الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ

الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ21%

الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 274

الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ
  • البداية
  • السابق
  • 274 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 137267 / تحميل: 6131
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ

الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ

مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وفي أحداث سنة ٢٥٥ هـ ذكروا أنه ظُفِر لقبيحة اُمّ المعتز وزوجة المتوكل بعد خلع المعتز وقتله، بخزائن تحت الأرض فيها أموال كثيرة، ومن جملتها دار تحت الأرض وجدوا فيها ألف ألف دينار وثلاثمائة ألف دينار، ووجدوا في سفط قدر مكوك زمرد لم ير الناس مثله، وفي سفط آخر مقدار مكوك من اللؤلؤ الكبار، وفي سفط آخر مقدار كليجة من الياقوت الأحمر الذي لم يوجد مثله، فقُوّمت الأسفاط بألفي ألف دينار (١) .

أما استعراض تفاصيل أموال وضياع الامراء والولاة والقضاة وكتاب الدواوين والجواري والمغنين والشعراء وغيرهم من المقربين إلى البلاط، فمما يخرج بنا عن الغرض، ويكفي مثالاً على ذلك ما نقله المؤرخون في أحداث سنة ٢٢٦ أن الافشين حينما مات في الحبس واحتيط على أمواله وحواصله وجدوا فيها أصناماً مكللة بذهب وجواهر (٢)، وأن بغا الكبير حينما مات سنة ٢٤٨ ترك من المتاع والضياع ما قيمته عشرة آلاف ألف دينار، وترك عشر حبّات جوهر قيمتها ثلاثة آلاف ألف دينار (٣) .

وكانت مؤونة أحمد بن طولون ألف دينار في اليوم... وحينما مات خلّف من العين عشرة آلاف ألف دينار، وأربعة وعشرين ألف مملوك (٤) .

ويحدثنا التاريخ عن الاموال الطائلة التي يصادرها الخلفاء من كبار العمال

__________________

(١) تاريخ الطبري ٩: ٣٩٥ بتحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم - بيروت، الكامل في التاريخ ٦: ٢٠٢، البداية والنهاية ١١: ١٧، تاريخ الخلفاء / السيوطي: ٢٨٠.

(٢) البداية والنهاية ١٠: ٣٢٢.

(٣) البداية والنهاية ١١: ٢.

(٤) سير أعلام النبلاء ١٢: ٩٤ - ٩٥.

٢١

والكتاب حينما يتعرضون للاقالة، فحينما سخط المعتصم على وزيره أبي العباس الفضل بن مروان وبطش بجماعة من أصحابه، استصفى أموالهم، فأخرجوا من داره مالاً عظيماً (١) .

وسار الواثق على هذه السياسة، ففي سنة ٢٢٩ بطش بالكتاب وأخذ منهم أموالاً عظيمة جداً، وأمر بعقوبة أصحاب الدواوين وضربهم واستخلاص الأموال منهم، لظهور خياناتهم وإسرافهم في أمورهم، فمنهم من ضرب ألف سوط وأكثر من ذلك وأقل، ومنهم من أخذ منه ألف ألف دينار، وضرب أحمد ابن أبي إسرائيل، وأخذ منه ثمان مئة ألف دينار، ومن سليمان بن وهب أربع مئة ألف دينار، وأخذ من أحمد بن الخصيب ألف ألف دينار (٢) . وكل ذلك وغيره يحكي عن مدى الاستئثار والفساد الذي تعاني منه السلطة وجهازها الاداري.

ثالثا - تدخل الأتراك في مقاليد الحكم:

السمة الغالبة في هذا العصر هي ازدياد تحكم الاتراك والفراغنة والمغاربة وغيرهم من الموالي في تسيير شؤون الدولة والحرب وتدخّلهم في مقاليد الحكم، وازداد مع ذلك الظلم والتعسف، وكان أول ذلك في عصر المعتصم الذي اهتم منذ توليه الحكم سنة ٢١٨ هـ باقتناء الترك، فبعث إلى سمرقند وفرغانة والنواحي في شرائهم وبذل فيهم الأموال، وألبسهم أنواع الديباج ومناطق الذهب، فلما كثر عسكره ضاقت عليه بغداد، وتأذى بهم الناس حيث كانوا

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٧٢.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٠: ٣١٢، تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٨١، البداية والنهاية ١٠: ٣٣٠.

٢٢

يطردون بخيلهم في بغداد، وضاقت بهم البلد، فاجتمع إليه أهل بغداد وقالوا: إما أن تخرج من بغداد، فإن الناس قد تأذوا بعسكرك، أو نحاربك، فكان سبب خروج المعتصم إلى القاطول في سنة ٢٢٠ فاختطّ موضع المدينة التي بناها هناك، ثم ارتحل من القاطول إلى سر من رأى، وكان ابتداء ذلك في سنة ٢٢١ هـ (١) .

وقد استخدم المعتصم من المماليك الترك قريب من عشرين ألفا (٢)، ثم في عصر الواثق والمتوكل ومن جاء بعدهم ازداد نفوذ الأتراك في عاصمة العسكر سامراء، حيث توصلوا الى نقاط حساسة في الدولة كولاة وعمال وقادة جيش، ومنهم الافشين وأشناس ومنكجور الاشروسني وايتاخ وبغا الكبير، وابناه موسى ومحمد، وبابكيال، وياركوج، واذكوتكين، وبغا الصغير الشرابي، ووصيف بن باغر وغيرهم. وكانت لهم قيادة الجيش وتدبير شؤون الخليفة والدولة، بل كان عزل ونصب القواد والامراء والولاة والقضاة بيد هؤلاء، حتى أنهم كانوا سبباً في إثارة الفتن والفساد في الدولة وانتهاك مصالح الاُمّة ومقدراتها، بالخروج عن الطاعة وإثارة الحروب لسلب الأموال العامة وهتك الاعراض وإذلال الناس بمختلف طبقاتهم.

هذا مع كون بعضهم لا يدين بالإسلام مثل الافشين الذي عقد له المعتصم مجلساً سنة ٢٢٥ فظهر أنه باق على دين أجداده من الفرس، وأنه يريد أن ينصر

__________________

(١) تاريخ الخلفاء / السيوطي: ٢٥٩، معجم البلدان / ياقوت الحموي - المجلد الثالث: ١٠ - ١٣ - دار إحياء التراث العربي - بيروت - ١٤١٧ هـ، الانساب / السمعاني ٤: ١٩٣، تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٧٢.

(٢) البداية والنهاية ١٠: ٣٢٥.

٢٣

دين المجوس ويظهره على دين العرب (١)، وحينما مات سنة ٢٢٦ في الحبس وجد في تراثه كتباً في فضل دين المجوس وأشياء كثيرة كان يتهم بها، تدل على كفره وزندقته، وتحقق بسببها ما ذكر عنه من الانتماء إلى دين آبائه المجوس (٢) .

وبمرور الزمن ازدادت سيطرة الترك على مقاليد الحكم، فأهانوا الخلفاء العباسيين وسلبوا إرادتهم، وصار الخلفاء العباسيون ألعوبة بأيديهم، فقتلوا المتوكل، وخلعوا المعتز والمؤيد ابني المتوكل من ولاية العهد، واستخلفوا للمستعين، واستولوا على الأموال في عهده، وقاتلوه حين غضب عليهم، فاعتصم ببغداد وبايعوا للمعتز من بعده.

قال ابن طقطقا: كان الأتراك قد استولوا منذ قتل المتوكل على المملكة، واستضعفوا الخلفاء، فكان الخليفة في يدهم كالأسير إن شاءوا أبقوه، وإن شاءوا خلعوه، وإن شاءوا قتلوه (٣) .

وقد وصف بعض الشعراء الحالة التي انتهت إليها الخلافة العباسية في زمن المستعين الذي ليس له حول ولا قوة مع اُمراء الجند الأتراك ومنهم وصيف وبغا بقوله:

خليفة في قفصٍ

بين وصيفٍ وبغا

يقول ما قال لهُ

كما تقول الببغا (٤)

ومن مظاهر سيطرة مقدم اُمراء الأتراك صالح بن وصيف على جميع أفراد

__________________

(١) البداية والنهاية ١٠: ٣٢٠.

(٢) البداية والنهاية ١٠: ٣٢٢.

(٣) الفخري في الآداب السلطانية / ابن الطقطقا: ٢٤٣.

(٤) تاريخ الخلفاء / السيوطي: ٢٧٨.

٢٤

الدولة بمن فيهم الخليفة في زمان المعتزّ باللّه، ما ذكره اليعقوبي في حوادث سنة ٢٥٥ هـ من تاريخه، قال: وثب صالح بن وصيف التركي على أحمد بن اسرائيل الكاتب وزير المعتز، وعلى الحسن بن مخلد صاحب ديوان الضياع، وعلى عيسى بن إبراهيم بن نوح وعلي بن نوح، فحبسهم وأخذ أموالهم وضياعهم وعذّبهم بأنواع العذاب، وغلب على الأمر، فهمّ المعتزّ بجمع الأتراك، ثمّ دخل إليه فأزاله من مجلسه، وصُيّر في بيت، وأخذ رقعته بخلع نفسه، وتوفي بعد يومين (١) .

رابعا - تردي الحالة الاقتصادية والاجتماعية:

كان من افرازات الاستئثار بالاموال العامة وكثرة الحروب الداخلية واضطراب السلطة وضعفها وسوء إدارتها أن تركّزت الثروات بيد قلّة من أبناء الاُسرة الحاكمة والمحيطين بها، فتفشّى التفاوت الطبقي بين أبناء الاُمّة تبعا للولاء والقرب والبعد من البلاط وحاشيته، فهناك قلّة متخمة تستأثر برأس المال والثراء الفاحش وتبدّده في حياة البذخ والترف لاشباع شهواتهم وملاذّهم، وغالبية مسحوقة تعيش حياة البؤس والفقر والحرمان، وتنهكها النزاعات والحروب، وتئن تحت وطأة البطالة وغلاء الاسعار وفتك الأوبئة ومختلف الامراض، مما ترك آثارا وخيمة على بنية المجتمع وسلوك أفراده.

فذكر المؤرخون في حوادث سنة ٢٢٨ هـ أنه غلا السعر على الناس في طريق مكة جداً (٢) .

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ٥٠٤، سير أعلام النبلاء / الذهبي ١٢: ٥٣٥ - مؤسسة الرسالة - بيروت - ١٤١٩ هـ.

(٢) البداية والنهاية ١٠: ٣٢٨.

