الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ

الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ14%

الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 274

الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ
  • البداية
  • السابق
  • 274 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 137381 / تحميل: 6151
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ

الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ

مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

ل - شمس طالعة في شرح الزيارة الجامعة، للسيد عبد الله بن أبي القاسم الموسوي البلادي، بالفارسية.

م - الشموس الطالعة في شرح الزيارة الجامعة، فارسي، للعلامة السيد حسين بن السيد محمد تقي الهمداني المتوفى سنة ١٣٤٤، وهو من نفائس الشروح الفارسية ويتضمن تحقيقات عالية.

ن - الشموس الطالعة في شرح الزيارة الجامعة، للسيد الجليل الآقا ريحان الله ابن السيد جعفر الدارابي البروجردي، المتوفى سنة ١٣٢٨.

س - مشارق الشموس الطالعة في شرح الزيارة الجامعة، للميرزا ابراهيم ابن الحاج عبد المجيد الشيرازي الحائري تلميذ السيد كاظم الرشتي (١) .

٨ - قصار الحكم والمواعظ، ورد عن الإمام الهادي عليه‌السلام المزيد من الحكم والمواعظ القصيرة، وهي تتصف بجزالة ألفاظها ومتانة اُسلوبها وعمق محتواها، وتختزن الأخلاق الحميدة والصفات الكريمة والتعاليم السامية والعقائد الحقّة، وفي ما يلي مختار من كلماته القصار:

قال: « إن من الغرة بالله أن يصرّ العبد على المعصية ويتمنى على الله المغفرة. أورع الناس من وقف عند الشبهة، وأعبد الناس من أقام الفرائض، وأزهد الناس من ترك الحرام. إن الله جعل الدنيا دار بلوى، والآخرة دار عقبى، وجعل بلوى الدنيا لثواب الآخرة سبباً، وثواب الآخرة

__________________

(١) راجع: الذريعة ١٣: ٣٠٥ ومواضع أخرى متفرقة، إجازات الحديث / المجلسي: ١٣٥، كشف الحجب والاستار / السيد إعجاز حسين: ٣٣٧، معجم المطبوعات العربية / اليان سركيس ١: ٣٦٩، الأعلام / الزركلي ٤: ١٣١، معجم المؤلفين / كحالة ٧: ١٨٨ و ١١: ١٩٧.

٢٤١

من بلوى الدنيا عوضاً. اذكر مصرعك بين يدي أهلك فلا طبيب يمنعك ولا حبيب ينفعك. إذا كنتم في زمان العدل فيه أغلب من الجور فحرام أن يظن أحد بأحد سوءاً حتى يعلم ذلك منه، وإذا كنتم في زمان الجور فيه أغلب من العدل فليس لأحد أن يظن بأحد خيراً ما لم يعلم ذلك منه. اذكر حسرات التفريط بأخذ تقديم الحزم. حسن الصورة جمال ظاهر، وحسن العقل جمال باطن. خير من الخير فاعله، وأجمل من الجميل قائله، وأرجح من العلم حامله، وشر من الشر جالبه، وأهول من الهول راكبه. الدنيا سوق ربح فيها قوم وخسر آخرون. راكب الحرون أسير نفسه، والجاهل أسير لسانه. السهر ألذ للمنام، والجوع يزيد في طيب الطعام. البخل أذم الأخلاق، والطمع سجية سيئة. بئس العبد عبد يكون ذا وجهين وذا لسانين، يطري أخاه شاهداً، ويأكله غائباً. الجهل والبخل أذم الأخلاق. الجاهل أسير لسانه. الحسد ماحق الحسنات، والزهو جالب المقت، والعجب صارف عن طلب العلم، داع إلى الغمط. الحلم أن تملك نفسك وتكظم غيظك مع القدرة عليه. الحكمة لا تنجع في الطباع الفاسدة. من لم يحسن أن يمنع لم يحسن أن يعطي. من جمع لك وده ورأيه فاجمع له طاعتك. من رضي عن نفسه كثر الساخطون عليه. من كان على بينة من ربه هانت عليه مصائب الدنيا ولو قرض ونشر. من هانت عليه نفسه فلا تأمن شره. شر الرزية سوء الخلق. الشاكر أسعد بالشكر منه بالنعمة التي أوجبت الشكر، لأن النعم متاع، والشكر نعم وعقبى. اعلموا أن النفس أقبل شيء لما أعطيت، وأمنع شيء لما منعت. أبقوا النعم بحسن مجاورتها، والتمسوا الزيادة فيها بالشكر عليها. إن الظالم الحالم يكاد أن يعفي على ظلمه

٢٤٢

بحلمه، وإن المحق السفيه يكاد أن يطفئ نور حقه بسفهه. إياكم والحسد، فإنه يبين فيكم ولا يعمل في عدوكم. صلاح من جهل الكرامة هوانه. العقوق يعقب القلة، ويؤدي إلى الذلة. العجب صارف عن طلب العلم وتهذيب النفس، ويجعله يرتطم في الجهل. من سأل فوق قدر حقه فهو أولى بالحرمان. من اتقى الله يتقى، ومن أطاع الله يطاع، ومن أطاع الخالق لم يبال بسخط المخلوقين، ومن أسخط الخالق فلييقن أن يحل به سخط المخلوقين. المراء يفسد الصداقة القديمة، ويحلل العقدة الوثيقة، وأقل ما فيه أن تكون فيه المغالبة، والمغالبة أس أسباب القطيعة. المقادير تريك ما لم يخطر ببالك. من أمن مكر الله أخذه تكبر حتى يحل به قضاؤه ونافذ أمره. الناس في الدنيا بالأموال وفي الآخرة بالأعمال. الهزل فكاهة السفهاء وصناعة الجهال. العتاب مفتاح التقالي والعتاب خير من الحقد. الغضب على من تملك لؤم. الفقر شره النفس وشدة القنوط. الغنى قلة تمنيك والرضا بمايكفيك. الكفر للنعم أمارة البطر وسبب للتغيير. اللجاجة مسلبة للسلامة ومؤدية للندامة. لا نجع في الطبائع الفاسدة. المصيبة للصابر واحدة، وللجازع اثنتان. ما استراح ذو الحرص والحكمة. مخالطة الأشرار تدل على شر من يخالطهم » (١) .

وقال الامام أبو الحسن العسكري عليه‌السلام لرجل وقد أكثر من إفراط الثناء عليه: « أقبل على شأنك فإن كثرة الملق يهجم على الظنة، وإذا حللت من أخيك في محل الثقة، فاعدل عن الملق إلى حسن النية » (٢) .

__________________

(١) راجع: تحف العقول: ٤٨٢، بحار الأنوار ٧٨: ٣٦٨.

(٢) بحار الأنوار ٧٣: ٢٩٥.

٢٤٣

وقال عليه‌السلام لبعض مواليه: « عاتب فلاناً وقل له: إن الله إذا أراد بعبد خيراً إذا عوتب قبل » (١) .

وعن سهل بن زياد، قال: « كتب إليه عليه‌السلام بعض أصحابنا يسأله أن يعلمه دعوة جامعة للدنيا والآخرة، فكتب إليه: أكثر من الاستغفار والحمد فإنك تدرك بذلك الخير كله » (٢) .

وقال عليه‌السلام للمتوكل في حوار جرى بينهما: « لا تطلب الصفاء ممن كدرت عليه عيشه، ولا الوفاء ممن غدرت به، ولا النصح ممن صرفت سوء ظنك إليه، فإنما قلب غيرك لك كقلبك له » (٣) .

وعن أحمد بن هلال، قال: « سألت أبا الحسن الأخير عليه‌السلام عن التوبة النصوح ما هي؟ فكتب عليه‌السلام : أن يكون الباطن كالظاهر، وأفضل من ذلك » (٤) .

وعن أبي هاشم الجعفري، قال: « أصابتني ضيقة شديدة فصرت إلى أبي الحسن علي بن محمد عليه‌السلام فأذن لي، فلما جلست قال: يا أبا هاشم، أي نعم الله عز وجل عليك تريد أن تؤدي شكرها؟ قال أبو هاشم: فوجمت فلم أدر ما أقول له، فابتدأ عليه‌السلام فقال: رزقك الايمان فحرم به بدنك على النار، ورزقك العافية فأعانتك على الطاعة، ورزقك القنوع فصانك عن التبذل. يا أبا هاشم، إنما ابتدأتك بهذا لأني ظننت أنك تريد أن تشكو إلى من فعل بك

__________________

(١) تحف العقول: ٤٨١.

(٢) الأنوار البهية / عباس القمي: ٢٣٧.

(٣) بحار الأنوار ٧٤: ١٨٢ و ٧٨: ٣٧٠.

(٤) معاني الأخبار: ١٧٤.

٢٤٤

هذا، وقد أمرت لك بمائة دينار فخذها » (١) .

