أدب الطف الجزء ٢

أدب الطف17%

أدب الطف مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 335

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 335 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 62266 / تحميل: 10377
الحجم الحجم الحجم
أدب الطف

أدب الطف الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

ابو عثمان سعيد بن هاشم بن وعلة البصري العبدي ابو عثمان الخالدي الاصغر:

توفي سنة ٣٧١ الخالدي نسبة الى الخالدية قرية من قرى الموصل، والعبدي نسبة الى قبيلة عبد القيس المنتهى نسبه اليهم وكأنه ورث التشيع عنهم، وفي معجم الادباء اسماه سعد. والصحيح سعيد كان هو واخوه ابو بكر (١) اديبي البصرة وشاعريها في وقتهما، وكان بينهما وبين السري الرفاء الموصلي ما يكون بين المتعاصر من التغاير والتضاغن فكان يدعى عليهما بسرقة شعره وشعر غيره. في اليتيمة: كان يتشيع ويتمثل في شعره بما يدل على مذهبه كقوله:

انظر إلي بعين الصفح عن زللي

لا تتركنيّ من ذنبي على وجل

موتي وهجرك مقرونان في قرن

فكيف أهجر مَن في هجره أجلي

وليس لي أمل إلا وصالكم

فكيف أقطع مَن في وصله أملي

هذا فوادي لم يملكه غيركم

إلا الوصي أمير المؤمنين علي

  ومن شعره:

جحدت ولاء مولانا علي‌

وقدّمت الدعي على الوصي

متى ما قلّت إن السيف أمضى

من اللحظات في قلب الشجي

لقد فعلت جفونك في البرايا

كفعل يزيد في آل النبي (٢)

__________________

١ - ابو بكر اسمه محمد بن هاشم بن وعلة بن عرام بن يزيد بن عبد الله منبّه بن يتربي بن عبد السلام بن خالد بن عبد منبّه من بني عبد القيس، وتأتي ترجمته في هذا الجزء.

٢ - اعيان الشيعة عن اليتيمة للتعالبي.

١٢١

وله:

أنا ان رمت سُلوّاً

عنك يا قرّة عيني

كنت في الاثم كمن شا

رك في قتل الحسين

لك صولات على قلـ

ـبي بقدٍّ كالرديني

مثل صولات علي

يوم بدر وحنين (١)

  وله:

أنا في قبضة الغرام رهين‌‏

بين سيفين أرهفا ورديني

فكأن الهوى فتى علويّ

ظن أني وليت قتل الحسين

وكأني يزيد بين يديه

فهو يختار أوجع القتلتين

  وله:

تظن بأنني أهوى حبيبا

سواك على القطيعة والبعاد

جحدت اذاً موالاتي عليا

وقلت بأنني مولى زياد

  وترجمه السيد الأمين في الأعيان وذكر له شعرا كثيرا وكله من النوع العالي وذكر له النويري في نهاية الأدب قوله:

يا هذه إن رحتُ في‌‏

خَلَق فما في ذاك عار

هذي المَدام هي الحيا

ة قميصها خَرق وقار

  ومن شعره ما رواه الحموي في معجم الادباء:

هتف الصبح بالدجى فاسقنيها

قهوةً تترك الحليم سفيها

لست تدري لرقةٍ وصفاءٍ

هي في كاسها أم الكاس فيها

  وقال:

أما ترى الغيم يا من قلبه قاسيٍ‌‏

كأنه أنا مقياسا بمقياس

قطرُ كدمعي وبرقُ مثل نار جويً

في القلب مني وريحُ مثل أنفاسي

__________________

١ - أعيان الشيعة عن اليتيمة للثعالبي.

١٢٢

الأمير تميم بن الخليفة

الأمير ابو علي تميم بن الخليفة المعز لدين الله مسعد بن اسماعيل الفاطمي:

نأت بعد ما بان العزاء سعادُ

فحشو جفون المقلتين سهادُ

فليت فؤادي للظعائن مربع

وليت دموعي للخليط مزاد

نأوا بعدما القت مكائدها النوى

وقرّت بهم دار وصحّ وداد

وقد تؤمن الأحداث من حيث تتقى

ويبعد نجح الأمر حسين يُراد

أعاذل لي عن فسحة الصبر مذهب

وللهو غيري مألف ومصاد

ثوت لي أسلاف كرام بكربلا

همُ لثغور المسلمين سِداد

اصابتهم من عبد شمس عداوة

وعاجلهم بالناكثين حصاد

فكيف يلذّ العيش عفوا وقد سطا

وجار على آل النبي زياد (١)

وقتلهم بغيا عُبَيد وكادهم

يزيد بأنواع الشقاق فبادوا

بثارات بدر قاتلوهم ومكةٍ

وكادوهم والحق ليس يكاد

فحكمت الأسياف فيهم وسُلّطت

عليهم رماح للنفاق حداد

فكم كربةٍ في كربلاءَ شديدة

دهاهم بها للناكثين كياد (٢)

__________________

١  يريد به زياد بن ابيه والد عبيد الله بن زياد الذي ارسل الجيوش لمحاربة الحسين عليه‌السلام .

٢ - الكياد: المكايدة مصدر كايد.

١٢٣

تحكّم فيهم كل أنوك جاهل

ويُغزون غزواً ليس فيه محاد

كأنهم ارتدّوا ارتداد امية

وحادوا كما حادت ثمود وعاد

ألم تُعظِموا يا قوم رهط نبيكم

أما لكم يوم النشور معاد

تداس بأقدام العصاة جسومهم

وتدرسهم جُرد هناك جياد (١)

تضيمهم بالقتل أمة جدهم

سفاها وعن ماء الفرات تذاد

فماتوا عطاشى صابرين على الوغى

ولم يجبنوا بل جالدوا فأجادوا

ولم يقبلوا حكم الدعي (٢) لأنهم

تساما وسادوا في المهود وقادوا

ولكنم ماتوا كراما أعزة

وعاش بهم قبل الممات عباد

وكم بأعالي كربلا من حفائر

بها جُثتُ الأبرار ليس تعاد

بها من بني الزهراء كل سَميدعٍ

جواد اذا أعيا الأنام جواد

معفرة في ذلك الترب منهم

وجوه بها كان النجاح يفاد

فلهفي على قتل الحسين ومسلم

وخزي لمن عاداهما وبعاد

ولهفي على زيد وبَثّاً مُرددا

إذا حان من بثّ الكئيب نفاد

الاكبد تفنى عليهم صبابة

فيقطر حزنا أو يذوب فؤاد

ألا مُقلة تهمي ألا أذن تعي

أكل قلوب العالمين جماد

تُقاد دماء المارقين ولا أرى

دماءَ بني بيت النبي تُقاد

أليس هم الهادون والعترة التي

بها انجاب شرك واضمحل فساد

تساق على الارغام قسراً نساؤهم

سبايا الى ارض الشام تقاد

يُسقنَ الى دار اللعين صوغرا

كما سيق في عصف الراح جراد

كأنهم فيء النصارى وإنهم

لأكرم من قد عزّ منه قياد

يعز على الزهراء ذلّة زينب

وقتلُ حسين والقلوب شداد

وقرع يزيد بالقضيب لسنّه

لقد مجسوا (٣) أهل الشام وهادوا

__________________

١ - يعني بذلك رضّ جسد الحسين عليه‌السلام بحوافر الخيول.

٢ - يعنى به ابن زياد الذي لا يعرف لابيه أب.

٣ - مجسوا: دخلوا المجوسية. وهادوا: دخلوا اليهودية.

١٢٤

قتلتم بني الإيمان والوحي والهدى

متى صح منكم في الإله مراد

ولم تقتلوهم بل قتلتم هداكم

بهم ونقصتم عند ذاك وزادوا

أمية ما زلتم لأبناء هاشم

عِدى فاملأوا طرق النفاق وعادوا

إلى كم وقد لاحت براهين فضلهم

عليكم نِفار منهم وعناد

متى قط أضحى عبد شمس كهاشم

لقد قل انصاف وطال شِراد (١)

متى وُزنت صمّ الحجار بجوهر

متى شارفت شم الجبال هاد

متى بعث الرحمن منكم كجدهم

نبيا علت للحق منه زناد

متى كان يوما صخركم كعليهم

إذا عدّ إيمان وعدّ جهاد

متى أصبحت هند كفاطمة الرضى

متى قيس بالصبح المنير سواد

أآل رسول الله سؤتم وكدتم

ستجنى عليكم ذلة وكساد

أليس رسول الله فيهم خصيمكم

إذا اشتد إبعاد وأرمل (٢) زاد

بكم أم بهم جاء القرآن مبشرا

بكم أم بهم دين الإله يشاد

سأبكيكم يا سادتي بمدامع

غزار وحزن ليس عنه رقاد

وإن لم أعاد عبد شمس عليكم

فلا اتسعت بي ما حييتُ بلاد

وأطلبهم حتى يروحوا ومالهم

على الأرض من طول القرار مهاد

سقى حُفرا وارتكم وحوتكم

من المستهلات العذاب عهاد

__________________

١ - الشراد: النفور.

٢ - أرمل: نفد.

١٢٥

الأمير ابو علي تميم بن الخليفة المعز لدين الله معد بن اسماعيل الفاطمي:

قال السيد الأمين في الأعيان ج ١٤ ص ٣٠٨:

اديب شاعر من بيت الملك في ابان عزه ومجده ذكره صاحب اليتيمة ولم يذكر من أحواله شيئا سوى أشعار له أوردها وقالت مجلة الرسالة المصرية عدد ٣٣١ من السنة السابعة هو كما يعرف الأدباء امير شعراء مصر في العصر الفاطمي ويمكننا القول بان تميما هذا كان مبدأ حياة خصيبة عامرة نشأ في وقت واحد مع القاهرة وكان الشعر في مصر بما تعلمه من الضعف والقلة والندرة أقوى وروى له بعض أشعاره التي نظمها سنة ٣٧٤ هـ وشعره الذي يمدح به اخاه الخليفة العزيز بالله الفاطمي اكثره بل جلّه في ديوانه المطبوع بمطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة قال ابن خلكان: وكانت وفاته في ذي القعدة سنة اربع وسبعين وثلثمائة بمصر رحمه الله تعالى ودفن بالحجرة التي فيها قبر ابيه المعز.