٢٥

وذكروا في حوادث سنة ٢٥١ هـ أنه بلغ سعر الخبز في مكة ثلاثة أواقٍ بدرهم، واللحم رطل بأربعة دراهم، وشربة الماء بثلاثة دراهم (١) .

وفي حوادث سنة ٢٥١ و ٢٥٢ هـ نتيجة الحرب التي دارت رحاها بين المعتز والمستعين على كرسي الخلافة، شمل أهل بغداد الحصار وغلاء الأسعار، واجتمع على الناس الخوف والجوع (٢) .

قال اليعقوبي في حوادث سنة ٢٥٢ هـ: غلت الأسعار ببغداد وسرّ من رأى حتى كان القفيز بمائة درهم، ودامت الحروب، وانقطعت الميرة، وقلّت الأموال (٣) .

وكان من نتائج الفقر والبطالة أن تفشّت الكثير من المفاسد الاجتماعية، فكثر الشطّار والعيارين الذين ألجأهم الفقر والعوز الى التجوال في الأسواق للحصول على لقمة العيش ولو عن طريق النهب والسلب والاعتداء، وقد فشا أمر هؤلاء فشكلوا ظاهرة متميزة في بغداد عند أواخر القرن الثاني الهجري وبداية القرن الثالث.

كما انتشرت الكثير من مظاهر الانحرف في المجتمع مثل تعاطي القمار ومعاقرة الخمور حيث فتحت حانات عديدة في بغداد وباقي الأمصار، وكثر المغنون والجواري والغلمان الذين أصبحوا مادة للغزل عند شعراء ذلك العصر، وتفشت ظاهرة الخنوثة والميوعة والفساد سيما في قصور الخلفاء والامراء والقضاة وسواهم من رجال الدولة.

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٦: ١٨١، البداية والنهاية ١١: ١٠.

(٢) البداية والنهاية ١١: ٩.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٩٩.

٢٦

خامسا - عدم الاستقرار:

سادت الكثير من مظاهر الفوضى والشغب والاضطراب في هذا المقطع التاريخي من عمر الدولة العباسية، تتمثل في انتقاض أطرافها، واستقلال بعض ولاياتها، والعدوان الأجنبي على بعض أعمالها، وكثرة الثورات الداخلية، إلى غير ذلك من مظاهر عدم الاستقرار السياسي والأمني الناجمة عن ضعف القدرة المركزية للسلطة وتلاشي هيبتها وتعدد الارادات السياسية فيها، لتدخل قادة الجند الأتراك والمغاربة والفراغنة في شؤونها وإشاعتهم الظلم والقهر والاستبداد. وفيما يلي نعرض لأهم تلك المظاهر، ونذكر بعض الأمثلة من المصادر التي أرّخت لهذا العصر:

١ - أعمال التمرد والشغب:

شهدت الدولة العباسية - للفترة التي نؤرّخ لها - فتنا متصلة وأعمال قتل وحرق وسلب ونهب لم تسلم منها حتى العاصمة سامراء.

ففي زمان المعتصم خرجت المحمرة بالجبل فقتلوا وقطعوا الطريق وأخافوا السبيل وتعرضوا للحاج (١)، وفي سنة ٢١٩ هجم الزط على البصرة وعاثوا فيها الفساد وخرّبوا البلاد (٢)، وخرج محمد بن عبيدالله الورثاني بورثان (٣) .

وفي زمان الواثق انتقضت أرمينية، وتغلب ملوك الجبال على ما يليهم، وضعف أمر السلطان (٤) .

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٧١.

(٢) البداية والنهاية ١٠: ٣٠٨، تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٧٢.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٧٥.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٨١.

٢٧

وخرج ابن بيهس الكلابي بدمشق في جمع كثير من بطون قيس، وفي سنة ٢٢٧ خرج رجل من أهل الثغور بالشام يقال له تميم اللخمي أبو حرب المبرقع اليماني، فخلع الطاعة ودعا إلى نفسه، واتبعه نحو مائة ألف مقاتل، واستفحل أمره جداً، وخرج قوم من البربر ببرقة ومعهم قوم من قريش من بني أسيد بن أبي العيص على عاملهم محمد بن عبدويه بن جبلة (١) .

وكانت بطون قيس قد عاثت في طريق الحجاز وقطعوا الطريق حتى تخلف الناس عن الحج، ونصبوا رجلاً من سليم يقال له عزيزة الخفافي، وسلموا عليه بالخلافة، وخرج بنو سليم حول المدينة النبوية فعاثوا في الارض فساداً وأخافوا السبيل، وقاتلهم أهل المدينة فهزموا أهلها واستحوذوا على ما بين المدينة ومكة من المناهل والقرى، فوجه الواثق بغا الكبير سنة ٢٣٠ وأمره أن يقتل كل من وجده من الاعراب، فلقيهم بغا فقاتلوه، فقتل منهم خلقاً عظيماً، وصلبهم على الشجر، وأسر منهم جمعاً غفيراً وحبسهم، وحمل الباقين في الاغلال (٢) .

وفي زمان المتوكل سنة ٢٣٢ هـ عاثت بنو نمير باليمامة فسادا، فقاتلهم بغا الكبير، فقتل منهم نيفا وخمسين رجلاً وأسر أربعين رجلاً (٣) .

وفي سنة ٢٣٧ هـ خرج أهل أرمينية على عاملهم يوسف بن محمد فقتلوه (٤) .

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٨٠، البداية والنهاية ١٠: ٢٢٤.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٨٠، البداية والنهاية ١٠: ٣٣٢.

(٣) الكامل في التاريخ ٦: ٩٠، البداية والنهاية ١٠: ٣٠٨.

(٤) الكامل في التاريخ ٦: ١١١، البداية والنهاية ١٠: ٣١٥.

٢٨

وكانت حمص مسرحا للقتل والصلب والحرق لسوء تصرف عمالها وثورة الأهالي عليهم، ففي سنة ٢٤٠ هـ ثاروا على عاملهم أبي المغيث الرافقي، فقتلوا جماعة من أصحابه، وأخرجوه وأخرجوا عامل الخراج (١) .

وفي زمان المستعين سنة ٢٤٨ هـ ثاروا على عاملهم كيدر بن عبداللّه الإشروسيني، فأخرجوه، فوجه إليهم المستعين الفضل بن قارن الطبري فقتل منهم خلقا كثيرا وحمل مائة من أعيانهم إلى سامراء وأمر بهدم سور المدينة (٢) .

ثم وثبوا على الفضل بن قارن سنة ٢٥٠ هـ فقتلوه، فوجه المستعين إليهم موسى بن بغا فقاتلهم وهزمهم، وقتل من أهل حمص مقتلة عظيمة وأحرقهاوأسر جماعة من أعيان أهلها (٣) .

وفي سنة ٢٤٨ هـ بويع المستعين بالخلافة من قبل قادة الأتراك، وجرت فتن منتشرة وكثيرة جدا، ثم استقر الأمر للمستعين (٤) .

وفي سنة ٢٤٩ هـ هجم نفرٌ من الناس لايُدرى من هم على سامراء، ففتحوا السجن وأخرجوا من فيه (٥) .

وكانت بغداد مسرحا لأعمال الشغب والفتن الكثيرة المتصلة، ففي سنة ٢٤٩ هـ وقعت فتنة عظيمة في بغداد، لأن العامة كرهوا جماعة من الاُمراء الأتراك لتغلبهم على أمر الخلافة واستيلائهم على اُمور المسلمين، فنادوا بالنفير، وانضمّ إليهم جماعة من الجند والشاكرية، وفتحوا السجون وأخرجوا

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٦: ١٢٠، البداية والنهاية ١٠: ٣١٩.

(٢) الكامل في التاريخ ٦: ١٥١، البداية والنهاية ١١: ٢، تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٩٥.

(٣) الكامل في التاريخ ٦: ١٦١، البداية والنهاية ١١: ٦، تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٩٥.

(٤) الكامل في التاريخ ٦: ١٥٠، البداية والنهاية ١١: ٢.

(٥) الكامل في التاريخ ٦: ١٥٤.

٢٩

من فيها، وأحرقوا أحد الجسرين وقطعوا الآخر، ونهبوا أماكن متعددة (١) .

وفي سنة ٢٥١ - ٢٥٢ هـ جرت فتنة شنعاء في بغداد، وذلك لأن المستعين هرب إلى بغداد بعد أن شغب عليه القادة الترك، فأخرج المشغبون المعتزّ من سجن الجوسق وبايعوه بالخلافة، فكانت الحروب سجالاً بينهما، وقد انتهت بحصار جيش المعتز بقيادة أخيه الموفق وكلباتكين التركي لبغداد، ودام الحصار أشهرا اشتدّ فيها البلاء وكثر القتل والحرق والسلب، وجهد أهل بغداد من غلاء الأسعار وانتشار الأمراض حتى انتهى الأمر بتنازل المستعين عن الخلافة وخلعه نفسه وبيعته للمعتز (٢) .

وتعرضت الموصل لفتن كثيرة، ففي سنة ٢٥٣ هـ حدثت فيها أعمال النهب والقتل... ثم تكرر المشهد في السنوات التالية بسبب تعسف العامل عليها - وهو اذكوتكين التركي - الذي أساء السيرة في الناس، وأظهر الفسوق، وفعل المنكرات، وأخذ الأموال، فقاتلوه وأخرجوه من الموصل ونهبوا داره (٣) .

٢ - استقلال الأطراف وكثرة المتغلّبين:

نتيجة لتدهو الأوضاع السياسية وضعف الدولة العباسية كثيرا في هذا العصر فقد استقلت بعض أطراف الدولة وكثر المتغلّبون عليها.

ففي سنة ٢٥٤، استقلت مصر بسيطرة الأسرة الطولونية، وكان أولهم أحمد ابن طولون وهو من الأتراك، واستغنى مدّة ملكه على مصر عن الارتباط

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٦: ١٥٣، البداية والنهاية ١١: ٣.

(٢) الكامل في التاريخ ٦: ١٦٤ -١٧٠، البداية والنهاية ١١: ٧.

(٣) الكامل في التاريخ ٦: ١٩١ و ٢٤٧.

٣٠

بالخلافة (١) .

وانفصلت السواحل الشمالية من أفريقيا عن الدولة العباسية، وخرجت من قبضة العباسيين على يد آل الأغلب منذ سنة ١٨٤، واستمر حكم هذه الاسرة الى سنة ٢٩٢، بعد أن توسع نفوذها في سواحل البحر المتوسط (٢) .

وقامت الدولة الرستمية الاباضية في الجزائر، وبقيت الى سنة ٢٦٩ حيث سقطت باستيلاء الحاكم الفاطمي عبد الله المهدي عليها.

