أدب الطف الجزء ٢

أدب الطف17%

أدب الطف مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 335

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠
  • البداية
  • السابق
  • 335 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 62296 / تحميل: 10393
الحجم الحجم الحجم
أدب الطف

أدب الطف الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: دار المرتضى للنشر
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الحمل تدريجياً انه في الشهر الثالث يبلغ طوله ثلاثة سنتمرات 3 سم ووزنه 11 غراماً فقط ويكون الرأس كبيراً مخيفاً يقارب في حجمه ثلث حجم الجنين ، وأما الأحشاء فهي بارزة مع الكبد في حالة فتق فما هذا المنظر وأي جراح سيصلح له هذا الفتق ويرد احشاءه؟ لا نستعجل فالارادة الحكيمة تفعل فعلها ، كما نلاحظ ظهور العينين والأذنين والأطراف كجذمور صغير!!

وفي نهاية الشهر الثالث يبلغ طول الجنين 10 سم ووزنه 55 غراماً أي أن طوله أصبح ثلاثة أضعاف خلال شهر ووزنه تضاعف إلى خمسة أضعاف ، ولا يلبث ذلك الفتق أن يزول وترجع الأحشاء مع الكبد إلى الداخل ويتكون موضع السرة حيث يبقى بصمة على مر الزمن تذكر الانسان بالموضع الذي خرج منه!!

وفي نهاية الشهر الرابع يصبح طوله 20 سم ووزنه 170 غراماً أي تضاعف الطول خلال شهرين سبع مرات وتضاعف الوزن 17 مرة!! كما يتشكل الجهاز الهضمي ويبدأ الكبد بالعمل ولكن الجنين مع هذا يبدو أحمر اللون أصلع كما أنه يبدو بشع المنظر متجعد الجلد ، ولكن لا نستعجل لان كل شيء سيتم على ما يرام ، ففي نهاية الشهر الخامس يصبح طوله 30 سم ووزنه 650 غراماً كما يظهر شعر الرأس وتبدأ غدد الجلد في العمل. اذن بدأت مظاهر الجمال بالظهور حسناً فهل انتهى الأمر أم انه بحاجة إلى أشياء جديدة؟ هناك أشياء كثيرة تحتاج إلى تتمة فالاجفان مطبقة ملتصقة ببعضها ولا أظافر كما ان لون الجلد ما زالد أحمراً ، ولا تزال تجعدات الجلد موجودة كما ان الخصيتين ما تزالان في الظهر ولكن ما أن يصل إلى الشهر الثامن حتى يكون طوله 45 سم ووزنه 2500 غرام ، والاجفان منفصلة والشحم تحت الجلد أخفى التجعدات كما ان لون الجلد أصبح أبيض وردياً جميلاً وهاجرت الخصيتان من الظهر إلى

٨١

الصفن ، وفي نهاية الشهر التاسع يكون طوله 50 سم أي تضاعف طوله ما يقرب من 17 مرة والوزن 3250 غراماً أي تضاعف الوزن قرابة 325 مرة كما ان الاجهزة تكون كاملة ويكون الجنين في تمام تخلقه لا ينقصه شيء. فكيف سارت الأمور في هذا الطريق مرحلة مرحلة لا تسبق مرحلة أخرى ولا تستأخر وكل منهما توصل الجنين إلى مرحلة أخرى تتمم الاولى؟! أي خلق واي ابداع سبحانك اللهم؟!! ...

الولادة :

ولنلق نظرة على أجهزة هذا الجنين عندما يحين الوقت لنزوله إلى الكدح!! ان وزن القلب 20 غراماً ووزن الرئة 30 غراماً ووزن الكلية 12 غراماً ووزن الدماغ 350 غراماً ، أما وزن الدرق والمعثكلة فهي 3 غرامات والكبد يزن 125 غراماً ، أما وزن النخامة ملكة الغدد فهو نصف غرام لا أكثر!! بينما وزن المشيمة 500 غرام لانها في الحقيقة تمثل جميع أعضائه وأجهزته العاملة فهي التي تغذيه وتحميه وتهيء له كل ما يحتاج لنموه واستقراره واتزانه فما أعقلها تلك الأم الصغيرة؟!

ثم لننظر الى هذه الانشوطة التي يتعلق بها الجنين وهو يتأرجح بها مسروراً والتي تسمى بالحبل السري إنها أرجوحة مسلية ( طول الحبل السري 50 سم ) فهو يلعب ويتحرك كيفما يشاء ويخبط برجليه ويديه جدار الرحم معلناً وجوده وحياته ومخبراً بوضعه وسروره بهذه الحالة كما أن هذا الحبل يحوي مواسير الدم التي تنقل من المشيمة إلى الجنين حيث نجد في الحبل وريداً ضخماً وشريانين يقومان بايصال الدم وإرجاعه فهي مهمة مقدسة ، ولذا كان لهذا الحبل مزايا مهمة جداً فقصره يعرض لشدة الضغط على المشيمة وبالتالي انفكاكها وتعريض حياة الجنين للخطر بنقص تروية الدم كما أن طول الحبل قد يجعله ينسدل أو يلتف على عنق

٨٢

الجنين ليقوم بعمل أشبه ما يكون بعملية شنق للجنين وهي إذا حدثت قطعت ورود الدم إلى الدماغ وبالتالي هلاك الجنين فأي أسرار وأي إبداع في كل جزء من هذا المخلوق وهذا الكون( الذي أحسن كل شيء خلقه ) ،( لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم ) ،( ولقد كرمنا بني آدم )

وطالما تحدثنا في هذه الصخامة التي وصل اليها الجنين وهي ما ناحية الطول أكثر بـ 17 مرة ، ومن ناحية الوزن أكثر بـ 325 مرة عما كانت عليه المضغة في نهاية الشهر الثاني حيث حصل الانعطاف الانساني في تخليق المضغة وتكوينها ، فماذا يحصل للرحم وهل هو بهذه السعة والصخامة أم انه يتمدد؟ وإذا تمدد فهل يصل إلى هذا التمدد الهائل؟ يجيبنا الطب ويقول : ان الرحم تبلغ من الحجم عند الفتاة الغذراء حوالي 2 ـ 3 سم3 بينما هي تصل في أواخر الحمل إلى حجم خمسة ألتار أو ما يعادل 5000 سم 3 أي أن حجم الرحم ازداد بمقدار 2500 ضعف تقريباً كما أنه يصل في بعض الحالات إلى 10 ليترات أو حتى 15 ليتراً كما في الحالات المرضية التي تعرف بالاستسقاء الأمينوسي أو الجنين الوطل أو الحمل التوأم!!! فكيف استطاعت عضلات الرحم أن تتمطط بهذه الكيفية حتى استطاعت أن توسع الحجم إلى ألفين وخمسمائة ضعف كما انها بعد الوضع تعود إلى ما كانت عليه فأي سر عجيب هذا الذي تحتويه؟! وأما الوزن فتزداد عشرين ضعفاً حيث يكون وزن الرحم قبل الحمل 50 غراماً بينما هو عند الوضع كيلو غرام واحد فما هي المواد التي انضمن إليها وتشربت بها حتى زادت بهذا الشكل؟ إنها أسرار وألغاز يحتار حتى الطب في تعليلها وهي من اختصاصه!! ثم نتساءل حول هذه الضخامة المفرطة كيف يتسنى للبطن أن يحتويها حتى ليصل قعر الرحم إلى أسفل عظم القص والذي يسمى بالذيل الخنجري؟ حقاً إن الحمل معجزة بحد

٨٣

ذاته لولا اننا نراها كل يوم فتبلد حسنا اتجاهها ، ثم لننظر في مستويات أخرى حتى نرى هذا الانقلاب الهائل في جسم المرأة والذي يتجلى في كل ناحية من ناحية جسمها ، أولاً على مستوى الحوض حيث انها تستعد لتدخل الجنين وخروجه حياً وهذا بحد ذاته عجيبة من العجائب سنتعرض لها بعد قليل ، ثم ان المبيض يكون قد لحم فلم يعد يفرز شيئاً وكأنه صامت ينظر إلى هذه المسرحية العجيبة وهي مسرحية تخلق الانسان وأما الدم فهو قد أعلن استنفاره للقضية ولكن كيف بامكانه أن يخدم القضية الخطيرة؟ هنا يحصل تشاور على مستوى عال وتكون النتيجة كالتالي :

يقول الدم ، ما هو الشيء الذي أستطيع أن أقدمه لكم فتكون الإجابة لا عليك سوف تبعث الغدة النخامية أوامرها لقشر الكظر حتى يزيد من افراز هورمون الحابس للملح والماء وهو الالدوسترون فاذا زادت كتلة الدم بزيادة الماء كان هذا أحسن وذلك احتياطاً للطوارىء فيما لو حصل نزف فتكون كمية الدم أكبر ولكن هل هذا يكفي؟ انه لا يكفي اتصلوا سريعاً بالكبد حتى يزيد لنا من كمية مولد الليفين ويدفعها إلى الدم حتى يتخثر الدم بسرعة فيما إذا حصل ، نزف خاصة وان المشيمة سوف تقتلع وتنسلخ من قعر الرحم ، وكل هذا سيعرّض لخطر النزف ، وأما أنت أيها الدم فاستوعب كل ما نرسل إليك طالماً أظهرت إخلاصك للموضوع ، ويكون جواب الدم انني الخادم المخلص لهذا الانسان العظيم الذي أساعد ف إظهاره إلى صفحة الوجود ، ثم لا تلبث الأوامر المشددة أن تنطلق إلى الكبد ليزيد من تقوية الدم وشد أزره في الأزمات وذلك يتوليد المزيد من الحديد والخضاب ، وهكذا يحصل التعاون ما بين الغدة النخامية والكظر والكبد والدم ، هناك أمور أخرى يجب أن نحتاط لها وهي موضوع الجراثيم الانتهازية التي تنتظر مثل هذه الفرص حيث

٨٤

تنفتح الأوساط العقيمة فتجدها مزارع طيبة للنمو والتكاثر!! إذن فلترسل الأوامر إلى نقي العظام حتى يزيد من انتاج الكريات البيض وجعلها في أهبة الاستعداد لمقاومة الإنتان ، وهكذا يرتفع رقم الكريات البيض بضعة آلاف في الملم3 بالاضافة إلى الصفيحات التي ترسل إلى الدم لتعاون هي ايضاً في قطع النزيف فيما لو حصل؟!! انقلاب شامل في كل أجهزة البدن ، كلها تستعد للمهمة الخطيرة : الأعصاب ، الغدد ، الأخلاط ، العضلات ، المفاصل ، العظام