وقال في الغزل:

لا والمضرّج ثوبُه

في كربلاء من الدماء

لا والوصي وزوجه

وبنيه اصحاب الكساء

أولا فإني للعُصا

ة الغاصبين الادعياء

ما حُلت ياذات اللَمى

عما عهدتِ من الوفاء

ها فانظريني سابحا

في الدمع من طول البكاء

١٢٦

وضعي يديك على فؤادٍ

قد تهيأ للفناء

قالت: تلطف شاعر

لسنٍ وخدعة ذي ذكاء

امسك عليك فقد تقنّع

منك وجهي بالحياء

واعبث بما في العقد مني،

لا بما تحت الردءا

إن الرجال اذا شكوا

لعبوا باخلاق النساء

  ومن شعره:

اما والذي لا يملك الامر غيره‌‏

ومن هو بالسر المكتم أعلم

لئن كان كتمان المصائب مؤلما

لأعلانها عندي اشدّ وآلم

وبي كل ما يبكي العيون أفلّه

وإن كنت منه دائما اتبسم

  وقال معارضا قصيدة عبد الله بن المعتز التي أولها:

ألا مَن لنفسي وأوصابها

ومن لدموعي وتسكابها

  أقول وقصيدة شاعرنا المترجم له طويلة فمنها:

ألا قل لمن ضل من هاشم

ورام اللحوق بأربابها

أأوساطها مثل أطرافها

أأرؤسها مثل أذنابها

أعباسها كأبي حربها

علي وقاتل نصّابها

وأولها مؤمنا بالإله

وأول هادم أنصابها

بني هاشم قد تعاميتم

فخلّوا المعالي لأصحابها

أعباسكم كان سيف النبي

إذا أبدت الحرب عن نابها

أعباسكم كان في بَدره

يذود الكتائب عن غابها

أعباسكم قاتل المشركين

جهارا ومالك أسلابها

أعباسكم كوصيّ النبي

ومُعطى الرغاب لطلابها

أعباسكم شرح المشكلات

وفَتّح مُقفَل أبوابها

عجبتُ لمرتكب بغيه

غوىً المقالة كذّابها

١٢٧

يقول فينظم زور الكلام

ويحكم تنميقَ إذهابا

( لكم حرمة يا بني بنته

ولكن بنو العم أولى بها )

وكيف يحوز سهامَ البنين

بنو العمّ أُفٍّ لغصّابها

بذا أنزل الله آي القرآن

أتعمَون عن نص إسهابها

لقد جار في القول عبد الإله

وقاس المطايا بركتابها

ونحن لبسنا ثياب النبي

وأنتم جذَبتم بهدّابها

ونحن بنوه ووُرّاثه

وأهل الوراثة اولى بها

وفينا الامامة لا فيكم

ونحن أحقّ بجلبابها

ومن لكم يا بني عمّه

بمثل البتول وأنجابها

وما لكم كوصيّ النبي

أبٌ فتراموا بنشّابها

ألسنا لُباب بني هاشم

وساداتكم عند نُسّابها

ألسنا سبقنا لغاياتها

ألسنا ذهبنا بأحسابها

بنا صُلتم وبنا طُللتم

وليس الولاة ككتّابها

ولا تَسفَهوا أنفساً بالكذاب

فذاك أشد لإتعابها

فأنتم كلحن قوافي الفَخار

ونحن غدونا كإعرابها

  وله قصيدة اخرى يردّ بها على ابن المعتز في تفضيله العباسيين على العلويين أولها:

جادك الغيث من محلّة دارِ

وثوى فيكِ كل غادٍ وسارِ

  ومنها:

يا بني هاشم ولسنا سواء

في صغار من العلا أو كبار

ان نكن ننتمي لجدٍ فإنا

قد سبقناكم لكل فخار

ليس عباسكم كمثل علي

هل تقاس النجوم بالاقمار

مَن له قال انت مني كهارون

وموسى اكرم به من نجار

١٢٨

ثم يوم الغدير ما قد علمتم

خصّة دون سائر الحضّار

مَن له قال: لا فتى كعلي

لا ولا منصل سوى ذي الفقار

وبمن باهل النبي أأنتم

جُهلاء بواضح الاخبار

يا بني عمنا ظلمتم وطرتم

عن سبيل الانصاف كل مطار

كيف تحوون بالاكف مكانا

لم تنالوا رؤياه بالابصار

مَن توطّا الفراش يخلف فيه

احمداً وهو نحوَ يثرب سار

واسألوا يوم خيبر واسألوا

مكة عن كرّه على الفجّار

واسألوا يوم بدرَ مَن فارس

الاسلام فيه وطالبُ الاوتار

اسألوا كل غزوة لرسول

الله عمن أغار كل مُغار

١٢٩

علي بن أحمد الجرجاني الجوهري (١)

وجدي بكوفان ما وجدي بكوفان

تهمي عليه ضلوعي قبل أجفاني

أرض اذا نفحت ريح العراق بها

أتت بشاشتها أقصى خراسان

ومن قتيل بأعلى كربلاء على

جهل الصدى فتراه غير صديان

وذي صفائح يستسقي البقيع به

ريّ الجوانح من روحٍ ورضوان

هذا قسيم رسول الله من آدم

قُدّا معاً مثلما قدّ الشرا كان

وذاك سبطا رسول الله جدهما

وجه الهدى وهما في الوجه عينان

وآخجلتا من أبيهم يوم يشهدهم

مضرجين نشاوى من دم قان

يقول يا أمة حف الضلال بها

فاستبدلت للعمى كفراً بايمان

ماذا جنيت عليكم إذ أتيتكم

بخير ما جاء من آي وفرقان

ألم أجركم وأنتم في ضلالتكم

على شفا حفرة من حر نيران

ألم أؤلف قلوبا منكم فرقا

مثارة بين أحقاد وأضغان

أما تركت كتاب الله بينكم

وآيه الغر في جمع وقرآن

ألم أكن فيكم غوثا لمضطهد

ألم أكن فيكم ماء لظمآن

قتلتم ولدي صبرا على ظمأ

هذا وترجون عند الحوض إحساني

سبيتم ثكلتكم أمهاتكم

بني البتول وهم لحمي وجثماني

__________________

١ - ترجمه صاحب ( رياض العلماء ) ووصف فضله وشعره.

١٣٠

يا رب خَذ لي منهم إذ هم ظلموا

كرام رهطي وراموا هدم بنياني

ماذا تجيبون والزهراء خصمكم

والحاكم الله للمظلوم والراني

أهل الكساء صلاة الله نازلة

عليكم الدهر من مثنى ووحدان

أنتم نجوم بني حواء ما طلعت

شمس النهار وما لاح السماكان

هذي حقائق لفظ كلما برقت

ردّت بلألائها أبصار عميان

هي الحُلى لبنى طه وعترتهم

هي الردى لبنى حرب ومروان

هي الجواهر جاء الجوهري بها

محبة لكم من أرض جرجان (١)

  وقال يرثي الحسين عليه‌السلام :

يا أهل عاشور يا لهفي على الدين

خذوا حدادكم يا آل ياسين

اليوم شقق جيب الدين وانتهبت

بنات أحمد نهب الروم والصين

اليوم قام بأعلى الطف نادبهم

يقول مَن ليتيم أو لمسكين

اليوم خضّب جيب المصطفى بدم

أمسى عبير نحور الحور والعين

اليوم خرّ نجوم الفخر من مصر

وطاح بالخيل ساحات الميادين

اليوم اطفئ نور الله متقدا

وبرقعت عزة الاسلام بالهون

اليوم نال بنو حرب طوائلهم

مما صلوه ببدر ثم صفين

يا أمة ولي الشيطان رايتها

ومكَن الغي منها كل تمكين

ما المرتضى وبنوه من معوبة

ولا الفواطم من هند وميسون

يا عين لا تدعي شيئا لغادية

تهمي ولا تدعي دمعا لمحزون

قومي على جدث بالطف فانتقضي

بكل لؤلؤ دمع فيك مكنون

يا آل أحمد إن الجوهري لكم

سيف يقطّع عنكم كل موصون

  ذكرها الخوارزمي في مقتله، وابن شهر اشوب في مناقبه، والعلامة المجلسي في العاشر من البحار.

__________________

١ - عن أعيان الشيعة ج ٤١ ص ٤١.

١٣١

أبو الحسن علي بن احمد الجرجاني المعروف بالجوهري:

توفي في حدود سنة ٣٨٠. عن رياض العلماء إنه كان شاعراً اديبا مشهورا، وهو صاحب القصائد الفاخرة الكثيرة في مناقب أهل البيت ومصائب شهدائهم.

كان من صنايع الوزير الصاحب بن عباد وندمائه وشعرائه، تعاطى صناعة الشعر في ريعان من عمره جزاه الله خير جزاء المحسنين.