ومنذ النصف الثاني من القرن الثاني الهجري قامت دولة الادارسة في المغرب، وكان مؤسسها إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي عليه‌السلام وبقيت هذه الدولة تحكم بلاد المغرب الى سنة ٣٧٥ (٣) .

وفي سنة ٢٣٨ هـ تغلّب على تفليس إسحاق بن إسماعيل مولى بني اُمية (٤) .

وفي سنة ٢٣٧ هـ اضطرب أمر أرمينية، وتحرك فيها جماعة من البطارقة وغيرهم وتغلّبوا على نواحيهم (٥) .

وقامت الدولة الزيادية سنة ٢٠٤ في بلدة زبيد بتهامة، واستمر حكم الزياديين نحو قرنين من الزمان، واستطاعوا خلال هذه المدة توسيع رقعة دولتهم باحتلال المناطق المتاخمة لهم.

__________________

(١) راجع: الكامل في التاريخ ٦: ١٩٥ و ٢١٣ و ٢٢٧ و ٢٣٨، سير أعلام النبلاء ١٣: ٩٤ / ٥٣.

(٢) الكامل في التاريخ ٦: ٦٦ و ٨٩ و ١٠٢ و ١٢٦ و ١٣٢ و ١٥٥.

(٣) راجع: تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٠٥، مقاتل الطالبيين: ٤٨٧، عمدة الطالب: ١٥٩.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٨٩، الكامل في التاريخ ٦: ١١٦.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٨٩.

٣١

وفي سنة ٢٥١ أسس بنو الاخيضر العلويين دولتهم في مكة واليمامة، ومؤسسها الاول إسماعيل بن يوسف الاخيضر الذي ينتهى نسبه الى الامام الحسن عليه‌السلام ، وكان خروجه أيام المستعين بالله، وامتد نفوذ هذه الدولة الى الحجاز وما جاورها، واستمر ملكه الى سنة ٣٠٥ حيث استولى عليهم القرامطة (١) .

وتشكلت عدة دول في شرق البلاد، فتغلّب الحسن بن زيد العلوي على طبرستان، وأسس الدولة العلوية هناك، ودامت إمرته عليها عشرين عاما ٢٥٠ - ٢٧٠ هـ ثم خلفه أخوه محمد بن زيد (٢) .

وفي سنة ٢٣٤ هـ خرج محمد بن البعيث عن طاعة الخلافة في آذربيجان، ولجأ إلى مدينة مرند فحصّنها (٣) .

وتغلّب يعقوب بن الليث الصفار على خراسان ونيسابور، واستمرت حروبه من سنة ٢٥٣ هـ حتى وفاته سنة ٢٦٥ هـ، وأسس دولته الصفارية (٤) .

وتأسست دولة العجليين في سنة ٢١٠ في الكرج والبرج، وكان مؤسسها أبو دلف القاسم العجلي (٥)، وتوسع نفوذ هذه الدولة سنة ٢٧١ بضم إصفهان ونهاوند.

__________________

(١) راجع: مروج الذهب ٤: ٤٢٩، الكامل في التاريخ ٦: ١٨٠ - ١٨١، مقاتل الطالبيين: ٤٥٠، عمدة الطالب / ابن عنبة: ١١٢، المجدي / العلوي: ٤٩.

(٢) راجع: تاريخ الطبري ٩: ٢٧١، سير أعلام النبلاء ١٢: ٤٨ و ٥٤٣.

(٣) الكامل في التاريخ ٦: ١٠٠ و ١٠٤، البداية والنهاية ١٠: ٣١٢.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢: ٥٠٤، الكامل في التاريخ ٦: ١١٤ و ١٥١ و ١٩٣ و ١٩٧ و ٢٣٢ و ٢٤٢ و ٢٤٦، سير أعلام النبلاء ١٢: ٥١٣ / ١٩١.

(٥) راجع ترجمته في تاريخ بغداد ١٢: ٤١٢ / ٦٨٦٩.

٣٢

٣ - غزو الثغور الإسلامية:

تعرضت أطراف الدولة الى عدة غزوات راح ضحيتها آلاف الابرياء من المسلمين ونهبت أموالهم وانتهكت أعراضهم، نتيجة اهمال المتصدين لقيادة الدولة الثغور الاسلامية اهمالاً كبيراً، فكانت الروم تهاجم وبشكل مستمر ثغور المسلمين من جهة البر والبحر، ففي سنة ٢١٦ عدا ملك الروم وهو توفيل بن ميخائيل على جماعة من المسلمين فقتلهم في أرض طرسوس وكانوا نحواً من ألف وست مئة إنسان (١) .

وفى سنة ٢٢٣ أوقع ملك الروم توفيل بن ميخائيل بأهل ملطية من المسلمين وما والاها ملحمة عظيمة قتل فيها خلقاً كثيراً من المسلمين، وأسر ما لا يحصون كثرة، وكان من جملة من أسر ألف امرأة من نساء المسلمين، ومثل بمن وقع في أسره من المسلمين فقطع آذانهم وأنوفهم وسمل أعينهم (٢) .

وفي سنة ٢٣٨ هـ غزت الافرنج مصر في ثلاث مئة مركب من جهة دمياط، فدخلوها فجأة، فقتلوا من أهلها خلقا، وأحرقوا المسجد الجامع والمنبر، وأسروا من النساء نحوا من ست مئة امرأة، وأخذوا من الأمتعة والمال والأسلحة شيئا كثيرا جدا، وفرّ الناس منهم في كل وجه، وكان من غرق في بحيرة تنيس أكثر ممن أسروه،... ولم يعرض لهم أحد حتى رجعوا إلى بلادهم (٣) .

__________________

(١) البداية والنهاية ١٠: ٣٠٧.

(٢) البداية والنهاية ١٠: ٣١٢.

(٣) الكامل في التاريخ ٦: ١١٧، البداية والنهاية ١٠: ٣١٧، تاريخ الخلفاء / للسيوطي: ٢٦٩، تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٨٨ مع شيءمن الاختلاف عن باقي المصادر.

٣٣

وفي سنة ٢٤١ هـ أغارت البجة على جيش من أرض مصر، وهم طائفة من سودان بلاد المغرب، وقد كانت البجة لايغزون المسلمين قبل ذلك لهدنة كانت لهم مع المسلمين، فنقضوا الهدنة واعلنوا بالخلاف (١) .

وفي سنة ٢٤٢ هـ أغارت الروم على بلاد الجزيرة، فانتهبوا شيئا كثيرا، وأسروا نحوا من عشرة آلاف من الذراري (٢) .

وفي سنة ٢٤٥ هـ أغارت الروم على سُمَيساط، فقتلوا وسبوا وأسروا خلقا كثيرا (٣) .

٤ - الحركات المتطرّفة والثورات الشعبية:

أ - الحركات المتطرفة:

يجد الباحث في تاريخ هذه الفترة نشاطا ملحوظا للخرمية المجوسية متمثلة بحروب بابك الخرمي (٤) والمازيار (٥) في زمان المأمون والمعتصم، كماكان للخوارج الشراة جولة في هذا العصر أيضا، فشنوا حرباً شعواء على كل من خالفهم الرأي سواء كان عباسياً أو غيره، فكانوا نسخة مختصرة من أسلافهم

__________________

(١) البداية والنهاية ١٠: ٣٢٤.

(٢) البداية والنهاية ١٠: ٣٤٢.

(٣) الكامل في التاريخ ٦: ١٣١.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٧٣، تاريخ دمشق / ابن عساكر ٩٤: ١٣٠، سير أعلام النبلاء ١٠: ٢٩٣ و ١١: ٢٥٧، البداية والنهاية ١٠: ٣١٠ و ٣١٢، البدء والتاريخ / المقدسي ٣: ٣٠ و ٥: ١٣٤.

(٥) معجم البلدان ٤: ١٥، سير أعلام النبلاء ١٠: ٣٠١، تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٧٦، البداية والنهاية ١٠: ٣١٧ و ٣٢٠.

٣٤

الذين مرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية (١) .

ب - الثورات الشعبية:

حدثت في هذا العصر عدة ثورات ضدّ الحكم العباسي، قادها الطالبيون، وهي من إفرازات تردّي الأحوال العامة والقهر والقمع والجور التي عمّت آثارها على الاُمّة بشكل عام وعلى الطالبيين بشكل خاص؛ لأنهم كانوا يعانون من شدة الوضع العام، ومن السياسة العباسية القاضية باضطهادهم ومطاردتهم واتباع شتى وسائل الضغط عليهم، فكانت واعزا يحفّز الثوار منهم على الخروج المسلّح من حين الى آخر.

وقد تعرضوا في زمان المتوكل لاضطهاد وارهاب وحصار لايوصف واُنزلت فيهم أقصى العقوبات، فتفرّق كثير منهم في النواحي كي يتواروا عن الأنظار أو يعلنوا الثورة المسلحة ضدالدولة (٢)، وشُرّد بعضهم قسراً من المدينة إلى سامراء، وأودع بعضهم السجون حتى ماتوا فيها أو سُمّوا، هذا فضلاً عمن قُتِلوا على أيدي قادة العباسيين ورجال دولتهم كالافشين وموسى بن بغا وعلي ابن أوتامش وصالح بن وصيف وسعيد الحاجب وغيرهم.

وقد تضمّنت كتب التاريخ أسماء نحو أربعة عشر ثائرا من الطالبيين خلال حياة الامام الهادي عليه‌السلام ٢١٢ - ٢٥٤ مما يشير إلى حجم معاناة الطالبيين ومدى الحيف والظلم الذي لحقهم على أيدي العباسيين.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٨٣ و ٤٩٧ و ٥٠٢، البداية والنهاية ١٠: ٣٣٧، و ١١: ٢٢ و ٣٠، والكامل في التاريخ ٦: ١٨٦ و ١٩٠ و ١٩٥ و ٢٠٥ و ٢١٢ و ٢١٩ و ٢٧٢ و ٣٣٤ و ٣٤٥ و ٣٤٦.

(٢) راجع: مقاتل الطالبيين: ٣٩٦ و ٤٠٤.

٣٥

والغالب على تلك الثورات هو الدعوة إلى إقامة حكم اللّه في الأرض، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدفاع عن حقوق المظلومين، وبعضها دعا إلى الرضا من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثورة محمد بن القاسم العلوي ويحيى بن عمر وأحمد بن عيسى والحسن بن زيد وأخيه محمد بن زيد وغيرهم؛ ولأهميّة تلك سنذكر أهم الثوار الذين حملوا السلاح بوجه السلطة العباسية في هذه الفترة، وهم:

أ - محمد بن القاسم العلوي:

وهو محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، وأمه صفية بنت موسى بن عمر بن علي بن الحسين. ويكنى أبا جعفر. ويلقب بالصوفي للبسه ثياب الصوف البيض، وكان من أهل العلم والفقه والدين والزهد وحسن السيرة.

