الفضل.

__________________

(١) قمر بني هاشم (للمقرم): ٢٠.

(٢) العباس رائد الكرامة (للقرشي): ٣٦، عن المنمق في أخبار قريش: ٤٣٧.

٨٨

ويقول في ذلك بعض من رثاه:

أبا الفضل يا من أسس الفضل والابا

أبي الفضل إلّا أن تكون له أبا

وطابقت هذه الكنية حقيقة ذاته العظيمة، فلو لم يكن له ولد يسمّى بهذا الاسم، فهو - حقاً - أبو الفضل ومصدره الفياض، فقد أفاض في حياته ببره وعطائه على القاصدين لنبله وجوده، وبعد شهادته كان موئلاً وملجأً لكلّ ملهوف، فما استجار به أحد بنية صادقة إلّا كشف الله ما ألم به من المحن والبلوى.

ومن كناه أيضاً: «أبو القاسم» وكنّي بذلك لأن له ولداً اسمه «القاسم»، ذكر بعض ال مؤرخين أنّه استشهد معه يوم الطف، قدّمه العباس قرباناً لدين الله وفداءً لريحانة رسول الله (١) .

وأبى إلّا أن يكون قد واسى الحسين أخاه في كلّ شيء حتى في الفجيعة بولده وفلذة كبده.

العباس عليه‌السلام مع أبيه:

كان أمير المؤمنين عليه‌السلام معلم البشرية ومربّيها؛ سيما المجتمع الاسلامي الذي ساقه عليه‌السلام إلى ذرى الانسانية الشماء.

وقد قدم عليه‌السلام دروس الشهامة والفضيلة والكمال لمحبيه وشيعته، وخصّ بذلك أيضاً أبناءه عليه‌السلام ، وقد ربّى ولده أبا الفضل العباس عليه‌السلام - وكان غايته من زواجه بأم البنين عليها‌السلام - أحسن تربية، فأفاض عليه مكونات نفسه العظيمة العامرة بالايمان والمثل العليا، وأفاض عليه آداب الاسلام وعلوم القرآن والحديث والفضائل الاخلاقية، ولم يمنعه أي فيض من فيوضاته، فعلمه الزراعة والفروسية والرماية والمجالدة بالسيف، وشركه في حروبه الثلاثة - الجمل وصفين والنهروان - فعلّمه

__________________

(١) انظر العباس رائد الكرامة.

٨٩

على تجربة الحرب وخوض ساحات الوغى والمنون، حتى طار صيته في الآفاق، وصار العباس وشجاعته مثلاً تسير به الركبان، ويتحدّث به العرب في أنديتهم.

وفي الساعات الأخيرة من حياته الشريفة أخذ أمير المؤمنين عليه‌السلام يد العباس عليه‌السلام ووضعها في يد أخيه الحسين عليه‌السلام وأوصاهم بوصاياه المهمة.

العباس عليه‌السلام مع أخيه الحسين عليه‌السلام :

لما استشهد أمير المؤمنين عليه‌السلام انتقلت ودائع الامامة إلى ولده الحسن عليه‌السلام ، السبط الأكبر للنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتلقّد شيعته وأهل بيته، بل والمسلمون جميعاً قلادة الاطاعة لإمام زمانهم عليه‌السلام .

وكان العباس عليه‌السلام واقفاً إلى جنب أخيه في الحربين مع معاوية، ثابت القدم، راسخ الايمان، مما أكسبه تجارب عظيمة، وخبرة كبيرة في جفاء القوم وخيانة رؤوسهم وقادتهم.

فلما اتخذ الامام عليه‌السلام قرار «الصلح» مع معاوية - بناءً على المصلحة وعملاً بالأمر الالهي - أطاعه العباس عليه‌السلام في ذلك وسلّم لأمر إمامه، ومضت عشرة سنوات في الهدوء الظاهر، والصمت المخيم على الموقف التزاماً بالصلح، وإطاعة للامام حتى استشهد الامام المجتبى عليه‌السلام .

فتمادى الأمويون بالشر، وظهرت خفايا نفوسهم المنطوية على الحقد والعداء لآل البيت، فقد مانعت عائشة ووقف مروان بكلّ صلف ودناءة ليحولوا دون أن يدفن سبط النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وريحانته عند جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأوعزوا إلى عملائهم برمي جنازة الامام، فرموها بقسيّهم وسهامهم، وكادت الحرب أن تقع بين الهاشميين والأمويين، وأسرع أبو الفضل العباس إلى مناجرة الأمويين وتمزيقهم، ومدّ يده القوية إلى سيفه البتار، فمنعه أخوه الامام الحسين عليه‌السلام من القيام بأي عمل إمتثالاً لوصية أخيه حيث

٩٠

أوصاه بأن «لا يهراق في أمره ملء محجمة من دم»... ولو لا ذاك لانقض أبو الفضل على الحكام وأعوانهم وعائشة ومردتها.

وكان العباس يومها في الرابعة والعشرين من عمره، وهو يتمتع بكل هذه الهيبة والشجاعة والاقدام.

قاسماً بصارمه الصقيل وإنني

في غير صاعقة السما لا أقسم

لو لا القضا لمحا الوجود بسيفه

والله يقضي ما يشاء ويحكم

أبو الفضل مع أخيه الحسين عليه‌السلام :

بقي أبو الفضل العباس خلال فترة «الصلاح» مع معاوية ملتزماً بالمعاهدة إطاعة لامامه وامتثالاً لتكليفه، وكان طيلة فترة حياته مع أخيه حاضراً جاهزاً مطيعاً ممتثلاً لامام زمانه، ولم يؤثر عنه أنّه خاطبه ولا مرة واحدة بـ «أخي»، وإنّما كان يخاطبه بـ «مولاي» و «سيدي»، ولم يؤثر عنه أنّه عبّس وجهه إلا في وجوه الأعداء وكان ينقض كالصقر إذا ما سمع أمراً صادراً من إمامه الحسين عليه‌السلام ، فينفذه فوراً، وكان وفياً له حتى بعد شهادته.

فقد روي: أنّ ملكة الهند توسلت في حاجة لها بأبي الفضل العباس عليه‌السلام ونذرت إن قضى الله لها حاجتها أن تطلي منائر الروضة العباسية المباركة بالذهب، فقضى الله لها حاجتها ببركة أبي الفضل العباس عليه‌السلام ، فعزمت على أداء نذرها والوفاء بوعدها، فشدّت الرحال وتوجهت نحو المشاهد المشرفة والأعتاب المقدسة، وأخذت معها ذهباً كثيراً، واصطحبت معها مهندسين ماهرين بارعين.

فلما وصلت الملكة بموكبها إلى كربلاء المقدسة وعزمت على الشروع بتذهيب المنائر - إذ قد تمّ إعداد كلّ شيء من قبل - واستعد المهندسون والعمال لمباشرة أعمالهم في الصباح الباكر، وإذا بسادن الروضة العباسية المباركة يرى في نفس

٩١

الليلة - التي كان من المقرر أن يباشروا العمل في صبيحتها - في ما يرى النائم أبا الفضل العباس عليه‌السلام وهو يقول له - بما معناه -: إنّي لا أرضى بتذهيب منائر روضتي، فان منائر روضة سيدي الامام الحسين عليه‌السلام مذهّبة، ولا بد أن يكون ثمة فرق بين روضة العبد وروضة سيده.

وفي الصباح الباكر أقبل سادن الروضة العباسية المباركة وأخبرهم بما قاله أبو الفضل العباس عليه‌السلام وأدى رسالته اليهم، فكفوا عن العمل، وانفقوا الذهب الذي جاءت به الملكة على الفقراء والمعوزين بحساب أبي الفضل العباس (١) .

ويستفاد من هذه القصة أمران:

الأول: إنّ أدب أبي الفضل العباس عليه‌السلام ووفائه لأخيه الحسين عليه‌السلام لم يكن مقصوراً على أيام حياته، بل بقي كذلك حتى بعد شهادته، علماً لأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.

والثاني: إنّ الفقراء والمعوزين كانوا من الكثرة بمكان في ذلك الزمان، وقد شملتهم أفضال أبي الفضل العباس عليه‌السلام .

