الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ

الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ21%

الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
تصنيف: الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام
الصفحات: 274

الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ
  • البداية
  • السابق
  • 274 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 137067 / تحميل: 6104
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ

الإمام علي الهادي عليه السلام سيرة وتاريخ

مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وفي أحداث سنة ٢٥٥ هـ ذكروا أنه ظُفِر لقبيحة اُمّ المعتز وزوجة المتوكل بعد خلع المعتز وقتله، بخزائن تحت الأرض فيها أموال كثيرة، ومن جملتها دار تحت الأرض وجدوا فيها ألف ألف دينار وثلاثمائة ألف دينار، ووجدوا في سفط قدر مكوك زمرد لم ير الناس مثله، وفي سفط آخر مقدار مكوك من اللؤلؤ الكبار، وفي سفط آخر مقدار كليجة من الياقوت الأحمر الذي لم يوجد مثله، فقُوّمت الأسفاط بألفي ألف دينار (١) .

أما استعراض تفاصيل أموال وضياع الامراء والولاة والقضاة وكتاب الدواوين والجواري والمغنين والشعراء وغيرهم من المقربين إلى البلاط، فمما يخرج بنا عن الغرض، ويكفي مثالاً على ذلك ما نقله المؤرخون في أحداث سنة ٢٢٦ أن الافشين حينما مات في الحبس واحتيط على أمواله وحواصله وجدوا فيها أصناماً مكللة بذهب وجواهر (٢)، وأن بغا الكبير حينما مات سنة ٢٤٨ ترك من المتاع والضياع ما قيمته عشرة آلاف ألف دينار، وترك عشر حبّات جوهر قيمتها ثلاثة آلاف ألف دينار (٣) .

وكانت مؤونة أحمد بن طولون ألف دينار في اليوم... وحينما مات خلّف من العين عشرة آلاف ألف دينار، وأربعة وعشرين ألف مملوك (٤) .

ويحدثنا التاريخ عن الاموال الطائلة التي يصادرها الخلفاء من كبار العمال

__________________

(١) تاريخ الطبري ٩: ٣٩٥ بتحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم - بيروت، الكامل في التاريخ ٦: ٢٠٢، البداية والنهاية ١١: ١٧، تاريخ الخلفاء / السيوطي: ٢٨٠.

(٢) البداية والنهاية ١٠: ٣٢٢.

(٣) البداية والنهاية ١١: ٢.

(٤) سير أعلام النبلاء ١٢: ٩٤ - ٩٥.

٢١

والكتاب حينما يتعرضون للاقالة، فحينما سخط المعتصم على وزيره أبي العباس الفضل بن مروان وبطش بجماعة من أصحابه، استصفى أموالهم، فأخرجوا من داره مالاً عظيماً (١) .

وسار الواثق على هذه السياسة، ففي سنة ٢٢٩ بطش بالكتاب وأخذ منهم أموالاً عظيمة جداً، وأمر بعقوبة أصحاب الدواوين وضربهم واستخلاص الأموال منهم، لظهور خياناتهم وإسرافهم في أمورهم، فمنهم من ضرب ألف سوط وأكثر من ذلك وأقل، ومنهم من أخذ منه ألف ألف دينار، وضرب أحمد ابن أبي إسرائيل، وأخذ منه ثمان مئة ألف دينار، ومن سليمان بن وهب أربع مئة ألف دينار، وأخذ من أحمد بن الخصيب ألف ألف دينار (٢) . وكل ذلك وغيره يحكي عن مدى الاستئثار والفساد الذي تعاني منه السلطة وجهازها الاداري.

ثالثا - تدخل الأتراك في مقاليد الحكم:

السمة الغالبة في هذا العصر هي ازدياد تحكم الاتراك والفراغنة والمغاربة وغيرهم من الموالي في تسيير شؤون الدولة والحرب وتدخّلهم في مقاليد الحكم، وازداد مع ذلك الظلم والتعسف، وكان أول ذلك في عصر المعتصم الذي اهتم منذ توليه الحكم سنة ٢١٨ هـ باقتناء الترك، فبعث إلى سمرقند وفرغانة والنواحي في شرائهم وبذل فيهم الأموال، وألبسهم أنواع الديباج ومناطق الذهب، فلما كثر عسكره ضاقت عليه بغداد، وتأذى بهم الناس حيث كانوا

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٧٢.

(٢) سير أعلام النبلاء ١٠: ٣١٢، تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٨١، البداية والنهاية ١٠: ٣٣٠.

٢٢

يطردون بخيلهم في بغداد، وضاقت بهم البلد، فاجتمع إليه أهل بغداد وقالوا: إما أن تخرج من بغداد، فإن الناس قد تأذوا بعسكرك، أو نحاربك، فكان سبب خروج المعتصم إلى القاطول في سنة ٢٢٠ فاختطّ موضع المدينة التي بناها هناك، ثم ارتحل من القاطول إلى سر من رأى، وكان ابتداء ذلك في سنة ٢٢١ هـ (١) .

وقد استخدم المعتصم من المماليك الترك قريب من عشرين ألفا (٢)، ثم في عصر الواثق والمتوكل ومن جاء بعدهم ازداد نفوذ الأتراك في عاصمة العسكر سامراء، حيث توصلوا الى نقاط حساسة في الدولة كولاة وعمال وقادة جيش، ومنهم الافشين وأشناس ومنكجور الاشروسني وايتاخ وبغا الكبير، وابناه موسى ومحمد، وبابكيال، وياركوج، واذكوتكين، وبغا الصغير الشرابي، ووصيف بن باغر وغيرهم. وكانت لهم قيادة الجيش وتدبير شؤون الخليفة والدولة، بل كان عزل ونصب القواد والامراء والولاة والقضاة بيد هؤلاء، حتى أنهم كانوا سبباً في إثارة الفتن والفساد في الدولة وانتهاك مصالح الاُمّة ومقدراتها، بالخروج عن الطاعة وإثارة الحروب لسلب الأموال العامة وهتك الاعراض وإذلال الناس بمختلف طبقاتهم.

هذا مع كون بعضهم لا يدين بالإسلام مثل الافشين الذي عقد له المعتصم مجلساً سنة ٢٢٥ فظهر أنه باق على دين أجداده من الفرس، وأنه يريد أن ينصر

__________________

(١) تاريخ الخلفاء / السيوطي: ٢٥٩، معجم البلدان / ياقوت الحموي - المجلد الثالث: ١٠ - ١٣ - دار إحياء التراث العربي - بيروت - ١٤١٧ هـ، الانساب / السمعاني ٤: ١٩٣، تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٧٢.

(٢) البداية والنهاية ١٠: ٣٢٥.

٢٣

دين المجوس ويظهره على دين العرب (١)، وحينما مات سنة ٢٢٦ في الحبس وجد في تراثه كتباً في فضل دين المجوس وأشياء كثيرة كان يتهم بها، تدل على كفره وزندقته، وتحقق بسببها ما ذكر عنه من الانتماء إلى دين آبائه المجوس (٢) .

وبمرور الزمن ازدادت سيطرة الترك على مقاليد الحكم، فأهانوا الخلفاء العباسيين وسلبوا إرادتهم، وصار الخلفاء العباسيون ألعوبة بأيديهم، فقتلوا المتوكل، وخلعوا المعتز والمؤيد ابني المتوكل من ولاية العهد، واستخلفوا للمستعين، واستولوا على الأموال في عهده، وقاتلوه حين غضب عليهم، فاعتصم ببغداد وبايعوا للمعتز من بعده.

قال ابن طقطقا: كان الأتراك قد استولوا منذ قتل المتوكل على المملكة، واستضعفوا الخلفاء، فكان الخليفة في يدهم كالأسير إن شاءوا أبقوه، وإن شاءوا خلعوه، وإن شاءوا قتلوه (٣) .

وقد وصف بعض الشعراء الحالة التي انتهت إليها الخلافة العباسية في زمن المستعين الذي ليس له حول ولا قوة مع اُمراء الجند الأتراك ومنهم وصيف وبغا بقوله:

خليفة في قفصٍ

بين وصيفٍ وبغا

يقول ما قال لهُ

كما تقول الببغا (٤)

ومن مظاهر سيطرة مقدم اُمراء الأتراك صالح بن وصيف على جميع أفراد

__________________

(١) البداية والنهاية ١٠: ٣٢٠.

(٢) البداية والنهاية ١٠: ٣٢٢.

(٣) الفخري في الآداب السلطانية / ابن الطقطقا: ٢٤٣.

(٤) تاريخ الخلفاء / السيوطي: ٢٧٨.

٢٤

الدولة بمن فيهم الخليفة في زمان المعتزّ باللّه، ما ذكره اليعقوبي في حوادث سنة ٢٥٥ هـ من تاريخه، قال: وثب صالح بن وصيف التركي على أحمد بن اسرائيل الكاتب وزير المعتز، وعلى الحسن بن مخلد صاحب ديوان الضياع، وعلى عيسى بن إبراهيم بن نوح وعلي بن نوح، فحبسهم وأخذ أموالهم وضياعهم وعذّبهم بأنواع العذاب، وغلب على الأمر، فهمّ المعتزّ بجمع الأتراك، ثمّ دخل إليه فأزاله من مجلسه، وصُيّر في بيت، وأخذ رقعته بخلع نفسه، وتوفي بعد يومين (١) .

رابعا - تردي الحالة الاقتصادية والاجتماعية:

كان من افرازات الاستئثار بالاموال العامة وكثرة الحروب الداخلية واضطراب السلطة وضعفها وسوء إدارتها أن تركّزت الثروات بيد قلّة من أبناء الاُسرة الحاكمة والمحيطين بها، فتفشّى التفاوت الطبقي بين أبناء الاُمّة تبعا للولاء والقرب والبعد من البلاط وحاشيته، فهناك قلّة متخمة تستأثر برأس المال والثراء الفاحش وتبدّده في حياة البذخ والترف لاشباع شهواتهم وملاذّهم، وغالبية مسحوقة تعيش حياة البؤس والفقر والحرمان، وتنهكها النزاعات والحروب، وتئن تحت وطأة البطالة وغلاء الاسعار وفتك الأوبئة ومختلف الامراض، مما ترك آثارا وخيمة على بنية المجتمع وسلوك أفراده.

فذكر المؤرخون في حوادث سنة ٢٢٨ هـ أنه غلا السعر على الناس في طريق مكة جداً (٢) .

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ٥٠٤، سير أعلام النبلاء / الذهبي ١٢: ٥٣٥ - مؤسسة الرسالة - بيروت - ١٤١٩ هـ.

(٢) البداية والنهاية ١٠: ٣٢٨.