ترسل الأوامر الهورمونية إلى مفاصل الحوض بالخاصة حتى ترتخي وتهيء الطريق ولا تضايق المرور وهذا عن طريق هورمون الرولاكسين الذي يقوم بهذا الفعل خاصة ، ثم ماذا عن الهورمونات السحرية العجيبه التي تفعل بترقيق شديد جداً يبلغ الجزء من المليون ، انها تعمل على أروع المستويات ، فالجسم الأصفر الذي استمر في دأبه ونشاطه مدة خمسة أشهر وسطياً تقول له المشيمة جزاك الله كل خير فلقد تعبث كثيراً وأرى أن ترتاح لأقوم بالمهمة التي تقوم بها وإذا بخلايا المشيمة الأمامية تقوم بالاضافة إلى عملها الامتصاصي للدم تقوم بإفراز هورمونات تعين على استقرار الجنين داخل الرحم وهي ما تسمى بالبرولانات ( آ ) و ( ب ) A + B بالإضافة إلى الجريبين واللوتئين ، وهذه الهورمونات على تفاهم مستمر مع النخامة وهي تخبر النخامة في كل لحظة عن صحة الجنين ونموه وتقدمه ، وعن نموه الخلوي والجهازي والعضوي على وجه العموم ، وعندما تحين ساعة الصفر تكون الخطة ان توقف هذه الهورمونات المفرزة وخاصة الجريبين دفعة واحدة حيث تحصل المفاجأة العجيبة وهي انقطاع الهورمونات التي كانت تحفظ استقرار الجنين داخل الرحم انها قضية مدبرة بتفاهم كامل بين الغدد والاعضاء ، وهكذا يتزعزع وجود الجنين ويبدأ المخاض الشاق ، وهنا تحصل العجيبة وهي مرور الجنين من الأعضاء التناسلية إلى الخارج ،

٨٥

إن فوهة العنق مغلقة تماماً بسدادة ليفينية ، وان المضيق العلوي فيه فتحة عظمية يبلغ قطرها في حدود (12) سم فكيف سيمر الجنين من هذه الفتحة؟ تبدأ ملكة الغدد النشيطة في إرسال الأوامر من الفص الخلفي بشكل منظم إلى عضلات الرحم وهذا الهورمون يفرز من خلايا خاصة مهمتها هي هذه وفي هذا القسم يفرز هورمون آخر مهمته أن يضاد ادرار البول ، فماذا يحصل لو حصل خطأ بسيط ، فكانت الأوامر للخلايا الثانية وليست الأولى ، لم يحصل هذا مطلقاً ولا في امرأة واحدة فكيف سار هذا الناموس البديع المتناسق المحكم؟؟؟

يبدأ هورمون الفص الخلفي للنخامة بإفرازاته المنظمة المقلصة لعضلات الرحم ، وهكذا تسير التقلصات وتدفع الجنين إلى أسفل ، وتبدأ آلام المخاض عند الحامل ومع تكرار هذا الأمر ينفتح العنق وفيه خاصية عجيبة أيضاً حيث يبلغ من انفتاحه درجة كاملة بحيث يتساوى مع جدران الرحم ثم ينبثق جيب المياه الذي تكلمنا عنه ويبدأ رأس الجنين يحاول أن يتطابق مع الفوهة التي سيمر بها ويكون هذا باطباق ذقنه إلى صدره والتقدم بمؤخرة رأسه وهكذا يمر الولج إلى أسفل بينما تكون الأم في آلامها المريرة تعاني ما تعاني!! ولكن ما أن ترى المولود بجنبها حتى تنسى كل ما تألمت في سبيل هذه الثمرة العزيزة الغالية التي هي ثمرة الحب ( المولود الجديد ) ـ وعندما يصل المولود إلى هذه الحياة تحصل قضية ايضاً هي معجزة في حد ذاتها وهي حجم الرحم الكبير والفراغ الكبير بعد خروج الجنين وليس هذا المهم بقدر أهمية انسلاخ المشيمة وانفتاح برك الدم التي كانت تغذي الجنين ، لولا إرادة الله العجيبة التي حفظت هذا الكائن في كل مراحلة لكانت كل ولادة معناها الموت الحقيقي للأم لأن الدم سيخرج كالسيل الدافق من أفواه تلك البرك التي تنضح به ولكن ما أن تنزل المشيمة حتى ينقبض الرحم بشكل عجيب حيث يصبح

٨٦

في قساوة الحجر بحيث ان الذي يضع يده على بطن الولود يشعر بتلك الكتلة القاسية التي هي دلالة ممتازة على انقباض الرحم ولذا سميت هذه العملية بعملية الرقاء الحسي وسميت الرحم في هذه الحالة بكرة الأمان وفعلاً انها كرة أمان تطمئن الطبيب إلى أن الوضع على ما يرام ولا خوف على الأم التي وضعت فتبارك الله أحسن الخالقين.

تغذية الطفل :

أسرار وأسرار يحار الطب والعلم في تفسيرها ومنها كيف سيتغذى هذا الوليد بعد أن جاء إلى هذا العالم الجديد وهو غريب عليه ولم تعد معه تلك المشيمة التي كانت تقدم له الطعام مهضوماً جاهزاً ، ان الارادة الحكيمة هيأت له الثدي كاحسن ما يكون فلننظر بدقة إلى كيفية هذا التكوين :

خلال الحمل تكون الأوامر المرسلة للثدي هي بالاستعداد فقط وهي هنا تكاثر الغدد ولذا نرى حوالي 25 فصاً عذباً لا للبن ومتى حان الوضع ترسل النخامة أوامرها لغدد الثدي بالافراز ويبدأ الافراز ، وهنا نتساءل كيف تحول الدم الذي يغذي الثدي إلى لبن مفيد للطفل حقاً انه سر من الأسرار العجيبة المدهشة فلقد وجد أن طريقة وصول المواد الدسمة وغيرها عن طريق اللبن هو عن طريق الافراز العائد للخلية ، ومعنى هذا ان الخلية الغدية تمتلىء بكرات الدسم فلا تستطيع عبور العشاء الخلوي فينجرف مقدمة الخلية مع كرات الدسم ثم تعود الخلية مرة أخرى فتجدد الغشاء الخلوي وما ذهب منها ، وهكذا ولقد وجد أن اللبن يحتوي على كافة المواد التي يحتاجها الجسم وان تركيز المواد فيه يختلف مع تطور عمر الطفل كما ان اللبن معقم فلا يحتوي على الجراثيم بالإضافة إلى أن أجسام المناعة تمر من خلاله مما تعطي الطفل مناعة مهمة ضد الأمراض وذلك من دم والدته ، وإذا ذهبنا نعدد مزايا حليب الأم

٨٧

وأفضليته على باقي أنواع الحليب سواء حليب الحيوانات أو الحليب المجفف فانه يتفوق بشدة وهذا كله من رحمة الله بهذا المخلوق الذي يلد ضعيفاً وهو يحتاج للرحمة والعناية والغذاء فأمن له كل ذلك وبشكل متناسق فتغذية الطفل تخلق حناناً وعطفاً ورحمة من الأم على ولدها وتشد الناحية الروحية العاطفية بينهما

لنستمع إلى سيد قطب وهو يحدثنا عن الاعجاز في خلق اللبن عند الآية القرآنية :( وإن لكم في الإنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبناً خالصاً سائغاً للشاربين ) فهذا اللبن الذي تدره ضروع الأنعام مم هو؟ انه مستخلص من بين فرث ودم ، والفرث ما يبقى في الكرش بعد الهضم وامتصاص الامعاء للعصارة التي تتحول إلى دم. هذا الدم الذي يذهب إلى كل خلية في الجسم فاذا صار إلى غدد اللبن في الضرع تحول إلى لبن ببديع صنع الله العجيب الذي لا يدري أحد كيف يكون

وعملية تحول الخلاصات الغذائية في الجسم إلى دم ، وتغذية كل خلية بالمواد التي تحتاج اليها من مواد هذا الدم عملية عجيبة فائقة العجب وهي تتم في الجسم في كل ثانية كما تتم عمليات الاحتراق ، وفي كل لحظة تتم في هذا الجهاز الغريب عمليات هدم وبناء مستمرة لا تكف حتى تفارق الروح الجسد وقد بقي هذا كله سراً إلى عهد قريب. وهذه الحقيقة العلمية التي يذكرها القرآن هنا من خروج اللبن من بين فرث ودم لم تكن معروفة لبشر ، وما كان بشر في ذلك العهد ليتصورها فضلاً على أن يقررها بهذه الدقة العلمية الكاملة وما يملك انسان يحترم عقله أن يماري في هذا أو يجادل. ووجود حقيقة واحدة من نوع هذه الحقيقة يكفي وحده لإثبات الوحي من الله بهذا القرآن فالبشرية كلها كانت تجهل يومذاك هذه الحقيقة ).

٨٨

تشخيص الحمل :

بقي علينا بعد هذه الرحلة الطويلة أن تعرف على بعض الاسرار الأخرى المدهشة منها كيفية تشخيص الحمل؟ فلقد وجد أن الحمل لا يشخص بشكل قطعي في الاشهر الأولى ولكن ابتداء من الشهر الرابع وما بعده بأيام يبدأ قلب الجنين بالنبض ، ويعد سماع دقات قلب الجنين من الأعراض اليقينية لتشخيص الحمل ، وهنا نجد توافقاً عجيباً بين هذا الرقم وعدة المتوفى عنها زوجها حيث سجل القرآن تلك العدة كما يلي :( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة اشهر وعشراً ) وهذا الرقم يطابق إلى درجة عجيبة الرقم الذي يحدده الطب لوضوح العلامات اليقينية للحمل ، وهذا الشيء مهم من أجل الميراث والنفقة وما سواهما من الأمور الهامة في الأسرة وحق الذرية فهل كان الذي أنزل عليه القرآن ( عليه الصلاة والسلام ) طبيباً اخصائياً اطلع على علم التشريح الجنيني وأدرك هذه الاسرار ثم سجلها ، أم أن هناك أمراً أهم وهو اطلاع الله على السر وأخفى!!!