شجاعة أبي الفضل العباس عليه‌السلام :

الشجاعة من أسمى صفات الرجولة، وهي صفة الاعتدال التي يحدّها الجبن والتهور، فالشجاع لا يخاف ولا يتهور فيتعدى على حقوق الآخرين ويتجاوز حدودهم، والشجاع لا يقهر الآخرين تهوراً وظلماً، وكل عمل دني غير إنساني يصدر من أحد إنّما يكون منشاه الجبن أو التهور؛ لأن الشجاعة بمعناها الصحيح حدّ وسط، وملكة نفسانية أكدت عليها التعاليم والآداب الدينية، وهي منحة إلهية تنم عن قوة الشخصية وصلابتها وتماسكها أمام الأحداث، فلا تفاض على كلّ أحد، بل لا بد

__________________

(١) انظر الخصائص العباسية: ٢٢٩ في وفاء العباس عليه‌السلام .

٩٢

أن يكون أهلاً لها، تماماً كشجاعة أمير المؤمنين عليه‌السلام الربانية التي صرع بها عمرو ابن ودّ، وقلع بها باب خيبر، فلما سئل عنها قال: «بقوة رحمانية لا بقوة جسمانية».

وقد ورث أبو الفضل هذه الصفة الكريمة من أبيه الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي هو أشجع إنسان في دنيا الوجود (١) .

وقد علمه الامام عليه‌السلام وأدبه بآدابه وأفاض عليه من ذاته، ولم يكن العباس عليه‌السلام قد ورث الشجاعة وتعلمها من أبيه فحسب، وإنّما كان بطلاً ضرغاماً له مؤهلاته الجسدية أيضاً حيث كان ذا بسطة في الجسم، معروفاً بالقوة والبسالة، فكان شجاعاً ظاهراً وباطناً.

وهكذا هم بنو هاشم كبيرهم وصغيرهم، فكيف بأبي الفضل العباس الذي كان علماً في البطولات، لم يخالج قلبه خوف ولا رعب في الحروب التي خاضها مع أبيه، بل لقن الأعداء درساً جعلهم يعرفون سيفه بين السيوف، وهو لمّا يزل شاباً، كما أبدى من الشجاعة يوم الطف ما صار مضرب المثل على امتداد التاريخ، حيث برز أمام تلك القوى التي ملأت البيداء، فجبّن الشجعان، وأرعب قلوب عامة الجيش، فزلزلت الأرض تحت أقدامهم وخيّم عليهم الموت (٢) .

عبست وجوه القوم

والعباس فيهم ضاحك متبسم

قلب اليمين على الشمال

وغاص في الأوساط يحصد للرؤوس ويحطم

بطل تورث من أبيه شجاعة

فيها أنوف بني الضلالة ترغم

__________________

(١) كما ورث هذه الصفة من أخواله الذين تميزوا بهذه الظاهرة وعرفوا بين سائر الأحياء العربية (أنظر العباس رائد الكرامة: ٥٥).

(٢) انظر العباس رائد الكرامة: ٥٥.

٩٣

فروسية أبي الفضل العباس عليه‌السلام :

كان عبد المطلب من زعماء مكة قبل الاسلام، وكان في زمانه رجل يقال له «سيف بن ذي يزن» وكان من ملوك اليمن، فجمع عبد المطلب رؤساء قريش وقال: يا قوم إنّكم تحتاجون أن تخرجوا معي نحو «سيف بن ذي يزن» لتهنئته في ولايته...

فلما ذهبوا اليه استقبلهم بحفاوة وأكرم مثواهم وجعلهم في دار الضيافة.

وفي ذات يوم دعا عبد المطلب لوحده، واختلى به وقال لخدمه: تباعدوا عنا، فلم يبق في المجلس غير الملك وعبد المطلب وثالثهم ربّ العزة - تبارك وتعالى -.

فقال له الملك: يا أبا الحارث، إنّ من آرائي أو أفوض اليك علماً كنت كتمته عن غيرك أريد أن أضعه عندك، فانك موضع ذلك، وأريد أن تطويه وتكتمه إلى أن يظهره الله - تعالى -.

فقال عبد المطلب: السمع والطاعة للملك وكذا الظن بك.

فقال الملك: اعلم يا أبا الحارث إن بأرضكم غلاماً حسن الوجه والبدن جميل القد والقامة، بين كتفيه شامة، المبعوث من تهامة، أنبت الله - تعالى - على رأسه شجرة النبوة، وظللته الغمامة، صاحب الشفاعة يوم القيامة، مكتوب بخاتم النبوة على كتفيه سطران: «لا اله الا الله» والثاني «محمد رسول الله» والله - تعالى - أمات أمه وأباه، وتكون تربيته على جدّه وعمه، وإني وجدت في كتب بني إسرائيل صفته، أبين وأشرح من القمر بين الكواكب، وإني أراك جدّه.

فقال عبد المطلب: أنا جده أيها الملك.

فقال الملك: مرحباً بك وسهلاً يا أبا الحارث.

ثم قال له الملك: أشهدك على نفسي - يا أبا الحارث - إني مؤمن به وبما يأتي به من عند ربّه، ثم تأوّه «سيف» ثلاث مرات بأن يراه، فكان ينصره....

٩٤

ثم إنّ الملك أمر لكل واحد منهم ببدرة بيض، فحمل كلّ واحد منهم على دابة وبغل، وأمر لكلّ واحد منهم بجارية وغلام وثياب فاخرة، ولعبد المطلب بضعفي ما وهب لهم.

ثم دعا الملك بفرسه «العقاب» وبغلته «الشهباء» وناقته «العضباء» وقال: يا أبا الحارث؛ إنّ الذي أسلمه اليك أمانة في عنقك تحفظها إلى أن تسلمها إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقال له: إعلم أني ما طلبت على ظهر هذه الفرس شيئاً إلا وجدته، وما قصدني عدو وأنا راكب عليها إلّا نجاني الله - تعالى - منه، وأما البغلة فاني كنت أقطع بها الدكداك والجبال لحسن سيرها، ولا أنزل عنها ليلي ونهاري، فأمره أن يتحفظ ويجعلها لي تذكرة، وبلغه عني التحية الكثيرة.

فقال عبد المطلب: السمع والطاعة.

ثم ودعوه وخرجوا نحو الحرم حتى دخلوا مكة....

ثم إنّ عبد المطلب لما رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نزل عن مركوبة وعانقه وقبّل ما بين عينيه وقال له: إنّ هذا الفرس والبغلة والناقة أهداها اليك «سيف بن ذي يزن» ويقرأ عليك التحية الطبية.

ثم أمر أن يحمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على الفرس، فلمّا استوى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على ظهر الفرس انتشط وصهل صهيلاً شديداً فرحاً برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ونسب هذا الفرس (١) أنّه: عقاب بن ينزوب بن قابل بن بطال بن زاد الراكب بن الكفاح بن الجنح بن موج بن ميمون بن ريح... (٢) .

فكان عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله العقاب والمرتجز وذو الجناح، وكانت من جياد الخيل

__________________

(١) كانت الخيل العربية ولا زالت ذات أنسابه عريقة وأصيلة بحيث يحتفظ بشجرتها عند أصحابها عادة.

(٢) البحار ١٥ / ١٥٠ - ١٥١ والقصة مفصلة طويلة.

٩٥

المدربة على الحروب، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كلّما ركبها عادت قوية شابة بقوة الله وإعجاز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فلما توفي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انتقلت إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ومن ثم إلى السبطين عليهما‌السلام ومن ثم صار العقاب إلى أبي الفضل العباس، والمرتجز إلى علي الأكبر عليه‌السلام ، وذو الجناح إلى أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام .

وكان أبو الفضل العباس اذا ركب العقاب واقتحم الميدان أشرف على الجيش لطول قامته وارتفاع هامته.

الأمان:

قال أبو مخنف: لما كتب ابن زياد كتابه إلى عمر بن سعد بالتعجيل لحرب الحسين عليه‌السلام ، وقبضه شمر بن ذي الجوشن قام هو وعبد الله بن أبي المحل بن حزام الكلابي.

فقال عبد الله: أصلح الله الأمير؛ إنّ بني أختنا أم البنين: العباس وعبد الله وجعفر وعثمان مع الحسين عليه‌السلام ، فان رأيت أن تكتب لهم أماناً فعلت.

قال ابن زياد: نعم - ونعمة عين - فأمر كاتبه فكتب لهم أماناً...

فبعث به عبد الله بن أبي المحل مع مولى له يقال له «كزمان» (١) .

ولما قدم عليهم «كزمان» مولى عبد الله بن أبي المحل دعاهم فقال: هذا أمان بعث به خالكم.

فقال له الفتية: أقرأ خالنا السلام وقل له: أن لا حاجة لنا في أمانكم، أمان الله خير من أمان ابن سمية (٢) .

