الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ

الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ21%

الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 274

الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ
  • البداية
  • السابق
  • 274 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 137392 / تحميل: 6156
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ

الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ

مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

العراقية. تصنع في النجف النواعير الحديدية التي ترفع الماء من الأنهر بطريقة فنية لسقي المزارع ، وهذه تصرف في ضواحي النجف(١) .

وإن كانت النجف قد شهدت تدنياً في الزراعة والصناعة فانها ازدهرت ازدهاراً ملحوظاً في علاقاتها التجارية مع البلاد العربية ، وذلك بسبب موقعها الجغرافي ولتوسطها بين بادية الشام والجزيرة من جهة وبين بغداد والبصرة من جهة اخرى. فقديماً كان التجار القادمون من الشام والحجازيأتون ببضائعهم الى النجف ليجدوا أمامهم بضائع الهند القادمة من البصرة وبضائع البلاد الأخرى القادمة من بغداد.

وعن موقع النجف التجاري يقول الدكتور مصطفى جمال الدين : « تقع [ النجف ] بين الريف العراقي المنتشر على ضفاف الفرات ، وبين البادية الممتدة من العراق الى الحجاز ، وهي السوق المشتركة بين عشائر الريف وعشائر البادية ، فمنتوجات ( المشخاب ) و ( الشامية ) و ( العباسية ) و ( الكوفة ) وغيرها من الثمر ، والحنطة ، والشعير ، والرزّ ، تتجمع في ( خانات ) النجف لتُصدَّر بعد ذلك إلى بغداد ، والبصرة ، والموصل ، ومنتوجات البادية من ( القادسية ) و ( الحيرة ) من الغنم والصوف والوبر ، والسمن ، والجلود ، ترد الى ( مَناخة ) النجف لتصدَّر الى مناطق العراق الاخرى »(٢) .

وظلّت النجف على هذه الحال بالرغم من التطورات التي شهدتها في أوائل القرن العشرين من انهيار نظام الحكم العثماني واستبداله بالحكم البريطاني وما رافقه من تطور في شتى مرافق الحياة. فكان لابد من الاتصال بالعالم الجديد

__________________

١ - ماضي النجف وحاضرها ، ج ١ ، ص ٤٠٣.

٢ - مصطفى جمال الدين : الديوان ، ص ١٤.

٢١

والحضارة الجديدة ، وكان لابد من التطلع الى إنماء في الحياة الاقتصادية والاجتماعية واللحاق بالركب الحضاري الجديد. الاّ أن ذلك لم يحصل في النجف ولم يلق ترحيباً من قبل أبنائها ، وذلك لأنها كانت ولا تزال مدينة شديدة المحافظة والانغلاق ، وقد ساعد على تأصيل هذه الميزة فيها محيطها الضيق ، ومناخها الصحراوي القاسي ، ومركزها الديني الهام.

ويفصّل الدكتور مصطفى جمال الدين الحياة الاجتماعية في هذه المدينة المحافظة فيصفها بأنها ؛ « مدينة متحفظة أشدّ أنواع التحفّظ ، فالتزمّت هو السِمَةُ البارزة في المجتمع النجفي ، فلا يوجد في هذه المدينة ما كان يوجد في غيرها من المدن ، كالمسارح ، والنوادي ، والسينمات وأمثال ذلك ممّا يلهي الشباب عن دراستهم ، أو يُخرجهم عن تحفّظهم ، بل حتى ( المقاهي ) الصغيرة المبثوثة في بعض أنحاء المدينة - وهي خالية من كل شيء عدا الشاي ، والقهوة ، والنرجيلة ، وبعض المرطبات - يمتنع علينا ، نحن شباب الدراسات الدينية ، الجلوس فيها. وأذكر أنه لا يوجد فينا من يملك جهاز ( راديو ) مثلاً ، لذلك كنا في الأربعينات ننزوي في صالة جمعية ( الرابطة الأدبية ) لنستمع أخبار الحرب العالمية الثانية من ( الراديو ) الذي أهداه لها الملك غازي مع المكتبة الثمينة »(١) .

وبغضّ النظر عن السلبيات التي قد تبعثها مثل هذه البيئة المقيدة ، فإنّ الجانب الايجابي قد يطغى عليها في كثير من الأحيان. فقد عرف النجفي بصفات كريمة مثل حسن الضيافة وكرم الطبع وسخاء النفس التي اصبحت جزءاً من طبيعته لا يمكن له الفكاك عنها. وهذه صفات قلّما نجدها في المدن الكبرى. وكذلك اتصف النجفي - ولكثرة احتكاكه بالآخرين - بسرعة التعرف وقوة

__________________

١ - المصدر السابق ، ص ١٧.

٢٢

الامتزاج التي تحصل عادة من رحابة الصدر ، ودماثة الخلق المتصفة برقة الطبع وخفة الروح. وثمة خصيصة اخرى تجلّت وبوضوح في طبع النجفي وهي نخوته وفتوته وسرعة اجابته في النجدة. وقد انعكست هذه الظاهرة على حياته الاجتماعية وتجسدت في تعامله وسلوكه مع أبناء وطنه(١) .

والطريف أنّ مجتمعاً منغلقاً ومحافظاً كالنجف كان من أكثر المجتمعات انفتاحاً في تقبّله النقد السليم والفكرة السليمة ، ولعل ذلك يعود إلى عاملين ، كما يقول الدكتور مصطفى جمال الدين ، هما : القراءات المتنوعة للكتب والصحف والمجلات التي كانت ترد النجف من مختلف البلدان كمجلة العرفان والمقتطف والمقطم والهلال وغيرها من صحف العالم الاسلامي ، بالاضافة الى الصحف والمجلات التي كانت تنشر في النجف وثقافات الوافدين على النجف من مختلف الأقطار الاسلامية للتحصيل في مدارس النجف الدينية فقد ساعد هذان العاملان على بث روح المنطق والدرك المتقابل بالاضافة الى الجرأة والشجاعة في ابداء الرأي الصريح والنقد البنّاء مما يندر تحققه في المجتمعات المنغلقة والمتزمتة. والشواهد في هذا الصدد كثيرة ، أذكر على سبيل المثال موقف الشيخ صالح الجعفري(٢) الذي وجه نقداً لاذعاً لوفود المسلمين المجتمعين في مكة لاداء مناسك الحج ، مذكراً إيّاهم بصمود الزعيم الهندي ( غاندي ) في تحديه الاستعمار الذي قاد الى تحرير الهند. يقول مخاطباً :

قِفْ في ( مِنىً ) واهتفْ بمز

دحم القبائلِ والوفودِ

حُجّوا فلستم بالغين

بحجّكم شَرَفَ الهنودِ !

__________________

١ - للتوسع ينظر شعراء الغري ، ج ١٢ ، ص ٤٥٤ - ٤٨١.

٢ - صالح الجعفري ( ١٩٠٨ - ١٩٧٩ م ) أديب معروف وشاعر شهير. له ديوان شعر. ( شعراء الغري ، ج ٤ ، ص ٢٩٦ ).

٢٣

حَجُّوا الى استقلالهم

وَحَجَجتُم خوفَ الوعيد

وعبادة الأحرار أفـ

ـضلُ من إطاعاتِ العبيد !(١)

ولدى حديثنا عن الحياة الاجتماعية في النجف لابد أن نشير الى المرأة وموقعها الاجتماعي في هذه البيئة المحافظة. فالذي يتبادر الى الذهن للوهلة الاولى هو أنّ المرأة في المجتمع الاسلامي المحافظ ملتزمة بأحكام التشريع الاسلامي في حياتها الخاصة والعامة. ولعل المرأة النجفية اكثر نساء العراق التزاماً بأحكام الشريعة الاسلامية ، وذلك لرسوخ العقيدة الدينية في أوساط المجتمع النجفي وحرص أبنائه على توظيف الأحكام الإسلامية في شؤون الحياة كافّة.

كانت المرأة النجفية تشكل جزءاً من بيتها ، قلّما تختلط بغير ذويها الاّ في المناسبات الدينية والمآتم الحسينية التي تقيمها النساء ، أو في حفلات الأعراس. وكانت إذا أرادت الخروج من بيتها عند اقتضاء الحاجة لبست عباءة طويلة تستر تمام بدنها دون أن تُظهِر زينةً أو تحدِث إثارة. فهي تحرص على حجابها أشدّ الحرص وترى فيه سلامة دينها وكمال شخصيتها وتمام تربيتها وأخلاقها.

وحين ظهرت الدعوة إلى تعليم المرأة وإنشاء مدارس للبنات ، جوبهت في بادىء الأمر بمعارضة شديدة ورد فعلٍ عنيف من قِبَل الناس ، لأنهم كانوا يعتقدون بانّ خروج المرأة من بيتها وممارسة التعليم في الخارج يُبعدها عن القيم الأخلاقية السائدة والأعراف الاجتماعية الموروثة ممّا قد يؤدي في النهاية إلى

__________________

١ - مصطفى جمال الدين : الديوان ، ص ٢٣ ، ٢٤.

٢٤

فسادها وخروجها عن طريق العفّة والحياء.

ومع مرور الزمان انشق الناس في امر تعليم المرأة الى فريقين. فريق ايّد فكرة التعليم من خلال التمسك بالشريعة الاسلامية والمحافظة على الشؤون الدينية ، وفريق دعا الى التعليم من خلال تبرّج المرأة وسفورها. وقد لعب الشعراء دوراً هاماً في قيادة الفريقين. ففي النجف اهتم شعراؤها بفكرة التعليم من خلال محافظة المرأة على سترها وحجابها ، بينما راح بعض الشعراء كالرصافي والزهاوي يدعون الى فكرة التعليم من خلال تبرج المرأة وسفورها.

والجدير بالذكر انّ بعض علماء النجف أيّدوا مسألة تعليم المرأة وتحمسوا لهذه الفكرة شريطة أن تكون ضمن اطار التعاليم الاسلامية والأعراف الاجتماعية السائدة ، ومن اولئك الشيخ محمد رضا الشبيبي(١) الذي ضجّ من تفشي الجهل والخمول بين الفتيان والفتيات :

كم فتىً في العراقِ أضحى مُقلاًّ

من كمالٍ وكم فتاة مُقلَّه

ركسا في غيابة الجهل حتى

لم يسع جهلها المحيط وجهله

قد تربّى عن النهى مستقلاًّ

وتربت عن الحجا مستقلّه(٢)

وكذلك فعل الشيخ صالح الجعفري حين دعا الى تعليم المرأة ومناصرتها في إحقاق حقوقها المشروعة في المجتمع. يقول من قصيدة :

هذّبوها فانها بشر

لكمال الحياة تفتقر

__________________

١ - محمد رضا الشبيبي ( ١٨٨٧ - ١٩٦٥ م ) عالم أديب ، وسياسي وطني ، وشاعر معروف ، له ديوان شعر ومؤلفات في الدين والتاريخ والأدب. ( معجم رجال الفكر والأدب في النجف ، ج ٢ ، ص ٧١٨ ). [ بتصرف ].