ثانيا - دوره عليه‌السلام في بيان الشريعة:

استطاع إمامنا الهادي عليه‌السلام أن يسهم في أداء دوره الرسالي ويقدّم عطاءات جادة على طريق الدفاع عن أصول الدين ونشر فروعه، رغم شدة الظروف وقسوة الحكام وحالات الاقصاء والتغييب، وذلك عن طريق ثلّة من أصحابه ووكلائه وطلاب مدرسته الفقهاء الرواة المنتشرين في طول البلاد وعرضها، وكان لاسلوب الاتصال بأصحابه عن طريق الكتابة والمراسلة الأثر البالغ في اتصال الامام عليه‌السلام بالاُمّة، ويمكن أن نتلمس دور الإمام عليه‌السلام في تبليغ أحكام الشريعة من خلال النقاط التالية:

١ - الرسائل والمسائل التي رواها عنه عليه‌السلام أصحابه أو أخرجها إليهم، سيما التي تخصّ أحكام الدين وعلم الحلال والحرام.

٢ - ما روي عنه عليه‌السلام مكاتبة أو مشافهة في مجال الأحكام والسنن، وهي موزّعة على أبواب الفقه ومسائله المختلفة، وبمجموعها تعكس بشكل جلي الدور المشرق للامام عليه‌السلام وأصحابه في التشريع ومساهمتهم في الحفاظ على خط الاسلام الأصيل ومبادئه السمحة في أحلك الظروف وأقساها.

٣ - مايعرض عليه من أحاديث الأئمّة عليهم‌السلام فيقوم بتصحيحها، ومن ذلك ما رواه شيخ الطائفة بالاسناد عن أبي السري سهل بن يعقوب بن إسحاق، عن الامام الهادي عليه‌السلام ، قال: « قلت له ذات يوم: يا سيدي، قد وقع لي اختيار الأيام عن سيدنا الصادق عليه‌السلام مما حدثني به الحسن بن عبد الله بن مطهر، عن

__________________

(١) الأمالي / الصدوق: ٤٩٨ / ٦٨٢.

٢٤٥

محمد بن سليمان الديلمي، عن أبيه، عن سيدنا الصادق عليه‌السلام في كل شهر فأعرضه عليك؟ فقال لي: افعل. فلما عرضته عليه وصححته، قلت له: يا سيدي، في أكثر هذه الأيام قواطع عن المقاصد، لما ذكر فيها من النحس والمخاوف، فتدلني على الاحتراز من المخاوف فيها، فإنما تدعوني الضرورة إلى التوجه في الحوائج فيها؟ » الى آخر الحديث (١) .

٤ - مساعدة أصحابه في فهم الأحكام الشرعية المختلف فيها، ومن ذلك ما روي عن إسحاق بن عبد الله العلوي العريضي، قال: « ركب أبي وعمومتي إلى أبي الحسن علي بن محمد عليه‌السلام ، وقد اختلفوا فى الأربعة أيام التي تصام في السنة، وهو مقيم بصريا قبل مصيره إلى سر من رأى، فقال: جئتم تسألوني عن الأيام التي تصام في السنة . فقالوا: ما جئنا إلا لهذا. فقال: اليوم السابع عشر من ربيع الأول، وهو اليوم الذي ولد فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واليوم السابع والعشرون من رجب، وهو اليوم الذي بعث فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واليوم الخامس والعشرون من ذي القعدة، وهو اليوم الذي دحيت فيه الأرض، واليوم الثامن عشر من ذي الحجة، وهو يوم الغدير » (٢) .

وعن خيران الخادم، قال: « كتبت إلى الرجل صلوات الله عليه أسأله عن الثوب يصيبه الخمر ولحم الخنزير أيصلى فيه أم لا؟ فإن أصحابنا قد اختلفوا فيه، فقال بعضهم: صل فيه فإن الله إنما حرم شربها، وقال بعضهم: لا تصل فيه؟ فكتب عليه‌السلام : لا تصل فيه فإنه رجس » (٣) .

__________________

(١) الأمالي / الطوسي: ٢٧٦ / ٥٢٩.

(٢) المناقب / ابن شهرآشوب ٤: ٤١٧.

(٣) الكافي ٣: ٤٠٥ / ٥.

٢٤٦

وعن جعفر بن إبراهيم بن محمد الهمداني، وكان معنا حاجا، قال:: « كتبت إلى أبي الحسن عليه‌السلام على يدي أبي: جعلت فداك، إن أصحابنا اختلفوا في الصاع، بعضهم يقول: الفطرة بصاع المدني، وبعضهم يقول: بصاع العراقي؟ فكتب إلي: الصاع ستة أرطال بالمدني، وتسعة أرطال بالعراقي، قال: وأخبرني أنه يكون بالوزن ألفاً ومائة وسبعين وزنة » (١) .

وعن حمدان بن إسحاق الخراساني قال: « كان لي ابن، وكان تصيبه الحصاة، فقيل لي: ليس له علاج إلا أن تبطه، فبططته فمات، فقالت الشيعة: شركت في دم ابنك. قال: فكتبت إلى أبي الحسن العسكري عليه‌السلام ، فوقع: ليس عليك فيما فعلت شيء، إنما التمست الدواء وكان أجله فيما فعلت » (٢) .

٥ - سيرة الامام الهادي عليه‌السلام وسننه، هي نماذج من سيرة عترة المصطفى صلوات الله عليهم، وبمجموعها تعتبر مصاديق ناطقة عن سيرة جدهم المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي تجسد مبادئ الاسلام وشريعة السماء تجسيداً حياً، وفيما يلي نماذج منها.

أ - تسبيحه: كان عليه‌السلام يقول فيه: « سبحان من هو دائم لا يسهو، سبحان من هو قائم لا يلهو، سبحان من هو غني لا يفتقر، سبحان الله وبحمده » (٣) .

ب - سجدة الشكر: عن حفص الجوهري، قال: « صلى بنا أبو الحسن علي ابن محمد عليه‌السلام صلاة المغرب، فسجد سجدة الشكر بعد السابعة، فقلت له عليه‌السلام : كان آباؤك يسجدون بعد الثلاثة؟ فقال عليه‌السلام : ما كان أحد من آبائي يسجد إلا

__________________

(١) الكافي ٤: ١٧٢ / ٩.

(٢) الكافي ٦: ٥٣ / ٦.

(٣) الدعوات / الراوندي: ٩٤.

٢٤٧

بعد السابعة » (١) .

وعن يحيى بن عبد الرحمن بن خاقان، قال: « رأيت أبا الحسن الثالث عليه‌السلام سجد سجدة الشكر فافترش ذراعيه وألصق جؤجؤه وبطنه بالأرض، فسألته عن ذلك، فقال: كذا يجب » (٢) .

ج - قنوته: كان عليه‌السلام يقنت في صلاته بهذا الدعاء: « يا من تفرد بالربوبية، وتوحد بالوحدانية، يا من أضاء باسمه النهار، وأشرقت به الأنوار، وأظلم بأمره حندس الليل، وهطل بغيثه وابل السيل.

يا من دعاه المضطرون فأجابهم، ولجأ إليه الخائفون فأمنهم، وعبده الطائعون فشكرهم، وحمده الشاكرون فأثابهم، ما أجل شأنك، وأعلى سلطانك، وأنفذ أحكامك، أنت الخالق بغير تكلف، والقاضي بغير تحيف حجتك البالغة، وكلمتك الدامغة » (٣)، إلى آخر الدعاء.

وله قنوت آخر يقول فيه: « مناهل كراماتك بجزيل عطياتك مترعة، وأبواب مناجاتك لمن أمك مشرعة، وعطوف لحظاتك لمن ضرع إليك غير منقطعة، وقد ألجم الحذار، واشتد الاضطرار، وعجز عن الاصطبار أهل الانتظار، وأنت اللهم بالمرصد من المكار، اللهم وغير مهمل مع الامهال، واللائذ بك آمن، والراغب إلك غانم، والقاصد اللهم لبابك سالم، اللهم فعاجل من قد استن في طغيانه، واستمر على جهالته لعقباه في كفرانه، وأطمعه حلمك عنه في نيل إرادته، فهو يتسرع إلى أوليائك بمكارهه،

__________________

(١) التهذيب ٢: ١١٤ / ٤٢٦.

(٢) الكافي ٣: ٣٢٤ - ٣٢٥ / ١٥.

(٣) مهج الدعوات: ٦١.

٢٤٨

ويواصلهم بقبائح مراصده، ويقصدهم في مظانهم بأذيته.

اللهم اكشف العذاب عن المؤمنين، وابعثه جهرة على الظالمين، اللهم اكفف العذاب عن المستجيرين، واصببه على المغترين، اللهم بادر عصبة الحق بالعون، وبادر أعوان الظلم بالقصم، اللهم أسعدنا بالشكر، وامنحنا النصر، وأعذنا من سوء البداء والعاقبة والختر » (١) .