ومن هذه الاسرار أيضاً عدم جماع الرجل لامرأته في وقت الحيض حيث أن غشاء الرحم المخاطي يكون في هذه المرحلة في حالة توسف وانسلاخ ولذا فإن الجماع في هذه الحالة له أضراره المؤكدة وأولها اصابة الرحم بالتهاب وانتان وذلك بسبب انكشاف الطبقات الداخلية للرحم كما لو جرحت اليد والجرح مفتوح فكيف سيعمل التلوث ، ان الرحم بالضبط هي في حالة جرح ولكن من باطنها فأي جماع سيؤدي إلى صعود الجراثيم من المهبل إلى عنق الرحم وإذا صعدت فإن البيئة مناسبة جداً لإحداث الاصابة الانتانية هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الحالة النفسية للمرأة تكون أبعد ما يمكن عن الجماع والاستثارة الجنسية ، فلقد وجد الطب أن افراز هورمون معين هو ( الفوليكولين ) هو الذي

٨٩

ينمي الإثارة الجنسية والحس الجنسي وهذا يزداد إفرازه قبل القاء البيضة أي بدءاً من أول الطهر حتى اليوم الرابع عشر من الدورة حيث تلقى البيضة في هذا اليوم ، وفي هذا اليوم بالذات يندلق هذا السائل مع انفجار جريب دو غراف الذي تحدثنا عنه وبهذا تزداد الغريزة الجنسية في هذا اليوم أكثر من بقية أيام الدورة مما تجعل المرأة تتوافق مع هذا الافراز تماماً فزيادة الغريزة والميل الجنسي مع الاستعداد للالقاح والعكس بالعكس حيث يقل الميل الجنسي بعد إلقاء البيضة وتكون الجسم الأصفر الذي هو من مخلفات جريب دوغراف المنفجر الذي أعطى البيضة ، وهذا الجسم الأصفر يعطي هورموناً هو البروجسترون أو اللوتئين وهذا الهورمون يحدث تأثيرات مخالفة لتأثيرات الهورمون الأول حيث ينمي هذا الحب والعطف والرحمة فالهورمون الأول هو هورمون المحبات بينما الهورمون الثاني هو هورمون الأمهات!! كما لوحظ أن الهورمون الأول يحدث انقلاباً في كل الجهاز التناسلي عند المرأة وبشكل يتفق مع امكانية الالقاح ، فالأعضاء التناسلية عند المرأة يؤثر عليها فينمي الشفرين والبظر كما ينمي غدد بارتولان وهذه تفرز مواد مخاطية تساعد في عملية الجماع كما أن هذا الهورمون ينمي المهبل ويزيد من حموضته بزيادة سكر العنب الذي يتحول إلى حمض لبن بفضل جراثيم المهبل مما يحمي المهبل حماية جيدة من الانتانات ويزيد من مقاومته ولكن طالما ازداد الحمض فإن هذا فيه خطر على الحيوانات المنوية التي يضر بها الحمض ولكن يحدث أمر على درجة كبيرة من الغرابة وهو ما يعرف بمفرز العنق الآحي اللصوق حيث تفرز غدد العنق أي عنق الرحم في يوم الاباضة مادة رائقة لصوقة مثل آح البيض لا تبقى أكثر من 24 ساعة وهي تعدل مفرزات المهبل الحامضة من جهة كما أنها تشبه السلم الذي سوف يصعده الحيوان المنوي الذي مهد له الأمر كل هذا التمهيد وأما تأثير هذا الهورمون ( أي الفوليكولين

٩٠

على الرحم ) فإنه يزيد من المقوية العضلية أي قوة توتر العضلات كما ينقص عتبة تقلصها أي أن المثير الذي كان يدفعها إلى التقلص في السابق فإن أضعف من يحرض عضلات الرحم على التقلص وهذا له فائدة حيث أن الرحم تقوم بعمل يشبه عمل الاجاصة التي تمتص المني بواسطة عنق الرحم من المهبل امتصاصاً كما لو تصورنا إجاصة من المطاط لها فوهة موضوعة في ماء وضغطنا هذه الاجاصة فإنها تسحب الماء بقوة بعد رفع اصبعنا عنها وهذا ما يحدث بالضبط للرحم في الجماع وحتى في النفير يقوم هذا الهورمون بما يسهل مهمة الالقاح البشري حيث يؤثر على العروق الدموية قتتسع وتحتقن وهذا ما يجعل النفير يفرز سائلاً مطلياً يشكل تياراً يساعد في هجرة البيضة حتى تلتقي بالحيوان المنوي وتتلقح كما يؤثر هذا الهورمون في قشرة الدماغ فينبه الشهوة الجنسية عند المرأة فانظر كيف أثر هذا الهورمون الآخر بتأثيرات متعاكسة تماماً مع الفوليكولين حيث تنعدم تأثيرات البروجسترون على المهبل ، وأما العنق فتكف مفرزاته وأما الرحم فيرفع عتبة تقلصه حتى يؤمن سريراً ثابتاً هادئاً للجنين الإنساني وأما في قشر الدماغ فينمي الأمومة في قلب المرأة فكيف اتفق لهذين الهورمونين أن يقوما بمثل كل هذه الاعمال؟ إنها إرادة الله الطليقة المنشئة التي تحدث كل هذا

وهكذا نجد أن الظرف النفسي لا يوافق عملية الجماع مطلقاً بل على العكس ، كما أن القذارة التي يكون عليها المهبل حيث إن الدم الطمئي يمتاز بأنه وريدي أسود لا يتخثر كما أنه يحتوي كمية من مادة الزرنيخ ، هذا بالإضافة إلى أن الجماع قد يحدث احتقاناً في المنطقة وفي الرحم مما يؤدي إلى زيادة كمية القذف الدموي ، هذه الأشياء التي ذكرناها بالإضافة إلى أشياء كثيرة لسنا بصددها الآن ترينا حكمة القرآن حينما

٩١

يقول :( ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ، فإذا تطهرن فاتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) ـ البقرة ـ. ومع هذا نسمع عن بعض أساتذة التوليد الذين يدرسون طلاب الطب ان الجماع في الحيث ليس فيه أذى إنما هو غير جيد من الناحية الميكانيكية لا أكثر؟!!

إن هذا الجواب بالإضافة إلى تفسيرات أخرى تدل على ان الذهنية العلمية ربما خانت أصحابها حين يبحثون في مثل هذه القضايا ، فما هو السر يا ترى في كل هذه المواقف؟ إنها عقدة الفرار من الله إنها نتائج التعليم الغربي الذي ما زال يعاني من الفصام النكد الذي حصل بين العلم والدين وذلك نتيجة اضطهاد الكنيسة لرجال العلم في القرون الوسطى في أوربا والتي نجانا الله منها في عالمنا بسبب فكرتنا الإسلامية العظيمة عن الكون والحياة والإنسان.

إن الحيض أذى بلا شك من كافة النواحي البيولوجية والغريزية والنفسية وصدق الله وخرص المكذبون!!

وآخر المطاف في هذ البحث هو موضوع الفصل بين الجنسي واعطاء تدريس مختلف لكل من الجنسين ولنأخذ مثلاً على ذلك : أن شريطي موجود فكل سلك ملفوف بعازل يعزله عن رفيقه ويحدث اتصال في مكان مناسب خاص فتحصل الإضاءة وتنتشر القدرة الكهربية بينما إذا حصل اتصال ما بين الشريطين في غير المكان المطلوب أدى إلى تعطيل التيار فكيف الأمر لو حصل اتصال على طول الخط كما هو في اتصال الجنسين اليوم!! ولنستمع إلى الدكتور الكسيس كاريل صاحب كتاب « الانسان ذلك المجهول » وهو يحدثنا عن بعض الأشياء التي يجب أن نحددها للانثى والذكر ( إن الاختلافات الموجودة بين الرجل والمرأة لا تأتي من

٩٢

الشكل الخاص للاعضاء التناسلية ومن وجود الرحم والحمل أو من طريقة التعليم إذ أنها ذات طبيعة أكثر أهمية من ذلك أنها تنشأ من تكوين الأنسجة ذاتها ومن تلقيح الجسم كله بمواد كيماوية محددة يفرزها المبيض ولقد أدى الجهل بهذه الحقائق الجوهرية بالمدافعين عن الانوثة إلى الاعتقاد بأنه يجب أن يتلقى الجنسان تعليماً واحداً ، وأن يمنحا قوى واحدة ومستويات متشابهة ، والحقيقة أن المرأة تختلف اختلافاً كبيراً عن الرجل فكل خلية من خلايا جسمها تحمل طابع جنسها والأمر نفسه صحيح بالنسبة لأعضائهن وفوق كل شيء بالنسبة لجهازها العصبي فالقوانين الفسيولوجية غير قابلة للين مثل قوانين عالمنا الكوكبي ، فليس في الإمكان إحلال الرغبات الإنسانية محلها ومن ثم فنحن مضطرون إلى قبولها كما هي فعلى النساء أن ينمين أهليتهن تبعاً لطبيعتهن دون أن يحاولن تقليد الذكور ، فان دورهن في تقدم الحضارة اسمى من دور الرجل فيجب عليهن أن لا يتخلين عن وظائفهن المحددة ولذا يحب ألا تلقن الفتيات التدريب العقلي والمساوي ولا أن تبث في نفسها المطامع التي يتلقاها الفتياها وتبث فيهم )(1) ونحن لا نسلم بكل ما يقول هذا الكاتب ولكن هذه الإشارة مهمة في توضيح ما يعاني المجتمع الغربي

__________________

1 ـ كتاب الانسان ذلك المجهول ص 108 ـ 109 ص 111.

٩٣

الجملة العصبيّة المركزية

يقول الخالق العليم( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) إن القلب المعني به هنا هو الدماغ مركز التفكير في الانسان وهذا الجهاز هو موضع بحثنا الآن ، فما هو تركيبه يا ترى؟ وما هي مكوناته وعمله الفيزيولوجي؟ وما هي أسراره المحيرة التي لم يكشف النقاب إلا عن القليل منها؟ لنسمع إلى الطب وهو يحدثنا عن بعض هذه الأسرار ...

يعتبر الدماغ بالنسبة إلى الجسم بمثابة الحكومة العاقلة العالمة المخلصة والتي تتحكم في كل الجسم على الاطلاق تحكماً مطلقاً ويعتبر الجسم بمثابة الشعب المتفاني في الطاعة ، وتتكون الجملة العصبية من اجتماع عدة عناصر تتعاون فيما بين بعضها البعض ، كما أنها تتعاون من جهة أخرى مع باقي غدد الجسم وأخلاطه ، وحتى نأخذ فكرة مبدئية عن الأمور نقول أن الجملة العصبية في الإنسان هي أهم جزء في البدن حيث تمثل قيادة الجسم من الناحية المادية والفكرية وهي تتكون من المخ والمخيخ والجذع الدماغي الذي يتكون بدوره من ثلاث قطع هي الساق المخية وهي مزدوجة والحدبة الحلقية وتسمى بجسر فارول أيضاً نسبة لمكتشفها وثالثها

٩٤

وهي البصلة ، وهناك النخاع الشوكي وهو موجود في قناة عظمية تحفظه من كافة الجوانب ويتفرع من النخاع أعصاب عديدة تسري في الجسم كسريان أسلاك البرق والهاتف وهكذا نرى أن عناصر الجملة العصبيه هي سبعة وهي تمثل مركز القيادة الذي يتلقى الأخبار ويرسل الأوامر ولكن كيف يتم هذا الأمر؟ إن هذا كله سنتعرض له بالتفصيل بعد قليل ، ولتبدأ بأبسط الأشياء حتى نصل إلى الأشياء المعقدة ..