٢ - ديوان الشبيبي ، ص ٥٥.

٢٥

النواميس بينكم شرع

فهي انثى وآخر ذكر

الكي تستحيل حامضة

في زوايا البيوت تدخر

كيف يعطي ثماره شجر

في الحصى والتراب منقبر

وأدوها وحقها غمطوا

ربي رحماك انّهم كفروا

زعموا انهم بها ربحوا

لا وعينيك إنهم خسروا

حواست جمع كن

أهملوها لو أنهم شعروا(١)

وقد تبارى غير واحد من الشعراء في هذا الشأن وطالبوا بتعليم المرأة واصلاح بعض النظم الاجتماعية. من بينهم الشاعر عبد المنعم الفرطوسي الذي راح ينتهز كل فرصة ليعلن ثورته على التقاليد السقيمة التي تجرّ البلاد والأمة الى الضياع والتهلكة :

أفيقوا يا بني وطني عجالا

فما يجدي الرقادُ النائمينا

وهبّوا فيه للاصلاح كيما

نراكم للتمدن ناهضينا

أليس ثقافة الجنسين فرضاً

تقوم به الرجال المصلحونا

وفي نور المعارف خير هادٍ

طريق يقتفيه السالكونا

جمالُ الشعب يوماً أن نراه

يسير الى الثقافة مستبينا

وانّ ثقافةَ الاحلام نورٌ

به يُهدى الشبابُ الواثبونا(٢)

وفي هذا الشأن أيضاً يقول الشاعر محمد مهدي الجواهري الذي طالب بفتح مدرسة رسمية للبنات وذلك عام ١٩٢٩ م :

علّموها فقد كفاكم شنارا

وكفاها أن تحسب العلم عارا

__________________

١ - علي الخاقاني : شعراء الغري ، ج ٤ ، ص ٣١٣.

٢ - ديوان الفرطوسي ، ج ١ ، ص ٢٢٩.

٢٦

وكفانا من التقهقر أنّا

لم نعالج حتى الأمور الصغارا

هذه حالنا على حين كادت

أمم الغرب تسبق الأقدارا

أنجب الشرق جامداً يحسب المر

أة عاراً ، وأنجبت طيارا

تحكم ( البرلمان ) من أمم الدنيـ

ـا نساء تمثل الأقطارا

ونساء العراق تمنع أن تر

سم خطاً أو تقرأ الأسفارا(١)

وهكذا استمرت الدعوات والمطالبات ردحاً من الزمن حتى أصبح تعليم المرأة أمراً أساسياً ، وحقاً من حقوقها المشروعة ، وجزءاً لا يتجزأ من بناء المجتمع المتحضر الذي يصبو إلى الكمال والحياة الفضلى.

٣ - الحياة السياسية :

شهد العراق منذ مطلع القرن العشرين ثلاثة من أنظمة الحكم : الحكم العثماني ، والحكم الملكي ، والحكم الجمهوري. والذي يهمنا في هذا البحث هو تسليط الضوء على الأجواء السياسية التي مرّ بها العراق في كل من العهدين الملكي والجمهوري ، حيث الفترة التي عاشها الشاعر وتأثر بأحداثها وتقلباتها السياسية. وتمهيداً للبحث لابد من الاشارة الى الخلفيات التاريخية للأحداث التي أطاحت بالنظام العثماني وأقامت على أنقاضه حكماً ملكياً في العراق.

خضع العراق منذ عام ١٥٣٤ م للهيمنة العثمانية مدة تقارب الأربعمائة سنة. وقد استمرت هذه الهيمنة حتى عام ١٩١٨ م حين اندلعت نيران الحرب العالمية الاولى ودخل الأتراك طرفاً مواجهاً للأنجليز وحلفائهم. فانجرّ العراق دون أن

__________________

١ - ديوان الجواهري ، ج ١ ، ص ٤٦٢.

٢٧

يشاء الى مواجهة المستعمر الجديد الذي راح يقتطع جزءاً فجزءاً من أراضيه ليعلنها مستعمرة له. وقد انبرى علماء الشيعة في النجف لهذا الاحتلال السافر وعاضدوا الأتراك بالرغم من الاضطهاد العنصري والطائفي الذي أعمله العثمانيون بحق الشيعة ، الاّ أنّ علماء الدين رأوا في الغزو البريطاني خطراً اكبر يهدد الاسلام والأمة الاسلامية ، فافتوا بوجوب الدفاع عن بيضة الاسلام والوقوف بجانب الأتراك ضد المحتل الانجليزي(١) . فاشتركت جموع غفيرة من مجاهدي النجف مع الجيش العثماني بقيادة علماء الدين ، أمثال السيد محمد سعيد الحبوبي(٢) ؟ الذي قاد جيشاً جرّاراً الى جبهة ( الشعيبة ) بالبصرة ، حيث أبلى بلاءً حسناً في مجابهة المحتل الغاصب.

لكن الأتراك لم يحفظوا هذا الصنيع لأهل النجف ، بل راحوا يطاردون الفارّين من الخدمة العسكرية ، ويوسعون الأهالي ظلماً وتنكيلاً ، بالاضافة إلى أنّهم قرروا مصادرة محتويات « الخزائن » الموجودة في العتبة المقدسة للانفاق على شؤون الحرب ، واجبار الشباب على الخدمة في الجيش. فبدأوا بتفتيش البيوت ليلاً وتعرضوا للنساء بحجة انّ الرجال كانوا يختفون بزي النساء تهرباً من الجندية. فضاق النجفيون ذرعاً بهذه الأعمال الشنيعة ، وهبّوا غاضبين ضد الأتراك ، وقاتلوهم قتالاً عنيفاً حتى استتب لهم الحكم في نهاية الأمر(٣) .

وظل الأتراك مطاردين من قبل الناس حتى انحسر ظلهم عن العراق تماماً

__________________

١ - جعفر آل محبوبة : ماضي النجف وحاضرها ، ج ١ ، ص ٣٤١.

٢ - محمد سعيد الحبوبي ( ١٢٦٦ - ١٣٣٣ ه ) من علماء النجف المجتهدين ومن فحول الشعراء. له ديوان شعر وكتابات في الفقه والأصول. ( معجم رجال الفكر والادب في النجف ، ج ١ ، ص ٣٨٧ ).

٣ - جعفر الدجيلي : موسوعة النجف الأشرف ، ج ٤ ، ص ٢٩٤.

٢٨

يوم اعلنت الهدنة في الأول من تشرين الثاني عام ١٩١٨ م(١) وهكذا تم تقويض السلطة العثمانية لتحل محلها سلطة الانجليز التي لم تكن هي الأخرى بأقل من سابقتها ظلماً وعدواناً.

وعن هذه الفترة الانتقالية التي عاشها العراق يذكر الشيخ محمد رضا الشبيبي في قصيدة له بعنوان « شكوى وعتاب » سياسة الأتراك التعسفية ضد العراق وأبنائه ، وما آلت اليه هذه السياسة من تفشي الجهل والفساد في أوساط المجتمع :

لا الجبن ثار فأطغانا ولا البخل

الثائر الحقد بالأقوام والدخل

لو كان مابهم جبناً لما انتقموا

وفي طريق بلوغ النقمة الأجل

السيف قرّب منا كل قاصية

لا المنطق الفصل من قوم ولا الجدل

ماذا نؤمل في ادراك غايتنا

من السياسة كلاّ إنها حيل

يا من يعز علينا أن نؤنبهم

في حيث لا ينفع التأنيب والعذل

جفوتمونا وقلتم : نحن ساستكم

مُنىً مطيتها الإخفاق والفشل

كم تنبذون لنا ذنباً فنعذركم

لقد تقطعت الأعذار والعلل

أما صفحنا عن الماضي لأعينكم

أما أديلت لكم أيامنا الأول

أما استجيشت كما شئتم كتائبنا

حتى تفايض منها السهل والجبل

أما مشت تذرع الدنيا أما انقطعت

بها المتايه والغيطان والسبل

أما أطاعوا أما برّوا أما عطفوا

أما احتفوا بمواليهم أما احتفلوا

بالله لا تجرحوا أكبادنا ودعوا

جراح ( برقة ) و ( البلقان ) تندمل

ويتابع الشاعر سرد ممارسات العثمانيين حتى يصل الى قومه فيتحدث

__________________

١ - عبد الرزاق الحسني : العراق قديماً وحديثاً ، ص ٣٠.

٢٩

عنهم قائلاً :

قوم من العرب وخز النحل حظهم

وحظ قوم سوانا الأري والعسل(١)

عند المغانم لا ندعى ، ويفدحنا

من المغارم ثقل ليس يحتمل

تأبى الحوادث إلاّ أن نملكم

ولا - ودين التآخي - ما بنا ملل

أين الرهين بأموال لنا ذهبت

ومن يُقيد بإخوان لنا قتلوا(٢)

إمّا شهيد معلَّى فوق مشنقة

أو موثق بحبال الأسر معتقل

يا من بظل بني عثمان قد نشأوا

أضحيتم ، انّ ظل القوم منتقل(٣)

وأخذ النفوذ البريطاني يتسع شيئاً فشيئاً في ربوع العراق بعد أن سقط الجنوب وتمت السيطرة على بغداد. أمّا النجف فبقيت بأيدي أهلها سنتين كاملتين لم يتدخل البريطانيون في شؤونها. الاّ انهم عمدوا بعدها إلى ارسال ( الكابتن مارشال ) حاكماً على النجف مع عدد من الحراس والجنود. وقد كان هذا الحاكم سيّء المعاملة ، شديد التنكيل بأهالي النجف ، لم يترك اسلوباً في العنف والاضطهاد الاّ اقترفه. مما حدا بالنجفيين الى التفكير في الدفاع عن بلدهم والتخلص من أسر المحتل. فألّفوا ( جمعية سرية ) باشراف ثلة من علماء الدين على رأسهم السيد محمد علي بحر العلوم والشيخ محمد جواد الجزائري(٤) وقد أسهمت هذه الجمعية مساهمة كبرى في إضرام نار الثورة وإشعال فتيلها ضد الغازي المحتل.

وفي ليلة يوم الثلاثاء الموافق ٦ جمادى الآخرة سنة ١٣٦٦ ه / ٩ آذار سنة ١٩١٨ م اجتمع عدد من ثوار الجمعية وقرروا القيام بعملية قتل الكابتن مارشال ،

__________________

١ - الأرْي : العسل. ( لسان العرب ، ج ١ ، ص ١٢٧ ).

٢ - يُقيد : من القَوَد بمعنى القصاص. ( لسان العرب ، ج ١١ ، ص ٣٤٢ ).

٣ - ديوان الشبيبي ، ص ٢٧.

٤ - جعفر آل محبوبه : ماضي النجف وحاضرها ، ج ١ ، ص ٣٤٤.