د - احتجامه: عن يعقوب بن يزيد، عن بعض أصحابنا، قال: « دخلت على أبي الحسن علي بن محمد العسكري عليه‌السلام يوم الاربعاء وهو يحتجم، فقلت له: إن أهل الحرمين يروون عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال: من احتجم يوم الاربعاء فأصابه بياض فلا يلومن إلا نفسه. فقال عليه‌السلام : كذبوا إنما يصيب ذلك من حملته أمه في طمث » (٢) .

هـ - الأطعمة: عن محمد بن عيسى، عن أبي الحسن الثالث عليه‌السلام ، قال: « كان يقول: ما أكلت طعاماً أبقى ولا أهيج للداء من اللحم اليابس - يعني القديدـ » (٣) .

وعن محمد بن عيسى، عن أبي الحسن عليه‌السلام ، أنه كان يقول: « القديد لحم سوء، لأنه يسترخي في المعدة، ويهيج كل داء، ولا ينفع من شيء بل يضره » (٤) .

وعن أبي علي بن راشد، قال: « سمعت أبا الحسن الثالث عليه‌السلام يقول: أكل

__________________

(١) مهج الدعوات: ٦٠.

(٢) الخصال: ٣٨٦ / ٧٠ باب السبعة.

(٣) الكافي ٦: ٣١٤ / ٣.

(٤) الكافي ٦: ٣١٤ / ٤.

٢٤٩

العسل حكمة » (١) .

وعن سهل بن زياد، عن بعض أصحابنا، قا: قال أبو الحسن الثالث عليه‌السلام لبعض قهارمته: « استكثروا لنا من الباذنجان، فإنه حار في وقت الحرارة، وبارد في وقت البرودة، معتدل في الأوقات كلها، جيد على كل حال » (٢) .

و - التجمل: عن أبي هاشم الجعفري، قال: « دخلت على أبي الحسن صاحب العسكر عليه‌السلام ، فجاء صبي من صبيانه فناوله وردة، فقبّلها ووضعها على عينيه ثم ناولنيها، وقال عليه‌السلام : يا أبا هاشم، من تناول وردة أو ريحانة فقبلها ووضعها على عينيه، ثم صلى على محمد وآل محمد، كتب الله له الحسنات مثل رمل عالج، ومحا عنه من السيئات مثل ذلك » (٣) .

ز - الاستجارة بالحائر الحسيني: كان الامام الهادي عليه‌السلام اذا ألمّ به مرض أو أصابته علّة استجار بالحائر الحسيني، وهو مرقد سيد شباب أهل الجنة وسبط الرحمة الامام الحسين عليه‌السلام ، وقد روى أبو هاشم الجعفري روايات عديدة في هذا الخصوص منها:

قال أبو هاشم الجعفري: « دخلت على أبي الحسن علي بن محمد عليه‌السلام وهو محموم عليل، فقال لي: يا أبا هاشم، ابعث رجلاً من موالينا إلى الحائر يدعو الله لي، فخرجت من عنده، فاستقبلني علي بن بلال، فأعلمته ما قال لي، وسألته أن يكون الرجل الذي يخرج، فقال: السمع والطاعة، ولكنني أقول إنه أفضل من الحائر، إذا كان بمنزلة من في الحائر، ودعاؤه لنفسه أفضل من دعائي

__________________

(١) المحاسن / البرقي٢: ٥٢٦ / ٧٥٩.

(٢) الكافي ٦: ٣٧٣.

(٣) الكافي ٦: ٥٢٥.

٢٥٠

له بالحائر. فأعلمته عليه‌السلام ما قال، فقال لي: قل له: كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل من البيت والحجر، وكان يطوف بالبيت ويستلم الحجر، وإن لله بقاعاً يحب أن يدعى فيها فيستجيب لمن دعاه، والحائر منها » (١) .

وفي رواية قال: « إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يطوف بالبيت ويقبل الحجر، وحرمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمن أعظم من حرمة البيت، وأمره الله أن يقف بعرفة، إنما هي مواطن يحبّ الله أن يذكر فيها، فأنا أحبّ أن يدعى لي حيث يحبّ الله أن يدعى فيها، والحائر من تلك المواضع » (٢) .

ح - وله عليه‌السلام أدعية وتعقيبات كثيرة: فقد كان عليه‌السلام يعقب بعد صلاة الفجر ولا ينام، وكان يدعو بدعاء طويل عقيب صلاة العصر، وروي عنه دعاء الفرج وأدعية ومناجيات أخرى في أغراض شتى، ولو أوردناها جميعاً لطال بنا المقام وخرجنا عن غرض الكتاب (٣) .

٢٧ - تربية نخبة صالحة من أصحابه الرواة والفقهاء والمؤلفين، ولاريب أن العطاءات العلمية للإمام عليه‌السلام تنكشف من خلال عمل أصحابه المعتمدين، وهم يشكّلون الامتداد الروحي والفكري للإمام في أوساط الاُمّة، وتزداد الحاجة الى مثل هؤلاء الأتباع في زمان الامام الهادي عليه‌السلام بسبب الظروف الداعية إلى السرية والاحتجاب نتيجة سياسة القهر والاقصاء والمراقبة المفروضة على الامام عليه‌السلام من قبل السلطة.

__________________

(١) كامل الزيارات: ٢٨٨ / ٣ باب ٩٠.

(٢) كامل الزيارات: ٢٨٧ / ١ باب ٩٠.

(٣) راجع: مهج الدعوات: ٦٠ و ٦١ و ٢٧١، البلد الأمين: ٦٠، مصباح المتهجد: ٥٥٦.

٢٥١

ومارس الامام الهادي عليه‌السلام دور التربية والتوجيه والاعداد لخاصة أصحابه وقاعدته المؤمنة بمرجعيته الفكرية والروحية، لتحصينهم من موجات الانحراف العقائدي والفكري، وتسليحهم بالفقه والمعرفة، فجعل منهم دعاة حق وخير، ومراجع تهرع اليهم الاُمّة عند الأزمات، وتنهل شتى أنواع المعارف.

قال أبو حماد الرازي: « دخلت على الامام علي بن محمد عليه‌السلام بسر من رأى، فسألته عن أشياء من الحلال والحرام فأجابني عنها، فلما ودعته قال لي: يا حماد إذا أشكل عليك شيء من أمر دينك بناحيتك، فسل عنه عبد العظيم الحسني، واقرأه مني السلام » (١) .

وكان من نتائج ذلك الاشراف والتواصل بين الإمام عليه‌السلام وقاعدته أن اكتملت في عصره عليه‌السلام معالم مدرسة الفقهاء الرواة الذين كانوا يعيشون في أوساط الناس، وينقلون إليهم الأحكام والسنن والعقائد، واستوفت تلك المدرسة كل متطلبات المدرسة العلمية من حيث المنهج والمصدر والمادة، ومهّدت بذلك لعهد الغيبة الصغرى حيث انبثقت عنها مدرسة الفقهاء المحدثين (٢) .

ولغرض الاطلاع على سعة تلك المدرسة وامتداد مرجعية الإمام الهادي عليه‌السلام ومكانته العلمية ودوره في التشريع، نذكر بعض أقطاب تلك المدرسة الثقات والمؤلفين وكما يلي.

__________________

(١) معجم رجال الحديث / السيد الخوئي ١٠: ٥٣.

(٢) راجع: تاريخ التشريع الاسلامي / د. عبد الهادي الفضلي: ١٩٤ ومابعدها - دار الكتاب الاسلامي - ١٤١٤ هـ.

٢٥٢

أولاً - الثقات من أصحابه عليه‌السلام :

استطاعت ثلة واسعة من رواد مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام التواصل مع الإمام الهادي عليه‌السلام عن طريق المكاتبة والمراسلة وشتى الوسائل، وكان فيهم الفقهاء والمؤلفون والمفسرون والعلماء في مختلف الفنون والمعارف، وقد أسهموا في نشر مبادئ تلك المدرسة في مختلف ديار الاسلام.

وبلغ عدد الرواة الذين أخذوا عنه العلم ورووا الحديث أو كاتبوه فأجابهم عن مسائلهم نحو (١٨٧) كما في رجال الشيخ الطوسي (١)، وإذا ضممنا إليهم ما ورد في رجال البرقي ومناقب ابن شهرآشوب ومسند الإمام الهادي، والذين وقعوا في إسناد الأخبار والتواقيع والمكاتبات الواردة عنه، يكون العدد (٢٦٣) من غير تكرار، وهو عدد كبير يدلّ على سعة الدور العلمي البارز الذي اضطلع به أصحاب الإمام الهادي عليه‌السلام مع شدة الظروف المحيطة بعملهم، ويدلّ على سموّ المقام المعرفي والمكانة العلمية التي يمثلها الإمام الهادي عليه‌السلام . وفيما يلي نقتصر على ذكر الثقات من أصحابه عليه‌السلام .