٢٥

وذكروا في حوادث سنة ٢٥١ هـ أنه بلغ سعر الخبز في مكة ثلاثة أواقٍ بدرهم، واللحم رطل بأربعة دراهم، وشربة الماء بثلاثة دراهم (١) .

وفي حوادث سنة ٢٥١ و ٢٥٢ هـ نتيجة الحرب التي دارت رحاها بين المعتز والمستعين على كرسي الخلافة، شمل أهل بغداد الحصار وغلاء الأسعار، واجتمع على الناس الخوف والجوع (٢) .

قال اليعقوبي في حوادث سنة ٢٥٢ هـ: غلت الأسعار ببغداد وسرّ من رأى حتى كان القفيز بمائة درهم، ودامت الحروب، وانقطعت الميرة، وقلّت الأموال (٣) .

وكان من نتائج الفقر والبطالة أن تفشّت الكثير من المفاسد الاجتماعية، فكثر الشطّار والعيارين الذين ألجأهم الفقر والعوز الى التجوال في الأسواق للحصول على لقمة العيش ولو عن طريق النهب والسلب والاعتداء، وقد فشا أمر هؤلاء فشكلوا ظاهرة متميزة في بغداد عند أواخر القرن الثاني الهجري وبداية القرن الثالث.

كما انتشرت الكثير من مظاهر الانحرف في المجتمع مثل تعاطي القمار ومعاقرة الخمور حيث فتحت حانات عديدة في بغداد وباقي الأمصار، وكثر المغنون والجواري والغلمان الذين أصبحوا مادة للغزل عند شعراء ذلك العصر، وتفشت ظاهرة الخنوثة والميوعة والفساد سيما في قصور الخلفاء والامراء والقضاة وسواهم من رجال الدولة.

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٦: ١٨١، البداية والنهاية ١١: ١٠.

(٢) البداية والنهاية ١١: ٩.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٩٩.

٢٦

خامسا - عدم الاستقرار:

سادت الكثير من مظاهر الفوضى والشغب والاضطراب في هذا المقطع التاريخي من عمر الدولة العباسية، تتمثل في انتقاض أطرافها، واستقلال بعض ولاياتها، والعدوان الأجنبي على بعض أعمالها، وكثرة الثورات الداخلية، إلى غير ذلك من مظاهر عدم الاستقرار السياسي والأمني الناجمة عن ضعف القدرة المركزية للسلطة وتلاشي هيبتها وتعدد الارادات السياسية فيها، لتدخل قادة الجند الأتراك والمغاربة والفراغنة في شؤونها وإشاعتهم الظلم والقهر والاستبداد. وفيما يلي نعرض لأهم تلك المظاهر، ونذكر بعض الأمثلة من المصادر التي أرّخت لهذا العصر:

١ - أعمال التمرد والشغب:

شهدت الدولة العباسية - للفترة التي نؤرّخ لها - فتنا متصلة وأعمال قتل وحرق وسلب ونهب لم تسلم منها حتى العاصمة سامراء.

ففي زمان المعتصم خرجت المحمرة بالجبل فقتلوا وقطعوا الطريق وأخافوا السبيل وتعرضوا للحاج (١)، وفي سنة ٢١٩ هجم الزط على البصرة وعاثوا فيها الفساد وخرّبوا البلاد (٢)، وخرج محمد بن عبيدالله الورثاني بورثان (٣) .

وفي زمان الواثق انتقضت أرمينية، وتغلب ملوك الجبال على ما يليهم، وضعف أمر السلطان (٤) .

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٧١.

(٢) البداية والنهاية ١٠: ٣٠٨، تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٧٢.

(٣) تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٧٥.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٨١.

٢٧

وخرج ابن بيهس الكلابي بدمشق في جمع كثير من بطون قيس، وفي سنة ٢٢٧ خرج رجل من أهل الثغور بالشام يقال له تميم اللخمي أبو حرب المبرقع اليماني، فخلع الطاعة ودعا إلى نفسه، واتبعه نحو مائة ألف مقاتل، واستفحل أمره جداً، وخرج قوم من البربر ببرقة ومعهم قوم من قريش من بني أسيد بن أبي العيص على عاملهم محمد بن عبدويه بن جبلة (١) .

وكانت بطون قيس قد عاثت في طريق الحجاز وقطعوا الطريق حتى تخلف الناس عن الحج، ونصبوا رجلاً من سليم يقال له عزيزة الخفافي، وسلموا عليه بالخلافة، وخرج بنو سليم حول المدينة النبوية فعاثوا في الارض فساداً وأخافوا السبيل، وقاتلهم أهل المدينة فهزموا أهلها واستحوذوا على ما بين المدينة ومكة من المناهل والقرى، فوجه الواثق بغا الكبير سنة ٢٣٠ وأمره أن يقتل كل من وجده من الاعراب، فلقيهم بغا فقاتلوه، فقتل منهم خلقاً عظيماً، وصلبهم على الشجر، وأسر منهم جمعاً غفيراً وحبسهم، وحمل الباقين في الاغلال (٢) .

وفي زمان المتوكل سنة ٢٣٢ هـ عاثت بنو نمير باليمامة فسادا، فقاتلهم بغا الكبير، فقتل منهم نيفا وخمسين رجلاً وأسر أربعين رجلاً (٣) .

وفي سنة ٢٣٧ هـ خرج أهل أرمينية على عاملهم يوسف بن محمد فقتلوه (٤) .

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٨٠، البداية والنهاية ١٠: ٢٢٤.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٨٠، البداية والنهاية ١٠: ٣٣٢.

(٣) الكامل في التاريخ ٦: ٩٠، البداية والنهاية ١٠: ٣٠٨.

(٤) الكامل في التاريخ ٦: ١١١، البداية والنهاية ١٠: ٣١٥.

٢٨

وكانت حمص مسرحا للقتل والصلب والحرق لسوء تصرف عمالها وثورة الأهالي عليهم، ففي سنة ٢٤٠ هـ ثاروا على عاملهم أبي المغيث الرافقي، فقتلوا جماعة من أصحابه، وأخرجوه وأخرجوا عامل الخراج (١) .

وفي زمان المستعين سنة ٢٤٨ هـ ثاروا على عاملهم كيدر بن عبداللّه الإشروسيني، فأخرجوه، فوجه إليهم المستعين الفضل بن قارن الطبري فقتل منهم خلقا كثيرا وحمل مائة من أعيانهم إلى سامراء وأمر بهدم سور المدينة (٢) .

ثم وثبوا على الفضل بن قارن سنة ٢٥٠ هـ فقتلوه، فوجه المستعين إليهم موسى بن بغا فقاتلهم وهزمهم، وقتل من أهل حمص مقتلة عظيمة وأحرقهاوأسر جماعة من أعيان أهلها (٣) .

وفي سنة ٢٤٨ هـ بويع المستعين بالخلافة من قبل قادة الأتراك، وجرت فتن منتشرة وكثيرة جدا، ثم استقر الأمر للمستعين (٤) .

وفي سنة ٢٤٩ هـ هجم نفرٌ من الناس لايُدرى من هم على سامراء، ففتحوا السجن وأخرجوا من فيه (٥) .

وكانت بغداد مسرحا لأعمال الشغب والفتن الكثيرة المتصلة، ففي سنة ٢٤٩ هـ وقعت فتنة عظيمة في بغداد، لأن العامة كرهوا جماعة من الاُمراء الأتراك لتغلبهم على أمر الخلافة واستيلائهم على اُمور المسلمين، فنادوا بالنفير، وانضمّ إليهم جماعة من الجند والشاكرية، وفتحوا السجون وأخرجوا

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٦: ١٢٠، البداية والنهاية ١٠: ٣١٩.

(٢) الكامل في التاريخ ٦: ١٥١، البداية والنهاية ١١: ٢، تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٩٥.

(٣) الكامل في التاريخ ٦: ١٦١، البداية والنهاية ١١: ٦، تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٩٥.

(٤) الكامل في التاريخ ٦: ١٥٠، البداية والنهاية ١١: ٢.

(٥) الكامل في التاريخ ٦: ١٥٤.

٢٩

من فيها، وأحرقوا أحد الجسرين وقطعوا الآخر، ونهبوا أماكن متعددة (١) .

وفي سنة ٢٥١ - ٢٥٢ هـ جرت فتنة شنعاء في بغداد، وذلك لأن المستعين هرب إلى بغداد بعد أن شغب عليه القادة الترك، فأخرج المشغبون المعتزّ من سجن الجوسق وبايعوه بالخلافة، فكانت الحروب سجالاً بينهما، وقد انتهت بحصار جيش المعتز بقيادة أخيه الموفق وكلباتكين التركي لبغداد، ودام الحصار أشهرا اشتدّ فيها البلاء وكثر القتل والحرق والسلب، وجهد أهل بغداد من غلاء الأسعار وانتشار الأمراض حتى انتهى الأمر بتنازل المستعين عن الخلافة وخلعه نفسه وبيعته للمعتز (٢) .

وتعرضت الموصل لفتن كثيرة، ففي سنة ٢٥٣ هـ حدثت فيها أعمال النهب والقتل... ثم تكرر المشهد في السنوات التالية بسبب تعسف العامل عليها - وهو اذكوتكين التركي - الذي أساء السيرة في الناس، وأظهر الفسوق، وفعل المنكرات، وأخذ الأموال، فقاتلوه وأخرجوه من الموصل ونهبوا داره (٣) .

٢ - استقلال الأطراف وكثرة المتغلّبين:

نتيجة لتدهو الأوضاع السياسية وضعف الدولة العباسية كثيرا في هذا العصر فقد استقلت بعض أطراف الدولة وكثر المتغلّبون عليها.

ففي سنة ٢٥٤، استقلت مصر بسيطرة الأسرة الطولونية، وكان أولهم أحمد ابن طولون وهو من الأتراك، واستغنى مدّة ملكه على مصر عن الارتباط

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٦: ١٥٣، البداية والنهاية ١١: ٣.

(٢) الكامل في التاريخ ٦: ١٦٤ -١٧٠، البداية والنهاية ١١: ٧.

(٣) الكامل في التاريخ ٦: ١٩١ و ٢٤٧.

٣٠

بالخلافة (١) .

وانفصلت السواحل الشمالية من أفريقيا عن الدولة العباسية، وخرجت من قبضة العباسيين على يد آل الأغلب منذ سنة ١٨٤، واستمر حكم هذه الاسرة الى سنة ٢٩٢، بعد أن توسع نفوذها في سواحل البحر المتوسط (٢) .

وقامت الدولة الرستمية الاباضية في الجزائر، وبقيت الى سنة ٢٦٩ حيث سقطت باستيلاء الحاكم الفاطمي عبد الله المهدي عليها.