الخلية العصبية :

الشيء الأول الذي نريد أن نفهمه هو السؤال التالي : ما هي الأعصاب؟ يقول الطب أن حجر الأساسي أو اللبنة الأساسية في تكوين الجهاز العصبي هو العصبون أو الخلية العصبية أي كباقي الأجهزة التي تشكل الكائن الحي الراقي ولكن تختلف الخلية العصبية عن باقي خلايا الجسم بمميزات هامة وعظيمة هي التي جعلت هذه الخلايا تتمتع بمركز القيادة بينما تعتبر باقي الخلايا تحت حكم الأولى الخلية العصبية تمتاز بشكلها الساحر المعقد والذي يشبه الأخطبوط بأرجله أو الشجرة كثيرة الأغصان التي لا تحمل أوراقاً حيث أن الخلية العصبية تتخد من ناحية شكلها الجسمي شكلاً كروياً أو مغزلياً أو نجمياً أو بيضياً ومن هذا الجسم يخرج من طرفه استطالات كأغصان الاشجار ومن الطرف الآخر يخرج ما يشبه جذع الشجرة أي محور غليظ طويل ولقد سميت الاغصان أو الاستطالات بالاستطالات الهيولية وسمي الجذع بالمحور الاسطواني والسؤال الذي يهمنا في هذا الصدد هو : ما هو السر الذي يمكن في هذه الخلية حتى تكون مقراً للادراك والتفكير والمحاكمة والتصور والخيال والإبداع والذكاء والإرادة والشخصية وهي خلية كباقي خلايا الجسم تتغذى بنفس المواد وتتفاعل كما يتفاعل باقي الخلايا ولها نفس التركيب الداخلي أي هيولى خلوية ونواة وكروموسومات فأي سر

٩٥

عجيب تحتويه هذه الخلية السميعة البصيرة الناطقة المفكرة؟ إن الطب بالطبع لا يجيبنا على هذا السؤال ولكن مع المستقبل قد نكشف له أسرارها؟!!

ان الخلية العصبية لها لون رمادي ولذا تعطي المناطق التي تقطن فيها اللون الرمادي وهو ما نشاهده في الطبقة السطحية القشرية الخارجية لمخ والمخيخ حيث تجتمع الخلايا العصبية بينما هي في النخاع داخله في المركز أي بعكس توزع الخلايا في المخ وهي تبلغ في تعدادها رقماً خيالياً حيث استطاع العالم فون ايكونومو أن يعد خلايا الدماغ بـ 14 مليار ( ألف مليون ) خلية عصبية ولنتصور الآن ترابط هذه الخلايا كلها دفعة واحدة في العمل من أجل المحافظة على سلامة الكينونة الإنسانية أن هذه الخلايا العصبية تقوم بعمل مدهش فذ وبشكل متناسق ومتكامل وموحد حتى أن العالم جودسون هريك القى محاضرة في معهد التاريخ بنيويورك في ديسمبر عام 1957 أراد أن يعطي تشبيهاً للدماغ فقال لو أننا جمعنا كل أجهزة العالم من التلفون والتلغراف والرادار والتلفزيون ثم حاولنا أن نصغر هذه الكومة الهائلة من الأجهزة المعقدة حتى استطعنا وبمجهود جبار أن نوصلها إلى مثل حجم الدماغ فانها لا تبلغ في تعقيدها مثل الدماغ. وصدق لأن الدماغ بلغ من التعقيد حداً يعجز الدماغ عن فهمه!!!

إن الخلية العصبية لا تعمل بشكل مفرد بل تتعاون مع باقي الخلايا والفضل في هذا يعود إلى تفصل الخلايا مع بعضها البعض وذلك عن طريق هذه الشبكة الهائلة من الاستطالات الهيولية حتى لقد وجد أن بعض الخلايا متصل بما يقرب من 1800 خلية أخرى وهكذا نصل إلى شيئين ، الأول هو ذلك الترابط الوثيق بين الخلايا العصبية والشيء الثاني هو عدد الممرات التي يمكن أن تنشأ من خلال هذا الترابط الهائل

٩٦

وخاصة بين 14 ألف مليون خلية عصبية بالطبع إن الرقم الذي يحصل لا يمكن قراءته بحال من الأحوال وهذا واقع الدماغ المحير المعقد.

والخلية العصبية كما قال جون فايفر في كتابه « العقل البشري » هي عبارة عن سلك حي يولد وينقل نبضات كهربائية سريعة ، إنها تحتفظ بنفسها مشحونة وجاهزة للعمل بمساعدة بطارية في داخلها تعمل بواسطة خليط من الاكسجين والسكر وتشحن اوتوماتيكياً وهي تدور ، أي أنها ترسل ما يقرب من بضع مئات من النبضات في الثانية حينما تصل إليها نبضات غامزة من أعضاء الحس أو من خلايا عصبية أخرى وتقوم ألياف الاستقبال للخلية الواحدة باتصالات دقيقة بألياف الإرسال لحوالي خمسين خلية عصبية أخرى وهكذا تنقل الاشارات من خلية إلى أخرى وهي تمر داخل الجهاز العصبي(1) )

ونظراً لتعقد البحث في الجملة العصبية المركزية لذا سوف نحاول أن نأخذ بعض الافكار المبسطة عن تركيبها وعن عملها من جهة ثانية والتعقيد يكمن في كلا القسمين وإن كان في القسم الثاني أشد وأعجب.

داخل الجمجمة :

لنحاول أن ندخل إلى الجوف القحفي المغلق حتى نتعرف على بعض الأسرار ولكن كيف الطريق إلى ذلك؟ لنتسلق أحد الأعصاب الشمية الموزعة بشدة في المنخر ولكن هذه الملامسة سوف تثير منعكس العطاس الشديد حيث سيطرح أي غريب يحاول أن يخرش القسم المخاطي من داخل المنخر ولكن لنحاول أن نخترق الغشاء المخاطي ثم نتسلق أحد الأعصاب الشمية ولكن إلى أين؟ يأتي الدليل ليقودنا إلى المتاهات

__________________

(1) عن كتاب العقل البشري لجون فايفر ص 10.

٩٧

العجيبة وبينما نحن نسير إذا بالعصب يمر من ثقبة من خلال صفيحة عظيمة وهذه الصفيحة مثقبة بشدة لمرور باقي ألياف العصب الشمي ، هذه الصفيحة تسمى بالصفيحة الغربالية لأنها تشبه الغربال في منظرها ثم يصعد العصب الشمي إلى داخل القحف حيث يتصل لكتلة تشبه البصلة ولذا سميت بالبصلة الشمية وبعدها يتخذ الطريق الشمي طريقاً معقداً لسنا بصدده الآن وهنا داخل القحف ماذا نجد؟ كتلة رخوة هشة سريعة التأثر ولكنها مغلفة بثلاثة أغلفة وذلك لحماية المخ وباقي عناصر الجملة العصبية والغشاء الأول بعيد جافي ولذا يسمى بالأم الجافية وكأن الغشاء أما تحوط الجملة العصبية ولكن نظراً لبعد الغشاء الأول سمي بالأم الجافية وهناك الطبقة الرقيقة الحنونة التي تحيط المخ مباشرة ولذا سميت بالأم الحنون وما بين الغشائين يوجد غشاء نسيج يشبه نسيج العنكبوت ولذا سمي بالغشاء العنكبوتي وهو رخو يلتصق بشدة بالأم الجافية ويتباعد عن الأم الحنون حتى يترك المجال لسائل يحيط بالجملة العصبية والأجواف الاخرى حماية للمص وغيره من الرضوض وهنا يقف الإنسان متأملاً متسائلاً عن شدة هشاشة وضعف الجملة العصبية من جهة وشدة فعاليتها وعظمة تركيبها من جهة أخرى ولذا احيطت بكل هذه العناية والتكريم ولنربط ما بين هذه الأغشية الثلاثة التي تحيط بالدماغ وما بين الاغشية الثلاثة التي كانت تحيط بالجنين حينما كان في بطن أمه. والدماغ موضوع ضمن صندوق عظمي هو القحف حيث تشتد سماكته في بعض المناطق الخطرة والتي تتعرض للصدمات أكثر من غيرها كما في الجبهة والقفا وحيث ترق في المناطق الاخرى التي لا تتعرض للصدمات كما في الصدغين ، وداخل هذا الصندوق العظمي يوجد تجاويف وحفر وميازيب بحيث تناسب الفصوص الدماغية تماماً فالصندوق في الداخل ليس أملساً بل فيه البوارز والمنخفضات بشكل يتلاءم مع المحتوى الدماغي ولذا نجد

٩٨

بروزاً مزدوجاً في الامام يناسب الفصوض الدماغية الجبهية والتي يقال أن لها علاقة بتكوين الشخصية ، كما أن القفا بارز بحيث يأخذ شكل الفص القفوي الدماغي والذي له علاقة وثيقة بالرؤية وأما البصلة الشمية التي تحدثنا عنها والتي تختص بحاسة الشم عند الإنسان فهي تقع في قاع القحف في منخفض منه بجنب الخط المتوسط حيث يقوم بجانبها ارتفاع وكأنه عرف الديك ولذا سمي هذا الارتفاع بنتوء عرف الديك وهذا النتوء يتناسب مع الفاصل الفارغ ما بين نصفي كرة الدماغ ، وفي مؤخرة قاع الصندوق القحفي توجد فجوة صغيرة هي الثقبة القفوية والتي تمر منها العناصر العصبية التي تعتبر صلة الوصل ما بين الدماغ والنخاع الشوكي وهي التي مرت معنا وهي الساقان المخيتان والحدبة الحلقية أو جسر فارول وأخيراً البصلة السيسائية والمجموع العام يسمى يالجذع الدماغي ، وأما المخيخ فيسكن منطقة تقع تحت المخ مباشرة حيث يفصل عن المخ بما يشبه الخيمة ولذا سمي هذا الفاصل بالخيمة المخيخية ، وأما النخاع الشوكي وطوله 43 سم فهو يسكن تجويفاً عظيماً محمي من كافة الأطراف بالفقرات العظيمة وهي سبع فقرات في منطقة الرقبة و 12 فقرة في منطقة الظهر وخمس فقرات في منطقة القطن وخمس فقرات في منطقة العجز وأخيراً هناك عدة فقرات تشكل العصعص أو العجز النهائي ، ولو نظرنا في تكوين الفقرات وشكلها لأخذنا العجب كل مأخذ فهي أشبه ما تكون بالصحن الطائر على وجه العموم وإن كانت تختلف اختلافاً طفيفاً من مكان لآخر بحيث تتناسب مع المنطقة التي يمر منها النخاع فهي بالخلف ممتدة بنتوء يسمى النتوء الشوكي حيث تحمي النخاع من الخلف مع صفيحات أخرى تتمفصل مع النتوء وتتمادي به وهي الصفيحات الفقرية وفي الامام يوجد جسم منتفخ هو جسم الفقرة وفي الجانبين توجد نتواءت معترضة للحماية الجانبية وبين

٩٩

كل هذه العناصر ترقد الثقبة النخاعية التي تحوي النخاع الشوكي والذي يبلغ قطره سنتمتر واحد وفي داخله قناة تسمى بالقناة المركزية حيث تحوي جدارنها خلايا تفرز السائل الدماغي الشوكي وتتمادى هذه القناة المركزية في الأعلى حيث تنفتح على منطقة تسمى بالبطين الرابع وهي مهمة جداً من الوجهة التشريحية والفيزيولوجية وهي كائنة في البصلة السيسائية وفيها مركز هام يسمى بمركز الحياة وهو في حقيقته المركز المهيمن على الحركات التنفسية ولذا فإن تخريبه يؤدي إلى انقطاع المركز القائد الذي ينظم الحركات التنفسية وبالتالي الموت ، إلا أن يبقى ذلك الإنسان يتنفس دائماً بالرئة الفولاذية الاصطناعية!! ..