١٣٢

الصاحب اسماعيل بن عباد

عين جودي على الشهيد القتيل

واتركي الخد كالمحل المحيل

كيف يشفي البكاء في قتل مولا

ي امام التنزيل والتأويل

ولو انّ البحار صارت دموعي

ما كفتني لمسلم بن عقيل

قاتلوا الله والنبي ومولا

هم عليا إذ قاتلوا ابن الرسول

صرعوا حوله كواكب دجن

قتلوا حوله ضراغمَ غيل

اخوة كل واحد منهم ليـ

ـث عرين وحدّ سيفٍ صقيل

أو سمعوهم طعنا وضربا ونحرا

وانتهابا ياضلًة متن سبيل

والحسين الممنوع شربة ماء

بين حر الظبى وحر الغليل

مثكل بابنه وقد ضمّه وهـ

ـو غريق من الدماء الهمول

فجمعوه من بعده برضيعٍ

هل سمعتم بمرضعٍ مقتول

ثم لم يشفهم سوى قتل نفس

هي نفس التكبير والتهليل

هي نفس الحسين نفس رسول الـ

ـله نفس الوصي نفس البتول

ذبحوه ذبحَ الأضاحي فيا قلـ

ـب تصدّع على العزيز الذليل

وطأوا جسمه وقد قطّعوه

ويلهم من عقاب يوم وبيل

أخذوا رأسه وقد بضّعوه

إن سميَ الكفار في تضليل

نصبوه على القنا فدمائي

لا دموعي تسيل كلّ مسيل

١٣٣

واستباحوا بنات فاطمة الزهـ

ـراء لمّا صرخن حول القتيل

حملوهن قد كشفن على الاقـ

ـتاب سبياً بالعنف والتهويل

يا لكربٍ بكربلاء عظيم

ولرزء على النبي ثقيل

كم بكى جبرئيل ممّا دهاه

في بنيه صلّوا على جبرئيل

سوف تأتي الزهراء تلتمس الحكـ

ـم اذا حان محشر التعديل

وأبوها وبعلها وبنوها

حولها والخصام غير قليل

وتنادي يا رب ذبّح أولا

دي لماذا وأنت خير مديل

فينادى بمالك ألهب النا

ر وأجّج وخذ بأهل الغلول

( ويجازى كل بما كان منه

من عقاب التخليد والتنكيل )

يا بني المصطفى بكيت وابكيـ

ـت ونفسي لم تأت بعد بسولي

ليت روحي ذابت دموعا فأبكي

للذي نالكم من التذليل

فولائي لكم عتادي وزادي

يوم القاكم على سلسبيل

لي فيكم مدائح ومراث

حفظت حفظ محكم التنزيل

قد كفاني في الشرق والغرب فخرا

أن يقولوا: من قيل اسماعيل

ومتى كادني النواصب فيكم

حسبي الله وهو خير وكيل (١)

  الصاحب بن عباد:

حدق الحسان (٢) رمينني بتململ

وأخذن قلبي في الرعيل الأول

غادرنني والى التفزع مفزعي

وتركنني وعلى العوبل معوّلي

لو أن ما ألقاه حمّل يذبلا

قد كان يذبل منه ركنا يذبل

مازلت أرعى الليل رعي موكل

حتى رأيت نجمه يبكين لي

فحسبتها زهرات روض ضاحك

[ مبتسم ] قد القيت في جدول

__________________

١ - عن ديوان الصاحب بن عباد ص ٢٦١.

٢ - ذكر العلامة المجلسي في المجلد العاشر من ( بحار الأنوار ) بعضها وقال: هي من قصيدة طويلة.

١٣٤

ينقض لامعها فتحسب كاتباً

قد مد سطراً مذهباً بتعجّل

ويغيب طالعها كدر قد وهى

من سلك غانية مشت بتدلل

حتى إذا ما الصبح أنفذ رسله

أبدت شجون تفرّق وترحّل

والفجر من رأد الضياء كأنه

سعدى وقد برزت لنا بتبذل

ومضى الظلام يجر ذيل عبوسه

فأتى الضياء بوجهه المتهلل

وبدا لنا ترس من الذهب الذي

لم ينتزع من معدنٍ بتعمل

مرآة نور لم تُشَن بصياغة

كلا ولا جليت بكف الصيقل

تسمو الى كبد السماء كأنها

تبغي هناك دفاع كرب معضل

حتى اذا بلغت الى حيث انتهت

وقفت كوقفة سائل عن منزلِ

ثم انثنت تبغي الحدورَ كأنها

طير أسفّ مخافةً من أجدلِ

حتى اذا ما الليل كرّ ببأسه

في جحفل قد أتبعوه بجحفل

طرب الصديق الى الصديق وأبرزت

كأس الرحيق ولم يخف من عذّل

فالعود يُصلح والحناجر تجتلى

والدر يُخرز من صراح المبزل

والعين تومئ والحواجب تنتجي

والعتب يظهر عطنه في أنمل

والأذن تقضي ماتريد وتشتهي

من طفلة مع عودها كالمطفل

إن شئت مرّت في طريقة معبدٍ

أو شئت مرت في طريقة زلزل

تغنيك عن إبداع بدعة حسن ما

وصلت طرائقه بفنّ الموصلي

فالروض بين مسهّم ومدبّج

ومفوّفٍ ومجزّعٍ ومهلّل

والطير ألسنة الغصون وقد شدت

ليطيب لي شرب المدام السلسل

من حُمّرٍ أو عندليب مطربٍ

أو زُرزرٍ أو تدرجٍ أو بلبل

فأخذتها عاديّةً غيليّةً

تجلى علَيّ كمثل عين الأشهل

قد كان ذاك وفي الصبا متنفّس

والدهر أعمى ليس يعرف معقلي

حتى اذا خط المشيب بعارضي

خط الانابة رمتها بتبتل

وجعلت تكفير الذنوب مدائحي

في سادة آل النبي المرسل

في سادةٍ حازوا المفاخر قادةٍ

ورقوا الفخار بمقولٍ وبمنصُل

١٣٥

وتشدّد يوم الوغى وتشرُّرٍ

وتفضل يوم الندى وتسهل

وتقدّم في العلم غير محلأٍ

وتحقق بالعلم غير محلحل

وعبادة ما نال عبد مثلها

لأداءِ - فرضٍ أو أداء تنفّل

هل كالوصيّ مقارع في مجمع

هل كالوصي منازع في محفل

شَهَرَ الحسامَ لحسم داءٍ معضل

وحمى الجيوش كمثل ليل أليل

لمّا أتوا بدراً أتاه مبادرا

يسخو بمهجة محربٍ متأصل

كم باسل قدردّه وعليه من

دمه رداء أحمر لم يصقل

كم ضربة من كفّه في قرنه

قد خيل جري دمائها من جدول

كم حملة وآلى على أعدائه

ترمي الجبال بوقعها بتزلزل

هذا الجهاد وما يطيق بجهده

خصم دفاع وضوحه بتأوّل

يا مرحبا اذ ظل يردي مرحباً

والجيش بين مكبّر ومهلّل

واذا انثنيت الى العلوم رأيته

قرم القروم يفوق كل البزّل

ويقوم بالتنزيل والتأويل لا

تعدوه نكتة واضح أو مشكل

لولا فتاويه التي نجّتهم

لتهالكوا بتعسّف وتجهّل

لم يسأل الأقوام عن أمرٍ وكم

سألوه مدرّعين ثوب تذلّل

كان الرسول مدينةً هو بابها

لو أثبت النصّاب قول المرسل

[ قد كان كرّارا فسُمّي غيره

في الوقت فرّارا فهل من معدل ]

هذي صدورهم لبغض المصطفى

تغلي على الأهلين غلي المرجل

نصبت حقودهم حروبا أدرجت

آل النبي على الخطوب النزّل

حلّوا وقد عقدوا كما نكثوا وقد

عهدوا فقل في نكث باغ مبطل

وافوا يخبرنا بضعف عقولهم

أن المدبر ثَمّ ربةُ محملِ

هل صيّر الله النساء أئمة

يا أمة مثل النّعام المهمل

دبت عقاربهم لصنو نبيهم

فاغتاله أشقى الورى بتختّل

أجروا دماء أخي النبي محمد

فلتجرِ غرب دموعها ولتهمِل

ولتصدر اللعنات غير مزالةٍ

لعداه من ماض ومن مستقبل

١٣٦

لم تشفهم من أحمد أفعالهم

بوصيّه الطهر الزكي المفضل

فتجرّدوا لبنيه ثم بناته

بعظائم فاسمع حديث المقتل

منعوا حسينَ الماء وهو مجاهد

في كربلاء فنح كنوح المعولِ

منعوه أعذب منهل وكذا غداً

يردون في النيران أوخم منهل

يسقون غسليناً ويحشر جمعهم

حشراً متيناً في العقاب المجمل

أيحزّ رأس ابن الرسول وفي الورى

حيّ أمام ركابه لم يقتل

تسبى بنات محمد حتى كأنّ

محمدا وافى بملّة هرقلِ

وبنوا السفاح تحكموا في أهل حيّ

على الفلاح بفرصة وتعجّل

نكت الدعيّ ابن البغي ضواحكا

هي للنبيّ الخير خيرُ مقبّل

تمضي بنو هند سيوف الهند في

أوداج أولاد النبيّ وتعتلي

ناحت ملائكة السماء عليهم

وبكوا وقد سقّوا كؤوس الذبّل

فأرى البكاء مدى الزمان محللا

والضحك بعد السبط غير محلّل

قد قلت للأحزان: دومي هكذا

وتنزّلي بالقلب لا تترحّلي

يا شيعة الهادينَ لا تتأسّفي

وثقي بحبل الله لا تتعجلي

فعداً ترون الناصبين ودارهم

قعر الجحيم من الطباق الأسفل

وتنعمون مع النبي وآله

في جنة الفردوس أكرم موئل

هذي القلائد كالخرائد تجتلى

في وصف علياء النبي وفي علي

لقريحةٍ عدليّةٍ شيعيةٍ

أزرت بشعر مزرّد ومهلهل

ما شاقها لما أقمت وزانها

أن لم تكن للأعشيين وجرول

رام ابن عبادٍ بها قربًي الى

ساداته فأتت بحسن مكمل

ما ينكر المعنى الذي قصدت له

إلا الذي وافى لعدة أفحل

وعليك يا مكيّ حسنُ نشيدها

حتى تحوزَ كمالَ عيش مقبل (١)

__________________

١ - عن ديوان الصاحب بن عباد ص ٨٥.