ومنذ النصف الثاني من القرن الثاني الهجري قامت دولة الادارسة في المغرب، وكان مؤسسها إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي عليه‌السلام وبقيت هذه الدولة تحكم بلاد المغرب الى سنة ٣٧٥ (٣) .

وفي سنة ٢٣٨ هـ تغلّب على تفليس إسحاق بن إسماعيل مولى بني اُمية (٤) .

وفي سنة ٢٣٧ هـ اضطرب أمر أرمينية، وتحرك فيها جماعة من البطارقة وغيرهم وتغلّبوا على نواحيهم (٥) .

وقامت الدولة الزيادية سنة ٢٠٤ في بلدة زبيد بتهامة، واستمر حكم الزياديين نحو قرنين من الزمان، واستطاعوا خلال هذه المدة توسيع رقعة دولتهم باحتلال المناطق المتاخمة لهم.

__________________

(١) راجع: الكامل في التاريخ ٦: ١٩٥ و ٢١٣ و ٢٢٧ و ٢٣٨، سير أعلام النبلاء ١٣: ٩٤ / ٥٣.

(٢) الكامل في التاريخ ٦: ٦٦ و ٨٩ و ١٠٢ و ١٢٦ و ١٣٢ و ١٥٥.

(٣) راجع: تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٠٥، مقاتل الطالبيين: ٤٨٧، عمدة الطالب: ١٥٩.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٨٩، الكامل في التاريخ ٦: ١١٦.

(٥) تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٨٩.

٣١

وفي سنة ٢٥١ أسس بنو الاخيضر العلويين دولتهم في مكة واليمامة، ومؤسسها الاول إسماعيل بن يوسف الاخيضر الذي ينتهى نسبه الى الامام الحسن عليه‌السلام ، وكان خروجه أيام المستعين بالله، وامتد نفوذ هذه الدولة الى الحجاز وما جاورها، واستمر ملكه الى سنة ٣٠٥ حيث استولى عليهم القرامطة (١) .

وتشكلت عدة دول في شرق البلاد، فتغلّب الحسن بن زيد العلوي على طبرستان، وأسس الدولة العلوية هناك، ودامت إمرته عليها عشرين عاما ٢٥٠ - ٢٧٠ هـ ثم خلفه أخوه محمد بن زيد (٢) .

وفي سنة ٢٣٤ هـ خرج محمد بن البعيث عن طاعة الخلافة في آذربيجان، ولجأ إلى مدينة مرند فحصّنها (٣) .

وتغلّب يعقوب بن الليث الصفار على خراسان ونيسابور، واستمرت حروبه من سنة ٢٥٣ هـ حتى وفاته سنة ٢٦٥ هـ، وأسس دولته الصفارية (٤) .

وتأسست دولة العجليين في سنة ٢١٠ في الكرج والبرج، وكان مؤسسها أبو دلف القاسم العجلي (٥)، وتوسع نفوذ هذه الدولة سنة ٢٧١ بضم إصفهان ونهاوند.

__________________

(١) راجع: مروج الذهب ٤: ٤٢٩، الكامل في التاريخ ٦: ١٨٠ - ١٨١، مقاتل الطالبيين: ٤٥٠، عمدة الطالب / ابن عنبة: ١١٢، المجدي / العلوي: ٤٩.

(٢) راجع: تاريخ الطبري ٩: ٢٧١، سير أعلام النبلاء ١٢: ٤٨ و ٥٤٣.

(٣) الكامل في التاريخ ٦: ١٠٠ و ١٠٤، البداية والنهاية ١٠: ٣١٢.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢: ٥٠٤، الكامل في التاريخ ٦: ١١٤ و ١٥١ و ١٩٣ و ١٩٧ و ٢٣٢ و ٢٤٢ و ٢٤٦، سير أعلام النبلاء ١٢: ٥١٣ / ١٩١.

(٥) راجع ترجمته في تاريخ بغداد ١٢: ٤١٢ / ٦٨٦٩.

٣٢

٣ - غزو الثغور الإسلامية:

تعرضت أطراف الدولة الى عدة غزوات راح ضحيتها آلاف الابرياء من المسلمين ونهبت أموالهم وانتهكت أعراضهم، نتيجة اهمال المتصدين لقيادة الدولة الثغور الاسلامية اهمالاً كبيراً، فكانت الروم تهاجم وبشكل مستمر ثغور المسلمين من جهة البر والبحر، ففي سنة ٢١٦ عدا ملك الروم وهو توفيل بن ميخائيل على جماعة من المسلمين فقتلهم في أرض طرسوس وكانوا نحواً من ألف وست مئة إنسان (١) .

وفى سنة ٢٢٣ أوقع ملك الروم توفيل بن ميخائيل بأهل ملطية من المسلمين وما والاها ملحمة عظيمة قتل فيها خلقاً كثيراً من المسلمين، وأسر ما لا يحصون كثرة، وكان من جملة من أسر ألف امرأة من نساء المسلمين، ومثل بمن وقع في أسره من المسلمين فقطع آذانهم وأنوفهم وسمل أعينهم (٢) .

وفي سنة ٢٣٨ هـ غزت الافرنج مصر في ثلاث مئة مركب من جهة دمياط، فدخلوها فجأة، فقتلوا من أهلها خلقا، وأحرقوا المسجد الجامع والمنبر، وأسروا من النساء نحوا من ست مئة امرأة، وأخذوا من الأمتعة والمال والأسلحة شيئا كثيرا جدا، وفرّ الناس منهم في كل وجه، وكان من غرق في بحيرة تنيس أكثر ممن أسروه،... ولم يعرض لهم أحد حتى رجعوا إلى بلادهم (٣) .

__________________

(١) البداية والنهاية ١٠: ٣٠٧.

(٢) البداية والنهاية ١٠: ٣١٢.

(٣) الكامل في التاريخ ٦: ١١٧، البداية والنهاية ١٠: ٣١٧، تاريخ الخلفاء / للسيوطي: ٢٦٩، تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٨٨ مع شيءمن الاختلاف عن باقي المصادر.

٣٣

وفي سنة ٢٤١ هـ أغارت البجة على جيش من أرض مصر، وهم طائفة من سودان بلاد المغرب، وقد كانت البجة لايغزون المسلمين قبل ذلك لهدنة كانت لهم مع المسلمين، فنقضوا الهدنة واعلنوا بالخلاف (١) .

وفي سنة ٢٤٢ هـ أغارت الروم على بلاد الجزيرة، فانتهبوا شيئا كثيرا، وأسروا نحوا من عشرة آلاف من الذراري (٢) .

وفي سنة ٢٤٥ هـ أغارت الروم على سُمَيساط، فقتلوا وسبوا وأسروا خلقا كثيرا (٣) .

٤ - الحركات المتطرّفة والثورات الشعبية:

أ - الحركات المتطرفة:

يجد الباحث في تاريخ هذه الفترة نشاطا ملحوظا للخرمية المجوسية متمثلة بحروب بابك الخرمي (٤) والمازيار (٥) في زمان المأمون والمعتصم، كماكان للخوارج الشراة جولة في هذا العصر أيضا، فشنوا حرباً شعواء على كل من خالفهم الرأي سواء كان عباسياً أو غيره، فكانوا نسخة مختصرة من أسلافهم

__________________

(١) البداية والنهاية ١٠: ٣٢٤.

(٢) البداية والنهاية ١٠: ٣٤٢.

(٣) الكامل في التاريخ ٦: ١٣١.

(٤) تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٧٣، تاريخ دمشق / ابن عساكر ٩٤: ١٣٠، سير أعلام النبلاء ١٠: ٢٩٣ و ١١: ٢٥٧، البداية والنهاية ١٠: ٣١٠ و ٣١٢، البدء والتاريخ / المقدسي ٣: ٣٠ و ٥: ١٣٤.

(٥) معجم البلدان ٤: ١٥، سير أعلام النبلاء ١٠: ٣٠١، تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٧٦، البداية والنهاية ١٠: ٣١٧ و ٣٢٠.

٣٤

الذين مرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية (١) .

ب - الثورات الشعبية:

حدثت في هذا العصر عدة ثورات ضدّ الحكم العباسي، قادها الطالبيون، وهي من إفرازات تردّي الأحوال العامة والقهر والقمع والجور التي عمّت آثارها على الاُمّة بشكل عام وعلى الطالبيين بشكل خاص؛ لأنهم كانوا يعانون من شدة الوضع العام، ومن السياسة العباسية القاضية باضطهادهم ومطاردتهم واتباع شتى وسائل الضغط عليهم، فكانت واعزا يحفّز الثوار منهم على الخروج المسلّح من حين الى آخر.

وقد تعرضوا في زمان المتوكل لاضطهاد وارهاب وحصار لايوصف واُنزلت فيهم أقصى العقوبات، فتفرّق كثير منهم في النواحي كي يتواروا عن الأنظار أو يعلنوا الثورة المسلحة ضدالدولة (٢)، وشُرّد بعضهم قسراً من المدينة إلى سامراء، وأودع بعضهم السجون حتى ماتوا فيها أو سُمّوا، هذا فضلاً عمن قُتِلوا على أيدي قادة العباسيين ورجال دولتهم كالافشين وموسى بن بغا وعلي ابن أوتامش وصالح بن وصيف وسعيد الحاجب وغيرهم.

وقد تضمّنت كتب التاريخ أسماء نحو أربعة عشر ثائرا من الطالبيين خلال حياة الامام الهادي عليه‌السلام ٢١٢ - ٢٥٤ مما يشير إلى حجم معاناة الطالبيين ومدى الحيف والظلم الذي لحقهم على أيدي العباسيين.

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٨٣ و ٤٩٧ و ٥٠٢، البداية والنهاية ١٠: ٣٣٧، و ١١: ٢٢ و ٣٠، والكامل في التاريخ ٦: ١٨٦ و ١٩٠ و ١٩٥ و ٢٠٥ و ٢١٢ و ٢١٩ و ٢٧٢ و ٣٣٤ و ٣٤٥ و ٣٤٦.

(٢) راجع: مقاتل الطالبيين: ٣٩٦ و ٤٠٤.

٣٥

والغالب على تلك الثورات هو الدعوة إلى إقامة حكم اللّه في الأرض، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدفاع عن حقوق المظلومين، وبعضها دعا إلى الرضا من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثورة محمد بن القاسم العلوي ويحيى بن عمر وأحمد بن عيسى والحسن بن زيد وأخيه محمد بن زيد وغيرهم؛ ولأهميّة تلك سنذكر أهم الثوار الذين حملوا السلاح بوجه السلطة العباسية في هذه الفترة، وهم:

أ - محمد بن القاسم العلوي:

وهو محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، وأمه صفية بنت موسى بن عمر بن علي بن الحسين. ويكنى أبا جعفر. ويلقب بالصوفي للبسه ثياب الصوف البيض، وكان من أهل العلم والفقه والدين والزهد وحسن السيرة.