٣٠

وتم لهم ما ارادوا. وعلى اثر هذا الحادث تحركت حكومة بغداد فأرسلت جيشاً جراراً يضم خمساً وأربعين ألف جندي يقوده ( الكابتن بلفور ). فطوق المدينة بالجنود ، وحفر الخنادق ، وقطع عنها الماء ، وحاصرها من جميع الجهات. فدارت بين الثوار وجنود المحتلين معارك طاحنة حصدت من الطرفين نفراً كثيراً.

واستمر الحصار على البلدة أكثر من أربعين يوماً ، وأشرف الأهلون على مجاعة ، فطالبوا السلطة بفك الحصار والعفو عن الثوار ، الاّ انّ السلطة المحتلة فرضت لفك الحصار شروطاً لم يجد النجفيون بُداً من تنفيذها. وبذلك تم للبريطانيين الغلبة فقبضوا على قادة الثورة واعدموا منهم عدداً ونفوا آخرين.

وعن هذه الثورة وما ترتب عليها من معطيات ثمينة يقول جعفر آل محبوبة : « ونستطيع أن نقول بلا مجازفة إنّ ثورة النجف هذه هي الخطوة الأولى للقضية العراقية والبذرة الوحيدة لنتاج الفكرة الفراتية واتجاهها نحو استقلال العراق. إذ النجف هو المركز الروحي والعاصمة الكبرى لعموم الشيعة وقد أعطت بموقفها هذا درساً شافياً ومنهجاً واضحاً نفعها في نيل مآربها وتحقيق رغائبها في فك شعبها من رق الاستعمار. ومما ساعد على ذلك أن فكرة الحرية والاستقلال وإحياء المجد العربي قد تغلغلت في الأدمغة ونضجت وشعر بها أكثر العراقيين فلذلك نجحت نجاحاً باهراً وتقدمت تقدماً غريباً »(١) .

وقد وصف الشيخ محمد جواد الجزائري(٢) ثورة النجف بقصيدة رائعة قال فيها :

مددنا بصائرنا لا العيونا

وفزنا غداة عشقنا المنونا

__________________

١ - المصدر السابق ، ج ١ ، ص ٣٥٠.

٢ - محمد جواد الجزائري ( ١٢٩٨ - ١٣٧٨ ه ) عالم مجاهد ، وشاعر معروف. ( شعراء الغري ، ج ٧ ، ص ٣٥٠ ).

٣١

عشقنا المنون وهمنا بها

وعفنا أباطحنا والحجونا

وقمنا بها عزمات مضات

أبت أن نسيس الردى أو نلينا

هي الهمم الغر لم ترض بالسـ

ـماكين مهما استفزت قرينا(١)

رعينا بها سنة الهاشمي

نبي الدى ، والكتاب المبينا

وصنا كرامة شعب العراق

وكان لعلياه حصناً مصونا

وخضنا المعامع وهي الحمام

ندافع عن حوزة المسلمينا(٢)

وجحفل أعدائنا الانجليز

يملأ سهل الفلا والحزونا

إلى أن يقول :

وجزناكما شاء تلك الحزو

ن ننتظر الفتك حيناً فحينا

وأرجلنا طوع قيد الحديد

تسيل دماً يستفز الرصينا

ولم نلو للدهر جيد الذليل

وإن يكن الدهر حرباً زبوناً(٣)

وماضامنا الأسر في موقف

أطعنا عليه الرسول الأمينا

وما ضامنا ثقل ذاك الحديد

ونحن بحسن الثنا ظافرونا

ولم يُزْر بالحر غِلُّ اليدين

إذا ما قضى للعلاء الديونا(٤)

واستمر وهج الثورة في التأجج بالرغم من فشل ثورة النجف عام ١٩١٨. فكانت فكرة التحرر تأخذ مكانها يوماً بعد آخر في أذهان الناس. وبدأ العمل بالتمهيد لثورة عارمة تعم العراق كله ويشارك فيه الشعب بجميع شرائحه. ودائماً كانت النجف مركز انطلاق الثورة والفتيل الملتهب لجميع الانتفاضات.

__________________

١ - السماكان : نجمان نيّران. ( لسان العرب ، ج ٦ ، ص ٣٦٩ ).

٢ - المعامع : شدة الحرب. ( لسان العرب ، ج ١٣ ، ص ١٤٤ ).

٣ - حرب زَبُون : تَزْبِنُ الناس أي تصدِمُهم وتدفعهم. ( لسان العرب ، ج ٦ ، ص ١٦ ).

٤ - ديوان الجزائري ، ص ١٦.

٣٢

والنجف كما وصفها المؤرخ عبد الرزاق الحسني : « كانت قذىً في عين السياسة البريطانية بسبب مركزها الديني الواسع النطاق ، وتأثير علمائها في جماهير الشعب ، فقد كانت أول بلدة أحسّت بثقل السلطة الأجنبية ، وأول مدينة عراقية فكرت بالتخلص من الاستعمار البريطاني ، بالنظر الى ما كانت قد تشبعت به من روح الحرية والنزوع الى الديمقراطية ، وبسبب ما كانت تلقاه من دروس متواصلة عن فلسفة نهضة الامام أبي عبد الله الحسين بن عليعليهما‌السلام ، وبسبب كونها مهد العلماء ومركز الروحانية »(١) .

وبدأ التحرك السياسي للشعب بالمطالبة بحقوقه واستقلال بلاده وذلك عن طريق تنظيم المضابط والرسائل وارسالها الى سوريا والحجاز للنظر في الامر. الاّ أن ذلك لم يجد نفعاً ، فقررت الجهات العاملة في الحقل الوطني بمظاهرات سلمية تحت شعار الدين ، بمعنى أن تكون المناسبات الدينية وحفلات المولد النبوي اجتماعات سياسية لبحث القضية الوطنية والمطالبة بالحقوق المشروعة. واستمر هذا الغليان حتى كانت محاولة القبض على الزعماء السياسيين في بغداد في الثاني عشر من آب عام ١٩٢٠ م ، فتقرر القيام بالحركة المضادة(٢) .

وهكذا أخذ العمل السياسي ضد الانجليز يسير نحو التصعيد ، وبتوجيه من علماء الدين ، وخاصة بعد فتوى الامام محمد تقي الشيرازي التي جاء فيها : « المطالبة بالحقوق واجبة على العراقيين ويجب عليهم في ضمن مطالبتهم رعاية السلم والأمن ، ويجوز لهم التوسل بالقوة إذا امتنع الانجليز عن قبول مطالبهم »(٣) .

واندلعت الثورة العراقية الكبرى في الثلاثين من حزيران عام ١٩٢٠ والتي

__________________

١ - الثورة العراقية الكبرى ، ص ٦٩ ، ٧٠.

٢ - المصدر السابق ، ص ١٩٠.

٣ - عبد الصاحب الموسوي : حركة الشعر في النجف ، ص ٩٠.

٣٣

عرفت فيما بعد بثورة العشرين ، يقودها علماء الدين ورؤساء العشائر والزعماء السياسيون ومن خلفهم كافة شرائح المجتمع. وقد ساهم الشعراء والادباء وخاصة شعراء النجف مساهمة فعالة في إشعال لهب الثورة في أرجاء الوطن ، وتشجيع الأمة على المضي في ثورتها حتى النصر والظفر(١) .

ويعزو المؤرخ عبد الرزاق الحسني قيام ثورة العشرين الى عوامل خارجية وداخلية : فالمشروطية في ايران ( ١٩٠٥ م ) ، والانتفاضة الدستورية في تركية ( ١٩٠٨ م ) ، والثورة الحجازية عام ١٩١٦ م ، والوثبة المصرية في عام ١٩١٩ م ، وقيام الحكومة الفيصلية في الشام عام ١٩٢٠ م ، وعبث الحلفاء قبلئذ بالعهود التي قطعوها للعرب ، كانت كل هذه من المؤثرات الخارجية في الثورة العراقية. أمّا عواملها الداخلية فتكاد تنحصر بسوء الادارة المحتلة باضطهادها الشعب ، واحتياجات الجيش المحلية من جمع الطعام واستخدام وسائل النقل وتقييد التجوال والأسفار وتشغيل عمال المزارع في الجيش ، ومعاملة الناس بالخشونة ، وتولي العسكريين مهام رجال السياسة ورجال الادارة ، وسلب ثروة البلاد المعاشية(٢) .

وأدرك الانجليز خطورة الوضع وتفاقم الأزمة ، فعمدوا الى ضرب الثورة من الداخل عن طريق أساليب الغدر والخيانة وشراء الضمائر بالمال والمناصب. ولاشك ان عدم التكافؤ بين الطرفين في النواحي الاقتصادية والتكنيكية والعسكرية أدى إلى فشل الثورة - ان جاز لنا التعبير - لأن ثورة العشرين كما عبر عنها المؤرخ عبد الرزاق الحسني : « على الرغم من فشلها عسكرياً - نظراً الى

__________________

١ - محمد بحر العلوم : حصاد الأيام ، ص ٣٣٧.

٢ - الثورة العراقية الكبرى ، ص ١٣٤.

٣٤

التفوق البريطاني بما يملكه من أسلحة وجيش منظم وتجارب قتالية - اضافة الى عوامل الضعف في الحركات الوطنية العراقية ، قد نجحت سياسياً لايقاظها وعي الشعب بمختلف طبقاته وعلى مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية مما دفع بالانجليز الى اعطاء العراق حكماً شبه وطني بعد تأمين مصالحهم الرئيسية فيه »(١) .

وانتهت ثورة العشرين بعد مفاوضات طويلة استمرت بين الجانب الانجليزي وعلماء الدين الشيعة في النجف آلت في النهاية الى اقامة الحكم الوطني واختيار ملك عربي يحكم العراق. وقد وقع الأختيار على فيصل ابن الشريف حسين ليكون أول ملك للعراق وذلك في الثالث والعشرين من آب عام ١٩٢١ م(٢) .

الاّ ان الاضطرابات لم تخمد في عهد فيصل على الرغم من محاولاته إجراء الانتخابات وتشكيل المجلس التأسيسي ومن ثم المجلس النيابي ومجلس الوزراء بسبب الهيمنة البريطانيه على قرار العراق السياسي. فمنذ أن تسلَّم الملك الحكم وحتى وفاته في أيلول سنة ١٩٣٣ تم تشكيل عدة وزارات لم تدم سوى اشهر قلائل بسبب التدخل البريطاني في الشؤون الحكومية. وقد شهد العراق في العهد الفيصلي أحداثاً كبيرة يأتي في طليعتها انضمام العراق الى عصبة الامم سنة ١٩٣٢ م حيث انحسر ظل الانتداب - بالظاهر - ومنح العراق استقلاله(٣) .

وبعد وفاة الملك فيصل تُوّج نجله غازي ملكاً على العراق وذلك في الثامن

__________________

١ - المصدر السابق ، ص ٤٥٦.

٢ - مجلة الموسم : العددان ٩ - ١٠ ( ١٩٩١ م ) ، ص ١٨.