وخرج في الطالقان من خراسان في أيام المعتصم، داعياً إلى الرضا من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان معه جماعة من وجوه الزيدية، منهم: يحيى بن الحسن بن الفرات، وعباد بن يعقوب الرواجني، وتبعه في مدة يسيرة خلق كثير، وتمت سيطرته على الطالقان مدة أربعة أشهر، فلما بلغ خبره عبداللّه بن طاهر وجّه إليه الجيوش تلو الجيوش، فكانت له معها وقعات بناحية الطالقان وجبالها، أحرز فيها الغلبة أولاً، وتغلب ابن طاهر أخيراً على جيش ابن القاسم، فتفرق أصحابه في النواحي والآكام، واستتر ابن القاسم في نسا مدة طويلة، واستمر أصحابه في الدعوة اليه، ثم أنه وشي به الى ابن طاهر، فأُلقي عليه القبض وسيّر مقيداً بالحديد، فأدخل إلى عبداللّه بن طاهر.

قال إبراهيم بن غسان: ما رأيت قط أشد اجتهاداً منه، ولا أعفّ، ولا أكثر

٣٦

ذكراً لله تعالى مع شدة نفس، واجتماع قلب، وما ظهر منه جزع ولا انكسار ولا خضوع في الشدائد التي مرت به، وأنهم ما رأوه قطّ مازحاً ولا هازلاً.

ثم ان ابن طاهر أقامه بنيسابور ثلاثة أشهر، يريد بذلك أن يعمّي خبره على الناس كيلا يغلب عليه لكثرة من بايعه بكور خراسان، ثم أرسله إلى المعتصم سراً في جوف الليل، حتى أخرجه من الري ولم يعلم به أحد، ثم ورد على المعتصم في بغداد حاسراً كما أمر المعتصم، فأُدخل عليه يوم ١٥ ربيع الثاني سنة ٢١٩ هـ، وكان يوم النوروز، والمعتصم جالس يشرب وبين يديه الجواري الفرغانيات يرقصن والغلمان الفراغنة يلعبون، فأوقفه المعتصم والناس ينظرون إليه، وكانت أكؤس الشراب تُدار في المجلس أمام ناظري محمد بن القاسم، فلما رأى هذا الوضع بكى ثم قال: اللهم إنّك تعلم أني لم أزل حريصا على تغيير هذا وإنكاره. وأخذ يسبح ويستغفر الله ويحرك شفتيه يدعو عليهم.

ولم يزل محمد واقفاً حتى فرغ المعتصم من لهوه ولعبه، فمروا بمحمد بن القاسم عليه، فأمر بدفعه إلى مسرور الكبير، فحبس في سرداب ضيق شبيه بالبئر طوله ثلاثة أذرع في ذراعين فكاد أن يتلف ويموت فيه، وانتهى ذلك إلى المعتصم، فأمر باخراجه منه، وحبس في قبة في بستان موسى مع المعتصم في داره، ووكل به مسرور عدة من غلمانه وثقاته، فلم يزل محبوساً فيها، فلما كان ليلة عيد الفطر في سنة ٢١٩ وقد مضى أغلب الموكلون به إلى منازلهم، احتال محمد وهرب من السجن وغاب عن الأنظار، فطلبوه فلم يقدروا عليه، واختلفت الأخبار في مصيره بعد ذلك، فقيل: إنّه رجع إلى الطالقان فمات بها. وقيل: بل إنّه اختفى ببغداد مدة ثم انحدر إلى واسط فمكث بها حتى مات. وقال أحمد بن الحارث الخزاز: انه مضى فاستتر مدة المعتصم والواثق ثم وجد في أيام

٣٧

المتوكل فحمل إليه فحبسه حتى مات في محبسه، ويقال: انه دسّ إليه سماً فمات منه (١) .

ب - محمد بن صالح:

وهو محمد بن صالح بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي عليه‌السلام ، وكان من فتيان آل أبي طالب وشجعانهم وظرفائهم وشعرائهم، خرج في أيام المتوكل بسويقة واجتمع له الناس، وحج بالناس أبو الساج فقصده وخاف عمه موسى بن عبد الله بن موسى أبا الساج على نفسه وولده وأهله، فضمن لأبي الساج تسليمه، وتوثق له بالايمان والامان، وجاء عمه إليه فأعلمه ذلك، وأقسم عليه ليلقين سلاحه ففعل، وخرج إلى أبي الساج فقيّده وحمله إلى سر من رأى مع جماعة من أهله، فحبسه المتوكل ولم يزل محبوساً بها ثلاث سنين ثم أطلق، وأقام بها إلى أن مات وكان شاعراً محسناً، وقد أسهب أبو الفرج في ترجمته... (٢) .

جـ - يحيى بن عمر:

وهو يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب عليهم‌السلام ، أبو الحسين. وأمه أم الحسن بنت عبد الله بن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، كان ذا زهد وورع ونسك وعلم.

خرج سنة ٢٣٥ هـ في بعض نواحي خراسان، فردّه عبداللّه بن طاهر، فأمر

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٧١، مقاتل الطالبيين: ٤٦٤ - ٤٧٢، تاريخ الطبري ٧: ٢٢٣ - ٢٢٤ حوادث سنة ٢١٩ هـ، مروج الذهب ٤: ٦٠ - ٦١، عمدة الطالب / الداوودي: ٣٠٦ المطبعة الحيدرية - النجف، البداية والنهاية ١٠: ٣٠٨.

(٢) مقاتل الطالبيين: ٣٩٧.

٣٨

المتوكل بتسليمه إلى عمر بن الفرج الرخّجي، فكلمه يحيى في صلته، وكان في ضائقة وعليه دين، فأغلظ عمر بن الفرج له القول، فردّ عليه يحيى، فشكا عمر إلى المتوكل، فأمر به فضرب دررا ثم حبسه في دار الفتح بن خاقان مدّة، ثم كفله أهله فاُطلق، وأقام في بغداد على حال سيئة من الفقر بعد قطع صلته.

ثمّ خرج ثانية سنة ٢٥٠ هـ وقيل: ٢٤٨ أو ٢٤٩ هـ، وقد بدأ خروجه في هذه المرة بزيارة قبر الامام الحسين عليه‌السلام وأظهر للزوار ما أراد، فاجتمعت إليه جماعة من الأعراب، ثم مضى قاصدا شاهي، فأقام بها إلى الليل، ثم دخل الكوفة ليلاً، وجعل أصحابه ينادون: أيها الناس، أجيبوا داعي اللّه. حتى اجتمع إليه خلق كثير.

فلمّا كان من غد مضى إلى بيت المال فأخذ ما فيه وفرّقه على أصحابه، فبدأ يعدّ العدّة ويصلح السلاح، وفتح السجون وأخرج من فيها وأخرج العمال عنها، ودعا إلى الرضا من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأظهر العدل وحسن السيرة والانصاف والكفّ عن الدماء، فاجتمع الناس إليه وأحبوه وبايعوه.

فندب له محمد بن عبداللّه بن طاهر ابن عمه الحسين بن إسماعيل بن طاهر، وضمّ إليه جماعة من القواد، فمضى الحسين إلى الكوفة وأقام بشاهي، وأشار بعض أهل الكوفة من الزيدية على يحيى بمعاجلة الحسين، ولم يكن لهم خبرة بالحرب ولاشجاعة، وألحوا عليه، فزحف إليه في رجب من السنة المذكورة، فساروا ليلهم فصبّحوا الحسين وهو مستريح، فثار بهم في الغلس، وحمل عليهم أصحاب الحسين فانهزموا ووضعوا فيهم السيف، وانهزم رجالة أهل الكوفة، وانكشف العسكر عن يحيى، ولم يزل يقاتل مكانه حتى قتل، وكان فارسا شجاعا شديد البدن مجتمع القلب، واحتزوا رأسه، وسيره الحسين بن إسماعيل

٣٩

مع رؤوس من قُتِل والأسرى إلى محمد بن عبداللّه بن طاهر، فحُبِسوا في بغداد.

وسير محمد رأس يحيى إلى المستعين، فنصبه في سامراء لحظة ثمّ حطّه، وردّه إلى بغداد لينصب بها، فلم يقدر ابن طاهر على ذلك لكثرة من اجتمع من الناس المنكرين لذلك، لما في قلوبهم من المحبة ليحيى، فخاف ابن طاهر أن يأخذوه، فلم ينصبه وجعله في صندوق في بيت السلاح.

ودخل بعضهم إلى محمد بن عبداللّه بن طاهر يهنّئه بالنصر، ودخل في من دخل عليه أبوهاشم داود بن القاسم الجعفري من أصحاب الامام الهادي عليه‌السلام ، وكان ذا عارضة ولسان، لايبالي ما استقبل الكبراء وأصحاب السلطان به، فقال: أيها الأمير، إنك لتُهنّأ بقتل رجل لو كان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيا لعُزّي به. فلم يجبه محمد عن هذا بشيء، وخرج داود من داره وهو يقول:

يابني طاهر كلوه وبيّا

إنّ لحم النبي غير مريّ

إن وترا يكون طالبه اللّـ

ـه لوترٌ بالفوت غير حريّ (١)

ولهج الشعراء برثاء يحيى فأكثروا، قال أبو الفرج الأصفهاني: ما بلغني أن أحدا ممن قتل في الدولة العباسية من آل أبي طالب رُثي بأكثر مما رثي به يحيى، ولا قيل فيه الشعر بأكثر مما قيل فيه (٢) .

وعلّل ابن الأثير ذلك قائلاً: أكثر الشعراء مراثي يحيى لما كان عليه من حسن السيرة والديانة في مراثٍ يطول عرضها (٣) .

__________________

(١) راجع سيرته وأخبار ثورته في: مروج الذهب ٤: ٤٠٦ - ٤٠٩، تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٩٧، مقاتل الطالبيين: ٤١٩ - ٤٢٤، الفخري في الآداب السلطانية: ٢٤٠، الكامل في التاريخ ٦: ١٠٧ و ١٥٦ - ١٥٨، البداية والنهاية ١٠: ٣١٤ و ١١: ٥.

(٢) مقاتل الطالبيين: ٤٢٤.