__________________

(١) مقتل أبي مخنف: ١٨٦ (مع الترجمة الفارسية).

(٢) مقتل أبي مخنف: ١٨٨.

٩٦

وفي اللهوف: وصاح شمر بأعلى صوته: أين بنو أختنا؟ أين العباس واخوته؟

فأعرضوا عنه فقال الحسين عليه‌السلام : أجيبوه ولو كان فاسقاً.

قالوا: ما شأنك وما تريد؟

قال: يا بني أختي أنتم آمنون لا تقتلوا أنفسكم مع الحسين والزموا طاعة أمير... يزيد.

فقال العباس: لعنك الله ولعن أمانك، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له، وتأمرنا أن ندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء (١) .

عشية اليوم التاسع:

وفي عشية اليوم التاسع من المحرم نادى عمر بن سعد: يا خيل الله اركبي وبالجنة أبشري، فركب الناس حتى زحف نحوهم بعد العصر، والحسين عليه‌السلام جالس أمام بيته محتبياً بسيفه، إذ خفق برأسه على ركبتيه، فسمعت أخته الضجة، فدنت من أخيها فقالت: يا أخي أما تسمع الأصوات قد اقتربت، فرفع الحسين عليه‌السلام رأسه فقال: إنّي رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الساعة في المنام فقال لي: إنّك تروح الينا، فلطمت أخته وجهها ونادت بالويل.

فقال لها الحسين عليه‌السلام : ليس لك الويل يا أخيه اسكتي رحمك الله.

ثم قال له العباس بن علي عليه‌السلام : يا أخي أتاك القوم.

فنهض ثم قال: يا عباس - اركب بنفسي أنت يا أخي - حتى تلقاهم وتقول لهم: مالكم وما بدالكم وتسألهم عما جاء بهم، فأتاهم العباس في نحو من عشرين فارساً، فيهم زهير بن القين وحبيب بن مظاهر.

فقال لهم العباس: ما بدالكم وما تريدون؟

__________________

(١) ابن نما: ٢٨، مقتل الحسين عليه‌السلام (للمقرم): ٢٠٩.

٩٧

قالوا: قد جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو نناجزكم.

فقال: فلا تعجلوا حتى ارجع إلى أبي عبد الله فأعرض عليه ما ذكرتم.

فوقفوا وقالوا: ألقه فاعلمه ثم القنا بما يقول لك.

فانصرف العباس راجعاً يركض إلى الحسين عليه‌السلام يخبره الخبر، ووقف أصحابه يخاطبون القوم ويعظونهم ويكفونهم عن قتال الحسين عليه‌السلام ، فجاء العباس إلى الحسين عليه‌السلام فأخبره بما قال القوم فقال عليه‌السلام : ارجع اليهم، فان استطعت أن تؤخرهم إلى غدوة، وتدفعهم عنا العشية لعلنا نصلّي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أنّي قد كنت أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار.

فمضى العباس إلى القوم، ورجع العباس واستمهلهم العشية، فتوقف ابن سعد وسأل من الناس، فقال عمرو بن الحجاج: سبحان الله لو كانوا من الديلم وسألوك هذا لكان ينبغي لك أن تجيبهم اليه.

فبعث عمر بن سعد إلى الحسين عليه‌السلام يقول: إنّا قد أجلناكم إلى غد فان استسلمتم سرحناكم إلى أميرنا عبيد الله بن زياد وإن أبيتم فلسنا تاريكيكم... (١) .

حارس خيام الحسين عليه‌السلام :

في معالي السبطين عن فخر المخدرات زينب عليها‌السلام قالت: لما كانت عاشوراء من المحرم خرجت من خيمتي لأتفقد أخي الحسين عليه‌السلام وأنصاره، وقد أفرد له خيمة، فوجدته جالساً وحده يناجي ربّه ويتلوا القرآن، فقلت في نفسي: أفي مثل هذه الليلة يترك أخي وحده، والله لأمضين أخوتي وبني عمومتي وأعاتبهم بذلك.

فأتيت إلى خيمة العباس فسمعت منها همهمة ودمدمة، فوقفت على ظهرها فنظرت فيها فوجدت بني عمومتي وأخوتي وأولاد اخوتي مجتمعين كالحلقة

__________________

(١) الارشاد (للمفيد): ٢٣٠، مقتل الحسين عليه‌السلام (للمقرم): ٢١١.

٩٨

وبينهم العباس ابن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهو جاث على ركبتيه كالأسد على فريسته، فخطب فيهم خطبة ما سمعتها إلّا من الحسين عليه‌السلام ، مشتملة بالحمد والثناء لله والصلاة والسلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثم قال في آخر خطبته: يا اخوتي وبني اخوتي وبني عمومتي إذا كان الصباح فما تقولون؟

فقالوا: الأمر اليك يرجع ونحن لا نتعدى لك قولك.

فقال العباس: إنّ هؤلاء - أعني الأصحاب - قوم غرباء، والحمل الثقيل لا يقوم إلّا بأهله، فاذا كان الصباح فأول من يبرز إلى القتال أنتم، نحن نقدمهم للموت لئلا يقول الناس: قدموا أصحابهم، فلما قتلوا عالجوا الموت بأسيافهم ساعة بعد ساعة.

فقامت بنو هاشم وسلّوا سيوفهم في وجه أخي العباس وقالوا: نحن على ما أنت عليه.

قالت زينب عليها‌السلام : فلما رأيت كثرة اجتماعهم وشدّة عزمهم وإظهار شيمتهم سكن قلبي وفرحت... (١) .

لقد قضى أبو الفضل العباس تلك الليلة في حراسة خيام الحسين عليه‌السلام ، فأطبق بجلاله وشهامته على الأجواء، حيث كانت ومضات سيفه البتار تسلب الليل سكونه، وعجز العدو على كثرتهم تلك الليلة عن القيام بأي حركة، بل سلب العباس النوم من عيونهم، كيف لا وهو شبل أسد الله وربيب علي المرتضى؟!

وهكذا قضى الحسين وأصحابه تلك الليلة بالمناجاة، ما بين قائم وقاعد، وراكع وساجد، ولهم في تلاوت القرآن دوي كدوي النحل، وأخلدن بنات النبي وعقائل الوحي والوصي، ومن معهن من الأطفال والصبية تلك الليلة إلى الاطمئنان والأمان؛ لأن الجميع كانوا في حماية العباس وحراسته.

__________________

(١) معالي السبطين ١ / ٣٤٠.

٩٩

لقاء بين زهير بن القين وأبي الفضل العباس عليه‌السلام :

ولما رجع العباس واخوته إلى الحسين وأعلموه بما أراده الماجن منهم، قام زهير بن القين إلى العباس وحدّثه بحديث.

فقال له: ألا أحدثك بحديث وعيته؟!

قال العباس عليه‌السلام : بلى حدثني به.

قال زهير: اعلم يا أبا الفضل إنّ أباك أمير المؤمنين عليه‌السلام طلب من أخيه عقيل - وكان عارفاً بأنساب العرب وأخبارها - أن يختار له امرأة ولدتها الفحولة من العرب وذوو الشجاعة منهم؛ ليتزوجها فتلد له غلاماً فارساً شجاعاً ينصر الحسين بطف كربلاء، وقد ادخرك أبوك لمثل هذا اليوم فلا تقصر عن نصرة أخيك وحماية أخواتك.

فثارث غيرته الهاشمية وتفجرت همته العلوية، فتمطى في ركابه حتى قطعه وقال: يا زهير تشجعني هذا اليوم، فوالله لأرينك شيئاً ما رأيته (١) .

فجدل أبطالاً ونكس رايات في حالة لم يكن همه القتال ولا منازلة الأبطال، بل كان همه إيصال الماء إلى الأطفال، ولكن لا مردّ للقضاء ولا دافع للأجل المحتوم.

وقع العذاب على جيوش أمية

من باسل هو في الوقائع معلم

ما راعهم إلّا تقحم ضيغم

غيران يعجم لفظه ويدمدم

عبست وجوه القوم خوف الموت

والعباس فيهم ضاحك متبسم

قلب اليمين على الشماء وغاص في

الأوساط يحصد في الرؤوس ويحطم

قسماً بصارمه الصقيل وإنني

في غير صاعقة السما لا أقسم

لو لا القضا لمحا الوجود بسيفه

والله يقضي ما يشاء ويحكم (٢) .

__________________

(١) أنظر: الخصائص العباسية: ٢٤٧، مقتل الحسين (للمقرم): ٧٩٤.

