أدب الطف الجزء ١

أدب الطف16%

أدب الطف مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 351

  • البداية
  • السابق
  • 351 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 29721 / تحميل: 8897
الحجم الحجم الحجم
أدب الطف

أدب الطف الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

شعراء الحسين عليه‌السلام

في القرن الثالث الهجري

٢٨١

١ - عبد السلام بن رغبان ( ديك الجن )

٢ - خالد بن معدان من شعراء القرن الاول (١)

٣ - دعبل بن علي الخزاعي

٤ - الحسين بن الضحاك ( الخليع )

٥ - عبد الله بن المعتز العباسي

٦ - الفضل بن محمد بن الفضل بن الحسن بن عبيد الله بن العباس ابن علي بن أبي طالب عليه‌السلام

٧ - علي بن محمد بن بسام البغدادي

٨ - محمد بن أحمد بن الصقر الموصلي

٩ - القاسم بن يوسف الكاتب

١٠ - علي بن الحسن بن علي بن عمر الاشرف بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب علي السلام

١١ - محمد الجواليقي

__________________

١ - هذه الترجمة ضمن ترجمة ديك الجن

٢٨٢

١ - عبد السلام ديك الجن:

٢ - خالد بن معدان

قال ديك الجن، في رثاء الحسين (ع):

ما انت مني ولا ربعاك لي وطر

الهمّ امتلك بي والشوق والفكرُ

وراعها ان دمعي فاض منتثراً

لا اوترى كبدي للحزن تنتثر

اين الحسين وقتلى من بني حسن

وجعفر وعقيل غالهم عمر (١)

قتلى يحنُّ اليها البيت والحجر

شوقا وتبكيهم الآيات والسور

مات الحسين بأيد في مغائظها

طول عليه وفي إشفاقها قصر

لا درّ در الأعادي عندما وتروا

ودّر درك ما تحوين يا حفر

لما رأوا طرقات الصبر معرضة

الى لقاءٍ ولقيا رحمة صبروا

قالوا لانفسهم يا حبذا نهل

محمد وعلي بعده صدر

ردوا هنيئاً مريئاً آل فاطمة

حوض الردى فارتضوا بالقتل واصطبروا

الحوض حوضكم والجد جدكم

وعند ربكم في خلقة غير

ابكيكم يابني التقوى وأعولكم

واشرب الصبر وهو الصاب والصبر

____________

١ - اي عمر بن سعد ووفي رواية غالهم غمر، والغمر الجاهل الحاقد.

٢٨٣

في كل يوم لقلبي من تذكركم

تغريبة ولدمعي فيكم سفر

موتاً وقتلا بهامآت مغلقة

من هاشم غاب عنها النصر والظفر

كفى بأن اناة الله واقعة

يوماً ولله في هذا الورى نظر

انسى علياً وتفنيد الغواة له

وفي غد يعرف الأفاك والأشر

حتى اذا ابصر الاحياء من يمن

برهانة آمنوا من بعد ما كفروا

ام من حوى قصبات السبق دونهم

يوم القليب وفي اعناقهم زور

أضبع غير علي كأن رافعه

محمد الخير ام لا تعقل الحمر

الحق ابلج والاعلام واضحة

لو أمنت انفس الشانين او نظروا

دعوا التخبط في عشواء مظلمة

ام يبدلا كوكب فيها ولا قمر

وقال يرثي الحسين عليه‌السلام (١)

يا عين لا للغضا ولا الكتب

بكا الرزايا سوى بكأ الطربِ

جودي وجدي بملأ جفنك ثمَّ

احتفلي بالدموع وانسكبي

يا عين في كربلاء مقابل قد

تركن قلبي مقابل الكرب

مقابـُر تحتها منابر من

علم وحلم ومنظر عجب

من البهاليل آل فاطمة

اهل المعالي السادة النجب

كم شرقت منهم السيوف وكم

رُويت الارض من دم سرب

نفسي فداء لكم ومن لكم

نفسي وامي واسرتي وابي

لاتبعدوا يا بني النبي على

ان قد بعدتم والدهر ذو نوب

يا نفس لا تسأمي ولا تضقي

وارسي على الخطب رسوة الهضب

صوني شعاع الضمير واستشعري

الصبر وحسن العزاء واحتسبي

فالخلق في الارض يعجلون

ومولاك على توأدٍ ومرتقب

__________________

١ - عن ديوانه المطبوع في بيروت سنة ٣١٨٣ هـ

٢٨٤

لابد ان يحشر القتيل وأن

يسأل ذو قتله عن السبب

فالويل والنار والثبور لمن

قد اسلموه للجمرة واللهب

يا صفوة الله في خلائقة

واكرم الاعجمين والعرب

انتم بدور الهدى وانجمه

ودوحة المكرمات والحسب

وساسة الحوض يومَ لانهل

لمورديكم موارد العطب

فكرت فيكم وفي المصاب

فما انفك قوادي يعوم في عجب

ما زلتم في الحياة بينهم

بين قتيل وبين مستلب

قد كان في هجركم رضى بكم

وكم رضى مشرج على غضب

حتى اذا اودع النبي شجا

قيد لهاة القصاقص الحرب

مع بعيدين احرزا نسبا

مع بعد دار عن ذلك النسب

ما كأن تيم لهاشم بأخ

ولا عدي لاحمد بأب

لكن حديثا عداوة وقلى

تهورا في غيابة الشقب

قاما بدعوى في الظلم غالبةٍ

وحجة جزلة من الكذب

من ثم اوصى به نبيكم

نصا فابدى عداوة الكلب

ومن هناك انبرى الزمان لهم

بعد التياط بغاربٍ جشب

لا تسلقوني بحد السنتكم

ما أرب الظالمين من اربي

انا الى الله راجعون على

سهوالليالي وغفلة النوب

غدا عليُ ورب منقلب

اشأم قد عاد غير منقلب

فاغتره السيف وهو خادمه

متى يُهب في الوغى به يجب

اودى ولو مد عينه اسد الغاب

لناجي السرحان في هرب

يا طول حزني ولوعتي وتباريحي

ويا حسرتي وياكربتي

لهول يوم تقلص العلم

والدين بثغريهما عن الشنب

__________________

١ - الشقب: مهواة مابين كل جبلين، والجمع شقاب وشقوب.

٢ - الالتياط: الالتصاق، الجشب، الخشن.

٢٨٥

ذلك يوم لم ترم جائحة

بمثله المصطفى ولم تصب

يوم اصاب الضحى بظلمته

وقنع الشمس من دجى الغُهب

وغادر المعولات من هاشم

الخير حيارى مهتوكة الحجب

تمري عيونا علي ابي حسن

مخفوقة بالكلام والندب

تغمر ربع الهموم اعينها

بالدمع حزناً لربعها الخرب

تئن والنفس تستدير بها

رحى من الموت مرة القطب

لهفي لذاك الرواء ام ذلك

الرأي وتلك الانباء والخطب

يا سيد الاوصياء والعالي

الحجة والمرتضى وذا الرتب

ان يسر جيش الهموم منك

الى شمس منى والمقام والحجب

فربما تقْعَص الكماة باقدامك

قعصاً يُجثى على الركب

ورب مقورةٍ ململمة

في عارضٍ للحمام منسكب

فللت ارجاءها وجحفلها

بذي صقال كوامض الشهب

او اسمر الصدر اصفر ازرق

الرأس وان كأن احمر الحلب

اودى علي صلى على روحه

الله صلاة طويلة الدأب

وكل نفس لحينها سبب

يسرى اليها كهيئة اللعب

والناس بالغيب يرجمون وما

خلتهم يرجمون عن كثب (١)

وفي غد فاعلمي لقاؤهم

فإنهم يرقبون، فارتقب

وقال من مرثية في الحسين عليه‌السلام :

اصبحت ملقى في الفراش سقيما

اجدُ النسيم من السقام سموما

__________________

١ - عن كثب: عن قرب

٢٨٦

ماء من العبرات حرّى ارضه

لو كان من مطر لكان هزيما (١)

وبلابلُ لو انهن مآكل

لم تخطىء الغسلين والزقوما (٢)

وكرىً يرو عنّي سرى لو انه

ظل لكان الحر واليحمومآ (٣)

مرت بقلبي ذكريات بني الهدى

فنسيت منها الروح والتهويما (٤)

ونظرت سبط محمد في كربلا

فرداً يعاني حزنه المكظوما

تنحو اضالعه سيوف امية

فتراهم الصمصوم فالصمصوما

فالجسم اضحى في الصعيد موزعاً

والرأس امسى في الصعاد (٥) كريما

وقال في اهل البيت عليهم‌السلام :

شرفي محبة معشر

شرقوا بسورة هل اتى

وولايَ فيمن فتكه

لذوي الضلالة اخبتا (٦)

واذا تكلم في الهدى

جحّ الغوي وأسكتا

فلفتكه ولهديه

سماه ذو العرش الفتى

ثبت اذا قد ماسوا

في المهاوي زلتا

لم يعبد الصنام قط

ولا أراب ولا عتا (٧)

صنوان هذا منذر

وافى، وذاهاد أتى

يهدي لما اوفى به

حكم الكتاب وأثبتا

فهو القرين له وما

افترقا يصيف أو شتا

__________________

١ - الهزيم: صوت الرعد والرعد نفسه.

٢ - الغسلين: ما انغسل من لحوم اهل النار ودمائهم ومنه قوله تعالى « فليس له اليوم ههنا حميم ولا طعام الا من غسلين ». والزقوم. اسم طعام لهم.

٣ - اليحموم: الدخان الاسود قال تعالى « وظل من يحموم ».