١٣٧

وقال رحمه‌الله :

ما بال عَلوى لا ترد جوابي

هذا وما ودعت شرخ شبابي

أتظن أثواب الشباب بلمتي

دَورَ الخضابِ فما عرفت خضابي

أوَ لَمّ ترَ الدنيا تطيع أوامري

والدهر يلزمُ - كيف شئت - جنابي

والعيش غَض والمسارح جمّة

والهمّ اقسم لا يَطور ببابي

وولاء آل محمد قد خيرَ لي

والعدل والتوحيد قد سعدا بي

من بعد ما استدّت مطالب طالب

باب الرشاد الى هدىً وصواب

عاودت عرصة أصبهان وجهلُها

ثبت القواعد محكمُ الأطناب

والجبر والتشبيه قد جثما بها

والدين فيها مذهب النصّاب

فكففتهم دهراً وقد فقّهتهم

الا أراذل من ذوي الأذناب

ورويتُ من فضل النبيّ وآله

ما لا يبقي شبهة المرتاب

وذكرت ما خصّ النبي بفضله

من مفخر الاعمال والانساب

وذر الذي كانت تعرف داءه

انّ الشفاء له استماع خطابي

يا آل احمد انتم حرزي الذي

أمِنَت به نفسي من الأوصاب

أُسعدت بالدنيا وقد واليتكم

وكذا يكون مع السعود مأبي

انتم سراج الله في ظلم الدجى

وحسامه في كل يوم ضراب

ونجومه الزهر التي تهدي الورى

وليوثه إن غابَ ليثُ الغابِ

لا يرتجى دين خلا من حبّكم

هل يرتجى مَطُر بغير سحاب

أنتم يمين الله في أمصاره

لو يعرف النصّاب رجع جواب

تركوا الشراب وقد شكوا غلل الصدى

وتعلّلوا جهلا بلمع سراب

لم يعلموا أن الهوى يهوي بمن

ترك العقيدة ربة الانساب

لم يعلموا أن الوصيّ هو الذي

غَلَبَ الخضارم كلّ يوم غلاب

لم يعلموا أن الوصيّ هو الذي

آخى النبي اخوّة الانجاب

لم يعلموا أن الوصي هو الذي

سبق الجميع بسنّةٍ وكتاب

١٣٨

لم يعلموا أنَّ الوصيَّ هو الذي

لم يرضَ بالاصنام والانصاب

لم يعلموا أن الوصي هو الذي

آتى الزكاة وكان في المحراب

لم يعلموا أن الوصي هو الذي

حَكمَ الغدير له على الأصحاب

لم يعلموا أن الوصي هو الذي

قد سام أهل الشرك سوم عذاب

لم يعلموا أن الوصي هو الذي

أزرى ببدر كل أصيد آبي

لم يعلموا أن الوصي هو الذي

ترك الضلال مغلّل الأنياب

ما لي أقصّ فضائل البحر الذي

علياه تسبقُ عدّ كلّ حساب

لكنّني متروّح بيسير ما

أُبديه أرجو أن يزيدَ ثوابي

وأريد اكمادَ النواصب كلّما

سمعوا كلامي وهو صوت رباب

يحلو اذا الشيعيّ ردّد ذكره

لكن على النصّاب مثل الصاب

مدح كأيام الشباب جعلتها

دأبي وهُنّ عقائد الآداب

حُبّي أمير المؤمنين ديانة

ظهرت عليه سرائري وثيابي

أدّت اليه بصائر أعملتها

اعمال مرضيّ اليقين عقابي

لم يعبث التقليد بي ومحبتي

لعمارة الأسلاف والأحساب

يا كفؤ بنت محمد لولاك ما

زفّت الى بشرٍ مدى الأحقاب

يا أصل عترة احمدٍ لولاك لم

يك أحمد المبعوث ذا أعقاب

وأفئت بالحسنين خير ولادة

قد ضمنت بحقائق الأنجاب

كان النبي مدينة العلم التي

حوت الكمال وكنت أفضل باب

ردّت عليك الشمس وهي فضيلة

بَهَرت فلم تستر بلفّ نقاب

لم أحك إلا ما روته نواصب

عادتك وهي مباحة الأسلاب

عوملتَ يا صنو النبي وتلوه

بأوابد جاءت بكل عجاب

عوهدتَ ثم نكثت وانفرد الألى

نكصوا بحربهم على الأعقاب

حوربتَ ثم قتلتَ ثم لعنت يا

بعداً لأجمعهم وطول تَباب

أيشك في لعني أمية إنها

نفرت على الاصرار والاضباب (١)

__________________

١ - وفي نسخة: جارت على الاحرار والاطياب.

١٣٩

قد لقبوكَ يا أبا ترابٍ بعدما

باعوا شريعتهم بكفّ تراب

قتلوا الحسين فيا لعولي بعده

ولطول نوحي أو أصير لما بي

وهم الألى منعوه بلّة غُلةٍ

والحتف يخطبه مع الخطّاب

أودى به وباخوةٍ غُرّ غدت

أرواحهم شَوراً بكفّ نهاب

وسبوا بنات محمد فكأنهم

طلبوا دخول الفتح والأحزاب

رفقا ففي يوم القيامة غنية

والنار باطشة بسوط عقاب

ومحمد ووصيّه وابناه قد

نهضوا بحكمِ القاهر الغلاب

فهناك عضّ الظالمون أكفّهم

والنار تلقاهم بغير حجاب

ما كفّ طبعي عن إطالة هذه

مَلَل ولا عجز عن الاسهاب

كلا ولا لقصور علياكم عن الا

كثارِ والتطويل والاطناب

لكن خشيت على الرواة سأمةً

فقصدت ايجازاً على اهذاب

كم سامع هذا سليم عقيدة

صدق التشيع من ذوي الألباب

يدعو لقائلها بأخلص نيّة

متخشّعا للواحد الوهّاب

ومناصب فارت مراجل غيظه

حنقاً عليّ ولا يطيق معابي

ومقابل ليَ بالجميل تصنّعا

وفؤاده كره على ظَبظاب

انّ ابن عبّادٍ بآل محمد

يرجو (١) برغم الناصب الكذّاب

فاليك يا كوفيّ أنشِد هذه

مثلَ الشباب وجودَةِ الأحباب (٢)

  وقال:

بلغت نفسي مناها‌‏

بالموالي آل طه

برسول الله من حا

ز المعالي وحواها

وأخيه خير نفس

شرّف الله بناها

__________________

١ - لعله: يزجو او ينجو.

٢ - عن الديوان.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

إنَّما اللَّوْمُ لَوْمُ الجاهليَّةِ

كان لعبد الملك بن مروان عين بالمدينة يكتب إليه ما يَحدث فيها، فكتب له يوماً أنَّ علي بن الحسين (عليه السلام) أعتق جارية له ثمَّ تزوَّجها.

فكتب عبد الملك إلى علي بن الحسين (عليه السلام):

أمَّا بعد: فقد بلغني تزويجك مولاتك، وقد علمت أنَّه كان في أكفائك مِن قريش مَن تُمجَّد به في الصهر، وتستنجبه في الوُلد، فلا لنفسك نظرت ولا على وُلدك أبقيت والسَّلام.

فكتب إليه الإمام عليُّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام):

(أمّا بعد: فقد بلغني كتابك تعنفني بتزويجي مولاتي، وتزعم أنَّه قد كان في نساء قريش مَن أتمجَّد به في الصهر، وأستنجبه في الوُلد، وإنَّه ليس فوق رسول الله (صلى الله عليه وآله) مُرتقى في مَجد ولا مُستزاد في كرم، وإنَّما كانت مِلك يميني ثمَّ خرجت مِن مِلكي، فأراد الله عَزَّ وجَلَّ أمراً ألتمس به ثوابه فارتجعتها على سُنَّته، ومَن كان زكيَّاً في دين الله فليس يُخلُّ به شيء مِن أمره، وقد رفع الله بالإسلام الخسيسة، وتمَّم به النقيصة، وأذهب اللوم، فلا لَوْمَ على امرِئٍ مُسْلِمٍ، إنَّما اللَّوْمُ لَوْمُ الجاهليَّةِ والسَّلام).

فلمَّا قرأ الكتاب رمى به إلى ابنه سليمان فقرأه، فقال: يا أمير المؤمنين، لشدَّ ما فخر عليك عليُّ بن الحسين!! فقال: يا بُنيَّ، لا تقل ذلك، فإنَّها ألسُن بني هاشم التي تفلق الصخر، وتغرف مِن بحر، إنَّ عليَّ بن الحسين (عليه السلام) - يا بني - يرتفع مِن حيث يتَّضع الناس (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج1.

٢٠١

العَدل أساس المُلك

لّمَا صارَ محمد (صلى الله عليه وآله) ابْنَ سَبْعِ سِنينَ قالَ لأُمَّهِ حَليمَةَ: (يا أُمِّي، أَيْنَ إخْوَتي؟).

قالتْ: يا بُنيّ إنَّهُمْ يَرْعَوْنَ الغَنَمَ التي رَزَقَنا الله إيَّاها بِبَرَكَتِكَ.

قالَ: (يا أُمّاهُ، ما أَنْصَفْتِني!).

قالَتْ: كَيْفَ ذلِكَ يا وَلَدي؟!

قالَ: (أكُونُ أَنا في الظِّلِّ وإخْوَتي في الشَّمْسِ والْحَرِّ الشّديدِ وأنا أَشْرِبُ مِنها اللَّبَنَ!).

الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) كان وهو في سِنِّ السابعة يتحدَّث مع مُرضعته عن الإنصاف داخل مُحيط الأُسرة الصغير، ويُنمِّي في عقله الفتيِّ مفهوم العدل والإنصاف، وعندما بلغ (صلى الله عليه وآله) وشَبَّ ترسَّخ هذا المفهوم في ذهنه أكثر، وعمد إلى نقل هذا المفهوم مِن مُحيط الأُسرة المحدود وتطبيقه على مُحيط مدينة مَكَّة الواسع، فاجتمع (صلى الله عليه وآله) مع مجموعة مِن كِبار رجال العرب في حِلف سُمِّيَ بـ: (حلف الفضول) وذلك بهدف تحقيق العدالة وتطبيق العدل الاجتماعي، فتحالف معهم دفاعاً عن حقوق الناس، وكان ما كان كما نقله لنا التاريخ.

كان نفر مِن جُرْهم وقطوراء يُقال لهم: الفضيل بن الحارث الجُرهمي، والفضيل بن وداعة القطوريِّ، والمفضل بن فضالة الجرهمي اجتمعوا فتحالفوا أنْ لا يُقرُّوا ببطن مَكَّة ظالماً، وقالوا: لا ينبغي إلاَّ ذلك؛ لما عَظَّم الله مِن حَقَّها، فقال عمر بن عوف الجُرهمي:

إنَّ الفُضول تحالفوا وتعاقدوا

ألا يَـقرَّ بـبطن مَكَّة ظالم

أمـرٌ عليه تعاهدوا وتواثقوا

فـالجار والمعترُّ فيهم سالم

٢٠٢

ثمَّ درس ذلك، فلم يبق إلاَّ ذِكره في قريش.

ثمَّ إنَّ قبائل مِن قريش تداعت إلى ذلك الحلف، فتلاقوا في دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسِنِّه، وكانوا بني هاشم وبني عبد المُطَّلب وبني أسد بن عبد العِزَّى وزهرة بن كلاب وتيم بن مُرَّة، فتحالفوا وتعاقدوا أنْ لا يجدوا بمَكَّة مظلوماً مِن أهلها أو مِن غيرهم مِن سائر الناس، إلاّ قاموا معه وكانوا على ظلمه حتَّى تُردُّ عليه مظلمته، فسَّمت قريش ذلك الحِلف حِلف الفُضول.

كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) يتجنَّب في فترة شبابه الاختلاط في ذلك العصر الجاهلي قدر الإمكان، ويمتنع عن مُجالستهم، لكنَّه (صلى الله عليه وآله) شارك في هذا الحِلف بكلِّ سرور ورَحابة صدرٍ، وتعاون مع الأشخاص الذين تعاهدوا وتواثقوا على بَسط العدل؛ لأنَّ هذا الحِلف جاء مُطابقاً لمرامه وطباعه (صلى الله عليه وآله) ونفسِهِ التَّوَّاقةِ للعدل.

فالذي يُفكِّر بالعدل مُنذ طفولته، ويتحدَّث عن الإنصاف مع مُرضعته وهو ابن سبع سنين، لا بُدَّ أنْ يترسَّخ هذا المفهوم في نفسه أكثر عندما يُصبح شابَّاً. وكان لا بُدَّ للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنْ يستفيد مِن كلِّ فُرصة تُسنح له، ويلجأ إلى اتِّباع شتَّى الأساليب لتطبيق العدل الاجتماعي، الذي يُشكِّل هدفاً مُقدَّساً بالنسبة له (صلى الله عليه وآله). وفعلاً حانت الفُرصة المُنتظرة، عندما قرَّر عدد مِن كبار رجال مَكَّة بذل ما بوسعهم لتطبيق العدل ووضع حَدٍّ للظلم والجور، فاغتنمها رسول الله (صلى الله عليه وآله) مُعلناً استعداده للتعاون معهم والانضمام للحٍلف، فكان ما كان.

وقد دعا الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) الناس قاطبة إلى العدل مُنذ بُعِث نَبيَّاً. وقد تخطَّت دعوته حدود مَكَّة وبلاد الحِجاز، وكان لها صدى واسع في جميع أنحاء المعمورة. ولم تَغِب ذِكرى حِلف الفضول عن بال رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي كان يتذكَّرها، فيسعد ويفخر بها.

٢٠٣

فَقَالَ حِينَ أَرْسَلَهُ الله تعالى: (لَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ عُمومَتي حِلْفاً في دارِ عَبْدِ الله بنِ جَدْعانَ، ما أُحِبُّ أنَّ لي بهِ حُمْرَ النَّعّمِ، ولّو دُعِيتُ بهِ في الإسْلام لأَجَّبْتُ).

لا أحد يعلم - على وجه التحديد - كمْ مَرَّة نجح حِلف الفضول مُنذ قيامه في إحقاق الحَقِّ وبسط العدل بين الناس، ولكنْ هناك حالتان نوردهما بإيجاز حسبما وردت في التواريخ.

السبب في هذا الحِلف والحامل عليه أنَّ رجلاً مِن زبيد قدم مَكَّة ببِضاعة، فاشتراها منه العاص بن وائل، وكان مِن أهل الشرف والقَدر بمَكَّة، فحبس عنه حقَّه فاستعدى عليه الزبيدي الأحلاف: عبد الدار، ومخزوماً وجمح، وسهماً، وعدي بن كعب فأبوا أنْ يُعينوا على العاص وانتهروه - أيْ الزبيدي - فلمَّا رأى الزبيدي الشرَّ رقي على أبي قبيس عند طلوع الشمس وقريش في أنديتهم حول الكعبة، فقال بأعلى صوته:

يـا آل فِـهرٍ لمَظلوم بضاعته

بـبطن مَكَّة نائي الدهر والقَفر

ومُحرم أشعث لم يقض عمرته

يا للرجال وبين الحِجر والحِجر

إنَّ الـحرام لمَن تمَّت مكارمه

ولا حـرام لثواب الفاجِر الغَدر

والحرام بمعنى الاحترام؛ فقام في ذلك الزبير بن عبد المُطَّلب مع عبد الله بن جدعان، واجتمع إليه مَن تقدَّم وتعاقدوا وتعاهدوا ليكونُنَّ يداً واحدة مع المظلوم على الظالم، حتَّى يؤدَّى إليه حَقَّه شريفاً أو وضيعاً، ثمَّ مشوا إلى العاص بن وائل فانتزعوا منه سلعة الزبيدي فدفعوها إليه.

وفي رواية أُخرى أنَّ رجلاً مِن خثعم قَدِم مَكَّة مُعتمراً أو حاجَّاً، ومعه بنت له جميلة فاغتصبها منه نبيه بن الحَجَّاج فقيل له: عليك بحِلف الفضول، فوقف عند الكعبة ونادى يا لحلف الفضول، فإذا هُمْ يعنقون إليه مِن كلِّ جانب، وقد انتضوا أسيافهم - أيْ جرَّدوها - يقولون: جاءك الغوث فما لك؟

فقال: إنَّ نَبيهاً ظلمني في بُنيَّتي فانتزعها مِنِّي قَسراً.

٢٠٤

فساروا إليه حتَّى وقفوا على باب داره فخرج إليهم، فقالوا له: أخرج الجارية فقد علمت مَن نحن، وما تعاهدنا عليه.

فقال: أفعل، ولكنْ متِّعوني بها الليلة.

فقالوا: لا والله، ولا شَخْب لقحة - أيْ مُقدار زمن - فأخرجها إليهم (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج1.

٢٠٥

الأحداث أسرع إلى الخير

عندما خرج الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) شاهراً دعوته بين الناس في مَكَّة، دبَّت فورة عظيمة بين جيل الشابِّ، فتجمعَّوا بدافعٍ مِن ميولهم الفطريَّة حول الرسول (صلى الله عليه وآله) ينهلون مِن مَعين أحاديثه الشريفة، وقد أثار هذا الأمر خلافات بين الشباب وأُسرهم، ودفع بالمُشركين إلى الاحتجاج على ذلك عند الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله).

... فاجتمعت قريش على أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب، إنَّ ابن أخيك قد سبَّ آلهتنا، وأفسد شبابنا، وفرَّق جماعتنا.

لقد بلغت دعوة النبيِّ محمّد (صلى الله عليه وآله) أسماع كلِّ الناس مِن رجال ونساء، وشيوخٍ وشبابٍ، إلاّ أنَّ الشباب كانوا أكثر تأثُّراً بهذه الدعوة واندفاعاً لها؛ لأنَّ توقُّد الحِسِّ الديني لديهم خِلال مرحلة البلوغ، جعلهم مُتعطِّشين لتعلُّم فضائل الإيمان والأخلاق، ولهذا كانت كلمات الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) تنزل في نفوسهم كالماء السلسبيل، كما أنَّها كانت بالنسبة لهم بمثابة غذاء للروح، دون غيرهم مِن الشيوخ والطاعنين في السِّنِّ.

فلمَّا أوفد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) مصعب بن عمير إلى المدينة، ليُعلِّم أهلها قراءة القرآن، وينشر بينهم التعاليم والمعارف الإسلاميَّة، كان الشباب أوَّل مَن لبَّى دعوته، حيث أبدوا رغبة شديدة في تعلُّم قراءة القرآن واكتساب التعاليم الإسلاميَّة.

وكان مصب نازلاً على أسعد بن زرارة، وكان يخرج في كلِّ يوم ويطوف على مجالس الخزرج، يدعوهم إلى الإسلام فيُجيبه الأحداث (1).

____________________

(1) الشابُّ، ج1.

٢٠٦

الحِلم سيِّد الأخلاق

مَرّ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِقَوْمٍ فيهِمْ رَجُلٌ يَرْفَعُ حَجَراً يُقالُ لَهُ: حَجَرُ الأَشِدَّاءِ وهُمْ يُعْجَبُونَ مِنْهُ.