تمفصل العمود الفقري :

وهكذا نرى أن النخاع يحاط بالحماية العظمية من الأمام والخلف ، وأما من الأعلى والأسفل فهو يتمفصل مع بقية الفقرات ويوجد بين الفقرة والأخرى قرص غضروفي حتى يتسنى للإنسان الحركة والتنقل ، ولولا هذه الخاصية لبقي الإنسان جامداً لا يستطيع أن ينحني ولا أن يلتقط الاشياء من الارض ولا أن يميل إلى الجانبين ، والخلاصة سوف يبقى قطعة واحدة إلا من الاسفل والاعلى حيث تتعلق به الأطراف وتتحرك على مستواها فقط ، وهذا كله يتم بفضل هذا التمفصل الرائع المحكم وبفضل العضلات التي تحيط الفقرات من كل جانب وتمكن العمود الفقري الذي يتكون من 33 ـ 35 قطعة أن يتحرك ، ومن نتائج هذا التمفصل وهذه القدرة البديعة فيه يمكن أن نعرف خطرة الخلل الذي يحدث فيما لو حصل على أي مستوى ، ومن أمثلته تكلس الأربطة التي تربط ما بين الفقرات فإن هذا يؤدي إلى مرض خطير يعرف بمرض ماري سترومبل حيث يصاب العمود الفقري بأجمه بالصمل ويصبح كله ملتصقاً قطعة واحدة لا يتحرك لأية جهة بحيث أنه لو

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

وقال يرثي الحسين عليه‌السلام في يوم عاشوراء سنة خمس وثلاثين وأربعمائة:

يا ديار الأحباب كيف تحوّلـ

ـتِ قفاراً ولم تكوني قفارا؟

ومحت منك حادثات الليالي

رغم أنفي الشموس والأقمارا

واسترد الزمان منك « وماسا

ور » في ذاك كلّه ما أعارا

ورأتكِ العيون ليلاً بهيماً

بعد أن كنت للعيون نهارا

كم لياليّ فيك همّا طوال

ولقد كنّ قبل ذاك قصارا

لِمَ أصبحت لي ثماداً وقد كنـ

ـتِ لمن يبتغي نداكِ بحارا؟

ولقد كنتِ برهةً لي يميناً

ما توقعتُ أن تكوني يَسارا

إن قوماً حلوك دهراً وولَّوا

أوحشوا بالنوى علينا الديارا

زوّدونا ما يمنع الغمضَ للعين

ـن وينبي عن الجنوب القرار

يا خليلي كن طائعاً لي مادمت

ـت خليلاً وإن ركبتَ الخطارا

ما أبالي فيك الحذار فلا تخشن

إذا ما رضيت عنك حذارا

عُج بأرض الطفوف عيسك وأعقلهن

ـهن فيها ولا تجزهن دارا

وابكِ لي مُسعداً لحزني وأمنحني

ـني دموعاً إن كن فيك غزارا

فلنا بالطفوف قتلى ولا ذنبَ

سوى البغى من عدى وأُسارى

لم يذوقوا الردى جُزافاً ولكن

بعد أن أكرهوا القنا والشّفارا

وأطاروا فَراشَ كلّ رؤوس

وأماروا ذاك النجيع المسمارا

إن يوم الطفوف رنّحنى حُز

ناً عليكم وما شربتُ عقارا

وإذا [ ما ] ذكرتُ منه الذي ما

كنتُ أنساه ضيق الأقطارا

ورمى بي على الهموم وألقى

حَيَداً عن تنعمي وأزورارا

كدتُ لما رأيت إقدامهم فيه

عليكم أن أهتك الأستارا

وأقول الذي كتمتُ زماناً

وتوارى عن الحشا ما توارى

٢٨١

قل لقوم بنوا بغير أساس

في ديارٍ ما يملكون مَنارا

واستعاروا من الزمان وما زا

لت لياليه تستردّ المعارا:

ليس أمرٌ غصبتموه لزاماً

لا ولا منزل سكنتم قرارا

أيّ شيء نفعاً وضراً على ما

عوّد الدهر لم يكن أطوارا؟

قد غدرتم كما علمتم بقومٍ

لم يكن فيهم فتى غرارا

ودعوتم منهم إليكم مجيباً

كرماً منهم وعوداً نضارا

أمنوكم فما وفيتم وكم ذا

آمن من وفائنا الغدارا

ولكم عنهم نجاءٌ بعيد

لو رضوا بالنجاء منكم فرارا

وأتوكم كما أردتم فلما

عاينوا عسكراً لكم جرارا

وسيوفاً طووا عليها أكفّا

وقناً في أيمانكم خطارا

علموا أنكم خدعتم وقد يُخد

عُ مكراً مَن لم يكنَ مكارا

كان من قبل ذاك ستر رقيق

بيننا فاستلبتم الأستارا

وتناسيتم وما قدمَ العهـ

ـد عهوداً معقودة وذمارا

ومقالاً ما قيل رجماً محالاً

وكلاماً ما قيل فينا سرارا

قد سبرناكم فكنتم سراباً

وخبرناكم فكنتم خَبارا (١)

وهديناكم إلى طرق الحق

فكنتم عنا غفولاً حيارى

وأردتم عزاً عزيزاً فما أزدد

تم بذاك الصنيع إلا صغارا

وطلبتم ربحاً وكم عادت الأربا

ح ما بيننا فعدن خسارا

كان ما تضمرون فينا من الشر

ضماراً، فالآن عاد جهارا

في غدٍ تبصر العيون إذا ما

حُلن فيكم إقبالكم إدبارا

وتودّون لو يفيد تمنٍّ

أنكم ما ملكتم دينارا

لا ولا حزتم بأيديكم في

الناس ذاك الإيراد والإصدارا

عدّ عن معشر تناءوا عن

الحق وعن شعبه العزيز مزارا

__________________

١ - الخبار: بالفتح مالان من الارض واسترخى.

٢٨٢

لم يكونوا زيناً لقومهم الغُرّ

ولكن شيناً طويلاً وعارا

وكأنّي أثنيكم عن قبيح

بمقالي أزيدكم إصرارا

قد سمعتم ما قال فينا رسول

ـله يتلوه مرة ومرارا

وهو الجاعل الذين تراخوا

عن هوانا من قومه كفارا

وإذا ما عصيتم في ذويه

حال منكم إقراركم إنكارا

ليس عذر لكم فيقبله الـ

الله غداً يوم يقبل الأعذارا

وغررتم بالحلم عنكم وما زيـ

ـدَ جهول بالحلم إلا اغترارا

وأخذتم عما جرى يوم بدر

وحنين فيما تخالون ثارا

حاشَ لله ما قطعتم فتيلاً

لا ولا صرتم بذاك مصارا

إن نور الاسلام ثاوٍ وما اسطا

عَ رجال أن يكسفوا الأنوارا

قد ثللنا عروشكم وطمسنا

بيد الحق تلكم الآثارا

وطردناكم عن الكفر

بالله مقاماً ومنطقاً وديارا

ثم قدناكم إلينا كما قا

دت رعاة الأنعام فينا العشارا

كم أطعتم أمراً لنا واطرحنا

ماتقولون ذلة واحتقارا

وفضلناكم وما كنتم قطّ عن

الطائلين إلا قصارا

كم لنا منكم جروح رغاب

وجروح لما يكنّ جبارا

وضِرارٌ لولا الوصية بالسلـ

ـم وبالحلم خاب ذاك ضرارا

وادعيتم الى نزارٍ وأنى

صدقكم بعد أن فضحتم نزارا

واذا ما الفروع حدنَ عن الأصـ

ـل بعيدا فما قربن نجارا

إن قوماً دنوا إلينا وشبوا

ضَرماً بيننا لهم وأوارا

ما أرادوا إلا البوار ولكن

كم حَمى الله مَن أراد البوارا

فإلى كم والتجرباتُ شعاري

ودثاري الابس الاغمار (١)

وبطيئين عن جميل فإن عنّ

قبيحٌ سعوا له إحضارا

__________________

١ - الشعار: الثوب الذي يلي البدن، والدثار فوقه، والاغمار: الحمقى والجهلاء.

٢٨٣

قسماً بالذي تساق له البد

ن ويكسى فوق الستار ستارا

وبقوم أتوا منى لا لشيء

غير أن يقذفوا بها الأحجارا

وبأيد يُرفعن في عرفات

داعيات مخوّلاً غفارا

كم أتاها مخيّب ما يرجى

فانثنى بالغاً بها الأوطارا

والمصلين عند جمع يُرجّو

ن الذي ما استجير إلا أجارا

فوق خوص كللن من بعد أن

بلّغنَ تلك الآماد والأسفارا

وأعاد الهجير والقر والروحا

تُ منها تحت الهجار هجارا

يا بني الوحي والرسالة والتطـ

ـهير من ربهم لهم إكبارا

إنكم خير من تكون له الخضـ

ـراء سقفاً والعاصفات إزارا

وإذا ما شفعتم من ذنوب الـ

ـخلق طراً كانت هباء مطارا

ولقد كنتم لدين رسول

الله فينا الأسماعَ والأبصارا

كم أداري العدا فهل في غيوب

الله يوم أخشى به وأدارى؟

وأصادي اللئامَ دهري فهل يقـ

يقضى بأن بتّ للأكارم جارا؟

وأقاسي الشدات بُعداً وقرباً

وأخوض النغمار ثم الغمارا

وأموراً يعيين للخلق لولا

أنني كنتُ في الاذى صبارا

أنا ظام وليس أنقع أن أبـ

ـصر في الناس ديمة مدرارا

وطموح الى الخيار فما تبـ

صر عيني في الخلق الا الشرارا

ليت أني طِوال هذي الليالي

نلتُ فيهن ساعة إيثارا

وإذا لم أذق من الدهر إحلا

ءً مدى العمر لم أذق إمراراً

مِيّ أنى ليَ أن أقصر اليوم عن كل

الأماني إن أملك الإقصارا؟ (١)

سالياً عن غروس أيدي الليالي

كيف شاءت وقد رأيت الثمارا

أيُ نفعٍ في أن أراها دياراً

خاليات ولا أرى دَيّارا

وسُكارى الزمان بالطمع الكا

ذب فيه أعيوا عليّ السكارى

__________________

١ - مي: ترخيم مية، منادى محذوف حرف النداء الياء.