٣ - جعفر الدجيلي : موسوعة النجف الأشرف ، ج ٤ ، ص ٣٢٩.

٣٥

من أيلول سنة ١٩٣٣ م(١) . الاّ انّ هذا التتويج لم يلق ارتياحاً من قبل البريطانيين لما كانوا يعهدون في هذا الملك الشاب من تطلع نحو تحرر العراق الكامل من النفوذ الأجنبي.

وقد أكسبت طموحات الملك الشاب الوطنية والقومية التي جاءت منسجمة مع تطلعات الرأي العام العراقي ، تأثيراً شعبياً واسع النطاق ، ولكن من جانب آخر نال جفاء الانجليز وبعض الساسة العملاء الذين تضررت مصالحهم بسبب سياسة الملك الذي أراد ممارسة سلطاته الدستورية بصورة نظرية وواقعية(٢) .

وعندما أحست بريطانيا اصطدام مصالحها بسياسة الملك الوطنية والقومية حاولت التخلص منه بشتى الوسائل. وقد تسنى لها ذلك بمصرع الملك في حادث سير مدبر وذلك في الرابع من نسيان عام ١٩٣٩ م(٣) .

وبعد رحيل الملك غازي ، تُوّج نجله فيصل الثاني فأصبح ثالث ملك على العراق. ولصغر سنه تسلّم خاله الأمير عبد الاله مقاليد الحكم بالوصاية حتى سنة ١٩٥٣ م حيث تم تفويض السلطات الدستورية الى الملك.

وفي عهد الأمير عبد الاله عاش العراق فترة عسيرة من حياته. فقد كثرت فيها الاضطرابات وعلت صيحات الغضب الشعبي من جرّاء أساليب القمع والاضطهاد التي بلغت حداً لا يطاق. واستمرت هذه الحال حتى تم القضاء على الحكم الملكي في العراق وذلك في الرابع عشر من تموز عام ١٩٥٨ م بالثورة التي قادها عبد الكريم قاسم(٤) .

__________________

١ - لطفي جعفر فرج : الملك غازي ، ص ٦٣.

٢ - المصدر السابق ، ص ٢٧٧.

٣ - المصدر السابق.

٤ - عبد الرزاق محمّد أسود : موسوعة العراق السياسية ، ج ٤ ، ص ٤٣٤ ، ٤٣٥.

٣٦

انهى عبد الكريم قاسم بثورته سبعاً وثلاثين سنة من الحكم الملكي. وقد عوّل الشعب آمالاً كبيرة على هذه الثورة الاّ انها آلت في النهاية الى صراعات حادة واشتباكات عنيفة بين ضباط الثورة من جهة ، وبين الحركات السياسية التي ظهرت في عهد قاسم كحركة القوميين وحركة الشيوعيين من جهة اخرى. ولم يصمد عبد الكريم قاسم في سدّة الحكم سوى خمس سنين حيث تم القضاء عليه بانقلاب عسكري قام به عبد السلام عارف في الثامن من شباط عام ١٩٦٣ م(١) .

ولم يهدأ العراق بعد انقلاب عارف. فقد زج في دوامة من الانقلابات والصراعات العسكرية التي آلت في النهاية إلى مصرع عارف سنة ١٩٦٦ م وتسلّم أخيه عبد الرحمن عارف زمام السلطة. وقد بقي هذا الأخير في سدّة الحكم سنتين ثم اُجلي عن منصبه بعد أن تسلّم حزب البعث مقاليد الحكم في السابع عشر من تموز عام ١٩٦٨ م(٢) .

٤ - الحياة الثقافية :

احتلّت النجف مكانة علمية مرموقة ، وشهدت ازدهاراً ثقافياً متمّيزاً منذ أن حلَّ بها الشيخ الطوسي(٣) - في أواسط القرن الخامس الهجري - وأسس فيها جامعته الدينية الكبرى. ومن يومها ذاك أصبحت مدينة العلم التي يَؤمُّها الطلاب

__________________

١ - جمال مصطفى مردان : عبدالكريم قاسم ، البداية والسقوط ، ص ١٤٥.

٢ - عبدالوهاب الكيالي : موسوعة السياسة ، ج ٤ ، ص ٦٢.

٣ - أبو جعفر محمّد بن الحسن بن علي الطوسي ( ٣٨٥ - ٤٦٠ ه ). شيخ الطائفة الامامية وزعيم العلماء والمجتهدين. له مؤلفات كثيرة منها : « الاستبصار » و « التهذيب » في الحديث ، و « التبيان في تفسير القرآن » ، و « المبسوط » في الفقه ، و « العدة » في الاصول ، ومؤلفات اخرى في الرجال والكلام والعقائد. ( معجم رجال الفكر والادب في النجف ، ج ٢ ص ٨٥٣ ).

٣٧

من كل حدب وصوب ، ويتقاطر عليها الوافدون من شتى أقطار العالم. وهي اليوم لا تزال مركزاً هاماً للدراسات الاسلامية وخاصة في علوم الفقه ، والاصول ، والفلسفة الاسلامية ، وتفسير القرآن الكريم ، والحديث النبوي الشريف ، وكل ما يتعلق بقضايا العقيدة الاسلامية ، وشؤون الفكر الاسلامي.

واستمرت الحركة العلمية في هذه المدينة وأخذت تنشط وتتطور بفضل الجهود التي بذلها الشيخ الطوسي في تنسيق العلوم الدينية ، وتأليف الكتب الدراسية المختصة بها ، وتهذيب رجال اكفّاء تكون لهم القدرة الكافية على تدريس هذه العلوم ونشرها في أوساط المجتمع الاسلامي. وكم حفظت هذه المدينة وعبر مسيرتها العلمية الطويلة من أسماء لعلماء ومفكرين عظام كان لهم الدور الأكبر في بث الوعي الاسلامي وإثراء المكتبة الاسلامية بجلائل الكتب والمؤلفات.

ولم تكن جامعة النجف تتقيد بمحل خاص للدراسة ، فكثيراً ما كانت العلوم الدينية تدرّس في غرف الصحن العلوي وإيواناته ، بالإضافة الى حلقات الدرس التي كانت تشكل في المساجد والجوامع الكثيرة المنتشرة هنا وهناك والتي اتخذ طلاب العلوم الدينية من بعضها مركزاً للبحث والتدريس. ومن اهم هذه المساجد : مسجد الخضراء(١) ومسجد الهندي(٢) ومسجد الشيخ الطوسي(٣) .

__________________

١ - من المساجد القديمة البعيدة العهد. موقعه شرقي الصحن بالقرب من الجهة الشمالية. لا يعرف وجه تسميته بالخضراء ويمكن أن يكون أُحدث مع الحضرة الشريفة فعرف بمسجد الحضرة ثم صحّف ، أو كانت فيه خضرة فعرف بها. ( ماضي النجف وحاضرها ، ج ١ ، ص ١٠٢ ).

٢ - أسس هذا المسجد في أوائل القرن الثالث عشر الهجري ، وهو فخم البناء واسع الساحة ، يقع في آخر سوق البزّازين قبالة الصحن الشريف. وانمّا سُمّي بالهندي لانّه كان والسوق المجاور له لعائلة ثرية هندية كانت تقطن النجف. ( ماضي النجف وحاضرها ، ج ١ ، ص ١١٧ ).

٣ - من المساجد القديمة ، كان داراً للشيخ الطوسي وبعد وفاته أوصى أن يدفن بها وأن تجعل مسجداً من بعده. وهو اليوم من أشهر مساجد النجف ، ويقع في محلّة « المشراق » من الجهة الشمالية من الصحن العلوي. ( ماضي النجف وحاضرها ، ج ١ ، ص ١٠٤ ، ١٠٥ ).

٣٨

ومع اتساع المدينة وازدياد الطلاب الوافدين عليها باتت الحاجة ملحة الى بناء المدارس الدينية والمعاهد العلمية فكانت اوّل مدرسة دينية تبنى في النجف هي مدرسة « المقداد السيوري(١) » التي يعود تأسيسها الى أوائل القرن التاسع الهجري. وقد تغيّر اسمها بعد ذلك واصبحت تُعرف بالمدرسة السليمية نسبةً إلى بانيها سليم خان(٢) .

وعلى مرّ السنين والأيام كثرت المدارس الدينية في النجف وأخذت تنتشر انتشاراً واسعاً في أنحاء المدينة(٣) . ومن أشهر المدارس الدينية التي حظت بشهرة واسعة ولا تزال قائمة الى يومنا هذا : مدرسة الشربياني(٤) ، ومدرسة الاخوند الخراساني(٥) ، ومدرسة السيد محمّد كاظم اليزدي(٦) ، ومدرسة السيد البروجردي(٧) .

__________________

١ - جمال الدين أبو عبد الله المقداد بن عبد الله الحلي السيوري المتوفى سنة ٨٢٦ ه فقيه متكلم ومحقق متتبع. من مؤلفاته : « تفسير مغمضات القرآن » ، و « تجويد البراعة في شرح تجريد البلاغة ». ( معجم رجال الفكر والادب في النجف ، ج ٢ ، ص ٦٩٨ ).

٢ - جعفر آل محبوبه : ماضي النجف وحاضرها ، ج ١ ، ص ١٢٥ ، ١٢٦.

٣ - للتوسع ينظر المصدر السابق ، ج ١ ص ١٢٤ - ١٤٦ ، ودليل النجف ، ص ٧٠ - ٧٤.

٤ - من المدارس المشهورة في النجف ، أسسها الشيخ محمّد المعروف بالفاضل الشربياني المتوفى سنة ١٣٢٤ ه ، وهو من مشاهير علماء النجف. أختط مدرسته قبل وفاته بأربع سنين ، ولا تزال قائمة يسكنها بعض أهل العلم. ( ماضي النجف وحاضرها ، ج ١ ، ص ١٣٣ ).

٥ - هي في الأصل مجموعة من المباني الفسيحة تمَّ بناؤها سنة ١٣٢١ ه بأمر من الشيخ محمّد كاظم الخراساني صاحب « الكفاية في الاصول » المتوفى سنة ١٣٢٩ ه. وتعد مدرسة الاخوند من أهم المدارس الدينية في النجف. ( ماضي النجف وحاضرها ، ج ١ ، ص ١٣٦ ).

٦ - من اكبر المدارس الدينية في النجف أسسها الزعيم الديني السيد محمّد كاظم اليزدي ( ١٢٤٧ - ١٣٣٧ ). كان ابتداء تأسيسها سنة ١٣٢٥ ه ، وتم بناؤها سنة ١٣٢٧ ه. تقع في محلة « الحويش » في الشارع الذي فيه مدرسة الفاضل الشربياني. ( ماضي النجف وحاضرها ، ج ١ ، ص ١٣٩ ).

٧ - من المدارس الفخمة التي بنيت بابداع معماري وفن هندسي رائع. أسسها المرجع الديني السيد حسين البروجردي سنة ١٣٧٣ ه وقد انشئت فيها مكتبة عامرة حافلة بالكتب العلمية والمخطوطات القديمة. ( ماضي النجف وحاضرها ، ج ١ ، ص ١٤٣ ).