(٢) الخصائص العباسية: ٢٤٩.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

الطبيعيّ لأحد أنبيائه بعد أن دعا الله تعالى أن يحبسها عليه وهو في حال جهاد، فاستجاب له - وهو ما قرّره الابنان: ابن الجوزيّ، وابن تيميه فيما أنكرا رجوعها! -، وانشقاق القمر يومَ وُلِد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وضربت النّجومُ بعضُها بعضاً، وغيض ماء بُحيرة ساوه، ونبع الماء من بين أصابعهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وانفلق البحر لموسىعليه‌السلام ، فسلكه ومن معه، فلمّا جاوزه انطبق على فرعون وجنده فكانوا من المُغرقين.

ومن آيات عيسىعليه‌السلام : إحياء الموتى بإذن الله تعالى، والموت والحياة من شأن الله سبحانه.

وأوتي سليمانعليه‌السلام من الآيات الباهرات وخوارق العادات الكثير وكانت النار التي أوقدها نمرود برداً وسلاماً على إبراهيم الخليلعليه‌السلام «وهو مخالف لما جعله الله تعالى للنار من طبيعة الإحراق.

ومثلما حُبست الشمس ليوشع فتأخّر غروبها وطوّل الله تعالى له النهار، إلى آخر كلامه؛ فنقول: إنّ حبس الشمس عن جريها الطبيعيّ وتأخير الغروب وتطويل النّهار، كلّ ذلك خروج عن سنّة الله تعالى في خلقه، لكنّه واقع في مشيّته كما ذكرنا من قبل، ولا فرق بين حبسها وبين ردّها!

وإضافة إلى ما ذكرناه من معاجز الأنبياء، ومنها ما كان لنبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله نذكر بعضاً آخر من ذلك، مثل: تسبيح الحصى في يده الشريفة، واستجابة النخلة له لمّا طلب منه المشركون فتحوّلت من مكانها وانحنت أمامه وشهدت له بالنبوّة، وهذا خروج للجمادات عمّا هو مألوف منها من حال الجمود. وهذه أمثلة من حرمة الجمادات وشأنها؛ فكيف بسادات الورى؟

١٨١

حرمة الحجر الأسود

للحجر الأسود شأن خاصّ ليس لبقيّة موجودات الله تعالى مثله، حتّى ولا للشمس.

عن أبي الطّفيل: رأيتُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يطوف بالبيت ويستلم الركن بمِحْجنٍ معه، ويقبّل المحجن.(1)

وعن ابن عبّاس قال: رأيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يسجد على الحجر.(2)

ولقد قيل في الحجر الأسعد أنّه نزل من الجنّة. روي ذلك عن ابن عبّاس، قال: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «الحَجَرُ الأَسودُ من الجنّة».(3)

وقد استنّ المسلمون بفعلِ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكانوا يقبّلون الحجر الأسود ويتبرّكون به، إلاّ أنّه قد عرض لبعضهم شبهة للجهلِ بعلّة تقبيل الحجر والسجود عليه!

عن عابس بن ربيعة(4) ، قال: رأيت عمر بن الخطّاب قام عند الحجر وقال: والله إنّي أعلم أنّك حجرٌ لا تضرّ ولا تنفع، ولو لا أنّي رأيتُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبّلك ما قبّلتُك. فقال له عليّ: بلى؛ هو يضرّ وينفع، ولو علمت ذلك من كتاب الله لعلمت أنّه كما أقول، قال الله تعالى:« وَإِذْ أَخَذَ رَبّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ

____________________

(1) سُنن أبي داود 2: 176؛ سنن ابن ماجة 2: 983؛ صحيح مسلم 2: 893.

(2) السنن الكبرى للبيهقيّ 5: 75.

(3) سنن النَّسائيّ 5: 226؛ الدّر المنثور 1: 135.

(4) عابس بن ربيعة: كوفيّ، تابعيّ، ثقة (تاريخ الثقات للعجليّ 239 / 734).

١٨٢

وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى‏ أَنْفُسِهِمْ) (1) ، فلمّا اقرّوا أنّه الربّ عزّوجلّ، وأنّهم العبيد، كتب ميثاقهم في رَقّ وألقمه في هذا الحجر، وأنّه يبعث يوم القيامة وله عينان ولسان وشفتان، يشهد لمن وافى بالموافاة، فهو أمين الله في هذا الكتاب. فقال عمر: أعوذ بالله أن أعيش في قوم لستَ فيهم يا أبا الحسن!(2)

وأخرج عبد الرزّاق عن معمر عن عاصم عن عبد الله بن سَرْجِس قال: رأيتُ عمر بن الخطّاب يقبّل الركن وكان يقول: والله إنّي لأقبّلك وأعلم أنّك حجر، وأعلم أنّ الله ربّي، ولكن رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبّلك فقبّلتك.(3)

وعبد الرزّاق بسنده عن سُوَيد بن غفلة قال: رأيت عمر بن الخطّاب يقبّل الحجر ويقول: والله إنّي لأعلم أنّك حجر، ولكن رأيت أبا القاسمصلى‌الله‌عليه‌وآله بك حفيّاً.(4)

وعبد الرزّاق عن محمّد بن راشد قال: سمعتُ مكحولاً يحدّث أنّ عمر بن الخطّاب استقبل الركن فقال: قد علمت أنّك حجر، وأنّك لا تضرّ ولا تنفع، ولو لا

____________________

(1) الأعراف: 172.

(2) المستدرك على الصحيحين 1: 457، شرح نهج البلاغة للمعتزليّ 3: 122، السيرة الحلبية 1: 188، كنز العمّال 5: 93، وذكره أبو داود في سننه 2: 175 / 1873، واقتصر على شطره الأوّل من غير كلام أميرالمؤمنينعليه‌السلام .

(3) المصنّف لعبد الرزّاق 5: 53 / 9096. وأخرجه مسلم / الحديث (1270) برقم فرعيّ (250). وذكره ابن ماجة بتغيير وإضافة بعض الألفاظ، سنن ابن ماجة 2: 981 / 2943.

(4) المصنّف لعبد الرزّاق 5: 54 / 9097. وأخرجه مسلم / الحديث (1271) من طريق إبراهيم بن عبد الأعلى. وحفيّاً: مبالغاً في إكرامه.

١٨٣

أنّي رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقبّلك ما قبّلتك. قال: ثمّ قبّله.(1)

الحجر يمين الله

فلمّا كان الحجر الأسود من الجنّة، كما في رواية ابن عبّاس التي ذكرناها، فهو بذاته حجر مبارك وجاز التبرّك به لذلك. إلاّ أنّ ما أوضحه أميرالمؤمنين عليعليه‌السلام من أنّ الحجر هو أمينُ الله في أرضه يشهد لمن وافاه بالبيعة! زاد في كرامة الحجر وتعظيمه عند رسول الله وطليعة الصحابة.

عن ابن عبّاس قال: الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن لم يدرك بيعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاستلم الحجر، فقد بايع الله ورسوله!(2)

فما أعظم شأنه؟! وكم تخفى علينا أمور وعلل نجهلها؛ فما علينا إلاّ التسليم بعد ثبوت شرعيّتها والإتيان بها من غير حرج.

عن فاطمة بنت حسين، عن أبيها قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لمّا أخذ الله ميثاق العباد جُعل في الحجر، فمِن الوفاء بالبيعة استلامُ الحجر»(3) .

حُرمة الكعبة، والتعوّذ بالبيت

عبد الرزّاق عن ابن جُرَيْج قال: حُدّثتُ أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يضع يده على

____________________

(1) المصنّف لعبد الرزّاق 5: 54 / 9098.

(2) الدّر المنثور 1: 134.

(3) الذّرية الطاهرة للدولابيّ 131 / 160.

١٨٤

الركن اليمانيّ.(1)

عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جدّه قال: طفت مع عبد الله بن عمر -، فلمّا فرغنا من السبع ركعنا في دبر الكعبة، فقلت: ألا تتعوّذ، قال أعوذ بالله من النار. ثمّ مشى فاستلم الركن، ثم قام بين الحجر والباب فألصق صدره ويديه وخدّه إليه، ثمّ قال: هكذا رأيت رسول الله يصنع.(2)

عبد الرزّاق، عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه أنّه كان يلصق بالبيت صدره ويده وبطنه.(3)

عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله يقول: «مَن طافَ بالبيت وصلّى ركعتين، كان كعتقِ رقبةٍ».(4)

سأل ابن هشام عطاء بن أبي رباحٍ عن الركن اليمانيّ، وهو يطوف بالبيت. فقال عطاء: حدّثني أبو هريرة أنّ النبيّ قال: «وُكِل به سبعون ملكاً، فمن قال: اللّهمّ إنّي أسألك العفوَ والعافية في الدنيا والآخرة، ربّنا آتنا في الدّنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقِنا عذاب النار؛ قالوا: آمِين».