٤ - الروح: الرحمة. هوم الرجل تهويما اذا هز رأسه من النعاس

٥ - الصعاد: مفردها الصعدة وهي القناة المستوية، ويريد بها هنا الرماح

٦ - أخبت: اخشت واذل

٧ - أراب: جعل فيه ريبه. عتا: استكبر وجاوز الحد، فهو عات وعتي

٢٨٧

لكنما الاعداء لم

يدعوه أن يتلفتا

ثقل الهدى وكتابه

بعد النبي تشتتا

واحسرتا من غضبه

وسكوته، واحسرتا

طالت حياة عدوه

حتى متى، والى متى

وقال بمدحه عليه‌السلام واولها:

دعوا ابن ابي طالب للهدى

ونحر العدى كيفما يفعل

وقال في الزهراء، واولها:

يا قبر فاطمة الذي ما مثله

قبر بطيبة طاب فيه مبيتا

وقال يمدح اهل البيت عليهم‌السلام من ارجوزته الكاملة:

ان الرسول لم يزل يقول

والخير ما قال به الرسول

وقال يمدح الامام علي بن أبي طالب ويتظلم له، واولها:

اصبحتُ جمّ بلابل الصدر

وأبيت منطوياً على الجمر

ان بحت يوماً طل فيه دمي

ولئن كتمت يضق به صدري

وهذه القصائد كلها في ديوانه المطبوع في بيروت - لبنان، وقال:

جاؤا برأسك يابن بنت محمد

مترملا بدمآئه ترميلا

وكأنما بك يابن بنت محمد

قتلوا جهاراً عامدين رسولا

قتلوك عطشاناً ولما يرقبوا

في قتلك التنزيل والتأويلا

ويكبرون بان قتلت وانمآ

قتلوا بك التكبير والتهليلا

قال السيد الامين في اعيان الشيعة جزء ٤ ص ٣٧٤ وروى ان خالد بن معدان الطائي من فضلاء التابعين لما شاهد رأس الحسين عليه‌السلام بالشام اخفى نفسه شهرا من جميع اصحابه فلما وجدوه بعد اذ فقدوه سألوه عن سبب ذلك، فقال: الا ترون ما نزل بنا، ثم أنشأ يقول الابيات (١) وجاء في الجزء ٢٩ ص ١٤٠ من الاعيان ايضاً.

__________________

١ - ورواها ابن عساكر في تاريخ دمشق وزاد هذا البيت:

نقضوا الكتاب المستبين وأبرموا

ما ليس مرضياً ولا مقبولا

٢٨٨

خالد بن معدان الطائي

في حاشية تهذيب التهذيب عن المغني للذهبي: معدان بمفتوحة وسكون عين مهملة، وخفة دال مهملة.

كان خالد هذا من فضلاء التابعين المختصين بامير المؤمنين (ع).

قال الشيخ المامقاني في ( تنقيح المقال ): خالد بن معدان الطائي من فضلاء التابعين واهل الصلاح والذين ارسله عبد الله بن عباس ايام ولايته من قبل امير المؤمنين عليه‌السلام على البصرة بجند من اهل البصرة الى الاهواز ممداً به معقل ابن قيس الرياحي امير الجيش المحارب بأمر علي للناجي الخارجي بالاهواز وكتب اليه معه، وجهت اليك خالد بن معدان الطائي مع رجال من المسلمين وهو من اهل الدين والصلاح والنجدة فاعرف ذلك له ان شاء الله. ذكر ذلك ابن هلال الثقفي في كتاب ( الغارات )، ويظهر من نسبة ابن شهر آشوب في المناقب له الابيات الاربعة المشهورة في رثاء الحسين التي اولها: ( جاؤا برأسك يابن بنت محمد ) انه بقي الى ما بعد قتل الحسين عليه‌السلام ، ويعلم مما نقل الفاضل المجلسي عن بعض كتب المناقب القديمة انه كان يومئذ بالشام فانه روى عن الكتاب المذكور باسناده عن البيهقي عن علي بن محمد بن الاديب يذكر باسناد له: ان رأس الحسين لما صلب بالشام اختفى خالد بن معدان - وهو من افضل التابعين - عن اصحابه فطلبوه شهراً حتى وجدوه، فسألوه عن عزلته فقال: اما ترون ما نزل بنا، ثم انشأ يقول: جاؤا برأسك يابن بنت محمد الابيات.

قال: وقد نسب الى خالد بن معدان في رثاء الحسين عليه‌السلام ، قالها حين

٢٨٩

مجيء السبايا والرؤس الى الشام ويبعد ان يكون هو الطائي هذا، لانه يكون قد بلغ المائة او تجاوزها ولو كان كذلك لذكر، ويمكن كونه الكلاعي الشامي الحمصي المتوفي سنة ١٠٣ او اكثر.

اقول: اما الشيخ ابن نما الحلي رحمه‌الله ، فقد نسبها لابن سنان الخفاجي كما ذكر ذلك في ( مثير الاحزان ) والظاهر ان ابن سنان له ابيات تشبه هذه الابيات في المعنى فحصل التوهم.

ثم ان السيد الامين رحمه‌الله ذكر هذه الابيات في الجزء ٣٨ ص ٣٠ في ترجمة ديك الجن وانها من نظمه ولم يناقش في ذلك، وديك الجن هو: ابو محمد عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب بن عبد الله بن رغبان بن مزيد ابن تميم الكلبي الحمصي ولد سنة ١٦١ بسلمية وتوفي سنة ٢٣٥ هـ ٨٥٠ م او ٢٣٦

وقال عن ديك الجن:

عمره اربع وسبعون سنة او خمس وسبعون، ذكره ابن شهر آشوب في شعراء اهل البيت (ع). شاعر الدنيا وصاحب الشهرة بالادب فاق شعراء عصره وطار ذكره وشعره في الامصار حتى صاروا يبذلون الاموال للقطعة من شعره، قال ابن خلكان: وهو من اهل سلمية ولم يفارق الشام مع ان خلفاء بني العباس في عصره ببغداد فلا رحل الى العراق ولا الى غيره منتجعاً بشعره، وكان يتشيع تشيعا حسناً، وله مراث في الحسين (ع)، وقال ابن شهر آشوب: افتتن الناس بشعره في العراق وهو في الشام حتى انه اعطي ابا تمام قطعة من شعره، وقال له يا فتى اكتسب بهذا واستعن به على قولك، فنفعه في العلم والمعاش. قال عبد الله بن محمد بن عبد الملك الزبيدي كنت جالساً عند ديك الجن فدخل عليه حَدثِ فانشده شعراً عمله فاخرج ديك الجن من تحت مصلاه درجاً كبيراً فيه كثير من شعره فسلمه اليه، وقال له: يا فتى تكسب بهذا واستعن به على قولك فلما خرج سألته عنه، فقال: هذا فتى من اهل حاسم يذكرانه من طيء يكنى اباتمام واسمه حبيب بن اوس وفيه ادب وذكاء وله قريحة وطبع - الحديث.

٢٩٠

يعتبر الشاعر ديك الجن في طليعة شعراء القرن الثالث الهجري ومن ابرزهم في الرثاء، ولم يجاره في مدح آل البيت ورثائهم الا السيد الحميري وشعره يقوم دليلاً قوياً على انه شاعر مطبوع ترتاح له النفس وتتذوقه الاسماع والقلوب، وولاؤه لأهل البيت ظاهر على شعره.

ومن شعره في امير المؤمنين علي عليه‌السلام :

سطا يوم بدر بقرضابه

وفي اُحدٍ لم يزل يحملُ

ومن بأسه فتحت خيبر

ولم يُنجها بابها المقفل

دحا اربعين ذراعاً به

هزبر له دانت الاشبل

واوردت له البيهقي في المحاسن والمساوى هذه القصيدة:

لا تقفْ للزمان في منزل الضيم

ولا تستكن لرقة حالِ

واهن نفسك الكريمة للموت

وقحّم بها على الاهوال

فلعمري للموت ازين للحر

من الذل ضارعاً للرجال

اي ماء يدور في وجهك الحر

اذا ما امتهنته بالسؤال

ثم لا سيما اذا عصف الدهر

بأهل الندى واهل النوال

غاضت المكرمات وانقرض

الناس وبادت سحائب الافضال

فقليل من الورى من تراه

يرتجى او يصون عرضاً بمال

وكذاك الهلال اول مآ

يبدو نحيلا في دقة الخلخال

ثم يزداد ضوئه فتراه

قمراً في السماء غير هلال

عاد تدميثك المضاجع

للجنب فعال الخريدة المكسال

عامليُّ النتاج تطوى له الارض

اذا ما استعد للانفال

جرشع لاحق الا ياطل كالاعفر

ضافي السبيب غير مذال

واتخذ ظهره من الذل حصناً

نعم حصن الكريم في الزلزال

لا احب الفتى اراه اذا مآ

عضه الدهر جاثماً في الظلال

٢٩١

مستكيناً لذي الغنى خاشع

الطرف ذليل الادبار والاقبال

اين جوبُ البلاد شرقا وغرباً

واعتساف السهول والاجبال

واعتراض الرقاق يوضع فيها

بظباء النجاد والعمال

ذهب الناس فاطلب الرزق

بالسيف والا فمُت شديد الهزال

وقال يهجو اهل حمص لان خطيبهم كان يكثر الصلاة على محمد (ص):

سمعوا الصلاة على النبي توالى

فتفرقوا شيعاً وقالوا لا، لا

ثم استمر على الصلاة إمامهم

فتحزبوا ورمى الرجال رجالا

يا آل حمص تَوقعوا من عارها

خزياً يحلّ عليكم ووبالا

شاهت (١) وجوهكم وجوهاً طالما

رغمت معاطسها وساءت حالا

ان يثن من صلى عليه كرامة

فالله قد صلى عليه تعالى

وقال يرثى ابا تمام الطائي:

فُجع القريض بخاتم الشعراء

وغدير روضتها حبيب الطائي

ماتا معاً فتجاورا في حفرة

وكذاك كانا قبلُ في الاحياء

ومن شعره:

ما الذنب الالجدي حين ورثني

علماً وورثه من قبل ذاك أبي

فالحمد لله حمداً لانفاد له

ما المرء الا بما يحوي من النسب

وقوله:

او ما ترى طمري بينهما

رجل الحّ بهز له الجدُّ

فالسيف يقطع وهو ذو صدأ

والنصل يقرى الهام لا الغمد

هل تنعفنَّ السيف حيلتهُ

يوم الجلاد إذا بنا الحدُّ

وله:

أيا قمراً تبسم عن اقاحا

ويا غصناً يميل مع الرياح

__________________

١ - شاهت: قبحت. المعطس الانف.