إبراهيم بن عبدة النيسابوري، إبراهيم بن مهزيار الأهوازي، أحمد بن أبي عبد الله البرقي، أحمد بن إسحاق الرازي، أحمد بن إسحاق بن عبد الله، أحمد بن الحسن بن علي بن فضال، أحمد بن محمد بن عبيد الله الأشعري القمي، أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري القمي، أيوب بن نوح بن دراج النخعي، الحسن بن راشد أبو علي البغدادي، الحسن بن ظريف، الحسين بن أسد البصري، الحسين ابن سعيد بن حماد الأهوازي، الحسين بن مالك القمي، حمدان بن سليمان بن عميرة المعروف بابن التاجر، خيران الخادم القراطيسي، داود بن أبي زيد، داود بن القاسم الجعفري، الريان بن الصلت البغدادي، سهل بن زياد الآدمي،

__________________

(١) رجال الشيخ: ٣٩٥ - ٤٠٣.

٢٥٣

صالح بن محمد الهمداني، عبد العظيم بن عبد الله الحسني، عثمان بن سعيد العمري أبو عمرو السمان، علي بن جعفر الهمداني، علي بن الحسين الهمداني، علي بن الريان بن الصلت الأشعري القمي، علي بن شيرة، علي بن محمد المنقري، علي بن مهزيار الأهوازي أبو الحسن، الفضل بن شاذان النيسابوري، محمد بن أبي الصهبان أبو محمد، محمد بن جزك الجمال، محمد بن الحسين بن أبي الخطاب أبو جعفر الزيات، محمد بن الريان بن الصلت الأشعري القمي، محمد بن عثمان العمري، النضر بن محمد الهمداني، هارون بن مسلم بن سعدان الكاتب السر من رائي، يعقوب بن إسحاق بن السكيت، يعقوب بن يزيد الكاتب، أبو الحسين بن الحصين، أبو الحسين بن هلال، أبو الحصين بن الحصين الحصيني.

هؤلاء هم الذين ورد فيهم التوثيق من علماء الرجال، ولو أردنا أن نذكر كلّ من ورد فيه مدح من أصحاب الإمام الهادي عليه‌السلام لكانت القائمة أكبر.

ثانيا - المؤلفون من أصحابه عليه‌السلام :

ومن بين الرواة والفقهاء والعلماء من أصحابه عليه‌السلام من اشتغل بالتصنيف والتأليف في مجال الأحكام والسنن والعقائد وغيرها، وقد صارت كتبهم منذ ذلك الوقت مصادر يُستقى منها العلم، ومناهل تؤخذ منها المعرفة، واُصولاً لمجاميع الحديث التالية لها، ولايزال بعضها متداولاً إلى اليوم كالمحاسن لأحمد بن محمد بن خالد البرقي.

وفيما يلي نذكر أسماء المؤلفين من أصحاب الإمام الهادي عليه‌السلام ، ومن أراد التوسّع في معرفة تفاصيل تراجمهم فليرجع إلى كتب الرجال:

١ - إبراهيم بن عبدة النيسابوري، له كتاب مناسك الحج.

٢ - إبراهيم بن مهزيار الأهوازي، له كتاب البشارات ونوادر الحكمة، وهو من أصحاب الاصول التي استخرج منها الشيخ الصدوق أحاديث كتابه

٢٥٤

الفقيه وحكم بصحتها وأن عليها المعول وإليها المرجع.

٣ - أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن داود بن حمدون الكاتب، أبو عبد الله النديم، شيخ أهل اللغة ووجههم، أستاذ أبي العباس، وله كتب، ولد سنة ٢٠٧ ومات سنة ٣٠٩.

٤ - أحمد بن محمد بن خالد بن عبد الرحمن بن محمد بن علي، أبو جعفر البرقي، مؤلف كتاب المحاسن وكتاب النجوم وغيرهما، توفي سنة ٢٧٤ أو ٢٨٠.

٥ - أحمد بن إسحاق بن عبد الله بن سعد بن مالك بن الأحوص الأشعري، أبو علي القمي، قال أبو الحسن علي بن عبد الواحد الخمري وأحمد ابن الحسين: رأيت من كتبه كتاب علل الصوم كبير، مسائل الرجال لأبي الحسن الثالث عليه‌السلام جمعه.

٦ - أحمد بن الحسن بن علي بن محمد بن فضال، مات سنة ٢٦٠، وهو معدود من المصنفين.

٧ - أحمد بن محمد بن عبيد الله الأشعري القمي، له كتاب نوادر.

٨ - أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري القمي، يظهر من النجاشي والشيخ أن كتبه في الفقه منحصرة بكتاب المتعة أو كتاب النوادر، وكان غير مبوب فبوبه داود بن كورة، وله كتاب الحج، وبالجملة كانت كتبه عند المشايخ الثلاثة يأخذون منها الأحاديث ويثبتونها في الكتب الأربعة.

٩ - أحمد بن مطهر صاحب كتاب معتمد، وهو من أصحاب الاصول التي اعتمد عليها الشيخ الصدوق وحكم بصحتها، واستخرج أحاديث كتابه الفقيه منها.

١٠ - أيوب بن نوح بن دراج النخعي، له كتاب وروايات ومسائل من أبي الحسن الثالث عليه‌السلام .

٢٥٥

١١ - جعفر بن محمد بن يونس الأحول الصيرفي، مولى بجيلة، له كتاب.

١٢ - الحسن بن خرزاد القمي، له كتاب أسماء رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكتاب المتعة.

١٣ - الحسن بن ظريف، له نوادر.

١٤ - الحسين بن سعيد بن حماد الأهوازي، له ثلاثون كتاباً.

١٥ - حمدان بن إسحاق الخراساني، له كتاب علل الوضوء.

١٦ - داود بن أبي زيد، له كتب ذكرها الكشي وابن النديم في كتابيهما.

١٧ - داود بن القاسم الجعفري، له كتاب.

١٨ - رجاء بن يحيى العبرتائي، له رسالة تسمى المقنعة في أبواب الشريعة، رواها عنه أبو المفضل الشيباني.

١٩ - السري بن سلامة الاصفهاني، له كتاب.

٢٠ - علي بن بلال، بغدادي، يكنى أبا الحسن، له كتاب.

٢١ - علي بن الريان بن الصلت الأشعري القمي، له عنه نسخة وله كتاب منثور الأحاديث.

٢٢ - علي بن معبد، بغدادي، له كتاب.

٢٣ - علي بن مهزيار الأهوازي، يكنى أبا الحسن، له ثلاثة وثلاثون كتاباً.

٢٤ - الفضل بن شاذان النيسابوري، له كتاب.

٢٥ - محمد بن أورمة، له كتب منها: كتاب الوضوء، كتاب الصلاة، كتاب الزكاة، كتاب الصيام، كتاب تفسير القرآن، كتاب الرد على الغلاة، كتاب الدعاء، كتاب الزهد، كتاب ما نزل من القرآن في علي.

٢٦ - محمد بن الريان بن الصلت الأشعري القمي، له عنه عليه‌السلام مسائل.

٢٧ - محمد بن علي بن عيسى الأشعري القمي، له مسائل لأبي محمد العسكري عليه‌السلام .

٢٥٦

٢٨ - هارون بن مسلم بن سعدان الكاتب السر من رائي، له كتاب التوحيد، وكتاب الفضائل، وكتاب الخطب، وكتاب المغازي، وكتاب الدعاء، وله مسائل لأبي الحسن الثالث عليه‌السلام .

٢٩ - يعقوب بن إسحاق بن السكيت، له كتاب إصلاح المنطق، وكتاب الألفاظ، وكتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه، وكتاب الأضداد، وكتاب المذكر والمؤنث، كتاب المقصور والممدود، وكتاب الطير، وكتاب النبات، وكتاب الوحش وغيرها.

ثالثا - الوكلاء من أصحابه عليه‌السلام :

اضطلعت شريحة اُخرى من الأصحاب بتأمين التواصل بين الامام عليه‌السلام والاُمّة، فكانوا قيّمين ووكلاء له في طول البلاد وعرضها، ومنهم: إبراهيم بن عبدة النيسابوري، أيوب بن نوح بن دراج النخعي، جعفر بن سهيل الصيقل، الحسن بن راشد، زنكان أبو سليم، علي بن جعفر الهمداني، علي بن الريان بن الصلت الأشعري.