فلمّا بلغ الرّكن الأَسود قال: يا أبا محمّدٍ، ما بلغك في هذا الرّكن الأسود؟

____________________

(1) المصنّف لعبد الرزّاق 5: 55 / 9102.

(2) المصنّف لعبد الرزّاق 5: 55 / 9106، سنن ابن ماجة 2: 987 / 2962، سُنن أبي داود 1: 181 / 1899.

(3) المصنّف لعبد الرزّاق 5: 56 / 9111.

(4) سنن ابن ماجة 2: 985 / 2956.

١٨٥

فقال عطاء: حدّثني أبو هريرة أنّه سمع رسول الله يقول: «مَن فاوضَه(1) فإنّما يفاوض يدَ الرحمان».

قال له ابن هشام: يا أبا محمّد، فالطّواف؟ قال عطاء: حدّثني أبو هريرة أنّه سمع النبيّ يقول: «من طاف بالبيت سبعاً ولا يتكلّم إلاّ بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ اللهُ، واللهُ أكبر، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله؛ مُحِيَت عنه عشر سيّئات، وكُتبت له عشر حسنات ورُفع له بها عشرةَ درجات. ومن طاف فتكلّم وهو في تلك الحال، خاض في الرحمة برِجْلَيه، كخائض الماء برجلَيه».(2)

عبد الرزّاق عن معمر قال: رأيت أيّوب يلصق بالبيت صدره ويديه.(3)

عن مكحول قال: إذا طفت بين السّادس والسابع فالتزم بالبيت ما بين الركن الأسود والركن اليمانيّ، ثم تعوّذ بالله.(4)

تكريم البيت

اللّيث عن عطاء، وطاووس، ومجاهد؛ قالوا: لا يُدخَل البيت بحذاء ولا بسلاح، ولا خُفَّين، وكان عطاء ومجاهد يريان الحِجر من البيت.(5)

وعن عبد الله بن عبّاس قال: كانت الأنبياء تدخل الحرم مُشاةً حُفاة،

____________________

(1) فاوضه: أي قابله بوجهه.

(2) سنن ابن ماجة 2: 24 / 957.

(3) المصنّف لعبد الرزّاق 5: 55 / 9105.

(4) نفسه / 9109.

(5) نفسه: 61 / 9135.

١٨٦

ويطوفون بالبيت، ويقضون المناسك حفاةً مشاة.(1)

عن سهل بن سعد الساعديّ، عن رسول الله قال: «ما من مُلَبٍّ يُلَبِّي إلاّ لبّى ما عن يمينه وشماله، من حجرٍ أو شجرٍ أو مَدَر، حتّى تنقطع الأرض من ههنا وههنا».(2)

ضيوف الرحمان

و للمنزلة الخاصّة لبيت الله الحرام، فإنّ من قصده من قريب أو بعيد فهو في ضيافة الله تعالى؛ الكريم، ومن كرمه، وقد نزلوا أشرف البقاع وأقربها إليه عزّوجلّ، وأن يستجيب دعاءهم.

بسندٍ عن أبي هريرة، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: «الحُجّاج والعُمّار وفدُ اللهِ، إن دَعَوْه أجابهم، وإن استغفروه غَفَرلهم».(3)

و بسندٍ عن ابن عمر، عن النبيّ قال: «الغازي في سبيل الله والحاجُّ والمُعتمر وفدُ الله، دعاهم فأجابوه، وسألوهُ فأعطاهم».(4)

وبسند عن سعيد بن جُبير قال: سمعتُ ابنَ عبّاس يقول: قال رسول الله «ليأتينّ هذا الحجر يوم القيامة، وله عينان يُبصرُ بهما، ولسان ينطق به، يشهد على

____________________

(1) سنن ابن ماجة 2: 980 / 2939.

(2) نفسه: 974 / 2921.

(3) سنن ابن ماجة 2: 966 / 2892.

(4) نفسه / 2893.

١٨٧

من يَستلِمُه بحقّ».(1)

وعن نافع، عن ابن عمر قال: استقبل رسول الله الحجر، ثم وضع شفتيه عليه يبكي طويلاً، ثم التفت فإذا هو بعمر بن الخطّاب يبكي فقال: «يا عمر، ههنا تُسكبُ العَبَراتُ».(2)

عثمان بن أبي شيبة بسنده عن عبد الرحمان بن صفوان قال: لما فتح رسول الله مكّة، انطلقتُ فرأيتُ النبيَّ قد خرج من الكعبة هو وأصحابه، وقد استلموا البيت من الباب إلى الحطيم، وقد وضعوا خدودهم على البيت.(3)

حرمةُ المؤمن

جرى الكلام عن بيت الله وحُرمته، وأثره في النفوس وفضيلته، والمقام الخاصّ للحجر الأسود وعظمته، إلاّ أنّ النصوص من القرآن والسنّة تقرّر حقيقةً هي عظم حرمة المؤمن، فيذكر القرآن الكريم المنزلة الخاصّة للإنسان بين مخلوقاته:« لَقَدْ كَرّمْنَا بَنِي آدَمَ) (4) الآية.

هذا في عموم بني آدم، إلاّ أنّ الإنسان يستأهل هذا التكريم بقدر قربه من الله وتقواه:« إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ » . (5)

____________________

(1) نفسه: 982 / 2944.

(2) نفسه.

(3) سُنن أبي داود 2: 181 / 1898.

(4) الإسراء: 70.

(5) الحجرات: 13.

١٨٨

ولأجل الإنسان خلقت الجنّة يسعد بها المؤمن في نعيمٍ مقيم خالد، فإذا كانت تلك هي حرمة الحجر الأسعد لأنّه من الجنّة، وتلك هي حرمة الكعبة ومنزلتها إذ هي بيت الله تعالى ومحلّ ضيافته؛ فما هو موقع الإنسان المؤمن المتّقي، وما هي حُرمته؟ بسندٍ عن مكحول: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لمّا رأى البيت حين دخل مكّة رفع يديه وقال: «اللّهمّ زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابة، وزد من شرّفه وكرّمه ممّن حجَّه واعتمره تشريفاً وتعظيماً وتكريماً وبِرّاً».(1)

إنّ أشرف بقاع الأرض هي مكّة المكرّمة، فيها أوّلُ بيتٍ وضعه الله تعالى لعبادته« إِنّ أَوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلّذِي بِبَكّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ) (2) .

والمؤمن أولى بهذا البيت، وكلّما حجّه واعتمره زاد شرفاً إلى شرفه، إذ كما للبيت والحجر وظيفة هي الشّهادة لمن وافاهما، فكذلك المؤمن فهو شاهد على غيره« لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً » (3) ، والآية بيان منه سبحانه لفضل هذه الأمّة على سائر الأمم. ومعنى شهداء على الناس أي: لتشهدوا على النّاس بأعمالهم، أو لتكونوا حُجّةً على الناس فتُبيِّنوا لهم الحقّ والدّين ويكون الرسول عليكم شهيداً بما يكون من أعمالكم، وحجّةً عليكم. (4)

ولسعة أُفق مسؤوليّة المؤمن في هذه الحياة، كانت حُرمته أعظم، فعن ابن

____________________

(1) الدرّ المنثور 1: 132.

(2) آل عمران: 96.

(3) البقرة: 143.

(4) مجمع البيان - تفسير الآية 143 سورة البقرة.

١٨٩

عبّاس قال: لما نظر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الكعبة قال: «مرحباً بكِمن بيتٍ ما أعظمك وأعظمَ حرمتك، لَلْمُؤمنُ أعظمُ عند الله حرمةً منكِ».(1)

تفاوت منازل المؤمنين

تتفاوت منازل المؤمنين عند الله تعالى، وميزان هذا التفاوت هو التقوى:« إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ » (2) وأتقى الأمّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو سيّد البشر مطلقاً، وهو خاتم الأنبياء، قد بشّر به مَن كان قبله منهم، ورسالته خاتمة الرسالات؛ فهو أولى بالشرف الباذخ الذي لا تنال ذُراه الكعبة. وهو الذي حرّر البيت الحرام، فطهّر الكعبة من أدران الجاهليّة وحطّم الأصنام التي على سطحها، فكان النظر إلى وجهه الكريم وتعظيمه هو مثلما يكون للكعبة. وكان الذي باشر عمل ذلك هو عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، أصعده رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مَنْكِبَيه، فكان ذلك منزلةً له وكرامة.(3)

وللشافعيّ نظم في هذه المكرمة العلويّة:

قيلَ لي: قُل في عليّ مدحاً

ذكرُهث يخمدُ ناراً مُوصَدَهْ

____________________

(1) الدّر المنثور 1: 132.