٢٩٢

جبينك. والمقلّد والثنايا

صباح في صباح في صباح

ويقال انه كان له غلام وجارية كان يحبهما حباً شديداً فرآهما على حالة مكروهة فقتلهما وقال في الجارية:

يا طلعةً طلع الحمام عليها

فجنى لها ثمر الردى بيديها

رويت من دمها الثرى ولطالما

روى الهوى شفتي من شفتيها

وقال في الغلام:

ياسيف إن ترم الزمان بغدره

فلأنت ابدلت الوصال بهجره

فقتلته وله على كرامة

ملأ الحشا وله الفؤاد بأسره

عهدي به ميتاً كاحسن نائم

والحزن يسفح أدمعي في حجره

وقال وقد ندم على قتله جاريته:

جاءت تزور فراشي بعدما

قبرت فظلت ألثم نحراً زانه العود

وقلت قرة عين قد بعثت لنا

فكيف ذا وطريق القبر مسدود

قالت هناك عظامي فيه مودعة

تعيت فيه نبات الارض والدود

وهذه الروح قد جاءتك زائرة

هذي زيارة من في الارض ملحود

اقول وجاء في وفيات الاعيان لإبن خلكان تتمة للبيتين الذين رثي بهما الجارية وهي:

مكنت سيفي من مجال وشاحها

ومدامعي تجري على خديها

فوحق نعليها وما وطىء الحصى

شيىء اعز علىَّ من نعليها

٢٩٣

ما كان قتلتها لأني لم اكن

ابكي اذا سقط الغبار عليها

لكن بخلت علىَ سواي بحبها

وانفتُ من نظر الغلام اليها

قال وصنعت اخت الغلام:

ياويح ديك الجن يا تباً له

ماذا تضمن صدره من غدره

قتل الذي يهوى وعمّر بعده

يارب لا تمدد له في عمره

٢٩٤

٣ - دعبل بن علي الخزاعي:

تجاوبن بالإرنان والزفرات

نوائح عجم اللفظ والنطقاتِ

يخبرن بالانفاس عن سر أنفس

أسارى هوى ماضِ وآخرآت

فاسعدن أو أسعفن حتى ثقوضت

صفوف الدجى بالفجر منهزمات

على العرصات الخاليات من المهى

سلام شجِ صبّ على العرصات

فعهدي بها خضر المعاهد مألفاً

من العطرات البيض والخضرات

ليالي يعيدن الوصال على القلى

ويعدي تدانينا على الغربات

وإذ هنَّ يلحظن العيون سوافرا

ويسترن بالايدي على الوجنات

وإذ كل يوم لي بلحظي نشوة

يبيت لها قلبي على نشوات

فكم حسراتٍ هاجها بمحسّر

وقوفي يوم الجمع من عرفات

ألم تر للايام مآ جرّ جورها

على الناس من نقص وطول شتات

ومن دول المستهزئين(المستهترين) ومن غدا

بهم طالباً للنور في الظلمات

فكيف ومن أنى يطالب زلفة

الى الله بعد الصوم والصلوات

سوى حب أبناء النبي ورهطه

وبغض بني الزرقاء والعبلات

وهند وما أدّت سمية وابنها

اولوا الكفر في الاسلام والفجرات

هم نقضوا عهد الكتاب وفرضه

ومحكمه بالزور والشبهات

ولم تك إلا محنة كشفتهم

بدعوى ضلال من هنٍ وهنات

تراث بلا قربى وملك بلا هدى

وحكم بلا شورى بغير هداة

رزايا أرتنا خضرة الافق حمرة

وردّت اجاجا طعم كل فرات

وما سهلت تلك المذاهب فيهم

على الناس إلا بيعة الفلتات

٢٩٥

ولو قلدوا الموصى اليه زمامها

لزمت بمأمون على العثرات

اخي خاتم الرسل المصفى من القذى

ومفترس الابطال في الغمرات

فإن جحدوا كان الغدير شهيده

وبدر وأُحد شامخ الهضبات

وآي من القرآن تتلى بفضله

وإيثاره بالقوت في اللزبات

وغرّ خلال أدركته بسبقها

مناقب كانت فيه مؤتنفات

مناقب لم تدرك بكيدٍ ولم تنل

بشيء سوى حد القنا الذربات

نجي لجبريل الامين وانتم

عكوف على العزى معاً ومناة

بكيت لرسم الدار من عرفات

وأذريت دمع العين بالعبرات

وفك عرى صبري وهاجت صبابتي

رسوم ديار قد عفت وعرات

مدارس أيات خلت من تلاوة

ومنزل وحي مقفر العرصات

لآل رسول الله بالخيف من منى

وبالبيت والتعريف والجمرات

ديار لعبد الله بالخيف من منى

وللسيد الداعي الى الصلوات

ديار علي والحسين وجعفر

وحمزة والسجاد ذي الثفنات

ديار لعبد الله والفضل صنوه

نجي رسول الله في الخلوات

وسبطي رسول الله وابني وصيه

ووارث علم الله والحسنات

منازل وحي الله ينزل بينها

على أحمد المذكور في السورات

منازل قوم يهتدى بهداهم

فتؤمن منهم زلة العثرات

منازل كأنت للصلاة وللتقى

وللصوم والتطهير والحسنات

منازل لا فعل يحل بريعها

ولا ابن فعال هاتك الحرمات

ديار عفاها جور كل منابذ

ولم تعف للايام والسنوات

فيا وارثي علم النبي وآله

عليكم سلام دائم النفحات

لقد آمنت نفسي بكم في حياتها

واني لارجو الأمن بعد مماتي

قفا نسأل الدار التي خف أهلها

متى عهدها بالصوم والصلوات

واين الاولى شطت بهم غربة النوى

أفانين في الافاق ( الاقطار ) مفترقات

هم أهل ميراث النبي اذا اعتزوا

وهم خير سادات وخير حماة

اذا لم نناج الله في صلواتنا

باسمائهم لم يقبل الصلوات

٢٩٦

مطاعيم في الاقتار ( الاعسار ) في كل مشهد

لقد شرفوا بالفضل والبركات

وما الناس إلا غاصب ومكذب

ومضطغن ذو إحنة وترات

اذا ذكروا قتلى ببدر وخيبر

ويوم حنين أسبلوا العبرات

فكيف يحبون النبي ورهطه

وهم تركوا أحشاءهم وغرات

لقد لاينوه في المقال وأضمروا

قلوباً على الاحقاد منطويات

فان لم تكن إلا بقربي محمد

فهاشم أولى من هن وهنات

سقى الله قبراً بالمدينة غيثه

فقد حل فيه الأمن بالبركات

نبي الهدى صلى عليه مليكه

وبلغ عنا روحه التحفات

وصلى عليه الله مآ ذرّ شارق

ولاحت نجوم الليل مبتدرات

* * *

أفاطم لو خلت الحسين مجدلا

وقد مآت عطشانا بشط فرات

إذاً للطمت الخد فاطم عنده

وأجريت دمع العين في الوجنات

أفاطم قومي يا ابنة الخير واندبي

نجوم سماوات بارض فلاة

قبور بكوفان واخرى بطيبة

واخرى بفخ نالها صلواتي

واخرى بأرض الجوزجان محلها

وقبر بباخمري لدى الغربات

وقبر ببغداد لنفس زكية

تضمنها الرحمن في الغرفات

فقال الرضا عليه‌السلام : افلا أُلحق لك بيتين بهذا الموضع بهما تمام قصيدتك فقال بلى يا ابن رسول الله، فقال الرضا عليه‌السلام ـ:

وقبر بطوس يا لها من مصيبة

الحت على الاحشاء بالزفرات

الى الحشر حتى يبعث الله قائما

يفرج عنا الغم والكربات

فقال دعبل: هذا القبر الذي بطوس قبر من؟ قال الرضا عليه‌السلام : هو قبري.