المبحث الثالث - اسهاماته عليه‌السلام في علم الطب:

للامام الهادي عليه‌السلام اسهامات في علوم أخرى يأتي على رأسها ارشاداته التي تنضوي تحت علم الطب، وفيما يلي بعض الروايات في هذا الاتجاه:

روى الحسين وأبو عتاب ابنا بسطام بالاسناد عن أحمد بن العباس بن المفضل، عن أخيه عبد الله، قال: « لدغتني العقرب فكادت شوكته حين ضربتني تبلغ بطني من شدة ما ضربتني، وكان أبو الحسن العسكري عليه‌السلام جارنا فصرت إليه، فقلت: إن ابني عبد الله لدغته العقرب، وهو ذا يتخوف عليه؟ فقال: اسقوه من دواء الجامع، فإنه دواء الرضا عليه‌السلام . فقلت: وما هو؟ قال:

٢٥٧

دواء معروف. قلت: مولاي فإني لا أعرفه. قال: خذ سنبل وزعفران وقاقلة وعاقر قرحا وخربق أبيض وبنج وفلفل أبيض - أجزاء سواء بالسوية - وأبرفيون جزءين، يدق دقاً ناعماً، وينخل بحريرة، ويعجن بعسل منزوع الرغوة، ويسقى منه للسعة الحية والعقرب حبة بماء الحلتيت، فإنه يبرأ من ساعته. قال: فعالجناه به وسقيناه فبرأ من ساعته، ونحن نتخذه ونعطيه للناس إلى يومنا هذا » (١) .

ولم يتردد الامام الهادي عليه‌السلام عن وصف العلاج حتى لألدّ أعدائه، وهو المتوكل العباسي، فقد روي بالاسناد عن إبراهيم بن محمد الطاهري أنه قال: « مرض المتوكل من خراج خرج به وأشرف منه على الهلاك، فلم يجسر أحد أن يمسه بحديدة، فنذرت أمه إن عوفي أن تحمل إلى أبي الحسن علي بن محمد مالاً جليلاً من مالها، وقال له الفتح بن خاقان: لو بعثت إلى هذا الرجل فسألته فإنه لا يخلو أن يكون عنده صفة يفرج بها عنك، فبعث إليه ووصف له علته، فرد إليه الرسول بأن يؤخذ كسب الشاة، فيداف بماء ورد فيوضع عليه. فلما رجع الرسول فأخبرهم أقبلوا يهزؤون من قوله، فقال له الفتح: هو والله أعلم بما قال. وأحضر الكسب، وعمل كما قال، ووضع عليه، فغلبه النوم وسكن، ثم انفتح وخرج منه ما كان فيه وبشرت أمه بعافيته، فحملت إليه عشرة آلاف دينار تحت خاتمها، ثم استقلّ من علّته (٢) الى آخر الحديث. وأمثلة هذه العلاجات المروية عنه كثيرة ».

* * *

__________________

(١) طب الأئمة: ٨٨.

(٢) اصول الكافي ١: ٤٩٩ / ٤ باب مولد أبي الحسن علي بن محمد عليه‌السلام من كتاب الحجة، الارشاد ٢: ٣٠٣، الخرائج والجرائح ١: ٦٧٦ / ٨.

٢٥٨

الفصل السابع

شهادة الإمام الهادي عليه السلام

بعد أكثر من عشرين سنة من حالات التغييب والاقصاء والمراقبة التي عاناها الامام الهادي عليه‌السلام خلال اقامته في سامراء، توفي عليه‌السلام في يوم الاثنين الثالث من رجب سنة ٢٥٤، وقيل: لثلاث أو أربع أو خمس بقين من جمادى الآخرة سنة ٢٥٤، والأول أشهر نص عليه أغلب محدثي الطائفة ومؤرخيهم (١) .

واكتظّ الناس في موكب التشييع، وصلى عليه ابنه الإمام أبو محمد الحسن العسكري عليه‌السلام (٢)، وروي أنه عليه‌السلام خرج في جنازته مشقوق القميص، فقيل له في ذلك، فقال: « قد شقّ موسى على هارون » (٣) .

__________________

(١) راجع: أصول الكافي ١: ٤٩٧ باب مولد أبي الحسن علي بن محمد عليه‌السلام من كتاب الحجة، دلائل الإمامة: ٤٠٩، تاج المواليد / الطبرسي: ١٣٢ - ضمن مجموعة نفيسة - مكتبة السيد المرعشي - قم، المناقب لابن شهرآشوب ٤: ٤٣٣، كشف الغمة ٣: ١٦٥ و ١٧٤، تاريخ بغداد ١٢: ٥٧ / ٦٤٤٠، البداية والنهاية ١١: ١٤ - ١٥، الفصول المهمة ٢: ١٠٧٤، اعلام الورى ٢: ١٠٩، تاريخ اليعقوبي ٢: ٥٠٣، تاج الموليد ١٣٢، نور الأبصار: ٨٣، بحار الأنوار ٥٠: ١١٧.

(٢) أصول الكافي ١: ٣٢٦ / ٣ - باب الاشارة والنص على أبي محمد عليه‌السلام من كتاب الحجة، الارشاد ٢: ٣١٥، إعلام الورى ٢: ١٣٣.

(٣) رجال الكشي بشرح الداماد: ٨٤٢ - ٨٤٣، المناقب / ابن شهرآشوب ٤: ٤٦٧، وسائل الشيعة ٣: ٢٧٤ / ٣٦٣٤ - ٣٦٣٦.

٢٥٩

وعن اليعقوبي: « أن المعتز بعث بأخيه أحمد بن المتوكل، فصلّى عليه في الشارع المعروف بشارع أبي أحمد، فلما كثر الناس واجتمعوا كثر بكاؤهم وضجتهم، فرُدّ النعش إلى داره فدفن فيها » (١) .

مقدار عمره عليه‌السلام :

استشهد الإمام الهادي عليه‌السلام وكان له من العمر يوم شهادته ٤١ عاماً وستة أشهر، وقيل: ٤٠ عاماً، بحسب الاختلاف في تاريخ ولادته عليه‌السلام .

قال ثقة الاسلام الشيخ الكليني: روي أنه قبض عليه‌السلام في رجب سنة أربع وخمسين ومائتين وله أحد وأربعون سنة وستة أشهر، وأربعون سنة على المولد الآخر الذي روي، وكان المتوكل أشخصه مع يحيى بن هرثمة بن أعين من المدينة إلى سر من رأى، فتوفي بها عليه‌السلام ودفن في داره (٢) . وهذه الدار كان الامام عليه‌السلام قد ابتاعها من دليل النصراني.

روى الخطيب البغدادي بالاسناد عن أحمد بن إبراهيم بن محمد بن عرفة قال: وفي هذه السنة - يعني سنة أربع وخمسين ومائتين - توفي علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب بسر من رأى في داره التي ابتاعها من دليل بن يعقوب النصراني (٣) .

سبب شهادته عليه‌السلام :

نقل كثير من المؤرخين والمحدثين أنّ الإمام الهادي عليه‌السلام مات مسموما،

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ٥٠٣.

(٢) راجع: أصول الكافي ١: ٤٩٧ باب مولد أبي الحسن علي بن محمد عليه‌السلام من كتاب الحجة، الارشاد ٢: ٣١٣، الفصول المهمة ٢: ١٠٨٠، اعلام الورى ٢: ١٠٩، دلائل الامامة: ٤٠٩.

(٣) تاريخ بغداد ١٢: ٥٧ / ٦٤٤٠.

٢٦٠

أنّ الإنسان التائب محكوم بحكم آخر، والاختلاف في الحكم لأجل الاختلاف في الموضوع، والتبدّل في ناحية المعلوم دون العلم وإلاّ فالحاكم العادل قد علم وحكم من الأزل بحكمين مختلفين على موضوعين متفاوتين، قال عز من قائل:( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (١) فقد حكم على الإنسان المشرك بالقتل وعلى الإنسان الذي تاب من شركه بالتخلية لسبيله وإطلاق سراحه وعدم التعرض له، ولا يعد الثاني ناقضاً للحكم الأوّل.

والمثال لا ينحصر بما ذكرناه بل هناك مئات الأمثلة وآلاف الشواهد من هذا القبيل، ولا يعد أي عاقل، الحكم الثاني، ناقضاً للحكم الأوّل.

ولنأت بمثال ثالث تتميماً للوضوح: لا شك انّ لله سبحانه أوامر جدية، وأُخرى امتحانية ولكل غايته وهدفه الخاص، والهدف في الأوامر الجدية هو إحراز المكلف ما يترتب على الموضوع من المصالح كإقامة الصلاة لأجل كونها ناهيةً عن الفحشاء والمنكر، لقوله:( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ ) (٢) وأمّا الأوامر الامتحانية فليس الهدف منها إلّا جعل العبد في بوتقة الامتحان حتى يتفتح كل ما يملك من الكمال بصورة القوة والاستعداد ويدخل إلى مرحلة الفعلية، التي هي الكمال لما هو أمر بالقوة، وهذا كجعل تراب الحديد حديداً خالصاً من خلال التذويب في المصانع الخاصة فتكون المصائب والمتاعب التي يمر بها العبد في طريق امتثاله للأوامر الامتحانية بمثابة الحرارة المتوجهة إلى التراب المعدني في إبراز كمالاته، وإخراج جوهره.