(2) الحجرات: 13.

(3) مسند أحمد 1: 84، 151، خصائص أمير المؤمنين للنّسائيّ 31، المستدرك على الصحيحين 2: 367 و 3: 5، تاريخ بغداد 13: 2، 3، صفة الصفوة لابن الجوزيّ 1: 119، مناقب الإمام عليّعليه‌السلام لابن المغازليّ: 202 - 203، المناقب للخوارزميّ: 123، ذخائر العقبى: 85، كفاية الطالب: 257، ينابيع المودّة: 139 الرياض النضرة 2: 200، المواهب اللّدنيّة للقسطلانيّ 1: 204.

١٩٠

قلتُ: لا أقدم في مدح امرئ

ضلّ ذواللُّبّ إلى أن عَبَدهْ

والنبيُّ المصطفى قال لنا

ليلة المعراج لمّا صَعده

وضع اللهُ بظهري يدَهُ

فأحسّ القلبُ أنْ قد بردَهْ

وعليّ واضعٌ أقدامَهُ

في محلٍّ وَضَعَ اللهُ يَدَهْ(1)

فبهذا اللّحاظ، وبلحاظ بقيّة مناقبهعليه‌السلام : من سابقته إلى الإسلام، وأنّه لم يسجد لصنمٍ قطّ ولم يوجّه وجهه في ركوع ولا سجود إلاّ إلى الكعبة التي وُلد فيها، ولم يولد قبله ولا بعده فيها أحد غيره، ولأعلميّته وشرائه النّفسَ في سبيل الله، وغير ذلك من المناقب الخاصّة به ممّا سيأتي الكلام عنها. لكلّ ذلك؛ ولأنّه نَفْسُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما في آية المباهلة(2) ، فكان له ما لرسول الله إلاّ النبوّة، ولذا.. فكما أنّ النظر إلى وجه النبيّ عبادة؛ كذلك النظر إلى وجه عليّعليه‌السلام عبادة.

النظر إلى وجه عليّ عبادة

والأحاديث في هذا المعنى من الكثرة نذكر بعضها: بسندٍ عن عبد الله بن

____________________

(1) ينابيع المودّة للقندوزيّ: 140.

(2) تفسير مقاتل 1: 282، مسند أحمد 1: 185، صحيح مسلم 7: 120، الجامع الصحيح للترمذيّ 4: 293، كتاب الولاية لابن عقدة: 186، دلائل النبوّة لأبي نعيم: 124، المستدرك للحاكم 3: 150، أسباب النزول للواحديّ: 68، تفسير الطبريّ 3: 212، شواهد التنزيل 1: 128، مصابيح البغويّ 2: 277، تفسير الحِبَريّ 248، تفسير فرات: 29، تذكرة الخواصّ: 17؛ تفسير الثعلبيّ 3: 85، تفسير ابن كثير 1: 371، مناقب عليّ لابن مردويه: 226 - 228، أسد الغابة 4: 105، وله مصادر كثيرة نذكرها في موضعها.

١٩١

مسعود قال: قال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «النظر إلى وجه عليّ عبادة».(1)

وكيع عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنّ النبيّ قال: «النظر إلى وجه عليّ عبادة».(2)

وعن أبي هريرة قال: رأيت مُعاذ بن جبل يُديم النظر إلى عليّ بن أبي طالب، فقلت: ما لكَ تديم النظر إلى عليّ كأنّك لم تره؟! فقال: سمعتُ رسول الله يقول: «النظر إلى وجه عليّ عبادة».(3)

وبطرقٍ عدّة عن عمران بن حصين: «النظر إلى عليّ عبادة».(4)

معمر، عن الزّهريّ، عن عروة، عن عائشة قالت: رأيت أبا بكر يكثر النظر إلى وجه عليّ، فقلت له: يا أبه، أراك تُكثر النظر إلى وجه عليّ! فقال: يا بُنيّة سمعتُ رسول الله يقول: «النظر إلى وجه عليّ عبادة».(5)

____________________

(1) المستدرك على الصحيحين 3: 152 / 4682، المناقب للخوارزميّ 361، حلية الأولياء 5: 58، ميزان الاعتدال للذهبيّ 4: 401، لسان الميزان لابن حجر 6: 178، الصواعق المحرقة: 73.

(2) حلية الأولياء 2: 182، مناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ: 207، لسان الميزان 1: 242، منتخب كنز العمّال 5: 30.

(3) تاريخ بغداد 2: 51، مناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ: 207، ميزان الاعتدال 3: 484.

(4) مناقب الإمام عليّ: 209، المناقب للخوارزمي: 363، كفاية الطّالب: 161، الرياض النضرة 2: 219، البداية والنهاية 7: 357، ينابيع المودّة: 90، تاريخ الخلفاء: 66.

(5) تاريخ بغداد 2: 51، مناقب الإمام عليّ: 211، كفاية الطّالب: 161.

١٩٢

مثَلُ عليّ في الأُمّة

و لكون عليّعليه‌السلام المَثَل الأعلى بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ أنزله النبيّ منزلة الكعبة، فعلى المسلمين أن يشدّوا الرّحال إليه ليستمدّوا منه معالم دينهم، فهم جميعاً محتاجون إليه وعليهم أن يقصدوه كما يقصدون الكعبة.

عن صالح بن ميثم(1) عن يَريم بن العلا(2) ، عن أبي ذرّ قال:

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «مثَلُ عليّ فيكم - أو قال: في هذه الأمّة - كَمثَلِ الكعبة المستورة - أو المشهورة -، النظرُ إليها عبادة، والحجّ إليها فريضة».(3)

عن شريك، عن سَلَمة، عن الصُّنابحي(4) ، عن عليّ قال: قال رسول الله لعليّ:

____________________

(1) صالح بن ميثم. قال له أبو جعفر - الباقرعليه‌السلام - (إنّي أحبّك وأُحبّ أباك حبّاً شديداً) (رجال ابن داود 186 / 760). وذكره البرقيّ في أصحاب الباقرعليه‌السلام (رجال البرقيّ: 15). وذكره هو وابنه عُقبةَ بن صالح في أصحاب الصادقعليه‌السلام (رجال البرقيّ: 16).

(2) لم أعثر له على ترجمة.

(3) مناقب الإمام عليّ 107، كفاية الطالب: 161، الرياض النضرة 2: 219، مجمع الزوائد 19: 119، كنز العمّال 6: 158.

(4) شَرِيك بن عبد الله النّخعيّ القاضي، كوفيّ ثقة. (تاريخ الثقات للعجلي 217 / 644).

وسَلَمة بن كُهَيل الحضرميّ: كوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ في الحديث، تابعيّ. قال سفيان الثّوري لحمّاد بن سلمة: رأيتَ سلمة بن كهيل؟ قال: نعم، قال: لقد رأيت شيخاً كيِّساً، قال: وكان فيه تشيّع قليل، وهو من ثقات الكوفيّين (تاريخ الثقات 197 / 591). وذكره الطوسيّ في أصحاب أميرالمؤمنين، وقال تابعيّ. ثمّ ذكره في أصحاب الأئمّة: عليّ بن الحسين، والباقر، والصادقعليهم‌السلام (رجال الطوسيّ: 43، 91، 124، 211). وذكره البرقيّ في خواصّ أصحاب أميرالمؤمنين، وفي أصحاب: =

١٩٣

«أنت بمنزلة الكعبة: تؤتى ولا تأتي، فإن أتاك هؤلاء القوم فسَلَّمُوها إليك - يعني الخلافة - فاقبَلْ منهم، وإن لم يأتوك فلا تأتهم حتّى يأتوك».(1)

فالسعيُ إلى عليّعليه‌السلام كالسعي بين الصفا والمروة، والتزامُه مثل التزام ملتزم الكعبة، فهو وبنوه مثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومَن تخلّف عنها غرق.

