الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ

الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ21%

الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 274

الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ
  • البداية
  • السابق
  • 274 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 137219 / تحميل: 6123
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ

الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ

مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

يحيى بن أكثم في مجلس الواثق والفقهاء بحضرته: من حلق رأس آدم حين حج؟ فتعايى القوم عن الجواب. فقال الواثق: أنا احضركم من ينبئكم بالخبر، فبعث إلى علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ابن علي بن أبي طالب فأحضر. فقال: يا أبا الحسن، من حلق رأس آدم؟ فقال: سألتك بالله يا أمير المؤمنين الا أعفيتني . قال: أقسمت عليك لتقولن. قال: اما إذا أبيت فان أبي حدثني عن جدي عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أُمر جبريل أن ينزل بياقوتة من الجنة، فهبط بها، فمسح بها رأس آدم، فتناثر الشعر منه، فحيث بلغ نورها صار حرماً » (١) .

٥ - حدّ النصراني يفجر بمسلمة:

روى الطبرسي بإسناده عن جعفر بن رزق الله، قال: « قدم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة، فأراد أن يقيم عليه الحدّ فأسلم، فقال يحيى ابن أكثم: قد هدم إيمانه شركه وفعله. وقال بعضهم: يضرب ثلاثة حدود، وقال بعضهم: يفعل به كذا وكذا، فأمر المتوكل بالكتابة إلى أبي الحسن العسكري عليه‌السلام وسؤاله عن ذلك، فلما قرأ الكتاب كتب عليه‌السلام : يضرب حتى يموت . فأنكر يحيى وأنكر فقهاء العسكر ذلك، فقالوا: يا أمير المؤمنين، سله عن ذلك، فإنه شيء لم ينطق به كتاب ولم تجيء به سنة. فكتب إليه: إن الفقهاء قد أنكروا هذا، وقالوا: لم تجيء به سنة ولم ينطق به كتاب، فبين لنا لم أوجبت عليه الضرب حتى يموت؟ فكتب عليه‌السلام : ( بِسْمِ اللَّـهِ الرَّ‌حْمَـٰنِ الرَّ‌حِيمِ * فَلَمَّا رَ‌أَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّـهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْ‌نَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِ‌كِينَ ﴿٨٤﴾ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَ‌أَوْا بَأْسَنَا )

__________________

(١) تاريخ بغداد ١٢: ٥٦ / ٦٤٤٠.

١٦١

الآية (١)، فأمر به المتوكل فضرب حتى مات » (٢) .

٦ - مسائل ابن السكيت:

طلب المتوكل من يعقوب بن إسحاق المعروف بابن السكيت أن يتقدم الى الامام عليه‌السلام بمسائل غامضة معقدة، لعله لا يهتدي لجوابها، فيتخذها وسيلة للتشهير به، فأملى الامام عليه‌السلام على ابن السكيت أجوبة تلك المسائل الدقيقة، مسقطاً ما في يد المتوكل مفوتاً الفرصة عليه، معرباً عن طاقاته العلمية الهائلة. ورفع يحيى بن أكثم أسئلة إلى الامام عليه‌السلام ، وكان قد أعدها من قبل للامتحان، وندد بابن السكيت وبإمكانيته في المناظرة، فأخذ الامام عليه‌السلام أسئلة ابن أكثم فأجاب عنها أملاءً على ابن السكيت.

قال ابن شهرآشوب: « قال المتوكل لابن السكيت: اسأل ابن الرضا مسألة عوصاء بحضرتي، فسأله فقال: لم بعث الله موسى عليه‌السلام بالعصا، وبعث عيسى عليه‌السلام بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، وبعث محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرآن والسيف؟

فقال أبو الحسن عليه‌السلام : بعث الله موسى عليه‌السلام بالعصا واليد البيضاء في زمان الغالب على أهله السحر، فأتاهم من ذلك ما قهر سحرهم وبهرهم وأثبت الحجة عليهم، وبعث عيسى عليه‌السلام بإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله في زمان الغالب على أهله الطب، فأتاهم من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله فقهرهم وبهرهم، وبعث محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرآن والسيف في زمان الغالب على أهله السيف والشعر، فأتاهم من القرآن

__________________

(١) سورة غافر: ٤٠ / ٨٤ - ٨٥.

(٢) الاحتجاج: ٢٥٨.

١٦٢

الزاهر والسيف القاهر ما بهر به شعرهم وقهر سيفهم وأثبت الحجة عليهم.

فقال ابن السكيت: فما الحجة الآن؟ قال: العقل، يعرف به الكاذب على الله فيكذب.

فقال يحيى بن أكثم: ما لابن السكيت ومناظراته، وإنما هو صاحب نحو وشعر ولغة، ورفع قرطاساً فيه مسائل، فأملى علي بن محمد عليه‌السلام على ابن السكيت جوابها ». وأورد بعدها مسائل ابن أكثم وأجوبتها (١) .

٧ - مسائل يحيى بن أكثم:

روي أن المسائل الآتية رفعها ابن أكثم الى الامام عليه‌السلام مباشرة في مجلس ضمّه مع المتوكل وابن السكيت، وان الامام عليه‌السلام أملى أجوبة تلك المسائل الى ابن السكيت (٢) .

وروي أن ابن أكثم تقدم بتلك المسائل الى السيد موسى المبرقع أخي الامام الهادي عليه‌السلام ، ورفعها موسى الى الامام عليه‌السلام لعدم معرفته بها، ومهما يكن الأمر فأننا نعرض المسائل وأجوبتها لأهميتها في معرفة سبق الامام عليه‌السلام وتفوقه في العلم.

ففي رواية عن موسى بن محمد بن الرضا عليهما‌السلام قال: « لقيت يحيى بن أكثم في دار العامة، فسألني عن مسائل، فجئت إلى أخي علي بن محمد، فدار بيني وبينه من المواعظ ما حملني وبصرني طاعته، فقلت له: جعلت فداك، إن ابن أكثم كتب يسألني عن مسائل لأفتيه فيها؛ فضحك، ثم قال: فهل أفتيته؟ قلت: لا لم أعرفها.

__________________

(١) المناقب / ابن شهر آشوب ٤: ٤٠٣.

(٢) المناقب / ابن شهر آشوب ٤: ٤٠٣.

١٦٣

قال عليه‌السلام : وما هي؟ قلت: كتب يسألني عن قول الله: ( قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْ‌تَدَّ إِلَيْكَ طَرْ‌فُكَ ) (١) نبي الله كان محتاجاً إلى علم آصف؟

وعن قوله: ( وَرَ‌فَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْ‌شِ وَخَرُّ‌وا لَهُ سُجَّدًا ) (٢) سجد يعقوب وولده ليوسف وهم أنبياء؟

وعن قوله: ( فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَ‌ءُونَ الْكِتَابَ ) (٣) من المخاطب بالآية؟ فإن كان المخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد شك، وإن كان المخاطب غيره فعلى من إذا أنزل الكتاب؟

وعن قوله: ( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْ‌ضِ مِن شَجَرَ‌ةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ‌ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ‌ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّـهِ ) (٤) ما هذه الأبحر، وأين هي؟

وعن قوله: ( وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ) (٥) فاشتهت نفس آدم عليه‌السلام أكل البُرّ فأكل وأطعم، وفيها ما تشتهي الأنفس، فكيف عوقب؟

وعن قوله: ( أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَ‌انًا وَإِنَاثًا ) (٦) يزوج الله عباده الذكران، وقد عاقب قوماً فعلوا ذلك؟

وعن شهادة المرأة جازت وحدها، وقد قال الله: ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ

__________________

(١) سورة النمل: ٢٧ / ٤٠.

(٢) سورة يوسف: ١٢ / ١٠٠.

(٣) سورة يونس: ١٠ / ٩٤.

(٤) سورة لقمان: ٣١ / ٢٧.

(٥) سورة الزخرف: ٤٣ / ٧١.

(٦) سورة الشورى: ٤٢ / ٥٠.

١٦٤

مِّنكُمْ ) (١) ؟

وعن الخنثى وقول علي عليه‌السلام : يورث من المال. فمن ينظر إذا بال إليه؟ مع أنه عسى أن يكون امرأة وقد نظر إليه الرجال، أو عسى أن يكون رجلاً وقد نظرت إليه النساء، وهذا ما لا يحل، وشهادة الجار إلى نفسه لا تقبل.

وعن رجل أتى إلى قطيع غنم، فرأى الراعي ينزو على شاة منها، فلما أبصر بصاحبها خلى سبيلها، فدخلت بين الغنم، كيف تذبح، وهل يجوز أكلها أم لا؟

وعن صلاة الفجر لم يجهر فيها بالقراءة وهي من صلاة النهار، وإنما يجهر في صلاة الليل؟

وعن قول علي عليه‌السلام لابن جرموز: بشر قاتل ابن صفية بالنار. فلم يقتله وهو إمام؟

وأخبرني عن علي عليه‌السلام لم قتل أهل صفين، وأمر بذلك مقبلين ومدبرين، وأجاز على الجرحى، وكان حكمه يوم الجمل أنه لم يقتل مولياً، ولم يجز على جريح، ولم يأمر بذلك، وقال: من دخل داره فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، لم فعل ذلك؟ فإن كان الحكم الأول صواباً فالثاني خطأ.

وأخبرني عن رجل أقر باللواط على نفسه أيحدّ، أم يدرأ عنه الحد؟

جواب الامام الهادي عليه‌السلام :

قال عليه‌السلام : اكتب إليه . قلت: وما أكتب؟ قال عليه‌السلام : اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، وأنت - فألهمك الله الرشد - أتاني كتابك، فامتحنتنا به من تعنتك لتجد إلى الطعن سبيلاً إن قصرنا فيها، والله يكافيك على نيتك،

__________________

(١) سورة الطلاق: ٦٥ / ٢.

١٦٥

وقد شرحنا مسائلك، فأصغ إليها سمعك، وذلل لها فهمك، واشغل بها قلبك، فقد لزمتك الحجة والسلام.

سألت عن قول الله جل وعز: « قال الذي عنده علم من الكتاب » فهو آصف بن برخيا، ولم يعجز سليمان عليه‌السلام عن معرفة ما عرف آصف، لكنه صلوات الله عليه أحب أن يعرف أمته من الجن والانس أنه الحجة من بعده، وذلك من علم سليمان عليه‌السلام أودعه عند آصف بأمر الله، ففهمه ذلك لئلا يختلف عليه في إمامته ودلالته، كما فهم سليمان عليه‌السلام في حياة داود عليه‌السلام لتعرف نبوته وإمامته من بعده لتؤكد الحجة على الخلق.