(٣) الكامل في التاريخ ٦: ١٥٨.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

الطبيعيّ لأحد أنبيائه بعد أن دعا الله تعالى أن يحبسها عليه وهو في حال جهاد، فاستجاب له - وهو ما قرّره الابنان: ابن الجوزيّ، وابن تيميه فيما أنكرا رجوعها! -، وانشقاق القمر يومَ وُلِد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وضربت النّجومُ بعضُها بعضاً، وغيض ماء بُحيرة ساوه، ونبع الماء من بين أصابعهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وانفلق البحر لموسىعليه‌السلام ، فسلكه ومن معه، فلمّا جاوزه انطبق على فرعون وجنده فكانوا من المُغرقين.

ومن آيات عيسىعليه‌السلام : إحياء الموتى بإذن الله تعالى، والموت والحياة من شأن الله سبحانه.

وأوتي سليمانعليه‌السلام من الآيات الباهرات وخوارق العادات الكثير وكانت النار التي أوقدها نمرود برداً وسلاماً على إبراهيم الخليلعليه‌السلام «وهو مخالف لما جعله الله تعالى للنار من طبيعة الإحراق.

ومثلما حُبست الشمس ليوشع فتأخّر غروبها وطوّل الله تعالى له النهار، إلى آخر كلامه؛ فنقول: إنّ حبس الشمس عن جريها الطبيعيّ وتأخير الغروب وتطويل النّهار، كلّ ذلك خروج عن سنّة الله تعالى في خلقه، لكنّه واقع في مشيّته كما ذكرنا من قبل، ولا فرق بين حبسها وبين ردّها!

وإضافة إلى ما ذكرناه من معاجز الأنبياء، ومنها ما كان لنبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله نذكر بعضاً آخر من ذلك، مثل: تسبيح الحصى في يده الشريفة، واستجابة النخلة له لمّا طلب منه المشركون فتحوّلت من مكانها وانحنت أمامه وشهدت له بالنبوّة، وهذا خروج للجمادات عمّا هو مألوف منها من حال الجمود. وهذه أمثلة من حرمة الجمادات وشأنها؛ فكيف بسادات الورى؟

١٨١

حرمة الحجر الأسود

للحجر الأسود شأن خاصّ ليس لبقيّة موجودات الله تعالى مثله، حتّى ولا للشمس.

عن أبي الطّفيل: رأيتُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يطوف بالبيت ويستلم الركن بمِحْجنٍ معه، ويقبّل المحجن.(1)

وعن ابن عبّاس قال: رأيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يسجد على الحجر.(2)

ولقد قيل في الحجر الأسعد أنّه نزل من الجنّة. روي ذلك عن ابن عبّاس، قال: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: «الحَجَرُ الأَسودُ من الجنّة».(3)

وقد استنّ المسلمون بفعلِ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكانوا يقبّلون الحجر الأسود ويتبرّكون به، إلاّ أنّه قد عرض لبعضهم شبهة للجهلِ بعلّة تقبيل الحجر والسجود عليه!

عن عابس بن ربيعة(4) ، قال: رأيت عمر بن الخطّاب قام عند الحجر وقال: والله إنّي أعلم أنّك حجرٌ لا تضرّ ولا تنفع، ولو لا أنّي رأيتُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبّلك ما قبّلتُك. فقال له عليّ: بلى؛ هو يضرّ وينفع، ولو علمت ذلك من كتاب الله لعلمت أنّه كما أقول، قال الله تعالى:« وَإِذْ أَخَذَ رَبّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ

____________________

(1) سُنن أبي داود 2: 176؛ سنن ابن ماجة 2: 983؛ صحيح مسلم 2: 893.

(2) السنن الكبرى للبيهقيّ 5: 75.

(3) سنن النَّسائيّ 5: 226؛ الدّر المنثور 1: 135.

(4) عابس بن ربيعة: كوفيّ، تابعيّ، ثقة (تاريخ الثقات للعجليّ 239 / 734).

١٨٢

وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى‏ أَنْفُسِهِمْ) (1) ، فلمّا اقرّوا أنّه الربّ عزّوجلّ، وأنّهم العبيد، كتب ميثاقهم في رَقّ وألقمه في هذا الحجر، وأنّه يبعث يوم القيامة وله عينان ولسان وشفتان، يشهد لمن وافى بالموافاة، فهو أمين الله في هذا الكتاب. فقال عمر: أعوذ بالله أن أعيش في قوم لستَ فيهم يا أبا الحسن!(2)

وأخرج عبد الرزّاق عن معمر عن عاصم عن عبد الله بن سَرْجِس قال: رأيتُ عمر بن الخطّاب يقبّل الركن وكان يقول: والله إنّي لأقبّلك وأعلم أنّك حجر، وأعلم أنّ الله ربّي، ولكن رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قبّلك فقبّلتك.(3)

وعبد الرزّاق بسنده عن سُوَيد بن غفلة قال: رأيت عمر بن الخطّاب يقبّل الحجر ويقول: والله إنّي لأعلم أنّك حجر، ولكن رأيت أبا القاسمصلى‌الله‌عليه‌وآله بك حفيّاً.(4)

وعبد الرزّاق عن محمّد بن راشد قال: سمعتُ مكحولاً يحدّث أنّ عمر بن الخطّاب استقبل الركن فقال: قد علمت أنّك حجر، وأنّك لا تضرّ ولا تنفع، ولو لا

____________________

(1) الأعراف: 172.

(2) المستدرك على الصحيحين 1: 457، شرح نهج البلاغة للمعتزليّ 3: 122، السيرة الحلبية 1: 188، كنز العمّال 5: 93، وذكره أبو داود في سننه 2: 175 / 1873، واقتصر على شطره الأوّل من غير كلام أميرالمؤمنينعليه‌السلام .

(3) المصنّف لعبد الرزّاق 5: 53 / 9096. وأخرجه مسلم / الحديث (1270) برقم فرعيّ (250). وذكره ابن ماجة بتغيير وإضافة بعض الألفاظ، سنن ابن ماجة 2: 981 / 2943.

(4) المصنّف لعبد الرزّاق 5: 54 / 9097. وأخرجه مسلم / الحديث (1271) من طريق إبراهيم بن عبد الأعلى. وحفيّاً: مبالغاً في إكرامه.

١٨٣

أنّي رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقبّلك ما قبّلتك. قال: ثمّ قبّله.(1)

الحجر يمين الله

فلمّا كان الحجر الأسود من الجنّة، كما في رواية ابن عبّاس التي ذكرناها، فهو بذاته حجر مبارك وجاز التبرّك به لذلك. إلاّ أنّ ما أوضحه أميرالمؤمنين عليعليه‌السلام من أنّ الحجر هو أمينُ الله في أرضه يشهد لمن وافاه بالبيعة! زاد في كرامة الحجر وتعظيمه عند رسول الله وطليعة الصحابة.

عن ابن عبّاس قال: الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن لم يدرك بيعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاستلم الحجر، فقد بايع الله ورسوله!(2)

فما أعظم شأنه؟! وكم تخفى علينا أمور وعلل نجهلها؛ فما علينا إلاّ التسليم بعد ثبوت شرعيّتها والإتيان بها من غير حرج.

عن فاطمة بنت حسين، عن أبيها قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «لمّا أخذ الله ميثاق العباد جُعل في الحجر، فمِن الوفاء بالبيعة استلامُ الحجر»(3) .

حُرمة الكعبة، والتعوّذ بالبيت

عبد الرزّاق عن ابن جُرَيْج قال: حُدّثتُ أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يضع يده على

____________________

(1) المصنّف لعبد الرزّاق 5: 54 / 9098.

(2) الدّر المنثور 1: 134.

(3) الذّرية الطاهرة للدولابيّ 131 / 160.

١٨٤

الركن اليمانيّ.(1)

عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جدّه قال: طفت مع عبد الله بن عمر -، فلمّا فرغنا من السبع ركعنا في دبر الكعبة، فقلت: ألا تتعوّذ، قال أعوذ بالله من النار. ثمّ مشى فاستلم الركن، ثم قام بين الحجر والباب فألصق صدره ويديه وخدّه إليه، ثمّ قال: هكذا رأيت رسول الله يصنع.(2)

عبد الرزّاق، عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه أنّه كان يلصق بالبيت صدره ويده وبطنه.(3)

عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله يقول: «مَن طافَ بالبيت وصلّى ركعتين، كان كعتقِ رقبةٍ».(4)

سأل ابن هشام عطاء بن أبي رباحٍ عن الركن اليمانيّ، وهو يطوف بالبيت. فقال عطاء: حدّثني أبو هريرة أنّ النبيّ قال: «وُكِل به سبعون ملكاً، فمن قال: اللّهمّ إنّي أسألك العفوَ والعافية في الدنيا والآخرة، ربّنا آتنا في الدّنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقِنا عذاب النار؛ قالوا: آمِين».

فلمّا بلغ الرّكن الأَسود قال: يا أبا محمّدٍ، ما بلغك في هذا الرّكن الأسود؟

____________________

(1) المصنّف لعبد الرزّاق 5: 55 / 9102.

(2) المصنّف لعبد الرزّاق 5: 55 / 9106، سنن ابن ماجة 2: 987 / 2962، سُنن أبي داود 1: 181 / 1899.

(3) المصنّف لعبد الرزّاق 5: 56 / 9111.

(4) سنن ابن ماجة 2: 985 / 2956.

١٨٥

فقال عطاء: حدّثني أبو هريرة أنّه سمع رسول الله يقول: «مَن فاوضَه(1) فإنّما يفاوض يدَ الرحمان».

قال له ابن هشام: يا أبا محمّد، فالطّواف؟ قال عطاء: حدّثني أبو هريرة أنّه سمع النبيّ يقول: «من طاف بالبيت سبعاً ولا يتكلّم إلاّ بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ اللهُ، واللهُ أكبر، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله؛ مُحِيَت عنه عشر سيّئات، وكُتبت له عشر حسنات ورُفع له بها عشرةَ درجات. ومن طاف فتكلّم وهو في تلك الحال، خاض في الرحمة برِجْلَيه، كخائض الماء برجلَيه».(2)

عبد الرزّاق عن معمر قال: رأيت أيّوب يلصق بالبيت صدره ويديه.(3)

عن مكحول قال: إذا طفت بين السّادس والسابع فالتزم بالبيت ما بين الركن الأسود والركن اليمانيّ، ثم تعوّذ بالله.(4)

تكريم البيت

اللّيث عن عطاء، وطاووس، ومجاهد؛ قالوا: لا يُدخَل البيت بحذاء ولا بسلاح، ولا خُفَّين، وكان عطاء ومجاهد يريان الحِجر من البيت.(5)

وعن عبد الله بن عبّاس قال: كانت الأنبياء تدخل الحرم مُشاةً حُفاة،

____________________

(1) فاوضه: أي قابله بوجهه.