فَقالَ: (ما هذا؟).

قالُوا: رَجُلٌ يَرْفَعُ حَجَراً يُقالُ لَهُ: حَجَرُ الأَشِدّاءِ.

قال: (أَفَلا أُخْبِرُكُمْ بِما هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ؟

رَجُلٌ سَبَّهُ رَجُلٌ فَحَلُمَ عَنْهُ، فَغَلَبَ نَفْسَهُ وغَلَبَ شَيْطانَهُ وشَيْطانَ صاحِبهِ).

يرى أئمَّة أهل البيت (عليهم السلام) أنَّ غلبة النفس الأمَّارة، التي فيها يكمن عزم الإنسان وقُدرته، لتبعث على العِزَّةِ والفَخر. والفتى الذي يبحث عن حَقٍّ وصدق عمَّا يرفع به رأسه بين الناس، عليه أنْ يبني شخصيَّته على أساسٍ مِن الحِلم والصبر والثبات والإرادة وغلبة النفس، ليؤمِّن سعادته في الدنيا والآخرة (1).

____________________

(1) الشابُّ، ج1.

٢٠٧

في حلالها حساب وفي حرامها عِقاب

كان ليزيد بن مُعاوية وَلد يُدعى: مُعاوية، كان يُحبُّه حُبَّاً جَمَّاً، ويودُّ تربيته تربية تعينه على بلوغ مُنيته، فاختار له مؤدِّباً ومُعلِّماً فاضلاً يُدعى (عمو المقصوص)، وقد عُرف هذا المؤدِّب بإيمانه وورعه، وحُبِّه ومولاته لأمير المؤمنين عليٍّ (عليه السلام)، وبغضه الدفين لظلم وبغي مُعاوية بن أبي سفيان ووَلده يزيد.

وقد حرص هذا المُعلِّم الكفوء على تعليم وتربية مُعاوية بن يزيد على التعاليم الإسلاميَّة، وتحريم وتنمية حِسِّ الإيمان والعقل والرغبة في المعرفة الدينيَّة في كيانه، وقد أفلح فعلاً في أنْ يصنع مِن مُعاوية بن يزيد فرداً مؤمناً عاقلاً، ومُحبِّاً لعليٍّ وآله (عليهم السلام أجمعين).

وقد بُويع لمُعاوية بن يزيد بالخلافة يوم موت أبيه وهو في عنفوان شبابه، حيث لم يكن يتجاوز العشرين مِن عُمره.

إنَّ سِنّ العشرين هو مِن سِنيِّ الدورة الواقعة بين سِنِّ الـ 18 والـ 23، وهي مرحلة تبرز فيها الرغبات بقوَّة في أعماق الفتيان والشباب، ففيها تصل الشهوة الجنسيَّة إلى ذروتها، وتنفتح أحاسيس التفوُّق والشُّهرة، وحُبُّ المال والجاه في ذات الشابِّ بعُنفٍ.

وخلال هذه الدورة يُصبح الشابُّ مُتعطِّشاً لتحصيل اللذائذ وإشباع الشهوات، وقد يلجأ إلى سلوك الطريق الملتوية وغير المشروعة؛ لتحقيق أمانيه ورغباته الدفينة.

إنَّ خلافة يزيد وحكومة بلاد واسعة كانت بالنسبة لمُعاوية الشابِّ أفضل وسيلة لإشباع ميوله ورغباته؛ إذ كان بإمكانه إشباع نزواته الجنسيَّة، وأحاسيس التفوُّق، وحُبِّ المال والجاه وغيرها مِن الرغبات الجامعة التي تكمن في أعماق كلِّ شابٍّ

٢٠٨

بصورة فطريَّة، فمُعاوية بن يزيد كان قادراً على استغلال وجوده على عرش الخلافة شَرَّ استغلال، في إرضاء غرائزه لو كان عبداً لهواه، ذليلاً لشهواته، لو لم يكن قد نشأ في ظِلِّ تربية إسلاميَّة صحيحة، وترعرع في كِنف مؤدِّبٍ كفوءٍ رسَّخ في نفسه روح الإيمان بالله والتعاليم الإسلاميَّة الحَقَّة؛ ليجعل منه إنساناً ذا إرادة قويَّة، مُتحرِّراً مِن قيود النفس الأمَّارة مُستقلَّاً لن يؤثِّر فيه منصب الخلافة بكلِّ عظمتها.

لقد أقام مُعاوية بن يزيد في الخلافة أربعين يوماً، نظر فيها في كلِّ ما ارتكبته حكومة أبيه وجَدِّه، مِن بغي وسوء فِعالٍ وجُرأة على الله سبحانه وتعالى، فأدرك عُظم الجرائم التي ارتكبها أبوه يزيد بن مُعاوية طيلة فَترة خلافته، الذي تجرَّأ على الله وبغى على مَن استحلَّ حُرمته مِن أولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله).

فوجد مُعاوية بن يزيد أمام مُفترق طريقين، عليه أنْ يختار سلوك أحدهما، فإمَّا أنْ يستمرَّ في الخلافة ويسير على خُطى أبيه وجَدِّه في البغي والرذيلة، ومُمارسة الظلم بحَقِّ العباد، وإشباع جميع رغباته وغرائزه، وإمَّا أنْ يُطيع أوامر الله ويسلك طريق الحَقِّ والفضيلة، ويخلع نفسه عن الخلافة التي لن تعود عليه إلاّ بالذِّلِّ والعار.

وقد اتَّخذ مُعاوية بن يزيد قراره، واستطاع بقوَّة إيمانه والتربية السليمة، التي عاش في ظلِّها أيَّام طفولته وصباه، أنْ يتغلَّب على هواه ويُصمِّم على إقالة نفسه مِن الخلافة، فصعد المِنبر ثمَّ حمد الله وأثنى عليه وذكر النبي (صلى الله عليه وآله) بأحسن ما يذكر به، ثمَّ قال:

أيُّها الناس، إنَّ جَدِّي مُعاوية بن أبي سفيان قد نازع في أمر الخلافة مَن كان أولى بها منه ومِن غيره؛ لقَرابته مِن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعظم فضله وسابقته، أعظم المُهاجرين قدراً وأشجعهم قلباً، وأكثرهم علماً، وأوَّلهم إيماناً، وأشرفهم منزلة، وأقدمهم صُحبة، ابن عَمِّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصِهره وأخوه، زوَّجه (صلى الله عليه وآله) ابنته فاطمة وجعله لها بَعلاً وجعلها له زوجة، أبو سِبطيه سيِّدي شباب أهل الجَنَّة، وأفضل هذه الأُمَّة، فركب جَدِّي منه ما تعلمون وركبتم معه ما لا

٢٠٩

تجهلون حتَّى انتظمت لجَدِّي الأُمور، فلمَّا جاءه القدر المحتوم واخترمته أيدي المَنون، بقي مُرتهناً بعلمه فريداً في قبره، ووجد ما قدَّمت يداه ورأى ما ارتكبه واعتداه.

ثمَّ انتقلت الخلافة إلى أبي يزيد - والكلام ما زال لمُعاوية - ولقد كان أبي يزيد بسوء فعله وإسرافه على نفسه، غير خليق بالخلافة على أُمَّة محمّد (صلى الله عليه وآله)، فركب هواه واستحسن خُطاه، وأقدم على ما أقدم مِن جُرأته على الله، وبغيه على مَن استحلَّ حُرمته مِن أولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقلَّت مُدَّته وانقطع أثره وضاجع عمله، وصار حليف حُفرته رهين خطيئته، وبقيت أوزاره وتبعاته.

ثمَّ اختنقته العبرة، فبكى طويلاً وعلا نحيبه، ثمَّ قال:

وما كنت لأتحمَّل آثامكم، ولا يراني الله جلَّت قدرته مُتقلِّداً أوزاركم وألقاه بتبعاتكم، فشأنكم أمركم فخذوه ومَن رضيتم به عليكم فولُّوه، فلقد خلعت بيعتي مِن أعناقكم والسَّلام.

فاضطرب المجلس، وقام مروان بن الحكم - وكان تحت المنبر - فقال له: أسنَّة عُمريَّة يا أبا ليلى؟!

فقال مُعاوية: اغدُ عنِّي، أعن ديني تخدعني؟! فو الله، ما ذقت حلاوة خلافتكم فأتجرَّع مرارتها. والله، لئن كانت الخلافة مَغنماً لقد نال أبي منها مَغرماً ومأثماً، ولئن كانت سوءاً فحسبه منها ما أصابها.

ثمَّ نزل عن المنبر وعيناه مُغرورقتان بالدموع.

ولمَّا رأى بنو أُميَّة ما حصل قالوا لمؤدِّبه عمر المقصوص:

أنت علَّمته هذا ولقَّنته إيَّاه، وصددته عن الخلافة، وزيَّنت له حُبَّ عليٍّ وأولاده، وحملته على ما وسمنا به مِن الظلم وحسَّنت له البِدع، حتَّى نطق وقال ما قال.

٢١٠

فقال: والله، ما فعلته ولكنَّه مجبول ومطبوع على حُبِّ عليٍّ، فلم يقبلوا منه ذلك وأخذوه ودفنوه حيَّاً حتَّى مات (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج1.