وأما سجود يعقوب عليه‌السلام وولده فكان طاعة لله ومحبة ليوسف عليه‌السلام ، كما أن السجود من الملائكة لآدم عليه‌السلام لم يكن لآدم عليه‌السلام ، وإنما كان ذلك طاعة لله ومحبة منهم لآدم عليه‌السلام ، فسجود يعقوب عليه‌السلام وولده ويوسف عليه‌السلام معهم كان شكراً لله باجتماع شملهم، ألم تره يقول في شكره ذلك الوقت: ( رَ‌بِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ) (١) إلى آخر الآية.

وأما قوله: « فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب » فإن المخاطب به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يكن فى شك مما أنزل إليه، ولكن قالت الجهلة: كيف لم يبعث الله نبياً من الملائكة، إذ لم يفرق بين نبيه وبيننا في الاستغناء عن المآكل والمشارب والمشي في الأسواق، فأوحى الله إلى نبيه: « فاسأل الذين يقرؤون الكتاب » بمحضر الجهلة، هل بعث الله رسولاً قبلك إلا وهو يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ولك بهم أسوة، وإنما قال: « فإن كنت في شك » ولم يكن شك ولكن للنصفة، كما

__________________

(١) سورة يوسف: ١٢ / ١٠١.

١٦٦

قال: ( تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّـهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (١)، ولو قال: عليكم، لم يجيبوا إلى المباهلة، وقد علم الله أن نبيه يؤدي عنه رسالاته، وما هو من الكاذبين، فكذلك عرف النبي أنه صادق في ما يقول، ولكن أحب أن ينصف من نفسه.

وأما قوله: ( وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْ‌ضِ مِن شَجَرَ‌ةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ‌ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ‌ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّـهِ ) فهو كذلك، لو أن أشجار الدنيا أقلام والبحر يمده سبعة أبحر وانفجرت الأرض عيوناً، لنفدت قبل أن تنفد كلمات الله، وهي: عين الكبريت، وعين التمر (٢)، وعين برهوت، وعين طبرية، وحمة (٣) ماسبذان (٤)، وحمة إفريقية، تدعى لسنان (٥)، وعين بحرون (٦)، ونحن كلمات الله التي لا تنفد ولا تدرك فضائلنا.

وأما الجنة فإن فيها من المآكل والمشارب والملاهي ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وأباح الله ذلك كله لآدم عليه‌السلام ، والشجرة التي نهى الله عنها آدم عليه‌السلام وزوجته أن يأكلا منها شجرة الحسد، عهد إليهما أن لا ينظرا إلى من فضل الله على خلائقه بعين الحسد، فنسى ونظر بعين الحسد، ولم يجد له عزماً.

__________________

(١) سورة آل عمران: ٣ / ٦١.

(٢) في المناقب: عين اليمن.

(٣) الحمة: العين الحارة.

(٤) في المناقب: ماسيدان.

(٥) في المناقب: بسيلان.

(٦) في المناقب: باحوران.

١٦٧

وأما قوله: ( أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَ‌انًا وَإِنَاثًا ) أي يولد له ذكور، ويولد له إناث، يقال لكل اثنين مقرنين زوجان، كل واحد منهما زوج، ومعاذ الله أن يكون عنى الجليل ما لبست به على نفسك تطلب الرخص لارتكاب المآثم ( وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ﴿٦٨﴾ يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا ) (١) إن لم يتب.

وأما شهادة المرأة وحدها التي جازت، فهى القابلة، جازت شهادتها مع الرضا، فإن لم يكن رضا فلا أقل من امرأتين تقوم المرأتان بدل الرجل للضرورة، لأن الرجل لا يمكنه أن يقوم مقامها، فإن كانت وحدها قبل قولها مع يمينها.

وأما قول علي عليه‌السلام في الخنثى فهي كما قال: ينظر قوم عدول يأخذ كل واحد منهم مرآة، وتقوم الخنثى خلفهم عريانة، وينظرون في المرايا، فيرون الشبح فيحكمون عليه.

وأما الرجل الناظر إلى الراعي وقد نزا على شاة، فإن عرفها ذبحها وأحرقها، وإن لم يعرفها قسم الغنم نصفين، وساهم بينهما، فإذا وقع على أحد النصفين فقد نجا النصف الآخر، ثم يفرق النصف الآخر، فلا يزال كذلك حتى تبقى شاتان، فيقرع بينهما، فأيتها وقع السهم بها ذبحت وأحرقت، ونجا سائر الغنم.

وأما صلاة الفجر، فالجهر فيها بالقراءة، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يغلس بها فقراءتها من الليل.

وأما قول علي عليه‌السلام : بشر قاتل ابن صفية بالنار، فهو لقول رسول

__________________

(١) سورة الفرقان: ٢٥ / ٦٨ و ٦٩.

١٦٨

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان ممن خرج يوم النهروان، فلم يقتله أمير المؤمنين عليه‌السلام بالبصرة، لأنه علم أنه يقتل في فتنة النهروان.

وأما قولك: إن علياً عليه‌السلام قتل أهل صفين مقبلين ومدبرين، وأجاز على جريحهم، وإنه يوم الجمل لم يتبع مولياً، ولم يجز على جريح، ومن ألقى سلاحه آمنه، ومن دخل داره آمنه، فإن أهل الجمل قتل إمامهم، ولم تكن لهم فئة يرجعون إليها، وإنما رجع القوم إلى منازلهم غير محاربين ولا مخالفين ولا منابذين، رضوا بالكف عنهم، فكان الحكم فيهم رفع السيف عنهم، والكف عن أذاهم، إذ لم يطلبوا عليه أعواناً، وأهل صفين كانوا يرجعون إلى فئة مستعدة وإمام يجمع لهم السلاح: الدروع والرماح والسيوف، ويسني لهم العطاء، ويهيئ لهم الأنزال، ويعود مريضهم، ويجبر كسيرهم، ويداوي جريحهم، ويحمل راجلهم، ويكسو حاسرهم، ويردهم فيرجعون إلى محاربتهم وقتالهم، فلم يساو بين الفريقين في الحكم، لما عرف من الحكم في قتال أهل التوحيد، لكنه شرح ذلك لهم، فمن رغب عرض على السيف، أو يتوب من ذلك.

وأما الرجل الذي اعترف باللواط، فإنه لم تقم عليه بينة، وإنما تطوع بالاقرار من نفسه، وإذا كان للامام الذي من الله أن يعاقب عن الله، كان له أن يمن عن الله، أما سمعت قول الله: ( هَـٰذَا عَطَاؤُنَا ) (١) الآية.

قد أنبأناك بجميع ما سألتنا عنه، فاعلم ذلك، والحمد لله رب العالمين » (٢) .

__________________

(١) سورة صآ: ٣٨ / ٣٩.

(٢) الاختصاص / الشيخ المفيد: ٩١، تحف العقول / الحراني: ٤٧٦، المناقب / ابن شهر آشوب ٤: ٤٠٤.

١٦٩

ثانياً - العبادة:

كان الامام الهادي عليه‌السلام يسير على نهج آبائه المعصومين عليهم‌السلام في التوجّه إلى اللّه تعالى والانقطاع إليه، فقد كان يحيي الأيام بالصيام والصلاة وتلاوة القرآن رغم شدة الظروف المحيطة به.

قال القطب الراوندي: وأما علي بن محمد الهادي عليه‌السلام فقد اجتمعت فيه خصال الامامة، وتكامل فضله وعلمه وخصاله الخيرة، وكانت أخلاقه كلها خارقة للعادة كأخلاق آبائه عليهم‌السلام ، وكان بالليل مقبلاً على القبلة لا يفتر ساعة، وعليه جبة صوف وسجادته على حصير (١) .

فحينما أمر المتوكل بتفتيش داره في سامراء، اقتحم سعيد الحاجب دار الامام فوجد عليه جبة صوف وقلنسوة منها، وسجادته على حصير بين يديه، وهو مقبل على القبلة (٢)، وفي مرة أخرى دوهمت دار الامام في الليل غفلة من قبل جند المتوكل الأتراك، فوجدوه في بيت وحده مغلق عليه، وعليه مدرعة من شعر، ولابساط في البيت إلا الرمل والحصى، وعلى رأسه ملحفة من الصوف متوجها إلى ربه، يترنّم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد (٣) .

__________________

(١) الأنوار البهية / عباس القمي: ٢٤٦.

(٢) اصول الكافي ١: ٤٩٩ / ٤ باب مولد أبي الحسن علي بن محمد عليه‌السلام من كتاب الحجة، الارشاد ٢: ٣٠٣، الخرائج والجرائح ١: ٦٧٦ / ٨.

(٣) مروج الذهب ٤: ٣٦٧ - ٣٦٨، تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي ٣٢٢، البداية والنهاية ١١: ١٥، وفيات الأعيان / ابن خلكان ٣: ٢٧٢، الأئمّة الاثنا عشر / ابن طولون: ١٠٧.

١٧٠

وورد في سيرة الامام الهادي عليه‌السلام أنه لم يترك نافلة من النوافل المستحبة وصلوات التطوع إلا أتى بها، وكان عليه‌السلام يقرأ في الركعة الثالثة من نافلة المغرب سورة الحمد وأول سورة الحديد إلى قوله تعالى: ( إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‌ ) ، ويقرأ في الركعة الرابعة سورة الحمد وآخر سورة الحشر، ونسبت إليه صلاة نافلة كان عليه‌السلام يصلي فيها ركعتين، يقرأ في الاولى الفاتحة ويـس، وفي الثانية سورة الفاتحة والرحمن (١) .

وأُثرت عنه عليه‌السلام أذكار وقنوتات وتعقيبات طويلة ومفعمة بمعاني التوحيد وشتى دروس العقيدة، يدعو بها في الصلاة، فكان عليه‌السلام يعقب بدعاء طويل بعد صلاة الفجر ولا ينام، ويدعو عقيب صلاة العصر بدعاء طويل آخر، وروي عنه دعاء الفرج عند شدة البلاء وظهور الأعداء، وأدعية أُخرى في أغراض شتى، ومناجاة يناجي بها ربه في غلس الليل بقلب خاشع ونفس مطمئنة (٢) .

وكان يقول في تسبيحه: سبحان من هو دائم لا يسهو، سبحان من هو قائم لا يلهو، سبحان من هو غني لا يفتقر، سبحان الله وبحمده (٣) .