(2) سنن ابن ماجة 2: 24 / 957.

(3) المصنّف لعبد الرزّاق 5: 55 / 9105.

(4) نفسه / 9109.

(5) نفسه: 61 / 9135.

١٨٦

ويطوفون بالبيت، ويقضون المناسك حفاةً مشاة.(1)

عن سهل بن سعد الساعديّ، عن رسول الله قال: «ما من مُلَبٍّ يُلَبِّي إلاّ لبّى ما عن يمينه وشماله، من حجرٍ أو شجرٍ أو مَدَر، حتّى تنقطع الأرض من ههنا وههنا».(2)

ضيوف الرحمان

و للمنزلة الخاصّة لبيت الله الحرام، فإنّ من قصده من قريب أو بعيد فهو في ضيافة الله تعالى؛ الكريم، ومن كرمه، وقد نزلوا أشرف البقاع وأقربها إليه عزّوجلّ، وأن يستجيب دعاءهم.

بسندٍ عن أبي هريرة، عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: «الحُجّاج والعُمّار وفدُ اللهِ، إن دَعَوْه أجابهم، وإن استغفروه غَفَرلهم».(3)

و بسندٍ عن ابن عمر، عن النبيّ قال: «الغازي في سبيل الله والحاجُّ والمُعتمر وفدُ الله، دعاهم فأجابوه، وسألوهُ فأعطاهم».(4)

وبسند عن سعيد بن جُبير قال: سمعتُ ابنَ عبّاس يقول: قال رسول الله «ليأتينّ هذا الحجر يوم القيامة، وله عينان يُبصرُ بهما، ولسان ينطق به، يشهد على

____________________

(1) سنن ابن ماجة 2: 980 / 2939.

(2) نفسه: 974 / 2921.

(3) سنن ابن ماجة 2: 966 / 2892.

(4) نفسه / 2893.

١٨٧

من يَستلِمُه بحقّ».(1)

وعن نافع، عن ابن عمر قال: استقبل رسول الله الحجر، ثم وضع شفتيه عليه يبكي طويلاً، ثم التفت فإذا هو بعمر بن الخطّاب يبكي فقال: «يا عمر، ههنا تُسكبُ العَبَراتُ».(2)

عثمان بن أبي شيبة بسنده عن عبد الرحمان بن صفوان قال: لما فتح رسول الله مكّة، انطلقتُ فرأيتُ النبيَّ قد خرج من الكعبة هو وأصحابه، وقد استلموا البيت من الباب إلى الحطيم، وقد وضعوا خدودهم على البيت.(3)

حرمةُ المؤمن

جرى الكلام عن بيت الله وحُرمته، وأثره في النفوس وفضيلته، والمقام الخاصّ للحجر الأسود وعظمته، إلاّ أنّ النصوص من القرآن والسنّة تقرّر حقيقةً هي عظم حرمة المؤمن، فيذكر القرآن الكريم المنزلة الخاصّة للإنسان بين مخلوقاته:« لَقَدْ كَرّمْنَا بَنِي آدَمَ) (4) الآية.

هذا في عموم بني آدم، إلاّ أنّ الإنسان يستأهل هذا التكريم بقدر قربه من الله وتقواه:« إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ » . (5)

____________________

(1) نفسه: 982 / 2944.

(2) نفسه.

(3) سُنن أبي داود 2: 181 / 1898.

(4) الإسراء: 70.

(5) الحجرات: 13.

١٨٨

ولأجل الإنسان خلقت الجنّة يسعد بها المؤمن في نعيمٍ مقيم خالد، فإذا كانت تلك هي حرمة الحجر الأسعد لأنّه من الجنّة، وتلك هي حرمة الكعبة ومنزلتها إذ هي بيت الله تعالى ومحلّ ضيافته؛ فما هو موقع الإنسان المؤمن المتّقي، وما هي حُرمته؟ بسندٍ عن مكحول: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لمّا رأى البيت حين دخل مكّة رفع يديه وقال: «اللّهمّ زد هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابة، وزد من شرّفه وكرّمه ممّن حجَّه واعتمره تشريفاً وتعظيماً وتكريماً وبِرّاً».(1)

إنّ أشرف بقاع الأرض هي مكّة المكرّمة، فيها أوّلُ بيتٍ وضعه الله تعالى لعبادته« إِنّ أَوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلّذِي بِبَكّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ) (2) .

والمؤمن أولى بهذا البيت، وكلّما حجّه واعتمره زاد شرفاً إلى شرفه، إذ كما للبيت والحجر وظيفة هي الشّهادة لمن وافاهما، فكذلك المؤمن فهو شاهد على غيره« لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً » (3) ، والآية بيان منه سبحانه لفضل هذه الأمّة على سائر الأمم. ومعنى شهداء على الناس أي: لتشهدوا على النّاس بأعمالهم، أو لتكونوا حُجّةً على الناس فتُبيِّنوا لهم الحقّ والدّين ويكون الرسول عليكم شهيداً بما يكون من أعمالكم، وحجّةً عليكم. (4)

ولسعة أُفق مسؤوليّة المؤمن في هذه الحياة، كانت حُرمته أعظم، فعن ابن

____________________

(1) الدرّ المنثور 1: 132.

(2) آل عمران: 96.

(3) البقرة: 143.

(4) مجمع البيان - تفسير الآية 143 سورة البقرة.

١٨٩

عبّاس قال: لما نظر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الكعبة قال: «مرحباً بكِمن بيتٍ ما أعظمك وأعظمَ حرمتك، لَلْمُؤمنُ أعظمُ عند الله حرمةً منكِ».(1)

تفاوت منازل المؤمنين

تتفاوت منازل المؤمنين عند الله تعالى، وميزان هذا التفاوت هو التقوى:« إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ » (2) وأتقى الأمّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهو سيّد البشر مطلقاً، وهو خاتم الأنبياء، قد بشّر به مَن كان قبله منهم، ورسالته خاتمة الرسالات؛ فهو أولى بالشرف الباذخ الذي لا تنال ذُراه الكعبة. وهو الذي حرّر البيت الحرام، فطهّر الكعبة من أدران الجاهليّة وحطّم الأصنام التي على سطحها، فكان النظر إلى وجهه الكريم وتعظيمه هو مثلما يكون للكعبة. وكان الذي باشر عمل ذلك هو عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، أصعده رسولُ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مَنْكِبَيه، فكان ذلك منزلةً له وكرامة.(3)

وللشافعيّ نظم في هذه المكرمة العلويّة:

قيلَ لي: قُل في عليّ مدحاً

ذكرُهث يخمدُ ناراً مُوصَدَهْ

____________________

(1) الدّر المنثور 1: 132.

(2) الحجرات: 13.

(3) مسند أحمد 1: 84، 151، خصائص أمير المؤمنين للنّسائيّ 31، المستدرك على الصحيحين 2: 367 و 3: 5، تاريخ بغداد 13: 2، 3، صفة الصفوة لابن الجوزيّ 1: 119، مناقب الإمام عليّعليه‌السلام لابن المغازليّ: 202 - 203، المناقب للخوارزميّ: 123، ذخائر العقبى: 85، كفاية الطالب: 257، ينابيع المودّة: 139 الرياض النضرة 2: 200، المواهب اللّدنيّة للقسطلانيّ 1: 204.

١٩٠

قلتُ: لا أقدم في مدح امرئ

ضلّ ذواللُّبّ إلى أن عَبَدهْ

والنبيُّ المصطفى قال لنا

ليلة المعراج لمّا صَعده

وضع اللهُ بظهري يدَهُ

فأحسّ القلبُ أنْ قد بردَهْ

وعليّ واضعٌ أقدامَهُ

في محلٍّ وَضَعَ اللهُ يَدَهْ(1)

فبهذا اللّحاظ، وبلحاظ بقيّة مناقبهعليه‌السلام : من سابقته إلى الإسلام، وأنّه لم يسجد لصنمٍ قطّ ولم يوجّه وجهه في ركوع ولا سجود إلاّ إلى الكعبة التي وُلد فيها، ولم يولد قبله ولا بعده فيها أحد غيره، ولأعلميّته وشرائه النّفسَ في سبيل الله، وغير ذلك من المناقب الخاصّة به ممّا سيأتي الكلام عنها. لكلّ ذلك؛ ولأنّه نَفْسُ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما في آية المباهلة(2) ، فكان له ما لرسول الله إلاّ النبوّة، ولذا.. فكما أنّ النظر إلى وجه النبيّ عبادة؛ كذلك النظر إلى وجه عليّعليه‌السلام عبادة.

النظر إلى وجه عليّ عبادة

والأحاديث في هذا المعنى من الكثرة نذكر بعضها: بسندٍ عن عبد الله بن

____________________

(1) ينابيع المودّة للقندوزيّ: 140.

(2) تفسير مقاتل 1: 282، مسند أحمد 1: 185، صحيح مسلم 7: 120، الجامع الصحيح للترمذيّ 4: 293، كتاب الولاية لابن عقدة: 186، دلائل النبوّة لأبي نعيم: 124، المستدرك للحاكم 3: 150، أسباب النزول للواحديّ: 68، تفسير الطبريّ 3: 212، شواهد التنزيل 1: 128، مصابيح البغويّ 2: 277، تفسير الحِبَريّ 248، تفسير فرات: 29، تذكرة الخواصّ: 17؛ تفسير الثعلبيّ 3: 85، تفسير ابن كثير 1: 371، مناقب عليّ لابن مردويه: 226 - 228، أسد الغابة 4: 105، وله مصادر كثيرة نذكرها في موضعها.

١٩١

مسعود قال: قال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «النظر إلى وجه عليّ عبادة».(1)

وكيع عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أنّ النبيّ قال: «النظر إلى وجه عليّ عبادة».(2)

وعن أبي هريرة قال: رأيت مُعاذ بن جبل يُديم النظر إلى عليّ بن أبي طالب، فقلت: ما لكَ تديم النظر إلى عليّ كأنّك لم تره؟! فقال: سمعتُ رسول الله يقول: «النظر إلى وجه عليّ عبادة».(3)

وبطرقٍ عدّة عن عمران بن حصين: «النظر إلى عليّ عبادة».(4)

معمر، عن الزّهريّ، عن عروة، عن عائشة قالت: رأيت أبا بكر يكثر النظر إلى وجه عليّ، فقلت له: يا أبه، أراك تُكثر النظر إلى وجه عليّ! فقال: يا بُنيّة سمعتُ رسول الله يقول: «النظر إلى وجه عليّ عبادة».(5)

____________________

(1) المستدرك على الصحيحين 3: 152 / 4682، المناقب للخوارزميّ 361، حلية الأولياء 5: 58، ميزان الاعتدال للذهبيّ 4: 401، لسان الميزان لابن حجر 6: 178، الصواعق المحرقة: 73.