أخرج الشريف الرضيّ بسندٍ عالٍ، عن الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ ابن موسى بن جعفر قال: حدّثني أبي عليّ، قال حدّثني أبي محمّد، قال: حدّثني أبي عليّ، قال: حدّثني أبي موسى، قال: حدّثني أبي جعفر، قال: حدّثني أبي محمّد، قال: حدّثني أبي عليّ، قال: حدّثني الحسين بن عليّ، عن أبيه أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام ، قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا عليّ، مَثَلُكُم في الناس مَثَلُ سفينة نوح: من رَكِبَها نجا، ومن تخلّف عنها غرق، فمن أحبّكم يا عليّ نجا، ومن

____________________

= السجّاد والباقرعليهم‌السلام (رجال البرقيّ: 4، 8، 9). قال ابن سعد: توفّي سلمة بن كهيل الحضرميّ سنة اثنتين وعشرين ومائة حين قُتل زيد بن عليّ بالكوفة. (الطبقات الكبرى 6: 314 / 2415).

والصّنابحي: شاميّ، تابعيّ، ثقة، من خيار التابعين. (تاريخ الثقات 230 / 705). وهو عبد الرحمان بن عسيلة المراديّ الصّنابحي، رحل إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فوجده قد مات فنزل الشام، روى عن النبيّ مرسلاً، وعن أبي بكر وعمر وعليّ وغيرهم (تهذيب الكمال 6: 229). ومثله في (طبقات ابن سعد) عبد الرحمان بن عسيلة الصّنابحي، من حِمْيَر، ويكنّى أبا عبد الله، وكان ثقة قليل الحديث، روى عن أبي بكر وعمر وبلال. وذكر بسنده عن الصّنابحي قال: ما فاتني رسول الله إلاّ بخمس ليالٍ، توفّي رسول الله وأنا بالجحفة، فقدمت على أصحابه متوافرين، فسألت بلالاً عن ليلة القدر فقال: ليلة ثلاث وعشرين (الطبقات الكبرى 7: 353 / 4038).

(1) أسد الغابة 4: 112. وبلفظٍ آخر في: كفاية الطالب: 161، ومناقب الإمام عليّعليه‌السلام : 107، كنز العمّال 6: 158، ومجمع الزوائد 9: 119.

١٩٤

أبغضكم ورفض محبّتكم هوى في النار». ومَثَلُكُم يا عليّ مثل بيت الله الحرام: من دخله كان آمناً، فمن أحبّكم ووالاكُم كان آمناً من عذاب النار، ومن أبغضكم ألقي في النار يا عليّ« وَللّهِ‏ِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً » (1) ، ومن كان له عذر فله عذره، ومن كان مريضاً فله عذره، والله لا يعذر غنيّاً ولا فقيراً ولا مريضاً ولا أعمى ولا بصيراً في تفريطه في موالاتكم ومحبّتكم.(2)

وأخرج سفيان الفسويّ، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه قال: رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمانٌ لأمّتي».(3)

وعن قتادة، عن عطاء، عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمانٌ لأمّتي من الاختلاف؛ فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس».(4)

وعن أبي إسحاق - السّبيعيّ -، عن حنش الكنانيّ(5) قال: سمعت أبا ذرّ يقول وهو آخذ بباب الكعبة: «مَن عرفني فأنا مَن عرفني، ومن أنكرني فأنا أبوذرّ، سمعتُ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: ألا إنّ مَثَل أهل بيتي فيكم مَثَلُ سفينة نوح في

____________________

(1) آل عمران: 97.

(2) خصائص أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب للشريف الرضيّ: 48.

(3) المعرفة والتاريخ للفسويّ 1: 296.

(4) المستدرك على الصحيحين للحاكم 3: 162 / 4715.

(5) حنش بن المعتمر الكنانيّ، كوفيّ ثقة تابعيّ (تاريخ الثقات للعجليّ 136 / 347)، ووثّقه ابن داود وأخرج له في سُننه، والترمذيّ في جامعه.

١٩٥

قومه، من رَكِبَها نجا، ومن تخلّف عنها غَرِق».(1)

وعليّ بن زيد، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي ذرّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَثَلُ أهل بيتي مَثَلُ سفينة نوح، من ركب فيها نجا، ومن تخلّف عنها غرق، ومَن قاتلنا في آخر الزمان فإنّما قاتل مع الدّجال».(2)

وأخرج ابن أبي شيبة في مصنّفه قال: حدّثنا معاوية بن هشام(3) ، قال: حدّثنا عمّار، عن الأعمش، عن المنهال، عن عبد الله بن الحارث، عن عليّ قال: إنّما مثَلُنا في هذه الأمّة كسفينة نوح، وكتاب حِطّة في بني إسرائيل.(4)

هذا هو شأن عليّ ومنزلته، ومن كان كذلك لا يكبر عليه ردّ الشمس إليه كرامةً له من عند الله تعالى.

وأمّا من حيث الوقوع: فيكفي أنّ أميرالمؤمنين عليّاعليه‌السلام ، ذكر ذلك في محاججته القوم يوم الشّورى، فأخبتوا له في كلّ ما احتجّ به من فضائله.

أبو ساسان(5) ، وأبو حمزة، عن أبي إسحاق السبيعيّ، عن عامر بن واثلة قال:

____________________

(1) المستدرك على الصحيحين 3: 163 / 4720، والمعارف لابن قتيبة 252.

(2) المعرفة والتاريخ للفسويّ 1: 296، والكنى والأسماء للدولابيّ 1: 137 / الترجمة 241 ولكن من غير العبارة الأخيرة.

(3) معاوية بن هشام القصّار الأزديّ، أبو الحسن الكوفيّ. قال العجليّ: ثقة (تاريخ الثقات للعجليّ 433 / 1598).

(4) المصنّف لابن أبي شيبة 7: 503 / 52.

(5) حُضين بن المنذر، أبو ساسان السدوسيّ (بصريّ) تابعيّ، ثقة، وكان على راية عليّ يوم صفّين (تاريخ الثقات 123 / 304). =

١٩٦

____________________

= قال خليفة في صفة جيش أميرالمؤمنين يوم صفّين:... وعلى بكر البصرة حُضين بن المنذر (تاريخ خليفة 146).

وذكره الطوسيّ في أصحاب أميرالمؤمنين قال: أبو سنان الأنصاريّ (رجال الطوسيّ: 63).

وذكر البرقيّ أنّ له صحبة (رجال البرقيّ: 1). ثم ذكره في طبقة الأصفياء من أصحاب أميرالمؤمنينعليه‌السلام (رجال البرقيّ: 3). وذكره كذلك في شرطة الخميس من أصحابهعليه‌السلام (رجال البرقيّ: 4).

وذكره ابن داود في أصحاب أميرالمؤمنينعليه‌السلام (رجال ابن داود القسم الأوّل 398 / 42). إلاّ أنّ البرقيّ وابن داود سمّياه: الحصين - بصادٍ مهملة غير منقوطة -.

وذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من أهل البصرة (الطبقات الكبرى 7: 155). وأبو حمزة: هو ثابت بن أبي صفيّة واسم أبي صفيّة دينار الأزديّ الكوفيّ، مات سنة خمسين ومائة. ذكره الطوسي في: أصحاب عليّ بن الحسين، وفي أصحاب الباقر، وفي أصحاب الصادقعليهم‌السلام (رجال الطوسيّ 84، 110، 160).

قال النجاشيّ: كوفي ثقة، وأولاده: نوح، ومنصور، وحمزة - قُتلوا مع زيد بن عليّ قال: لَقِيَ عليَّ ابن الحسين وأبا جعفر وأبا عبد الله وأبا الحسنعليهم‌السلام ، وروى عنهم، وكان من خيار أصحابنا وثقاتهم ومعتمديهم في الرواية والحديث. ورُوي عن أبي عبد الله أنّه قال: أبو حمزة في زمانه مثلُ سلمان في زمانه. وروى عنه العامّة. له كتاب تفسير القرآن، وكتاب النوادر ورسالة الحقوق عن عليّ بن الحسين (رجال النجاشي 83 - 84).

وذكره ابن داود فقال: ثقة، له كتاب (رجال ابن داود 76 / 273).

وذكره البرقيّ في أصحاب عليّ بن الحسينعليه‌السلام (رجال البرقيّ 8).