وكان يستجير بالحائر الحسيني اذا ألمّ به مرض أو تعرض لشدة ويبعث أحد مواليه ليدعو له، وحين سئل عن ذلك قال عليه‌السلام : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل من البيت والحجر، وكان يطوف بالبيت ويستلم الحجر، وإن لله بقاعاً يحبّ أن يدعى فيها فيستجيب لمن دعاه، والحائر منها » (٤) .

__________________

(١) راجع: وسائل الشيعة ٦: ٦٤ / ٧٣٥٧ و ٨: ١٨٥ / ١٠٣٧٤.

(٢) مهج الدعوات: ٦٠ و ٦١ و ٢٧١، البلد الأمين: ٦٠، مصباح المتهجد: ٥٥٦.

(٣) بحار الأنوار ٩٤: ٢٠٧ / ٣.

(٤) كامل الزيارات: ٢٨٧ / ١ باب ٩٠.

١٧١

وكان عليه‌السلام حين يسجد سجدة الشكر يفترش ذراعيه ويلصق جؤجؤه وبطنه بالأرض، وحين سئل عن ذلك قال: « كذا نحبّ » (١) .

ثالثا - الزهد:

الزهد والورع من المظاهر البارزة في سيرة الامام الهادي عليه‌السلام ، مثله في ذلك مثل آبائه المعصومين عليهم‌السلام ، فكان عليه‌السلام مثالاً للزهد والاعراض عن زخارف الدنيا وحطامها، والرغبة فيما أعدّه اللّه له في دار الخلود من النعيم والكرامة.

ولم يحفل بمظاهر الحياة الفانية ونعيمها الزائل ومتعها الزائفة، بل اتجه إلى الله تعالى ورغب فيما أعده له في دار الخلود من النعيم والكرامة، وآثر طاعة الله تعالى على كل شيء.

نقل ابن أبي الحديد عن المفاخرة بين بني هاشم وبني أمية للجاحظ، قال: وأين أنتم عن علي بن محمد الرضا، لابس الصوف طول عمره مع سعة أمواله وكثرة ضياعه وغلاته (٢) .

وداهمت قوات السلطة العباسية في زمان المتوكل داره عليه‌السلام في المدينة المنورة، ففتشوها فلم يجدوا فيها شيئاً من متاع الدنيا وزخرفها.

قال يحيى بن هرثمة، وهو الموكل بإشخاص الامام عليه‌السلام من المدينة إلى سامراء بأمر المتوكل: كان ملازماً للمسجد، ولم يكن عنده ميل إلى الدنيا، وقد فتشت منزله فلم أجد فيه إلا مصاحف وأدعية وكتب العلم (٣) .

وفي سامراء اقتحم داره ليلاً جماعة من الأتراك من جند المتوكل، فوجدوه

__________________

(١) الكافي٣: ٣٢٤ / ١٥ كتاب الصلاة باب٢٥، التهذيب٢: ٨٥ / ٣١٢ / ٨٠ باب٨. وفيه: كذا يجب.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ١٥: ٢٧٣.

(٣) تذكرة الخواص: ٣٢٢، مروج الذهب ٤: ٤٢٢.

١٧٢

في بيت مغلق عليه، وعليه مدرعة من صوف، وهو جالس على الرمل والحصى، ليس تحته فراش، وهو متوجه إلى الله تعالى يتلو آيات من القرآن (١) .

رابعاً - الجود والكرم:

عرف الإمام الهادي عليه‌السلام بالسماحة والبذل والعطاء، وهي خصلة بارزة في سيرته وسيرة آبائه المعصومين عليهم‌السلام ، فقد كان عليه‌السلام من أندى الناس كفا وأسمحهم يداً، وكان له دور بارز في تحمل الديون عن ذوي الحاجة، والانفاق والبذل لسدّ حاجة ذوي الفاقة من أبناء المجتمع الاسلامي، وقد روى المؤرخون بوادر كثيرة تدل على بره وإحسانه إلى البائسين والمحرومين، وكان من بين من شملهم بره واحسانه أبو عمرو عثمان بن سعيد، وعلي بن جعفر الهمداني، وأحمد بن إسحاق الأشعري وكان عليه دين، ورجل من أعراب الكوفة قد ركبه دين فادح أثقل حمله، وأبو هاشم الجعفري الذي أصابته ضيقة شديدة (٢) .

ومن مظاهر كرمه وبذله وصلته ذوي القربى ما رواه إسحاق الجلاب، قال: اشتريت لأبي الحسن الهادي عليه‌السلام غنماً كثيرة يوم التروية، فقسمها عليه‌السلام في أقاربه (٣) .

قال الشاعر:

يا أيهذا الرائح الغادي

عرج على سيدنا الهادي

__________________

(١) مروج الذهب ٤: ٣٦٧ - ٣٦٨، تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي ٣٢٢، البداية والنهاية ١١: ١٥، وفيات الأعيان / ابن خلكان ٣: ٢٧٢.

(٢) راجع: المناقب / ابن شهر آشوب ٤: ٤٠٩، كشف الغمة ٣: ١٦٦، بحار الأنوار ٥٠: ١٢٩ / ٧ و ١٣٢ / ١٤.

(٣) بحار الأنوار ٥٠: ١٣٢ / ١٤.

١٧٣

يفوق في المعروف صوب الحيا

الساري بإبراق وإرعاد

في البأس يردي شأفة المعتدي

بصولة كالأسد العادي

وفي الندى يجري إلى غاية

بنفس مولى العرف معتاد

يعفو عن الجاني ويعطي المنى

في حالتي وعد وإيعاد

كأن ما يحويه من ماله

دراهم في كفّ نقّاد

مبارك الطلعة ميمونها

وماجد من نسل أمجاد

من معشر شادوا بناه العلى

كبيرهم والناشي الشادي

كأنما جودهم واقف

لمبتغى الجود بمرصاد

عمت عطاياهم وإحسانهم

طلاع أغوار وأنجاد (١)

خامساً - السماحة والحلم:

ضرب الامام الهادي عليه‌السلام أمثلة واضحة في العفو والصفح عن المسيئين، ومقابلة الاساءة بالاحسان، والصبر على كيد الأعداء والمناوئين، ويكفي مثالاً على سعة حلمه موقفه من بريحة عامل المتوكل على المدينة الذي كان يقصد الامام عليه‌السلام بالاساءة والوشاية والتهديد، ومع ذلك فإنه عليه‌السلام قابل ذلك بالعفو وكظم الغيظ.

ذكر المسعودي أن أبا الحسن عليه‌السلام حين توجه الى العراق، وصار في بعض الطريق، قال له بريحة: قد علمت وقوفك على أني كنت السبب في حملك، وعليَّ حلف بأيمان مغلظة لئن شكوتني إلى أمير المؤمنين أو إلى أحد من خاصّته وأبنائه، لأجمرنّ عيون ضيعتك، ولأفعلن وأصنعن.

__________________

(١) كشف الغمة / الشيخ علي بن عيسى الاربلي ٣: ١٩٠.

١٧٤

فالتفت إليه أبو الحسن عليه‌السلام فقال له: « إن أقرب عَرضي إياك على اللّه البارحة، وما كنت لأعرضنك عليه ثم لأشكونك إلى غيره من خلقه . فانكبّ عليه بريحة وضرع إليه واستعفاه. فقال له: قد عفوت عنك » (١) . وهكذا تجد بريحة لا يعبأ بشكوى الامام الى الله سبحانه، ويتهدده اذا هو اشتكى عند المتوكل، ورغم ذلك تجد الامام عليه‌السلام يعفو عنه ويسامحه رغم دوره السيئ في الوشاية والافتراء على الامام عليه‌السلام ، وهذا هو خلق أهل البيت عليهم‌السلام وسماحتهم لمن ساء إليهم.

سادساً - الرقّة والشفافية:

روى ثقة الاسلام الشيخ الكليني بالاسناد عن أبي هاشم الجعفري، قال: « دخلت على أبي الحسن صاحب العسكر عليه‌السلام ، فجاء صبي من صبيانه فناوله وردة، فقبّلها ووضعها على عينيه ثم ناولنيها، وقال عليه‌السلام : يا أبا هاشم، من تناول وردة أو ريحانة فقبلها ووضعها على عينيه، ثم صلى على محمد وآل محمد، كتب الله له الحسنات مثل رمل عالج، ومحا عنه من السيئات مثل ذلك » (٢) .

سابعاً - الهيبة والمنزلة الرفيعة:

حظي الإمام الهادي عليه‌السلام بمنزلة رفيعة ومكانة اجتماعية مرموقة، تتمثّل بوافرٍ من التعظيم الذي يكنّه له غالب من عاصره، ولو استعرضنا ما نقله كتّاب سيرته عليه‌السلام يتبيّن لنا سموّ مكانته في المجتمع الاسلامي آنذاك، وأنّ أعداءه

__________________

(١) إثبات الوصية: ٢٣٣.

(٢) الكافي ٦: ٥٢٥ / ٥ كتاب الزي والتجمل باب ٦٣.

١٧٥

وأصدقاءه أجمعوا على تعظيمه وتقديره وإكباره.

وتلك المنزلة لم تكن مفروضة بقوة السلاح وصولة السلطان، ولا هي وليدة التعاطف الجماهيري العفوي مع الإمام عليه‌السلام ، بل هي هيبة حقيقية ومنزلة واقعية ناشئة من إحسانه إلى الناس ورعاية اُمورهم، وطاعته لله تعالى وزهده في الدنيا واجتماع الملكات الروحانية ومقومات الصلاح والخلق الرفيع، ممّا جعله في موقع محبة الناس كلهم.

ومن مصاديق تلك المنزلة أنه عندما أرسل المتوكل يحيى بن هرثمة إلى المدينة لاشخاص الامام الهادي عليه‌السلام إلى سامراء، فدخل المدينة، ضجّ أهلها ضجيجاً عظيماً ما سمع الناس بمثله خوفاً على الامام عليه‌السلام ، قال يحيى: وقامت الدنيا على ساق، لأنه كان محسناً إليهم ملازماً للمسجد، ولم يكن عنده ميل إلى الدنيا (١) .

وهذا يدلّ على الموقع الذي يشغله الإمام عليه‌السلام في نفوس الناس وكسب ثقتهم ومحبتهم على اختلاف توجهاتهم، لذلك هرعوا في مظاهرة احتجاجية صاخبة خوفا على حياة إمامهم عليه‌السلام من بطش المتوكل الذي يعرفون توجهاته وممارساته.