وخرج في الطالقان من خراسان في أيام المعتصم، داعياً إلى الرضا من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان معه جماعة من وجوه الزيدية، منهم: يحيى بن الحسن بن الفرات، وعباد بن يعقوب الرواجني، وتبعه في مدة يسيرة خلق كثير، وتمت سيطرته على الطالقان مدة أربعة أشهر، فلما بلغ خبره عبداللّه بن طاهر وجّه إليه الجيوش تلو الجيوش، فكانت له معها وقعات بناحية الطالقان وجبالها، أحرز فيها الغلبة أولاً، وتغلب ابن طاهر أخيراً على جيش ابن القاسم، فتفرق أصحابه في النواحي والآكام، واستتر ابن القاسم في نسا مدة طويلة، واستمر أصحابه في الدعوة اليه، ثم أنه وشي به الى ابن طاهر، فأُلقي عليه القبض وسيّر مقيداً بالحديد، فأدخل إلى عبداللّه بن طاهر.

قال إبراهيم بن غسان: ما رأيت قط أشد اجتهاداً منه، ولا أعفّ، ولا أكثر

٣٦

ذكراً لله تعالى مع شدة نفس، واجتماع قلب، وما ظهر منه جزع ولا انكسار ولا خضوع في الشدائد التي مرت به، وأنهم ما رأوه قطّ مازحاً ولا هازلاً.

ثم ان ابن طاهر أقامه بنيسابور ثلاثة أشهر، يريد بذلك أن يعمّي خبره على الناس كيلا يغلب عليه لكثرة من بايعه بكور خراسان، ثم أرسله إلى المعتصم سراً في جوف الليل، حتى أخرجه من الري ولم يعلم به أحد، ثم ورد على المعتصم في بغداد حاسراً كما أمر المعتصم، فأُدخل عليه يوم ١٥ ربيع الثاني سنة ٢١٩ هـ، وكان يوم النوروز، والمعتصم جالس يشرب وبين يديه الجواري الفرغانيات يرقصن والغلمان الفراغنة يلعبون، فأوقفه المعتصم والناس ينظرون إليه، وكانت أكؤس الشراب تُدار في المجلس أمام ناظري محمد بن القاسم، فلما رأى هذا الوضع بكى ثم قال: اللهم إنّك تعلم أني لم أزل حريصا على تغيير هذا وإنكاره. وأخذ يسبح ويستغفر الله ويحرك شفتيه يدعو عليهم.

ولم يزل محمد واقفاً حتى فرغ المعتصم من لهوه ولعبه، فمروا بمحمد بن القاسم عليه، فأمر بدفعه إلى مسرور الكبير، فحبس في سرداب ضيق شبيه بالبئر طوله ثلاثة أذرع في ذراعين فكاد أن يتلف ويموت فيه، وانتهى ذلك إلى المعتصم، فأمر باخراجه منه، وحبس في قبة في بستان موسى مع المعتصم في داره، ووكل به مسرور عدة من غلمانه وثقاته، فلم يزل محبوساً فيها، فلما كان ليلة عيد الفطر في سنة ٢١٩ وقد مضى أغلب الموكلون به إلى منازلهم، احتال محمد وهرب من السجن وغاب عن الأنظار، فطلبوه فلم يقدروا عليه، واختلفت الأخبار في مصيره بعد ذلك، فقيل: إنّه رجع إلى الطالقان فمات بها. وقيل: بل إنّه اختفى ببغداد مدة ثم انحدر إلى واسط فمكث بها حتى مات. وقال أحمد بن الحارث الخزاز: انه مضى فاستتر مدة المعتصم والواثق ثم وجد في أيام

٣٧

المتوكل فحمل إليه فحبسه حتى مات في محبسه، ويقال: انه دسّ إليه سماً فمات منه (١) .

ب - محمد بن صالح:

وهو محمد بن صالح بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي عليه‌السلام ، وكان من فتيان آل أبي طالب وشجعانهم وظرفائهم وشعرائهم، خرج في أيام المتوكل بسويقة واجتمع له الناس، وحج بالناس أبو الساج فقصده وخاف عمه موسى بن عبد الله بن موسى أبا الساج على نفسه وولده وأهله، فضمن لأبي الساج تسليمه، وتوثق له بالايمان والامان، وجاء عمه إليه فأعلمه ذلك، وأقسم عليه ليلقين سلاحه ففعل، وخرج إلى أبي الساج فقيّده وحمله إلى سر من رأى مع جماعة من أهله، فحبسه المتوكل ولم يزل محبوساً بها ثلاث سنين ثم أطلق، وأقام بها إلى أن مات وكان شاعراً محسناً، وقد أسهب أبو الفرج في ترجمته... (٢) .

جـ - يحيى بن عمر:

وهو يحيى بن عمر بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب عليهم‌السلام ، أبو الحسين. وأمه أم الحسن بنت عبد الله بن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه ، كان ذا زهد وورع ونسك وعلم.

خرج سنة ٢٣٥ هـ في بعض نواحي خراسان، فردّه عبداللّه بن طاهر، فأمر

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٧١، مقاتل الطالبيين: ٤٦٤ - ٤٧٢، تاريخ الطبري ٧: ٢٢٣ - ٢٢٤ حوادث سنة ٢١٩ هـ، مروج الذهب ٤: ٦٠ - ٦١، عمدة الطالب / الداوودي: ٣٠٦ المطبعة الحيدرية - النجف، البداية والنهاية ١٠: ٣٠٨.

(٢) مقاتل الطالبيين: ٣٩٧.

٣٨

المتوكل بتسليمه إلى عمر بن الفرج الرخّجي، فكلمه يحيى في صلته، وكان في ضائقة وعليه دين، فأغلظ عمر بن الفرج له القول، فردّ عليه يحيى، فشكا عمر إلى المتوكل، فأمر به فضرب دررا ثم حبسه في دار الفتح بن خاقان مدّة، ثم كفله أهله فاُطلق، وأقام في بغداد على حال سيئة من الفقر بعد قطع صلته.

ثمّ خرج ثانية سنة ٢٥٠ هـ وقيل: ٢٤٨ أو ٢٤٩ هـ، وقد بدأ خروجه في هذه المرة بزيارة قبر الامام الحسين عليه‌السلام وأظهر للزوار ما أراد، فاجتمعت إليه جماعة من الأعراب، ثم مضى قاصدا شاهي، فأقام بها إلى الليل، ثم دخل الكوفة ليلاً، وجعل أصحابه ينادون: أيها الناس، أجيبوا داعي اللّه. حتى اجتمع إليه خلق كثير.

فلمّا كان من غد مضى إلى بيت المال فأخذ ما فيه وفرّقه على أصحابه، فبدأ يعدّ العدّة ويصلح السلاح، وفتح السجون وأخرج من فيها وأخرج العمال عنها، ودعا إلى الرضا من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأظهر العدل وحسن السيرة والانصاف والكفّ عن الدماء، فاجتمع الناس إليه وأحبوه وبايعوه.

فندب له محمد بن عبداللّه بن طاهر ابن عمه الحسين بن إسماعيل بن طاهر، وضمّ إليه جماعة من القواد، فمضى الحسين إلى الكوفة وأقام بشاهي، وأشار بعض أهل الكوفة من الزيدية على يحيى بمعاجلة الحسين، ولم يكن لهم خبرة بالحرب ولاشجاعة، وألحوا عليه، فزحف إليه في رجب من السنة المذكورة، فساروا ليلهم فصبّحوا الحسين وهو مستريح، فثار بهم في الغلس، وحمل عليهم أصحاب الحسين فانهزموا ووضعوا فيهم السيف، وانهزم رجالة أهل الكوفة، وانكشف العسكر عن يحيى، ولم يزل يقاتل مكانه حتى قتل، وكان فارسا شجاعا شديد البدن مجتمع القلب، واحتزوا رأسه، وسيره الحسين بن إسماعيل

٣٩

مع رؤوس من قُتِل والأسرى إلى محمد بن عبداللّه بن طاهر، فحُبِسوا في بغداد.

وسير محمد رأس يحيى إلى المستعين، فنصبه في سامراء لحظة ثمّ حطّه، وردّه إلى بغداد لينصب بها، فلم يقدر ابن طاهر على ذلك لكثرة من اجتمع من الناس المنكرين لذلك، لما في قلوبهم من المحبة ليحيى، فخاف ابن طاهر أن يأخذوه، فلم ينصبه وجعله في صندوق في بيت السلاح.

ودخل بعضهم إلى محمد بن عبداللّه بن طاهر يهنّئه بالنصر، ودخل في من دخل عليه أبوهاشم داود بن القاسم الجعفري من أصحاب الامام الهادي عليه‌السلام ، وكان ذا عارضة ولسان، لايبالي ما استقبل الكبراء وأصحاب السلطان به، فقال: أيها الأمير، إنك لتُهنّأ بقتل رجل لو كان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيا لعُزّي به. فلم يجبه محمد عن هذا بشيء، وخرج داود من داره وهو يقول:

يابني طاهر كلوه وبيّا

إنّ لحم النبي غير مريّ

إن وترا يكون طالبه اللّـ

ـه لوترٌ بالفوت غير حريّ (١)

ولهج الشعراء برثاء يحيى فأكثروا، قال أبو الفرج الأصفهاني: ما بلغني أن أحدا ممن قتل في الدولة العباسية من آل أبي طالب رُثي بأكثر مما رثي به يحيى، ولا قيل فيه الشعر بأكثر مما قيل فيه (٢) .

وعلّل ابن الأثير ذلك قائلاً: أكثر الشعراء مراثي يحيى لما كان عليه من حسن السيرة والديانة في مراثٍ يطول عرضها (٣) .

__________________

(١) راجع سيرته وأخبار ثورته في: مروج الذهب ٤: ٤٠٦ - ٤٠٩، تاريخ اليعقوبي ٢: ٤٩٧، مقاتل الطالبيين: ٤١٩ - ٤٢٤، الفخري في الآداب السلطانية: ٢٤٠، الكامل في التاريخ ٦: ١٠٧ و ١٥٦ - ١٥٨، البداية والنهاية ١٠: ٣١٤ و ١١: ٥.

(٢) مقاتل الطالبيين: ٤٢٤.

(٣) الكامل في التاريخ ٦: ١٥٨.

٤٠

يسبقوه إلى أهله، فجعل يقول: يا صباحاه يا صباحاه اوتيتم اوتيتم(١) .