٢٩٧

علي بن موسى أرشد الله أمره

وصلى عليه أفضل الصلوات

* * *

فأمآ الممضات التي لست بالغا

مبالغها مني بكنه صفات

قبور بجنب النهر من أرض كربلا

معرسهم فيها بشط فرات

توفوا عطاشى بالفرات فليتني

توفيت فيهم قبل حين وفاتي

الى الله اشكو لوعة عند ذكرهم

سقتني بكأس الثكل والفظعات

أخاف بأن أزدارهم فتشوقنى

مصارعهم بالجزع فالنخلات

تقسمهم ( تغشاهم ) ريب المنون فما نرى

لهم عقوة مغشية الحجرات

خلا إن منهم بالمدينة عصبة

مدينين انضاء من اللزبات

قليلة زوار سوى أن زوّراً

من الضبع والعقبان والرخمات

لهم كل يوم تربة بمضاجع

ثوت في نواحي الارض مفترقات

تنكب لأواء السنين جوارهم

ولا تصطليهم جمرة الجمرات

وقد كان منهم في الحجاز وأرضها

مغاوير نحّارون في الازمآت

حمى لم تزره المدنيات وأوجه

تضيء لدى الاستار في الظلمات

اذا وردوا خيلا بسمر من القنا

مساعير حرب اقحموا الغمرات

وان فخروا يوما اتوا بمحمد

وجبريل والفرقان ذي السورات

وعدّوا علياً ذا المناقب والعلى

وفاطمة الزهراء خير بنات

وحمزة والعباس ذا الهدي والتقى

وجعفراً الطيار في الحجبات

ولائك لا منتوج ( ملتوج ) هند وحزبها

سمية من نوكى ومن قذرات

ستسأل فعل عنهم وفعيلها

وبيعتهم من أفجر الفجرات

وهم منعوا الآباء عن أخذ حقهم

وهم تركوا الابناء رهن شتات

وهم عدلوها عن وصي محمد

فبيعتهم جاءت على الغدرات

وليهم صفو النبي محمد

ابو الحسن الفرّاج للغمرات

٢٩٨

ملامك في آل النبي فانهم

أحبّاي ماداموا واهل ثقاتي

تخيرتهم رشداً لنفسي انهم

على كل حال خيرة الخيرات

نبذت اليهم بالمودة صادقاً

وسلمت نفسي طائعاً لولاتي

فيا رب زدني في هواي بصيرة

وزد حبهم يا رب في حسناتي

سأبكيهم مآ حج لله راكب

وما فاح قمري على الشجرات

واني لمولاهم وقال عدوهم

واني لمحزون بطول حياتي

بنفسي أنتم من كهول وفتية

لفكِّ عناةٍ او لحمل ديات

وللخيل لما قيد الموت خطوها

فاطلقتم منهن بالذربات

احب قصي الرحم من أجل حبكم

وأهجر فيكم أسرتي وبناتي

واكتم حبيكم مخافة كأشح

عنيد لأهل الحق غير مواتي

فيا عين بكيهم وجودي بعبرة

فقد آن للتسكأب والهملات

لقد خفت في الدنيا وايام سعيها

وإني لأرجو الأمن بعد وفاتي

ألم تراني من ثلاثون حجة

أروح وأغدو دائم الحسرات

أرى فيأهم في غيرهم متقسماً

وأيديهم من فيئهم صفرات

فكيف أداوي من جوي لي والجوى

امية أهل الفسق والنبعات

وآل زياد في ( القصور ) مصونة

وآل رسول الله في الفلوات

سأبكيكم ما ذر في الارض شارق

ونادى منادي الخير بالصلوات

وما طلعت شمس وحان غروبها

وبالليل أبكيكم وبالغدوات

ديار رسول الله اصبحن بلقعا

وآل زياد تسكن الحجرات

وآل رسول الله تدمى نحورهم

وآل زياد آمنوا السربات

وآل رسول الله تسبى حريمهم

وآل زياد ربة الحجلات

اذا وتروا مدوا الى واتريهم

أكفاً عن الاوتار منقبضات

فلولا الذي ارجوه في اليوم أو غد

تقطع نفسي إثرهم حسراتي

خروج إمآم لا محالة خارج

يقوم على اسم الله والبركات

يميز فينا كل حق وباطل

ويجزي على النعماء والنقمات

٢٩٩

فيا نفس طيبي ثم يا نفس أبشري

فغير بعيد كل مآ هو آتي

ولا تجزعي من مدة الجور إنني

أرى قوتي قد آذنت بثبات

فان قرّب الرحمن من تلك مدتي

وأخر من عمري ووقت وفاتي

شفيت ولم أترك لنفسي غصة

ورويت منهم منصلي وقناتي

فاني من الرحمن أرجو بحبهم

حياة لدى الفردوس غير ثبات

عسى الله ان يرتاح للخلق انه

الى كل قوم دائم اللحظات

فان قلت عرفا أنكروه بمنكر

وغطوا على التحقيق بالشبهات

تقاصر نفسي دائما عن جدالهم

كفاني ما ألقى من العبرات

احوال نقل الصم عن مستقرها

واسماع احجار من الصلدات

فحسبي منهم ان أبوء بغصة

تردد في صدري وفي لهواتي

فيمن عارف لم ينتفع ومعاند

تميل به الاهواء للشهوات

كأنك بالاضلاع قد ضاق ذرعها

لما حملت من شدة الزفرات

قال ابو الفرج في الأغاني قصيدة دعبل:

مدارس آيات خلت من تلاوة

ومنزل وحي مقفر العرصات

من احسن الشعر وفاخر المدائح المقولة في اهل البيت عليهم‌السلام قصد بها علي بن موسى الرضا عليه‌السلام بخراسان، قال دخلت على علي بن موسى الرضا عليه‌السلام فقال لي انشدني فأنشدته ( مدارس آيات ) حتى انتهيت الى قولي:

اذا وُتروا مدوا الى واتريهم

اكفاً عن الاوتار منقبضات

بكى حتى أُغمي عليه، وأومأ إلي الخادم كان على رأسه: أن اسكت فسكت، فمكث ساعة ثم قال لي أعد. فأعدت حتى انتهيت الى هذا البيت ايضاً فأصابه مثل الذي اصابه في المرة الاولى وأومأ الخادم الي: ان اسكت فسكت وهكذا ثلاث مرات فقال لي احسنت - ثلاث مرات ثم أمر لي بعشرة

٣٠٠

ترى أنّه سبحانه عندما رام أن يشير إلى هذه الكتب المعهودة عرفها باللام إشارة إلى معهوديتها.

أضف إليه أنّ الهدف الأسمى للآية من نفي التلاوة والكتابة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله هو قلع جذور الريب والشك من قلوب المبطلين، ولا يتحصل ذلك إلّا بكونه اُمّياً غير قارئ ولاكاتب قط، ولا يحسن القراءة والكتابة أصلاً. ولو صح ما يرتئيه الدكتور لما نهضت الآية إلى رفع آثار الشك وغبار الريب بل كان باب اكتساب الشك في أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله وإلقاء الريب في قلوب ضعفاء الناس بنبوّته مفتوحاً بمصراعيه. إذ كان للجاحد المبطل أن يقول انّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بمزاولته صحف والكتب العربية، وقف على أحوال الماضين وأقاصيص الأوّلين، فأودع نتائج أفكاره وما استحصل عليه منها بعد سبره لغورها، في هذه الصحائف وفي ضمنها من هذه السور والآيات التي افتراها على الله، وقد رماه بهذه الفرية الشائنة رؤوس الكفر والعناد فيما حكاه عزّ وجلّ:( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الفرقان ـ ٥ ).

وفي نفس الآية دليل بارز على أنّ الهدف منها هو نفي مطلق التلاوة والكتابة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث عطف على الجملة الأولى:( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ) قوله:( وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ) .

بيانه: لو كان المراد من الآية سلب القدرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في خصوص ما يتعلّق بتلاوة الكتب الدينية النازلة باللغة العبرانية أو غيرها من اللغات غير الدارجة في الجزيرة العربية، لكان له تعالى أن يقتصر عل الجملة الاُولى، ولا يردفها بقوله:( وَلا تَخُطُّهُ ) لوضوح الملازمة بين السلبين. فإذا كان الرجل لا يقدر على قراءة كتاب اُلّف بلغة خاصة، فهو لا يقدر على خطها وترسيمها بتاتاً، فعلى ذلك لماذا جيئ بالمعطوف مع امكان الاستغناء عنه بما تقدم عليها.

ولكن لو كان الغرض هو التنبيه على اُمّية النبي بأوضح العبارات، والاجهار بها بأصح الأساليب، وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل بعثته لم يكن قارئاً ولا كاتباً بتاتاً، بل كان بعيد عن ذلك

٣٠١

كل البعد، لصح عطفها على ما تقدم عليها، لأنّ العرف إذا حاول توصيف الرجل بالاُمّية يقول في حقه: إنّه لا يعرف القراءة والكتابة، أو أنّه ليست بينه وبين التلاوة والكتابة أية صلة، ولا يقتصر على نفي الاُولى بل يردفها بنفي الاُخرى أيضاً، توضيحاً للمراد. والله سبحانه لـمّا أراد التركيز على اُمّية النبي وأنّه طيلة عمره كان بعيداً عن مجالات العلم والدراسة، أتى بما هو الدارج في لسان العرب، إذا أرادوا توصيف الشخص بالاُمّية.

والشاهد على ما ذكرنا: أنّك لو ألقيت هذه الآية على أي عربي عريق في لغته ولسانه، يقضي بأنّ المقصد الأسنى منها نفي معرفتهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتلاوة والكتابة على الاطلاق. نعم الآية خاصة بما قبل البعثة، لا تعم ما بعدها ولنا عودة إلى هذا الموضوع في الأبحاث الآتية فانتظر.

وربما يقال(١) : إنّ الآية تنفي مطلق التلاوة والكتابة ولكنّه لا يدل على نفي احسانهما عنه: قلت: سيوافيك جوابه عند البحث عن وضع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد البعثة.

النص الثاني من القرآن على كونه اُمّياً :

يدل على ذلك قوله سبحانه :

( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) .

( فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) ( الأعراف: ١٥٧ ـ ١٥٨ ).

قد وصف سبحانه نبيّه في هذه الآية بخصال عشر وهي: أنّه رسول، نبي، اُمّي ،

__________________

(١) نقله الشيخ الطوسي في تبيانه راجع ج ٨ ص ٢١٦ ط بيروت.

٣٠٢

مكتوب اسمه في التوراة والانجيل، ومنعوت فيهما بأنّه يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يحل لهم الطيبات، يحرّم عليهم الخبائث، يضع عنهم الإصر، ويرفع عنهم الأغلال.

وهذه الصفات التي تضمّنتها الآية في حق النبي الأكرم واضحة حتى الوصف الذي هو موضوع البحث ( الاُمّي ) إذ الاُمّي حسب تنصيص الكتاب المبين هو من لا يقدر على القراءة ولا يحسن الكتابة كما يقول سبحانه:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلّا يَظُنُّونَ ) ( البقرة ـ ٧٨ ).

قوله سبحانه:( لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ ) توضيح لقوله اُمّيون أي منهم اُمّة منقطعون عن كتابهم لا يعلمون منه إلّا أوهاماً وظنوناً يتلوها عليهم علماؤهم، الذين يحرفون كتاب الله وكلماته عن مواضعها، ويحسب هؤلاء السذّج أنّه الكتاب المنزل إليهم من ربّهم. ولذلك قال سبحانه في الآية التالية:( فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ ) ( البقرة ـ ٧٩ ).

فلو كانوا عارفين بالكتاب قادرين على قراءته وتلاوته لما اغتروا بعمل المحرّفين، ولميّزوا الصحيح من الزائف غير أنّ اُمّيتهم وجهلهم به حالت بينهم وبين اُمنيتهم.

قال الرازي: إنّه تعالى وصف محمداً في هذه الآية بصفات تسع(١) إلى أن قال: الصفة الثالثة كونه اُمّياً، قال الزجّاج: معنى الاُمّي الذي هو على صفة اُمّة العرب، قال عليه الصلاة والسلام: إنّا اُمّة اُمّية لا نكتب ولا نحسب(٢) فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرأون، والنبي كان كذلك فلهذا السبب وصفه بكونه اُمّياً(٣) .