وتتجلّى مظاهر التعظيم أيضا في تشوّق الناس من أهالي بغداد إلى الإمام عليه‌السلام واجتماعهم لرؤيته وهو في طريقه الى سامراء، مما اضطر آمر الركب إلى دخول البلد ومغادرته في الليل، فقد جاء في التاريخ أنه لما كان في موضع يقال له الياسرية نزل هناك، وركب والي بغداد إسحاق بن إبراهيم الطاهري لتلقيه، فرأى تشوق الناس إليه واجتماعهم لرؤيته، فأقام إلى الليل، ودخل به

__________________

(١) تذكرة الخواص: ٣٢٢، مروج الذهب ٤: ٤٢٢.

١٧٦

في الليل، فأقام ببغداد بعض تلك الليلة ثم نفذ إلى سرّ من رأى (١) .

وامتدت محبة الإمام عليه‌السلام وتعظيمه خلال تلك الرحلة إلى حاشية المتوكل وعماله، فقد تأثّر ابن هرثمة بهيبة الإمام عليه‌السلام وعظم في عينه، فتولّى خدمته بنفسه وأحسن عشرته، وتلقاه اسحاق بن إبراهيم الطاهري وأوصى به ابن هرثمة، وحذّر وصيف التركي يحيى قائلاً: واللّه لئن سقط منه شعره لايطالب بها سواك (٢) .

وفرض الامام عليه‌السلام هيبته حتى على رجال البلاط من وزراء وأولاد خلفاء وغيرهم، فبلغ من عظيم هيبة الناس له أنه كان إذا دخل على المتوكل لا يبقى أحد في القصر إلا تسابق إلى خدمته في رفع الستائر وفتح الأبواب، ولا يكلفونه بشيء من ذلك (٣) .

وعن سعيد بن سهل البصري الملقب بالملاح، قال: حدث لبعض أولاد الخلفاء وليمة، فدعانا مع أبي الحسن عليه‌السلام فدخلنا، فلما رأوه أنصتوا إجلالاً له (٤) .

وعن أبي يعقوب، قال: رأيت أبا الحسن عليه‌السلام مع أحمد بن الخصيب يتسايران، وقد قصّر أبو الحسن عليه‌السلام عنه، فقال له ابن الخصيب: سر جعلت فداك (٥) .

ومن رجال السلطة الذين تأثروا بهيبة الامام عليه‌السلام سعيد الصغير الحاجب الذي أمره أن يكبس دارالامام عليه‌السلام ، فوجده يصلي، فلما انفتل من صلاته أقبل

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٨٤.

(٢) تذكرة الخواص: ٣٢٢، مروج الذهب ٤: ٤٢٢ نحوه.

(٣) مناقب ابن شهرآشوب ٤: ٤٠٦.

(٤) المناقب / ابن شهرآشوب ٤: ٤١٤، الثاقب في المناقب: ٥٣٧.

(٥) الارشاد ٢: ٣٠٦.

١٧٧

عليه وقال: « يا سعيد، لا يكفّ عني جعفر حتى يقطع إرباً! اذهب واعزب »، قال سعيد: فخرجت مرعوباً، ودخلني من هيبته ما لا أحسن أن أصفه... » (١) .

وتأثر بهيبة الامام عليه‌السلام حتى الخزر الذين أحضرهم الفتح بن خاقان بأمر المتوكل، وأمرهم أن يقتلوه، فلما بصر به الخزر خروا سجداً مذعنين، ورمى المتوكل بنفسه من السرير إليه، وانكب عليه يقبّل بين عينيه، وهو يقول: ما جاء بك يا سيدي في هذا الوقت؟ قال: جاءني رسولك. فقال المتوكل: كذب ابن الفاعلة، ارجع يا سيدي من حيث جئت. فلما خرج أبو الحسن عليه‌السلام دعا المتوكل الخزر، ثم أمر الترجمان أن يخبره بما يقولون، ثم قال لهم: لِمَ لا تفعلوا ما أمرتكم به؟ قالوا: لشدة هيبته (٢) .

ومن عظيم هيبته عليه‌السلام أن جميع السادة العلويين والطالبيين وغيرهم من المعاصرين له، قد أجمعوا على تعظيمه وتقديمه والترجل له والاعتراف له بالزعامة والفضل مع كونهم من المشايخ الكبار والسادة المقدمين، أمثال عم أبيه زيد بن الامام موسى بن جعفر عليهما‌السلام .

روى ابن جمهور عن سعيد بن عيسى، قال: « رفع زيد بن موسى إلى عمر ابن الفرج مراراً يسأله أن يقدمه على ابن أخيه، ويقول: إنه حدث وأنا عم أبيه. فقال عمر ذلك لأبي الحسن عليه‌السلام ، فقال عليه‌السلام : إفعل واحدة، أقعدني غداً قبله، ثم انظر. فلما كان من الغد أحضر عمر أبا الحسن عليه‌السلام فجلس في صدر المجلس، ثم أذن لزيد بن موسى فدخل فجلس بين يدي أبي الحسن عليه‌السلام ، فلما كان يوم

__________________

(١) الثاقب في المناقب: ٥٣٩.

(٢) الثاقب في المناقب: ٥٥٦، الخرائج والجرائح ١: ٤١٧ / ٢١، كشف الغمة ٣: ١٨٥.

١٧٨

الخميس أذن لزيد بن موسى قبله فجلس في صدر المجلس، ثم أذن لأبي الحسن عليه‌السلام فدخل فلما رآه زيد قام من مجلسه وأقعده في مجلسه، وجلس بين يديه » (١) .

وعن محمد بن الحسن الأشتر العلوي الحسيني، قال: كنت مع أبي علي باب المتوكل، وأنا صبي، في جمع من الناس في ما بين طالبي إلى عباسي إلى جعفري إلى غير ذلك، إذ جاء أبو الحسن علي بن محمد عليهما‌السلام ، فترجل الناس كلهم، حتى دخل فقال بعضهم لبعض: لم نترجل لهذا الغلام؟ فما هو بأشرفنا ولا بأكبرنا سناً ولا بأعلمنا! فقالوا: والله لا ترجلنا له. فقال أبو هاشم الجعفري: والله لتترجلن له على صغره إذا رأيتموه. فما هو إلا أن طلع وبصروا به حتى ترجل له الناس كلهم، فقال لهم أبو هاشم: ألستم زعمتم أنكم لا تترجلون له؟ فقالوا: ما ملكنا أنفسنا حتى ترجلنا » (٢) .

وشاهده رجل من اصفهان يقال له عبد الرحمن، أخرجه أهل اصفهان مع قوم آخرين إلى باب المتوكل متظلمين، فكان بباب المتوكل يوماً إذ خرج الأمر بإحضارالامام عليه‌السلام ، قال عبد الرحمن: فأقبل راكباً على فرس، وقد قام الناس يمنة الطريق ويسرته صفين ينظرون إليه، فلما رأيته وقع حبه في قلبي فجعلت أدعو له في نفسي بأن يدفع الله عنه شر المتوكل، فأقبل يسير بين الناس وهو ينظر إلى عرف دابته لا ينظر يمنة ولا يسرة، قال: فارتعدت من هيبته ووقعت بين أصحابي (٣) .

__________________

(١) المناقب / ابن شهر آشوب ٤: ٤٠١، اعلام الورى ٢: ١٢٥.

(٢) المناقب / ابن شهرآشوب ٤: ٤٠٧، الخرائج والجرائح ٢: ٦٧٥ / ٧، الثاقب في المناقب: ٥٤٢.

(٣) الخرائج والجرائح ١: ٣٩٢.

١٧٩

ومن مظاهر تعظيم الامام عليه‌السلام من قبل سائر الناس أنه لما أقيمت الصلاة عليه بعد استشهاده عليه‌السلام كثر الناس واجتمعوا وكثر بكاؤهم وضجتهم، فرد النعش إلى داره فدفن فيها (١) .

وامتدت آثار هيبته عليه‌السلام إلى البهائم والطير، كما ورد في أخبار كثيرة، وليس ذلك ببعيد عن المؤمن المخلص، فكيف إذا كان إماما معصوما وحجةً على الخلق؟

فقد جاء في الحديث عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال: « المؤمن يخشع له كلّ شيء، ويهابه كلّ شيء » وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا كان مخلصا أخاف اللّه منه كلّ شيء حتى هوام الأرض والسباع وطير الهواء » (٢) .

عن أبي هاشم الجعفري، قال: « أنه كان للمتوكل مجلس بشبابيك كيما تدور الشمس في حيطانه، قد جعل فيها الطيور التي تصوت، فإذا كان يوم السلام جلس في ذلك المجلس، فلا يسمع ما يقال له، ولا يسمع ما يقول، لاختلاف أصوات تلك الطيور، فإذا وافاه علي بن محمد بن الرضا عليهم‌السلام سكتت الطيور، فلا يسمع منها صوت واحد إلى أن يخرج، فإذا خرج من باب المجلس عادت الطيور في أصواتها. قال: وكان عنده عدة من القوابج في الحيطان، فكان يجلس في مجلس له عال، ويرسل تلك القوابج تقتتل وهو ينظر إليها ويضحك منها، فإذا وافى علي بن محمد عليه‌السلام ذلك المجلس لصقت القوابج بالحيطان فلا تتحرك عن مواضعها حتى ينصرف، فإذا انصرف عادت في القتال » (٣) .

* * *

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ٥٠٣.

(٢) الدعوات / الراوندي: ٢٢٧.

(٣) بحار الأنوار ٥٠: ١٤٨ / ٣٤.

١٨٠

اختصاص الخطاب والوعظ بهؤلاء شيء، وجواز تكرار الرسالة بعد عصر القرآن شيء آخر، يحتاج اثباته إلى دليل غير هذه الآية، فإنّ أقصى ما في هذه، هو وعظ الجيل الإسلامي بقصص المرسلين، ولا بد أن يكون المتعظ به قبلهم، كما أنّ القرآن يعظ الجيل الإسلامي، بقصة موسى وفرعون، ولا تحدث نفس صاحبهما بأنّ ذلك المتعظ به، يجب أن يتكرر في المستقبل.

الشبهة الثانية :

استدلت الفرقة التعيسة « البهائية » على عدم اختتام الرسالة، وعدم انتهائها بآية ثانية، وتقوّلت بأنّها تدلّ على خلاف ما هو المنصوص في غير موضع من الذكر الحكيم، ودونك الآية :

( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ) ( غافر ـ ١٥ ).