٣٩

ولم تكن الدراسة الدينية حينها وكذلك هي الحال اليوم تسير وفق نظام معيّن ومنهج تعليمي منسق كما في المدارس الحديثة « اذ لم تكن لمدارسها صفوف مرتبة يتدرج فيها الطالب ولا كتب مخصوصة مقررة للتدريس يلزم التلميذ بقراءتها بل هناك كتب قديمة وحديثة من كل فن يقرأُها الطالب بحسب ما تستجيده فكرة الاساتذة البارعين وترغب اليه طباعه وطباعهم من حيث الاتقان والتدرج من سهل الى صعب(١) ».

واستعراضاً للطريقة المتبعة في التعليم بالمدارس الدينية ، فإنّ الطالب كان يمّر من خلال دراسته بثلاث مراحل هي :

١ - المقدمات : ويدرس الطالب في هذه المرحلة الصرف ، والنحو ، والبلاغة ، والمنطق ، وكذلك مقدمات الفقه واصوله. أمّا أهم المواد المقررة للتدريس في هذه المرحلة ، ففي الصرف والنحو « شرح قطر الندى » لابن هشام ، و « شرح ابن عقيل » على ألفية ابن مالك. وفي البلاغة « المختصر » و « المطول » للتفتازاني ، وكذلك « جواهر البلاغة » للسيد احمد الهاشمي. وفي المنطق « حاشية ملا عبد الله » ، و « المنطق » للشيخ محمّد رضا المظفر. وفي الفقه « تبصرة المتعلمين » للعلامة الحلي ، و « شرائع الاسلام » للمحقق الحلي. وفي اصول الفقه كتاب « المعالم » للحسن بن زين الدين المعروف بالشهيد الثاني ، وكتاب « اصول الفقه » للشيخ محمّد رضا المظفر.

والطالب في هذه المرحلة يقضي فترة غير محدودة تمتد الى عدة سنوات يهيء نفسه الى الدخول في المرحلة الثانية وهي مرحلة التخصص في الفقه والأصول.

__________________

١ - جعفر آل محبوبه : ماضي النجف وحاضرها ، ج ١ ، ص ٣٧٩.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

فأخبر أن الله ورسوله يحبانه » (١) .

٣ - الوصية:

روى الشيخ الطوسي بالاسناد عن أبي موسى عيسى بن أحمد بن عيسى المنصوري، عن الامام الهادي عليه‌السلام ، عن آبائه المعصومين، عن جده الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال: « يا علي، خلقني الله وأنت من نوره حين خلق آدم، فأفرغ ذلك النور في صلبه، فأفضى به إلى عبد المطلب، ثم افترق من عبد المطلب، فصرت أنا في عبد الله، وأنت في أبي طالب، لا تصلح النبوة إلا لي، ولا تصلح الوصية إلا لك، فمن جحد وصيتك جحد نبوتي، ومن جحد نبوتي أكبه الله على منخريه في النار » (٢) .

٤ - مودة أهل البيت:

روى الشيخ الطوسي بالاسناد عن أبي موسى عيسى بن أحمد بن عيسى المنصوري، عن الامام الهادي عليه‌السلام ، عن آبائه المعصومين، عن جده الامام الباقر عليه‌السلام ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: « كنت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنا من جانب، وعلي أمير المؤمنين عليه‌السلام من جانب، إذ أقبل عمر بن الخطاب ومعه رجل قد تلبب به، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما باله؟ قال: حكى عنك يا رسول الله أنك قلت: من قال لا إله إلا الله، محمد رسول الله دخل الجنة، وهذا إذا سمعه الناس فرطوا في الأعمال، أفأنت قلت ذلك؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم، إذا

__________________

(١) تحف العقول / الحراني: ٤٥٩.

(٢) الأمالي / الشيخ الطوسي: ٢٩٤ / ٥٧٧ - المجلس / ١١، بشارة المصطفى / الطبري: ١٨٥.

٢٢١

تمسك بمحبة هذا وولايته. يعني الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام » (١) .

وبنفس الاسناد عن الامام الهادي عليه‌السلام ، عن آبائه المعصومين، عن جده الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أنه قال: « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لي والا صمّتا: ياعلي، محبك محبي ومبغضك مبغضي » (٢) .

وبالاسناد عن الامام الهادي عليه‌السلام ، عن آبائه المعصومين، عن جده الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أنه قال: « قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي » (٣) .

٥ - علم الامام:

روى ثقة الاسلام الشيخ الكليني وغيره بالاسناد عن علي بن محمد النوفلي، عن أبي الحسن صاحب العسكر عليه‌السلام ، قال: سمعته يقول: « اسم الله الأعظم ثلاثة وسبعون حرفاً، كان عند آصف حرف فتكلم به، فانخرقت له الأرض في ما بينه وبين سبأ، فتناول عرش بلقيس حتى صيره إلى سليمان، ثم انبسطت الأرض في أقل من طرفة عين، وعندنا منه اثنان وسبعون حرفاً، وحرف عند الله مستأثر به في علم الغيب » (٤) .

٦ - صفات الامام:

أهم ما أثر عن الامام الهادي عليه‌السلام في هذا الاتجاه هو الزيارة الجامعة التي

__________________

(١) الأمالي / الشيخ الطوسي: ٢٨٢ / ٥٤٧ - المجلس / ١٠.

(٢) الأمالي / الشيخ الطوسي: ٢٧٨ / ٥٣٠ - المجلس / ١٠.

(٣) الأمالي / الشيخ الطوسي: ٢٧٨ / ٥٣١ - المجلس / ١٠.

(٤) الكافي ١: ٢٨٦ / ١، بصائر الدرجات: ٢١١ / ٣، اثبات الوصية: ٢٠٢، دلائل الامامة: ٤١٤ / ٣٧٧.

٢٢٢

تعتبر مدرسة لتلقين مبادئ العقيدة الاسلامية والانفتاح على جميع مفرداتها، ومما جاء فيها عن صفات الامام قوله عليه‌السلام : « السلام عليكم يا أهل بيت النبوة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي، ومعدن الرسالة، وخزّان العلم، ومنتهى الحلم، وأصول الكرم، وقادة الامم، وأولياء النعم، وعناصر الأبرار، ودعائم الأخيار، وساسة العباد، وأركان البلاد، وأبواب الايمان، وأمناء الرحمن، وسلالة النبيين، وصفوة المرسلين، وعترة خيرة رب العالمين، ورحمة الله وبركاته.

السلام على أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، وأعلام التقى، وذوي النهى، وأولي الحجى، وكهف الورى، وورثة الأنبياء، والمثل الأعلى، والدعوة الحسنى، وحجج الله على أهل الآخرة والاولى، ورحمة الله وبركاته.

السلام على محالّ معرفة الله، ومساكن بركة الله، ومعادن حكمة الله، وحفظة سر الله، وحملة كتاب الله، وأوصياء نبي الله، وذرية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورحمة الله وبركاته.

أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، كما شهد الله لنفسه، وشهدت له ملائكته، وأولوا العلم من خلقه، لا إله إلا هو العزيز الحكيم، وأشهد أن محمداً عبده المصطفى، ورسوله المرتضى، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. وأشهد أنكم الأئمّة الراشدون، المهديون المعصومون، المكرمون المقربون، المتقون الصادقون، المصطفون المطيعون لله، القوامون بأمره، العاملون بإرادته، الفائزون بكرامته، اصطفاكم بعلمه، وارتضاكم لدينه، واختاركم لسره،

٢٢٣

واجتباكم بقدرته، وأعزكم بهداه، وخصكم ببرهانه، وانتجبكم لنوره، وأيدكم بروحه، ورضيكم خلفاء في أرضه، وحججاً على بريته، وأنصاراً لدينه، وحفظة لسره، وخزنة لعلمه، ومستودعاً لحكمته، وتراجمة لوحيه، وأركاناً لتوحيده، وشهداء على خلقه، وأعلاماً لعباده، ومناراً في بلاده، وأدلاء على صراطه » (١)، الى آخر الزيارة وهي طويلة.

٧ - معرفة كنه النبي والامام:

في حديث الفتح بن يزيد الجرجاني، عن الامام الهادي عليه‌السلام : « أم كيف يوصف بكنهه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد قرنه الجليل باسمه وشركه فى عطائه، وأوجب لمن أطاعه جزاء طاعته، إذ يقول: ( وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّـهُ وَرَ‌سُولُهُ مِن فَضْلِهِ ) (٢)، وقال يحكي قول من ترك طاعته وهو يعذبه بين أطباق نيرانها وسرابيل قطرانها: ( يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّـهَ وَأَطَعْنَا الرَّ‌سُولَا ) (٣)، أم كيف يوصف بكنهه من قرن الجليل طاعتهم بطاعة رسوله حيث قال: ( أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّ‌سُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ‌ مِنكُمْ ) (٤)، وقال: ( وَلَوْ رَ‌دُّوهُ إِلَى الرَّ‌سُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ‌ مِنْهُمْ ) (٥)، وقال: ( إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ‌كُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا ) (٦)، وقال: ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ‌ إِن كُنتُمْ لَا

__________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢: ٢٧٢ / ١، الفقيه / الصدوق ٢: ٣٧٠ / ١٦٢٥، التهذيب ٦: ٩٥ / ١٧٧، البلد الأمين / الكفعمي: ٢٩٧.

(٢) سورة التوبة: ٩ / ٧٤.

(٣) سورة الأحزاب: ٣٣ / ٦٦.

(٤) سورة النساء: ٤ / ٥٩.

(٥) سورة النساء: ٤ / ٨٣.

(٦) سورة النساء: ٤ / ٥٨.

٢٢٤

تَعْلَمُونَ ) (١) .

يا فتح، كما لا يوصف الجليل جل جلاله والرسول والخليل وولد البتول، فكذلك لا يوصف المؤمن المسلم لأمرنا، فنبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل الأنبياء، وخليلنا أفضل الأخلاء، ووصيه أكرم الأوصياء، اسمهما أفضل الأسماء، وكنيتهما أفضل الكنى وأجلاها، لو لم يجالسنا إلا كفؤ لم يجالسنا أحد، ولو لم يزوجنا إلا كفؤ لم يزوجنا أحد، أشد الناس تواضعاً أعظمهم حلماً، وأنداهم كفاً، وأمنعهم كنفاً، ورث عنهما أوصياؤهما علمهما، فاردد إليهم الأمر وسلم إليهم، أماتك الله مماتهم، وأحياك حياتهم، إذا شئت رحمك الله » (٢) .