__________________

(١) لا، بل عشر، كما عرفت.

(٢) إيعاز إلى ما رواه البخاري في صحيحه: ج ١ ص ٣٢٧ عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: إنّا اُمّة اُمّية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا أو هكذا، مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين.

(٣) مفاتيح الغيب: ج ٤ ص ٣٠٩.

٣٠٣

وقال البيضاوي: الاُمّي لا يكتب ولا يقرأ، وصفه به تنبيهاً على أنّ كمال علمه مع حاله هذا، إحدى معجزاته(١) .

هذا وقد أصفقت على ما ذكرنا من المعنى للاُمّية معاجم اللغة المؤلّفة في العصور الزاهرة بأيدي الخبراء الأساطين وفي مقدّمهم: أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا المتوفّى عام ٣٩٥ صاحب « مقاييس اللغة »(٢) وغيرها من الكتب الممتعة ودونك كلامه :

« اُم » له أصل واحد يتفرع منه أربعة أبواب وهي الأصل، والمرجع والجماعة والدين، قال الخليل: كل شيء تضم إليه ما سواه مما يليه، فإنّ العرب تسمّي ذلك اُمّاً ومن ذلك اُم الرأس: وهو الدماغ، اُم التنائف: أشدها وأبعدها، اُم القرى: مكة وكل مدينة هي اُم ما حولها من القرى، واُم القرآن: فاتحة الكتاب واُم الكتاب ما في اللوح المحفوظ، واُم الرمح: لواؤه وما لف عليه، وتقول العرب للمرأة التي ينزل عليها: اُم مثوى، واُم كلبة: الحمى، واُم النجوم: السماء، واُم النجوم: المجرّه إلى أن عد كثيراً من هذه التراكيب فقال: الاُمّي في اللغة: المنسوب إلى ما عليه جبلة الناس لا يكتب، فهو في أنّه لا يكتب على ما ولد عليه(٣) .

ومحصل كلامه أنّه ليس للاُم إلّا مادة واحدة وهي الأصل لغيرها ومنه يتفرع غيرها فاُم الانسان اُم لأنّها أصله وعرقه وهكذا

وهذا الزمخشري إمام اللغة والبلاغة فسر قوله تعالى:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلّا يَظُنُّونَ ) بأنّهم لا يحسنون الكتاب فيطالعوا التوراة

__________________

(١) أنوار التنزيل وأسرار التأويل: ج ٣ ص ٢٣٠ مع شرحه لاسماعيل القنوي.

(٢) بلغ ابن فارس الغاية في الحذق باللغة، وكنه أسرارها وفهم اُصولها، وقد حاول في تأليف هذا المعجم أن يوحّد المعاني المتعددة المفهومة من لفظ واحد وذلك بارجاعها إلى أصل واحد تفرّعت عنه تلك المعاني في الاستعمال ـ وقد إنفرد من بين اللغويين بهذا التأليف ولم يسبقه إلى مثله أحد، ولم يخلفه غيره.

(٣) المقاييس: ج ١ ص ٢١ ـ ٢٨ والكشاف ج ١ ص ٢٢٤.

٣٠٤

ويتحققوا ما فيها(١) .

وقال أمين الإسلام في مجمع البيان: ذكروا للاُمّي معاني :

أوّلها: أنّه الذي لا يكتب ولا يقرأ.

ثانيها: أنّه منسوب للاُمّة والمعنى أنّه على جبلة الاُمّة قبل استفادة الكتاب.

ثالثها: أنّه منسوب إلى الاُم والمعنى أنّه على ما ولدته اُمّه قبل تعلم الكتابة.

قلت: هذه المعاني متقاربة تهدف إلى مفهوم واحد. وإنّما الاختلاف في انتسابه إلى الاُم أو الاُمّة وقد جمع ابن فارس في كلامه كلا الاحتمالين.

هذه نصوص بعض أئمّة اللغة وأساطين التفسير، إذا شئت فلاحظ كلمات الباقين منهم.

الآراء الشاذة في تفسير الاُمي :

ربّما يجد القارئ في طيات بعض التفاسير معاني اُخر للاُمّي لا تتفق مع ما أصفقت عليه أئمّة اللغة والتفسير فلا بأس بذكرها ودحضها :

١. الاُمي منسوب إلى اُم القرى وهي علم من أعلام مكة كما يدل عليه قوله سبحانه:( وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) ( الشورى ـ ٧ ) وعلى ذلك فالمراد من الاُمي أنّه مكي.

وفيه مواقع للنظر والنقد :

أوّلاً: إنّ اُم القرى ليست من أعلام مكة ـ وإن كان يطلق عليها ـ غير أنّ الإطلاق لا يدل على كونه من أعلامها، بل هو موضوع على معنى كلي وهي إحدى مصاديقه ولا تنس ما ذكره ابن فارس بقوله: « كل مدينة هي اُم ما حولها من القرى » فيعلم من ذلك

__________________

(١) المقاييس: ج ١ ص ٢١ ـ ٢٨ والكشاف: ج ١ ص ٢٢٤.

٣٠٥

أنّ اُم القرى مفهوم كلي يصح اطلاقه على أية بلدة تتصل بها قرى كثيرة بالتبعية، وهذه القرى تعمتد عليها في اُمور حياتها، ويعاضد ما ذكرناه ( كون اُم القرى كلياً ) قوله عزّ وجلّ:( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً ) ( القصص ـ ٥٩ ) فالآية ( بحكم رجوع الضمير في اُمها إلى القرى ) صريحة في أنّها ليست علماً لموضع خاص، لأنّ مشيئته تعم الاُمم في هذا الأمر ( أهلاك الاُمم وإبادتهم بعد انذارهم ببعث الرسل ) ولا تختص باُمّة دون اُخرى، أو نقطة دون نقطة، وعلى هذا، فمفاد الآية أنّ الله سبحانه يمهل أهل القرى من دون فرق بين قرية وقرية، حتى يبعث في مركزها الذي هو مركز الثقل بالنسبة إليها، والمجتمع لأكثر الناس، وملتقى أفكارهم، رسولاً يبشرّهم وينذرهم، فإذا ضربوا عنه صفحاً وهجروا مناهجه، يبيدهم ويهلكهم بألوان العذاب وهذه مشيئة الله وعادته في الاُمم السالفة البائدة جميعاً، مكية كانت أم غيرها.

وثناياً: لو صح كونه من أعلام مكة فالصحيح عند النسبة إليها هو القروي لا الاُمّي، هذا ابن مالك يقول في ألفيته :

وانسب لصدر جملة وصدر ما

ركب مزجا ولثان تتما

اضافة مبدوة بابن وأب

أو ما له التعريف بالثاني وجب

فيما سوى هذا انسبن للأول

مالم يخف للبس كعبد الأشهل

قال ابن عقيل في شرحه: إذا نسب إلى الإسم المركب فإن كان مركباً تركيب جملة أو تركيب مزج، حذف عجزه واُلحق صدره ياء النسب فتقول في تأبّط شراً: تأبطي، وفي بعلبك: بعلي، وإن كان مركب إضافة، فإن كان صدره ابناً أو أباً أو كان معروفاً بعجزه، حذف صدره واُلحق عجزه ياء النسبة، فنقول في ابن الزبير: زبيري، وفي أبي بكر: بكري، وفي غلام زيد: زيدي، وإن لم يكن كذلك(١) .

والاقتصار على الابن والأب من باب المثال والحكم يعم الاُم والابنة والأخ

__________________

(١) شرح ابن عقيل: ج ٢، ص ٣٩١.

٣٠٦

والاُخت، لاشتراك الجميع معهما في المناط والملاك ـ وهو كونها مركبة تركيب اضافة وحصول الالتباس لو اُلحقت بصدرها.

وثالثاً: إنّ الله وصف نبيّه في الآية بصفات تناسب موضوع النبوّة، فلو كان الاُمّي فيها بالمعنى الذي أوضحناه، لتلاءم الكلام، وتكون تلك الصفة هادفة إلى آية نبوّته وبرهان رسالته، لأنّه مع كونه اُمّياً لا يقرأ ولا يكتب، أتى بشريعة كافلة لسعادة الناس وسيادتهم وجاء بكتاب فيه هدى ونور، وتضمن من الحقائق والمعارف ما لا يقف عليه حتى الأوحدي من الناس فضلاً عمّن لم يقرأ ولم يكتب، وهذا برهان رسالته ودليل صلته بالله وكونه مبعوثاً ومؤيداً منه تعالى.

ولو كان المراد منه ما زعمه القائل من كونه مكياً وأنّه وليد ذلك البلد، لكان الاتيان به في ثنايا تلك الأوصاف والخصال اقحاماً بلا وجه واقتضاباً بلا جهة.

وإن شئت قلت: لو كان المراد من الاُمي ما ذكرناه لكان فيه إشارة إلى أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مع كونه باقياً على الحالة التي ولد عليها، قد أتى بكتاب عجز الناس عن تحدّيه، وكلّ البلغاء عن معارضته، وخرس الفصحاء لديه، مضافاً إلى ما فيه من المعارف الالهية والحقائق العلمية والدساتير والقوانين الاجتماعية والاقتصادية في شؤون الحياة الانسانية ومسائلها المعقدة، وهذا دليل على صدق دعوته، وأنّه مبعوث من عنده تعالى، وهذه النكتة تفوتنا إذا فسرناه بأنّه مكي ووليد الحرم والبلد الأمين إذ ليس في كونه مكّياً أي امتياز حتى ينوّه به.

وإلى ما ذكرنا يشير قوله عزّ وجلّ:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ( الجمعة ـ ٢ ).

فإنّ توصيف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّه منهم ( أي من الاُمّيين ) للاشارة إلى أنّه مع كونه اُمّياً مثلهم يعلّمهم الكتاب والحكمة، وما ذلك إلّا لكونه مؤيداً منه تعالى بروح تعاضده وموجهاً بتوجيهه لارتقاء تلكم المدارج، فالآية من قبيل اتيان الشيء ببيّنته وبرهانه.