قال المستدل في فرائده: إنّ قوله سبحانه:( يُلْقِي الرُّوحَ ) بصيغة المضارع ينبئ عن عدم اختتام الرسالة، وأنّ الروح ينزل بأمره على من يشاء من عباده في الأجيال المستقبلة(١) .

الجواب :

توضيحه يحتاج إلى بيان أمرين :

١. الظاهر من « الروح » هو الوحي(٢) فاستعير له الروح، لأنّه به تحيا القلوب وفيه حياة المجتمع، ويوضح ذلك قوله سبحانه:( وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا

__________________

(١) الفرائد: ص ٣١٣ وص ١٢٦ من الطبعة الحجرية.

(٢) وقريب منه تفسيره بالقرآن أو كل كتاب أنزله سبحانه أو جبرئيل أو النبوّة، وما اخترناه هو الأولى، فتدبر.

١٨١

كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ ) ( الشورى ـ ٥٢ ) ومنه يعلم أنّ المحتمل أن يكون الروح المسؤول عنه في القرآن الكريم هو حقيقة الوحي حيث قال سبحانه:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إلّا قَلِيلاً ) ( الإسراء ـ ٨٥ ).

٢. يوم التلاق: إنّما هو يوم لقاء الله، يوم يلتقي فيه العبد والمعبود، وأهل الأرض والسماء، كما يوضحه ما بعد الآية:( يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَىٰ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ المُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) ( غافر ـ ١٦ ).

والمراد من قوله:( لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ) أي ليحكم في ذلك اليوم بين عباده فينتصف المظلوم من ظالمه، ويجزي المحسن والمسيء، أو لينذر عباده سبحانه عن عذاب ذلك اليوم.

إذا عرفت الأمرين، فالجواب عن الاستدلال بها واضح جداً بعد ما عرفت عند البحث عن الشبهة الاُولى من أنّ الفعل في تلك المواضع مجرد عن الزمان، والهدف إنّما هو بيان نسبة الفعل إلى الفاعل واتصافه بها، بلا نظر إلى زمان النسبة، سواء أكان الماضي، أم الحال أم المستقبل، كما في قوله :

من يفعل الحسنات لله يشكرها

والشر بالشر عند الله سيان

وعلى هذا، فسيقت الآية لبيان كونه سبحانه مالكاً على الإطلاق، لا ينازعه في ملكه ولا يناضله في مشيئته واختياره أحد، والوحي أحد الأشياء التي أمرها بيده، يختص به من يؤثره على عباده ويختاره منهم، وليس لأحد أن يعترض عليه ويقول:( لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ) ( الفرقان ـ ٣٢ ). أو يطعن ويقول:( لَوْلا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) ( الزخرف ـ ٣١ ) فإذا كان هدف الآية بيان هذا الأمر، وانّ الوحي بكمّه وكيفه ومن ينزل عليه موكول إليه سبحانه، فلا يتفاوت في ابلاغ هذا الغرض، التعبير بالماضي، أو المضارع، فسواء أقال: « القى الروح » أم قال:( يُلْقِي الرُّوحَ ) فهما في افهام المقصود سواسية فلا يدلاّن على زمان الاتصاف، والمقصد الأسنى ،

١٨٢

اتصافه سبحانه بالاختيار التام في انزال الوحي على أي فرد من عباده، من دون دلالة على زمان الاتصاف.

ودونك مثالاً عرفياً يقرّب المقصود.

فلو نصب الملك المستبد ( والملوكية خاصتها الاستبداد ) أحد ولده ولياً للعهد وجلعه وارثاً للعرش والاكليل، وشاغلاً لمنصة الملوكية بعده، فإذا اعترض عليه أحد وزراءه بأنّ ولده الآخر كان أحق بهذا المنصب، فيجيب الملك بقوله: إنّ الامر بيدنا، نقدم من نشاء، ونؤخر من نشاء، نرفع من نشاء ونضع من نشاء

فليس لك عند ذلك أن تستظهر من عبارته، وتتهمه بأنّه قد أخبر حتماً عن نصب فرد آخر في المستقبل، متمسكاً بأنّه قال: « نقدم » بصيغة المضارع ولم يقل: « قدمت ».

لا، ليس لك ولا لغيرك هذا، لأنّ المفهوم في هذه المواضع إنّما هو بيان أصل الإتصاف، أي إتصاف الفاعل ( الملك ) بالفعل ( تقديم من تعلّقت إرادته بتقديمه ) لا بيان زمان الإتصاف واستمراره في الجيل الآتي، فلاحظ.

فلو تنازلنا عن كلّ ما قلناه حول هذه الآية وما قبلها وفرضنا أنّ ما نسجوه من الأوهام حقيقة راهنة فنقول: إنّ ما ذكروه كلّه لا يتجاوز حدّ الاشعار فهل يجوز في ميزان العقل والانصاف ترك ما سردناه من البراهين الدامغة والنصوص الناصعة والضرورة والبداهة بين المسلمين عامة، الدالّة على كون النبي الأعظم خاتم الأنبياء ورسالته خاتمة الرسالات، لأجل هذه الاُمور الواهية التي لا يستحق أن يطلق عليها اسم الدلالة.

قال الشيخ المفيد: إنّ العقل لم يمنع من بعثة نبي بعد نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونسخ شرعه كما نسخ ما قبله من شرائع الأنبياء وإنّما منع ذلك الاجماع، والعلم بأنّه خلاف دين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة اليقين وما يقارب الاضطرار(١) .

__________________

(١) أوائل المقالات: ص ٣٩.

١٨٣

قال الفاضل المقداد في أثره القيّم(١) أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله مبعوث إلى كافة الخلق والدليل على ذلك إخبارهصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك المعلوم تواتراً مع ثبوت نبوّته المستلزمة لإتصافه بصفات النبوّة التي من جملتها العصمة المانعة من الكذب، إلى أن قال: يلزم من عموم نبوّته كونه خاتم الأنبياء وإلّا لم تكن عامة للخلق، ولقوله تعالى:( وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا نبي بعدي.

الشبهة الثالثة :

وقد تمسكت هذه الفرقة بظاهر آيتين اُخريين :

الاُولى: قوله سبحانه:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) ( يونس ـ ٤٧ ).

الثانية: قوله سبحانه:( قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إلّا مَا شَاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) ( يونس ـ ٤٩ ).

تقرير هذه الشبهة أنّ الله حدد حياة الاُمم بحد خاص، والاُمّة الإسلامية إحدى هذه الاُمم، فلها أجل خاص، ومدة محدودة، ومعه كيف يدعي المسلمون دوام دينهم وبقاءه إلى يوم القيامة ؟

وروي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه سئل عن أجل الاُمّة الإسلامية، فأجابصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله: إن صلحت اُمّتي فلها يوم، وإن فسدت فلها نصف يوم(٢) .

الجواب :

لا أدري ماذا يريد القائل من الاستدلال بهاتين الآيتين: أمّا الآية الاُولى، أعني قوله سبحانه:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ) فصريح الآية هو أنّ الله سبحانه يبعث إلى كل اُمّة ،

__________________

(١) اللوامع الالهية في المباحث الكلامية: ص ٢٢٥.

(٢) الفرائد: ص ١٧ الطبعة الحجرية.

١٨٤

مثل اُمّة نوح وعيسى وموسى، رسولاً يدعوهم إلى دين الحق ويهديهم إلى صراطه، وأمّا أمد رسالة الرسول وكميتها، فالآية غير ناظرة إليه، لا صريحاً ولا تلويحاً لا مفهوماً ولا منطوقاً ولا مانع من أن يكون إحدى هذه الرسالات غير محدودة بحد خاص، ويكون صاحبها خاتم الرسل ودينه خاتم الأديان، وقد دلّ القرآن على أنّ نبي الإسلام هو ذاك، كما تقدمت دلائله.

ونظير ذلك قوله سبحانه:( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ) ( النحل ـ ٣٦ ).

أتجد من نفسك أنّ الآية تشير إلى تحديد الشريعة بعد الإسلام، لا، لا تجده من نفسك، ولا يجد ذلك أيضاً كل متحرر عن قيد العصبية.

وأمّا الآية الثانية، فكشف الغطاء عن محيا الحق، يحتاج إلى توضيح وتحقيق معنى « الاُمّة » الواردة في الكتاب والسنّة، فنقول :

قال الراغب: الاُمّة، كل جماعة يجمعهم أمر ما: أمّا دين، أو مكان، أو زمان، وهذا الجامع ربّما يكون اختيارياً وقد يكون تسخيرياً(١) .

هذه الحقيقة التي كشف عنها الراغب، هو الظاهر من الكتاب والسنّة وموارد الاستعمال وصرّح بها الجهابذة من اللغويين، ودونك توضيح ما أفاده الراغب :

الجامع الديني، كما في قوله سبحانه:( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ) ( البقرة ـ ١٢٨ ) وقوله سبحانه:( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ) ( آل عمران ـ ١١٠ ).

الجامع الزماني كقوله سبحانه:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ

__________________

(١) المفردات للراغب: ص ٢٣ مادة « اُم » وكان الأولى أن يضيف إلى هذه الجوامع لفظ « أو غيره » إذ لا ينحصر الجامع بهذه الثلاثة وليس المقصود أنّ هذه الجوامع داخلة في مفهموم « الاُمّة » حتى يقال: أنّ توصيف الاُمّة في الآية بكونها « مسلمة » دليل على خروجها عن مفهوم الآية، بل المراد أنّ هذه الجوامع تكون مصححة، لاطلاقها على الجماعة.

١٨٥

سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) ( الأعراف ـ ٣٤ ) وفسّرها المفسّرون بلازم المعنى وقالوا: بعد حين، أي بعد انقضاء أهل عصر، كأنّه يجمعهم زمان واحد في مستوى الحياة، ومثله قوله سبحانه:( وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) ( هود ـ ٨ ) وفسره في الكشاف بلازم المعنى، وقال: إلى جماعة من الاوقات.

الجامع المكاني: نحو قوله سبحانه:( ولـمّاوَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ) ( القصص ـ ٢٣ ) أي وجد حول البئر جماعة يسقون مواشيهم، فالجهة الجامعة لعدّهم اُمّة واحدة، إنّما هي اجتماعهم في مكان واحد، أو غيرها من الجهات التي يمكن أن تجمع شمل الأفراد والآحاد.

الجامع العنصري والوشيجة العنصرية، والرابطة القومية كما في قوله سبحانه:( وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ) ( الأعراف ـ ١٦٠ ).