(2) حلية الأولياء 2: 182، مناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ: 207، لسان الميزان 1: 242، منتخب كنز العمّال 5: 30.

(3) تاريخ بغداد 2: 51، مناقب الإمام عليّ لابن المغازليّ: 207، ميزان الاعتدال 3: 484.

(4) مناقب الإمام عليّ: 209، المناقب للخوارزمي: 363، كفاية الطّالب: 161، الرياض النضرة 2: 219، البداية والنهاية 7: 357، ينابيع المودّة: 90، تاريخ الخلفاء: 66.

(5) تاريخ بغداد 2: 51، مناقب الإمام عليّ: 211، كفاية الطّالب: 161.

١٩٢

مثَلُ عليّ في الأُمّة

و لكون عليّعليه‌السلام المَثَل الأعلى بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ أنزله النبيّ منزلة الكعبة، فعلى المسلمين أن يشدّوا الرّحال إليه ليستمدّوا منه معالم دينهم، فهم جميعاً محتاجون إليه وعليهم أن يقصدوه كما يقصدون الكعبة.

عن صالح بن ميثم(1) عن يَريم بن العلا(2) ، عن أبي ذرّ قال:

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «مثَلُ عليّ فيكم - أو قال: في هذه الأمّة - كَمثَلِ الكعبة المستورة - أو المشهورة -، النظرُ إليها عبادة، والحجّ إليها فريضة».(3)

عن شريك، عن سَلَمة، عن الصُّنابحي(4) ، عن عليّ قال: قال رسول الله لعليّ:

____________________

(1) صالح بن ميثم. قال له أبو جعفر - الباقرعليه‌السلام - (إنّي أحبّك وأُحبّ أباك حبّاً شديداً) (رجال ابن داود 186 / 760). وذكره البرقيّ في أصحاب الباقرعليه‌السلام (رجال البرقيّ: 15). وذكره هو وابنه عُقبةَ بن صالح في أصحاب الصادقعليه‌السلام (رجال البرقيّ: 16).

(2) لم أعثر له على ترجمة.

(3) مناقب الإمام عليّ 107، كفاية الطالب: 161، الرياض النضرة 2: 219، مجمع الزوائد 19: 119، كنز العمّال 6: 158.

(4) شَرِيك بن عبد الله النّخعيّ القاضي، كوفيّ ثقة. (تاريخ الثقات للعجلي 217 / 644).

وسَلَمة بن كُهَيل الحضرميّ: كوفيّ، ثقةٌ ثبتٌ في الحديث، تابعيّ. قال سفيان الثّوري لحمّاد بن سلمة: رأيتَ سلمة بن كهيل؟ قال: نعم، قال: لقد رأيت شيخاً كيِّساً، قال: وكان فيه تشيّع قليل، وهو من ثقات الكوفيّين (تاريخ الثقات 197 / 591). وذكره الطوسيّ في أصحاب أميرالمؤمنين، وقال تابعيّ. ثمّ ذكره في أصحاب الأئمّة: عليّ بن الحسين، والباقر، والصادقعليهم‌السلام (رجال الطوسيّ: 43، 91، 124، 211). وذكره البرقيّ في خواصّ أصحاب أميرالمؤمنين، وفي أصحاب: =

١٩٣

«أنت بمنزلة الكعبة: تؤتى ولا تأتي، فإن أتاك هؤلاء القوم فسَلَّمُوها إليك - يعني الخلافة - فاقبَلْ منهم، وإن لم يأتوك فلا تأتهم حتّى يأتوك».(1)

فالسعيُ إلى عليّعليه‌السلام كالسعي بين الصفا والمروة، والتزامُه مثل التزام ملتزم الكعبة، فهو وبنوه مثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومَن تخلّف عنها غرق.

أخرج الشريف الرضيّ بسندٍ عالٍ، عن الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ ابن موسى بن جعفر قال: حدّثني أبي عليّ، قال حدّثني أبي محمّد، قال: حدّثني أبي عليّ، قال: حدّثني أبي موسى، قال: حدّثني أبي جعفر، قال: حدّثني أبي محمّد، قال: حدّثني أبي عليّ، قال: حدّثني الحسين بن عليّ، عن أبيه أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام ، قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا عليّ، مَثَلُكُم في الناس مَثَلُ سفينة نوح: من رَكِبَها نجا، ومن تخلّف عنها غرق، فمن أحبّكم يا عليّ نجا، ومن

____________________

= السجّاد والباقرعليهم‌السلام (رجال البرقيّ: 4، 8، 9). قال ابن سعد: توفّي سلمة بن كهيل الحضرميّ سنة اثنتين وعشرين ومائة حين قُتل زيد بن عليّ بالكوفة. (الطبقات الكبرى 6: 314 / 2415).

والصّنابحي: شاميّ، تابعيّ، ثقة، من خيار التابعين. (تاريخ الثقات 230 / 705). وهو عبد الرحمان بن عسيلة المراديّ الصّنابحي، رحل إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فوجده قد مات فنزل الشام، روى عن النبيّ مرسلاً، وعن أبي بكر وعمر وعليّ وغيرهم (تهذيب الكمال 6: 229). ومثله في (طبقات ابن سعد) عبد الرحمان بن عسيلة الصّنابحي، من حِمْيَر، ويكنّى أبا عبد الله، وكان ثقة قليل الحديث، روى عن أبي بكر وعمر وبلال. وذكر بسنده عن الصّنابحي قال: ما فاتني رسول الله إلاّ بخمس ليالٍ، توفّي رسول الله وأنا بالجحفة، فقدمت على أصحابه متوافرين، فسألت بلالاً عن ليلة القدر فقال: ليلة ثلاث وعشرين (الطبقات الكبرى 7: 353 / 4038).

(1) أسد الغابة 4: 112. وبلفظٍ آخر في: كفاية الطالب: 161، ومناقب الإمام عليّعليه‌السلام : 107، كنز العمّال 6: 158، ومجمع الزوائد 9: 119.

١٩٤

أبغضكم ورفض محبّتكم هوى في النار». ومَثَلُكُم يا عليّ مثل بيت الله الحرام: من دخله كان آمناً، فمن أحبّكم ووالاكُم كان آمناً من عذاب النار، ومن أبغضكم ألقي في النار يا عليّ« وَللّهِ‏ِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً » (1) ، ومن كان له عذر فله عذره، ومن كان مريضاً فله عذره، والله لا يعذر غنيّاً ولا فقيراً ولا مريضاً ولا أعمى ولا بصيراً في تفريطه في موالاتكم ومحبّتكم.(2)

وأخرج سفيان الفسويّ، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه قال: رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمانٌ لأمّتي».(3)

وعن قتادة، عن عطاء، عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمانٌ لأمّتي من الاختلاف؛ فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس».(4)

وعن أبي إسحاق - السّبيعيّ -، عن حنش الكنانيّ(5) قال: سمعت أبا ذرّ يقول وهو آخذ بباب الكعبة: «مَن عرفني فأنا مَن عرفني، ومن أنكرني فأنا أبوذرّ، سمعتُ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: ألا إنّ مَثَل أهل بيتي فيكم مَثَلُ سفينة نوح في

____________________

(1) آل عمران: 97.

(2) خصائص أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب للشريف الرضيّ: 48.

(3) المعرفة والتاريخ للفسويّ 1: 296.

(4) المستدرك على الصحيحين للحاكم 3: 162 / 4715.

(5) حنش بن المعتمر الكنانيّ، كوفيّ ثقة تابعيّ (تاريخ الثقات للعجليّ 136 / 347)، ووثّقه ابن داود وأخرج له في سُننه، والترمذيّ في جامعه.

١٩٥

قومه، من رَكِبَها نجا، ومن تخلّف عنها غَرِق».(1)

وعليّ بن زيد، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي ذرّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «مَثَلُ أهل بيتي مَثَلُ سفينة نوح، من ركب فيها نجا، ومن تخلّف عنها غرق، ومَن قاتلنا في آخر الزمان فإنّما قاتل مع الدّجال».(2)

وأخرج ابن أبي شيبة في مصنّفه قال: حدّثنا معاوية بن هشام(3) ، قال: حدّثنا عمّار، عن الأعمش، عن المنهال، عن عبد الله بن الحارث، عن عليّ قال: إنّما مثَلُنا في هذه الأمّة كسفينة نوح، وكتاب حِطّة في بني إسرائيل.(4)

هذا هو شأن عليّ ومنزلته، ومن كان كذلك لا يكبر عليه ردّ الشمس إليه كرامةً له من عند الله تعالى.

وأمّا من حيث الوقوع: فيكفي أنّ أميرالمؤمنين عليّاعليه‌السلام ، ذكر ذلك في محاججته القوم يوم الشّورى، فأخبتوا له في كلّ ما احتجّ به من فضائله.

أبو ساسان(5) ، وأبو حمزة، عن أبي إسحاق السبيعيّ، عن عامر بن واثلة قال:

____________________

(1) المستدرك على الصحيحين 3: 163 / 4720، والمعارف لابن قتيبة 252.

(2) المعرفة والتاريخ للفسويّ 1: 296، والكنى والأسماء للدولابيّ 1: 137 / الترجمة 241 ولكن من غير العبارة الأخيرة.

(3) معاوية بن هشام القصّار الأزديّ، أبو الحسن الكوفيّ. قال العجليّ: ثقة (تاريخ الثقات للعجليّ 433 / 1598).

(4) المصنّف لابن أبي شيبة 7: 503 / 52.

(5) حُضين بن المنذر، أبو ساسان السدوسيّ (بصريّ) تابعيّ، ثقة، وكان على راية عليّ يوم صفّين (تاريخ الثقات 123 / 304). =

١٩٦

____________________

= قال خليفة في صفة جيش أميرالمؤمنين يوم صفّين:... وعلى بكر البصرة حُضين بن المنذر (تاريخ خليفة 146).

وذكره الطوسيّ في أصحاب أميرالمؤمنين قال: أبو سنان الأنصاريّ (رجال الطوسيّ: 63).

وذكر البرقيّ أنّ له صحبة (رجال البرقيّ: 1). ثم ذكره في طبقة الأصفياء من أصحاب أميرالمؤمنينعليه‌السلام (رجال البرقيّ: 3). وذكره كذلك في شرطة الخميس من أصحابهعليه‌السلام (رجال البرقيّ: 4).