هكذا بدأت الدعوة الإسلامية، وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله يخطو خطوات قصيرة، يجابه ضوضاء الالحاد بحكمه وعظاته حتى دخل في الإسلام بعض الشخصيات البارزة ممن كانت لهم مكانة مرموقة بين الناس، وانجذبت إليه قلوب كثير من الشبان وأصبحت أفئدتهم تهوى إليه، غير أنّ الجو المفعم بالاحن والضغائن عرقل خطا دعوته، وتفاقمت جرائم قريش نحوه، فأجمعوا أمرهم على أن يخنقوا نداءه، بإنهاء حياته وإطفاء نوره، حيث اجتمع سادتهم في دار الندوة، وأجمعوا على أن يأخذوا من كل قبيلة فتى شاباً، ويسلّموا له سيفاً صارماً، وأوصوا هؤلاء الشباب بأن يضربوه ضربة رجل واحد، حتى يموت، فيستريحوا منه، وبذلك يتفرّق دمه في القبائل جميعاً، ولا يقدر بنو هاشم، على حربهم.

ولكنّ الله ردّ كيدهم، وصدّهم عن ذلك، وخيّب حيلتهم، وأخبر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عن المكيدة الداهمة، فغادر مكة متوجهاً إلى « يثرب » حتى دخلها، فاجتمع حوله رجال من الأوس والخزرج، وبايعوه، ووعدوه بالنصر، والمؤازرة والحراسة.

والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وإن غادر مكة، وترك قومه، إلّا أنّ قومه لم يتركوه، بل أجّجوا نار الشحناء عليه، ودارت بينهم وبين الرسول حروب دامية، وحملات طاحنة، وبذلت قريش آخر ما في وسعها، ورمت كل ما في كنانتها، وبالغت في تقويض الإسلام، وهدم بنائه، إلى أن دخل العام السادس، من الهجرة، فتعاهد الفريقان في أرض الحديبية على هدنة تدوم عشر سنوات، بشروط خاصة.

هذا الصلح الذي تصالح به المسلمون في الحديبية، انقلب الى فتح مبين للإسلام، فانتهز الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الفرصة لنشر دعوته في البلاد البعيدة، فبعث سفراءه وفي أيدي كل واحد كتاب خاص إلى قيصر الروم، وكسرى فارس، وعظيم القبط، وملك الحبشة، والحارث بن أبي شمر الغساني ملك تخوم الشام، وهوذة بن علي الحنفي ملك اليمامة ،

__________________

(١) السيرة الحلبية، ج ١، ص ٣٢١ المقصود: هوجمتم من قبل العدو.

٤١

بل إلى رؤساء العرب، وشيوخ القبائل، والاساقفة، والمرازبة، والعمال، يدعوهم إلى دين الإسلام، الذي هو دين السلام، ورسالته من الله وما اُنزل إليه من ربّه.

وهذه المكاتيب أول دليل على أنّ رسالته، عالمية لا تحدد بحد، بل تجعل الأرض كلها مجالاً لإقامة هذا الدين، ودونك نماذج ممّا ورد في تلكم الرسائل :

١. كتب إلى كسرى ملك فارس :

« بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس: سلام على من اتبع الهدى أدعوك بدعاية الله فإنّي أنا رسول الله إلى الناس كافة، لاُنذر من كان حيّاً، ويحق القول على الكافرين، أسلم تسلم، فإن أبيت فعليك إثم المجوس »(١) .

٢. وكتبصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قيصر ملك الروم :

« بسم الله الرحمن الرحيم، إلى هرقل عظيم الروم: سلام على من اتبع الهدى، أمّا بعد فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرّتين فإن تولّيت فإنّما عليك إثم الاريسيين »(٢) .

وما ذكرناه نماذج من رسائله، وكتاباته الإبلاغية، وفيه وفي غيره مصارحة شديدة بأنّه رسول الله إلى العرب والعجم، وإلى الناس كلهم، من غير فرق بين اللون والجنس، والعنصر والوطن، ويمتد شعاع رسالته بامتداد الحضارة، ووجود الانسان، وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يكافح كل مبدأ يضاد دينه، وكل رساله تغاير رسالته، وقد جرى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عليه طيلة حياته الرسالية، حتى التحق بالرفيق الأعلى.

يقول السير توماس ارنولد: « انّ هذه الكتب قد بدت في نظر من اُرسلت إليهم ضرباً من الخرق، فقد برهنت الأيام على أنّها لم تكن صادرة عن حماسة جوفاء وتدل هذه الكتب دلالة أكثر وضوحاً وأشد صراحة على ما تردد ذكره في القرآن من مطالبة الناس جميعاً بقبول الإسلام ».

__________________

(١) تاريخ الطبري، ج ٢، ص ٢٩٥، تاريخ اليعقوبي، ج ٢، ص ٦١ وغيرهما.

(٢) السيره الحلبية، ج ٢، ص ٢٧٥، مسند أحمد، ج ١، ص ٢٦٣ وغيرهما.

٤٢

فقد قال الله تعالى في سورة ص ٨٧ ـ ٨٨:( إِنْ هُوَ إلّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ *وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ ) .

وفي سورة يس ٦٩ ـ ٧٠:( وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إلّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ *لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ) .

وفي سورة الفرقان ١:( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) .

وقال سبحانه:( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) سورة سبأ: ٢٨.

وقال سبحانه:( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) . سورة الأعراف ١٥٨.

وقال سبحانه:( وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ ) . سورة آل عمران: ٨٥.

وقال سبحانه:( وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ) . سورة النساء: ١٢٥.

وقال سبحانه:( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ *وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ *اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَٰهَ إلّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ *يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إلّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ *هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَىٰ وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) . التوبة: ٢٩ ـ ٣٣(١) .

__________________

(١) الدعوة إلى الإسلام، ص ٣٤.

٤٣

تأثير تلكم الكتب :

وممّا يدل على أنّ هذه الكتب لم تصدر عن حماسة جوفاء، أنّه قد كان لها أثر بديع في أكثر هذه الأوساط، إذ تجاوبت معها شعور كثير منهم، فنبهتهم من رقدتهم، وانهضتهم من كبوتهم، فأصبحوا متفكّرين من ملبّ لدعوته، وخاضع لرسالته، ومؤمن بما أتاه، إلى معظّم لرسله، ومجيز لهم، ومكبّر إيّاه بإرسال التحف الثمينة، ودونك صورة مصغّرة ممّا أثارته تلكم الكتب في هذه البيئات، وقد روى أصحاب السير والتاريخ أُموراً كثيرة يطول بنا المقام بذكرها :

قال قيصر لأخيه ـ حين أمره برمي الكتاب ـ: أترى أرمي بكتاب رجل يأتيه الناموس الأكبر، وقال لأبي سفيان: إن كان ما تقول حقّاً فإنّه نبي، ليبلغنّ ملكه ما تحتي قدمي.

وخرج ضغاطر أسقف الروم بعد قراءة الكتاب، إلى الكنيسة وقال في حشد من الناس: يا معشر الروم أنّه قد جاءنا كتاب أحمد، يدعونا إلى الله وأنّي أشهد أن لا إلهَ إلّا الله وأنّ أحمد رسول الله.

وقال المقوقس: إنّي قد نظرت في أمر هذا النبي، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده ساحراً ضالاّ، ولا كاهناً كذّاباً.

وكتب فروة عامل قيصر بعمان إلى رسول الله كتاباً، أظهر فيه إسلامه، فلمّا اطّلع عليه قيصر أخذه واستتابه، فأبى فأمر بقتله، فقال حينما يقتل :

بلّغ سراة المسلمين بأنّني

سلم لربّي أعظمي وبناني

وكتب هوذة بن علي ملك اليمامة إلى رسول الله: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله.

ولبّي المنذر بن ساوى ملك البحرين دعوة الرسول وأظهر إسلامه.

وأجابه ملوك حمير، وأساقفة نجران، ولبّاه عمّال كسرى باليمن، واقيال

٤٤

حضرموت، وملك ايلة ويهود مقنا بالإسلام، أو بإعطاء الجزية.

وكتب النجاشي ملك الحبشة، كتابه المعروف، وأظهر إسلامه إلى درجة صلّى عليه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عندما بلغه موته(١) .

هذا غيض من فيض، وقليل من كثير، من تأثير دعوته العالمية ورسالته العامّة.

نعم قد شذ منهم كسرى ـ ومن لفّ لفه ـ وهو ذلك الملك الذي ورث السلطة والحكم عن أجداده من آل ساسان، فأبى أن يكون تابعاً للعرب، وخشى من هذا الدين على شخصه وملكه.

ولأجل ذلك لا تعجب إذا ثارت ثائرة كسرى، فمزّق كتاب الرسول، وأرسل إلى باذان، عامله باليمن، وكتب إليه: « ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين جلدين فليأتياني به »(٢) .

هذه صورة اجمالية من بدء دعوته إلى ختامها، أتينا بها بصورة مصغّرة، ليقف القارئ على أنّ دعوته لم تكن مقصورة على بلد خاص، أو شعب خاص بل كانت عالمية غير محدودة، وأنّ مرماه كان هو القضاء على جميع النزعات الاقليمية والمحلية والأديان السالفة وتذويبها في اطار رسالته العالمية الواسعة النطاق، وأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يصرّح بذلك في بدء دعوته، وأثنائها ومختتم أمره.

النصوص القرآنية في عالمية رسالته :

هلم معنا نتلو عليك نصوص القرآن الدالّة على أنّ رسالته، رسالة عالمية وأنّ دعوته لا تختص بإقليم خاص، أو اُمّة معيّنة، وإنّ مرماه هو إصلاح المجتمع البشري على وجه الاطلاق، ويمكن الاستدلال على ذلك بوجوه :

__________________

(١) راجع لمعرفة نصوص ما دار بينهم وبين الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى كتاب « مكاتيب الرسول ».

(٢) الكامل، ج ٢، ص ٨١، السيرة الحلبية، ج ٣، ص ٢٧٨، إلى غير ذلك.

٤٥

الأوّل: إنّ كثيراً من الآيات تصرّح بأنّ رسالته عالمية، وأنّه رسول الله إلى الناس جميعاً، وأنّ الله أرسله رحمة للعالمين، وأنّه بشير ونذير للناس كافة، وأنّه ينذر بقرآنه كل من بلغه كتابه وهتافه، من غير فرق بين شخص وشخص، أو عنصر وآخر، ودونك بعض النصوص من هذا القسم :

١.( قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) ( الأعراف ـ ١٥٨ ).

٢.( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) ( سبأ ـ ٢٨ ).

٣.( وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَىٰ بِاللهِ شَهِيدًا ) ( النساء / ٧٩ ).

٤.( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) ( الأنبياء ـ ١٠٧ ).