وقوله:( وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ ) ( الأعراف ـ ١٦٨ ) فبنوا إسرائيل كلهم أغصان شجرة واحدة، يجمعهم ترابط قومي ووشيجة عنصرية، إلّا أنّه كلّما ازدادت الشجرة نموّاً ورشداً إزدادت أغصاناً وأفناناً، فعد كلّ غصن مع ما له من الفروع، أصلاً برأسه وهم مع كونهم اُمماً اُمّة واحدة أيضاً يربطهم الجامع العنصري.

القرآن يتوسّع في استعمال الاُمّة :

إنّ القرآن يتوسّع في استعمال الكلمة فيطلقها على الفرد، إذا كان ذا شأن وعظمة تنزيلاً له منزلة الجماعة كقوله سبحانه:( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا ) ( النحل ـ ١٢٠ ) أي قائماً مقام جماعة في عبادة الله، نحو قولهم فلان في نفسه قبيلة، وروى أنّه يحشر « زيد بن عمرو » اُمّة وحده.

بل يتوسّع ويستعمله في صنوف من الدواب، إذا كانت تجمعهم جهة خاصة ،

١٨٦

كقوله سبحانه:( وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ) ( الأنعام ـ ٣٨ ).

فعدّ الله كل صنف من الدواب والطيور اُمماً، لما بينها من المشاكلة والمشابهة حيث الخلق والخلق، فهي بين ناسجة كالعنكبوت، وبانية كالسرفة، ومدخرة كالنمل ومعتمدة على قوت وقتها كالعصفور والحمام، إلى غير ذلك من الطبائع التي يخصص بها كل نوع(١) .

ويمكن أن يقال: إنّ ما ألمحنا إليه من موارد الاستعمال للفظ « الاُمّة » ليست معاني مختلفة، حتى يتصور أنّ اللفظ وضع عليها بأوضاع متعددة، بل كلها مصاديق لمعنى وسيع وضع عليه اللفظ ( الاُمّة ) وهو كل اجتماع من الانسان وغيره من الحيوان، يجمعهم أمر ما من الزمان والمكان والدين والعنصر وغيرها.

الاُمّة: الطريقة والدين :

نعم للاُمّة معنى آخر اُستعملت فيه، في الكتاب والسنّة، وهو الطريقة والدين، كقوله سبحانه:( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ) ( الزخرف ـ ٢٢ ) وقوله سبحانه:( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ) ( الزخرف ـ ٢٣ ).

قال الجوهري في صحاحه: الاُمّة، الطريقة والدين، يقال لا اُمّة له، أي لا دين ونحلة، قال الشاعر :

وهل يستوي ذو اُمّة وكفور

وقال الفيروز آبادي: الاُمة ـ بالكسر ـ الحالة والشرعة والدين ويضم.

هذه هي الاُمة ومعناها وقد عرفت أنّه لم يستعمل في الكتاب إلّا في هذين المعنيين ( الجماعة والدين ) وقد ذكروا لها معاني اُخرى يمكن ارجاعها إلى ما ذكرناه.

__________________

(١) المفردات للراغب: ص ٢٣.

١٨٧

فلنرجع إلى مفاد الاُمّة :

إذا عرفت ما ذكرناه: فلنرجع إلى مفاد الاُمّة فنقول قوله سبحانه:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ) يحتمل في بادئ الأمر أن يراد منها الطريقة أو الجماعة، ولكن الأوّل مدفوع بما في ذيله:( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ ) إذ يجب حينئذ أن يقول: فإذا جاء أجلها بإفراد الضمير، لو صح إطلاق الأجل على الدين والشريعة(١) فلا مناص من حمل الآية على المعنى الثاني: أعني الجماعة، التي يربطهم في الحياة أمر ما، والمراد أنّ كل كتلة من الناس إذا طويت صحيفة حياتهم وانتهت مدة عيشهم لا يمهلون بعد شيئاً، فلا يستقدمون ولا يستأخرون بل يتوفّاهم ملك الموت الذي وكل بهم، فلا إمهال ولا تأخير، فالآية ناظرة إلى بيان أمر تكويني جرت عليه مشيئته سبحانه وهو أنّ حياة الاُمم في أديم الأرض محدود إلى أجل لا يمهلون بعده وليس فيها أي نظر إلى توقيت الشرائع وتحديدها وتتابع الرسل ونزول الكتب.

وأمّا حملها على خصوص الاُمّة الدينية أي الاُمّة التي يجمعها دين واحد فيحتاج إلى الدليل والقرينة(٢) وقد عرفت أنّ الاُمّة عبارة عن الجماعة التي يجمعهم أمر ما، سواء أكان ذلك الجامع زماناً أو مكاناً أو اتحاداً في الشغل والمهنة أو ديناً، أو عنصراً، إلى غير ذلك من عشرات الوحدات الجامعة بين المتشتتين من الناس.

وقد تكرر مضمون الآية في الذكر الحكيم بصور مختلفة كلها تهدف إلى ما ذكرناه، وأوضحناه، ودونك بعضها :

( وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إلّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ (٣) *مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا

__________________

(١) سيوافيك أنّه لم يستعمل الأجل في القرآن في أمد الأديان.

(٢) وعلى فرض شمول الآية للاُمة الدينية بعمومها، فمن أين وقف المستدل على أنّه جاءأجلهم ولماذا لا يمتد إلى يوم القيامة كما سيوافيك بيانه تحت عنوان « سؤال من المستدل ».

(٣) أي مكتوب معلوم كتب فيه أجلها.

١٨٨

يَسْتَأْخِرُونَ ) ( الحجر ٤ ـ ٥ )، وقوله سبحانه:( ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ *مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ) ( المؤمنون ٤٢ ـ ٤٣ ).

وقريب منه قوله سبحانه:( فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ *وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( المنافقون: ١٠ ـ ١١ )، وقوله سبحانه:( يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ( نوح ـ ٤ ).

نظرة في موارد استعمال الأجل في القرآن :

ويؤيد ذلك أنّه لم يستعمل « الأجل » في الذكر الحكيم في أجل الشرائع، وانتهاء أمدها، بل قصر استعماله على موارد اُخرى، لبيان آجال الديون، والعقود كقوله تعالى:( إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ) ( البقرة ـ ٢٨٢ ).

وقوله سبحانه:( وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ) ( البقرة ـ ٢٣٥ ).

أو بيان انتهاء استعداد الاشياء للبقاء كقوله سبحانه:( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ) ( الأنعام ـ ٢ ) وقوله سبحانه:( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ) ( الرعد ـ ٢ ).

وأمّا قوله سبحانه:( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إلّا بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ) ( الرعد ـ ٣٨ ) فيحتمل وجوهاً :

١. إنّ لكل وقت حكماً خاصاً مكتوباً معيناً، كتب وفرض في ذلك الأجل، دون غيره لأنّ الفرائض تختلف حسب اختلاف الأوضاع والأحوال، فلكل وقت حكم يكتب ويفرض على العباد حسب مقتضيات المصالح.

٢. ما فسر به أمين الإسلام وهو قريب ممّا ذكرناه آنفاً، وقال إنّ لكل وقت كتاباً خاصاً، فللتوراة وقت وللانجيل وقت وكذلك القرآن، فالفرق بينه وبين ما ذكرناه هو

١٨٩

أنّه حمل الكتاب على الكتاب المصطلح، ونحن حملنا على الحتم والفرض.

٣. انّ المراد منه: انّ لكل أجل مقدر كتاب أثبت فيه، فللاجال كلّها كتاب كتب فيه.

٤. انّ لكل أمر قضاه الله كتاب كتب فيه، وأبعد الوجوه هو الأخير، إذ هو تفسير بالأعم، وهو سبحانه يقول:( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ) ولم يقل لكل أمر كتاب وأقرب الوجوه هو الأوّل بقرينة قوله سبحانه:( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إلّا بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ) ( الرعد ـ ٣٨ ) فلقد كانوا يقترحون على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعض الآيات، فأجابهم سبحانه بأنّ لكل وقت حكماً خاصاً، كتبه الله لذلك الوقت، ولا يجري إلّا فيه.

وعلى أي وجه من الوجوه الأربعة، فلا تدل الآية على أنّ لكل دين أجلاً وأمداً، إلّا على الوجه الثاني، ودلالته عليه إنّما هي بالالتزام لا بالمطابقة لأنّه إذا كان لكل وقت كتاباً خاصاً مثل التوراة والإنجيل يدل بالملازمة على أنّ لكل وقت شريعة وديناً.

وأمّا على ما فسّرنا الآية به فمآله إلى أنّ لكل وقت حكماً، والحكم ليس نفس الدين والشريعة، بل جزء منه وتكون الآية دالّة على رد من زعم امتناع وقوع النسخ في الشريعة الواحدة.

وأمّا على المعنى الثالث والرابع، فعدم دلالته على أنّ لكل دين أجلاً، واضح لا يحتاج إلى البيان.

سؤال من المستدل :

وفي الختام نسأل المستدل هب أنّ الآية بصدد بيان آجال الشرائع وتحديدها وأنّ لكل دين واُمّة دينية أجلاً، ولكنّه من أين وقف على أنّ الإسلام قد انتهى أمده وجاء أجله، وأنّه لا يمتد إلى يوم القيامة، إذ لنا أن نقول: إنّ أمد الإسلام ينتهي بانتهاء نوع الانسان، في أديم الأرض وقيام القيامة، وحضور الساعة، فلو دلّت الآية على أنّ لدين الإسلام أو الاُمّة الإسلامية أجلاً قطعياً فنستكشف ببركة الآيات الدالّة على اختتام النبوّة

١٩٠

والرسالة عن امتداد تلك الرسالة إلى اليوم الذي تنطوي فيه صحيفة حياة الانسان في هذه السيارة، وأنّ أجله وأجلها واحد.

الاكذوبة التي نسبها إلى رسول الله :

هلم نسأله، عن مصدر الاكذوبة التي نسبها الكاتب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: أنّه بعد ما نزلت آية:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ) طفق أصحابه يسألونه عن أجل الاُمّة الإسلامية، فأجابه بقوله: إن صلحت اُمّتي فلها يوم وإن لم تصلح فلها نصف يوم(١) .

فقد أعتمد الكاتب في نقله على نقل الشعراني، وليس في لفظه ما يدل على سؤال أصحابهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن أجل الاُمّة الإسلامية بعد نزول الآية، وإنّما هو اكذوبة نحتها الكاتب ونسبها إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

نعم تفسير اليوم بألف عام، كما نقله الشعراني عن تقي الدين رجم بالغيب إذ كما يمكن تفسيره بألف مستند إلى قوله سبحانه:( وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) ( الحج ـ ٤٧ ) يمكن تفسيره بخمسين ألف سنة، استناداً إلى قوله سبحانه:( تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) ( المعارج ـ ٤ ).