٨ - الغيبة:

كان الإمام الهادي عليه‌السلام كابائه المعصومين بصدد التخطيط لمستقبل الإمامة والتحضير لزمان الغيبة التي اقترب وقتها، فعمل على تهيئة المقدمات الضرورية للانتقال من مرحلة الإمامة الظاهرة إلى الإمامة الغائبة بعد ولده الحسن العسكري عليه‌السلام ، فكان أول ذلك النص على امامة الخلف من بعد الحسن عليه‌السلام ، وكونه الامام الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، وتحذير الشيعة من الاختلاف لأنهم لا يرون شخصه ولا يحل لهم ذكر اسمه، وتوقع الفرج بعد غيبة الصاحب عليه‌السلام من دار الظالمين.

عن علي بن عبد الغفار، قال: « لما مات أبوجعفر الثاني عليه‌السلام كتبت الشيعة إلى أبي الحسن صاحب العسكر عليه‌السلام يسألونه عن الأمر، فكتب عليه‌السلام : الأمر لي

__________________

(١) سورة النحل: ١٦ / ٤٣.

(٢) كشف الغمة ٣: ١٧٩.

٢٢٥

مادمت حيا، فإذا نزلت بي مقادير اللّه آتاكم اللّه الخلف مني، وأنّى لكم بالخلف بعد الخلف؟ » (١) .

وعن أبي هاشم داود بن القاسم، قال: « سمعت أبا الحسن عليه‌السلام يقول: الخلف من بعدي الحسن، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف؟ فقلت: ولم جعلني اللّه فداك؟ فقال: إنكم لاترون شخصه ولايحلّ لكم ذكره باسمه » (٢) .

وعن علي بن مهزيار، قال: « كتبت إلى أبي الحسن صاحب العسكر عليه‌السلام أسأله عن الفرج، فكتب إلي: إذا غاب صاحبكم عن دار الظالمينفتوقعوا الفرج » (٣) .

وعن أيوب بن نوح، عن أبي الحسن الثالث عليه‌السلام ، قال: « إذا رفع علمكم من بين أظهركم، فتوقعوا الفرج من تحت أقدامكم » (٤) .

وعن الصقر بن أبي دلف قال: « سمعت علي بن محمد بن علي الرضا عليه‌السلام يقول: إنّ الإمام بعدي الحسن ابني، وبعد الحسن ابنه القائم الذي يملأ الأرض قسطا وعدلاً كما ملئت جورا وظلما » (٥) .

وعن إسحاق بن محمد بن أيوب، قال: « سمعت أبا الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى عليهم‌السلام يقول: صاحب هذا الأمر من يقول الناس: لم يولد

__________________

(١) إكمال الدين: ٣٨٢ / ٨ - باب ٣٧.

(٢) اصول الكافي ١: ٣٢٨ / ١٣.

(٣) اكمال الدين: ٣٨٠ / ٢.

(٤) الامامة والتبصرة من الحيرة / ابن بابويه القمي: ١٣٠ / ١٣٧، الكافي ١: ٣٤١ / ٢٤، اكمال الدين: ٣٨١ / ٤.

(٥) إكمال الدين: ٣٨٣ / ١٠ - باب ٣٧.

٢٢٦

بعد » (١) .

٩ - فضل العلماء:

أكد الامام الهادي عليه‌السلام على فضل العلماء في زمان الغيبة وأشاد بدورهم في حفظ الدين، فقد روي عنه عليه‌السلام قوله: « لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم من العلماء الداعين إليه، والدالين عليه، والذابين عن دينه بحجج الله، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس ومردته، ومن فخاخ النواصب، لما بقي أحد إلا ارتد عن دين الله، ولكنهم الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة، كما يمسك صاحب السفينة سكانها، أولئك هم الأفضلون عند الله عز وجل » (٢) .

خامساً - التصدي لأهل البدع والشبهات:

هناك الكثير من الأخبار التي تدلّ على أن الإمام الهادي عليه‌السلام كان يتابع ما يجري على الساحة الفكرية، فيلاحق الأفكار المنحرفة والشبهات التي تطرح هنا وهناك في مواجهة الفكر الاسلامي الأصيل.

فتصدّى الإمام الهادي عليه‌السلام لبعض الاتجاهات العقائدية المنحرفة والفرق الضالة ومنهم الغلاة الذين كانوا في زمانه، وهم الذين خرجوا عن الجادة ووصفوا الأئمّة عليهم‌السلام بصفات الالوهية، فتبرأ أهل البيت عليهم‌السلام منهم ولعنوهم وحاربوا مقالاتهم الباطلة، وتصدى كذلك للفرق التي توقفت على بعض الأئمّة عليهم‌السلام كالواقفة والفطحية والصوفية وغيرهم.

__________________

(١) الامامة والتبصرة من الحيرة: ١٠٩ / ١٣٧، اكمال الدين: ٣٨١ / ٦ و ٣٨٢ / ٧.

(٢) الاحتجاج / الطبرسي: ٤٥٥.

٢٢٧

١ - الغلاة:

حركة الغلو من المعاول الهدامة التي تشكل خطورة بالغة على الفكر الاسلامي، لذلك اتخذ الأئمّة الأطهار من أهل البيت عليهم‌السلام وشيعتهم مواقف شديدة من الغلو والغلاة، فأعلنوا عن كفرهم وإلحادهم والبراءة منهم، لحرصهم على تنزيه تعاليم الاسلام من التشويه والتحريف والافتراء، ولتصحيح المسار الاسلامي بكل ما حوى من علوم ومعارف واتجاهات، ولم يدخروا في هذا السبيل وسعاً.

وظهر في زمان امامة الهادي عليه‌السلام بعض المفترين من أمثال القاسم بن يقطين، وعلي بن حسكة، والحسن بن محمد بن بابا القمي، ومحمد بن نصير الفهري النميري، وفارس بن حاتم بن ماهويه القزويني.

وعانى الامام الهادي عليه‌السلام من هؤلاء الغلاه ومقالاتهم الباطلة، فقد ادعوا أن الامام الهادي عليه‌السلام هو الرب الخالق والمدبر للكون، وأنه بعث ابن حسكة ومحمد بن نصير الفهري وابن بابا وغيرهم أنبياء يدعون الناس إليه ويهدونهم، ووضع هؤلاء بعض الأحاديث على لسان الأئمّة عليهم‌السلام وهي تزخر بأنواع البدع التي منها ادعاؤهم أن الصلاة والزكاة والصيام وسائر الفرائض جميعها رجل، فاستهتروا بسائر السنن الالهية، وأسقطوا الفرائض عمن دان بمذهبهم، بل أباحوا كل ما حرمه الاسلام ونهى عنه كنكاح المحارم واللواط وقالوا بالتناسخ وما إلى ذلك من المحرمات، وكان هدفهم الاساس هو الاجهاز على الاسلام والطمع بأموال الناس وأخذها بالباطل والاستحواذ على الحقوق والوجوه الشرعية التي تحمل إلى الامام عليه‌السلام .

وانطلاقاً من المسؤولية الشرعية والعلمية المناطة بالامام عليه‌السلام ، فقد سعى

٢٢٨

الى الحفاظ على الخط الرسالي الذي دافع عنه آباؤه الأئمّة عليهم‌السلام ، وتصدى الامام عليه‌السلام ومن ورائه أصحابه لهذه الحركة الهدامة، ووقفوا لجميع رموزها بالمرصاد، على الرغم مما تعرض له في حياته من ظلم الحكام واضطهادهم، وفي هذا الاتجاه صرح بأن الأئمة عليهم‌السلام عبيد الله لا يشركون به شيئاً، إن أطاعوه رحمهم، وإن عصوه عذبهم، وما لهم على الله من حجة، بل الحجة لله عليهم وعلى جميع خلقه فلا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم ضراً، ولا أن يجلبوا لها خيراً إلا بمشيئة الله، وان لهم بالرسل أسوة، فقد كانوا يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق، كما لعن عليه‌السلام المغالين وتبرأ منهم، وأعلن للناس ضلالهم وجحودهم، ودعا إلى نبذ أتباعهم، وحذر شيعته وسائر المسلمين من الاتصال بهم أو الانخداع بمفترياتهم، بل وأمرهم بهجرانهم والجائهم الى ضيق الطريق والتعرض لهم بالضرب، وأهدر دم زعيم الغلاة في وقته فارس بن حاتم، وأمر محبيه بالاعتدال، فكان أهم ما ترتب على المواقف التي أعلنها الامام عليه‌السلام ضد الغلاه هو اهتداء بعض أصحابه الذين دخلت عليهم مثل هذه الشبهة، وذلك لأجل سوقهم إلى شاطئ الهداية والسلام، ومنهم الفتح بن يزيد الجرجاني،

وفيما يلى نستعرض مواقفه عليه‌السلام من الغلاة على ضوء الأخبار الواردة في هذا المضمار.

لعنهم والبراءة منهم:

عن سهل بن محمد أنه كتب إليه عليه‌السلام : « قد اشتبه يا سيدي على جماعة من مواليك أمر الحسن بن محمد بن بابا، فما الذي تأمرنا يا سيدي في أمره نتولاه أم نتبرأ منه، أم نمسك عنه، فقد كثر القول فيه؟ فكتب بخطه وقرأته: ملعون هو

٢٢٩

وفارس، تبرأوا منهما، لعنهما الله، ضاعف ذلك على فارس » (١) .

وعن محمد بن عيسى، قال: « كتب إلي أبو الحسن العسكري عليه‌السلام ابتداءً منه: لعن الله القاسم اليقطيني، ولعن الله على ابن حسكة القمي، إن شيطاناً يتراءى للقاسم فيوحي إليه زخرف القول غروراً » (٢) .

وعن أبي محمد الرازي، قال: « ورد علينا رسول من قبل الرجل (٣): أما القزويني فارس فإنه فاسق منحرف، ويتكلم بكلام خبيث، فلعنه الله » (٤) .

وعن عبد الله بن جعفر الحميري، قال: كتب أبو الحسن العسكري عليه‌السلام إلى علي بن عمرو القزويني بخطه: « اعتقد فيما تدين الله به أن الباطن عندي حسب ما أظهرت لك فيمن استنبأت عنه، وهو فارس لعنه الله، فإنه ليس يسعك إلا الاجتهاد في لعنه وقصده ومعاداته، والمبالغة في ذلك بأكثر ما تجد السبيل إليه، ما كنت آمر أن يدان الله بأمر غير صحيح، فجد وشد في لعنه وهتكه وقطع أسبابه، وصد أصحابنا عنه، وإبطال أمره، وأبلغهم ذلك مني، واحكه لهم عني، وإني سائلكم بين يدي الله عن هذا الأمر المؤكد، فويل للعاصي وللجاحد. وكتبت بخطي ليلة الثلاثاء لتسع ليال من شهر ربيع الأول سنة ٢٥٠ هـ، وأنا أتوكل على الله وأحمده كثيراً » (٥) .

مقاطعتهم والاستخفاف بهم:

عن إبراهيم بن داود اليعقوبي، قال: « كتبت إليه - يعني إلى أبي

__________________

(١) رجال الكشي: ٥٢٨ / ١٠١١.

(٢) رجال الكشي: ٥١٨ / ٩٩٦.