٢٨٤

فسقى الله ما نزلتم من الأر

ض عليه الأنواءَ والأمطارا

وإذا ما اغتدى اليها قطار

فثنى الله للرواح قطارا

ما حدا راكب بركب وما

دبّ مطيّ الفلاة فيها وسارا

لست أرضى في نصركم وقد

احتجتم الى النصر مني الأشعارا

غير أني متى نصرتم بطعن

أو بضربٍ أسابق النصارا

والى أن يزول عن كفي المنـ

ـع خذوا اليوم من لساني انتصارا

واسمعوا ناظرين نصر يميني

بشبا البيض فحليَ الهدّار

فلساني يحكي حسامي طويلاً

بطويل وما الغِرار غِرارا

وأمرنا بالصبر كي يأتي الأمـ

ـر وما كلنا يطيق اصطبارا

وإذا لم نكن صبرنا اختياراً

عن مراد فقد صبرنا اضطرارا

أنا مهما جريت في مدحكم شأ

واً بعيداً فلن أخاف العثارا

وإذا ما رثيتكم بقوافيّ

سراعاً فمُرجَل الحي سارا

عاضني الله في فضائلكم علـ

ـماً بشكٍّ وزادني استبصارا

وأراني منكم وفيكم سريعاً

كل يوم ما يُعجب الأبصارا (١)

  وقال يرثي جده الحسين عليه‌السلام في عاشوراء:

يا يوم أيُ شجىً بمثلك ذاقه

عصب الرسول وصفوة الرحمن؟

جرعتهم غصص الردى حتى أرتووا

ولذعتهم بلواذع النيران

وطرحتهم بدداً بأجواز الفلا

للذئب آونةً وللعقبان

عافوا القرارَ وليس غير قرارهم

أو بردهم موتاً بحدّ طعان

منعوا الفرات وصرّعوا من حوله

من تائق للوردِ أو ظمآن

أوَ ما رأيت قراعهم ودفاعهم؟

قدماً وقد أُعروا من الأعوان

متزاحمين على الردى في موقف

حشي الظبا وأسنّة المران

__________________

١ - عن الديوان.

٢٨٥

ما إن به إلا الشجاع وطائرٌ

عنه حذار الموت كل جبان

يوم أذلّ جماجماً من هاشمٍ

وسرى الى عدنان أو قحطان

أرعى جميم الحق في أوطانهم

رعي الهشيم سوائم العدوان

وأنار ناراً لا تبوخ وربما

قد كان للنيران لون دخان

وهو الذي لم يبق من دين لنا

بالغدر قائمة من البنيان

يا صاحبيّ على المصيبة فيهم

ومشاركيّ اليوم في احزاني

قوماً خذا نار الصلا من أضلعي

إن شئتما « والماء » من أجفاني

وتعلّما أن الذي كتّمته

حذر العدا يابى على الكتمان

فلو أنني شاهدتهم بين العدا

والكفر مُعلولٍ على الإيمان

لخضبتُ سيفي من نجيع عدوهم

ومحوت من دمهم حجول حصاني

وشفيت بالطعن المبرح بالقنا

داءَ الحقود ووعكة الأضغان

ولبعتهم نفسي على ضننٍّ بها

يوم الطفوف بأرخص الأثمان

  وقال يرثي جده الحسين عليه‌السلام :

عرّج على الدارسة القَفر

ومُر دموع العين أن تجري

فلو نهيت الدمع عن سَحّه

والدار وحش لم تطع أمري

منزلة أسلمها للبلى

« عَبرُ » هبوب الريح والقطر

فجِعتُ في ظلمائها عنوةً

بطلعة الشمس أو البدر

لهفان لا من حرّ جمرِ الجوى

سكران لا من نشوَة الخمر

كأنني في جاحمٍ من شجىً

ومن دموع العين في بحر

عُجتُ بها أُنفقُ في آيها

ما كان مذخوراً من الصبر

في فتيةٍ طارت بأوطارهم

« في ذيلهم » أجنحةُ الدهر

ضيموا وسُقّوا في عِراض الأذى

ما شاءت الأعداء من مُرّ

كلّ خميص البطن بادي الطوى

ممتلئ الجلد من الضر

يَبري لِحا صَعدته عامداً

بَريَ العَصا من كان لا يبري

٢٨٦

كأنّه من طول أحزانه

يُساق من امنٍ إلى حِذر

أو مفرد أبعده أهله

عن حَيّه من شفق العُر (١)

يا صاحبي في قعر مطويةٍ

لو كان يرضى لي بالقعر

أما تراني بين أيدي العدا

ملآن من غيظ ومن وتر

تسرى إلى جلدي رقش لهم

والشر في ظلمائها يسري

مردّد في كل مكروهةٍ

أنقلٌ من نابٍ إلى ظفر

كأنني نصل بلا مقبض

أو طائر ظل بلا وكر

بالدار ظلماً غير سكانها

وقد قرى من لم يكن يَقري

والسرح يرعى في حميم الحمى

ما شاء من أوراقه الخضر

وقد خبالي الجمرَ في طيّه

لوامعٌ ينذرن بالجمر

لا تبك إن أنت بكيت الهدى

إلا على قاصمة الظهر

وأبكِ حسيناً والأولى صرّعوا

أمامَه سطراً إلى سطر

ذاقوا الردى من بعد ما ذوقوا

أمثاله بالبيض والسُمر

قتل وأسر بأبي منكم

مَن نيل بالقتل وبالأسر

فقل لقومٍ جئتهم دارهم

على مواعيدٍ من النصر

قروكم لمّا حللتم بها

ولا قرى أوعيةَ الغدر

وأطرحوا النهج ولم يَحلفوا

بما لكم في محكم الذكر

واستلبوا إرثكم منكم

من غير حقٍ بيد القسر

كسرتم الدين ولم تعلموا

وكسرة الدين بلا جبر

فيالها مظلمةً أو لجت

على رسول الله في القبر

كانه ما فك أعناقكم

بكفه من ربقِ الكفر!

ولا كساكم بعد أن كنتم

بلا رياشٍ حِبرَ الفخر

فهو الذي شاد بأركانكم

من بعد أن كنتم بلا ذكر

__________________

١ - العرّ: الجرب.

٢٨٧

وهو الذي أطلع في ليلكم

من بعد يأس غرّة الفجر

يا عُصب الله ومَن حبهم

مخيّم ما عشت في صدري

ومن أرى « ودهم » وحدَه

« زادي » إذا وُسّدتُ في قبري

وهو الذي أعددته جُنتي

وعصمتي في ساعة الحشر

حتى إذا لم أكُ في نصرةٍ

من أحدٍ كان بكم نصري

بموقف ليس به سلعة

لتاجر أنفق من بِرّ

في كل يوم لكم سيدٌ

يُهدى مع النيب الى النحر

كم لكم من بعد « شمرٍ » مرى

دمائكم في الترب من شمر

ويح « ابن سعدٍ عمرٍ » إنه

باع رسول الله بالنزر

بغي عليه في بني بنته

واستلّ فيهم أنصل المكر

فهو وإن فاز بها عاجلاً

من حطب النار ولا يدري

متى أرى حقّكم عائداً

إليكم في السر والجهر؟

حتى متى أُلوى بموعودكم

أمطل من عام الى شهر؟

لولا هَناتٌ هنّ يلوينني

لبُحتُ بالمكتوم من سرّي

ولم أكن أقنع في نصركم

بنظم أبياتٍ من الشعر

فإن تجلت غمم ركّدٌ

تركنني وعراً على وعَر

رأيتموني والقنا شرّعٌ

أبذل فيهنّ لكم نحري

على مطا طِرفٍ خفيف الشوى

كأنه القِدح من الضُمرِ (١)

تخاله قد قدّ من صخرةٍ

اوجيب اذ حبيب من الحضر (٢)

أعطيكم نفسي ولا أرتضي

في نصركم بالبذل للوفر

وإن يدم ما نحن في أسره

فالله أولى فيه بالعذر

__________________

١ - المطا: الظهر، والطرف « بكسر الطاء »: الجواد من الخيل، والشوى: الاطراف والقدح: السهم، والضمر: الهزال.

٢ - جيب وقدّ بمعنى واحد أي: قطع، ومنه قوله تعالى « وثمود الذين جابوا الصخر بالواد » والحضر: الحجارة.

٢٨٨

وقال في يوم عاشرواء من « سنة ٤٣٠ ».

يا خليلي ومعيني

كلما رمت النُهوضا

داوِ دائي أو فعدني

مع عوّادي مريضا

فقبيح بك أن تَر

فضَ من ليس رفوضا

قد أتى من يوم عاشو

راء ما كان بغيضا

دَع نشيجي فيه يعلو

ودموعي أن تفيضا

وبناني قد خضبن الـ

ـدم من سني عضيضا

وكن الناهض للحر

بِ متى كنت نهوضا

وأجعل الجيب لدمع

من مآقيك مغيصا

إنه يوم سقينا

من نواحيه مضيضا

هزل الدين ومن فيـ

ـه وقد كان نحيضا

ورمت مجهضة من

كان في البطن جهيضا

ودع الأطراب وأسمع

من مراثيه « القريضا »

لا ترد فيه وقد أد

نسنا ثوباً رحيضا

قل لقوم لم يزالوا

في الجهالات ربوضا

غرّهم أنهم سا

دوا وما شادوا بعوضا

في غدٍ بالرغم منكم

ستردّون القروضا

سوف تلقون بناءً

لكم طال نقيضا

والذي يحلو بأفوا

هكم اليوم حميضا

وقباباً أنتم فيـ

ـها وهاداً وحضيضا

واراها عن قريبٍ

كالدبى سوداً وبيضا

وترى للبيض والبيـ

ـض عليهن وميضا

وعلى أكتادها كل

فتىً يلفى جريضا (١)

__________________

١ - الاكتاد: الظهور، والجريض: المغموم.