٣٠٧

نعم ورد في بعض المأثورات حول تفسير الاُمّي انتسابه إلى اُم القرى، وسوف نرجع إلى هذه الروايات بالإيراد والمناقشة في اسنادها ومضامينها.

الرأي الثاني :

٢. ما اختاره الدكتور عبد اللطيف الهندي في مقاله المومى إليه فقال: الاُمّي من لم يعرف المتون العتيقة السامية، ولم ينتحل إلى ملّة أو كتاب من الكتب السماوية والشاهد عليه أنّ الله جعل الاُمّي في الكتاب العزيز، مقابل أهل الكتاب فيستظهر منه أنّ المراد منه هي الاُمّة العربية الجاهلة بما في زبر الأوّلين من التوراة والانجيل غير منتحلة إلى دين أو ملة لا من لا يقدر على التلاوة والكتابة.

أقول: ما ذكره الدكتور زلّة وعثرة لا تستقال فإنّ اطلاق الاُمّيين على العرب المشركين ليس « بسبب جهلهم بالمتون السامية، وإن كانوا عارفين بلسان قومهم قادرين على تلاوته وكتابته » كما حسبه الدكتور، بل بسبب جهلهم بقراءة لغتهم وكتابتها لأنّ الثقافة العربية بمعنى قراءة اللغة العربية وكتابتها، كانت متدهورة في العصر الجاهلي وكانت الاُمّية هي السائدة ولا يسودهم في تلكم الظروف شيء غيرها وكانت القدرة على القراءة والكتابة محصورة في ثلّة قليلة لا يتجاوز أفرادها عدد الأصابع.

فهذا الإمام البلاذري أتى « في فتوح بلدانه » بأسماء الذين كانوا عارفين بالقراءة والكتابة في العهد الجاهلي فما تجاوزت عدتهم عن سبعة عشر رجلاً في « مكة » وعن أحد عشر نفراً في « يثرب » وقال: اجتمع ثلاثة نفر من طي ب‍ « بقة » وهم مرامر بن مرة وأسلم بن سدرة، وعامر بن جدرة فوضعوا الخط وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية، فتعلّمه منهم قوم من أهل الأنبار ثمّ تعلّمه أهل الحيرة من أهل الأنبار وكان بشر بن عبد الملك أخو أكيدر بن عبد الملك بن عبد الجن الكندي، ثم السكوني صاحب دومة الجندل، يأتي الحيرة فيقيم بها الحين وكان نصرانياً فتعلم « بشر » الخط العربي من أهل الحيرة ثمّ أتى مكة في بعض شأنه فرآه سفيان بن اُمية بن عبد شمس وأبو قيس بن عبد

٣٠٨

مناف بن زهرة بن كلاب يكتب فسألاه أن يعلّمهما الخط فعلّمهما الهجاء، ثمّ أراهما الخط فكتبا، ثمّ إنّ بشراً وسفيان وأبا قيس أتوا الطائف في تجارة فصحبهم غيلان بن سلمة الثقفي فتعلّم الخط منهم وفارقهم بشر، ومضى إلى ديار مضر، فتعلّم الخط منه عمرو بن زرارة بن أعدس فسمّي عمرو الكاتب، ثمّ أتى بشر الشام فتعلّم الخط منه ناس هناك وتعلّم الخط من الثلاثة الطائيين أيضاً رجل من طابخة كلب، فعلّمه رجل من أهل وادي القرى فأتى الوادي يتردد فأقام بها وعلّم الخط قوماً من أهلها ـ إلى أن قال: ـ فدخل الإسلام وفي قريش سبعة عشر رجلاً كلّهم يكتب، عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالبو(١) .

وهذا ابن خلدون يحكي في مقدمته، أنّ عهد قريش بالكتابة والخط العربي لم يكن بعيداً بل كان حديثاً وقريباً بعهد الرسول فقد تعرفوا عليها قبيل ظهور الإسلام حيث قال في الفصل الذي عقده لبيان أنّ الخط والكتابة من عداد الصنايع الانساية :

كان الخط العربي بالغاً مبالغه من الأحكام والاتقان والجودة في دولة التبابعة، لما بلغت من الحضارة والترف وهو المسمّى بالخط الحميري وانتقل منها إلى الحيرة لما كان فيها دولة آل المنذر بسبأ التبابعة إلى أن قال: ومن الحيرة لقّنه أهل الطائف وقريش فيما ذكر، يقال إنّ الذي تعلّم الكتابة من الحيرة هو سفيان بن اُمية ويقال حرب بن اُمية وأخذها من أسلم بن سدرة وهو قول ممكن وأقرب ممن ذهب إلى أنّهم تعلّموها من أياد أهل العراق وهو بعيد، لأنّ اياداً وإن نزلوا ساحة العراق فلم يزالوا على شأنهم من البداوة، والخط من الصنايع الحضرية فالقول بأن أهل الحجاز إنّما لقنوها من الحيرة ولقنها أهل الحيرة من التبابعة وحمير، هو الأليق من الأقوال(٢) .

فإذا كان هذا مبدأ تعرفهم بالكتابة والقراءة وكان هذا مقياس ثقافتهم وتعرفهم عليها في المنطقتين ( مكة والمدينة ) فما ظنك بهم في المناطق الاُخرى، نعم كانت الربوع

__________________

(١) فتوح البلدان: ص ٤٥٧.

(٢) مقدمة ابن خلدون: ص ٤١٨، طبع بيروت، الطبعة الرابعة.

٣٠٩

المختصة باليهود والنصارى، تزدحم بأحبارهم وحفّاظ كتبهم، فكانت القراءة والكتابة رائجتين بينهم، لمسيس حاجتهم إلى معرفة كتابهم وما فيه من الطقوس والسنن.

فإذا ألممت أيها الباحث ولو إلمامة عابرة بروح ذلك العصر، ووقفت على ما كان يسود في تلكم الظروف والبيئات، لقضيت بأنّ المراد من الاُمّي حتى في ما استعمل عند أهل الكتاب هو العاجز عن القراءة والكتابة بقول مطلق كقوله سبحانه:( وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ ءَأَسْلَمْتُمْ ) ( آل عمران ـ ٢٠ ) ويوضح ما ذكرناه قوله سبحانه:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إلّا يَظُنُّونَ ) ( البقرة ـ ٧٨ )(١) فالآية بحكم رجوع الضمير( وَمِنْهُمْ ) إلى اليهود، تقسم اليهود إلى طائفتين، طائفة يعلمون الكتاب، واُخرى طائفة اُمّية لا تعلم من الكتاب شيئاً بل تتخيله أمانياً فقد أطلق الاُمّي في هذه الآية على بعض أهل الكتاب بملاك جهله بكتابه، قراءة وكتابة، ولكن الجهل بالكتاب الذي نزل بلسانه ولسان قومه يلازم الجهل بسائر اللغات طبعاً.

فهذا الكتابي بما أنّه لا يحسن القراءة والكتابة قط، اُمّي كالعربي الاُمّي بلا تفاوت.

وقصارى ما يمكن أن يقال: إنّه ليس للاُمّي إلّا مفهوم واحد وضع له وضعاً واحداً، غير أنّ مفهومه يختلف حسب اختلاف الظروف والبيئات، حسب اختلاف الاضافات والنسب، فالاُمّي في أجواء الكتابيين عبارة عمّن لا يعرف لغة كتابه فلو قيل: ذلك الكتابي اُمّي فالمقصود منه بقرينة لفظ « الكتابي » كونه اُمّياً بالنسبة إلى كتابه الذي ينتحل إليه، كما أنّ الاُمّي في البيئات العربية عبارة عمّن لا يحسن العربية قراءة وكتابة وهكذا

وبناء على ذلك فالاُمّيون في قوله سبحانه:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلّا أَمَانِيَّ ) عبارة عن الطائفة الجاهلة بالمتون السامية من أهل الكتاب، لا يحسنون تلاوتها

__________________

(١) هذه الآية بما أنّها تقسّم أهل الكتاب والمنتحلين إليه إلى طائفتين اُمّية وغير اُمّية، تبطل ما ادعاه الدكتور من أنّ الاُمّي عبارة عن من لم ينتحل إلى الدين ولم ينسب إلى ملّة.

٣١٠

ولا كتابتها، إلّا أنّ ذلك الاطلاق لا يثبت كون الاُمّي موضوعاً على من لا يعرف اللغة السامية كما حسبه الدكتور. بل لـمّا كان محور البحث في الآية أهل الكتاب وانقسامهم إلى طائفة عالمة بما في كتابهم، وطائفة جاهلة به، اُمّية لا تعلم من الكتاب شيئاً، صار ذلك كالقرينة على أنّ المقصود من الاُمّيين فيها، هي الطائفة الجاهلة بالمتون السامية واللغة التي اُنزلت بها كتبهم.

وهذا الوجه لا يشمل « الاُمّي » في غير هذه الآية ولا على الموارد العارية عن هذه القرينة ولا يثبت كونه موضوعاً لمن يكون جاهلاً بالمتون السامية، كما ادعاه القائل.

إذا وقفت على ما ذكرناه وقوف المستشف للحقيقة، لأذعنت أنّه ليس للاُمّي إلّا مفاد واحد وهو الباقي على الحالة التي ولد عليها. ولو اطلق في مورد أو موارد على من لا يعرف المتون السامية، فلأجل قرينة دلّت عليه، فهو من باب تطبيق الكلي على فرده الخاص لا أنّه موضوع على ذلك الخاص.

بحث وتنقيب :

لقد بان الحق بأجلى مظاهره بحيث لم تبق لمجادل شبهة في دلالة الذكر الحكيم على أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان اُمّياً لا يقرأ ولا يكتب قبل أن يختاره الله تعالى للتبشير والانذار، وظهر ما هو الحق الصراح في معنى الاُمّي الذي وصف الله به نبيّه الأكرم، نعم روي عن بعض أئمّة أهل البيت في تفسير الاُمّي ما يتراءى منه خلاف ما أوضحناه وحققناه ودونك ما روي عنهم في هذا الباب(١) .