وأمّا ما رواه العلّامة المجلسي، مسنداً عن كعب الأحبار، على نحو يشعر بكون تفسير اليوم بألف عام، من الحديث، فمما لا يقام له وزن، فإنّ كعب الأحبار وضّاع

__________________

(١) الفرائد: صفحة ١٧ الطبعة الحجرية.

(٢) ودونك نص الشعراني في كتابه اليواقيت والجوهر التي ألّفها عام ٩٥٥ ه‍ قال في بيان أنّ جميع أشراط الساعة حق: انّه لابد أن يقع كلّها قبل قيام الساعة وذلك كخروج المهدي ( عج ) ثمّ الدجال، ثمّ نزول عيسى، وخروج الدابة و حتى لو لم يبق من الدنيا إلّا مقدار يوم واحد، فوقع ذلك كلّه، قال الشيخ تقي الدين بن أبي المنصور في عقيدته: وكل ذلك تقع في المائة الأخيرة ( هذا تخرص من الرجل وتنبؤ منه، أعاذنا الله منه ) من اليوم الذي وعد به رسول الله بقوله في اُمّته: إن صلحت اُمّتي فلها يوم وإن فسدت فلها نصف يوم، يعني من أيام الرب المشار إليه بقوله تعالى:( وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) لاحظ اليواقيت ج ٢ ص ١٦٠ ونقل عن بعض العارفين أنّ أوّل الألف محسوب من وفاة علي بن أبي طالب.

١٩١

كذّاب مدلس، لم تخرج اليهودية من قلبه، تزيا بزي الإسلام فأدخل الإسرائيليات والقصص الخرافية، في أحاديث المسلمين فلا يقام لحديثه وزن ولا قيمة، فلنضرب عنه صفحاً.

أضف إليه أنّ الرجل لم يسنده إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا إلى الولي، فكيف يكون حجّة ؟

ثمّ إننا نسأل صاحب الفرائد(١) ومن مشى مشيه، ونقول: إنّ رسول الله قال ( بزعمكم ): إن صلحت اُمّتي فلها يوم فهل صلحت الاُمّة الإسلامية في هذه القرون العشرة ومشت سبل الصلاح والسلام، وازدهر فيهم العدل والإحسان، أو شاع فيهم الجور والطغيان والقتل الذريع وسفك الدماء وحبس أبرياء الاُمّة واعتقالهم ونهب أموالهم وعند ذاك يلزم انتهاء أمد الإسلام بإنقراض خمسمائة عام، التي هي نصف يوم، من اليوم الربّاني، لأنّه لم تصلح الاُمّة بعد لحوق الرسول بالرفيق الأعلى ولكن الكاتب لا يرضى به لأنّه لا يوافق ما يدعيه ويرتئيه.

وأعجب من ذلك أنّه جعل مبدأ ذلك اليوم الربّاني ( ألف عام ) العام الذي تمّت فيه غيبة ولي الله الأعظم، الحجة بن الحسن العسكري ( عجل الله فرجه ) لا عام بعثة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أو هجرته أو وفاته، أو سنة صدور الحديث. أو ما كانت الاُمّة العائشة في هذين القرنين ونصف من الاُمّة الإسلامية ؟! ( سله أنا لا أدري ولا المنجّم يدري ) أظنّك أيها القارئ الكريم لا يفوتك سر هذا الجعل، وإنّه لماذا جعل مبدأ ذلك اليوم الربّاني، عام غيبة الولي، أعني عام ٢٦٠ من الهجرة النبوية، ذلك العام الذي غاب فيه خاتم الأوصياء عن الأبصار إلى الوقت الذي لا يعلمه إلّا هو سبحانه، فقد عمد بذلك إلى أن ينطبق مبدأ خروج الباب(٢) على اختتام ألف عام(٣) .

فقد خرج « الباب » وادّعى ما ادّعى، مفتتح عام ١٢٦٠ من الهجرة النبوية.

__________________

(١) أبو الفصل الجرفادقاني.

(٢) المراد منه « علي محمد » الشيرازي الملقّب بالباب، عند الفرق الضالّة البابية والازلية والبهائية.

(٣) فالرجل قد وضع فكرة معينة، ثمّ أراد تصيّد الأدلّة لاثباتها، ولكن الباحث المخلص يتجرّد عن

١٩٢

الشبهة الرابعة :

استدل صاحب « الفرائد » بآية رابعة، زعم دلالتها على عدم انقطاع الوحي والرسالة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهي قوله سبحانه:( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ ) ( النور ـ ٢٥ ).

قال: إنّ صيغة « يوفيهم » تبشّر عن دين حق يوفيه سبحانه على من يشاء من عباده في الأجيال الآتية بعد الإسلام، وليس لك أن تحمله على الإسلام وتفسّره به، لأنّه قد أكمل نظامه وتمت اُصوله وفروعه عام حجة الوداع بنص الذكر الحكيم، كما قال سبحانه:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) ( المائدة ـ ٣ ) وهو سبحانه يخبر في هذه الآية عن وقوع الأمر ( توفية الدين الحق ) في الجيل الآتي(١) .

الجواب :

هذا مبلغ علم الرجل ومقياس عرفانه بالكتاب وغوره في الأدب العربي وقد كان في وسع الرجل أن يرجع إلى أحد التفاسير، أو إلى ابطال العلم وفطاحل الاُمّة وكانت بيئة مصر(٢) تجمع بينه وبين فطاحلها وأعلامها العارفين، هذا هو أمين الإسلام الطبرسي، فسّره في مجمعه بقوله: يتم الله لهم جزائهم الحق، فالدين بمعنى الجزاء(٣) ، وقال الزمخشري: الحق، صفة الدين وهو الجزاء(٤) لا الطريقة والشريعة.

__________________

كلّ هوى وميل شخصي، ويتابع النصوص ومفادها، فما أدت إليه بعد التمحيص، تكون هي النتيجة التي ينبغي عليه اعتبارها حقيقة راهنة.

(١) الفرائد: صفحة ١٢٢ الطبعة الحجرية.

(٢) فقد ألّف « الفرائد » بمصر، أيام اقامته هناك، وفرغ منه عام ١٣١٥.

(٣) مجمع البيان: ج ٧ ص ١٣٤.

(٤) الكشّاف: ج ٣ ص ٢٢٣.

١٩٣

وليت الكاتب، أمعن النظر في الظرف ( يوم ) الوارد في الآية المتقدمة أعني قوله سبحانه:( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم ) ففي أي يوم تشهد ألسنة المجرمين وأيديهم على أعمالهم الإجرامية، فهل هذا اليوم إلّا يوم البعث ؟ ففي ذلك اليوم يوفيهم الله جزاء الطغاة العصاة المفترين الكذّابين المبدعين، الجزاء الحق الذي يستحقّونه بأعمالهم. ففي يوم واحد تشهد ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم، ويوفي الله دينه الحق والجزاء الذي يستحقّونه.

على أنّ سياق الآية يوضح المقصود، فإنّ الآية وردت في الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات، فعاتبهم بالآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد، والعتاب البليغ، والزجر العنيف، لإستعظام ما ركبوا من ذلك، وما أقدموا عليه، إذ قال سبحانه:( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ المُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ ) ( النور: ٢٣ ـ ٢٥ ).

ترى أنّه سبحانه حكم على هؤلاء العصاة اللاعبين باعراض الناس وحرماتهم بأحكام ثلاثة :

١. اللعن عليهم في الدينا والآخرة.

٢. شهادة أعضائهم على أعمالهم الإجرامية.

٣. توفية جزائهم الحق في ذلك اليوم.

ومع ذلك كيف عمي بصر الرجل وبصيرته، وأرخى قلمه ولسانه، وفسّر الآية برأيه الباطل ؟!

الشبهة الخامسة :

قد عرفت ما لدى الكاتب ومن لفّ لفه من شبهات تافهة، أو تأويلات كاذبة اختلقوها لاغواء السذّج من الناس. هلم معي نقرأ آخر شبهة للقوم، وهي الاستدلال

١٩٤

بالآية التالية:( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) ( السجدة ـ ٥ ).

فقد فسّر صاحب الفرائد(١) تدبير الأمر بانزال الشريعة من السماء إلى الأرض وجعل عروجه في يوم كان مقداره ألف سنة، بإندراس الشريعة تدريجاً طول هذه المدة بابتعاد الناس عن الدين، ورفضه في مراحل الحياة، وصيرورة القلوب مظلمة بالمعاصي، مدلهمّة بالخطايا، مريضة بشيوع الفساد والفوضى، فيبعث الله عند ذلك رجلاً آخر يجدد الشريعة ويؤسّسها ويذهب بظلمات القلوب، وعلى هذا فلا تدوم الشريعة أي شريعة كانت إلّا يوماً ربّانياً، وهو ألف سنة ممّا تعدون(٢) .

الجواب :

ما ذكره بصورة الشبهة، لا يصح إلّا بعد تسليم اُمور، لم يسلم واحد منها :

١. إنّ التدبير عبارة عن نزول الوحي وبلوغ الشريعة إلى النبي.

٢. إنّ الأمر في الآية هو الشريعة والطريقة.

٣. العروج هو انتهاء أمد الرسالة وانقضاء استعداد بقاء الشريعة واندراسها بشيوع الفساد والمعصية بين الاُمّة.

وليس أي واحد منها صحيحاً ولا قابلاً للقبول :

أمّا الأوّل: فلأنّ التدبير في اللغة والكتاب عبارة عن الإدارة على وجه تستوجبه المصلحة، وتقتضيه الحكمة وأين ذاك عن نزول الشريعة من السماء إلى الأرض، باحدى

__________________

(١) الفرائد الطبعة الحجرية.

(٢) ثمّ إنّه جعل مبدأ ذلك اليوم الربّاني عام غيبة ولي الله الأعظم المهدي ( عج ) عن الأبصار حتى يطابق مختتمه مفتتح عام ظهور الباب، هذا مصداق واضح للتفسير بالرأي، وكأنّه قد قرر النتيجة أوّلاً ثمّ راح يتفحّص عن دليل يوصل إليها فلم يجد دليلاً، إلّا بتحريف كلام الله وتأويله السخيف.

١٩٥

الطرق المقررة في محلها.

وإن شئت قلت: التدبير هو التفكير في عاقبة الاُمور ودبرها، كما قال سبحانه:( فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ) ( النازعات ـ ٥ ) أي الملائكة الموكلة بتدبير الاُمور.