٢٨٩

فبهم يطمع طرف

كان بالامس غضيضا

وبهم يبرأ من كا

ن - وقد ضيموا - المريضا

وبهم يرقد طرف

لم يكن وجداً غموضا

لأباةٍ دمهم سا

لَ على الأرض غريضا

رفع الرأس على عا

لي القنا يحكي الوميضا

وأنثنى الجسم الجرد الـ

ـخيل بالعَدوِ رضيضا

حاش لي أن أن أتخلى

منهم أو أستعيضا

فسقى الله قبوراً

لهم العذب الغضيضا

وأبت إلا ثرى الأخـ

ـضر والروض الأريضا

وإليهنّ يشدّ الـ

ـقوم هاتيك الغروضا

مانحوهنّ لندب

إنما قضوا فروضا

وحَيوهنّ استلاماً

يترك الأفواه فوضى

  وقال يذكر بني أمية ويرثي جده الحسين عليه‌السلام ( وقد سقط أولها ):

كأنّ معقري مهجٍ كرامٍ

هنالك يعقرون بها العباطا

فقل لنبي زياد وآل حرب

ومَن خلطوا بغدرهم خلاطا:

دماؤكم لكم ولهم دماء

ترويها سيوفكم البَلاطا

كلوها بعد غصبكم عليها انـ

ـتهاباً وازدراداً واستراطا

فما قدّمتم إلا سَفاهاً

ولا أُمرتم إلا غلاطا

ولا كانت من الزمن المُلحّى

مراتبكم به إلا سفاطا

أنحو بني رسول الله فيكم

تقودون المسوّمة السلاطا؟

تثار كما أثرتَ الى معينٍ

لتكرع من جوانبه الغَطاطا

وما أبقَت بها الروحات إلا

ظهوراً أو ضلوعاً او ملاطا

وفوق ظهورها عُصَبٌ غضابٌ

إذا أرضيتم زادوا اختلاطا

٢٩٠

وكل مرفّع في الجو طاطٍ

ترى أبداً على كنفيه طاطا (١)

إذا شهد الكريهة لا يبالي

أشاط على الصوارم أم أشاطا

وما مد القنا إلا وخيلت

على آذان خيلهم قِراطا

وكم نِعَم لجدّهم عليكم

لقينَ بكم جحوداً أو غماطا

هُم أتكوا مرافقكم وأعطوا

جنوبكم النمارقَ والنماطا

وهم نشطوكم من كل ذُل

حَللتم وسط عَقوتِه انتشاطا

وهم سدوا مخارمكم ومدوا

على شجرات دوحكم اللياطا

ولولا أنهم حدبوا عليكم

لما طُلتم ولا حزتم ضغاطا (٢)

فما جازيتم لهم جميلاً

ولا أمضيتم لهم اشتراطا

وكيف جحدتم لهم حقوقاً

تبين على رقابكم اختطاطا؟

وبين ضلوعكم منهم تراتٌ

كمرخِ القيظِ أُضرم فاستشاطا

ووتر كلما عمدت يمين

لرقعِ خروقِه زدن انعطاطا

فلا نسبٌ لكم أبداً اليهم

وهل قربى لمن قطع المناطا؟

فكم أجرى لنا عاشور دمعاً

وقطّع من جوانحنا النياطا

وكم بتنا به والليل داج

نُميط من الجوى ما لن يُماطا

يُسقّينا تذكره سماماً

ويولجنا توجّعه الوراطا

فلا حديت بكم أبداً ركابٌ

ولا رُفعت لكم أبدا سياطا

ولا رفع الزمان لكم أديماً

ولا ازددتم به إلا نحطاطا

ولا عرفت رؤوسكم ارتفاعاً

ولا ألِفت قلوبكم اغتباطا

ولا غفر الإله لكم ذنوباً

ولا جُزتم هنالِكم الصراطا

__________________

١ - الطاط: الشجاع، والباشق من الطيور.

٢ - الضغاط: جمع الضغيطة وهي النبتة الضعيفة.

٢٩١

وقال يذكر مناقب أهل البيت عليهم‌السلام :

يا آل خير عباد الله كلّهم

« ومَن لهم فوق » أعناق الورى مننُ

كم تُثلمون بأيدي الناس كلهم

وكم تُعرّس فيكم دهرها المحن (١)

وكم يذودُكم عن حقّكم حنقاً

مُمَلأ الصدر بالأحقاد مُضطغن

إن الذين نضوا عنكم تراثكم

لم يغبنوكم ولكن دينهم غَبَنوا

باعوا الجنان بدارٍ لا بقاء لها

وليس لله فيما باعه ثمن

احبّكم والذي صلى الجميع له

عند البناء الذي تُهدى له البُدن

وأرتجيكم لما بعد الممات إذا

وارى عن الناس جَمعاً أعظم جبن

وإن يضلّ أناسٌ عن سبيلهم

فليس لي غير ما أنتم به سَنَن

وما أبالي اذا ما كنتم وضحاً

لناظريّ، أضاء الخلق ام دجنوا

وأنتم يوم أرمي ساعدي ويدي

وأنتم يوم يرميني العِدا الجَنن

  وقال في التوسل الى الله تعالى بأهل البيت صلوات الله عليهم:

أقلني ربي بالذين أصطفيتهم

وقلتَ « لنا »: هم خيرُ من أنا خالقُ

وإن كنت قد قصرتُ سعياً إلى التقى

فإني بهم « إن » شئتَ عندك لاحق

هم أنقذوا لمّا « فزعتُ » إليهم

وقد صمّمت نحوى « النيوب » العوارق

وهم « جذبوا » ضبعى » إليهم من الأذى

وقد طرقت « بابي » الخطوب الطوارق

ولولاهم « مانلتُ » في الدين « حُظوةً »

ولا اتّسَعَت فيه عليّ المضائق

ولا سيّرت فضلي إليها مغاربٌ

ولا طيّرته بينهنّ مشارق

ولا صيّرت قلبي من الناس كلهم

لها وطناً تأوي إليه الحقائق

__________________

١ - تعرس: تقيم من التعريس وهو نزول المسافر للاستراحة.

٢٩٢

وقال يفتخر بابائه عليهم‌السلام :

لو لم يعاجله النوى لتحيرا

وقصاره وقد انتأوا أن يقصرا

أفكلما راع الخليط تصوبت

عبرات عين لم تقلّ فتكثرا؟

قد أوقدت حرق « الفراق » صبابة

لم تستعر ومرين دمعاً ما جرى

« شعفٌ » يكتمه الحياء ولوعة

خفيت وحق لمثلها أن يظهرا

« وأبى » الركائب لم يكن « ماعلنه »

صبراً ولكن كان ذاك تصبّرا

لبين داعية النوى فاريننا

بين القباب البيض موتاً أحمرا

وبعدن بالبين المشتت ساعة

« فكأنهن » بعدن عنا أشهرا

عاجوا على ثمد البطاح وحبهم

أجرى العيون غداة بانوا أبحرا

وتنكبوا وعرَ الطريق وخلفوا

ما في الجوانح من هواهم أوعرا

أما السلو فإنه لا يهتدى

قصد القلوب وقد حشين تذكرا

قد رمت ذاك فلم أجده وحق من

فقد السبيل إلى الهدى أن يعذرا

أهلاً بطيف خيال مانعة « الحبا »

يقظى ومفضلة علينا في الكرى

ما كان أنعمنا بها من زورة

لو باعدت وقت الورود المصدرا!

جزعت لوخطات المشيب وإنما

بلغ الشباب مدى الكمال فنوّرا

والشيب إن « فكرت » فيه موردٌ

لا بدّ يورده الفتى إن عمّرا

يبيضّ بعد سواده الشعر الذي

لو لم يزره الشيب واراه الثرى

زمن الشبيبة لاعدتك تحيةٌ

وسقاك منهمر الحيا ما استغزرا

فلطالما اضحى ردائي ساحباً

في ظلك الوافي وعودي اخضرا

أيام يرمقني الغزال إذا رنا

شعفاً ويطرقني الخيال إذا سرى

ومرنّحٍ في الكور يحسب أنه اصطبح

العقار وإنما اغتبق السُرى

بطل صفاه للخداع مزلّةٌ

فإذا مشى فيه الزماع تغشمرا (١)

« إما » سألت به فلا تسأل به

« ناياً » يناغي في البطالة مزمرا

__________________

١ - تغشمر: تنمر.

٢٩٣

وأسأل به الجرد العتاق مغيرةً

يخطبن هاماً أو يطأن سنّورا

يحملن كل مدججٍ يقرى الظبا

علقاً وأنفاس السوافي عثيرا

قومي الذين وقد دجت سبُل الهدى

تركوا طريق الدين فينا مقمرا

غلبوا على الشرف التليد وجاوزوا

ذاك التليد تطرفاً وتخيرا

كم فيهم من قسورٍ متخمطٍ

يردى إذا شاء الهزبر القسورا

متنمرٍّ والحرب إن هتفت به

أدّته بسام المحيّا مسفرا

وملوّم في بذله ولطالما

أضحى جديراً في العلا أن يشكرا

ومرفع فوق الرجال تخاله

يوم الخطابة قد تسنم منبرا

جمعوا الجميل إلى الجمال وإنما

ختموا إلى المرأى الممدّح مخبرا

سائل بهم بدراً وأحداً والتي

ردّت جبين بني الضلال معفّرا

لله درّ فوارسٍ في خيبر

حملوا عن الاسلام يوماً منكرا

عصفوا بسلطان اليهود وأولجوا

تلك الجوانح لوعة وتحسرا

واستلحموا أبطالهم واستخرجوا

الأزلام من أيديهم والميسرا

وبمرحبٍ ألوى فتىً ذو جمرة

لا تصطلي وبسالةٍ « لا تُعترى »

إن حزّ حزّ مطبقاً أو قال قا

ل مصدّقاً أو رام رام « مطهّرا »

فثناه مصفرّ البنان كأنما

لطخ الحمامُ عليه صبغاً أصفرا

« تهفوا » العقاب بشلوه ولقد هفت

زمناً به شم الذوائب والذرا

أما الرسولُ فقد أبان ولاءَه

لو كان ينفع « جائراً » أن ينذرا

أمضى مقالاً لم يقله معرّضاً

وأشاد ذكراً لم يشده « مُغرّرا »

وثنى اليه رقابهم وأقامه

علماً على باب النجاة مشهرا

ولقد شفى « يوم الغدير » معاشراً

ثلجت نفوسهم « وأدوى » معشرا

« قلقت » بهم أحقادهم فمرّجعٌ

نفسأً ومانع أنةٍ أن تجهرا

يا راكباً رقصت به مهريةٌ

أشبت بساحته الهموم فاصحرا

عج « بالغريّ » فإن فيه ثاوياً

جبلاً تطأطأ فاطمأن به « الثرى »