(٣) الرجل: من ألقاب الامام الهادي عليه‌السلام .

(٤) رجال الكشي: ٥٢٦ / ١٠٠٩.

(٥) الغيبة / الطوسي: ٣٥٢ / ٣١٢.

٢٣٠

الحسن عليه‌السلام - أعلمه أمر فارس بن حاتم، فكتب: لا تحفلن به، وإن أتاك فاستخف به » (١) .

وعن إبراهيم بن محمد أنه قال: « كتبت إليه عليه‌السلام : جعلت فداك، قبلنا أشياء تحكى عن فارس، والخلاف بينه وبين علي بن جعفر، حتى صار يبرأ بعضهم من بعض، فإن رأيت أن تمن علي بما عندك فيهما، وأيهما يتولى حوائجي قبلك حتى لا أعدوه إلى غيره، فقد احتجت إلى ذلك، فعلت متفضلاً إن شاء الله؟ فكتب عليه‌السلام : ليس عن مثل هذا يسأل، ولا في مثله يشك، قد عظم الله قدر علي بن جعفر - متعنا الله تعالى به - من أن يقايس إليه، فاقصد علي بن جعفر بحوائجك، واخشوا فارساً وامتنعوا من إدخاله في شيء من أموركم، تفعل ذلك أنت ومن أطاعك من أهل بلادك، فإنه قد بلغني ما يموه به على الناس، فلا تلتفتوا إليه إن شاء الله » (٢) .

تكذيب مقالاتهم الباطلة:

عن موسى بن جعفر بن وهب، قال: « كتب عروة إلى أبي الحسن عليه‌السلام في أمر فارس بن حاتم، فكتب: كذبوه واهتكوه، أبعده الله وأخزاه، فهو كاذب في جميع ما يدعي ويصف، ولكن صونوا أنفسكم عن الخوض والكلام في ذلك، وتوقوا مشاورته، ولا تجعلوا له السبيل إلى طلب الشر، فكفانا الله مؤونته ومؤونة من كان مثله » (٣) .

وعن أحمد بن محمد بن عيسى، قال: « كتبت إليه عليه‌السلام في قوم يتكلمون

__________________

(١) رجال الكشي: ٥٢٢ / ١٠٠٣.

(٢) رجال الكشي: ٥٢٣ / ١٠٠٥.

(٣) رجال الكشي: ٥٢٢ / ١٠٠٤.

٢٣١

ويقرأون أحاديث ينسبونها إليك وإلى آبائك، فيها ما تشمئز منها القلوب، ولا يجوز لنا ردها، إذ كانوا يروون عن آبائك عليهم‌السلام ، ولا قبولها لما فيها، وينسبون الأرض إلى قوم يذكرون أنهم من مواليك، وهو رجل يقال له علي بن حسكة، وآخر يقال له القاسم اليقطيني. ومن أقاويلهم: إنهم يقولون: إن قول الله تعالى ( إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ‌ ) (١) معناها رجل، لا سجود ولا ركوع، وكذلك الزكاة معناها ذلك الرجل لا عدد دراهم ولا إخراج مال، وأشياء من الفرائض والسنن والمعاصي فأولوها وصيروها على هذا الحد الذي ذكرت لك، فإن رأيت أن تبين لنا وأن تمن على مواليك بما فيه سلامتهم ونجاتهم من هذه الأقاويل التي تخرجهم إلى الهلاك؟ فكتب عليه‌السلام : ليس هذا ديننا فاعتزله » (٢) .

وعن سهل بن زياد الآدمي، قال: « كتب بعض أصحابنا إلى أبي الحسن العسكري عليه‌السلام : جعلت فداك يا سيدي، إن علي بن حسكة يدعي أنه من أوليائك وأنك أنت الأول القديم، وأنه بابك ونبيك، أمرته أن يدعو إلى ذلك، ويزعم أن الصلاة والزكاة والحج والصوم كل ذلك معرفتك ومعرفة من كان في مثل حال ابن حسكة فيما يدعي من البابية والنبوة، فهو مؤمن كامل سقط عنه الاستعباد بالصلاة والصوم والحج، وذكر جميع شرائع الدين أن معنى ذلك كله ما ثبت لك، ومال الناس إليه كثيراً، فإن رأيت أن تمن على مواليك بجواب في ذلك تنجيهم من الهلكة.

قال: فكتب عليه‌السلام : كذب ابن حسكة عليه لعنة الله، وبحسبك أني لا

__________________

(١) سورة العنكبوت: ٢٩ / ٤٥.

(٢) رجال الكشي: ٥١٧ / ٩٩٤.

٢٣٢

أعرفه في موالي، ما له لعنة الله، فوالله ما بعث الله محمداً والأنبياء قبله إلا بالحنيفية والصلاة والزكاة والصيام والحج والولاية، وما دعا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا إلى الله وحده لا شريك له، وكذلك نحن الأوصياء من ولده عبيد الله لا نشرك به شيئاً، إن أطعناه رحمنا، وإن عصيناه عذبنا، ما لنا على الله من حجة، بل الحجة لله علينا وعلى جميع خلقه، أبرأ إلى الله ممن يقول ذلك، وأنتفي إلى الله من هذا القول، فاهجروهم لعنهم الله، والجؤوهم إلى ضيق الطريق، فإن وجدت أحداً منهم خلوة فاشدخ رأسه بالصخر » (١) .

وروى الكشي بالاسناد عن العبيدي، قال: « كتب إلي العسكري عليه‌السلام ابتداءً منه: أبرأ إلى الله من الفهري، والحسن بن محمد بن بابا القمي، فابرأ منهما، فإني محذرك وجميع موالي، وإني ألعنهما عليهما لعنة الله مستأفكين يأكلان بنا الناس، فتانين مؤذيين آذاهما الله، أركسهما في الفتنة ركساً، يزعم ابن بابا أني بعثته نبياً، وأنه باب، عليه لعنة الله، سخر منه الشيطان فأغواه، فلعن الله من قبل منه ذلك. يا محمد، إن قدرت أن تشدخ رأسه بالحجر فافعل، فإنه قد آذاني، آذاه الله في الدنيا والآخرة » (٢) .

اهدار دمهم:

عن محمد بن عيسى بن عبيد: « أن أبا الحسن العسكري عليه‌السلام أمر بقتل فارس بن حاتم وضمن لمن قتله الجنة، فقتله جنيد، وكان فارس فتاناً يفتن الناس ويدعوهم إلى البدعة، فخرج من أبي الحسن عليه‌السلام : هذا فارس لعنه الله يعمل من قبلي فتاناً داعياً إلى البدعة، ودمه هدر لكل من قتله، فمن هذا

__________________

(١) رجال الكشي: ٥١٨ / ٩٩٧.

(٢) رجال الكشي: ٥٢٠ / ٩٩٩.

٢٣٣

الذي يريحني منه ويقتله، وأنا ضامن له على الله الجنة » (١) .

وعن جنيد، قال: « أرسل إلي أبو الحسن العسكري عليه‌السلام يأمرني بقتل فارس بن حاتم لعنه الله، قال: فبعث إلي فدعاني، فصرت إليه، فقال: آمرك بقتل فارس بن حاتم. فناولني دراهم من عنده وقال: اشتر بهذه سلاحاً فاعرضه علي. فاشتريت سيفاً فعرضته عليه، فقال: رد هذا وخذ غيره. قال: فرددته وأخذت مكانه ساطوراً فعرضته عليه، فقال: هذا نعم. فجئت إلى فارس، وقد خرج من المسجد بين الصلاتين المغرب والعشاء، فضربت على رأسه فصرعته، فثنيت عليه فسقط ميتاً، ووقعت الضجة، فرميت الساطور من يدي واجتمع الناس، وأخذت إذ لم يوجد هناك أحد غيري، فلم يروا معي سلاحاً ولا سكيناً، وطلبوا الزقاق والدور فلم يجدوا شيئاً، ولم يروا أثر الساطور بعد ذلك » (٢) .

٢ - الواقفة:

كان للإمام الهادي عليه‌السلام موقف حازم تجاه بعض الفرق التي وقفت على بعض الأئمّة عليهم‌السلام ، ومن هؤلاء الذين وقفوا على الإمام الكاظم عليه‌السلام بعد شهادته في سجون الظالمين، فادعوا أنه حي يرزق، وأنه هو القائم من آل محمد عليهم‌السلام ، وأن غيبته كغيبة موسى بن عمران عن قومه، ويلزم من ذلك عدم انتقال الامامة إلى ولده الامام الرضا عليه‌السلام وفق اعتقادهم.

وقد روج لهذه الفكرة بعض أصحاب الامام الكاظم عليه‌السلام كعلي بن أبي حمزة البطائني، وزياد بن مروان القندي، وعثمان بن عيسى الرواسي وغيرهم بسبب

__________________

(١) رجال الكشي: ٥٢٤ / ١٠٠٦.

(٢) رجال الكشي: ٥٢٤ / ١٠٠٦.

٢٣٤

رغبات مادية كان لها الأثر في نفوسهم الضعيفة، حيث تجمعت لديهم أموال طائلة من الحقوق المالية، لأنهم كانوا من وكلاء الامام الكاظم عليه‌السلام وخزنة أمواله في وقتٍ كان فيه الإمام عليه‌السلام مودعاً السجن، وبعد شهادة الامام عليه‌السلام أبوا عن تسليم تلك الأموال لولده القائم بعده، وتذرعوا بإنكار موته، وادعوا أنه حيّ لم يمت، وأصبح الوقف تيارا فكريا يتبناه بعض من لم تترسخ لديه مبادئ العقيدة الحقة، فيقف على بعض الأئمّة عليهم‌السلام ، وقد استغرقت هذه الفرقة مدة من الزمن تخللها المنازعات والخلافات حتى عدلوا عن مذهب الوقف إلى قول الحق، فاعترف أكثرهم بإمامة الرضا عليه‌السلام بعد أبيه الكاظم عليه‌السلام ، وأخيراً انقرضت الواقفة ولم يبق لها أدنى أثر، وقد صرح الامام الهادي عليه‌السلام بكونهم كالنصاب ودعا أصحابه الى البراءة منهم.

روى الكشي عن محمد بن الحسن، قال: حدثني أبو علي الفارسي، قال: حكى منصور عن الصادق علي بن محمد بن الرضا عليهم‌السلام : « أن الزيدية والواقفة والممطورة والنصاب بمنزلة عنده سواء » (١) .

واهتدى كثير منهم على يد الامام الهادي عليه‌السلام فتركوا الوقف وقالوا بامامته متأثرين بهديه وارشاده وكراماته، ومنهم: صالح بن الحكم بياع السابري، وأبو الحسن سعيد بن سهل البصري المعروف بالملاح، وإدريس بن زياد (٢) .

٣ - الفطحية:

وهم الذين قالوا بإمامة عبد الله الأفطح بن جعفر الصادق عليه‌السلام بعد أبيه، وتذرعوا بأن عبد الله كان أكبر ولد أبي عبد الله عليه‌السلام ، وقد رجع أكثرهم بعد

__________________

(١) رجال الكشي: ٢٢٩ / ٤١٠.