وترجم له المزّيّ ترجمة وافية نذكر منها أسماء من روى عنهم، ومن رَوَوا عنه؛ لنعرف منزلته ووثاقته، قال: روى عن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، وأبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن أبي طالب، وعكرمة مولى ابن عبّاس، والأصبغ بن نُباتة، وأنس بن مالك، وسعيد بن جُبير، وعامر الشعبيّ، وسالم بن أبي الجعد الغطفانيّ، وأبي إسحاق السّبيعيّ... وغيرهم. =

١٩٧

____________________

= روى عنه: سفيان الثّوريّ، وشريك بن عبد الله النخعيّ وعمرو بن أبي المقدام ثابت بن هرمز، و عبيدالله بن موسى وأبونعيم الفضل بن دكين، ووكيع بن الجرّاح، وأبوبكر بن عيّاش، وحفص بن غياث، والحسن بن محبوب... وغيرهم. روى له الترمذيّ، والنّسائيّ في (مسند عليّ) (تهذيب الكمال للمزّيّ 4: 357 / 819).

وأبو إسحاق: هو أبو إسحاق السبيعيّ، واسمه عمرو بن عبد الله بن عليّ... بن سبيع... بن هَمْدان، السّبيعيّ الهَمْدانيّ الفقيه (النّسب لابن سلام 337، الطبقات الكبرى 6: 311 / 2411).

قال العجليّ: أبو إسحاق السّبيعيّ (كوفيّ) تابعيّ، ثقة، روى عن ثمانية وثلاثين من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله (تاريخ الثقات 366 / 1272).

روى عن: زيد بن أرقم، والبراء بن عازب، عديّ بن حاتم، وعبد الله بن عمرو و أسامة بن زيد، وأنس بن مالك، وحُبْشيّ بن جُنادة وزيد بن يُثيع، وسعيد بن جبير، وسليمان بن صرد الخزاعيّ، وجرير بن عبد الله البجلي، وعامر بن شراحيل الشّعبي، وعبد الله بن الحارث بن نوفل، وعبد الله بن الزبير بن العوّام، وعبد الله بن عبّاس والحارث بن عبد الله الأعور، وعبد الرحمان بن أبي ليلى، وعبد خير الهمدانيّ وعكرمة مولى ابن عباس، وكميل بن زياد، ومجاهد بن جبر المكّيّ، وأبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين... وخلقٍ كثير.

روى عنه: أبان بن تغلب، وأبو شيبة إبراهيم بن عثمان العبسيّ، وسفيان الثّوريّ وهو أثبت الناس فيه، وسفيان بن عيينة، وسليمان الأعمش، وشريك بن عبد الله وشعبة بن الحجّاج، وفضيل بن مرزوق، وفِطْر بن خليفة، وأبو حمزة الثّماليّ، وموسى بن عقبة، ومنصور بن المعتمر، ومِسعَر بن كِدام، وعبد الله بن المختار، وحمزة بن حبيب الزّيّات، ومالك بن مِغْول... وكثيرون.

مات سنة سبع وعشرين ومائة (الطبقات الكبرى 6: 311، الكنى والأسماء للدولابيّ 1: 100، التاريخ الكبير للبخاريّ: 6 / الترجمة 2594، الجرح والتعديل: 6 / الترجمة 1347، طبقات خليفة 275 / 1210، وقد ذكره في الطبقة الرابعة من أهل الكوفة ن من مُضَر اليمن).

قال أحمد بن حنبل: أبو إسحاق ثقة، وكذلك يحيى بن معين والنّسائي (الجرح والتعديل: 6 / الترجمة 1347). =

١٩٨

كنت مع عليّعليه‌السلام في البيت يوم الشورى، فسمعت عليّاً يقول لهم: لأحتجّنّ عليكم بما لا يستطيع عربيّكم ولا عجميّكم يُغيّر ذلك. ثمّ قال: أنشدكم بالله أيّها النّفر جميعاً! هل فيكم أحد ردّت عليه الشّمس حتّى صلّى العصر في وقتها، غيري؟

____________________

= قال أبو داود الطّيالسيّ: قال رجل لشعبة: سمع أبو إسحاق من مجاهد؟ قال: وما كان يصنع بمجاهد، كان هو أحسنَ حديثاً من مجاهد، ومن الحسن وابن سيرين (الجرح والتعديل: 6: الترجمة 1347).

وسبق أن ذكرنا قول العجليّ فيه وتوثيقه له.

وعامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو، أبو الطّفيل اللّيثيّ الكنانيّ، آخر الصحابة موتاً. ولد عام اُحدٍ، وأدرك ثماني سنين من حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله . روى عن: النبيّ، وعليّ، وأبي بكر، وعمر، ومعاذ، وابن مسعود، وحذيفة بن أسيد الغفاريّ، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن أرقم، وأبي سعيد الخدريّ، وسلمان الفارسيّ، وابن عبّاس... وغيرهم.

روى عنه: جابر بن يزيد الجعفيّ، والزهريّ، وحبيب بن أبي ثابت، وفطر بن خليفة، وعليّ بن زيد ابن جدعان، وحمران بن أعين، وعمرو بن دينار، وقتادة، وإسماعيل بن مسلم المكّيّ.. وخلق كثير (الطبقات الكبرى 5: 457، طبقات خليفة 68 / 176، 216 / 841، 488 / 2519، الجرح والتعديل: 6 / الترجمة 1829، جمهرة أنساب العرب 183، جمهرة النسب 145).

وذكره ابن داود في خواصّ أميرالمؤمنينعليه‌السلام (رجال ابن داود) 194 / 194).

وكذلك البرقيّ (رجال البرقيّ: 4)، وذكر الطوسيّ في أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي أصحاب أميرالمؤمنين، وفي أصحاب الحسن (رجال الطوسيّ: 25، 47، 69).

قال العجليّ: عامر بن واثلة، أبو الطفيل (مكّيذ) ثقة، سكن الكوفة مع عليّ، وكان من كبار التابعين، وقد رأى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله (تاريخ الثقات 245 / 757).

١٩٩

قالوا: اللّهمّ لا.(1)

____________________

(1) كتاب الولاية لابن عقدة: 174، وهي واحدة من (29) فقرة احتجّ بها أميرالمؤمنينعليه‌السلام ، فشهدوا له بتصديقها. والسند الذي ذكرناه من القوّة والوثاقة ممّا يقطع بصحّة المناشدة وإخبات القوم وتصديقهم لأميرالمؤمنين فيما احتجّ به ومنه ردّ الشمس. وذكرها ابن المغازليّ الشافعيّ المتوفّى سنة (542 هـ) في كتابه (مناقب الإمام عليّ بن أبي طالب: 112 / 155)، والجوينيّ في كتابه (فرائد السمطين 1: 319 / 215)؛ والخوارزميّ الحنفيّ المتوفّى سنة (568 هـ) في كتابه (المناقب: 313 / 314) بسنده عن زافر بن سليمان بن الحارث [ زافر بن سليمان، ثقه (تاريخ يحيى بن معين 2: 273 / 4751، الجرح والتعديل للرازيّ 1: 2 / 625) ]، عن عامر ابن واثلة؛ وذكر من المناشدة (24) فقرة.

وذكرها الگنجي الشافعيّ (المقتول سنة 658 هـ) في كتابه (كفاية الطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب: 386) بسنده عن أبان بن تغلب [ أبان بن تغلب بن رياح القاري الربعيّ، أبو سعد الكوفيّ. مات سنة إحدى وأربعين ومائة. روى عن أبي إسحاق السبيعيّ والحَكَم، روى عنه شعبة بن الحجّاج، وحمّاد بن زيد (كتاب الثّقات لابن حبّان 3: 215 / 290). وفي (تاريخ أسماء الثقات لابن شاهين 67 / 75): قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: أبان بن تغلب ثقة، كان شعبة يحدّث عنه. قيل له: أبان، وإدريس الأوديّ؟ فقال: أبان أكبر.

ووثّقه أبو حاتم الرازيّ، حيث قال عن أحمد أنّه سُئل فقال: ثقة، وكذا ابن معين (الجرح والتعديل للرازيّ 1: 1 / 296).

ذكره الطوسيّ في أصحاب عليّ بن الحسين، وفي أصحاب الباقر أبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسينعليهم‌السلام (رجال الطوسيّ 82، 106).

وذكره البرقيّ في أصحاب الباقر، وأصحاب الصادقعليهما‌السلام (رجال البرقيّ 9، 16).

وترجم له النجاشيّ: أبان بن تغلب بن رباح، أبو سعيد البكريّ الجُريريّ، ثقة جليل القدر عظيم المنزلة في أصحابنا، لقي عليّ بن الحسين، وأبا جعفر - الباقر - وأبا عبد الله - الصادق -عليهم‌السلام ، روى عنهم، وكانت له عندهم منزلة وقَدَم. وذكره البلاذريّ قال: روى عن عطية العوفيّ [ عطيّة بن =

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378