٥.( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) ( الفرقان ـ ١ ).

٦.( وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ) ( الأنعام ـ ١٩ ).

ـ أي كل من بلغه القرآن، ووصلت إليه هدايته في أقطار الأرض ـ.

٧.( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَىٰ وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ ) ( الصف ـ ٩ ).

٨.( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ ) ( النساء ـ ١٧٠ ).

٩.( الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ) ( إبراهيم ـ ١ ).

١٠.( هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ) ( آل عمران ـ ١٣٨ ).

وهذه الآيات ونظائرها ممّا لم ننقلها، صريحة في أنّ هتاف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يختص باُمّة دون اُمّة، وأنّه بعث إلى الناس كافة مبشّراً ومنذراً لهم جميعاً.

الثاني: إنّ القرآن كثيراً ما يوجّه خطاباته إلى الناس غير مقيّدة بشيء، وهذا دليل

٤٦

واضح على أنّ هتافاته وتوجيهاته تعم الناس كافة، ودونك نماذج من هذا القسم.

١.( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة ـ ٢١ ).

٢.( يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) ( البقرة ـ ١٦٨ ) إلى غير ذلك

فترى أنّه يخاطب الناس، ويقول: يا أيّها الناس تصريحاً منه على أنّ رسالته السماوية إلى الناس كلهم، لا إلى صنف خاص منهم.

فلو كان الإسلام ديناً اقليمياً، ورسالته طائفية، فلماذا تأتي هتافاته بلفظ:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ) ؟!.

فقد تكرر هذا النداء في الكتاب ست عشرة مرة.

بل لماذا يخاطب أهل الكتاب ويناديهم بقوله( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ ) ؟ فقد ورد هذا الخطاب في الذكر الحكيم اثنتي عشرة مرة.

وربّما يستدل في المقام بالخطابات الواردة في القرآن موجهة إلى بني آدم لكن الاستدلال بها لا يخلو من الاشكال، كما سيوافيك بيانه عند البحث عن ختم الدين والرسالة(١) .

الثالث: إنّ القرآن ربّما يأخذ العنوان العام موضوعاً لكثير من أحكامه، من غير تقييد بلون، أو عنصر، أو شعب أرض خاصة، وهذا يكشف عن أنّه بعث إلى إصلاح المجتمع البشري في مشارق الأرض ومغاربها، وأنّ الرسالة التي اُلقيت على عاتقه لا تحدد بحد، ودونك نماذج من هذا القسم :

١.( وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) ( آل عمران ـ ٩٧ ).

فقد أوجب حج البيت على الناس إذا استطاعوا إليه، عرباً كانوا، أم غير عرب ،

__________________

(١) لاحظ الفصل الثاني ـ في هذا الكتاب ـ ص ١١٣.

٤٧

فلم يقل: لله على الاُمّة العربية ـ مثلاً ـ حج بيته.

٢.( وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ) ( الحج ـ ٢٥ ).

٣.( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ) ( لقمان ـ ٦ ). فالجملة الخبرية بمعنى الانشاء وتحريم الاشتراء ولذا استدل الفقهاء بها على حرمة كسب المغنيّات تبعاً للسنّة(١) .

فذم سبحانه كل من اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله كائناً من كان إلى غير ذلك من الآيات.

الرابع: يقضي صريح القرآن بأنّ هدايته لا تختص بمجتمع خاص، بل تعم كل من تظلّه السماء، وتقلّه الأرض. ودونك بعضها :

١.( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ) ( النساء: ١٧٤ ).

٢.( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ ) ( البقرة ـ ١٨٥ ).

٣.( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) ( الزمر: ٢٧ ).

٤.( الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) ( إبراهيم ـ ١ ).

أليست هذه الآيات صريحة في أنّ القرآن نور وهدى للناس كلّهم، لا للعرب خاصة، ومع ذلك كيف يمكن أن نحمل رسالته على أنّها مختصة باُمّة دون اُمّة ؟! هذا ونجد سبحانه يقول:( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ ) ( الجمعة: ٣ ) وما المراد من ال‍:( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ ) ـ أي من المؤمنين ـ ؟ أليس المراد كل من جاء بعد

__________________

(١) راجع المكاسب، ص ٣٨، للشيخ الأعظم الأنصاري.

٤٨

الصحابة إلى يوم القيامة من العرب والعجم ؟(١) فالآية دالة على عمومية الرسالة مضافاً إلى خاتميتها.

هذه جوانب تلقي ضوءاً على البحث، وتهدف إلى أمر واحد: وهو أنّ رسالته ذات نزعة عالمية، غير محدودة بحد، فلا يحدها قطر، ولا يقيّدها شيء آخر من ألوان التحديد والتقييد، نعم مبدأ البرهان في كل واحد منها يختلف مع ما في الآخر ـ كما يظهر ذلك بالإمعان والتدبّر ـ(٢) .

البرهان على عمومية رسالته بوجه آخر :

وهناك لون آخر من البحث يتصل اتصالاً وثيقاً بطبيعة الإسلام، وبفكرته الكلية، عن الكون والحياة والإنسان، ونظرته الوسيعة الثاقبة في التقنين والتشريع وإن شئت فاجعله خامس الوجوه.

بيانه: أنّ الحقائق الراهنة التي جاء بها الصادع بالحق، في مختلف الأبواب والفصول، لا تستهدف سوى تبنّي الواقع، ولا تأخذ غيره دعامة، ولا تخضع لشرط من الشرائط الزمانية إلّا لنفس الأمر.

وإن شئت فقل: إنّ الإسلام لا يعتمد في أحكامه وتشريعاته وما يرجع إلى الانسان في معاشه ومعاده، إلّا على مقتضى الفطرة التي فطر عليها كلّ بني الإنسان والسائدة في كافة أفراده، في عامة أقطار الأرض جميعاً، وإذا كان الحكم والتشريع موضوعاً على طبق الفطرة الانسانية السائدة في جميع الأقطار والأفراد، فلا وجه

__________________

(١) مجمع البيان، ج ٥، ص ٢٨٤.

(٢) هذه الوجوه الأربعة تختلف في طريق البرهنة على المطلب، فقد استدل في الوجه الأوّل بتصريح القرآن على عموم رسالته، واعتمد في الثانية على شمولية هتافات القرآن وعمومية خطاباته في الفروع والاُصول، وفي ثالثها على أنّ القرآن كثيراً ما يتخذ العنوان العام لموضوع أحكامه، وفي رابعها على نص القرآن بأنّ هدايته وانذاره لا يختص بشعب خاص.

٤٩

لاختصاصه بإقليم دون إقليم، أو بشعب دون شعب.(١)

ولا يجد الباحث ـ مهما اُوتي من مقدرة علمية كبيرة ـ في ما جاء به نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله ، على سعة نطاقه، وبحثه في شتى الجهات، ومختلف النقاط أىّ طابع إقليمي، أو صبغة طائفية، وتلك آية واضحة على أنّ دعوته دعوة عالمية لا تتحيز إلى فئة معيّنة، ولا تنجرف إلى طائفة خاصة.

هذا هو الإسلام وتعاليمه القيّمة ومعارفه الاعتقادية، وسننه التشريعية فأمعن فيها النظرة مرة بعد اُخرى، فهل تجد فيه ما يشير إلى كونه ديناً إقليماً خاص، أو شريعة لفئة محدودة ؟ فإنّ للدين الإقليمي علائم وأمارات، أهمها أنّه يعتمد في معارفه وتشريعاته على خصوصيات بيئية، أو ظروف محلية، بحيث لو انقلبت تلكم الخصوصيات إلى غيرها، أصبحت السنن والطقوس المعتمد عليها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، وصار النافع منها ضاراً، فهل تجد أيّها الباحث في ما جاء به الإسلام شيئاً من تلكم الامارات.

هلم معي نحاسب بعض ما جاء به الإسلام في مجالات العلم والعمل، ونضعها على طاولة الحساب، فنكون على بصيرة كاملة في هذا الموضوع: فقبل كل شيء، لاحظ كتاب الله العزيز، ومعجزة الإسلام الخالدة، فقد انبثق نوره منذ أربعة عشر قرناً، حين كانت البشرية تسبح في ظلام دامس مخيف، ضاعت فيه كرامة الانسان وحريته، وساد العداء والتنازع بين الناس، وكان نظام الغاب وحده، مفزعاً للناس وملجأ إليهم.

وفي تلك الظروف جاء القرآن نوراً يستضيء به العالم، ويعيد للانسان كرامته ومكانته وحريته، مؤسّساً لمجتمع قائم على أساس وطيد من العدالة الاجتماعية، سواء في ذلك انسان الجزيرة العربية أم غيرها.

هلم معي نستعرض تعاليمه، فهل نرى آية من آياته الباهرة، أو قانوناً من قوانينه، أو حكمة من حكمه ومعارفه، أو سننه من سنة، أو فريضة من فرائضه تنفع في

__________________

(١) سوف نرجع إليه في ختام البحث، ونجعله دليلاً مستقلاً على عمومية رسالته.

٥٠

مجتمع دون آخر ؟ تفيد في إقليم دون إقليم ؟ تبلغ بمجتمع خاص إلى قمّة الرقي والحضارة، وتسف بجماعة اُخرى إلى هوة الضلال والجهل ؟!

ليت شعري ماذا يريد القائل من كلمته القارصة، أو فريته الشانئة ؟: « الإسلام دين طائفي، أو مبدأ إصلاح إقليمي، لا يصلح لعامة المجتمعات، ولا يصلح لعامة القارات، ولا تسعد به الإنسانية على اختلاف شعوبها وطبقاتها ».

ليت شعري ماذا يريد منها ؟ أيريد معارفه العليا في باب الصانع وصفاته، وما جاء في ذلك الباب من الحقائق الغيبية، والكنوز العلمية، التي لم تحم حولها فكرة انسان قبله، ولم توجد في زبر الاوّلين مثلها، أو شبهها.

فلو أراد ذلك، فتلك فرية بيّنة، إذ الإسلام قد أتى بفلسفة صحيحة وعرفان رصين وتوحيد خالص، فيه دواء المجتمع البشري في الأقطار كلها.

ترى ويرى كل من له إلمام بالإسلام أنّه كافح كل لون من ألوان الشرك، كافح عبدة الأصنام والأجرام السماوية، كافح كل تعلّق بغيره سبحانه، وتخضع لشيء دون الخالق، وأنقذ المجتمع البشري من مخالب الشرك، ومصائد الضلال، ونهاه عن عبادة حجر لا يعقل أو شجر لا يفهم، أو حيوان لا يدفع عن نفسه، أو انسان محتاج مثله، أو غيرها من الأرباب الكاذبة، فأعاد للانسان كرامته وحريته ومكانته المرموقة سواء في ذلك انسان الجزيرة أم غيره.