٢١١

جزاء مَن يتعدَّ حُرمات الله

كان الخليفة العباسي المُتوكِّل يبرز عِداءه الشديد وبُغضه للإمام عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وعندما يذكره كان لا يُسمِّيه إلاِّ بـ: (أبو تراب)، ولا يتورَّع في المجالس العامَّة عن توجيه الإهانة له (عليه السلام)، لكنَّ وَلَده الشابَّ وولي عهده المُنتصر كان مُتألِّماً جِدَّاً مِن سُلوك أبيه إزاء الإمام علي (عليه السلام)، ولكنْ لم يكن يملك أمام هذا السلوك إلاَّ التزام الصمت، وقد جاء في كُتب التاريخ أنَّ المُتوكِّل كان يُبغض عليَّاً (عليه السلام) وينتقصه، فذكره وغَضَّ منه، فتمعَّر وجه ابنه المُنتصر لذلك، فشتمه المُتوكِّل وأنشأ يقول:

غَضِبَ الفَتى لابنِ عَمِّه

رَأسُ الفَتى في حَرِّ أُمِّهِ

لم يُطِق المنتصر هذه الإهانة التي سمعها مِن أبيه، وهو وليُّ العهد الذي كان آنذاك في الخامسة والعشرين مِن العمر، وتأثَّر كثيراً لانتقاص أبيه منه أمام المَلأ، فأضمر له أمراً يُعوِّض له عمَّا حَقَّره به وحَقد عليه، وقَرَّر الأخذ بالثأر الذي يمحو عنه إهانة أبيه، وأغراه ذلك على قتله، فخطَّط مع بعض الغُلمان على قتله في أوَّل فُرصة ووعدهم بالمال والمنصب.

فبينما المُتوكِّل جالس في قصره يشرب مع ندمائه وقد سَكر، إذ دخل بغاء الصغير وأمر النُّدماء بالانصراف، فانصرفوا ولم يَبقَ عنده إلاَّ الفتح بن خاقان، فإذا الغُلمان الذين عيَّنهم المُنتصر لقتل المُتوكِّل قد دخلوا وبأيديهم السيوف مُصلتة، فهجموا عليه، فقال الفتح بن خاقان: ويلكم! أتقتلون أمير المؤمنين؟! ثمَّ رمى بنفسه عليه، فقتلوهما جميعاً، ثمَّ خرجوا إلى المُنتصر فسلَّموا عليه بالخلافة (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج1.

٢١٢

المؤمن مُبتلى

كان أحد صحابة الإمام الصادق (عليه السلام) يُدعى يونس بن عمّار، وذات يوم أُصيب يونس بمرض البَّرص أو الجُذام، وغطَّت بُقعٌ بيضاء كامل وجهه، فأثَّرت في نفسه، وأخذت شخصيَّته تضمحلُّ شيئاً فشيئاَ فاقدة مكانتها الاجتماعيَّة، وقد قيل في حَقِّه: لو كان للإسلام به حاجة، أو كان لوجوده أدنى أثر أو قيمة لما ابتُلي بهذا البَلاء، فجاء يونس بن عمَّار إلى الإمام الصادق (عليه السلام) شاكياً لسان الناس، فقال له (عليه السلام): (لَقَدْ كانَ مُؤْمِنُ آلِ فِرعَوْنَ مُكَنَّعَ الأصابعِ فَكانَ يَقُولُ هكَذا ويَمُدُّ يَدَيْهِ ويَقُولُ: ( . .. يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ) ).

لقد رَدَّ الإمام الصادق (عليه السلام) بهذه العبارة القصيرة على أقاويل الناس الجَوفاء، حيث حاول (عليه السلام) أنْ يُثبت لنا إمكانيَّة ابتلاء المؤمن بالله وسُنَّة نبيِّه ببليَّة أو عاهة ما، مِثلما ابتُلي مؤمن آل فرعون بتلك العاهة. كما أنَّه (عليه السلام) قد ساعد في رفع معنويَّات يونس بن عمّار؛ حيث دعاه إلى عدم الابتعاد عن الناس بسبب البُقع البيضاء التي انتشرت في وجهه، وطلب منه الاستمرار بواجباته في التبليغ، كما كان يفعل مؤمن آل فرعون، حيث كان يمدُّ يده التي كانت تنقصها الأصابع ويقول: ( ... يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ) ، فتلك العاهة لم تَثنِ عزيمة مؤمن آل فرعون، ولم تُحبط معنويَّاته وشخصيَّته (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢١٣

لسانك حصانك إنْ صِنته صانك

كان ابن المقفع رجلاً ذكيَّاً ذا شأنٍ عظيمٍ في عصره، وكان يمتاز عن غيره بقوَّة عقله وحِدَّة ذكائه. وقد نجح في بداية شبابه في تلقِّي العلوم، وترجمة بعض الكُتب العلميَّة إلى اللغة العربيَّة لفطنته وكفاءته الفطريَّة، إلاّ أنَّ تفوّقه العقلي والفكري جعل منه إنساناً مَغروراً، وترك في سلوكه وأخلاقه آثاراً سيِّئة، مِمَّا جعله يواجه مَشاكل جَمَّة في عَلاقاته الاجتماعيَّة.

وكان ابن المُقفع يستهزئ بالناس ويُحقِّرهم بكلمات وألفاظ بذيئة؛ ليُثير في نفوسهم روح الحِقد والعِداء.

وكان سفيان بن مُعاوية - الذي نصَّبه المنصور الدوانيقي والياً على البصرة - مِن جُملة الأشخاص الذين لم يأمنوا لسان ابن المقفع، إذ كان هذا الأخير يستهزئ بسفيان بن مُعاوية أمام الناس.

وكان سفيان بن مُعاوية ذا أنف كبير قبيح الشَّكل، وكلَّما دخل عليه ابن المقفع في دار الولاية قال بأعلى صوته أمام الملأ: السَّلام عليكم، ويعني به: السَّلام عليك وعلى أنفك الكبير، وذات يوم رَدَّ عليه سفيان بالقول: إنَّني لستُ نادماً على التزامي الصمت حيالك، فقال له ابن المقفع: إنَّ مَن خِصلته التلعثُم في الكلام يجب أنْ لا يندم أبداً على التزام الصَّمت.

وأحياناً كان ابن المقفع يُعيِّر سفيان بن مُعاوية بأُمِّه، حيث كان يُناديه بأعلى الصوت وأمام الجميع (يابن المُغتلمة) أيْ: يا ابن المُنقادة للشهوة. وذات يوم أراد ابن المقفع أنْ يظهر جهل وسذاجة سفيان، فسأله في محفل عامٍّ عن رجل يموت ويُخلِّف زوجة وزوج، كيف يتمُّ تقسيم الميراث بينهما؟

آثار ابن المقفع ذلك الرجل الذكي الفطن بكلامه المُهين، النابع مِن غُروره وتكبُّره، حِقد سفيان عليه وعداءه له، وبات سفيان يتحيَّن الفُرص للانتقام مِن ابن المقفع شرَّ انتقام.

٢١٤

وصادف أنْ ادَّعى عبد الله بن علي الخلافة على ابن أخيه المنصور الدوانيقي، وخرج لقتاله. فطلب الخليفة المنصور مِن أبي مُسلم الخراساني الخروج إلى البصرة بجيش جرَّار لقتال عَمِّه، وأخيراً انتصر جيش أبي مسلم على جيش عبد الله بن علي، الذي لجأ إلى أخويه سليمان وعيسى مُتخفِّياً عندهم. وبعد فترة توجَّه الأخوان إلى المنصور، وطلبا منه الصَّفح عن أخيهما عبد الله، فقبل المنصور شفاعتهما، وقرَّر أنْ يَكتُبا عهد أمان ليوقِّعه المنصور الدوانيقي.

وبعد عودتهما إلى البصرة أوكلا إلى ابن المقفع، الذي كان يعمل حينها كاتباً لدى عيسى، كتابة عهد الأمان، وطلبا منه أنْ يكون الكتاب مِن القوَّة بمكان، بحيث يسلب الدوانيقي كلَّ قُدرة على إلحاق الأذى بأخيهما عبد الله، فكتب ابن المقفع عهد الأمان وغالى في تنظيمه، حيث ذكر فيه أنَّ المنصور الدوانيقي إذا ما مكر بعَمِّه عبد الله بن علي وألحق به الأذى، فإنَّ أمواله ستوزع على الرعيَّة، وسيعتق عبيده وجواريه ويُصبِح المسلمون في حِلٍّ مِن بيعته. وعندما دخلا على المنصور وهما يحملان كتاب الأمان ليوقِّعه، ثارت ثائرته فسأل عن الكاتب، فقيل له: إنَّه ابن المقفع، فأمر المنصور بعد أنْ امتنع عن التوقيع، أمر والي البصرة سِرَّاً بقتل ابن المقفع.

ولمَّا كان سُفيان والي البصرة يحمل ما يحمل في جوفه مِن عِداءٍ لابن المقفع، الذي طالما مَسَّ كرامته وجرح شعوره، ويتحيَّن الفرصة للانتقام، جاءت أوامر الخليفة المنصور بقتل ابن المقفع لتَثْلُج صدر سفيان الذي استغلَّ هذه الفُرصة المُناسبة للانتقام مِن غريمه.

فأمر سفيان بحبس ابن المقفع في حُجرة، فدخل عليه وقال له: أتذكر ما قتله في شأني وشأن أُمِّي؟ والله، إنَّ أُمِّي لمُغتلمة إنْ لم أقتلك قتلة لم ترَ الرعيَّة مِثلها مِن قبل، فأمر سفيان بإشعال التنُّور، وجيء بابن المقفع وكان حينها في السادسة والثلاثين مِن العُمر، فأخذ يقتطَّع مِن جسمه قطعة قطعة ويرميها أمام ناظريه داخل التنُّور، ومازال كذلك حتَّى قضى بهذه الطريقة المُفجعة (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢١٥

لا طاعة لمَخلوق

حتَّى لو كان أُمَّاً في مَعصية الخالق

لقد أحدثت كلمات الرسول (صلى الله عليه وآله) وخُطبه المؤثِّرة في بدايات الدعوة تحوُّلاً روحيَّاً عظيماً في جيل الشباب، ولمَّا كان الشباب بفطرتهم ثوريِّين ويرغبون في التجدُّد والحداثة، التفُّوا حول الرسول (صلى الله عليه وآله) مُعلنين انضواءهم تحت راية الإسلام، فبدأوا في ظِلِّ قيادته الرشيدة وتوجيهاته الحكيمة حملة ضِدَّ السُّنَن الفاسدة، والعادات والتقاليد المذمومة التي كانت سائدة آنذاك، مُعلنين عن مُخالفتهم للمُعتقدات والأفكار الباطلة أينما حلُّوا في أُسرتهم ومُجتمعهم، أو في حِلِّهم وترحالهم.