(٢) راجع: المناقب / ابن شهر آشوب ٤: ٤٠٧، اثبات الوصية / المسعودي: ٢٢٩.

٢٣٥

ذلك إلى القول بإمامة موسى بن جعفر الكاظم عليه‌السلام ، لما شاهدوا براهين إمامته.

ولا ريب أن مقولة الفطحية واضحة البطلان والتهافت، ذلك لأنهم ادعوا أن الامامة تكون في الأكبر، واذا صح هذا فإنما تكون الامامة في الأكبر ما لم تكن به عاهة، وكان عبد الله يعاني من عاهة البدن وسوء العقيدة، فقد كان أفطح الرأس أو الرجلين، وكان يقول بقول المرجئة الذين يقعون في أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، كما لم يرد عنه شيء من الفتيا في الحلال والحرام، ولا كان بمنزلة من يستفتى في الأحكام، وقد سئل عن مسائل صغار فلم يجب عنها.

وقد اهتدى بعض الفطحية الباقين الى زمان الامام الهادي عليه‌السلام الى سواء السبيل متأثرين بأرشاداته عليه‌السلام وكراماته، ومنهم عبد الله بن هليل ورجل آخر من أهل الكوفة (١) .

٤ - الصوفية:

وهم الذين يظهرون التقشف والزهد لاغراء عامة الناس وبسطائهم، وقد نهى الامام الهادي عليه‌السلام أصحابه وسائر المسلمين عن التواصل مع الصوفية والاختلاط بهم، لأن زهدهم لم يكن حقيقياً وإنما لاراحة أبدانهم، وأن تهجدهم في الليل لم يكن نسكاً وإخلاصاً في طاعة الله تعالى، وإنما هو وسيلة لصيد أموال الناس وإغوائهم، وأن أورادهم ليست عبادة خالصة لله بل هي رقص وغناء، وأن أتباعهم هم الحمقى والسفهاء.

قال الحسين بن أبي الخطاب: « كنت مع أبي الحسن الهادي عليه‌السلام في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأتاه جماعة من أصحابه منهم أبو هاشم الجعفري، وكان بليغاً وله

__________________

(١) راجع: أصول الكافي١: ٣٥٥ / ١٤ - باب ما يفصل به بين دعوى المحق والمبطل في أمر الامامة من كتاب الحجة، دلائل الامامة: ٤١٦ / ٣٨٠ / ١٣.

٢٣٦

منزلة مرموقة عند الامام عليه‌السلام ، وبينما نحن وقوف إذ دخل جماعة من الصوفية المسجد فجلسوا في جانب منه، وأخذوا بالتهليل، فالتفت الامام عليه‌السلام إلى أصحابه فقال لهم: لا تلتفتوا إلى هؤلاء الخداعين، فإنهم حلفاء الشياطين، ومخربوا قواعد الدين، يتزهدون لاراحة الأجسام، ويتهجدون لصيد الأنعام، يتجوعون عمراً حتى يديخوا للايكاف حمراً، لا يهللون إلا لغرور الناس، ولا يقللون الغذاء إلا لملا العساس واختلاس قلب الدفناس، يكلمون الناس بإملائهم في الحب، ويطرحونهم بإدلائهم في الجب، أورادهم الرقص والتصدية، وأذكارهم الترنم والتغنية، فلا يتبعهم إلا السفهاء، ولا يعتقد بهم إلا الحمقى، فمن ذهب إلى زيارة أحدهم حياً أو ميتاً فكأنما ذهب إلى زيارة الشيطان وعبادة الأوثان، ومن أعان واحداً منهم فكأنما أعان معاوية ويزيد وأبا سفيان.

فقال له رجل من أصحابه: وإن كان معترفا بحقوقكم؟ قال: فنظر إليه شبه المغضب وقال: دع ذا عنك، من اعترف بحقوقنا لم يذهب في عقوقنا، أما تدري أنهم أخس طوائف الصوفية؟ والصوفية كلهم من مخالفينا، وطريقتهم مغايرة لطريقتنا، وإن هم إلا نصارى ومجوس هذه الاُمّة، أولئك الذين يجتهدون في إطفاء نور الله بأفواههم، والله متم نوره ولو كره الكافرون » (١) .

المبحث الثاني - دوره عليه‌السلام في التصنيف والتشريع والسنن:

أولاً - المصنفات المنسوبة إليه عليه‌السلام :

نسب إلى الإمام الهادي عليه‌السلام عدّة كتب ورسائل ومسائل في مجال الأحكام

__________________

(١) حديقة الشيعة / الأردبيلي: ٦٠٣، الاثناعشرية / الحر العاملي: ٢٩.

٢٣٧

والشرائع والتفسير والأدعية والحكم والمواعظ والوصايا التربوية والبيانات التفصيلية في تفسير القرآن وغيرها، وقد وصلنا العديد منها مدونة في مصادر الحديث والرجال، وفيما يلي نذكر اسهاماته في هذا الاتجاه:

١ - أجوبته ليحيى بن أكثم عن مسائله (١) .

٢ - كتاب المقنعة، المشتمل على أكثر الأحكام ومسائل الحلال والحرام، وهو منسوب الى الامام العسكري عليه‌السلام غير أنه يبدو من رجال النجاشيأنّه للإمام الهادي عليه‌السلام (٢) .

٣ - رسالته الى أهل الأهواز في الرد على أهل الجبر والتفويض وإثبات العدل والمنزلة بين المنزلتين بالأدلة العلمية الواضحة، وهي تحتوي على أخصب الدراسات العلمية في المسائل العقائدية التي كانت مدار الجدل والكلام في ذلك الزمان (٣) .

٤ - قطعة من أحكام الدين ذكرها ابن شهرآشوب في المناقب عن الخيبري أو الحميري في كتاب مكاتبات الرجال عن العسكريين عليهما‌السلام .

٥ - وروي عنه عليه‌السلام أجوبة كثيرة في المسائل الفقهية والعقائدية وغيرها من العلوم، وقد تكفلت بنقلها مجاميع الحديث والرجال.

٦ - وروي عنه المزيد من الأدعية والتعقيبات.

٧ - الزيارة الجامعة الكبيرة، وهي من أشهر زيارات الأئمّة

__________________

(١) راجع: الاختصاص / الشيخ المفيد: ٩١، تحف العقول / الحراني: ٤٧٦، المناقب / ابن شهر آشوب ٤: ٤٠٤.

(٢) راجع: رجال النجاشي: ١٦٦ / ٤٣٩ ترجمة رجاء بن يحيى العبرتائي.

(٣) راجع: تحف العقول / الحراني: ٤٥٨.

٢٣٨

الطاهرين عليهم‌السلام وأكثرها ذيوعاً وانتشاراً، لذلك حظيت بأهمية خاصة وموقع متميز عند علماء الطائفة من بين مثيلاتها من الأدعية والزيارات، وهي مروية باسناد صحيح عن الامام الهادي عليه‌السلام ، وتتضمن كلاماً فريداً يزخر بالمعارف الالهية السامية، ويبين حقيقة الامام الذي يمثل حجة الله على الخلق، ومحور كائنات الوجود، وواسطة الفيض بين الخالق والمخلوق، والجامع لكل الخير والمحاسن، والقدوة المثلى للانسان، وقد جاء كل ذلك في أرقى مراتب البلاغة والفصاحة (١) .

وقد اهتم علماء الشيعة بهذه الزيارة واعتبروها أفضل الزيارات الجامعة سنداً ومحتوى. قال العلامة المجلسي: إن هذه الزيارة من أصح الزيارات سنداً، وأعمها مورداً، وأفصحها لفظاً، وأبلغها معنىً، وأعلاها شأناً (٢) .

من هنا تعرض كثير من العلماء لشرحها وتفسير مضامينها، ومن تلك الشروح:

أ - الأعلام اللامعة في شرح الزيارة الجامعة، للسيد محمد بن عبد الكريم الطباطبائي البروجردي، جد السيد مهدي بحر العلوم النجفي.

ب - الالهامات الرضوية في شرح الزيارة الجامعة، للسيد محمد بن السيد محمود الحسيني اللواساني الطهراني، الشهير بالسيد محمد العصار، والمتوفى سنة ١٣٥٥، والشرح فارسي.

جـ الأنوار الساطعة في شرح الزيارة الجامعة، للشيخ محمد رضا بن القاسم

__________________

(١) راجع: عيون أخبار الرضا ٢: ٢٧٢ / ١، الفقيه / الصدوق ٢: ٣٧٠ / ١٦٢٥، التهذيب ٦: ٩٥ / ١٧٧، البلد الأمين / الكفعمي: ٢٩٧.

(٢) بحارالأنوار ١٠٢: ١٤٤.

٢٣٩

الغراوي، فرغ منه سنة١٣٦١.

د - الأنوار اللامعة في شرح الزيارة الجامعة، للسيد عبد الله بن محمد رضا شبر الحسيني الكاظمي، المتوفى سنة ١٢٤٢، مفسر مجتهد، له مؤلفات كبيرة وكثيرة، وكان ينعت بالمجلسي الثاني، وهذا الشرح مطبوع.

هـ - البروق اللامعة في شرح الزيارة الجامعة، لعلي بن محمد جعفر الاسترابادي، المتوفى سنة ١٣١٥، كان عالماً مشاركاً في الفقه وأصوله وعلم الهيئة وغيرها.

و - شرح الزيارة الجامعة، للعلامة الميرزا علي نقي بن السيد حسين المعروف بالحاج آغا ابن السيد المجاهد الطباطبائي الحائري، المتوفى سنة ١٢٨٩، وهو شرح كبير لكنه لم يتم.

ز - شرح الزيارة الجامعة، للشيخ الميرزا محمد علي بن المولى محمد نصير الرشتي النجفي، المتوفى سنة١٣٣٤، والشرح فارسي كبير.

ح - شرح الزيارة الجامعة، للسيد بهاء الدين محمد بن مير محمد باقر الحسيني النائيني المختاري، المعاصر للشيخ الحر، كان فاضلاً عارفاً بالرجال.

ط - شرح الزيارة الجامعة، للمولى محمد تقى بن مقصود علي الاصفهاني المجلسي، والد العلامة المجلسي صاحب بحار الأنوار، والمتوفى سنة ١٠٧٠.

ي - شرح الزيارة الجامعة الكبيرة، للشيخ أحمد بن زين الدين بن ابراهيم ابن صفر بن ابراهيم بن داغر الأحسائي، الذي تنسب إليه الطائفة الشيخية والكشفية، المتوفى قرب المدينة المنورة سنة ١٢٤٣. والشرح مطبوع متداول.

ك - شمس طالعة في شرح الزيارة الجامعة، للميرزا محمد بن أبي القاسم ناصر حكمت طبيب زاده الأصفهاني، مطبوع.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274