أيحسب هذا القائل أنّ ذلك التوحيد، وهذا العرفان مختصان بقوم دون قوم كيف ؟ فإذا كان النبي لا يستهدف سوى الواقع ولا يتبنّى غيره، وبعبارة صحيحة: إذا كان لا يوحى إليه سوى الحقيقة المجردة عن شوب كذب، فلا وجه لأن يختص باُمّة دون اُمّة.

ودونك سورة الحديد والآيات التي وقعت في صدرها، فاقرأها بإمعان وتدبّر فهل يعلق الشك بضميرك الحر، بأنّها تعاليم ومعارف تختص بمنطقة خاصة ولا تصلح للتطبيق في مناطق اُخرى، إلى غير ذلك من الآيات الواردة في العقائد والمعارف.

أم يريد أنّ أحكام الإسلام وتشريعاته في العبادات والمعاملات والأخلاق

٥١

وغيرها، قوانين إقليمية، لا تصلح إلّا لظروف خاصة، ولا تفيد إلّا في شبه الجزيرة العربية، ولا يسعد بها إلّا انسانها، دون اناس المناطق الاُخرى، إلّا أنّ تلك فرية بيّنة ليست فيها مسحة من الحق أو لمسة من الصدق، فهذه فروعه ودساتيره وفرائضه لا تجد فيها أثراً للطائفية أو أمارة للإقليمية.

ضع يدك على النظام الاجتماعي الذي جاء به الإسلام في أبواب النكاح والزواج، وأحكام الأولاد والنشوز والطلاق والفرائض، وإصلاح حال اليتامى وإنفاذ الوصايا، والإصلاح بين الناس، وأداء الأمانة، وحسن السلوك معهم، والتعاون والاحسان، إلى غير ذلك ممّا يجده الباحث في النظام الاجتماعي للإسلام.

ضع يدك على النظام الأخلاقي الذي فاق به الإسلام، كافة الأنظمة الخلقية التي كانت قبله، أو تأسّست بعده، فأمر بالصدق وأداء الأمانة، والصبر والثبات وحسن الظن بالناس، والعفو والغفران والقرى والضيافة، والتواضع، والشكر والتوكل، والاخلاق في العمل إلى غير ذلك ممّا أمر به، أو ما نهى عنه كالبخل والاختيال، والبهتان والغضب، والاثرة، والحسد، والغش والبغي والخمر والميسر، والجبن والغيبة والكذب، والاستكبار والرياء، والعجب والتنابز بالألقاب والانتحار والغدر و .

ضع يدك على نظامه السياسي في باب الحكم والسياسة، وما أتى به في اصلاح نظام الحرب، ودفع مفاسدها، وقصرها على مافيه من الخير للبشر، وايثار السلم على الحرب، وعلى الأنظمة والقوانين التي جاء بها في أبواب العقود والمعاملات، فأوجب حفظ المال عن الضياع والاقتصاد فيه وجعل فيه حقوقاً مفروضة ومندوبة، وأحلّ البيع وحرّم الربا، ونهى عن الغش والتطفيف، إلى غير ذلك ممّا يجده المتعمّق في كتب الفقه والأحكام.

قل لي بربّك هل تجد في هذه الأنظمة، أو في ثنايا هذه الأبواب والأحكام حكماً أو أحكاماً فيها تفكير طائفي أو نزعة اقليمية ؟ وإن كنت في ريب فاقرأ الآيات التالية ومئات نظائرها، تجدها دواء المجتمع الانساني في الأقطار كلها :

٥٢

١.( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ( النحل ـ ٩٠ ). أليست هذه القوانين عماد الاصلاح، وسناد الفلاح في عامة القارات ؟

٢. هلاّ كان منه قوله سبحانه( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) ( النساء ـ ٥٨ ).

وقد ندد الله باليهود لتجويزهم خيانة الاُميين، يعني العرب المشركين ومن ليس في دينهم، وقال:( وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إلّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ( آل عمران ـ ٧٥ ).

وليس هذا إلّا لأنّ دينهم على زعمهم كان طائفياً، فالحرام عندهم هو خيانة يهودي ليهودي مثله لا غير، وأمّا الإسلام فلمّا كان ديناً عالمياً غير مختص بطائفة دون اُخرى، فحرّم الخيانة مطلقاً على المسلم والكافر، وذلك آية كونه عالمياً لا طائفياً ولا إقليمياً.

٣. أو ليس منه قوله سبحانه:( وَلْتَكُن منكُمْ اُمّة يَدعُونَ إلى الخيرِ ويأمُرونَ بالمعروفِ وينهَونَ عن المنكرِ ) ( آل عمران ـ ١٠٤ ).

وقد عرضنا هذه الآيات على سبيل التنويه، فليس معنى هذا، أنّ ما جاء به الإسلام في طريق إصلاح المجتمع، محصور في هذا النطاق، فإنّ في كثير من الآيات التي لم نأت بها تنويهاً بمختلف الأخلاق الفاضلة الإنسانية، والشخصية والاجتماعية من صدق، وعدل، وبر، وأمانة، وصلة رحم، ولين جانب، ووفاء عهد، ووعد، ورحمة للضعيف، ومساعدة للمحتاج، ونصرة للمظلوم، وصبر، ودعوة إلى الخير، وتواص بالحق، وعدم اللجاج فيه، والانفاق لله، والدعوة إلى الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، والتعاون على البر والتقوى، والرغبة في السلم.

كما احتوت آيات كثيرة تنديداً بمختلف الأخلاق السيئة والخصال المذمومة من

٥٣

كذب، وظلم، وبغي، واثم، وقتل نفس، وارتكاب فاحشة، وانتهاك عرض وافك وزور، وعربدة سكر، وإسراف وتبذير، وخيانة ونكث غدر، وخديعة، وقطع رحم، وأكل أموال الناس بالباطل، وجبن، وشح وأمر بمنكر وغلظة قلب، وفظاظة خلق، ورياء ومكابرة وانتقام باغ، وتناقض بين القول والعمل وغرور، وصد عن الحق، إلى غير ذلك من مساوئ الأخلاق ومحاسنها التي تجد نصوصها مبثوثة في القرآن الكريم. وتسهل عليك مراجعتها والاهتداء والتدبّر في معانيها إذا لا حظت كتاب « تفصيل آيات القرآن الكريم »(١) ، « والمعجم المفهرس »(٢) وغيرهما من الكتب والمعاجم.

هذا وقد عاشت الاُمّة الإسلامية بل الانسانية جمعاء(٣) في ظل هذه الدساتير ونظائرها الوافرة في أجيال متتابعة، وفي حقب من الزمان والمكان، فلو كانت مختصة بإقليم خاص، لأدّت إلى التناحر والاندحار في الأقاليم الاُخر، لا إلى الرقي والحضارة(٤) .

الدعوة إلى الفطرة، أساس الأحكام الإسلامية :

لقد بنى الإسلام أحكامه وتوجيهه في العلم والعمل على الفطرة الإنسانية السائدة في جميع الأقطار والأفراد، فدعا إلى التوحيد المطلق، وقرّر مبادئ العدالة والحرية والمواساة والاخاء بين الناس كافة والديمقراطية الحقة، ونشر العلم والحضارة

__________________

(١) تأليف المسيو جول لابوم، وقد وضع كتاباً باللغة الفرنسية، جمع فيه آيات القرآن بحسب معانيها، ووضع كلا منها في باب أو أبواب خاصة، حسب ما فهم منها، ولكنّه أخطأ في كثير من معانيها، فإنّه اكتفى في ترتيبه وتنسيقه بما فهمه من ظواهر الآيات حسب اللغة العربية وقواعدها، من دون أن يرجع إلى أسباب النزول، وسنّة النبي وسيرته والأئمّة من بعده.

(٢) تأليف محمد فؤاد عبد الباقي المصري.

(٣) اعترف به المستشرق غوستاف لوبون في آخر كتابه.

(٤) نعم كل اُمّة ركنت إلى الدعة والراحة، وحنت إلى تقليد عادات الأجانب في معترك الحياة، ونسيت مكانتها ورسالتها وقوانينها وأخذت بغيرها، رجعت إلى ورائها القهقرى وعلى هذا الأساس تعيش الاُمّة الإسلامية في هذا العصر في أنحاء العالم، فتراها متفرقة الكلمة ممزّقة، تأكلها حثالات الأرض.

٥٤

وقضى على الرذائل والمنكرات، والشهوات الجامحة، والتقاليد البالية، والخرافات الكاذبة، والرهبانية المبتدعة، وأمر بالفضائل والصدق في القول والوفاء بالعهد، والاجتناب عن العزوبة بنكاح الحرائر إلى غير ذلك من الوف الأحكام والتشريعات التي أشرنا إلى كثير منها وتعتبر بمجموعها دعائم الاصلاح في العالم كله، ولا تنازع الفطرة بل تطابقها ولا تتخلّف عنها قدر شعرة.

فإذا كانت الفطرة الإنسانية واحدة في الجميع، وكانت الأحكام الإسلامية مبنية عليها في جانب التشريع، فلا وجه لأن تختص بقوم دون قوم، وهذا بحث لطيف سوف نرجع إليه إن شاء الله عند البحث عن كون نبي الإسلام خاتم النبيين، ودينه خاتم الأديان وبه نجيب على الاشكال الدارج على ألسنة بعض المستهترين ممّن لا يؤمن بصريح القرآن في مسألة الخاتمية ويقول: « إنّ النصوص الشرعية في الكتاب والسنّة محدودة، وحوادث الناس ومقاصدهم متجددة ومتغيّرة ولا يمكن أن تفي النصوص المحدودة بالحوادث المتجددة الطارئة » فارتقب حتى يأتيك الجواب والبيان.

الإسلام يكافح المبادئ الرجعية :

وأدل دليل على أنّ الإسلام رسالة عالمية، أنّه يكافح النزعات الاقليمية والطائفية ولا يفرق بين اللون والجنس والعنصر ولا يفضّل أحداً إلّا بالتقوى، ويزيّف كل مقياس سواه ويقول:( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ) ( الحجرات ـ ١٣ ).

كفى له فخراً أنّه أوّل من حارب العصبية والنعرات الطائفية ودعا إلى الاخوة الانسانية، والزمالة البشرية، والانضواء تحت لواء واحد وهو لواء التوحيد المطلق.

أجل حارب العصبية، والنعرات الطائفية في ظل وحدات ثمان، وهو أوّل من أسّسها وأشاد بنيانها، أعني: وحدة الاُمّة، وحدة الجنس البشري، وحدة الدين، وحدة التشريع، وحدة الاخوة الروحية، وحدة الجنسية الدولية، وحدة القضاء، بل وحدة اللغة

٥٥

الدينية(١) .