٢٩٤

واقرا السلام عليه من كلفٍ به

كشفت له حجاب الصباح فأبصرا

فلو استطعت جعلت دار إقامتي

تلك القبور الزُهر حتى أقبرا

  ومن روائعه قوله:

ومن السعادة أن تموت وقد مضى

من قبلك الحُساد والأعداء

فبقاءُ مَن حُرِمَ المراد فناؤه

وفناء من بلغ المراد بقاء

والناس مختلفون في أحوالهم

وهم إذا جاء الردّى أكفاء

وطلاب ما تفنى وتتركه على

من ليس يشكر ما صنعت عناء

  وقوله:

أحب ثرى نجد ونجد بعيدة

ألا حبذا نجد وإن لم تفد قربا

يقولون نجد لست من شعب أهلها

وقد صدقوا لكنني منهم حُبّا

كأني وقد فارقت نجداً شقاوة

فتى ضل عنه قلبه ينشد القلبا

  وقوله في اخرى:

ولقد زادني عشية جمع

منكم زائر على الآكام

بات أشهى الى الجفون وأحلى

في منامي غبّ السرى من منامي

كدتُ لما حللتُ بين تراقيه

حراماً أحل من إحرامي

وسقاني من ريقه فسقاني

من زلال مصفق بمدام

صدّ عني بالنزر إذ أنا يقظان

وأعطى كثيره في المنام

والتقينا كما اشتهينا ولا عيب

سوى أن ذاك في الأحلام

واذا كانت الملاقاة ليلاً

فالليالي خيرٌ من الأيام

  ومن قوله في قصيدة طويلة:

أترى يؤب لنا الأبيرق

والمنى للمرء شغل

طلل لَعزة لا يزال

على ثراه دم يُطلّ

٢٩٥

فتلوا وما قتلوا وعند

هم لنا قَودٌ وعقل

قل للذين على مواعدهم

لنا خُلفٌ ومطل

كم ضامني من لا أضيم

وملّني مَن لا أمَلّ

يا عاذلاً لعتابه

كَلّ على سمعي وثِقل

ان كنت تأمر بالسلو

فقل لقلبي كيف يسلو

قلبي رهين في الهوى

ان كان قلبك منه يخلو

ولقد علمتُ على الهوى

أنّ الهوى سقمٌ وذلٌ

وتعجبتُ جَملٌ لشيب

مفارقي وتشيبُ جمل

ورأت بياضاً في سواد

ما رأته هناك قَبل

كذُبالة رفعت على

الهضبات السارين ضلّوا

لا تنكريه - ويب غيرك

فهو للجُهلاء غُلّ (١)

  وله قدس الله سره:

مولاي يا بدر كل داجية

خذ بيدي قد وقعت في اللجج

حسنك ما تنقضي عجائبه

كالبحر حدّث عنه بلا حرج

بحق من خط عارضيك ومَن

سلّط سلطانها على المهج

مدّ يديك الكريمتين معاً

ثم ادع لي من هواك بالفرج

  وقوله:

ولما تفرقنا كما شاءت النوى

تبيّن ودّ خالصٌ وتوددُ

كأني وقد سار الخليط عشيةً

أخو جنّةٍ مما أقوم وأقعد

  وله من قصيدة:

الا يا نسيم الريح من أرض بابل

تحمّل الى أهل الخيام سلامي

وقل لحبيب فيك بعض نسيمه

أما آن تسطيع رجع كلامي

__________________

١ - ويب: كلمة ويل زنة ومعنى. والغل بالضم: طوق من حديد يجعل في اليد.

٢٩٦

رضيت ولولا ما علمتم من الجوى

لما كنتُ أرضى منكم بلمام

واني لأرضى أن اكون بأرضكم

على أنني منها استفدت سقامي

  وقوله:

بيني وبين عواذلي

في الحب أطراز الرماح

أنا خارجي في الهوى

لا حكم إلا للملاح

  وقوله:

قل لمن خده من اللحظ دامٍ

رقّ لي من جوانح فيك تُدمى

يا سقيم الجفون من غير سقم

لا تلمني إن مُتّ منهن سقما

أنا خاطرت في هواك بقلب

ركب البحر فيك إما وإما

  وقوله من قصيدة:

قل لمعزٍّ بالصبر وهو خليٌ

وجميل العذول ليس جميلا

ما جهلنا أن السلو مريح

لو وجدنا الى السلو سبيلا

  وقوله من مقطوع في الشيب:

يقولون لا تجزع من الشيبب ضِلّة

وأسهمه إياي دونهم تُصمي

وقالوا أتاه الشيب بالحلم والحجى

فقلتُ بما يَبرى ويعرق من لحمي

وما سرني حلم يفيء الى الردى

كفاني ما قبل المشيب من الحلم

اذا كان يعطيني من الحزم سالباً

حياتي فقل لي كيف ينفعني حزمي

وقد جرّبت نفسي الغداة وقاره

فما شدّ من وهنى ولا سدّ من ثلمي

وإني مذ أضحى عذاري قرارُه

أُعادُ بلا سُقم وأُجفى بلا جُرم

وسيّان بعد الشيب عند حبائبي

وقفن عليه أم وقفن على رسمي

٢٩٧

أبو العلاء المعرّي

وعلى الدهر من دماء الشهيدين

ـدين علي ونجله شاهدانِ

فهما في أواخر الليل فجرا

ن وفي أولياته شفقان

ثبتا في قميصه ليجيء الـ

ـحشر مستعدياً الى الرحمن

وجمال الأوان عقب جدود

كلُ جدٍ منهم جمال اوان

يا ابن مستعرض الصفوف ببدر

ومبيد الجموع من غطفان

أحد الخمسة الذين هم الاعـ

ـراض في كل منطق والمعاني

والشخوص التي خُلقن ضياء

قبل خلق المريخ والميزان

قبل أن تخلق السماوات أوتؤ

مر أفلاكهن بالدوران

لو تاتى لنطحها حمل الشهـ

ـب تروى عن رأسه الشرطان

أو أراد السماك طعناً لها عا

د كسير القناة قبل الطعان

أو رمتها قوس السماء لزال الـ

ـعجر منها وخانها الأبرهان

أو عصاها حوت النجوم سقاه

حتفه صائد من الحدثان

وبهم فضل المليك بني حوا

ء حتى سموا على الحيوان

شرفوا بالشراف والسمر عيدا

ن اذا لم يزنّ بالخرصان

  يشير ابو العلاء الى الحديث الشريف القائل بأن الله عز وجل خلق أنوار الخمسة: محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين قبل أن يخلق الخلق.

٢٩٨

وقوله كما أورد سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص:

أرى الأيام تفعل كل نكرٍ

فما أنا في العجائب مستزيد

أليس قريشكم قتلت حسيناً

وكان على خلافتكم يزيد (١)

  أبو العلاء المعري (٢) التنوخي: أحمد بن عبد الله:

ولد بمعرة النعمان سنة ٣٦٣ وتوفي بها يوم الجمعة ثاني ربيع الأول سنة ٤٤٩ عن ٨٦ سنة. ولما مات أنشد على قبره أربعة وثمانون شاعراًً مراثي من جملتها أبيات لعلي بن الهمام من قصيدة طويلة:

إن كنت لم ترقِ الدماء زهادةً

فلقد أرقت اليوم من جفني دما

سيّرتَ ذكراً في البلاد كأنه

مسك مسامعها يضمّخُ أو فما

ونرى الحجيج اذا أرادوا ليلة

ذكراك أوجب فدية مَن أحرما

  ويقول أن ذكراك طيب والطيب لا يحل لمحرم فيجب عليه فدية، والحق ان ابا العلاء فلتة من فلتات الزمن ونابغة من نوابغ العالم. اختلف الناس فيه فمن قائل، هو مسلم موحّد، وبين مَن يرميه بالالحاد واذكر حديثاً للمرحوم المصلح الشيخ محمد حسين كاشف العَطاء برهن فيه على ايمانه وتشيعه، وذكر صاحب نسخة السحر انه من شعراء الشيعة.

__________________

١ - جاء في الحديث الشريف: لا يزال أمر أمتي قائماً بالقسط حتى يكون أول مَن يثلمه رجل من بني أمية يقال له يزيد.

رواه ابن حجر في مجمع الزوائد ج ٥ ص ٢٤١ عن مسند أبي يعلى والبزاز وفي الصواعق المحرقة ص ١٣٢ عن مسند الروياني عن أبي الدرداء عنه صلى الله عليه وآله وسلم: أول مَن يبدل سنتي رجل من بني أمية يقال له يزيد.

٢ - المعري: نسبة الى معرة النعمان من بلاد الشام.

٢٩٩

ومن شعره تتنسم عبير التشيع فاسمعه يقول في قصيدته:

أدنياي اذهبي وسواي إمّي

فقد ألممت ليتك لم تلّمي

وكان الدهر ظرفاً لا لحمدٍ

تؤهله العقول ولا لذِمّ

وأحسب سانح الأزميم نادى

ببين الحيّ في صحراء ذَمّ (١)

اذا بكرُ جنى فتوّق عمراً

فإن كليهما لأب وأمِّ

وخف حيوان هذي الأرض واحذر

مجيء النطح من رَوق وجُمّ (٢)

وفي كل الطباع طباع نكز

وليس جميعهنّ ذوات سُمّ

وما ذنب الضراغم حين صيغت

وصيّر قوتها مما تُدّمي

فقد جُبلت على فرس وضرس

كما جبل الوفود على التنمي

ضياء لم يبن لعيون كمهٍ

وقولٌ ضاع في آذان صُمّ

لعمرك ما أسرّ بيوم فطر

ولا أضحى ولا بغدير خُم

وكم أبدى تشيّعه غويُّ

لأجل تنسّبٍ ببلاد قمّ

  ومن شعره:

لقد عجبوا لآل البيت لما

أتاهم علمهم في جلدِ جفر

ومرآة المنجّم وهي صغرى

تريه كل عامرةٍ وقفر

  وقوله كما في نسمة السحر:

أمر الواحد فافعل ما أمر

واشكر الله ان العقل أمر

أضمر الخيفة واضمر قلّ ما

ادرك الطرف المدى حتى ضمر

أيها الملحد لا تعصى النهى

فلقد صحّ قياسٌ واشتهر

إن يعد في الجسم يوما روحه

فهو كالربع خلا ثم عمر

__________________

١ - ازميم: ليلة من ليالي المحاق. والهلا اذا دق في آخر الشهر واستقوس، ذم: الهلاك.

٢ - الروق: القرن، جم جمع الاجم: الكبش لا قرن له.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335