وقوله سبحانه:( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) ( محمد ـ ٢٤ ).

وقوله سبحانه:( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ ) ( ص ـ ٢٩ ) إلى غير ذلك.

أو ليس تفسير التدبير بالنزول عند ذاك يكون تفسيراً بالرأي الذي نهى عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأوعد عليه النار وقال: من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار(١) .

وأمّا الثاني: فلأنّ الأمر في القرآن لم يستعمل بمعنى الشريعة والأحكام الالهية من واجب وحرام ومكروه ومستحب ومباح، وسائر الأحكام الوضعية الجارية في العقود والايقاعات والسياسات.

هؤلاء هم أصحاب المعاجم وأعلام اللغة، لا تجد أحداً منهم فسر الأمر بالشريعة بل تدور معانية بين الشأن والشيء والتكليف.

سؤال: إذا اعترفتم بأنّ التكليف من معانيها، كما يقال أمرته: إذا كلّفته، فيصح تفسيره بالشريعة، إذ الشريعة عبارة عن تكاليف يوجهها الشارع إلى عباده ؟

الجواب: انّ حمل الأمر في الآية على الأمر والتكليف التشريعي خلاف مساق آيات السورة، بل خلاف صريح سائر الآيات الواردة في هذا المضمار فلحاظ السياق يدفعنا إلى أن نحمل الأمر على التكويني الذي هو عبارة عن إرادته الفعلية ومشيئتة التكوينية الجارية في صحيفة الكون والوجود، فإنّ كل ما يسيطر على العالم، من نظام وسنن وقوانين، كلّها بأمر تكويني وإرادة فعلية منه سبحانه كما يصرح به قوله سبحانه:( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ *فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ

__________________

(١) حديث متفق عليه ورواه الفريقان بصور مختلفة.

١٩٦

وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ( يس: ٨٢ ـ ٨٣ ).

حصيلة البحث :

انّ هنا قرائن ثلاث لابد من البحث عنها، كي نقرّب إلى الأذهان كيفية حمل لفظ الأمر على الأمر التكويني، أعني النظم والسنن الجارية في دائرة الكون والقوانين المكتوبة على جبين الدهر ودونك هذه الشواهد :

١. لفظ التدبير، فقد عرفت أنّه عبارة عن الإدارة على وجه تقتضيه المصلحة والحكمة، فهو سبحانه يدبر الخلق بعامة أجزائه من السماء إلى الأرض، على وجه تقتضيه المصلحة، فسبحان الذي خلق الأشياء وأتقنها وأحكمها ،. ودبرها على وفق الحكمة، فلا السماء تسقط على الأرض، ولا الأرض تنخسف بنا، ولا الشمس تظللنا دائماً ولا الظلمة تحيط بنا سرمداً، إلى غير ذلك من سنن ونظم

٢. سياق ما تقدمها من الآيات، فإنّ محور البحث في سابقها، هو خلق السماوات والأرض واستوائه سبحانه على العرش، ودونك الآية المتقدمة عليها :

( اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ) ( السجدة ـ ٤ ). « يدبر الأمر » من السماء إلى الأرض أفلا تفهم من تقارن الآيتين أنّ اللام في الأمر إشارة إلى أمر الخلقة، وأنّ الله سبحانه خلق السماوات والأرض وما بينهما في أيام وأدوار مخصوصة ولم يكتف سبحانه بأصل الخلقة، بل استوى على عرش ملكه فدبّر أمرها على وجه توجبه الحكمة وتقتضيه المصلحة، وأنّه سبحانه يدبّر أمر الخلق، أي خلق تتصور وينفذه على وجهه، حتى أنّه سبحانه توخياً للتوضيح شبّه المقام الربوبي الذي ينزل منه التدبير، ويصدر منه الحكم بعرش الملك البشري الذي يجلس الملك عليه فيصدر منه أوامره لتدبير اُمور الملك، غير أنّ أوامره طلبات عرفية اعتبارية، ولكن أوامره سبحانه، أوامر تكوينية، لا يقوم بوجهها شيء، فما قال له كن، فيكون، بلا تراخ ولا تمرّد.

١٩٧

٣. الآيات المنزّلة في هذا المضمار، فإنّ هذه الآية ليست فريدة في بابها فقد ورد في هذا المضمون ( أي تدبير أمر الخليقة ) آيات اُخرى كلها تهدف إلى ما أوضحناه، وهو أنّ تدبير الخلق بعد إيجاده من شؤونه سبحانه، من دون نظر إلى الشرائع وتجديدها، ودونك الآيات :

( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إلّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) ( يونس ـ ٣ ).

وقوله سبحانه:( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ ) ( يونس ـ ٣١ ).

وقوله سبحانه:( اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) ( الرعد ـ ٢ ).

نعم هذه الآيات ساكتة عن عروج الأمر وصعوده في المقدار الذي صرحت به هذه الآية، ولا يوجب ذلك فرقاً جوهرياً بين أهدافها ومراميها.

ومن ذلك تقف على أنّ الأمر في قوله سبحانه:( أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) ( الأعراف ـ ٥٤ ) هو أمر الخليقة، أي هو الذي خلق الأشياء كلّها، وهو الذي صرفها على حسب إرادته فيها، فما عن بعض أعلام العرفان والفلسفة من تسمية المادي والماديات بعالم الخلق، والمجردات والابداعيات بعالم الأمر، استناداً إلى هذه الآية ضعيف جداً، وإن كان تقسيم الموجود إلى المجرد والمادي، صحيحاً لا ريب فيه.

وأمّا الثالثة: فلأنّ تفسير العروج بإندراس الشريعة ونسخها باطل جداً، لأنّ العروج عبارة عن ذهاب في صعود كقوله سبحانه:( تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ) ( المعارج ـ ٤ ) وجعله كناية عن انتهاء أمد الشريعة وبطلانها واندراسها من الكنايات البعيدة التي يجب تنزيه القرآن عنها، إذ لا معنى لعروج الشريعة المنسوخة إليه سبحانه

١٩٨

إذ لا يفهم من نسخها إنّها تعرج إلى السماء، بل كل ما يستفاد، إنّها تعطل عن العمل بها والسير عليها، لا إنّها تعرج إليه سبحانه.

أضف إليه أنّه لو كان مراد المولى سبحانه، هو الإخبار عن تجديد كل شريعة بعد ألف عام، لاقتضى ذلك أن يعبّر عن مقصوده بعبارة واضحة يقف عليها كل من له إلمام باللغة العربية، ولماذا جاء بكلام لم يفهم منه مراده سبحانه إلّا بعد حقب وأجيال إلى أن وصلت النوبة لكاتب مستأجر فكشف الغطاء عن مراده سبحانه وقد خفى على الاُمّة جميعاً، وفيها نوابغ العربية وفطاحلها، حتى تفرّد هو بهذا الكشف ؟!

مشكلة المفتتح والمختتم :

بقيت في المقام مشكلة، وهي ابتداء تلك المدة واختتامها، وقد حار فيها فاختار أنّ مبدأها هو عام غيبة الإمام المنتظر، حتى يتطابق ختم ذلك اليوم الذي مقداره ألف سنة مع ظهور الباب(١) ولما رأى أنّ ذلك تفسيراً منه بالرأي، اعتذر عن ذلك بأنّ الإسلام لم يكتمل إلّا عام غيبة الإمام، حيث حوّل الأمر إلى الفقهاء.

وأنت خبير بأنّ ما اعتذر به يتناقض مع صريح القرآن القاضي باكمال الدين بلحوق النبي بالرفيق الأعلى، فقال سبحانه:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) ( المائدة ـ ٣ ).

ولو قال إنّ الآية ناظرة إلى الاكتمال من جانب الاُصول وتدعيم مبادئ الإسلام واُسسه بنصب الولي، وأمّا الإكتمال من جانب الفروع فقد امتد بعد لحوق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالرفيق الأعلى، إلى عشرات السنين من عهود الأئمّة وأعصارها إلى غيبة وليّه، فينتقض كلامه من جانب آخر، فإنّه فسّر عروج الأمر بالنسخ التدريجي للشريعة، وجعل النسخ عبارة عن ترك العمل بها واندارسها في مراحل الحياة، وعلى ذلك يجب أن يكون مبدأ

__________________

(١) فقد اتفقت غيبة الإمام عام ٢٦٠، وادّعى الباب ما ادّعى، بعد مضي ألف سنة من ذلك حيث كان خروجه سنة ١٢٦٠.

١٩٩

النسخ التدريجي عام فوت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ العصور التي جاءت من بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم تكن عصوراً ازدهر فيها الإسلام بل كانت عهد الجور والعدوان، حيث تآمرت قريش على تداول الخلافة في قبائلها واشرأبت إلى ذلك اطماعها، فتصافقوا على تجاهل النص، وأجمعوا على صرف الخلافة من أوّل يومها عن وليّها المنصوص عليه إلى غير ذلك من الملمّات والنوازل.

ولو كان ظهور العيث والفساد في المجتمع الإسلامي ورفض الشريعة في مراحل الحياة، ملازمة للنسخ التدريجي للشريعة، فليكن عهد يزيد الخمور والفجور من هذه العهود التي أخذت تعربد بلسان قائله :

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

أفلا تعجب من الكاتب، أنّه جعل تلك العهود المظلمة التي امتدت عشرات السنين وكانت وبالاً على الإسلام من العصور الزاهرة، مع أنّه أخرج عهود القسط والعدل الموعود بخروج الإمام الثاني عشر ( التي ترفرف فيها أعلام القسط والعدل وتخفق رايات الحق والهداية في كل صقع ) من الأصقاع التي ينمو فيها الإسلام، ويزدهر. كبرت كلمة تخرج من أفواههم.

وأمّا البحث عن هدف الآية وأنّه سبحانه ماذا يريد من قوله:( يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ) فله منّا بحث آخر، وسوف نعطي حقه عند البحث عن المعاد في القرآن الكريم، فإنّ اليوم الذي يعادل ألف سنة من الآيام الاخروية.

الشبهة السادسة(١) :

* ينص القرآن على أنّ الإسلام شريعة عالمية، وأبدية وأنّ بالإسلام أقفل باب الشرائع، ونسخ جميعها.

__________________

(١) هذه الشبهة لها صلة بعالمية الإسلام وصلة بخاتميته ولأجل ذلك جعلناها آخر الشبهات وفصّلنا الكلام فيها بما لا يدع لمشكك شك.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274