وقد بلغت بها الاُمّة الإسلامية في العصور السالفة المزدهرة، الذروة من المجد والعظمة، فأصبحت ساسة البلاد وحكّام العباد.

أو ليس الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو قائل تلكم الكلم الدرية التالية، القاضية على كل نعرة طائفية، والانتماء إلى فئة خاصة والاتجاه إلى نجاح شعب خاص، فكيف ترمى شريعته بالطائفية وانقاذ جماعة معينة دون غيرها ؟

١. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله : « أيّها الناس إنّ الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها ألا إنّكم من آدم وآدم من طين، ألا إنّ خير عباد الله، عبد إتّقاه »(٢) .

٢. « ألا إنّ العربية ليست بأب والد، ولكنّها لسان ناطق، فمن قصر عمله لم يبلغ به حسبه »(٣) .

٣. « إنّ الناس من عهد آدم إلى يومنا هذا، مثل أسنان المشط، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأحمر على أسود إلّا بالتقوى »(٤) .

٤. « إنّما الناس رجلان: مؤمن تقي، كريم على الله; وفاجر شقي، هيّن على الله »(٥) .

وللدكتور حسن إبراهيم حسن هنا كلمة قيّمة، يقول :

« ينكر بعض المؤرخين أنّ الإسلام قد قصد به مؤسسه في بادئ الأمر أن يكون ديناً عالمياً برغم هذه الآيات البيّنات ومن بينهم « وليم ميور » إذ يقول :

« إنّ فكرة عموم الرسالة جاءت فيما بعد، وأنّ هذه الفكرة على الرغم من كثرة الآيات والأحاديث التي تؤيدها، لم يفكر فيها محمد نفسه، وعلى فرض أنّه فكّر فيها ،

__________________

(١) كل ذلك دليل على عالمية تشريعه، وسعة نطاق رسالته، ويجد الباحث في الذكر الحكيم والأحاديث الإسلامية دلائل واضحة على كل واحدة من هذه الوحدات، فلا نقوم بذكرها لئلاّ يطول بنا المقام وقد بحثنا عنها في الجزء الثاني.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥) راجع للوقوف على مصادر هذه الكلمات: روضة الكافي، ص ٢٤٨، سيرة ابن هشام ج ٢، ص ٤١٢، بحار الأنوار، ج ٢١، ص ١٠٥، والشرح الحديدي، ج ١٧، ص ٢٨١، وقد أوردنا شطراً آخر من هذه الأحاديث في الجزء الثاني.

٥٦

كان تفكيره تفكيراً غامضاً، فإنّ عالمه الّذي كان يفكّر فيه إنّما كان بلاد العرب كما أنّ هذا الدين الجديد لم يهيأ إلّا لها، وأنّ محمداً لم يوجّه دعوته منذ بعث إلى أن مات إلّا للعرب دون غيرهم، وهكذا نرى أنّ نواة عالمية الإسلام قد غرست ولكنها إذا كانت قد اختمرت ونمت بعد ذلك فاّنما يرجع هذا إلى الظروف والأحوال أكثر منه إلى الخطط والمناهج ».

وكذلك شك « كيتاني » في أن يكون النبي قد تخطّى بفكره حدود الجزيرة العربية ليدعو اُمم العالم في ذلك الوقت إلى هذا الدين.

ومن الغريب أن يشك « وليم ميور » في صحة دعوى عموم الرسالة، وأن يبني شكه هذا على أنّ محمداً ما كان يعرف غير الجزيرة، وأنّها كانت عالمه الذي لم يفكّر في سواه، وأنّ هذا الدين لم يهيأ إلّا لتلك البلاد، وأنّ محمداً منذ بعث إلى أن مات لم يوجّه دعوته إلّا للعرب دون غيرهم، فهل خفيت على ذلك المؤرّخ صلة قريش بدول ذلك العهد، وما أتاحته لها التجارة من دراية وخبرة بشؤون هذه الاُمم وأحوالهم، وأنّ محمداً بوجه خاص قد سافر غير مرة للتجارة إلى بلاد الشام، فقد سافر وهو صبي مع عمه « أبي طالب » في تجاراته حتى إذا بلغ خديجة ما بلغها عن خبرته وأمانته، ألقت بمالها بين يديه، فكان من مهارته وحذقه ما جعلها تعرض عليه الزواج منها، ثم ظل يشتغل بالتجارة حتى بعث، فبعد ذلك يمكن أن يقال عن محمد أنّه كان لا يعرف غير بلاد العرب وهو رجل عصامي لم يكسب مركزه الممتاز في مكّة قبيل البعثة إلّا من ذكاء عقله وكفاية مواهبه.

هل يستبعد على محمد الذي خرج من مكّة ناجياً بنفسه ونفس صاحبه أن يتخطفها الناس لائذاً بأهل المدينة الذين آووه ونصروه، ثم صبر وصابر حتى عاد إلى مكة بعد ثماني سنين وهو السيد الآمر فيها وفي الجزيرة، تحوم حول شخصه مائة ألف من القلوب أو تزيد، ومن ورائهم كثيرون من أرجاء الجزيرة العربية يدينون له بالطاعة يقدم عليه رؤساؤها وأكابرها هل يبعد على هذا الرجل أن يرنو بناظره إلى ما وراء الجزيرة ليبسط عليه سلطانه، إن كان من محبي السلطة والحكم أو ليفيض عليها من

٥٧

الذي غمر الجزيرة وملأها عدلاً وأمناً ودعة وحبّاً ؟

لو قيل أنّ الاسكندر المقدوني كان يعمل على تكوين امبراطورية تشمل العالم القديم كلّه وتجعله يلتف حول هذا الشاب الإغريقي لصدقنا، ولو قيل أنّ « نابليون » كان يعمل على تكوين امبراطورية تشمل العالمين القديم والجديد، ليجلس على عرشها الفتي لصدقنا.

أمّا إذا قيل أنّ محمد بن عبد اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فكّر في أن يدعو خلق الله المتاخمين لجزيرة العرب والمتّصلين بقريش ـ اتصالاً تعيش عليه قريش وينبني على أساسه كلّ شيء في البنية القرشية ـ فذلك أمر يعز على البحث النزيه والعقل الحر ( بزعم « وليم ميور » ) أن يقبله إلّا أن يكون تفكير ذلك النبي في هذا الأمر تفكيراً على نحو غامض.

وأمّا القول بأنّ ذلك الدين لم يهيأ إلّا لبلاد العرب، فإنّ ذلك لم يمنع محمداً من التفكير في تعميم دينه، لأنّ هذا التفكير سواء أتحقق أم لم يتحقق، إنّما يعتمد على اعتقاده أن دينه صالح لذلك، وقد ثبت من القرآن أنّه كان يعتقد أنّ الإسلام قد هيّئ لكلّ حالة، وأنّ القرآن قد تكفّل بتبيان كلّ شيء، إذ يقول الله تعالى لرسوله في غير آية:( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ ) ( سورة النحل ـ ٨٩ ).

ويؤيد دعوى عموم الرسالة للجنس البشري قول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ بلالاً أوّل ثمار الحبشة، وأنّ صهيباً أوّل ثمار الروم، وكذلك ما قاله عن سلمان الذي كان أوّل من أسلم من الفرس، فكان عبداً نصرانياً بالمدينة اعتنق هذا الدين الجديد في السنة الاُولى من الهجرة، وهكذا صرّح الرسول في وضوح وجلاء، أنّ الإسلام ليس مقصوراً على الجنس العربي قبل أن يدور بخلد العرب أي شيء يتعلّق بحياة الفتح والغزو بزمن طويل، ويؤيد ذلك ما ورد في القرآن الكريم في تلك الآيات البينات »(١) .

__________________

(١) تاريخ الإسلام السياسي ـ الطبعة الخامسة ـ ج ١، ص ١٦٧ ـ ١٧٠، وذكر في المقام بعض الآيات التي تدل على عمومية رسالته.

٥٨

نظرة في الآيات

المشعرة بعدم العمومية

قد عرفت ما هو الحق في المقام بأنّ القرآن الكريم والسنّة النبوية، وسيرتها تدل بوضوح على عمومية رسالته لكل من في الأرض جميعاً.

غير أنّ هناك آيات ربّما يستشم منها عدم عمومية رسالته، وقد وقعت هذه الآيات سنداً للخصم، فنحن نذكر تلك الآيات ونوضح المقصود منها.

١. آيات الانذار :

انّ بعض الآيات في هذا الصدد توجه انذار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى قومه وربّما تشعر باختصاص الرسالة ودونك هذه الآيات :

١.( وَلَٰكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ ) ( القصص ـ ٤٦ ).

٢.( بَلْ هُوَ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ ) ( السجدة ـ ٣ ).

٣.( لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ) ( يس ـ ٦ ).

٤.( فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا ) ( مريم ـ ٩٧ ).

٥٩

فهذه الآيات ونظائرها تخص انذار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوم خاص، وبذلك تضيق دائرة الدعوة.

الجواب :

إنّ الإجابة على الاستدلال بهذه الآيات سهلة بعد الوقوف على ما ذكرنا من الآيات المصرحّة بعمومية الرسالة.

لأنّها أوّلاً: لا تخرج من حدّ الاشعار الضعيف الذي لا يعتمد عليه في مقابل الآيات المصرّحة بأشد التصريح بعمومية الدعوة.

وثانياً: إنّ هناك آيات بهذا الصدد تصرّح بعمومية الانذار، ففي سورة يس التي ورد فيها:( لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ ) قوله سبحانه:( لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ) ( يس ـ ٧٠ ).

فهذه الآية تشعر بأنّ دائرة الانذار تشمل كلّ حي يعقل ويخاطب به وهو يعم كلّ مستعد للهداية سواء أكان من قومه وممن يعيش في الجزيرة العربية أم لا.

وقال سبحانه أيضاً:( وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا ) ( الكهف ـ ٤ ).

وهم يعم اُمّة الكليم والمسيح الذين قالوا: اتّخذ الله ولداً.

فاليهود قالوا بأنّ الله اتّخذ عزيراً ولداً.

والنصارى قالوا: بأنّ الله اتّخذ المسيح ولداً.

وبذلك يظهر أنّ كلّ ما ورد في هذا الصدد من آيات الانذار لا يدل على التخصيص بل هو خطاب بمقتضى المقام.

فقد تقتضي البلاغة توجيه الكلام إلى قسم خاص كما تقتضي المصلحة في مقام آخر توجيه الكلام لكلّ من بعث لانذاره فلاحظ الآيات التالية حيث يقول سبحانه :

( قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ ) ( الأنبياء ـ ٤٥ ).

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274