وذكره ابن داود في أصحاب أميرالمؤمنينعليه‌السلام (رجال ابن داود القسم الأوّل 398 / 42). إلاّ أنّ البرقيّ وابن داود سمّياه: الحصين - بصادٍ مهملة غير منقوطة -.

وذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من أهل البصرة (الطبقات الكبرى 7: 155). وأبو حمزة: هو ثابت بن أبي صفيّة واسم أبي صفيّة دينار الأزديّ الكوفيّ، مات سنة خمسين ومائة. ذكره الطوسي في: أصحاب عليّ بن الحسين، وفي أصحاب الباقر، وفي أصحاب الصادقعليهم‌السلام (رجال الطوسيّ 84، 110، 160).

قال النجاشيّ: كوفي ثقة، وأولاده: نوح، ومنصور، وحمزة - قُتلوا مع زيد بن عليّ قال: لَقِيَ عليَّ ابن الحسين وأبا جعفر وأبا عبد الله وأبا الحسنعليهم‌السلام ، وروى عنهم، وكان من خيار أصحابنا وثقاتهم ومعتمديهم في الرواية والحديث. ورُوي عن أبي عبد الله أنّه قال: أبو حمزة في زمانه مثلُ سلمان في زمانه. وروى عنه العامّة. له كتاب تفسير القرآن، وكتاب النوادر ورسالة الحقوق عن عليّ بن الحسين (رجال النجاشي 83 - 84).

وذكره ابن داود فقال: ثقة، له كتاب (رجال ابن داود 76 / 273).

وذكره البرقيّ في أصحاب عليّ بن الحسينعليه‌السلام (رجال البرقيّ 8).

وترجم له المزّيّ ترجمة وافية نذكر منها أسماء من روى عنهم، ومن رَوَوا عنه؛ لنعرف منزلته ووثاقته، قال: روى عن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، وأبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن أبي طالب، وعكرمة مولى ابن عبّاس، والأصبغ بن نُباتة، وأنس بن مالك، وسعيد بن جُبير، وعامر الشعبيّ، وسالم بن أبي الجعد الغطفانيّ، وأبي إسحاق السّبيعيّ... وغيرهم. =

١٩٧

____________________

= روى عنه: سفيان الثّوريّ، وشريك بن عبد الله النخعيّ وعمرو بن أبي المقدام ثابت بن هرمز، و عبيدالله بن موسى وأبونعيم الفضل بن دكين، ووكيع بن الجرّاح، وأبوبكر بن عيّاش، وحفص بن غياث، والحسن بن محبوب... وغيرهم. روى له الترمذيّ، والنّسائيّ في (مسند عليّ) (تهذيب الكمال للمزّيّ 4: 357 / 819).

وأبو إسحاق: هو أبو إسحاق السبيعيّ، واسمه عمرو بن عبد الله بن عليّ... بن سبيع... بن هَمْدان، السّبيعيّ الهَمْدانيّ الفقيه (النّسب لابن سلام 337، الطبقات الكبرى 6: 311 / 2411).

قال العجليّ: أبو إسحاق السّبيعيّ (كوفيّ) تابعيّ، ثقة، روى عن ثمانية وثلاثين من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله (تاريخ الثقات 366 / 1272).

روى عن: زيد بن أرقم، والبراء بن عازب، عديّ بن حاتم، وعبد الله بن عمرو و أسامة بن زيد، وأنس بن مالك، وحُبْشيّ بن جُنادة وزيد بن يُثيع، وسعيد بن جبير، وسليمان بن صرد الخزاعيّ، وجرير بن عبد الله البجلي، وعامر بن شراحيل الشّعبي، وعبد الله بن الحارث بن نوفل، وعبد الله بن الزبير بن العوّام، وعبد الله بن عبّاس والحارث بن عبد الله الأعور، وعبد الرحمان بن أبي ليلى، وعبد خير الهمدانيّ وعكرمة مولى ابن عباس، وكميل بن زياد، ومجاهد بن جبر المكّيّ، وأبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين... وخلقٍ كثير.

روى عنه: أبان بن تغلب، وأبو شيبة إبراهيم بن عثمان العبسيّ، وسفيان الثّوريّ وهو أثبت الناس فيه، وسفيان بن عيينة، وسليمان الأعمش، وشريك بن عبد الله وشعبة بن الحجّاج، وفضيل بن مرزوق، وفِطْر بن خليفة، وأبو حمزة الثّماليّ، وموسى بن عقبة، ومنصور بن المعتمر، ومِسعَر بن كِدام، وعبد الله بن المختار، وحمزة بن حبيب الزّيّات، ومالك بن مِغْول... وكثيرون.

مات سنة سبع وعشرين ومائة (الطبقات الكبرى 6: 311، الكنى والأسماء للدولابيّ 1: 100، التاريخ الكبير للبخاريّ: 6 / الترجمة 2594، الجرح والتعديل: 6 / الترجمة 1347، طبقات خليفة 275 / 1210، وقد ذكره في الطبقة الرابعة من أهل الكوفة ن من مُضَر اليمن).

قال أحمد بن حنبل: أبو إسحاق ثقة، وكذلك يحيى بن معين والنّسائي (الجرح والتعديل: 6 / الترجمة 1347). =

١٩٨

كنت مع عليّعليه‌السلام في البيت يوم الشورى، فسمعت عليّاً يقول لهم: لأحتجّنّ عليكم بما لا يستطيع عربيّكم ولا عجميّكم يُغيّر ذلك. ثمّ قال: أنشدكم بالله أيّها النّفر جميعاً! هل فيكم أحد ردّت عليه الشّمس حتّى صلّى العصر في وقتها، غيري؟

____________________

= قال أبو داود الطّيالسيّ: قال رجل لشعبة: سمع أبو إسحاق من مجاهد؟ قال: وما كان يصنع بمجاهد، كان هو أحسنَ حديثاً من مجاهد، ومن الحسن وابن سيرين (الجرح والتعديل: 6: الترجمة 1347).

وسبق أن ذكرنا قول العجليّ فيه وتوثيقه له.

وعامر بن واثلة بن عبد الله بن عمرو، أبو الطّفيل اللّيثيّ الكنانيّ، آخر الصحابة موتاً. ولد عام اُحدٍ، وأدرك ثماني سنين من حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله . روى عن: النبيّ، وعليّ، وأبي بكر، وعمر، ومعاذ، وابن مسعود، وحذيفة بن أسيد الغفاريّ، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن أرقم، وأبي سعيد الخدريّ، وسلمان الفارسيّ، وابن عبّاس... وغيرهم.

روى عنه: جابر بن يزيد الجعفيّ، والزهريّ، وحبيب بن أبي ثابت، وفطر بن خليفة، وعليّ بن زيد ابن جدعان، وحمران بن أعين، وعمرو بن دينار، وقتادة، وإسماعيل بن مسلم المكّيّ.. وخلق كثير (الطبقات الكبرى 5: 457، طبقات خليفة 68 / 176، 216 / 841، 488 / 2519، الجرح والتعديل: 6 / الترجمة 1829، جمهرة أنساب العرب 183، جمهرة النسب 145).

وذكره ابن داود في خواصّ أميرالمؤمنينعليه‌السلام (رجال ابن داود) 194 / 194).

وكذلك البرقيّ (رجال البرقيّ: 4)، وذكر الطوسيّ في أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفي أصحاب أميرالمؤمنين، وفي أصحاب الحسن (رجال الطوسيّ: 25، 47، 69).

قال العجليّ: عامر بن واثلة، أبو الطفيل (مكّيذ) ثقة، سكن الكوفة مع عليّ، وكان من كبار التابعين، وقد رأى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله (تاريخ الثقات 245 / 757).

١٩٩

قالوا: اللّهمّ لا.(1)

____________________

(1) كتاب الولاية لابن عقدة: 174، وهي واحدة من (29) فقرة احتجّ بها أميرالمؤمنينعليه‌السلام ، فشهدوا له بتصديقها. والسند الذي ذكرناه من القوّة والوثاقة ممّا يقطع بصحّة المناشدة وإخبات القوم وتصديقهم لأميرالمؤمنين فيما احتجّ به ومنه ردّ الشمس. وذكرها ابن المغازليّ الشافعيّ المتوفّى سنة (542 هـ) في كتابه (مناقب الإمام عليّ بن أبي طالب: 112 / 155)، والجوينيّ في كتابه (فرائد السمطين 1: 319 / 215)؛ والخوارزميّ الحنفيّ المتوفّى سنة (568 هـ) في كتابه (المناقب: 313 / 314) بسنده عن زافر بن سليمان بن الحارث [ زافر بن سليمان، ثقه (تاريخ يحيى بن معين 2: 273 / 4751، الجرح والتعديل للرازيّ 1: 2 / 625) ]، عن عامر ابن واثلة؛ وذكر من المناشدة (24) فقرة.

وذكرها الگنجي الشافعيّ (المقتول سنة 658 هـ) في كتابه (كفاية الطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب: 386) بسنده عن أبان بن تغلب [ أبان بن تغلب بن رياح القاري الربعيّ، أبو سعد الكوفيّ. مات سنة إحدى وأربعين ومائة. روى عن أبي إسحاق السبيعيّ والحَكَم، روى عنه شعبة بن الحجّاج، وحمّاد بن زيد (كتاب الثّقات لابن حبّان 3: 215 / 290). وفي (تاريخ أسماء الثقات لابن شاهين 67 / 75): قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: أبان بن تغلب ثقة، كان شعبة يحدّث عنه. قيل له: أبان، وإدريس الأوديّ؟ فقال: أبان أكبر.

ووثّقه أبو حاتم الرازيّ، حيث قال عن أحمد أنّه سُئل فقال: ثقة، وكذا ابن معين (الجرح والتعديل للرازيّ 1: 1 / 296).

ذكره الطوسيّ في أصحاب عليّ بن الحسين، وفي أصحاب الباقر أبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسينعليهم‌السلام (رجال الطوسيّ 82، 106).

وذكره البرقيّ في أصحاب الباقر، وأصحاب الصادقعليهما‌السلام (رجال البرقيّ 9، 16).

وترجم له النجاشيّ: أبان بن تغلب بن رباح، أبو سعيد البكريّ الجُريريّ، ثقة جليل القدر عظيم المنزلة في أصحابنا، لقي عليّ بن الحسين، وأبا جعفر - الباقر - وأبا عبد الله - الصادق -عليهم‌السلام ، روى عنهم، وكانت له عندهم منزلة وقَدَم. وذكره البلاذريّ قال: روى عن عطية العوفيّ [ عطيّة بن =

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274