١. أخرج الصدوق في علل الشرائع ومعاني الأخبار عن أبيه عن سعد(٢) عن ابن

__________________

(١) سوف نرجع في آخر البحث إلى تحقيق القول في الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت وغيرهم في المقام والغرض هنا عرض ما يرجع إلى خصوص تفسير لفظ الاُمّي فقط.

(٢) سعد بن عبد الله القمي ترجمه شيخ الطائفة في باب أصحاب العسكريعليه‌السلام .

٣١١

عيسى(١) عن محمد البرقي عن جعفر بن محمد الصوفي قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي بن موسى الرضاعليه‌السلام فقلت: يا بن رسول الله لم سمّي النبي الاُمّي ؟ فقال: ما يقول الناس ؟ قلت: يزعمون أنّه سمّي الاُمّي لأنّه لا يحسن أن يكتب، فقال: كذبوا عليهم لعنة الله في ذلك، والله يقول في محكم كتابه:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ) فكيف كان يعلّمهم ما لا يحسن، والله لقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقرأ ويكتب باثنين وسبعين أو قال: بثلاثة وسبعين لساناً وإنّما سمّي الاُمّي لأنّه كان من أهل مكة، ومكة من اُمّهات القرى وذلك قول الله عزّ وجلّ:( وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) ( الأنعام ـ ٩٢ )(٢) .

وأخرج الشيخ الأقدم محمد بن الحسن الصفار المتوفّى عام ٢٩٠ في بصائر الدرجات عن أحمد بن محمد بن عيسى عن محمد البرقي عن جعفر بن محمد الصوفي مثله.

ونقله الشيخ المفيد معلّم الاُمّة في « اختصاصه » بهذا السند أيضاً.

والحديث على كل تقدير ينتهي إلى محمد البرقي وهو مختلف فيه جداً لاستناده إلى المراسيل والضعاف، وهو يروي عن جعفر بن محمد الصوفي الذي أهمله أصحاب المعاجم فالحديث ساقط عن الحجية.

أضف إليه ما في متنه من الشذوذ، وفيه جهات من النظر :

أوّلاً: قوله إنّ النبي يقرأ ويكتب باثنين وسبعين لساناً، يعطي أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان مشغولاً بقراءتها والكتابة بها في عامة حياته أو رسالته فقط، وحمله على الإمكان والتعليق وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان قادراً عليهما باثنين وسبعين لساناً لو شاء وأراد، ولكنّه لم يشأ ويقرأ ولم يكتب بها أصلاً، خلاف الظاهر، وعلى ما استظهرناه فالرواية تخالف ماهو المتواتر من حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

__________________

(١) أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري، ثقة جليل.

(٢) علل الشرائع ص ٥٣، ومعاني الأخبار ص ٢٠.

٣١٢

إذ لو كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله على النحو الذي تصفه الرواية لذاع ذكره وطار صيته بهذا الوصف ولا يكاد يخفى على الناس أمره. على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله في البيئة العربية الاُمية كان في منتأى عن سماع الألسنة أو رؤية أصحابها فلم يكن في موطنه ولا دار هجرته من يعرفها أو يتكلم بها فكيف يتكلم بهذه اللغات، وهو لا يجد من يشافهه بها، ولم تكن تحضره صحيفة أو صحائف كتبت بغير اللغة العربية.

ثانياً: إنّ تفسير الاُمّي بكونه منسوباً إلى اُمّ القرى، يخالف ما اتفقت عليه أئمّة الأدب، وجهابذة اللغة، وأعلام التفسير بل يخالف القرآن الكريم حيث فسّر سبحانه بغير ذلك وقال:( وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ ) فلا يصح الركون في هذه المسألة إلى حديث ينتهي إلى من اختلف في وثاقته، إلى من أهمله علماء الرجال في كتبهم.

ولسنا من الفئة التي تعرض القرآن والحديث الصحيح على القواعد العربية المدوّنة بعد أجيال من نزول القرآن ونشر الحديث، بيد علماء الأدب، فإنّ تلك الفئة ضالّة مضلّة مستحقة للرد والطعن. إذ الصحيح عرض القواعد على القرآن والحديث دون العكس، فإنّ المقياس الوحيد لتمييز الصحيح عن غيره، إنّما هو كلام أهل اللسان والأساليب الدارجة بينهم، لا القواعد المدوّنة إذا لم ترجع إلى مصدر وثيق.

وعلى هذا فلو وجدنا القاعدة الأدبية المصطادة من تتبع بعض الموارد ومن كلام العرب، مخالفة للقرآن الكريم أو الحديث الثابت عنهم، أو الكلام الصادر عن عربي صميم، وجب علينا هدم القاعدة، ورميها بالخطأ والغلط، لا تأويل الذكر الحكيم والحديث الصحيح، والكلام المنقول عن أهل اللسان إذ القرآن سواء أقلنا إنّه كلام إلهي اُوحي إلى نبيّنا الأكرم أم قلنا إنّه من منشآته ومبدعاته ( وأجل النبي عن هذه الفرية الشائنة ) كلام صحيح، صادر أمّا عن الله سبحانه أو عن عربي صميم شب وترعرع بين الاُمّة العربية وقضى عمره وحياته بين ظهرانيهم.

وعلى أي تقدير فهو الحجة في تدوين القاعدة وتأسيسها دون العكس ومثله الآثار المنقولة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٣١٣

ونحن مع هذا الاعتراف الصريح لا نقر بما جاء في الحديث حول تفسير الاُمي وأنّه منسوب إلى اُم القرى ولا نرمي أئمّة الأدب بالخطأ والاشتباه، إذ الحديث قاصر سنداً وينتهي إلى من اختلفت فيه كلمة أهل الجرح والتعديل، إلى من لم تتضح حاله ووثاقته، ولو ثبت صدوره عن أئمّة أهل البيت، لهدمنا القاعدة النحوية في باب النسب وأخذنا بما فيه.

ثالثاً: إنّ الحديث لا ينسجم مع مضمون ما سيوافيك من الحديثين(١) ، فإنّ مفادهما هو كون النبي يقرأ ولا يكتب أصلاً، وهذا يثبت له القراءة والكتابة باثنين وسبعين لساناً، فلا مناص في مقام الترجيح عن الأخذ بهما وطرح ذاك، لقوة اسنادهما وصحتهما على ما عرفت.

٢. أخرج الصدوق في معاني الأخبار عن ابن الوليد عن سعد عن الخشاب عن علي بن حسان وعلي بن أسباط وغيره رفعه إلى أبي جعفرعليه‌السلام قال: قلت: إنّ الناس يزعمون أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكتب ولم يقرأ ؟ فقال: كذبوا لعنهم الله أنّى يكون ذلك وقال الله عزّ وجلّ:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ، فيكون يعلّمهم الكتاب والحكمة وليس يحسن أن يقرأ أو يكتب به ؟ قال: قلت: فلم سمّي النبي الاُمي ؟ قال: نسب إلى مكة وذلك قول الله عزّ وجلّ:( وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ) فاُم القرى مكة فقيل اُمّي لذلك(٢) .

ونقله صاحب البصائر عن عبد الله بن محمد عن الخشاب عن علي بن حسان وعلي بن أسباط وغيره رفعه إلى أبي جعفر(٣) .

__________________

(١) راجع البحث الآتي تحت عنوان « عرض وتحقيق » والمقصود من الصحيحين ما رواه هشام بن سالم، والحسن الصيقل عن الصادقعليه‌السلام .

(٢) علل الشرائع: ص ٥٤٢.

(٣) بصائر الدرجات: ص ٦٢، بحار الأنوار: ج ١٦ ص ١٣٣.

٣١٤

ويؤسفنا أنّ الحديث مع ما في متنه من العلات، غير موصول السند إلى الإمام، فالرواية مرفوعة وهو نوع من المرسل الذي لا يعتمد عليه.

وفي هذا المقال يلمس القارئ حقيقة ناصعة هي من أجلى الحقائق الدينية ألا وهي مغزى كون النبي لا يحسن القراءة والكتابة قبل أن يختاره الله تعالى للتبشير والانذار.

نعم بقي الكلام في أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد البعثة ولأجل ذلك عقدنا لتحقيقه الفصل التالي :

٣١٥

أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله

بعد بزوغ دعوته

قد اهتدينا بهدى القرآن وساقتنا الأدلّة إلى القول بأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان قبل البعثة اُمياً لا يقرأ ولا يكتب ولم يسجل التاريخ لهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك العهد قراءة لوح أو كتباة صحيفة، ولم يكن ذلك اختلافاً تواطأ عليه المسلمون لهدف خاص كما حسبه الدكتور في مقاله(١) بل كان تقريراً للواقع وقد قابلنا التفكير السطحي الخاطئ بالرد والنقد.

غير أنّنا طلباً لوضوح الحقيقة، واكمالاً للبحث، نردف المقال بالبحث عن وضع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد بزوغ دعوته وبعثته إلى الناس، وأنّه هل بقي على ما كان عليه من الاُمية، لنفس المصلحة التي اُوجبت اُميته قبل أن يبعث إلى هداية الناس، أو لم يبق عليه، بل كشف الحجاب عن ضميره الحي وعقله الواعي، وقلبه الواسع، عندما بزغت دعوته وبعث رسولاً إلى الناس ولا يمكن القضاء البات إلّا بعد الوقوف على ما ذكره الفطاحل من رواة الحديث وأعلام التفسير.

وقد اختار ثلة جليلة من المحققين القول الثاني أنّ تمكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله باذنه سبحانه

__________________

(١) زعم الدكتور في مقاله أنّ اُمية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فكرة حديثة بين المسلمين، لصيانة القرآن عن التحريف وحفظه عن حدوث الزيادة والنقيصة عليه من جانب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ الاُمي يعكس كل ما اُلقي عليه بلا تغيير وتحريف، ولا يقدر على تحويره بخلاف غيره، فانظر ما أجرأ هذا الرجل على تحريف الكلم عن مواضعه.