__________________

(١) التوبة: ٥.

(٢) العنكبوت: ٤٥.

٢٦١

فإبراهيم الخليل كان يملك كمالاً بالقوة وهو ترك ما سوى الله في طريق أمره سبحانه، ولكن هذا الكمال كان مكنوناً في ذاته، مركوزاً في وجوده فأراد الله سبحانه إظهار ذلك الكمال وإبرازه من مكمن وجوده إلى ساحة الفعلية والتحقّق، فأمره سبحانه بذبح الولد وهو قد أخذ بيد ولده وصار به إلى المذبح، فأراد ذبحه امتثالاً لأمره سبحانه، فأظهر بذلك أنّه يؤثر طاعته سبحانه على كل ما يملك من العواطف القلبية لولده العزيز، فعند ذاك تفتح ذاك الكمال وصار إلى مرحلة الظهور، وتحققت الغاية من أمره تعالى، وجاء أمره سبحانه مخاطباً إيّاه( قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ *إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ البَلاءُ المُبِينُ *وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ) (١) .

فهناك حكمان على موضوعين مختلفين فالخليل المالك للكمال بالقوة مخاطب بذبح الولد، والخليل الواصل إلى هذه الذروة من الكمال، مخاطب بحكم آخر، وهو التفدية عنه بذبح عظيم، ولا يعد كل ناقضاً للآخر بل الاختلاف في الحكم أثر الاختلاف في الموضوع.

وعلى هذا الأساس تبيّن انّ اختلاف الحكم بالشفاعة في مورد العاصي من قبيل اختلاف الحكم حسب اختلاف الموضوع.

وتوضيح ذلك: انّ العاصي بما هو عاص وبما انّه مجرّد عن انضمام الشفاعة إليه، محكوم بالعقاب، ولكنّه بانضمام الشفاعة إليه، محكوم بحكم آخر، واختلاف الحكمين أثر اختلاف الموضوعين بالإطلاق والتقييد.

وإن شئت قلت: إنّ العاصي مجرداً عما يمر عليه في البرزخ من العذاب وما يستتبع ذلك العذاب من الصفاء في روحه، ومجرداً عن دعاء الشفيع في حقه ،

__________________

(١) الصافات: ١٠٥ ـ ١٠٧.

٢٦٢

محكوم بالحكم الأوّل، ولكنه منضماً إلى هذه الضمائم الثلاث محكوم بالمغفرة، فإذا أردت أن تمثل لتبيين حقيقة الشفاعة فعليك انّ تقول: إنّ نسبة الحكم الثاني إلى الحكم الأوّل ليس كنسبة الحكم الصادر عن محكمة الاستئناف بالنسبة إلى حكم المحكمة الابتدائية الذي يعد الثاني ناقضاً للحكم الأوّل، بل هو من قبيل الحكم الصادر في حق المجرم إذا جلب رضا المشتكي بالنسبة إلى الحكم الصادر في حقه قبل جلب رضاه، فالاختلاف والتفاوت في الحكم لأجل الاختلاف في الموضوع.

وعلى ذلك فلابد أن يقال انّ الشفاعة لا توجب اختلافاً في علمه وتغييراً في إرادته، كما لا توجب أن يكون أحد الحكمين مطابقاً للعدل والآخر مطابقاً للجور، بل الحكمان صادران عن مصدر العدل على وفقه.

الإشكال الرابع

ما أشار إليه الشيخ محمد عبده أيضاً حسب ما نقله عنه تلميذه السيد محمد رشيد رضا: ليس في القرآن نص قطعي على وقوع الشفاعة، ولكن ورد الحديث بإثباتها(١) .

هذا ويمكن تقرير الإشكال بوجه آخر فنقول: لقد نفيت الشفاعة في بعض الآيات على وجه الإطلاق قال سبحانه:( أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ ) (٢) كما نفى في بعض الآيات نفع شفاعة الشافعين كقوله( فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ) (٣) ، وقد علّقت في بعض الآيات على إذنه سبحانه وارتضائه قال سبحانه:( مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلا

__________________

(١) تفسير المنار: ٧ / ٢٧٠.

(٢) البقرة: ٢٥٤.

(٣) المدثر: ٤٨.

٢٦٣

بِإِذْنِهِ ) (١) وقال سبحانه:( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) (٢) غير انّ الاستثناء لا يدل على وقوع المستثنى إذ له نظائر في القرآن الكريم. قال سبحانه:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَىٰ *إِلا مَا شَاءَ اللهُ ) (٣) إذ من المحقق انّ النبي لا ينسى القرآن، ولم ينسه. ومثله قوله سبحانه:( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) (٤) .

ومن المعلوم انّ الاستثناء الوارد في الآية الأخيرة غير محقّق أبداً فانّهم مخلدون فيها. نعم يدل الاستثناء على الإمكان، أي إمكان اخراجهم من الجنة، معلناً بأنّ دخولهم الجنة لا يلازم نفي القدرة الإلهية على إمكان إخراجهم منها، وانّه ليس الأمر خارجاً عن قدرته، فله أن يخرجهم منها كما له أن يبقيهم فيها، فلا مانع من أن تكون الآيات الواردة في الشفاعة، خصوصاً ما اشتمل منها على الاستثناء من هذا القبيل، معلناً بإمكان الشفاعة لا وقوعها.

الجواب

قد أشبعنا البحث حول الآيات الواردة في الشفاعة فيما مضى، وبيّنا أصنافها، وقلنا إنّ الآيات النافية للشفاعة من الأساس، راجعة إلى أيّ قسم منها، فلأجل ذلك لا نعيد الكلام فيها. وإنّما المهم توضيح ما ورد من الاستثناء في الآيات المتقدمة فنقول :

إنّ البحث عن إمكان الشفاعة وامتناعها يشبه الأبحاث الفلسفية الدارجة فيها ولا يناسب حمل الآيات عليها، والتقول بأنّ الآيات ناظرة إلى إمكانها لا

__________________

(١) البقرة: ٢٥٥.

(٢) الأنبياء: ٢٨.

(٣) الأعلى: ٦ ـ ٧.

(٤) هود: ١٠٨.

٢٦٤

وقوعها أشبه شيء بالأبحاث الجدلية.

إنّ البحث عن الإمكان والامتناع يناسب المسائل الفلسفية البحتة، والكلامية الخالصة كما في البحث عن إمكان تعدّد الواجب وامتناعه وما شابه تلك المسألة، فنرى أنّه سبحانه يبحث عن الإمكان والوقوع في قوله:( لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللهُ لَفَسَدَتَا ) (١) وقال سبحانه:( وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) (٢) .

وأمّا المسائل التربوية أو الاجتماعية التي تدور مدار التربية والتوعية الاجتماعية والفردية، فالبحث عن الإمكان والوقوع فيها ساقط وغير مناسب للأهداف القرآنية ولا يتوجه النظر إلّا إلى قسم واحد، وهو وقوع ما وعد به سبحانه في كتابه من الاستثناء كما في نظائره:( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً ) (٣) وقال سبحانه:( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللهِ ) (٤) وما شابه هاتين الآيتين.

وعلى ذلك فلا يتبادر من تلك الآيات إلّا وقوع الإذن والارتضاء من الله سبحانه والحمل على الإمكان فيما ورد في قوله:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَىٰ *إِلا مَا شَاءَ اللهُ ) لأجل قرينة خاصة وهي الدلائل المتضافرة على عصمة النبي، وهذه القرينة تصدّنا عن حمل الآية على وقوع الاستثناء وتحقّقه.

ومثل تلك القرينة موجودة في الآية الأخرى الدالة على خلود المؤمنين في الجنة، أعني قوله:( مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ ) فإنّ الحمل على

__________________

(١) الأنبياء: ٢٢.

(٢) المؤمنون: ٩١.

(٣) آل عمران: ١٤٥.

(٤) يونس: ١٠٠.

٢٦٥

الإمكان أي إمكان عدم الخلود، لأجل قرينة قطعية دلت على تحقّق الخلود، لأهل النعيم في الآخرة، وهذا العلم يصدّنا عن حمل الاستثناء على وقوعه.

هذا كلّه مع غض النظر عمّا في نفس الآيات من القرائن الدالة على وقوع الاستثناء، وإليك تلك القرائن :

الأولى: قال سبحانه:( وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) (١) فإنّ التعبير عن رضاه بالفعل الماضي يدل على تحقّق ذلك الرضا، في حق المشفوع له، ورضاه سبحانه لا ينفك عن إذنه للشفعاء، لأنّ إعلان الرضا بالنسبة إلى المشفوع له بلا صدور إذن منه سبحانه للشفيع يعد أمراً لغواً، وحمل قوله:( إِلا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ) على وجود الرضا منه سبحانه دون إبلاغه للشفعاء أشبه شيء بالهزل.