كان سعد بن مالك مِن الشباب النشيطين والمُتحمِّسين في صدر الإسلام، وقد اعتنق الإسلام على يد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وهو في سِنِّ الـ 17، وكان سعد قد أظهر وفاءه للإسلام ومُخالفته للجاهليَّة في أكثر مِن مكان وزمان، لا سِيَّما في الظروف الحرجة التي مَرَّ بها المسلمون قبل الهِجرة.

وكان أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله) إذا أرادوا الإتيان بالصلاة، ينزلون إلى شعاب مَكَّة ليتَّقوا شَرَّ المُشركين، فبينا سعد بن مالك في نفر مِن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) في شِعبٍ مِن شعاب مَكَّة، إذ ظهر عليهم نفر مِن المُشركين، فناكروهم وعابوا عليهم دينهم حتَّى قاتلوهم فاقتتلوا، فضرب سعد رجُلاً مِن المُشركين بلِحي جَمَل، فشجَّه فكان أوَّل دَمٍ أُريق في الإسلام.

وكان المُشركون في تلك الأيَّام في ذروة قوَّتهم وجَبروتهم، بينما المسلمون في نهاية الضعف والعجز، وأيُّ صِدامٍ بين الطرفين - آنذاك - كان يَجرُّ إلى أحداث خطيرة، ولكنَّ الشباب الذين أعدُّوا أنفسهم لتحمُّل شتَّى أنواع التعذيب والأذى لم

٢١٦

يخشوا عواقب الأُمور، أو المخاطر التي قد يواجهونها نتيجة دفاعهم عن حُرمة الإسلام.

يقول سعد: كنتُ رجلاً برَّاً بأُمِّي، فلمَّا أسلمت قالت: يا سعد ما، هذا الدين الذي أحدثت؟! لَتَدَعَنَّ دينك أو لا آكل ولا أشرب حتَّى أموت، وعيَّرتني، فقال: لا تفعلي يا أُمَّاه، فإنِّي لا أدع ديني، قال: فمكثتْ يوماً وليلة لا تأكل فأصبحت وقد جهدت وتصوَّرت أنَّ ابنها لو رآها على هذا الحال مِن الضعف سيترك دينه لبرِّه بها، وقد غاب عنها. إنَّ عطف الأُمِّ وبَرَّها لا يُمكنه أنْ يقف أمام الحُبِّ الإلهي لو تغلغل إلى النفس، ولهذا قال لها سعد في اليوم التالي:

والله، لو كانت لك ألف نفس، فخرجت نفساً نفساً ما تركتُ ديني.

ولمَّا رأت الأُمُّ التصميم القاطع لولدها، ويئست مِن تغيير مُعتقده عدلت عن قرارها بالإمساك عن الطعام.

وخُلاصة القول: إنَّ السلوك الثوري للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والخُطب الحماسيَّة كان لها الأثر الكبير في بناء شخصيَّة ثوريَّة للشباب، الذين ثاروا بالاتِّكال على الله وتوجيهات قائدهم العظيم ضِدَّ سُنَن الجاهليَّة الفاسدة، فحطَّموا الأصنام وهدُّوا بيوتها واقتلعوا جذور الظلم والعدوان، وقضوا على الآداب والتقاليد والعادات الباطلة والنُّظم الفاسدة، وأقاموا مكانها نظاماً جديداً قائماً على أساس العلم والإيمان، والعدل والحُرِّيَّة، والأخلاق والفضيلة، استطاع أنْ يُنقذ البشريَّة مِن الجهل والضلالة (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢١٧

مَن يَتَّقِ الله يجعل له مَخرجاً

مِن الأشخاص الذين آمنوا بما جاء به الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في بداية البعثة، وفي ظلِّ أكثر الظروف قساوةً، عياش بن أبي ربيعة وزوجته أسماء بنت سلامة، فقد عانا الكثير مِن المشاكل والصعوبات والضغوطات في طريق إعلاء كلمة الحَقِّ.

كان لعياش شقيقان مِن أُمِّه هُما: أبو جهل، والحارث، وكان عندما اعتنق الإسلام في الثلاثين مِن عُمُره وزوجته في العشرين مِن العُمر، وما أنْ أعلن عياش إسلامه حتَّى ثارث ثائرة قومه، فحاولوا تعذيبه وإلحاق الأذى به؛ لمنعه مِن اتِّباع النبي (صلى الله عليه وآله)، إلاَّ أنَّ ذلك لم يؤثِّر به وبقي ثابتاً على إسلامه.

وهاجر عياش وزوجته بمعيَّة مجموعة مِن المسلمين إلى الحبشة، بأمر مِن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، لكنَّهما عادا إلى مَكَّة ثانية قبل الآخرين، فتعرَّضا مُجدَّداً لأذى المُشركين وتعذيبهم، حتَّى حان موعد هِجرة الرسول (صلى الله عليه وآله) والمسلمين إلى المدينة، فهاجرا وتخلَّصا مِن شَرِّ الأعداء.

وعندما علمت أسماء أُمُّ عياش بهجرة ولدها أقسمت اليمين، بأنَّها لن تدهن شَعرها ولن تجلِس في فَيء حتَّى يعود عياش، فشدَّ أبو جهل والحارث الرحال إلى المدينة، وأخبرا عياش بما أقسمت عليه أُمُّهم، وقالا له: إنَّك أكثرنا مكانة عند أُمِّنا، وإنَّك على دين يوصي ببَرِّ الوالدين، فعُدْ إلى مَكَّة واعبدْ ربَّك فيها كما تعبده هنا في المدينة.

فلمَّا سمع عياش بذلك تألَّم لحال أُمِّه وصَدَّق أخويه، فطلب منهما عهداً بعدم الخيانة إنْ هو عاد إلى مَكَّة، فغادر معهما المدينة، وما أنْ ابتعدوا عن المدينة حتَّى شرعا يُعذِّبانه ويؤذيانه، فربطاه ودخلا به مَكَّة نهاراً وهو على هذه الحال، وقالا:

٢١٨

(يا أهل مَكَّة، هكذا فافعلوا بسُفهائكم كما فعلنا بسفيهنا)، ثمَّ رميا به في حُجرة لا سقف له.

وبقي عياش سجيناً في مَكَّة لسنوات عديدة، لاقى خلالها شتَّى صنوف التعذيب، لكنَّه لم تظهر عليه علامات الضعف المعنوي والانهيار الروحي، فقد كان على اتَّصال بخالقه مُتسلِّحاً بقوَّة الإيمان في وجه المصائب والمصاعب.

وكان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في المدينة يدعو له بالخلاص، وكان الناس مُتأثِّرين لما حَلَّ بعياش، وبعد مُدَّة تمكَّن أحد المسلمين - في خُطَّةٍ بارعةٍ - مِن التسلُّل إلى مَكَّة وإنقاذ عياش مِن السِّجن والعودة به إلى المدينة (1) .

____________________

(1) الشابُّ، ج2.

٢١٩

قوَّة الإيمان أقوى مِن قوَّة الجَسد

مِن المسلمين الأوائل سعيد بن زيد وزوجته فاطمة، حيث اعتنق سعيد الإسلام وهو في العشرين مِن العُمر وزوجته تصغره بسنوات، كان سعيد وزوجته يحضران عند الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في ظروف مشحونة بالمخاطر لاكتساب تعاليم الإسلام وتعلُّم قراءة القرآن.

وكان لفاطمة شقيق حادُّ الأخلاق قويَّ الجِسم، شديد المُعارضة للإسلام. وذات يوم مِن أيَّام الصيف الحار التقى به رجل مِن قريش في أزقَّة مَكَّة، وقال له: أنت تزعم أنَّك هكذا؟ وقد دخل عليك هذا الأمر في بيتك وصبأت أُختك، فرجع غاضباً. وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجمع الرجل والرجلين إذا أسلما عند الرجل به قوَّة، فيكونان معه ويُصيبان مِن طعامه. وقد كان ضُمَّ إلى زوج أُخته رجلين، فجاء وقرع الباب والقوم يقرأون القرآن في صحيفة معهم، فلمَّا سمعوا الصوت تبادروا واختفوا، وقامت المرأة وفتحت الباب، فقال لها: يا عدوَّة نفسها، قد بلغني أنَّك أسلمت، وصفعها بقوَّة فسال الدمُ مِن وجهها، فلمَّا رأت الدمَ كشفت عن السِّرِّ وقالت بكلِّ صَراحة وثَبات: ما كنتَ فاعلاً فافعل، فقد أسلمت.

لقد كانت النساء والبنات مُضطهدات في العصر الجاهليِّ ومحرومات مِن حُقوقهنَّ الإنسانيَّة والمدنيَّة، وكُنَّ يُعاملن أسوأ مِن مُعاملة العبيد والحيوانات، إلى أنْ جاء الإسلام حاملاً منهجه التربوي، الذي يضمن للمرأة شخصيَّتها ويمحنها قوَّة في الإرادة واستقلالاً في الفكر، استطاعت مِن خِلالهما فتاة شابَّة الوقوف بوجه أخيها دفاعاً عن إيمانها ومُعتقدها بكلِّ شجاعة (1).

____________________

(1) الشاب، ج2.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335