٣١٦

من القراءة والكتابة بعد ما نزل عليه الوحي واستدلوا على ذلك بوجوه لا تخلو من مناقشات واشكلات، ونحن نذكر تلكم الوجوه، ثمّ نردفها بما هو المختار عندنا :

١. الوجوه التي اعتمد عليها شيخنا المفيد :

هذا هو الشيخ المفيد استدل بأدلة ووجوه اعتقد أنّها الحجج الكافية لاثبات ما يرتئيه من أنّ النبي كان عارفاً بالقراءة والكتابة بعد بعثته ودونك ما أفاده برمّته :

١. إنّ الله تعالى لما جعل نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله جامعاً لخصال الكمال كلها، وخلال المناقب بأسرها لم تنقصه منزلة بتمامها، ليصح له الكمال، ويجتمع فيه الفضل والكتابة فضيلة من منحها فضل، ومن حرمها نقص.

٢. إنّ الله تعالى جعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حاكماً بين الخلق في جميع ما اختلفوا فيه، فلا بد أن يعلمه الحكم في ذلك، وقد ثبت أنّ اُمور الخلق قد يتعلق أكثرها بالكتابة فتثبت بها الحقوق، وتبرأ بها الذمم، وتقوم بها البيّنات، وتحفظ بها الديون، وتحاط بها الأنساب، وأنّها فضل تشرف المتحلّي به على العاطل منه، وإذا صح أنّ الله جلّ اسمه قد جعل نبيّه بحيث وصفناه من الحكم والفضل ثبت أنّه كان عالماً بالكتابة، محسناً لها.

٣. إنّ النبي لو كان لا يحسن الكتابة ولا يعرفها لكان محتاجاً في فهم ما تضمّنته الكتب من الحقوق وغير ذلك إلى بعض رعيته، ولو جاز أن يحوجه الله في بعض ما كلّفه الحكم فيه إلى بعض رعيته لجاز أن يحوجه في جميع ما كلّفه الحكم فيه إلى سواه، وذلك مناف لصفاته ومضاد لحكمة باعثه، فثبت أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحسن الكتابة.

٤. إنّ الله سبحانه يقول:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) ( سورة الجمعة ـ ٢ ) ومحال أن يعلمهم الكتاب وهو لا يحسنه، كما يستحيل يعلمهم الكتاب والحكمة وهو لا يعرفهما، ولا معنى لقول من قال: إنّ الكتاب هو القرآن خاصة، إذ اللفظ عام والعموم لا ينصرف عنه إلّا بدليل، لا سيما على قول المعتزلة وأكثر

٣١٧

أصحاب الحديث.

٥. يدل على ذلك أيضاً قوله تعالى:( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) ( سورة العنكبوت ـ ٤٨ ) فنفى عنه احسان الكتابة وخطه قبل النبوّة خاصة، فأوجب احسانه بذلك لها بعد النبوّة، ولولا أنّ ذلك كذلك لما كان لتخصيصه النفي معنى يعقل، ولو كان حالهصلى‌الله‌عليه‌وآله في فقد العلم بالكتابة بعد النبوّة، كحاله قبلها لوجب إذا أراد نفي ذلك عنه أن ينفيه بلفظ يفيده، لا يتضمن خلافه فيقول له: وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذ ذاك ولا في الحال، أو يقول: لست تحسن الكتابة ولا يتأتى منك على كل حال، كما أنّه لما أعدمه قول الشعر ومنعه منه نفاه بلفظ يعم الأوقات فقال الله تعالى:( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ ) ( يس ـ ٦٩ ) وإذا كان الأمر على ما بيّناه ثبت أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحسن الكتابة بعد أن نبّأه الله تعالى ما وصفناه، وهذا مذهب جماعة من الإمامية ويخالف فيه باقيهم وسائر أهل المذاهب والفرق يدفعونه وينكرونه(١) .

وفي ما ذكره رحمه الله مناقشات نشير إليها :

أوّلاً: انّ الكتابة وإن كانت من الكمالات « ومن منحها له سبحانه فضل ومن حرمها نقص » غير أنّ ذلك يعد للعاديين الذين ينحصر طريق اكتسابهم للمعارف بها وحدها، وأمّا من لا يحتاج إليها بل له طريق آخر لدرك الحقائق واكتساب المعارف كما هو الحال بالنسبة إلى نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله فلا يعد التمكن من الكتابة والقراءة فضيلة له حتى يكون عدمهما نقصاً في حقه، كيف وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله قد عرف الواجب جلّ اسمه وصفاته وأفعاله ووقف على حقائق الكون ودقائقه عن طريق الوحي الذي هو أوثق وأسدّ الطرق الممكنة، لا يخطأ ولا يشتبه وعند ذاك لا حاجة له إلى هذه الطرق العادية غير المصونة عن الخطأ والاشتباه.

أضف إليه لو فرضنا أنّ بقاء النبي على ما كان عليه من الاُمية كان يرفع الشك

__________________

(١) أوائل المقالات: ص ١١١ ـ ١١٣ ط تبريز.

٣١٨

عن قلوب السذج من الناس ويؤكد ايمانهم واذعانهم بنبوّته وبما جاء به من الشريعة والكتاب وجب على المولى سبحانه ابقاءه على ما كان عليه من الصفات والنعوت، طلباً للغاية التي بعثه لأجل احرازها وتحققها، فإذا كان هو الملاك في اُمّيته قبل بزوغ دعوته فليكن هو الملاك في بقائه عليها فلا وجه لعد أحدهما نقصاً في حقهصلى‌الله‌عليه‌وآله دون الآخر.

ثانياً: إنّ ما ذكره « انّ الكتابة فضل تشرف المتحلي به على العاطل منه وإذا صح أنّ الله قد جعل نبيّه بحيث وصفناه من الحكم والفضل ثبت أنّه كان عالماً بالكتابة محسناً لها » صحيح جداً وقد فضّل الله سبحانه نبيّنا على جميع الأنبياء والرسل ومنحه من الفضائل ما لم يمنحه لغيره غير أنّه لما كانت هناك مصلحة أولى وأهم كما صرح الله بها سبحانه في كتابه وهي طرد الريب عن القلوب الضعيفة، صرفه الله سبحانه عن تعلّم القراءة والكتابة طيلة عمره، ولم يمكنه منها طلباً لهذه الغاية المهمة وترك المهم توخّياً للأهم لا يعد نقصاً لو لم يعد كمالاً.

وإلى ذلك يشير الفاضل القنوي في تعليقه على « أنوار التنزيل » بقوله: ولذلك صارت الاُمية شرفاً وفخراً في شأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله وصفة نقص في حق غيره.

وبذلك نجيب عن ما أفادهرحمه‌الله :

« لو كان لا يحسن الكتابة ولا يعرفها لكان محتاجاً في فهم ما تضمّنته الكتب من الحقوق وغير ذلك إلى بعض رعيته، ولو جاز أن يحوجه الله في بعض ما كلّفه الحكم فيه إلى بعض رعيته لجاز أن يحوجه في جميع ما كلّفه الحكم فيه إلى سواه وذلك مناف لصفاته ومضاد لحكمته » لأنّه إذا جاز احتياج النبي الأعظم في مورد خاص إلى بعض رعيته توخياً لبعض المصالح المهمة، لا يستلزم جواز احتياجه في الموارد الخالية عنها فإنّ الأوّل لا يعد نقصاً عند العقلاء ولأجل ذلك يرجّحون الأهم على المهم عند التزاحم، بخلاف الثاني.

ثالثاً: إنّ قوله سبحانه:( وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ) لا يدل على ما رامه أمّا إذا قلنا إنّ المراد من الكتاب هو القرآن كما هو الظاهر المتبادر إلى الذهن فإنّ تلاوة الآية

٣١٩

لا تفتقر إلى معرفة الكتابة إذا تلقى التالي محفوظاته من وحي أو تلقين، ومن الناس من يتعلّم القرآن من الصدور لا السطور ويتلوه كما حفظ بدون توقف على معرفة الخط، وأمّا إذا قلنا إنّ المقصود منه الكتابة وإن كان بعيداً جداً فليس معناه تعليم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لقومه الكتابة مباشرة إذ لم يعهد ولم ير بأسانيد صحيحة أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله جلس مع أفراد اُمّته يعلّمهم نقوش الحروف الهجائية وتراكيبها الأبجدية قطعاً، وإنّما المراد أنّه قام بأمر تعليم الاُمّة مهمة الكتابة، فقد تواتر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله اتّخاذه الأسرى يشترط عليهم أن يعلّموا أهل مدينته الخط والكتابة(١) فكان الأسير إذا علّم الكتابة عشرة من المسلمين أطلق النبي سراحه مكافأة لعمله وبهذه الوسيلة البسيطة عمّم في اتباعه صناعة الخط وأخرجهم من ظلمة الاُمّية وأصبح مقر الاسراء مدرسة يتعلّم فيها صبيان المدينة ما يحتاجون إليه من علوم ذلك العهد.

وأمّا ما تمسك به من مفهوم الآية وأنّ لفظة:( مِن قَبْلِهِ ) يفهم منها أنّه كان قارئاً وكاتباً بعد الوحي إليه فيوافيك نقده في البحث التالي :

ثم إنّ للعلاّمة الشهرستاني كلمة قيمة في المقام يجري مجرى الجواب عن ما ذكره المفيد فلاحظه(٢) .

٢. الاستدلال بمفهوم الآية :

نقل شيخ الطائفة استدلال القوم على اُمّية النبي الأعظم بقوله سبحانه:( وَمَا كُنتَ تَتْلُوا مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ ) ( العنكبوت ـ ٤٨ ) ثم اعترض عليهم بما هذا ملخصه :

__________________

(١) قال الاُستاذ عمر أبو النصر في كتابه « العرب ص ٢٣ »: وكان فداء الأسرى الذين يعرفون القراءة والكتابة تلقين عشرة من صبيان المدينة الكتابة، وكذلك أصبح مقر الأسرى مدرسة يتعلّم فيها صبيان المدينة.

(٢) راجع مجلة المرشد البغدادية لسنتها الرابعة ص ٣٢٧ ـ ٤٢٨ ما أفاده العلّامة الحجة السيد هبة الدين الشهرستاني على ما نقله عنها العلّامة المتتبع الجرندابي في تعاليقه على أوائل المقالات.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351