الثانية: انّه سبحانه يخبر بخبر قطعي عن شفاعة من شهد بالحق ممن كانوا تسبغ عليهم صفة الإلوهية كالمسيح والملائكة، قال سبحانه:( وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (٢) والاستثناء يدل على تملك من شهد بالحق لأمر الشفاعة بإذن منه سبحانه وتملّكه هذا يكشف عن تحقّق المراتب المتقدمة عليه من إذنه سبحانه له وارتضائه لمن يستحقها.

اللّهم إلّا أن يدّعي المعترض في ذلك الاستثناء ما ادّعاه في الآيات المشتملة على الإذن والارتضاء في آيات الشفاعة ويحمل مالكية من شهد بالحق للشفاعة على الإمكان دون الوقوع، وهو كما ترى.

ونظير الآية السابقة قوله سبحانه:( لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْداً ) (٣) والاستثناء ظاهر في تملّك من اتخذ عند الرحمن عهداً أمر

__________________

(١) الأنبياء: ٢٨.

(٢) الزخرف: ٨٦.

(٣) مريم: ٨٧.

٢٦٦

الشفاعة، وتمليكه سبحانه إيّاها لهم لا ينفك عن إذنه وارتضائه.

وإن شئت قلت: إنّ تمليك الشفاعة من جانب الله لفريق خاص دال بالملازمة العرفية على أنّ هذا التمليك لأجل الاستفادة منه وتنفيذه في مواضع خاصة وحمله على مجرد التمليك من دون أن يقترن بالإذن أبداً تفسير للآية بغير الوجه المعقول، إذ أيّة فائدة لهذا التمليك الذي لا يتلوه الإذن أبداً، فإنّ هذا أشبه شيء بتمليك الشيء للإنسان والمنع عن الاستفادة منه بوجه من الوجوه.

وما ربما يقال من أنّه سبحانه علّق الشفاعة في بعض الآيات على أمر محال، وهو اتخاذ العهد عند الرحمن، قال سبحانه:( لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْداً ) (١) مع أنّ بعض الآيات دالة على أنّه لم يتخذ أحد عند الله عهداً قال سبحانه:( قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللهِ عَهْداً ) (٢) ، وقال:( أَطَّلَعَ الغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْداً ) (٣) .

ولكن الاعتراض هذا ساقط جداً، لأنّ سياق تلك الآيات كاشف عن أنّ الهدف هو نفي اتخاذ العهد في حق جماعة خاصة.

أمّا الآية الأولى فلأنّها وردت لنفي دعوى اليهود الوارد في قولهم:( وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ) فردّ عليهم سبحانه بقوله:( قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللهِ عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ ) .

وأمّا الآية الثانية، فلأنّها واردة أيضاً في مورد خاص، وهو الذي يحكي عنه سبحانه بقوله:( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ) فردّ عليه سبحانه بقوله:( أَطَّلَعَ الغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَٰنِ عَهْداً ) .

__________________

(١) مريم: ٨٧.

(٢) البقرة: ٨٠.

(٣) مريم: ٧٨.

٢٦٧

ومع هذا السياق البارز في الآيتين هل يصح أن يقال انّه لا عهد بين الله سبحانه وبين أحد من عباده مطلقاً مع أنّه يصرّح بوجود مثل هذا العهد إذ يقول:( وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ ) (١) وقال سبحانه:( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ) (٢) إلى غير ذلك من الآيات.

الإشكال الخامس

ما ورد في إثبات الشفاعة من الآيات المتشابهات، وفيه يقضي مذهب السلف بالتفويض والتسليم، وانّها مزية يختص الله بها من يشاء يوم القيامة، عبر عنها بهذا المعنى « الشفاعة » ولا نحيط بحقيقتها مع تنزيه الله جل جلاله عن المعنى المعروف من معنى الشفاعة في لسان التخاطب العرفي(٣) .

الجواب

إنّ القرآن كتاب سماوي أُنزل لغرض التعليم والتربية، والهداية والتزكية، وقد نبّه على ذلك سبحانه في آيات كثيرة لا مجال لإيرادها هنا، قال سبحانه:( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ ) (٤) فلو جعلنا الآيات الواردة حول الشفاعة التي تقارب ثلاثين آية من المتشابهات يلزم أن تعد أكثر الآيات الواردة في الكتاب العزيز من الآيات المتشابهة ولازم ذلك جعل الكتاب العزيز غير مفهوم للناس الذين أُنزل ذلك الكتاب لهدايتهم وتربيتهم.

__________________

(١) البقرة: ١٢٥.

(٢) طه: ١١٥.

(٣) تفسير المنار: ١ / ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

(٤) القمر: ١٧.

٢٦٨

وكون الآية محتاجة إلى التفسير لا يكون دليلاً على كونها من الآيات المتشابهة، فإنّ كثيراً من الآيات لابتعادنا عن عصر نزولها تحتاج إلى التفسير، وكم من آية وآيات كتبت حولها رسالة أو رسائل، ومع ذلك لم تعد واحدة منها من الآيات المتشابهة.

إنّ المراد من الآيات المتشابهة ما أحاط بها الإبهام حول المراد منها فاشتبه المقصود الواقعي بغيره وهذا الميزان لا ينطبق إلّا على قليل من الآيات.

ثم إنّ كون الآية من الآيات المتشابهة لا يستلزم ترك البحث فيها وعدم الاستفادة منها، بل الآيات المتشابهة تفسر بالآيات المحكمة بحكم أنّها أُمّ الكتاب وأصل للمتشابهات قال سبحانه:( هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) (١) فإنّ قوله سبحانه في شأن الآيات المحكمة بأنّها أُمّ الكتاب يعرب عن كونها هي الأصل وإنّ المتشابهة هي الفرع، ورد المتشابه إلى المحكم كرد الفرع إلى الأصل.

وقد عرفت في صدر البحث مجموع الآيات الواردة حول الشفاعة وانّه ليست هناك آية أحاط بها الإبهام وامتنعت على الفهم، وعلى فرض وجودها لم توجد آية لا يمكن رفع إبهامها بأُختها، أو بالأحاديث الواردة حولها(٢) .

__________________

(١) آل عمران: ٧.

(٢) ما ذكره « من أنّ مذهب السلف في المتشابهات يقضي بالتفويض والتسليم » مبني على ما اختاره في تفسير الآيات المتشابهة من أنّها عبارة عن المفاهيم الواردة في القرآن، التي لا يمكن أن يقف على حقيقتها إلّا الله سبحانه كحقيقة ذاته وصفاته وأفعاله من الجنّة ونعيمها والجحيم ونارها إلى غير ذلك.

غير انّ تفسير الآيات المتشابهة بهذا المعنى مردود أساساً، وقد أوضحنا الكلام في حقيقة الآيات المتشابهة في محلها وقلنا: إنّها ليست إلّا عبارة عن الآيات التي يشتبه فيها المراد بغير المراد والحق بالباطل ويزاح الستر عن وجه الحق، بالآيات المحكمة، ولأجل ذلك يصف القرآن الكريم، الآيات المحكمة بأنّها « أُم الكتاب » وأُسسه.

٢٦٩

وأغلب الظن انّ الباعث على وصف هذه الآيات الواضحة الدلالة والمراد بكونها من المتشابه هو تأثر الأستاذ صاحب المنار وتلميذه بالموجة الوهابية، فهو الأمر الذي دفعهما إلى حمل هذه الآيات محمل المتشابه، والإعراض عن الأخذ بمدلولاتها الظاهرة الصريحة.

ولعل جعل صاحب المنار آيات الشفاعة من الآيات المتشابهة ورميها بهذا الوصف لأجل الإشكال الذي سوف نذكره، وهو تخيل انّ الشفاعة التي جاء بها القرآن نوع من الوساطة المتعارفة في الحياة المادية بين الناس، وسنطرح هذا الإشكال ودفعه من الأساس.

الإشكال السادس

ربّما يتخيل بأنّ الشفاعة نوع من الوساطة المتعارفة بين الناس، ويجب تنزيه المقام الإلهي من هذا النوع من الوساطة، وتوضيحه: انّ الخارج على القانون في الحياة الاجتماعية إذا حكم عليه بضرب من العقوبة المالية أو البدنية يبعث من له مكانة عند الحاكم حتى يقوم بالوساطة عنده ويبعثه على العفو والإغماض عن معاقبته، فتصبح النتيجة أن يجري القانون على من يفقد مثل هذه الوساطة ولا يجري على من يجدها، وهذا من الظلم الفظيع السائد في الأنظمة البشرية، ويجب تنزيه الشريعة الإسلامية المقدسة عن قبول هذا النوع من الوساطة.

الجواب

إنّ الأساس لهذا الإشكال هو قياس الشفاعة الواردة في الكتاب العزيز على الشفاعة الدارجة في الحياة الاجتماعية للبشر.

ولو كان معنى الشفاعة هذا فقد رفضه القرآن أشد الرفض، إذ هذا النوع

٢٧٠

من الشفاعة كان من معتقدات عرب الجاهلية حيث كانوا يعبدون الأصنام لهذه الغاية، قال سبحانه واصفاً حالهم:( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَٰؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ ) (١) فالعربي الجاهلي كان يتخيل انّ مكانة الآلهة الباطلة تكون سبباً لصرف إرادته سبحانه عن معاقبة المجرمين والعصاة، أو تكون سبباً لجلب عنايته بهم، فردّ الله سبحانه على تلك المزعمة بقوله:( قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (٢) .

وقال في آية أُخرى واصفاً حالهم أيضاً:( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَىٰ ) (٣) ثم رد عليهم بقوله:( إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ) (٤) .

وعلى ذلك فالشفاعة بهذا المعنى وهو غلبة إرادة الشفيع على إرادة المشفوع عنده، بصرف إرادته عن عقوبتهم أو جلب إرادته لرفع منزلتهم مرفوضة في منطق القرآن، فانّه سبحانه هو الحق المطلق لا يؤثر فيه شيء ولا يتأثر عن شيء ولا يجعل القانون لعبة الشفيع حتى يجري في حق بعض دون بعض، وانّما الشفاعة التي دعا إليها القرآن شيء آخر، وهو إيصال الفيض الإلهي، أعني: المغفرة والعفو الى عباده المستحقين عن طريق أوليائه وأصفيائه، وذلك لأنّ مشيئته الحكيمة جرت على إيجاد المسبّبات عن طريق أسبابها، وإحداث الأشياء عن طرقها، فكما أنّ لكل ظاهرة مادية سبباً مادياً توجد بهذا السبب وتصل إلى الناس عن هذا الطريق، فهكذا الفيوض الإلهية تصل إلى عباد الله عن الطرق الخاصة المعينة، وهذا كهداية

__________________

(١) يونس: ١٨.

(٢) يونس: ١٨.

(٣) الزمر: ٣.

(٤) الزمر: ٣.

٢٧١

الناس عن طريق الأنبياء والرسل، فالهادي هو الله سبحانه لكن عن طريق أنبيائه ورسله، وقضت مشيئته الحكيمة بهذا، قال سبحانه:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) (١) ترى أنّه سبحانه يجري فعله أي الحكم بالحق عن طريق بعث النبيين كيف والقرآن المجيد يصدق هذا النظام السائد في الأمور المعنوية والمادية قال سبحانه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ ) (٢) .

فإنّ المراد من الوسيلة ما يتوسل به إلى الشيء والآية تدعو إلى الإتيان بالقربات والقيام بالوظائف التي يتوسل بها الإنسان إلى مرضاته ورضوانه.

وإذا كانت هذه الآية تدعو إلى ابتغاء الوسيلة بشكل عام من دون أن تعيّن شخص الوسيلة، فقد قامت الآيات الأخر بتعيين الوسائل التي تتحصّل معها مغفرته ورضوانه، ويكتسب بها عفوه وغفرانه، قال سبحانه:( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) (٣) ترى أنّه سبحانه يأمر نبيه بأن يصلّي عليهم حتى تنزل عليهم السكينة التي هي فعله سبحانه ولطفه، فالسكينة تصل إليهم عن طريق سببه وهو دعاء النبي، وقال سبحانه:( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابًا رَحِيماً ) (٤) ترى أنّ الآية تدعو المجرمين والعصاة إلى ابتغاء الوسيلة للوصول إلى غفرانه وهو دعاء النبي واستغفاره في حقهم، وليست هذه سنّة مخصوصة بالأمّة الإسلامية، بل جرت عليها مشيئته في الأمم السابقة حيث نرى أنّ أبناء يعقوب عندما شعروا بالإثم

__________________

(١) البقرة: ٢١٣.

(٢) المائدة: ٣٥.

(٣) التوبة: ١٠٣.

(٤) النساء: ١٤.

٢٧٢

راحوا يطلبون من أبيهم استغفاره في حقّهم فلمّا سمع هو دعوتهم، وعدهم بالانجاز قال سبحانه:( قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ *قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (١) .

وهذه الآيات ونظائرها ترشد الباحث على أنّ للأمور المعنوية وتحقّقها نظاماً على غرار النظام السائد في الأمور المادية. ولأجل ذلك لا يصح للقارئ الكريم أن يتعجب من وصول فيضه ومغفرته سبحانه يوم القيامة إلى عباده المستحقين لها عن طريق الشفعاء، وأوليائه المخلصين.

أضف إلى ذلك أنّ في استجابة دعوة الأولياء ( الذين لا يدعون ولا يطلبون شيئاً مخالفاً للعدالة الإلهية، ومشيئته الحكيمة ) نوع تكريم وتبجيل لهم ولمقامهم، ونوع إشادة بهم، وإظهار لفضلهم.

نعم هؤلاء الكرام البررة لا يطلبون فيضه وغفرانه إلّا لمن استحقها، وهو من لم يقطع صلته الإيمانية بالله وعلاقته الروحية مع أوليائه، وشفعائه. وإذا أردت أن تقف على الفرق الكبير والواضح بين الشفاعتين ( الشفاعة السائدة في الجماعات المادية والشفاعة القرآنية ) فاستمع لما نتلوه عليك من الفروق الموجودة في الشفاعتين :

الفروق الموجودة في الشفاعتين

أوّلاً: أنّ زمام الشفاعة التي نطق بها القرآن بيد الله سبحانه، فهو الذي يبعث الشفيع ـ لما فيه من الكمال والمعنوية ـ حتى يشفع في حق المجرم الذي له صلاحية المغفرة، فتصبح النتيجة أنّ رحمته الواسعة ومغفرته العميمة تصل من طريق الشفيع إلى عباده، فعلى ذلك فالأمور كلها بيده، وناشئة منه، وراجعة إليه ،

__________________

(١) يوسف: ٩٧ ـ ٩٨.

٢٧٣

وهذا على خلاف النظام السائد في الوساطات المادية المتعارفة إذ المجرم فيها هو الذي يبعث الشفيع ليشفع عند الحاكم بحيث لولاه لما تقدم الشفيع بالشفاعة والوساطة عند الحاكم، فالأمر هنا يبدأ من المجرم ويصل إلى الشفيع وينتهي إلى الحاكم على عكس النظام السائد في الشفاعة الأخروية.

فلو انّ القرآن يحث المسلمين على الحضور عند النبي ومطالبته بأن يستغفر لهم فليس ذلك إلّا بأمر منه سبحانه وحث منه على هذا الطلب، فلولا أمره وحثّه سبحانه لما قمنا بذلك، ولو أنّا قمنا به لما كان له أثر بلا أمر منه سبحانه. وعلى ذلك فلا يصح لقائل أن يستدل بالآية على أنّ الشفاعة القرآنية على غرار الشفاعة الدنيوية حيث إنّ المجرم يطلب من النبي، وينتهي الأمر إلى الله سبحانه، فإنّ القائل ذهل عن أنّ كل هذه الأمور تتحقق بأمره وإذنه، وإرشاده وطلبه بحيث لولاه لما كان هناك بعث، وعلى فرض البعث لما كانت أيّة فائدة.

ثانياً: أنّ الشفيع في الشفاعة الصحيحة يتأثر بالمقام الربوبي ويخضع له حيث يأمره المولى الحكيم بالشفاعة والدعاء في حق المجرمين المستحقين له ولكن الأمر في الشفاعة الدنيوية على العكس إذ الحاكم يتأثر، هناك بشفاعة الشفيع كما انّه نفسه يتأثر من تقدم الشفيع إليه وتكلّمه معه.

ثالثاً: أنّ ماهية الشفاعة الدنيوية وواقعيتها ليست إلّا نوع تفرقة في تطبيق القانون حيث إنّ نفوذ الشفيع ومكانته عند الحاكم، يوجبان مغلوبية إرادته وغالبية إرادة الشفيع، فتصبح النتيجة أن يجري القانون في حق الضعيف الذي لا يجد شفيعاً دون القوي الذي يجد شفيعاً، وهذا بخلاف الشفاعة الصحيحة فإنّها لا تحمل إرادة الشفيع على مشيئة الله ولا تخضع سنته الحكيمة لإرادة أحد وطلبه، ولا يوجب التفرقة في التطبيق بل غاية الشفاعة هو جريان مغفرته وفيضه عن طريق أوليائه إلى عباده، فلو حرم البعض من الشفاعة، فليس ذلك لأجل نفاد

٢٧٤